الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أفتاك الناس" 1.
من هذا كله نستخلص أن الإنسان في نظر الإسلام مخلوق أريد له منذ البداية أن يكون بهذه الصورة المتميزة التي هو عليها الآن، وذلك لغاية دينية وأخلاقية في جوهرها، وهو مركب تركيباً عجيباً، في خلقته من الحقائق المتعددة المتباينة المطالب، وقد نتجت عن ذلك خصائص وصفات مختلفة خاصة به.
وطبيعة الإنسان هذه ثابتة من حيث الأساس كقوى واستعدادات مختلفة، متغيرة ومتطورة من حيث تقبل التوجيه والتنمية نحو الخير والشر، إذن فالخير والشر من حيث المفهوم العملي ليسا متأصلين في هذه الطبيعة، بل إنها قابلة لهذا أو ذاك التوجيه والتربية وهذا هو دور الأخلاق، أي: أن الحاسة الأخلاقية واستعداداتها فطرية، أما شكلية الأخلاق فهي مكتسبة.
1 مسند الإمام أحمد بن حنبل جـ 4 ص 228.
ثالثاً:
صلة الطبيعة الإنسانية بالأخلاق
وإذا كنا قد بينا بقدر الإمكان المفهوم الإسلامي للفطرة أو لجوهر الطبيعة الإنسانية فلننظر إلى صلتها بالأخلاق، ويقتضينا الأمر بيان هذه الصلة من ناحيتين: الأولى مدى المواءمة بينهما، والثانية هذه الطبيعة كمصدر للأخلاق.
1-
أما من الناحية الأولى فقد عرفنا من دراستنا السابقة أن الطبيعة الإنسانية فيها دوافع ورغبات وميول متعددة ومختلفة ناتجة من الحقائق الأساسية المكونة لها.
وعندما ندرس موقف الإسلام في النظام الخلقي من هذه الطبيعة لا نستطيع أن نحكم حكماً واحداً على هذا الموقف بأنه إيجابي أو سلبي بصفة مطلقة؛ وذلك لأنه يقف مع بعض الميول والرغبات موقفا مناهضا مثل: نزعة الأثرة والطمع الزائد
في الدنيا ونزعة الاستعلاء على الناس بالتكبر والتجبر وغير ذلك، ويقف مع بعض الميول والرغبات الأخرى موقفاً إيجابياً مثل: النزعات الإنسانية والتحلي بالفضائل العقلية والروحية، كما أنه يحدد أحياناً تحقيق مطالب هذه الطبيعة الأولية ويوجهها إلى حيث ينبغي أن تتجه، ثم ينسق أخيراً بين عناصر هذه الطبيعة ومتطلباتها لتكوين شخصية إنسانية متكاملة تتجه إلى غاية واحدة.
ونستطيع أن نجد سنداً لما نقوله هنا في كثير من النصوص فنجد مثلاً نصوصاً تدعو إلى كبح جماح النفس وتدعوها إلى العفو عند المقدرة والإنفاق عند الحاجة والمخمصة، فقال تعالى:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 1، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور العين شاء" 2، كذلك نجد نصوصاً تدعو إلى عدم الغضب عند وجود الدواعي وإلى أن يملك الإنسان نفسه إذا غضب، فقد روي أن الرسول قال لرجل يطلب النصيحة منه:"لا تغضب فردده قوله لا تغضب مراراً وقال ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"3.
وهناك نصوص تدعو إلى التمتع بطيبات الحياة وهي من حاجات الإنسان البيولوجية وإلى التزين وهي من حاجات الإنسان السيكولوجية بشرط ألا يكون في ذلك إسراف، وألا يكون مجمع همهم ومبلغ هدفهم في هذه الحياة فقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ
1 آل عمران: 134.
2 التاج جـ 5. كتاب البر والأخلاق ص 48.
3 المرجع السابق ص 47 - 48.
الْمُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 1.
وهناك نصوص أخرى تدعو إلى البحث عن المعرفة؛ لأن هذا البحث ميل طبيعي في الإنسان وفي ذلك إشباع حاجة روحية عقلية؛ ولهذا قال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 2، وقال:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق بها" 4، ومن أهم الصلات التي أقامها الإسلام بين الطبيعة الإنسانية وبين النظام الخلقي أنه أقام هذا النظام على أسباب إمكانات هذه الطبيعة فلم يكلفها بما لا تطيق ولا بما تطيقه بشق الأنفس {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} 5، {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} 6، كما أنه لم يحرم أي دافع من الدوافع الأساسية من تحقيق مطالبه وإشباع حاجاته7 غاية ما هنالك أنه قد اشترط أن يتم ذلك في حدود وقيود معينة هادفة إلى تحقيق سعادة الإنسان وكماله.
فالأخلاق الإسلامية إذن هي محاولة لإقامة تنسيق بين قوى الطبيعة
1 الأعراف: 31 - 32.
2 يونس: 101.
3 الزمر: 9.
4 سنن ابن ماجه جـ 2 ص 282.
5 البقرة: 286.
6 البقرة: 184.
7 يقول الإمام الشاطبي هنا: "فالأوصاف التي طبع عليها الإنسان كالشهوة إلى الطعام والشراب لا يطالب برفعها ولا بإزالة ما غرز في الجبلة منها فإن ذلك غير مقدور للإنسان ولكن يطلب قهر النفس عن جنوح إلى ما لا يحل وإرسالها بمقدار الاعتدال فيما يحل فإذا ظهر من الشارع في بادئ الرأي القصد إلى التكليف بما لا يدخل تحت قدرة العبد فذلك راجع في التحقيق إلى سوابقه أو لواحقه أو قرائنه"، انظر كتاب الموافقات في أصول الأحكام جـ 1 ص 76 - 77.
