المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تحديد القيمة الأخلاقية في إطار الإسلام: - علم الأخلاق الإسلامية

[مقداد يالجن]

فهرس الكتاب

- ‌مِقْداد يالجن

- ‌الفكر التربوي عند مقداد يالجن

- ‌مقدمة

- ‌مقدمة عامة للموسوعة

- ‌مدخل

- ‌أهداف تعليم الأخلاق

- ‌مدخل

- ‌ أهمية الأخلاق:

- ‌التربية الأخلاقية

- ‌أهمية التربية الأخلاقية:

- ‌أهمية النظام الأخلاقي الإسلامي

- ‌المنهج وتطبيقه

- ‌مدخل

- ‌ أن تكون البداية من الإسلام

- ‌ أن نفهم موضوعات الفلسفة الإسلامية بالفلسفة الإسلامية نفسها، وتحقيق هذه النقطة يتطلب ثلاثة أمور:

- ‌ أن نحدد موقفنا من دراسات السابقين باتخاذها وسيلة من وسائل الفهم والتقويم

- ‌ أن يكون هدفنا الأساسي هو معالجة المشكلات الفلسفية المتصلة بحياتنا الراهنة

- ‌أن نميز السنة التشريعة من السنة غير التشريعة عند معالجتنا

- ‌ التحقق من صدق النصوص الإسلامية التي نعتمد عليها في تقرير الأفكار

- ‌التطبيق

- ‌الباب الأول: علم الأخلاق الإسلامية مفهومة، غايته، مجالاته، مدى ضرورته في نظر الإسلام

- ‌الفصل الأول: تحديد مفهوم علم الأخلاق الإسلامية

- ‌مدخل

- ‌تحديد مفهوم كلمة العلم

- ‌مدخل

- ‌أقسام العلوم وموقع علم الأخلاق منها

- ‌ مفهوم كلمة الأخلاق

- ‌ مفهوم علم الأخلاق الإسلامية:

- ‌الفصل الثاني: غاية الأخلاق

- ‌الاتجاهات العامة في غاية الأخلاق

- ‌مدخل

- ‌ الاتجاه الروحي:

- ‌ الاتجاه العقلي

- ‌ الاتجاه المادي:

- ‌ اتجاه الإسلام في غاية الأخلاق:

- ‌الفصل الثالث: مجالات الأخلاق

- ‌مدخل

- ‌ الاتجاهات العامة في مجالات الأخلاق:

- ‌ مجالات الأخلاق في الإسلام:

- ‌الفصل الرابع: مدى ضرورة الأخلاق للحياة الإنسانية

- ‌مدخل

- ‌ مدى علمية الأخلاق

- ‌مكانة الأخلاق وأهميتها لدى العلماء

- ‌ مدى ضرورة الأخلاق ومكانتها في نظر الإسلام:

- ‌الباب الثاني: أسس الأخلاق في نظر الإسلام

- ‌الفصل الأول: الأساس الغيبي والاعتقادي

- ‌أركان الأساس الاعتقادي

- ‌الركن الأول

- ‌الركن الثاني

- ‌ الركن الثالث:

- ‌ أهمية الأساس الاعتقادي

- ‌الفصل الثاني: الأساس الواقعي والعلمي

- ‌أساس الاعتدال بين الواقعية والمثالية

- ‌ مراعاة قوانين الطبيعة والحياة:

- ‌الفصل الثالث: مراعاة الطبيعة الإنسانية

- ‌مدخل

- ‌ رأي العلماء في الطبيعة الإنسانية:

- ‌رأي الإسلام في الطبيعة الإنسانية

- ‌مدخل

- ‌بطلان نظرية داروين علميا:

- ‌ صلة الطبيعة الإنسانية بالأخلاق

- ‌الفصل الرابع: الاعتداد بالحرية الأخلاقية

- ‌مدخل

- ‌الاتجاهات الفكرية والفلسفية في حرية الإنسان

- ‌الاتجاه الجبري

- ‌ اتجاه حرية الإرادة:

- ‌ اتجاه الوسط بين الاتجاهين السابقين:

- ‌رأي الإسلام في حرية الإنسان والحرية الأخلاقية

- ‌مدخل

- ‌الدرجة الأولى جبرية مطلقة:

- ‌الدرجة الثانية جبرية طبيعية:

- ‌الدرجة الثالثة جبرية القوانين الأخلاقية

- ‌خلاصة الدراسة:

- ‌الفصل الخامس: تقرير مبدأ الإلزام والالتزام الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌ الاتجاهات المختلفة في الإلزام الأخلاقي:

- ‌ رأي الإسلام في الإلزام الأخلاقي:

- ‌ مجالات الالتزام الأخلاقي ودرجاته:

- ‌خصائص الالزام الأخلاقي في الإسلام

- ‌مدخل

- ‌ الإلزام بقدر الاستطاعة:

- ‌ سهولة التطبيق:

- ‌ مراعاة الحالات الاستثنائية:

- ‌ قوة الإلزام:

- ‌الفصل السادس: تأكيد المسئولية الأخلاقية

- ‌مدخل

- ‌ تحديد مفهوم المسئولية الأخلاقية

- ‌ مجال المسئولية وأقسامها وأبعادها

- ‌ أبعاد قياس المسئولية الأخلاقية:

- ‌ أقسام المسئولية بحسب جزاءاتها:

- ‌الفصل السابع: إثبات الجزاء الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌أنواع الجزاء الأخلاقي في الإسلام

- ‌مدخل

- ‌ الجزاء الإلهي:

- ‌ الجزاء الوجداني:

- ‌ الجزاء الطبيعي:

- ‌ الجزاء الاجتماعي:

- ‌ خصائص الجزاءات الأخلاقية الإسلامية

- ‌الباب الثالث: القيم الأخلاقية ومعاييرها في الإسلام

- ‌الفصل الأول: المعايير الأخلاقية

- ‌مدخل

- ‌الاتجاهات الفكرية في المعايير الأخلاقية

- ‌مدخل

- ‌الاتجاه الأول: الاتجاه الخارجي:

- ‌الاتجاه الثاني: الاتجاه الداخلي الباطني:

- ‌المعايير الأخلاقية في الإسلام

- ‌مدخل

- ‌ المعايير الأخلاقية الموضوعية:

- ‌ المعايير الأخلاقية الذاتية أو الداخلية:

- ‌وجهة نظر الإسلام:

- ‌ خلاصة المعايير الأخلاقية الإسلامية

- ‌الفصل الثاني: حقيقة القيم الأخلاقية

- ‌مدخل

- ‌تحديد القيمة الأخلاقية خارج إطار الإسلام

- ‌مدخل

- ‌ الاتجاه الطبيعي:

- ‌ اتجاه الطبيعة النفسية الفاعلة:

- ‌ الاتجاه العقلي أو فاعلية الفكر الفردي:

- ‌ الاتجاه الواقعي:

- ‌ اشتراك الذات الفاعلة مع الواقع الراهن

- ‌تصنيف القيم:

- ‌ تحديد القيمة الأخلاقية في إطار الإسلام:

- ‌أهمية القيم الأخلاقية في الحياة العملية

- ‌الأولى: المعرفة والإبداع والاختراع وإتقان العمل

- ‌الثانية: توجيه الذات الإنسانية وتوحيدها:

- ‌الثالثة: اكتساب تنمية القيمة الإنسانية:

- ‌الرابعة: القيمة المادية:

- ‌الخامسة: القيمة المعنوية:

- ‌الفصل الثالث: القيم الأخلاقية بين الفرد والمجتمع

- ‌أهم الاتجاهات الفلسفية والاجتماعية في الموضوع

- ‌ اتجاه الإسلام في الموضوع:

- ‌أنواع الأخلاقيات في إطار الأخلاق الإسلامية

- ‌النوع الأول: ينزع منزعاً فردياً

- ‌النوع الثاني: ينزع منزعا اجتماعيا:

- ‌النوع الثالث: أخلاقيات الحاكم المسلم

- ‌خاتمة أهم النتائج والتوصيات

- ‌مدخل

- ‌ أهم النتائج:

- ‌ توسيع الإسلام نطاق مفهوم الأخلاق وميدان العمل بها

- ‌ أصالة الأسس التي أقام عليها الإسلام نظامه الأخلاقي:

- ‌ وضع الإسلام معايير متعددة لقياس الأخلاق ولبيان قيمتها:

- ‌ تقويم الإسلام للأخلاق تقويما متكاملا

- ‌ الاتجاه الأخلاقي في الإسلام يجمع وينسق بين الفردية والاجتماعية:

- ‌ التقاء التفكير الأخلاقي والديني في الاتجاه الإسلامي:

- ‌ قدرة الأخلاق الإسلامية على مسايرة تطور الحياة وأشكالها المختلفة

- ‌ الأخلاق الإسلامية أكمل وأصلح أخلاق للحياة الإنسانية

- ‌أهم التوصيات

- ‌مدخل

- ‌ التوصيات الموجهة إلى الأسرة:

- ‌ التوصيات الموجهة إلى الإعلام:

- ‌التوصيات الموجهة إلى المدرسة

- ‌مدخل

- ‌الأهداف العامة لتعليم علم الأخلاق:

- ‌ التوصيات الموجهة إلى مراكز البحوث:

- ‌مصادر ومراجع الكتاب

- ‌الفهارس

- ‌فهرس أطراف الحديث

- ‌فهرس الأعلام

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌ تحديد القيمة الأخلاقية في إطار الإسلام:

وسادسها: هي ضرب من النظام موجود في الوجود يميل إليه الإنسان بالطبيعة في القيم الإيجابية وينفر منه في القيم السلبية1.

