الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثا:
مدى ضرورة الأخلاق ومكانتها في نظر الإسلام:
إن أهمية الأخلاق للحياة الإنسانية في نظر الإسلام أكثر من أهمية العلوم الأخرى، ولذلك جعل الأخلاق مناط الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة، فيعاقب الناس بالهلاك في الدنيا لفساد أخلاقهم {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} 1، {بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَاّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} 2، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} 3، ويكافئ الأبرار الصالحين بالجنة ويعاقب الفجار والأشرار بالنار يوم القيامة {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} 4، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا، وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون"، وسأل رجل مرة الرسول، أي المسلمين خير؟ فقال:"من سلم المسلمون من لسانه ويده" 6، وقد قرن الله تعالى بر الوالدين والشكر لهما بالشكر له وبعبادته فقال تعالى:{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} 7، وعد عقوق الوالدين من أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"ألا أخبركم بأكبر الكبائر"، قالوا: نعم، قال:"الشرك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور وقتل النفس"8.
1 يونس: 13.
2 الأحقاف: 35.
3 هود: 117.
4 الانفطار: 13-14.
5 رياض الصالحين، باب حسن الخلق ص 273، والمتفيهق: المتكبر.
6 صحيح مسلم جـ2، باب بيان تفاضل الإسلام ص10.
7 لقمان: 14.
8 صحيح مسلم باب أكبر الكبائر، ص82-83.
ولم يجعل هذه الأهمية للعلم، إذ لا يعاقب الله الإنسان لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأنه جاهل بل يعاقب العالم غير المتخلق، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"يؤتى بالرجل -وفي رواية"بالعالم"- يوم القيامة فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فيقول: بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه"1.
لكن لا ينبغي أن يفهم من هذا أن الإسلام يفضل الجاهل على العالم بصفة عامة، إذ لا شك في أن العالم المتخلق أفضل من الجاهل المتخلق، لهذا قال تعالى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} 2، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 3.
ولا شك في أن الجاهل المتخلق أفضل من العالم الفاسد؛ ذلك أن العالم الفاسد أكثر فتكا بالمجتمع من الجاهل الفاسد، إذ إن ضرر الثاني محدود لا يتجاوز حدود أفراد معينين، أما العالم الفاسد فإنه يستطيع أن يفسد المجتمع بأسره بل المجتمعات بأسرها، ولهذا اعتبر الرسول العالم الفاسد أشر الناس، وبيَّن أن هلاك الأمة يكون بسبب العلماء الفاسدين فقال:"شرار الناس شرار العلماء في الناس" 4، وقال أيضا:"إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين"5.
من هنا نرى أن الإسلام أخضع الأعمال العلمية للمبادئ الأخلاقية، سواء كان في ميدان البحث أو في ميدان نشر العلم وتقديمه للناس واستعمالاته، مثل
1 صحيح مسلم بشرح النووي جـ 18 ص 118، كتاب الزهد.
2 المجادلة: 11.
3 سورة الزمر: 9.
4 الجامع الصغير جـ2 ص39.
5 سنن الترمذي جـ3 ص 342، كتاب الفتن.
مبدأ الإخلاص والإتقان والأمانة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"من تعلم علما لغير الله أو أرد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار" 1، وقال:"من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتى، ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه" 2، وقال تعالى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} 3، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة" 4، وقال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} 5.
والسبب في اهتمام الإسلام بالأخلاق هذا الاهتمام كله هو أن الأخلاق أمر لا بد منه؛ لدوام الحياة الاجتماعية وتقدمها من الناحية المادية والمعنوية، وذلك حق لا يماري فيه من يتأمل المبادئ الأخلاقية ومدى ضرورتها للحياة الإنسانية، ولنتصور حياة مجتمع ماذا يحدث فيها لو أهملت المبادئ الأخلاقية، وسادت فيها الخيانة والفسق والكذب والغش والسرقة وسفك الدماء والتعدي على الحرمات والحقوق وزالت كل المعاني الإنسانية في علاقات الناس، من المحبة والمودة والنزاهة والتعاون والتراحم والإخلاص، فهل من الممكن أن تدوم الحياة الاجتماعية في هذه الحالة؟!
