الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولذا فالإيثار والغيرية في السلوك الأخلاقي ينبعان من فطرة الإنسان، إذن فالأخلاق فطرية في الإنسان وعلى الإنسان والمجتمع أن ينميا هذا الدافع الفطري1.
وأما أصحاب الاتجاه الثاني فيرون أن الأثرة والأنانية غريزة في طبيعة الإنسان فهو لا يسعى إلا وراء منفعته الخاصة، وإذا سلك أحيانا السلوك الاجتماعي الغيري مثل العدالة والإحسان والتعاون؛ فذلك لأنه يريد تحقيق مصالحه الخاصة2؛ ولأنه يرى أنه لا يستطيع أن يعيش إلا بالتعاون مع الناس.
1 المشكلة الأخلاقية. أندريه كرسون. ترجمة الدكتور عبد الحليم محمود وغيره، ص 93.
2 المرجع نفسه ص 91 وانظر كذلك مقدمة لعلم النفس الاجتماعي. الدكتور مصطفى سويف جـ2 ص 37، مقدمة في فلسفة التربية. الدكتور محمد لبيب النجيحي ص 277.
ثانيا:
اتجاه الإسلام في الموضوع:
إن الإسلام بنى نظامه الخلقي على أساس نظرته إلى قيمة الفرد وقيمة المجتمع معا.
وقد رأينا فيما سبق أن الأخلاق تكتسب بعض قيمتها من قيمة الذات الإنسانية الفاعلة وهذه الأخيرة إما تكون فطرية وإما إضافية ونريد بالقيمة الفطرية تلك الكرامة الطبيعية التي أعطاه الله إياها منذ أن خلقه {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} 3، ونريد بالقيمة الإضافية تلك التي يكتسبها الإنسان عن طريق ممارسته للفضيلة، مثل الإيمان بالله والإحسان إلى الناس والتعلم وما إلى ذلك4
1 الإسراء: 70.
2 ويقسم الدكتور محمد عبد الله دراز الكرامة الإنسانية إلى ثلاثة أقسام فيقول: "إن الكرامة التي يقررها الإسلام للشخصية الإنسانية كرامة مثلثة: كرامة هي عصمة وحماية، وكرامة هي عزة وسيادة ، وكرامة هي استحقاق وجدارة: كرامة يستغلها الإنسان من طبيعته {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} وكرامة تتغذى من عقيدته. {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} . وكرامة يتوجهها بعمله وسيرته {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} ، {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} . انظر: نظرات في الإسلام ص 97.
ولذا قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} 1، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة" 2، ولا شك أن العلم يكتسب بالجهد الفردي، وكذلك الفضيلة، والقيمة التي ترجع إلي الإرادة وهي الإرادة الخيرة أو مدى إخلاص الإنسان في عمله الأخلاقي. وكلما زاد إخلاص الفرد وقيمته الذاتية زادت قيمة عمله الأخلاقي كما يفهم ذلك من الحديث السابق وكما يحس به كل منا في حياته العملية. ولنضرب لذلك مثلا بالرجل الذي رأى إنسانا قد أقعده ثقل حمله من مواصلة السير إلى حيث يريد وبقي جالسا على قارعة الطريق. فلو أنه حمله عنه أو حمله إلى آخر، فمتى كان هذا المساعد عالما فاضلا من كبار القوم فإن تقديرنا لعمله سيكون أكثر من تقديرنا لهذا العمل الذي كان من إنسان عادي مع أن العمل في كلتا الحالتين واحد.
إذن للفرد قيمة وتزيد قيمة عمله بحسب قيمة شخصيته وإرادته للخير وهذا قد بيناه، كما بينا أن هناك حاسة أخلاقية تدفع المرء إلى السلوك الأخلاقي وتميز بينه وبين غيره. إذن الأخلاق ليست سلوكا مجردا يصنع يتخذه المرء وسيلة لقضاء مآربة النفعية، كما يدعي ذلك أنصار المذهب الأناني.
وأما فيما يخص قيمة المجتمع فنرى أنها حصيلة لجمع القيم الفردية التي تستقل كل قيمة فردية منها بذاتها ونسبة تلك القيمة الكلية شبيهة بنسبة حصيلة الخزينة إلى كل درهم تحتوي عليه. ثم إن الإسلام يخلع على تلك القيمة الاجتماعية الكلية طابعه الخاص. فقد عرفنا أن الإسلام اهتم بالحياة الاجتماعية عندما دعا إلى الحياة مع الناس ونهى عن العزلة بدليل أنه فضل العبادة مع
1 المجادلة:11.
2 الجامع الصغير جـ 2 ص 75.