بعد تحديد مفهوم القيمة بصفة عامة في الاتجاهات الفلسفية المختلفة نستطيع تحديد القيمة الأخلاقية في إطار مفهوم القيمة عموما.

إن قيمة الأخلاق في أساسها هي قيمة الأفعال أو السلوك لا قيمة الأشياء والأفكار، وليس أي سلوك، وإنما سلوك إنسان راشد يبتغي غاية من سلوكه.

وحقيقة هذه القيمة هي الخير وحقيقة الخير -كما رأينا- اختلفت فيها وجهات النظر، وقد فسرها كل اتجاه بما يتناسب مع فلسفته في القيمة عموما، وقد عرضنا هذه الاتجاهات ولا داعي لعرضها لتفسير القيمة الأخلاقية من جديد.

1 القيم الأخلاقية، الدكتور عادل العوا ص 38.

ص: 331

ثانيا:‌

‌ تحديد القيمة الأخلاقية في إطار الإسلام:

عرفنا مفهوم الأخلاق في نظر الإسلام بصفة عامة بأنه علم الخير والشر والحسن والقبيح والطيب والخبيث. وقد رأينا أن للسلوك الأخلاقي جانبين الجانب الشكلي المادي والجانب الباطني المعنوي. ويتمثل الأول في القوانين الأخلاقية المرسومة من قبل الشرع، ويتمثل الثاني في الإرادة والغاية والنية الخيرة ولا بد من تطابق الظاهر والباطن حتى يكون السلوك الأخلاقي كاملا، وحتى تتحقق القيمة المنوطة به، فقيمة الأخلاق مرتبطة بهذه القيمة المادية والقيمة المعنوية لارتباط السلوك الأخلاقي بهما معا.

غير أن ارتباطه بالقيمة المعنوية أكبر؛ لأن هذه القيمة هي التي تضفي

ص: 331

علي السلوك الصفة الأخلاقية، أما السلوك بغير الصفة الأخلاقية فيعد سلوكا عاديا لا يقاس بمعايير الأخلاق. فمثلا لو ساعد رجل آخر وهو يقصد من وراء ذلك مقابلا فإن هذا السلوك لا يدخل في مجال العمل الأخلاقي بالرغم من توافر صورة الأخلاق فيه؛ لأنه يعد صفقة تجارية تتم في إطار الأخلاق ظاهريا.

فالغاية الأخلاقية تحمل قيمة الأخلاق وهي بدورها تحمل قيمة الشخص. والفعل الأخلاقي للإنسان شبيه بأن يكون وليدا له. فكما أن الوليد يتأثر بكثير من خصائص أمه عندما يحيا في بطنها. ويظهر هذا الأثر في شخصيته بعد الميلاد. كذلك الفعل تتكون بنيته الأولى في ضمير الفاعل من حيث الخيرية والشرية والصلاح والطلاح.

لكن كيف تؤثر الغاية في قيمة الفعل الأخلاقي مع أنها أمر خارج عن الفعل أو هي غير الفعل ثم من أين جاءت القيمة إلي الغاية؟.

لنجيب عن ذلك نضرب المثل الآتي: هب أن رجلا ألف كتابا كعمل علمي خلقي، فمن الضروري أن تكون له غاية، قد تكون غايته كسب مال أو شرف أو إفادة الناس؛ لذات الفضيلة لا لشيء آخر. ولو سألنا الناس عن أشرف هذه الغايات لاختاروا الأخيرة بدون شك، ولكن لماذا يختارون الأخيرة؟ هل لأن النفع يعود عليهم؟ إذ النفع موجود على أي حال، إذن فالترجيح هنا مبني على الغاية لا على ذات الفعل. ولا يدل هذا على عدم إعطاء أية قيمة لهذا العمل كعمل نافع بناء. ولكن المسألة مسألة التفضيل، وهو مبني علي القيمة المتزايدة وهذه القيمة وليدة الغاية ولكن من أين جاءت هذه القيمة إلى هذه الغاية. لا شك أنها جاءت من الخير العام الذي يستهدفه من عمله أي: من الإيثار. ولكن من أين

ص: 332

جاءت القيمة إلي الإيثار، لا شك أنها جاءت من فكرة الفضيلة، ولكن من أين جاءت القيمة إلي هذه الفكرة لا شك أنها جاءت من الإنسانية؛ لأنه عمل إنسان يستهدف غاية إنسانية، ولكن فكرة الإنسانية أيضا تستمد قيمتها من شعور الإنسان بالقيمة المثالية للسلوك. هذه الغاية قيمة؛ لأنها موافقة للمثل العليا أو القيمة العليا. ولكن ما زلنا نحتاج إلى سؤال متسلسل من نوع الأسئلة السابقة وهو من أين جاءت القيمة إلي المثل العليا؟ وما المثل العليا في حقيقتها؟

إن الفلاسفة الذين قالوا: إن القيم الأخلاقية نازلة من المثل العليا أو أن الأخلاق تستمد قيمتها من المثل العليا حاولوا تحديد ماهية هذه المثل، ولكنهم لم يستطيعوا تحديدها وبيان حقيقتها.