لا شك في أن الحياة عندئذ تتحول إلى جحيم لا يطاق، ويتحول الناس إلى وحوش ضارية أكثر من وحوش الغاب، ويشقون شقاء ما بعده شقاء؛ لأن الإنسان بحكم طبيعة خلقته بحاجة إلى الغير، وفي طبيعته نزعة التسلط والتجبر والتكبر
1 التاج جـ1، كتاب العلم، ص74.
2 التاج جـ1، كتاب العلم، ص73.
3 الإسراء: 36.
4 التاج جـ1، كتاب العلم، ص 67.
5 آل عمران: 187.
والأنانية والانتقام، فإذا استخدم هذه القوى في الفساد أهلك الحرث والنسل، وصدق الله العظيم:{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} 1، ولهذا فإن الإنسان بحاجة إلى نظام خلقي يحقق له حاجته الاجتماعية، ويقف أمام ميوله ونزعاته الشريرة، ويوجهه إلى استخدام قواه في ميادين يعود نفعها على نفسه وعلى غيره بالخير؛ ولهذا أمر بالتعاون الاجتماعي في تحقيق الخيرات، ونهى عن التعاون في الإثم:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} 2، ونهى عن القتل بكل شدة حتى قتل الإنسان نفسه؛ لأن القتل في نظره تعدٍّ على الحياة، ثم إنه لا يعتبره تعديا على حياة فرد وإنما يعتبره تعديا على حياة الناس كافة، قال تعالى:{مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} 3؛ لأن التعدي على الجزء يعد تعديا على الكل، وكذلك إنقاذ الجزء يعد إنقاذا للكل.
ولم يحرم القتل فقط بل حرم أيضا كل الأمور التي قد تؤدي إلى القتل، وذلك حماية للحياة؛ ولذا نراه ينهى عن إثارة الفتنة بأي شكل من الأشكال؛ لأن الفتنة أحيانا لا تؤدي إلى قتل فرد فحسب بل تؤدي إلى تقتيل وإراقة دماء الكثيرين، ومن ثم اعتبر الفتنة أشد من القتل وأكبر منه؛ ولهذا قال تعالى:{وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} 4، وفي آية أخرى {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} 5، وللوقوف أمام إراقة الدماء قرر الإسلام أن من قتل غيره عمدا يقتل، وهذا زجر رادع عن التشبث بالقتل؛ لأن الشخص الذي يقدم على القتل إذا عرف أنه سيقتل بدل هذا القتل ولا يفتدي نفسه بأي شيء آخر
1 البقرة: 205.
2 المائدة: 2.
3 المائدة: 32.
4 البقرة: 217.
5 البقرة: 191.
يدرك عندئذ أنه بذلك يقتل نفسه فيرتدع عن الإقدام عليه؛ ولهذا قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} 1، والقصاص يقتضي إجراء الضرر في المعتدي بالقدر الذي أجراه في المعتدى عليه، والسر في ذلك هو الحد من نزعة الانتقام وإيقاف الفتن؛ لأن الإِنسان إذا اعتدي عليه ولحق به من جراء ذلك ضرر يحاول أن يعتدي أكثر مما اعتدي عليه، وأن يلحق ضررًا بالمعتدي أكثر مما لحق به، وذلك تكبرا وتجبرا، فإذا اعتدى عليه واحد من قوم يتعدى على القوم كله، وإذا أريق من دمه يريق دم المعتدي كله، وإذا قتل واحد من قومه يحاول قتل قوم القاتل، وبذلك تستحيل الحياة، والقصاص يحفظ الحياة، وصدق الله العظيم {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} 2.
ثم إن الإسلام دعا إلى العفو وهو فضيلة أخلاقية هامة في الحياة؛ إذ إن العفو يؤدي إلى إزالة الأضغان والأحقاد وينقذ حياة الناس؛ ولهذا حبب الإسلام إلى الناس العفو والصفح حتى في القصاص {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} 3، وقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 4، ولم يدع الإسلام إلى العفو فحسب بل دعا أيضا إلى معاملة السيئة بالحسنة؛ لأنها أكبر عامل خلق المودة بين الناس؛ ذلك أن الإنسان المسيء عندما يرى الإحسان ممن أساء إليه يزيد تقديره
1 المائدة: 45.
2 البقرة: 179.
3 الشورى: 40.
4 البقرة: 178.