الجماعة على عبادة المنفرد فقال الرسول- صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسا وعشرين ضعفا" 1، وقال:"عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلتزم الجماعة"2. وقال: "من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع رِبْقَة الإسلام من عنقه" 3، وقال أيضا: "المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا" 4. وقالوا يا رسول الله أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعون حقنا ويسألون حقهم؟ فقال: "اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم"5. لكنه لا ينبغي أن يفهم من هذا وجوب الطاعة لهم ولو أمروا بمعصية إذ نهى الرسول عن ذلك فقال: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" 6.
لكن للمرء أن يلجأ إلى العزلة في الظروف الاستثنائية كأن يعم الفساد في المجتمع ويعجز المرء عن مقاومته مع الخوف على النفس من أن يصيبها هذا الفساد، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن"7. وقال أيضا: "تكون فتن القائم فيها خير من اليقظان واليقظان فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الساعي، فمن وجد ملجأ أو معاذا فليستعذ" 8.
1 رياض الصالحين. فضل صلاة الجماعة ص 406.
2 التاج جـ 5، باب الانضمام إلى الجماعة ص 308.
3 التاج جـ 5 ص 308.
4 فتح الباري جـ 13 ص 57.
5 التاج جـ 5 ص 308.
6 فتح الباري جـ 16، كتاب الأحكام باب السمع والطاعة ص 240.
7 رياض الصالحين، باب العزلة من فساد الناس ص 265.
8 صحيح مسلم جـ 18 ص 8، كتاب الفتن.
أما في غير هذه الظروف الاستثنائية فيجب الاختلاط؛ لأن الاختلاط فضيلة إنسانية وهو ضرورة لتكامل الإنسان وتفادي كثير من الأضرار الناتجة عن العزلة ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "المسلم إذا كان مخالطا الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم"1. وقال: "المؤمن إلف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف وخير الناس أنفعهم للناس" 2.
وقد ذكر الغزالي كثيرا من فوائد المخالطة منها التعليم والتعلم، والنفع والانتفاع والتأديب والتأدب، والاستئناس والإيناس والتجارب، وذكر كثيرا من مضار العزلة النفسية والخلقية فيقول مثلا: "إن الإنسان بالمخالطة يجرب نفسه وأخلاقه وصفات باطنه وذلك لا يقدر عليه في الخلوة.. فالصبي إذا اعتزل بقي غرا جاهلا3.. وكل غضوب أو حقود أو حسود إذا خلا بنفسه لم ينشرح منه خبثه وهذه الصفات مهلكات في أنفسها يجب إماطتها وقهرها ولا يكفي تسكينها بالتباعد عما يحاكيها. فمثال القلب المشحون بهذه الخبائث مثل دُمَّل ممتلئ بالصديد والمُدة وقد لا يحس صاحبه بألمه ما لم يتحرك أو يمسه غيره فإن لم يكن له يد تمسه أو عين تبصر صورته ولم يكن معه من يحركه ربما ظن بنفسه السلامة ولم يشعر بالدمل في نفسه واعتقد فقده. ولكنه لو حركه محرك أو أصابه مشرط حجام لانفجر منه الصديد وفار فوران الشيء المختنق إذا حبس عن الاسترسال، فكذلك القلب المشحون بالحقد والبخل والحسد والغضب وسائر الأخلاق
1 التاج جـ 5 ص 51.
2 كشف الخفاء ومزيل الإلباس جـ 2 ص 408.
3 ينبغي أن ننبه هنا إلى أن الاختلاط يجب أن يكون مع أصحاب الخلق وخاصة بالنسبة إلى الأولاد؛ لأن الاختلاط بالناس الفاسدين من أهم أسباب الفساد الخلقي.
الذميمة إنما تنفجر من خبائثه إذا حرك"1. ويقول أيضا: "إن المخالطة ارتياض بمقاساة الناس والمجاهدة في تحمل أذاهم كسرا للنفوس وقهرا للشهوات وهي من الفوائد التي تستفاد بالمخالطة وهي أفضل من العزلة في حق من لم تتهذب أخلاقه"2. ولم يكن الغزالي هو وحده الذي تكلم عن مضار العزلة، بل هناك علماء النفس الذين هاجموا العزلة وتكلموا عن مضارها. فهذا "هورني" يرجع أحد أسباب القلق في الحياة إلى العزلة3 وهذا "دور كايم" يرجع أحد أسباب الانتحار إلى انقطاع ارتباط الفرد عن المجتمع4 ويرجع "وليم مكدوجل" بعض العيوب الخلقية إلى العزلة ويقول: إن المعاشرة والاجتماع وسيلة للقضاء على مثل هذه العيوب5. ولهذا كان الإسلام حكيما عندما ربط الفرد بالمجتمع ربطا كربط العضو بالجسم فقال الرسول- صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" 6.