أما الإسلام فقد بينها بأنها ضرب من النظام المتعالي على الواقع يستمد قيمته من إرادة الله ومن الإنسان والوجود المادى، وهذه المثالية للقيمة معطاة قد أخذت مكانها في فطرة الإنسان باسم الحاسة الخلقية والشعور الخلقي وتحت دافعية هذا الإحساس أو ذلك الشعور يحاول الإنسان التسامي به إلي ذلك المثال وتقليده وفي ضوئهما يميز بين العمل الأخلاقي واللا أخلاقي وبين درجات القيمة الأخلاقية للأفعال الإنسانية.

إذن الغاية تستمد من إرادة الله.

وعندما يريد الإنسان من سلوكه ما أراد الله منه أن يريده فإنه يكون قد اتحدت الإرادتان أو الغايتان إرادة الإنسان وإرادة الله. ولقد حدد الإسلام غاية الأخلاق التي ينبغي أن يتم العمل الخلقي في ظلها بأن يريد الإنسان من عمله وجه الله وأن يعمل لأن هذا العمل إرادة الله منه لا أكثر ولا أقل، ولهذا قال تعالى

ص: 333

: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} 3، ونرى في هذه الآيات بالإضافة إلى جعل الله غاية الأخلاق ابتغاء وجهه فإنه قد ربط بين هذه الغاية وبين خيرية الأخلاق والجزاء في الآخرة.

ولا ينبغي أن يفهم من هذا أن ليس للسلوك الأخلاقي أية قيمة بدون الغاية الأخلاقية إذ إن له قيمة أيضا لكن قيمته ناقصة ولا ينال ثوابه في الآخرة وإنما ينال ثوابه الطبيعي في الدنيا؛ لأن الله يكافئ من يعمل من أجله، ومن كان يعمل للناس أو للدنيا ينال مكافأة عمله من الناس أو من الدنيا. ولا نصيب له منه في الآخرة ولهذا قال تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 4، وقال تعالي:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} 5.

وروي عن ابن عباس في معنى الآية: "من كان من الأبرار يريد بعمله الصالح ثواب الأخرة نزد له في حرثه أي: في حسناته، ومن كان من الفجار يريد

1 الرعد: 22.

2 الروم: 38.

3 الإنسان: 8-9.

4 هود: 15-16.

5 الشورى: 20.

ص: 334

بعمله الحسن الدنيا نؤته منها"، وقال قتادة: "إن الله يعطى مَن نيته الآخرة ما شاء من أمر الدنيا ولا يعطي علي نية الدنيا إلا الدنيا"1، لكن إذا قلنا: إن للأخلاق قيمة فلنا أن نسأل ما ماهيتها؟ وما مميزاتها بالنسبة إلي القيم الأخرى؟ نحن نعلم أن هناك قيما كثيرة: قيم الأشياء والحق والخير والجمال وقد عبر الفلاسفة عن قيم الأخلاق بالخير وذهبوا في تفسير الخير مذاهب شتى. فما مذهب الإسلام في حقيقة هذه القيمة؟

عندما ندرس هذه الحقيقة في الإسلام نجد أنه قد عبر عنها أحيانا بالخير وأحيانا بالقيمة، وإن كان استعماله للفظ الأول أكثر من الأخير، إلا أن إبدال لفظ بلفظ آخر قد لا يزيد الأمر وضوحا، لبيان حقيقة هذا الخير أو تلك القيمة في الإسلام ينبغي أن ندرسها في المجالات التي استعمل فيها حتى نستطيع تحديد حقيقة هذه القيمة ومقارنتها بالقيم الأخرى. وإذا نظرنا إلي المجالات التي استعمل فيها لفظ الخير وجدنا أنه استعمل في المجالات الآتية: وعبر عنها بألفاظ مختلفة مثل: البر والحكمة ورفعة المكانة الأدبية بين الناس وما إلي ذلك ويمكن تلخيصها في المجالات الآتية:

مجال المعرفة والحكمة: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} 2، ومعروف أن الحكمة باختصار هي القول السديد والعمل المفيد ومعرفة أسرار الموجودات والعمل بمقتضى العلم، فهي بذلك تجمع بين القيمة الفكرية والعملية أو بين العلم والعمل بموجبه.

1 القرطبي جـ16 ص 18-19.

2 سورة البقرة: 269.

ص: 335

- مجال العقيدة والإيمان بالله: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} 1؛ لأن الإيمان بالله كما هو خير بنفسه فإنه يؤدي كذلك إلي الخير.

- مجال الصلاح والتقوى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} 3.

