الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثاينا:
أهمية الأساس الاعتقادي
وهذا الأساس بهذا المفهوم في غاية الأهمية في الاتجاه الأخلاقي في الإسلام، ذلك أنه يعتبر السند الذي يعتمد عليه في إقامة النظام الخلقي وفي عملية الالتزام به، فبدون هذا الأساس تفقد الأخلاق قدسيتها وعظم تأثيرها في الإنسان، ولا يمكن أن تطبق الأخلاق تطبيقا عمليا دقيقا في السر والعلن إلا إذا اتخذ هذا الأساس في قلوب البشر مكانا، وآمنوا به إيمانا صادقا، ويقول "فرويل" هنا:"إن الإيمان يجعل الإنسان يعيش ساكنا قويا في كل الأحوال وظروف هذه الحياة، وعن طريق التعليم الديني يمكن أن يعرف الإنسان واجباته والقيام بأدائها".
وليس هذا أساسا للسلوك الأخلاقي فقط بل أساس للحياة، إذ لا معنى للحياة -في الحقيقة- دون وجود هذا الأساس ودون الاعتماد عليه.
والذي يقرأ كتاب الوجوديين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر يرى كم يعانون من الاضطراب النفسي والقلق في أعماق قلوبهم، وخاصة كتاباتهم في التفكير الأخلاقي وهم يحاولون أن يبرروا ذلك كله بإسناده إلى الطبيعة أو إلى طبيعة الحياة، والحقيقة أنه ليس من الطبيعة، بدليل أننا لا نجد هذه الظاهرة عند غيرهم بصورة عامة، ولعل ذلك من طبيعة عدم الإيمان إذ إن في طبيعة الحياة الإنسانية جانبا لا يملؤه إلا الإيمان، فوجود هذا الفراغ في حياة هؤلاء هو السبب في إحساسهم بالنقص والقلق والاضطراب في الحياة، وذلك الإحساس هو الذي يدفعهم في بعض الظروف المحرجة إلى محاولة التخلص من هذه الحياة، وذلك إما بالانتحار وإما بالتردي في حياة السُّكْر، وهذا قضاء على الحياة بطريق غير
1 التربية الأخلاقية، أبادير حكيم، ص 104-105.
مباشر، ومما يؤيد صدق ما ندعي أن أولئك الذين يقضون على حياتهم لا يفعلون ذلك لضيق معيشتهم أو لفقد صحتهم، بل إننا نجد منهم من هم أغنى الناس، لا ينقصهم مال ولا جاه ولا أي متعة من متع الحياة، وإنما ينقصهم في الحقيقة الطمأنينة الداخلية التي يكونها الإيمان أو العقيدة السلمية، ولا أقول هذا إن افتقاد عامل العقيدة هو السبب الوحيد في الانتحار، وإنما أقول إنه من أهم الأسباب، ومن مميزات تلك العقيدة أنها تضفي على القوانين الأخلاقية قداسة تسمو بها على أن تكون مجرد نظام وضعي يحدد علاقة الناس فيما بينهم لتحقيق مصلحة فردية أو اجتماعية لرغبات الأفراد أو المجتمعات.
فهناك إذن فروق واضحة بين القوانين الأخلاقية والقوانين الوضعية، ويمكن تلخيص تلك الفروق في النقط الآتية:
فالأولى: قدسية القوانين الأخلاقية.
ويؤدي ذلك إلى أمرين أولهما: تعظيم هذه القوانين وإجلالها، ومن ثم تكون لها سلطة تتحكم بها في حياة الإنسان وتصرفاته في السر والعلن، وثانيهما: إن هذه القوانين الأخلاقية تؤثر في الإنسان عمليا من الناحية الإيجابية او السلبية نتيجة تطبيقها أو عدم تطبيقها، فيكون أثر التطبيق الإحساس بالسرور والانشراح في أعماق النفس الإنسانية، ويكون أثر عدم تطبيقها الإحساس بالوخز والضيق والكآبة، وذلك بصرف النظر عن ملاحظة الناس لهذه الأفعال أو تلك؛ لأن ذلك الإحساس بالقدسية يجعل من نفسه رقيبا داخليا على تصرفات الإنسان، ولا يرتبط ذلك التطبيق للقوانين الأخلاقية بالمنفعة أو بالمظهر الاجتماعي فحسب شأن القوانين الوضعية، بل يتربط إلى جانب ذلك بظاهرة أعمق من ذلك وهي الإحساس
بالواجب وبراحة الضمير.