لذلك الإنسان ويَكْبُر إعجابه به، ثم يلين قلبه ويتحول عما في نفسه إلى مودة له، ومن ثم ينظر إلى الإساءة بالبشاعة والقبح؛ ولهذا قال تعالى:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} 1، وإذا تذكرنا هنا موقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع المسيئين إليه أدركنا تماما أثر العفو في جمع الناس وتأليفهم في الحياة العملية وتقديرهم للإنسان الذي يعفو ويصفح عن الناس، ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم طرد وشرد وأبعد عن أهله في مكة، وغادر مكة بعد مؤامرة دبرت لقتله لا لأنه أساء إلى الناس أو قتلهم وإنما؛ لأنه كان يدعو إلى الفضيلة وإلى طريق الحق، ولما عاد إلى مكة يوم الفتح قاهرا ظافرا بجيشه الجرار قال:"يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ " قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم، قال:"اذهبوا فأنتم الطلقاء" 2، وبمثل هذه المواقف الكريمة جمع الرسول الناس حوله وألف بين الناس، ولو كان فظا غليظا لما استطاع إلى ذلك سبيلا، وصدق الله العظيم:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 3، {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} 4.
ومن المبادئ الأخلاقية شديدة الصلة بالحياة الصبر، فالصبر طاقة تزيد الإنسان قوة وصلابة يستطيع بها مواجهة الصعاب وشدائد الحياة، والصبر أنواع: منها الصبر على المصائب والصبر على أداء الواجبات والصبر على الشهوات والأهواء، ويطول بنا المقام لو تكلمنا على كل واحد بالتفصيل، ولهذا فالأنسب أن نختار النوع الأول باعتباره أهم نوع يتصل بموضوعنا، ومن أهم عنصر في
1 فصلت: 34.
2 سيرة النبي لابن هشام جـ4 ص 870.
3 القلم: 4.
4 آل عمران: 159.
الإسلام يسلح الإنسان بالصبر هو عنصر الإيمان، الذي يعد أساسا في الأخلاق الإسلامية، والإيمان بالله واستمداد العون منه وانتظار الثواب منه على الصبر على المصائب باعتبارها امتحانا منه أو تكفيرا للسيئات، فالإيمان يهون على الإنسان تلك المصائب؛ ولهذا كان الرسول يدعو الله ويقول:"وأسألك من اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا" 1، والصبر على البلايا من الأمور العظيمة، كما قال تعالى:{وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} 2، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} 3 وجزاء الصبر عظيم غير مقدر ويعطي الصابر أجرا بغير حساب، {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 4، والصبر وسيلة النجاح في الحياة والوصول إلى المقاصد؛ لأنه قوة يحقق بها الإنسان أعمالا فوق طاقته الطبيعية، قال تعالى:{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} 5، وقال:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} 6، وقال:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} ، وقد تظهر قيمة فضيلة الصبر بصورة أكثر وضوحا عندما نتصور مصير غير الصابرين عند الشدائد والمصائب في الحياة، إذ إننا نراهم يصابون فيها بأمراض مختلفة وخاصة الشلل والذبحة الصدرية والخلل العقلي وقد يؤدي الأمر بهم إلى الانتحار، فالجزع لا يؤدي إلى الفشل في الحياة وعدم إنجاح المقاصد فحسب بل إلى انعدام الحياة وزوالها؛ ولهذا قال الرسول:"ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر" 8، ولما كان الصبر يجعل
1 التاج جـ5 ص 120، كتاب الأذكار والأدعية.
2 لقمان: 17.
3 محمد: 31.
4 الزمر: 10.
5 الأنفال: 65.
6 البقرة: 249.
7 السجدة: 24.
8 التاج جـ5، كتاب البر والأخلاق، ص51.
الإنسان يتحمل صعوبات الحياة ببسالة وشجاعة، وعدم الصبر يؤدي إلى حياة ضيقة مظلمة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"الصبر ضياء" 1؛ لأنه يضيء الحياة أمام المرء؛ لأن الإسلام لا يتحقق إلا بأمرين: أولهما الإيمان فيما يجب الإيمان به، وثانيهما العمل بمقتضى ذلك الإيمان والعمل يعتمد على الصبر، ولهذا فمن شأن المسلم أن يكون صابرا مهما كانت المصائب فاجعة، ومن شأن الكافر أن يكون هلوعا جزوعا تهلكه المصائب؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"مثل المؤمن كالخامة من الزرع تفيئها الريح مرة وتعدلها مرة، ومثل المنافق " وفي رواية الكافر وفي أخرى الفاجر " كالأرزة لا تزال حتى يكون انجعافها مرة واحدة" 2، هنا نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يعبر تعبيرا دقيقا بطريق التشبيه عن حالة المؤمن عند المصائب وحالة الكافر، فالأول يكون كالزرع الرطب ينحني عندما تهب الرياح ولا ينكسر ثم يعتدل عند زوالها، بينما الثاني يكون كشجرة الأرزة لا تساعد طبيعتها على الانحناء ومن ثم تنكسر عندما تأتي الرياح الشديدة عليها وتنهار أمامها.