- مجال المال والمساعدة: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} 4.

- مجال الشخصية الإنسانية: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} 7، وقال الرسول -صلي الله عليه وسلم:"إن من أخيركم أحسنكم أخلاقا"6.

- مجال كسب رضوان الله في الآخرة: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} 9.

أما لفظ القيمة فقد استعملت في المجالات الآتية:

- مجال الدين والعبادة الخالصة لله تعالي: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 10، {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} 11.

1 آل عمران:110.

2 الحج: 30.

3 الأعراف: 26.

4 البقرة: 272.

5 القصص: 26.

6 التاج جـ5 ص 63.

7 المجادلة: 11.

8 فصلت: 40.

9 التوبة: 109.

10 البينة: 5.

11 يوسف: 40.

ص: 336

- مجال الأحكام والقضاء: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً، فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} 1، ولقد بين الله أن في تلك الصحف أحكاما قيمة صدرت من الله إلي العباد.

- مجال هداية الناس بالكتاب الكريم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا، قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} 2.

- في مجال وصف الإسلام بالطريق المستقيم: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3.

- مجال وصف الإسلام كله دينا: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} 5.

يتبين لنا من هذا العرض لاستعمالات كلمة الخير والقيمة أن الأولى تستعمل لجميع الخصال الحميدة والأفعال الأخلاقية النبيلة وما تؤدي إليه هذه وتلك من المنافع والفوائد لصالح الفرد والجماعة في الدنيا والآخرة ويعبر بها بصفة عامة عن القيم السلوكية والشخصية والفكرية والمادية.

أما كلمة القيمة فقد استعملت بصفة عامة في قيمة الإسلام أحكاما ومبادئ سليمة وهادية ومرشدة للناس في هذه الحياة.

1 البينة: 2-3.

2 الكهف: 1-2.

3 الأنعام: 161.

4 الروم: 30.

5 الروم: 43.

ص: 337

إذن مجال استعمال كلمة الخير أعم من القيمة. وفي تستعمل في الدلالة علي الأخلاق وكل ما يتصل بالأخلاق من الشخصية والقيم المادية والفكرية.

ذلك أن الشخصية الخيرة منبع الأفعال الخيرة عادة كما قلنا وذكرنا حديث الرسول الذي يشبه فيه الإنسان الصالح ببائع المسك والإنسان الفاجر بنافخ الكير1. إذ إن الإنسان الخير تصدر منه دائما أعمال خيرة ينتفع بها الناس كما تصدر من بائع المسك دائما رائحة طيبة يستفيد منها الناس، والإنسان الشرير مصدر للأفعال الشريرة تؤذي من يقترب منه كنافخ الكير الذي تصدر منه دائما رائحة كريهة وشرر يحرق ثوب من يقترب منه.

وكذلك الحكمة وهي أساس التصرف الأخلاقي السليم بل إن الأخلاق نفسها حكمة والمتخلق يكون حكيما.

وكذلك المال فلولا قيمة المال لما كانت هناك قيمة لمبدأ الإنفاق. فبقدر ما يبذل المرء من الأموال القيمة للمحتاجين بقدر ما يكون لهذا السلوك الأخلاقي من قيمة.

هذا إلي أن القيم الأخلاقية يفضل بعضها على بعض أو تزيد درجة قيمة بعضها على بعض، وقد يرجع هذا أحيانا إلي الظروف والملابسات التي يتم فيها العمل الأخلاقي؛ فالعمل الأخلاقي في ظرف معين من الإنفاق في ظرف الرخاء غيره في حال الضيق، ومساعدة إنسان في حال احتمال أن يجد مساعدة من الآخرين غيرها في حال فقد هذه المساعدة وإن كان مقدار المساعدة ونوعها واحدا في كلتا

1 حديث سبق ذكره في الجزاء الأخلاقي في هذا الكتاب: انظر فهرس الأحاديث.

ص: 338

الحالتين؛ ولهذا مدح الله الذين يطعمون الناس وهم في حاجة إلي هذا الطعام {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 2.

وقد يرجع هذ التفاضل أحيانا أخرى إلى نوع العمل الأخلاقي، فالواجب مثلا أفضل من النافلة، قال تعالى في حديث قدسي "وما تقرب إلي عبدي بشئ أحب إلي مما افترضته عليه" إلي آخر الحديث3، والعمل المستمر

خير من المنقطع ولهذا قال الرسول -صلي الله عليه وسلم: "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل" 4، ولما سئلت عائشة عن عمل الرسول فقالت:"كان عمله ديمة""وكانت عائشة إذا عملت العمل لزمته"6.

وهكذا نجد أن القيم الأخلاقية متصلة بقيم الحقائق الأخرى مادية كانت أم معنوية وذلك بالإضافة إلي قيمتها الذاتية الخاصة بها.

