الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس: تأكيد المسئولية الأخلاقية
مدخل
…
الفصل السادس: تأكيد المسئولية الأخلاقية
تعد هذه المسألة نتيجة طبيعية للمسألة السابقة، ذلك أن مدى المسئولية يتحدد بمدى الإلزام والالتزام، فالصفات والخصائص هناك تؤثر في الصفات والخصائص هنا؛ لأن الإلزام والالتزام يسبقان على المسئولية من حيث الوجود، والمسئولية مبنية عليهما معاً، لكن لما كانت معرفة السابق لا تكفي لمعرفة اللاحق- وإن كان من الممكن التنبؤ عن طريقها ببعض معالمه العامة- فإنه يلزم علينا هنا أن ندرس المسئولية الأخلاقية دراسة مفصلة وتحديد مجالاتها تحديداً كاملاً.
أولا:
تحديد مفهوم المسئولية الأخلاقية
ويتطلب تحديد المسئولية من جميع الجوانب القيام أولاً بتحديد معناها ثم بيان الأساس الذي تقوم عليه ثم مجالات المسئولية ومراتبها.
أما معناها فهو تحمل الشخص نتيجة التزاماته وقراراته واختياراته العملية من الناحية الإيجابية والسلبية أمام الله في الدرجة الأولى وأمام ضميره في الدرجة الثانية وأمام المجتمع في الدرجة الثالثة، وسوف يتضح ما أقصده من هذا التعريف بالتحديد خلال عرضي لجوانب هذا الموضوع بصورة متكاملة.
أما الأساس الذي تقوم عليه المسئولية فهو أهلية الشخص المسئول للقيام بالمسئوليات التي يتحملها ويلتزم بها سواء كان بإلزام أم بالتزام: وهذا يقتضي توافر الشروط الآتية في الشخص المسئول وهي: أن يكون واعياً لطبيعة ذاته ولسلوكه وأهدافه ونتائج تصرفاته مما يعود على نفسه أو على غيره من نفع أو ضرر إن عاجلاً أو آجلاً، وأن تكون له حرية الإرادة والاختيار والتصرف فيما يختاره، وأن يكون مستطيعاً للقيام بمسئولياته.
وهذه الشروط مجتمعة تعد أساس المسئولية ولا يمكن الاستغناء عن أي واحد منها؛ ذلك أن المسئول إذا لم يكن واعياً بذاته ومقاصده من أفعاله وما سينجم عنها فلا معنى لجعله مسئولا عن تصرفاته؛ ولهذا لم يجعل الإسلام الحيوانات مسئولة، ولم يجعل كذلك الأطفال الصغار مسئولين عن تصرفاتهم، كذلك متى لم يكن المرء حراً في إرادته واختياره وتصرفاته فلا معنى عندئذ لجعله مسئولا عن أعماله.
ومن الظلم تكليف إنسان بأعمال لا يستطيع تحمل أعبائها والقيام بها، وإذا كانت هذه الشروط كلها ضرورية فهي ضرورية أيضاً من حيث اتصال بعضها ببعض، فإنه لا يعقل أن يحاسب كائن عن عمل لا يستطيع اختيار غيره أو يستطيع الاختيار ولكنه لا يستطيع تنفيذ ما يختاره أو كان لا يعرف طبيعة الأعمال المختارة أهي خير أم شر وأنه مطالب بالخير ومنهي عن الشر.
لكن هل تتوافر هذه الشروط في الكائنات الأرضية جميعاً؟ إنها لا تتوافر إلا في الإنسان، وإذا كان بعض الباحثين يدعي وجود هذه الشروط إلى حد ما لدى بعض الحيوانات الراقية مثل الشمبانزي مثلاً، إلا أنه مهما ادعى هؤلاء وجود التشابه بينه وبين الإنسان في بعض الظواهر السلوكية، فإن هناك مسافة واسعة بينهما لا يمكن أن يملؤها ببعض درجات السلوك المتشابهة، كذلك لا يستطيعون أن يقربوا بينهما عن طريق نظرية التطور أو تفسير سلوك الأعقد بالأبسط أو المخلوق المعقد بالمخلوق الساذج، وأظن أننا لا نحتاج الآن إلى الاستدلال على توافر تلك الشروط في الكائن الإنساني بعد أن بينا في الموضوعات السابقة وجود الوعي والعقل وحرية الإرادة والاختيار، والاستطاعة لتنفيذ الاختيارات فيه.