وهكذا نجد الإسلام يزود الإنسان بالطاقة الحيوية التي تمكنه من أن يحيا حياة طبيعية في أحرج الظروف، كما يستطيع بها أن يحيا حياة أبدية في الآخرة؛ ولهذا سمى الإسلام دعوته الحياة فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} 3، وكذلك {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} 4.
ومن أهم المبادئ الأخلاقية المتصلة بدوام الحياة الاجتماعية وتقدمها مبدأ
1 جامع الترمذي، كتاب الدعوات، جـ5 ص 177.
2 فتح الباري بشرح البخاري ج12، كتاب المرض، ص 210.
3 الأنفال: 24.
4 الأنفال: 42.
العدالة ومفهوم العدالة في الإسلام هو إعطاء كل ذي حق حقه، وفي نظر الإسلام أن لله على الإنسان حقوقا، كما أن لنفسه ولغيره عليه حقوقا، مصداق ذلك ما جاء في الحديث:"إن لربك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فاعطِ كل ذي حق حقه"1.
وحق الله على الأنسان هو الاعتراف بربوبيته وما يترتب عليه من الشكر والعبادة له، وحقوق النفس على الإنسان هي تحقيق متطلباتها الضرورية، وقد شرحنا ذلك كله في الموضوعات السابقة، وأما حقوق الغير على الإنسان فهي تتمثل بصورة عامة في احترام حقوقهم الطبيعية المادية منها والأدبية في تنفيذ العهود المبرمة، ثم عدم استغلال أي إنسان أو اتخاذه غرضا، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"لا تتخذن أحدا من خلق الله غرضا فيجعلك الله غرضا" 2، وقال عندما سألوه بعد ما ذكر كيف أن الله غفر للرجل الذي سقى الكلب العطشان، يا رسول الله وإن لنا في هذه البهائم لأجرا؟ فقال:"نعم في كل كبد رطبة أجر" 3، هنا نجد المبدأ الإسلامي أكثر سموا وشمولا مما دعا إليه "كانط" عندما قال:"عامل الإنسانية بوصفها غاية في ذاتها ولا تعاملها أبدا كما لو كانت مجرد وسيلة"4، بينما الإسلام يدعو إلى عدم اتخاذ أي مخلوق وسيلة حتى الحيوانات، وتبعا لذلك قرر الإسلام الحقوق على الإنسان لغيره، ولقد حدد الرسول أهم حقوق الإنسان التي يجب مراعاتها وهي حق المال والعرض والكرامة الإنسانية فقال: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله، التقوي ها هنا بحسب
1 فتح الباري بشرح البخاري جـ4، كتاب الصوم، ص208 حديث 1967.
2 فيض القدير جـ6 ص 388.
3صحيح مسلم جـ4 ص 1761 كتاب السلام.
4 تأسيس فيتافيزيقا الأخلاق ص 73.
امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" 1.
ثم إن الإسلام لم يكتفِ بتقرير الحقوق والواجبات نحو الغير بل دعا إلى تجاوز حدود الواجبات في المعاملة الخيرة، واعتبر كل عمل وكل إحسان إلى الغير صدقة حتى التبسم في وجوه الآخرين، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن طريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة" 2، وجاء في رواية أخرى "والكلمة الطيبة صدقة" 3، بل أكثر من هذا فقد عد الإسلام كل إحسان إلى أي مخلوق حي صدقة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"في كل ذات كبد رطبة أجر" 4، ولهذا كله قال:"كل معروف صدقة"5.