الإنسانية نفسها من ناحية ثم بينها وبين السلوك الإنساني من ناحية أخرى، كما أنها عملية تهذيب وتربية لهذه الطبيعة ثم عملية توجيه الإنسان إلى السلوك اللائق به في الحياة كأفضل مخلوق في الأرض من أجل رسالة معينة1 خلقت من أجله هذه الدنيا لتحقيق تلك الرسالة فقال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} ، وقال تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} 3.
2-
أما الناحية الثانية لصلة الطبيعة الإنسانية بالأخلاق فهي أنها مصدر له أو منبع للأخلاق، وقبل أن أبين رأي الإسلام في هذه النقطة ينبغي أن أشير إلى آراء الفلاسفة فيها بصفة عامة لنعرف أين يقع رأي الإسلام.
للفلاسفة ثلاث اتجاهات عامة:
الاتجاه الأول: يرى أن منبع الأخلاق هو طبيعة الإنسان نفسه سواء أكانت هذه النشأة عن طبيعته الغريزية أم عقله أم حدس ضميره، وهذا هو اتجاه الحدسيين والعقليين.
والاتجاه الثاني: يرى أن الأخلاق نشأت عن تجربة الإنسان أو أن تجربة
1- هنا يقرر بعض علماء التربية ويقولون: "فالتكوين الخلقي مناقض لطبيعة الإنسان وملائم لطبيعته معاً فهو مناقض دوما لطبيعته الواقعية وملائم لطبيعته المثالية أو جوهره المثالي "التربية العامة" رونيه أوبير ص 488.
2 إبراهيم: 32 - 34.
3 الإسراء: 70.
الإنسان في الحياة هي منبع الأخلاق، إذ إن الإنسان قد اهتدى إلى قوانين الأخلاق بعد تجارب طويلة في الحياة كما اهتدى إلى المعارف الأخرى بالطريقة نفسها1، وهذا هو اتجاه التجريبيين.
والاتجاه الثالث: يرى أن مصدر الأخلاق الوحي فإن الله أراد أن يكون نظام حياة الناس على هذا النحو ثم أوحى به إلى رسل البشر وطلب من الناس تطبيقه في الحياة، وهذا هو اتجاه المتدينين بصفة عامة.
أما رأي الإسلام في هذا الموضوع فيمكننا استخلاصه من دراستنا السابقة، فلقد قلنا إن قيم الأخلاق وقوانينها بصورة كلية موحاة من قبل الخالق إلى الإنسان منذ أن بدأ الإنسان الأول حياته فوق هذا الكوكب، وتتابعت الرسالات الإلهية إلى الناس عن طريق الرسل جيلا بعد جيل يتسع نطاقها ومحتواها كلما زادت رقعة العلاقات الاجتماعية وزاد نضج العقلية الإنسانية حتى اكتملت صورة النظام الأخلاقي برسالة النبي محمد- صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وكانت الوصايا الهامة التي نادى بها كل رسول تمثل دستور النظام الأخلاقي {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 2.
ثم إنا قررنا أيضاً ملاءمة القوانين الأخلاقية للقوانين الطبيعية، ثم مراعاة القوانين الأخلاقية قوانين الطبيعة البشرية ومن أهم ما قررنا وجود فطرة الحاسة
1- المشكلة الأخلاقية والفلاسفة. أندريه كرسون ص 6-19-53.
-منبعا الأخلاق والدين. هنري برجسون.
-الفلسفة الخلقية. الدكتور توفيق الطويل - 168.
2-
الشورى: 13.
الأخلاقية في هذه الطبيعة، وسنقرر فيما بعد كيف يتدخل الإنسان بقصده ونيته في إضفاء قيمة على السلوك الأخلاقي إلى جانب قيمته الذاتية.
وننتهي من هذا إلى أن قوانين الأخلاق تعتمد على قوانين الطبيعة وعلى قوانين الحياة الإنسانية ثم على جهد الإنسان بذاته أو روحه، ولكن هذا الاعتماد لم يكن خضوعاً لتلك الطبيعة بقدر ما كان تكييفاً وتحويراً لها، فالسلوك الصادر من الإنسان يعتبر مادة الأخلاق وتكييفه وفقاً للمبادئ الأخلاقية يعتبر صورة الأخلاق، إذن فالأخلاق قالب للحياة الإنسانية الطبيعية والحياة بقوانينها الطبيعية مادتها.
3-
أن الحاسة الأدبية والاستعدادات الأخلاقية فطرية في الإنسان، فهي تقبل التغيير والتوجيه والتنمية والتزكية بحسب قوة التربية الأسرية والاجتماعية، وتذبل وتضعف بإهمالها ودسها في الفساد والفجور.
4-
أن الأخلاق الإسلامية تراعي استعدادات الإنسان الطبيعية من حيث إنها مستطاعة ومن حيث إنها ليست ضد الطبيعة؛ لأنها كما رأينا عند الحديث عن الدوافع والغرائز لا تحرمها من حاجاتها الأساسية وإنما تحققها في ضوء الآداب والقيم الأخلاقية الإسلامية.
5-
أنها توجه كل الدوافع الفطرية والمكتسبة إلى أهداف أخلاقية سامية وخيرة لتحويلها إلى طاقات خيرة في حياة الفرد والجماعة.
6-
أن الإنسان أصلاً مخلوق مكرم ولم يتحول ولم يتطور من حيوان، وهو منذ أن خلق على هذه الصورة التي هو عليها حتى الآن، وهذا يقتضي معاملة الإنسان بالتكريم والاحترام بصرف النظر عن جنسه ولونه؛ لأنهم أصلا أبناء آدم.