ولكن هل هذا المفهوم للقيمة الأخلاقية يدل على عدم موضوعية هذه القيم؟

هذا هو ما سنعرض له مباشرة الآن وهو الموضوع الثاني من هذه الدراسة.

2-

مدى موضوعية القيم الأخلاقية؟

أشرنا إلى هذه النقطة فيما سبق وعرضنا آراء الفلاسفة فيها والآن نلخصها في اتجاهين عامين، ثم نعالج رأي الإسلام.

1 الإنسان: 8.

2 الحشر: 9.

3 جامع الأصول في أحاديث الرسول. ابن الأثير الجزري. دار الفكر1403هـ جـ9 ص542.

4 فتح الباري، باب القصد والمداومة على العمل جـ14 ص 78، كتاب الرقائق.

5 المرجع السابق جـ 14 ص 79، كتاب الرقائق.

6 صحيح مسلم جـ1 ص 541.

ص: 339

الاتجاه الأول: ذهب إلى أن مسألة القيم الأخلاقية مسألة نسبية تخضع للعقائد والعادات الاجتماعية المختلفة وأن الناس هم الذين يخلعون عن الأخلاق قيما من عند أنفسهم ولهذا فهي ليست حقيقة متأصلة فيها.

والاتجاه الثاني: ذهب إلى أن القيم الأخلاقية قيم موضوعية نابعة من ذاتها كامنة في طبيعتها ودور الإنسان ليس إلا إخراجها وإداركها.

ولو ذهبنا نستقرئ أراء المفكرين الإسلاميين في هذا الموضوع لوجدنا أنهم انقسموا فيه إلي اتجاهين أيضا كالفلاسفة.

الاتجاه الأول: اتجاه أهل السنة والثاني اتجاه المعتزلة.

أما الأول: فيرى وجود ثلاثة أنواع من الأحكام تتصف بصفة الحسن والقبح أو بالخير والشر فالنوع الأول كل سلوك يلائم الطبع فهو حسن وما ينافره الطبع فهو قبيح مثل إنقاذ الغرقى واتهام الأبرياء.

والنوع الثاني كل وصف يدل علي الكمال فهو حسن وكل وصف يدل على النقص فهو قبيح مثل العلم والجهل.

والنوع الثالث: كل ما أمر به الشرع حسن وكل ما نهى عنه قبيح.

والأمران الأولان عقليان والثالث شرعي: أي أن الأولين قيمتهما في ذاتهما والثالث قيمته جاءت من الشريعة1. ولكن هل معنى كونهما عقليين أن الثواب والعقاب مترتبان عليهما طبقا لقوانين الطبيعة؟ الجواب لا، فالثواب

والعقاب متوقفان علي الشرع، فكونهما أمرين عقليين شيء وكونهما يستحقان

1 شرح التلويح على شرح التوضيح للتنقيح جـ 1 ص 172 لسعد الدين التفتازاني.

ص: 340

الثواب والعقاب شيء أخر، وأقصد بالثواب الثواب من الله أما الثواب الطبيعي فملازمهما باستمرار.

أما الأمر الثالث من الحسن والقبح اللذان لا يعلمان إلا بالشرع فليس معنى هذا أن العقل لا يدركه بل الحقيقة في هذه النقطة أن أمورا داخلة في النوع الثالث تدرك بالعقل مثل وجود الله وما يتصف به من الصفات الإيجابية أو السلبية، وهناك أيضا بعض الأوامر والنواهي التي يدرك حسنهما وقبحهما بالعقل وبالطبيعة المتلائمة والمتنافرة، ولكن بالرغم من هذا فإن معيار ثبوت الأحكام بالوجوب أو بالنهي بالحل أو الحرمة هو الشرع فإنها ثابتة بالشرع لا بالعقل.

إذن الشرع هو المعيار العام في ثبوت الأحكام في هذا المجال الثالث وتعلق الثواب والعقاب عموما.

ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 1، فلو أن الأحكام ثبتت بالعقل لما توقف العذاب على إرسال الرسول ولكان إرسال الرسل عبثا من غير داعٍ. ومن تلك الأدلة قوله تعالي:{لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} "وإذا كان الأمر حسنا بالعقل فإنه يصبح أحسن بالأمر الشرعي ويجزي الله بالعمل الأحسن لا بالحسن"4.

وأما الاتجاه الثاني وهو اتجاه المعتزلة فقد عرف القبيح "بأنه الفعل الذي إذا فعله القادر عليه استحق الذم على بعض الوجوه" كما أن ترك منع

1 الاسراء: 15.

2 النور: 38.

3 العنكبوت: 7.

4 شرح تنقيح الفصول في الأصول ص41. شرح التلويح على التوضيح للتنقيح جـ1 ص 172.

ص: 341

الواجب من وجوده فهو قبيح أيضا، وعرفوا الواجب بأنه "هو ما إذا لم يفعله القادر عليه استحق الذم على بعض الوجوه"1. وكل واجب حسن في نظرهم وليس كل الحسن واجبا2؛ لأن من الحسن الإحسان وهو أيضا منفعة تسدى إلي الغير بقصد الإحسان إليه وليس كل إحسان واجبا.

