الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مكانة الأخلاق وأهميتها لدى العلماء
…
ثانيا: مكانة الأخلاق وأهميتها في إطار التفكير العلمي
بعد ذلك ننتقل إلى شرح نقطة أخرى وعدنا ببيانها في مقدمة هذا القسم وهي: ضرورة الأخلاق لدوام الحياة الاجتماعية وتقدمها وتقدم الحضارة، وقد قلنا: إن ضرورة دراسة الأخلاق لا ترجع إلى أنها علم كبقية العلوم بقدر ما ترجع إلى أنها من ألزم العلوم للحياة الإنسانية، فهي تميز بين سلوكين أحدهما يحقق الخير، ويقود ثانيهما إلى الشر، ثم تبين كيف يمكن أن يسلك الإنسان طريق الخير وأن يتجنب طريق الشر، إذ قد يعلم المرء الخير ولكنه لا يدري كيف ينتهي إليه، ويعرف الشر في سلوك ما ويعجز عن تجنبه.
ومن ثم ندرك أن للأخلاق وظيفتين هامتين: أولاهما المعرفة والثانية التربية، ولا شك أن الإنسان بقدر ما يحتاج إلى المعرفة يحتاج بالقدر نفسه إلى التربية، وتشترك المعرفة والتربية في أنهما لا تتمان دون جهد أو معاناة، وتستغرقان فترة من الزمن قد تطول أو تقصر، كذلك ترمي المعرفة والتربية إلى غاية واحدة وهي: كمال الإنسان الذي لا يتحقق إلا بالجمع بين هذين الأمرين.
والأخلاق تحقق للإنسان تقدمين: أحدهما حضاري والآخر تقدم اجتماعي، وكلا التقدمين لا يمكن أن يتم إلا باتباع الطريقتين السابقتين: طريق المعرفة وطريق التربية، فالمعرفة تبني الحضارة وتقدم للإنسان اكتشافات علمية وذهنية، والتربية تساعده على توحيد ذاته وبناء شخصية قوية تيسران له تحقيق الخيرات للإنسانية، ولا يبالي المرء في سبيل ذلك ما يعانيه من جهد، وما يصادفه في طريقه من العوامل المعوقة، سواء كان مصدر هذه العوامل راجعا إلى الظروف الداخلية أو الظروف الخارجية.
ومهما يكن من وجود انفصال ظاهري بين التقدمين إلا أنهما في الحقيقة متصلان أشد الاتصال، ذلك أن هناك جانبين للتقدم الاجتماعي: أحدهما معنوى وهو يتمثل في أساليب التعامل الاجتماعي مثل العدالة والمساواة والتعاون والأمانة والإخلاص والصدق والعفة والاحترام للحقوق المادية والأدبية، والنزاهة والإخاء والمحبة والمودة، وما إلى ذلك.
وأما الجانب الآخر فهو مادي وهو يتمثل في الابتكارات العلمية والإنتاجات الصناعية، والتقدم المعماري والفني، وكل ذلك يحقق الخير للإنسان، ويعد عملا خيِّرا طالما كان يهدف إلى هذا الخير الإنساني فهو أخلاق؛ لأن الأخلاق تدعو إلى الخير وتكشف للإنسان طريق الخير ووسائله.
وليس هناك علم آخر يمكن أن يحقق هذا، ذلك أن قوانين العلوم الأخرى -كما أشرنا إليها- عبارة عن صيغ تقريرية، بينما نرى القوانين الأخلاقية بالإضافة إلى هذه الصفة تتسم بأنها قوانين تأمر وتوجه، وتحمل في نفسها قداسة وسلطة في نفوس الناس، وبذلك تدفعهم إلى السير نحو اتجاه معين في الحياة هو اتجاه التقدم في بناء الأفراد وبناء المجتمع، ثم بناء الحضارة على أسس أخلاقية وعلمية صحيحة.