والعدالة أنواع: عدالة الحاكم وعدالة الفرد العادي، فالحاكم عليه أن يبحث عن الحقوق الضائعة ويعطيها أهلها ويأخذ من الظالم ويعطي المظلوم حقه، ثم عليه أن يكافئ الناس على حسب أعمالهم وجهودهم، وهذا هو عدل الحاكم بين الناس، قال تعالى:{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} 6، وأن يحكم بما أنزل الله {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 7، وفي آية أخرى وصف هؤلاء الذين لا يحكمون بما أنزل الله بالكفر وفي الثالثة بالظلم8.
1 رياض الصالحين، باب تحريم حرمات المسلمين وبيان حقوقهم، ص 121.
2 تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي جـ6 باب ما جاء في صنائع المعروف ص89، انظر صحيح مسلم جـ 2 ص 697 تجد كثيرا من الأحاديث من هذا القبيل.
3 رياض الصالحين، باب بيان كثرة طرق الخير، ص71.
4 المرجع نفسه ص 73.
5 الجامع الصغير جـ2، ص 94.
6 النساء: 58.
7 المائدة: 47.
8 انظر سورة المائدة: 44-45.
وأما عدالة الفرد العادي فهي إعطاء ما لغيره عليه، وأن يقول الحق إذا حكم أو طلب منه الشهادة أو أراد الإصلاح {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} 1، {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 2، والعدالة تقتضي الأمانة والنزاهة والإخلاص {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} 3، {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} 4، {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} 5.
وهكذا يأمر الله بالعدالة كل إنسان في فعله وقوله بحسب مسئوليته ومجال إدارته {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 6، وذلك كله لتسود العدالة المجتمع كله، ولا شك في أن كل إنسان إذا طبق العدالة في نفسه وفي غيره، وإذا نفذ الحاكم العدالة بالسلطة فلا بد من أن تسود العدالة حياة المجتمع.
وسيادة العدالة حياة المجتمع تؤدي إلى سيادة الأمن والمحبة والمودة والاستقرار والنشاط العملي والفكري في حياة المجتمع، وهذا بدوره يؤدي إلى ازدهار الحياة المدنية، وانعدام العدالة يؤدي إلى انتشار الرعب والحقد والاضطرابات والتناحر وقلة الإنتاج، يقول الماوردي: "إن العدل الشامل يدعو إلى الألفة ويبعث على الطاعة وتنمو به الأموال ويكثر معه النسل ويأمن به السلطان، وليس شيء أسرع في خراب الأرض ولا أفسد لضمائر الخلق من
1 الأنعام: 152.
2 المائدة: 8.
3 البقرة: 283.
4 البقرة: 282.
5 المائدة: 8.
6 النحل: 90.
الجور"1، ولهذا أمر الله بالعدالة فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 2.
ولقد بين ابن خلدون كيف أن ضياع العدالة وانتشار الجور والظلم يؤديان إلى فساد الحياة وخراب العمران، فيقول:"اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لما يرون حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم، وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب.. والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال فإذا قعد الناس عن المعاش كسدت أسواق العمران وانقضت الأحوال وذعر الناس في الآفاق.. في طلب الرزق فخف ساكن القطر وخلت دياره وخربت أمصاره واختل باختلاله حال الدولة، ومن أشد الظلمات وأعظمها في إفساد العمران تكليف الأِعمال وتسخير الرعايا بغير حق، وذلك أن الأعمال من قبيل المتمولات، وأعظم من ذلك في الظلم وإفساد العمران وفساد الدولة، التسلط على أموال الناس بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان ثم فرض البضائع عليها بأبخس الأثمان على وجه الغصب والإكراه في الشراء والبيع"3.
ويمكننا أن نستخلص مما سبق أن الأخلاق تؤدي إلى أمرين هامين في الحياة، أولهما: دوام الحياة، دوام الحياة الاجتماعية وتماسكها، وثانيهما: تقدم الحضارة من الناحية العلمية والعمرانية، غير أن معالجتها لهذا الجانب
1 أدب الدنيا والدين للماوردي ص 115.
2 المائدة: 8.
3 مقدمة ابن خلدون فصل 43 ص 240 طبع 1930م.