النقطة الثانية: أن هذه القوانين الأخلاقية تحقق للإنسان السعادة في الحياة؛ لأنها تجمع بين المنافع المادية والمعنوية، أما القوانين المدنية فلا تراعي كل ذلك كما أنها لا تدفع الإنسان إلى ذلك دفعا كالقوانين الأخلاقية القائمة على هذا الأساس الاعتقادي.
النقطة الثالثة: أن القوانين الأخلاقية من حيث الأصول عامة وثابتة، وهي تتجاوز حدود القوانين الوضعية من هذه الناحية ومن ناحية التأثير والتطبيق.
النقطة الرابعة: أنها هي التي تصبغ حياة الإنسان بصبغتها، وتكيفها بروحها وغايتها وفلسفتها، بينما القوانين الوضعية يحددها المجتمع أو بعض أفراده وذلك وفقا لرغبتهم في الحياة وفهمهم لها، ومن ثم تظهر روح المجتمع في قوانينه بينما تظهر روح الأخلاق الدينية في حياة المجتمع إذا ما كان يسير المجتمع وفقا لتوجيهات هذه الأخلاق لا وفقا لتوجيهات رغباته ومنفعته.
ومجمل القول إن العقيدة -أساسا للأخلاق- تلعب أكبر دور في الحياة الأخلاقية من حيث إنها أكبر دافع يدفع الإنسان إلى الأعمال الإيجابية الخيرة، وأقوى رادع يكفه عن اتباع الهوى والشهوات، ومن حيث إنها المصدر الرئيسي للإحساس بقدسية القوانين الأخلاقية، وهذا بدوره هو المنبع الوحيد الذي يستقي منه الضمير الأدبي حياته الوجدانية.
ولقد اعترف الدكتور ألكسيس كارل بهذه الحقيقة، وبيَّن أن العقيدة تضيف على الأخلاق فعالية لا توجد في الأخلاق المدنية، فيقول: "فالفكرة المجردة لا تصبح عاملا فعالا إلا إذا تضمنت عنصرا دينيا، وهذا هو السبب في أن
الأخلاق الدينية أقوى من الأخلاق المدنية إلى حد تستحيل معه المقارنة، ولذلك لا يتحمس الإنسان في الخضوع لقواعد السلوك القائم على المنطق إلا إذا نظر إلى قوانين الحياة على أنها أوامر منزلة من الذات الإلهية"1، ويرى "باستا لوتزي" أن حياة الإنسان الأدبية ونموه في الفضيلة يتوقف على إحياء الإيمان بالله في فؤاده"، ويرى "أفلاطون" أن الإنسان بغير الإيمان بالله يضل في الحياة3.
وبقدر تدعيم الأخلاق بالعقيدة وتأسيسها عليها تقوم الأخلاق على أرض صلبة، وبقدر تنمية الإيمان في نفوس الأجيال بالعقيدة والأخلاق معا نستطيع تقوية دافع الالتزام بالقيم الأخلاقية، والتضحية من أجلها، وتكون النتيجة عكس ذلك إذا أهملنا هذا التدعيم والتنمية.
1 تأملات في سلوك الإنسان، د. الكسيس كارل ت. د. محمد القصاص، بمراجعة د. محمود قاسم، ص 140.
2 التربية الأخلاقية أبادير حكيم، ص 118-119.
3 مقدمة كتاب السياسة لأرسطو، ص20.