وهذه الأمور التي تحققها الأخلاق هي وسيلة إلى تحقيق السعادة في مختلف مستوياتها؛ لأن السعادة تعد نتيجة للتكامل، ونعني به التكامل في بناء الذات عن طريق إقامة الوحدة والاتساق بين الميول المختلفة وتوجيهها وجهة صحيحة في الحياة، ولا بد من وجود الوحدة كذلك في ذات المجتمع وهي ضرورة لازمة في بناء الفرد وفي بناء المجتمع، إذ لا يمكن أن يعيش الإنسان متكاملا
بذاته إذا كان المجتمع يعيش فيه مفككا ومتشتتا فاسدا، ولا يمكن أن يشعر الفرد بالسعادة المطلوبة مهما كان بناؤه الشخصي سليما، طالما كان المجتمع الذي يعيش فيه مجتمعا مريضا، هذا إلى أنه لا بد من تحقيق التكامل في متطلبات الإنسان المادية، ويتم ذلك عن طريق التقدم العلمي؛ لأنه الوسيلة الوحيدة لتحقيق الرخاء والرفاهية والحضارة.
هذا التكامل القائم على تلك الأركان الثلاثة هو الذي يؤدي إلى السعادة بكل ما تتضمن هذه الكلمة من معنى.
والأخلاق -بناء على هذا التقرير- هي الطريق إلى السعادة سواء كانت هذا السعادة الهدف المباشر للأخلاق أم لم تكن، فإذا كانت للأخلاق هذه الأهمية فلماذا لم تحظ بما كان ينبغي لها من دراسة وبحث، وإذا كان لها هذا الدور الاجتماعي والحضاري فلماذا اختلف المفكرون في الأخلاق ذلك الاختلاف الطويل العريض، وذهبوا فيها مذاهب متعددة؟ السبب في ذلك كما يبدو لي هو عدم إعطاء كثير من الدارسين تلك الأهمية للأخلاق، كما أن طبيعة الدراسات الأخلاقية ووجود العنصر الذاتي فيها يستلزم ذلك.
ويمكن حصر خلافات هؤلاء في ثلاثة جوانب: الجانب الفلسفي وجانب المادة الخلقية، والجانب التطبيقي1.
فالاختلاف وقع أكثر ما وقع في الجانب الفلسفي، والسبب في ذلك محاولة كل فلسفة إخضاع فلسفة الأخلاق لاتجاهها الخاص، وهناك كثرة من هذه
1 وقد حصر ليفي بريل نقطة الخلاف على الجانب النظري بعد أن قسَّم الأخلاق إلى نظري وعملي.
انظر الأخلاق وعلم العادات الأخلاقية ص90.
الاتجاهات الخاصة.
أما جانب المادة الأخلاقية فهو على مستويين: الأول مستوى الأصول الأخلاقية وهو عبارة عن القوانين أو المبادئ الأخلاقية العامة التي أثبتت صحتها التجربة الإنسانية، وهي لذلك ثابتة ومتفق عليها مثل: خيرية الصدق والأمانة واحترام الحقوق والعهود، وشرية الكذب والخيانة، والتعدي على الحقوق، والثاني مستوى الفروع، وهي قد تكون موضع خلاف بين المذاهب والحضارات، وهذه الفروع المختلف فيها ليست من الأخلاق في حقيقة الأمر، وإنما هي ترجع إلى بعض العادات الاجتماعية والتقاليد الدينية التي اختلطت مع الفروع الأخلاقية المختلفة، وهي التي تميز أخلاق الشعوب بعض التميز عن أخلاقيات الشعوب الأخرى، فنجد للهنود مثلا أخلاقيات خاصة وللصينين كذلك.
ومن ثم كان لذلك الدور الكبير في الاختلاف في التطبيق العملي، وهو الجانب الأخير من الأخلاق الذي أشرنا إليه سابقا، والسبب في ذلك الاختلاف هو محاولة إخضاع هذا التطبيق للفلسفات والأديان والمبادئ السياسية والاجتماعية الخاصة لكل ملة أو مجتمع، فلو أننا سألنا مثلا أي إنسان في الشرق أو في الغرب هل القتل والسرقة والكذب خير أن شر؟ لأجاب أنه شر، ولكنه في بعض الحالات العملية يبيح هذا وذاك، وهذه الحالات تختلف عن الحالات التي يبيحها إنسان آخر ينتمي إلى مجتمع آخر، وهكذا نجد أن الاتجاهات والفلسفات والعادات هي التي تشوه حقائق الأخلاق، وتجعلها مثار خلاف في موضوعيتها، وذلك بالرغم من اتفاق الأديان السماوية، وكبار الفلاسفة والعلماء في الأخلاق الأساسية، وبيان ضرورتها للحياة.