الثاني لم تكن واضحة تمام الوضوح؛ لأن تركيزنا كان منصبا على الجانب الأول، والآن نعالج هذا الجانب الأخير، وإذا نظرنا إلى المبادئ الأخلاقية وجدنا هناك مبادئ شديدة الصلة بهذا الجانب الأخير، ولنأخذ مثلا العنصر الأول في تقدم الحضارة وهو العلم، فنجد الإسلام يهتم بالعلم ويدعو الناس إلى الجد في طلبه، ويرفع شأن العلماء ويحثهم على نشر العلم {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 1، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها" 2، وبيَّن أن الأثر العلمي الذي يتركه الإنسان في حياته سوف ينال ثواب جهوده بعد مماته ما بقي هذا الأثر فقال:"إذا مات ابن ادم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" 3، كما بيَّن أن الإنسان الذي يعمل بعلمه وهديه سينال أجرا مثل أجر العامل، قال:"من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا" 4، وقد وردت نصوص كثيرة في الإسلام تأمر الآباء بتعليم أبنائهم وبناتهم حتى تعليم خادمهم وتحسين أدبهم؛ وذلك لينتشر العلم والفضيلة في المجتمع الإسلامي، فالعلم وسيلة لتحقيق الخير وإزالة الشر وذلك وظيفة الأخلاق.
ولهذا شجع الإسلام طلاب العلم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما صنع" 5، ودعا إلى البحث عن العلم والاغتراب من أجله، قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي
1 الزمر: 9.
2 التاج جـ1، كتاب العلم، ص75.
3 المصدر نفسه ص 75.
4 المصدر نفسه ص 75.
5 رياض الصالحين، كتاب العلم، ص 488.
الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} 1، كما أمر باحترام طلاب العلم وإكرامهم، وخاصة الذين اغتربوا من أجل العلم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"إن رجالا يأتونكم من أقطار الأرضين يتفقهون في الدين فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا"2.
ولا شك أن الإنسان إذا رأى من الناس تقديرهم جهوده العلمية، وإذا علم أن له ثوابا عند الله لآثاره العلمية يناله بعد موته فإنه يشجعه على أعمال علمية عظيمة، وهذا بدوره يؤدي إلى ازدهار العلم وتقدمه، ومن ثم تكون النتيجة تقدم الحضارة؛ لأن العلم أساس الحضارة، وروح أخلاقية العلم تؤدي إلى الخير.
كما نجد في الإسلام توجيهات أخلاقية أخرى تؤدي إلى التقدم الاقتصادي، فنحن نعرف أن التقدم الاقتصادي يتم عن ثلاثة طرق: الزراعة والصناعة ثم التجارة، ونجد الإسلام يدعو إلى الاهتمام بكل هذا، فنراه مثلا يدعو إلى الزراعة، ويعتبر كل نفع يأتي منه للإنسان أو للحيوان صدقة للزارع، فقال الرسول:"لا يغرس المسلم غرسا ولا يزرع زرعا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء إلا كانت له صدقة" 3، ونراه أيضا يدعو إلى الاختراع الذي يأتي منه الخير للناس في أي ميدان من الميادين، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء" 4، وسيأتي حديث يقول الرسول فيه:"من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به".
1 التوبة: 122.
2 التاج جـ1، كتاب العلم، ص 73.
3 صحيح مسلم جـ10، كتاب المساقاة والمزارعة، ص 214.
4 التاج جـ1، كتاب العلم، ص 76.
وأما فيما يتعلق بالتجارة فنجد نصوصا كثيرة منها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1، والقرآن يحث على أن تكون التجارة عن التراضي لا عن الغصب والاستغلال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} 2؛ لأن التجارة المستغلة لا تؤدي إلى رفاهية الحياة الاجتماعية، بل إلى التناحر والتطاحن وإلى الحروب التي رأينا ويلاتها، ولا زالت الشعوب تعاني منها، وقد نهى الرسول -عليه أفضل الصلاة والسلام- الإنسان عن أن يكون عالة على غيره، وأمره بالاكتساب بعمل يده فقال:"لأن يأحذ أحدكم أَحْبُلَهُ ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه" 3، وكذلك فيما يتعلق بالتعمير والعمران فقد دعا الإسلام إلى إحياء الأراضي الميتة وفتح الآبار والبحث عن المعادن وبناء المساجد والعمارات للمساكين والفقراء، وجعل لمن يكافح في هذا الميدان مكافأة، وقد ورد في ذلك كله نصوص كثيرة منها ما ورد في إحياء الخراب والأراضي الميتة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"من أعمر أرضا ليست لأحد فهو أحق" 4، وفي حفر الآبار جاء في حديث ما معناه من حفر بئرا أو اشتراه وجعله للمسلمين فله الجنة أو يبدله الله خيرا منه في الجنة5، وقال
1 الجمعة: 9-10.