وأساس الواجب والحسن والقبح في نظرهم العقل فالحسن ما حسنه العقل والقبيح ما قبحه العقل؛ لأن الحسن والقبح واضحان يدركهما الإنسان بالبداهة لموافقة الأول للطبع ومنافاة الثاني له سواء كان الأمر متعلقا بالأشياء ذاتها أو صفاتها أو متعلقا بالأحكام، والأحكام الشرعية مبنية على الحسن والقبيح العقليين فهي ثابتة بالعقل قبل الشرع، والشرع جاء مؤكدا لما علمه العقل بالضرورة كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع؛ لأنه قد يكون في الصدق ضرر وفي الكذب نفع ومع ذلك يرجح حسن الصدق على نفع الكذب وهذا موضع النظر أي: يحتاج إلي التفكير والتأمل وقد يرجح العكس، وقد يأتي الشرع مظهرا لما لا يعلمه العقل ضرورة ولا نظرا كعدد ركعات الصلوات الخمس ووقوع رمضان في شهر معين فإن العقل لا يعلم حسن مثل هذه الأمور وما فيها من مصلحة وفي عكسها من مفسدة فالشرع أظهر للعقل وجود الحسن ووجه المصلحة والمفسدة.

لذا قرروا أن الثواب والعقاب عقليان أصلا فإثابة المحسن حسن وعقابه قبيح، وعقاب المسيء حسن وتركه أو الإحسان إليه قبيح، فإن ذلك مقتضى

5 شرح الأصول الخمسة ص: 39-41.

6 المصدر نفسه: ص 76.

ص: 342

الحكمة وإلا ضاعت الحكمة في أفعال الله ولكانت أفعاله عبثا ولعبا وهذا يناقض قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} 1.

والآن إذا قارنا بين الاتجاهين وجدنا أن أهم نقط الخلاف هي النقط الآتية:

الأولى: أن الحسن والقبح في الأحكام الشرعية مبنيان على أمر الإله ونهيه والناس مكلفون بها بالرسالة في نظر الاتجاه الأول والأمر على خلاف ذلك في نظر الاتجاه الثاني.

إذ إن تلك الأمور مبنية على الحكم العقلي والناس مكلفون بها بالعقل لا بالرسالة.

الثانية: أن الثواب والعقاب وكثيرا من الأمور المغيبات ثابتة بالشرع في الاتجاه الأول وبالعقل في الاتجاه الثاني.

الثالثة: أن الشرع منشئ في جميع الأحكام في الاتجاه الأول وهو مؤكد أو كاشف في الاتجاه الثاني.

ونحن في الواقع لا يهمنا اتفاق هؤلاء أو اختلافهم وإنما تهمنا حقيقة الموضوع التي نبحث عنها ولا تدل هذه الاختلافات أو تلك على نسبية القيم كما يستدل بذلك بعضهم؛ لأن رجال الفكر عادة يختلفون في كل موضوع اختلافا كليا أو جزئيا؛ وذلك لاختلافهم في درجات الإدراك، وزاوية النظر التي ينظرون منها ولاختلافهم في الحاسة الخلقية والنضج الخلقي والتجارب الشخصية.

وأخيرا فإن هذه الاختلافات قد ترجع إلي التطبيقات العملية، فهم قد

1 المؤمنون: 115.

ص: 343

يتفقون في قيمة من القيم من الوجهة النظرية، ولكن عند التطبيق يتخذون وسائل مختلفة ومن ثم يختلفون في الوصول إلى النتيجة أو رؤية الحقيقة من جميع أطرافها ومن ثم يختلفون في تقييم هذه الحقيقة أو تلك.

ولكن أين الحقيقة الآن إذا كانت هي التي تهمنا أهي مع الاتجاه الأول أم مع الاتجاه الثاني؟

في رأيي وحسبما هدتني إليه دراستي حتي الآن يبدو لي أن الحقيقة ليست بأكملها في جانب هؤلاء أو جانب أولئك، ذلك أن موضوعية القيم الأخلاقية متميزة تماما عن موضوعية العلوم الأخرى إذا نظرنا إليها من زاوية الموضوعية العلمية المتعارفة، وهي ليست مسألة شرعية تستمد قيمتها من الوحي فحسب بل إننا نجد فيها خصائص مشتركة بينها وبين مختلف القيم الأخرى كالقيم الطبيعية والإنسانية والسماوية والاجتماعية والعلمية.

