الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأخلاقيين اتفقوا جميعا على اختلاف اتجاهاتهم سواء كانوا من الأول الاتجاه الروحي أو الثاني الاتجاه المادي أو الثالث الاتجاه العقلي على أن الأخلاق تؤدي إلى السعادة سواء أكانت السعادة غاية لها أم لم تكن غاية.
ولكن ما حقيقة السعادة؟
لقد اختلف الدارسون في تحديد السعادة من حيث ماهيتها ومن حيث الطريق المؤدي إليها ومن حيث زمانها ومكانها، وقد أدى هذا الاختلاف إلى الاختلاف في تنظيم الحياة الأخلاقية ومجالات العمل الأخلاقي، وسنفصل القول في هذا الجانب الأخير بعد هذا الموضوع مباشرة، وسوف نوضح كيف أن هذا الاختلاف قد أدى إلى الاختلاف في تحديد هذه المجالات ولا شك أن أكثر أسباب هذا الاختلاف راجعة إلى الاختلاف في فهم حقيقة طبيعة الإنسان ومصيره وطراز الحياة الذي يحقق هذه السعادة له.
والآن قبل بيان رأي الأسلام في الموضوع أود إعطاء فكرة موجزة عن بعض الاتجاهات المختلفة في السعادة الأخلاقية، وسنقصر القول على الاتجاهات الآتية:
أ-
الاتجاه الروحي:
يرى هذا الاتجاه أن الروح حقيقة الإنسان وجوهره، وأما الجسم فما هو إلا أداة تستعملها الروح، ولهذا فحقيقة سعادة الإنسان سعادة روحية وهي لا تتم إلا بالاهتمام بها وتحقيق متطلباتها وتطهيرها وتزكيتها من العلائق المادية والنوازع الشريرة، وبذلك تصبح مالكة الجسم تسيره حسب مشيئتها وتتحرر من قيود الجسم وأغلاله ومتطلباته، ولذا لا ينبغي الاهتمام بالجسم؛ لأن الاهتمام به يقوي النوازع المادية فتتسلط المادة على الروح وتشقى، ومن جهة أخرى فإن الروح هي
الحقيقة الباقية بعد فناء الجسد، فالاهتمام بها يعد اهتمامًا بالسعادة الحقيقية الدائمة، تلك هي السمة العامة لهذا الاتجاه، لكنه يتشكل بصورة متفاوتة فهناك اتجاه روحي صرف يتمثل في الاتجاه الصوفي الذي يرى أن السعادة هي الرضا الروحي والسكينة الروحية، وتكتمل هذه السعادة بصورة مؤقتة عند الوصول إلى الله، ومعرفته معرفة كاملة عن طريق التطهير والتأمل، كما قال الغزالي:"إنما الوصول إليه "أي: الله" بالتجرد عن علائق الدنيا والإكباب بجملة همته على التفكير في الأمور الإلهية حتى ينكشف له بالإلهام الإلهي جليها، وذلك عند تصفية نفسه من هذه الكدورات، والوصول إلى ذلك هو السعادة"1.
أو عند المكاشفة كما يقول ابن عربي: "فإن كوشف على أن الطبيعة عين نفس الرحمن فقد أوتي خيرًا كثيرًا"2- وقال بعضهم أيضا: "من عرف الله تعالى صفا له العيش، وطابت له الحياة وهابه كل شيء، وذهب عنه خوف المخلوقين وأنس بالله تعالى"3.
تلك هي السعادة المؤقتة في الاتجاه الروحي، أما السعادة الأبدية فتتحقق بعد انتقال الروح من عالم الدنيا إلى عالمها الأول عالم الخلود.
وهناك اتجاه روحي آخر "يتمثل في فلسفة البراهمة، وخاصة البوذية التي تطورت من البراهمة على يد واحد من زهادهم اختلف في اسمه فقيل: هو "سكياموني" وقيل: "سدهارتا جوتاما" ولقب بالبوذا أي: المستنير"4، ترى
1 ميزان العمل للإمام الغزالي، مكتبة الصبيح، ص23.
2 فصوص الحكم لابن عربي، طبع حلبي ص 2366.
3 الرسالة القشيرية للإمام القشيري، ص 243.
4 في الدين المقارن، الدكتور محمد كمال إبراهيم جعفر، ص 248.
هذه الفلسفة بصفة عامة أن السعادة الكاملة تتم عن طريق التخلص من هذه الحياة التي هي مصدر الآلام والأحزان والشقاء والكآبة والتعاسة، والانتقال إلى عالم الإله أو إفناء الذات في الله:"في رأي من يثبت عقيدة التأله في أصل الدين البرهمي أو البوذي"1، أو الالتحاق بعالم النرفانا "في رأي من ينكر مثل تلك العقيدة في أصل هذه الديانة"2، والنرفانا عالم موجود مستقل بذاته لا يوجد فيه ما يسمى بالفناء أو بعدم الفناء، وليس هو هذا العالم ولا غيره، هو نهاية عالم مرحلة التألم والمعاناة، وهو عالم لا يوصف بالتركيب ولا بالقدم ولا بالحدوث3، يسعد من يدخل في نطاقه أو يفنى فيه، والسبيل إلى ذلك هو محاربة الأهواء والرغبات المادية، وترك اللذائذ والمتع الدنيوية، وتجنب الرذائل والآثام والقبائح مثل: الكذب وشهادة الزور والزنى وإراقة الدماء وقتل البقر بصفة خاصة، ثم التحلي بالفضائل مثل الجود والعفو والقناعة والاستقامة والطهارة ودراسة الفيدا والصبر والصدق وعبادة الله4، ومعلوم أن الانتقال من دار الشقاء إلى دار السعادة يتم عن طريق التناسخ وهو من أهم مبادئ هذه الفلسفة، وللتناسخ في هذا المذهب مراتب، ولكل مرتبة تجربة روحية خاصة، وعند انتقال الروح في هذه التجربة من المرتبة الأولى إلى أعلاها تشعر بالسعادة الجزئية، وهكذا تزيد سعادتها وتكتمل عندما ترجع إلى مصدرها الأول وهو الله5، أو إلى النرفانا.
1 الأسفار المقدسة، الدكتور علي عبد الواحد وافي، ص 163، انظر أيضا: الملل والنحل للشهرستاني 5 ص 175.
2 في الدين المقارن، الدكتور محمد كمال جعفر، ص 259 وما بعدها.
3 التصوف طريقة وتجربة ومذهبا، الدكتور محمد كمال إبراهيم جعفر، ص 289.
4 الأسفار المقدسة للدكتور علي عبد الواحد وافي، ص 170-180.
5 المرجع السابق للدكتور علي عبد الواحد وافي، ص 164.