إذن فما نقوله هنا ليس مجرد دعوى لتبرير المسئولية الأخلاقية التي تحملها الإنسان بإلزام والتزام وعن جدارة {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} 1، وهذه الآية توجهنا إلى فهم طبيعة التفكير الأخلاقي في الإسلام وطبيعة موقف الإنسان من الأخلاق، لذا يجدر بنا أن نقف عندها وقفة قصيرة لإبراز أهم ما تحمل من المفاهيم الهامة، فمن هذه المفاهيم: مفهوم الأمانة الذي حددته الآية السابقة لها وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} 2، فالأمانة إذن هي الصدق في الكلام، والعمل الصالح الخير وأن يتم هذا وذاك بروح الطاعة والتقوى لله.
إذن المراد من الأمانة باختصار الأخلاق؛ لأن الأخلاق ليست أكثر -في مجملها- من الصدق في الأقوال كلها والعمل الصالح في السلوك كله. وأن يكون كل ذلك بروح الطاعة لله وعلى أنه مكلف بها من قبله تعالى، والمراد من السموات والأرض والجبال هو أهلها، مثل:"واسأل القرية" والمراد من الحمل قبول القيام بهذه التكاليف وعدم الخروج عليها ثم تحمل مسئولياتها في الحالتين معا، وسبب إشفاق أهل السموات والأرض هو المسئوليات الكبيرة التي تترتب على قبول هذه الأمانة والعذاب الشديد الذي يعاقب به من يخونها ولا يؤديها، أما الإنسان لعدم خوفه من تجرع الظلم {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} 3، ولقلة علمه بكل ما يترتب على مخالفته للأمانة {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} 4، وعدم خوفه من تعدي حدود معرفته وارتياده ميادين الجهل لكل
1 الأحزاب: 72.
2 الأحزاب: 70-71.
3 إبراهيم: 34.
4 الإسراء: 85.
هذه الصفات الطبيعية فيه قبل هذه الأمانة الثقيلة بشجاعة، وإن كانت هذه الشجاعة ناتجة عن ضعف الشعور بالخوف من عواقب الخيانة وعن جهله بها؛ لأن الجاهل أشجع من العالم كما يقولون، وقد قدر الله للإنسان هذه الشجاعة وجعله خليفته في الأرض لتنفيذ هذه الأمانة في نفسه وفي غيره {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} 1، {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} 2.
ولما أعلن الله هذا النبأ للملائكة تعجبوا كيف يجعل الله هذا المخلوق الذي سيخون الأمانة ويملأ الأرض فساداً وظلماً خليفة له، ولم يخلف الملائكة وهي أعلم من الإنسان وأكثر تقديساً وتعبداً ولا يفسقون ولا يظلمون {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} 3، ولكن الله كان يعلم أن من الناس من يصبح أفضل من الملائكة بالعلم والعبادة، وأن الإنسان بالرغم من الشهوات الجامحة التي ركبت فيه فإن له قدرة على معرفة الله، وعبادته كالملائكة، وأن من الناس من يصبح كالشيطان المارد يفسد ويفسق ويملأ الأرض ظلماً وعدواناً؛ وذلك كله ليجزي أولئك ويعاقب هؤلاء؛ ولهذا قال تعالى عقب تحمل الإنسان للأمانة:{لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} 4.
وبعد تحديد معنى المسئولية وأساسها وشروط الكائن المسئول ننتقل إلى تحديد مجالها وأبعادها.
1 ص: 26.
2 يونس: 14.
3 البقرة: 30.
4 الأحزاب: 73.