2 النساء: 29.
3 رياض الصالحين، باب الحث على الأكل من عمل يده ص 244.
4 فتح الباري -كتاب المزارعة، باب إحياء الأرض جـ5 ص 416.
5 التاج جـ2 ص246، وانظر كذلك فتح الباري بشرح البخاري جـ6 ص 336 كتاب الوصية.
الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق" 1، وفيما يتعلق بالبناء فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة" 2، وقال أيضا:"من بنى لله مسجدا صغيرا كان أو كبيرا بنى الله له بيتا في الجنة"3.
ولقد سبق أن ذكرنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "من سعادة المرء المسكن الصالح" ، كما شجع الإسلام على إقامة المشروعات مثل بناء المسكن وإصلاح الأراضي وحفر الآبار ثم وقفها للفقراء والمساكين"4، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره....، أو بيتا لابن السبيل بناه أو نهرا أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته" 5، ولهذا قال: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له" 6.
وهكذا نجد أن التوجيهات الأخلاقية في الإسلام كلها بنَّاءة، تأمر بالتعمير والإصلاح، ثم إن هناك مبدأ أخلاقيا طلب الاسلام تطبيقه في كل عمل وهو: مبدأ إتقان العمل فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "يحب الله العامل إذا عمل أن يحسن" ، وفي رواية "أن يتقن" ، وأن يلاحظ دائما أن الله والناس سيرى عمله، {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} 8، وإتقان العمل هو أن يبذل الإنسان قصارى جهده ليتم العمل في أتم وأكمل صورة، ثم إن إتقان العمل والصنع من صفات الله الفعلية كما جاء في قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ
1 سنن أبي داود جـ3 ص 178، كتاب الخراج والإمارة.
2 صحيح مسلم جـ4 ص 2287.
3 اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان جـ3 ص 324، كتاب الزهد والرقائق.
4 سنن ابن ماجه جـ1 مقدمة ص 88 رقم الحديث 242.
5 المرجع السابق جـ1 ص 88 رقم الحديث 242.
6 سنن أبي داود جـ3 ص 177، كتاب الخراج والإمارة.
7 الجامع الصغير جـ2 فصل الياء ص 205، وفي رواية أن يتقن، انظر كشف الخفاء جـ1 ص 285.
التوبة: 105.
تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} 1، وهذا من صفات الكمال، وينبغي للإنسان أن يسعى ليتشبه بصفات الكمال في أي ميدان من ميادين العمل في العلم والصناعة والتجارة وما إلى ذلك، ولا شك أن هذا السعي وراء الكمال في العمل يؤدي إلى تقدم الحضارة، فإذا سعى أهل العلم للإتقان في العمل تقدم العلم، وإذا سعى أهل الصناعة لإتقان الصناعة تقدمت الصناعة، ولو سعى الموظفون لآداء أعمالهم في أكمل صورة لانتظمت أمور الدولة، ولو أتقن المعلمون التعليم وأتقن المتعلمون التعلم لتقدم العلم.
وهكذا نجد أن الأخلاق الإسلامية تدفع بطبيعتها إلى الكمال والتكامل في البناء الاجتماعي الذي يقوم على توطيد العلاقات الإنسانية بين الناس على أساس الإيمان والإخلاص، ثم إلى التكامل في ميدان العمل والصناعة والمعرفة، وكلا التكاملين ضرورة لا بد منها لإيجاد حياة إنسانية سعيدة، من أجل ذلك كله كان الإسلام ضياء ونورا يضيء أمام الإنسان ويهديه إلى طريق السعادة، وصدق الله العظيم إذ يقول:{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2، ولهذا كان منهاج الإسلام في الحياة هدى الله، فمن اتبع هداه فلا يضل ولا يشقى {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} 3.
وعلى ذلك لو عملت الأمة بروح الأخلاق الإسلامية لأصبحت أرقى الأمم وأسعدها من جميع النوحي؛ لأنها تدعو كل فرد إلى أن يكون إنسانا خيرا عالما فاضلا، ولا يمكن أن تتقدم أمة إلا بذلك، ولذلك كانت الأخلاق الإسلامية ضرورة وغاية في الأهمية لدفعها الناس إلى الأفضل والأكمل.
1 النمل: 88.
2 الأعراف: 157.
3 طه: 123.