إذن لا نستطيع أن نقول: إن قيمتها عقلية صرفة، كما يقول المعتزلة والموضوعيون من الفلاسفة، كذلك لا نقول: إنها شرعية تستمد قيمتها من الوحي فقط كما يقول أهل السنة، وخاصة الأشاعرة؛ لأن القول بالقيمة العقلية البحتة لا بد من أن يؤيد بأحد الدليلين على الأقل أحدهما الاستدلال الاستقرائي ولكن لا يمكن تطبيق هذا على جميع الأمور الجزئية وخاصة بعض الجزئيات الخاصة بصلة الفرد بالله.

والاستدلال الثاني هو الاستدلال الاستنباطي، ولكن نعجز عن طريق هذا الاستدلال عن تفسير جميع المظاهر الأخلاقية تفسيرا عقليا موضوعيا. كما أنهم عجزوا عن ذلك هم أنفسهم. ولكن هل معنى هذا أننا لا نستطيع قياس هذه

ص: 344

القيم؟

لا ينبغي أن يستنبط من العجز عن قياس حقيقة ما بمعيار معين أننا نعجز عن قياسها بمعيار آخر بل إن الشيء الواحد المعين يمكن أن يقاس بمعايير مختلفة متى كانت له خواص مختلفة. والقيم الأخلاقية من هذا النوع لها خواص متعددة عقلية علمية موضوعية ونفسية وإنسانية وسماوية إلهية.

ولهذا نستطيع قياس القيم الأخلاقية من زواياها القيمية المختلفة، بثلاثة معايير عامة: معيار سماوي مستمد من الوحي وهو الرسالة أو الشرع، ومعيار أرضي علمي تجريبي، وأخيرا معيار إنساني وتدخل فيه الحاسة الخلقية والإحساس الجمالي والوجداني في الطبيعة الإنسانية ولقد اعتد الإسلام بهذه المعايير كلها كما رأينا.

إذن للقيم الأخلاقية جوانب متعددة: ففيها الموضوعية وفيها غير الموضوعية إذا نظرنا إليها من زاوية الموضوعية واللا موضوعية التقليدية، ولا ينقص من قيمة الأخلاق أنه لا يمكن تقويمها بالمعيار الموضوعي التقليدي؛ لأن المعيار السماوي معيار أيضا. والمعيار الإنساني معيار كذلك كالمعيار التجريبي العلمي، ومن هذه الزاوية تعد القيم الأخلاقية كلها موضوعية ولكن بمعنى آخر، ثم إن وجود القيم السماوية والأرضية والإنسانية في القيم الأخلاقية تدل على عظمة القيم الأخلاقية وعظيم قدرها.

3-

القيم الأخلاقية في الحياة العملية.

ذهب بعض الفلاسفة أمثال "شوبنهاور" إلى التفرقة بين القيمة النظرية والقيمة العملية للأخلاق تبعا للتفرقة بين الأخلاق النظرية والأخلاق العملية.

ص: 345

وقد أدت هذه التفرقة أخيرا إلى فكرة أن معرفة الأخلاق نظريا لا تقتضي تطبيقها عمليا1.

وذهب بعض الفلاسفة الآخرين أمثال "سقراط" إلى عدم التفرقة بين النظرية والتطبيق2.

والحقيقة كما تبدو في هذا الخلاف أنه إن صحت التفرقة من زاوية الدراسة النظرية فلا تصح من زاوية دراسة القيمة، ذلك أن القيمة المتكاملة للأخلاق لا تظهر بوضوح إلا عند الجمع بين الجانبين؛ لأن قيمة الأخلاق حقيقة واحدة لها جانبان: جانب نظري يدرك عن طريق النظر والتأمل العقلي، وجانب وجداني

شعوري نفعي يدرك عن طريق التطبيق العملي، والإحساس بالأول يختلف نوعا ما عن الإحساس بالثاني. ولا غموض في هذا التقييم للقيمة الأخلاقية، لأنه لا بأس في تقييم أية حقيقة من زوايا مختلفة بل هذا واجب إذا أردنا تقييم أية حقيقة أن نقيس قيمتها بموازين ومقاييس مختلفة إذا كانت لها قيم متعددة.

ويمكن أن نعبر عن هذا التكامل بالحكمة الأخلاقية؛ لأن الحكمة هي الجمع بين فضيلة النظر وفضيلة العمل، إذ إن الإنسان مهما اقتنع بقيمة الفكرة عقليا فإن القيمة التي يحس بها بعد العمل بها في أعماق نفسه لا يمكن أن يكون كإحساسه بالأول، ولكن قد يتحول هذا الإحساس الأخير إلى مجرد نشوة حسية إذا لم يعتمد على اقتناع نظري أو لم يقم على أساس دافع عقلي. إذن قيمة الأخلاق تعد ناقصة إذا اقتصرنا في تقييمها على المقياس النظري، كذلك تعد ناقصة إذا اكتفينا بالمقياس الحسي العملي لتقييمها؛ لأن كلا منهما يمثل نصف

1 المشكلة الخلقية ص 44.

2 المرجع نفسه ص 47.

ص: 346