وتشويقا إلى الاجتماع وتنفيرا من العزلة والافتراق قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا
1 إحياء علوم الدين جـ 2 ص241.
2 المرجع نفسه جـ 2 ص238.
3 الصحة النفسية. الدكتور مصطفى فهمي ط2 ص 191.
4 المصدر نفسه ص54.
5 الأخلاق والسلوك في الحياة. وليم مكدوجل. ترجمة جبران سليم إبراهيم ص 211.
6 صحيح مسلم بشرح النووي، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم، جـ 16 ص 139.
مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"اثنان خير من واحد وثلاثة خير من اثنين وأربعة خير من ثلاثة فعليكم بالجماعة فإن الله لن يجمع أمتي إلا على هدى"2.
من هذا كله يتبين لنا أن قيمة الجماعة أعظم من قيمة الفرد من حيث إنها مجموع القيم من جهة ومجموع العقول من جهة أخرى، ثم إن المجتمع ضرورة للفرد إذ إنه بحاجة إليه من الناحية النفسية ومن ناحية القوة.
ولكن هل معنى هذا أن الفرد مجرد وسيلة لتحقيق أغراض الجماعة، أو أن قيمته ينبغى أن تقاس بمدى ما يحقق من هذه الأغراض ويسعى لها؟
الحقيقة أن الإسلام ينظر إلى الفرد باعتباره عضوا مستقلا في المجتمع، له كرامة وحرية ومسئولية. زد على هذا أن مسئوليته لا تقتصر على نفسه بل تتعدى إلى المجتمع أيضا. ولا يصح أن يُتَّخذ الإنسان وسيلة لمآرب أخرى؛ لأنه غاية في ذاته ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة:"يا أبا هريرة إذا استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم فافعل تكن من المقربين ولا تتخذن أحدا من خلق الله غرضا فيجعلك غرضا لشرر جهنم يوم القيامة"3.
كذلك لم يجعل المجتمع مجرد وسيلة لتحقيق الأهداف الفردية ولهذا لا يصح استغلال المجتمع لتحقيق المنافع الشخصية أو الأغراض الأنانية.
1 آل عمران: 103، 105.
2 مسند الإمام أحمد عن أبي ذر وانظر كذلك تحفة الأحوذي بشرح الجامع الترمذي جـ6 ص387.
3 فيض القدير جـ6 ص 388.
إذن فلكل من الفرد والمجتمع شخصية وكرامة مستقلة ولكن هناك ارتباط بينهما من ناحية أخرى وهي أن السلوك الأخلاقي لا يمكن أن يتصور إلا بوجود طرفين: أحدهما مبدؤه والآخر منتهاه، وأحدهما معطٍ والآخر آخذ، أحدهما قاصد فاعل والآخر مقصود مفعول له، فمثلا الإنسان الذي يريد فعل الخير لا يمكن أن يريد الفعل نفسه وإنما يريد إيصال نفع بسببه إلى الآخر، إذن الغاية من الفعل ليس الفعل ذاته، وإنما ذات شخص آخر سواء كان الفاعل فردا أو جماعة، إذن لا يمكن تصور أحدهما دون الآخر من الناحية السلوكية حتى إن عمل الإنسان لنفسه يمكن أن ننظر إليه من زاوية اجتماعية؛ لأنه عضو في المجتمع وكل عمل يعود عليه نفع أو ضرر يتردد صداه في المجتمع.
إذن فمن العسير أن نضع حدودا حاسمة بين ما نسميه الأخلاق الفردية والأخلاق الاجتماعية، ولا يمكن تصور ذلك إلا من ناحية واحدة وهي ناحية الغاية الأخلاقية، فإذا اتخذت الذات الفاعلة الغاية من سلوكها تحقيق أمر لنفسها دون مراعاة الغير عند اتخاذ الغاية وعند اتخاذ الوسائل لتحقيق تلك الغاية. وإذا خرج هذا السلوك من الأخلاق من حيث الظاهر لكن من حيث الواقع تبقى هناك صلة، ذلك أنه ما من عمل يقوم به الإنسان لنفسه إلا وكان لغيره منه نصيب إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ولنضرب لذلك مثلا بالرجل السكير فالسكير لا يستطيع الاحتجاج بأنه حر في أن يحقق لنفسه ضربا من المنفعة، إذ إن عمله يعود على نفسه وعلى ذريته وعلى المجتمع بالضرر، وكل سلوك ضار بصاحبه ضار بغيره ولو بطريق غير مباشر، هذه حقيقة يدركها من يدرسها دراسة علمية واعية.
من هذا كله نستطيع أن نحكم بأن كل سلوك وكل عمل له صفة أخلاقية