الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ب-
المعايير الأخلاقية الذاتية أو الداخلية:
كنا قد بينا أن للإنسان قوتين للتمييز بين الخير والشر وهما القوة العاقلة والقوة القلبية الوجدانية أو الروحية1، وهما من المعايير الداخلية وقد اعتد بهما الإسلام لوزن الأعمال الأخلاقية إلى جانب المعيار الخارجي الذي هو المبادئ التشريعية والأخلاقية التي جاء بها الإسلام ووضعها في صورة قوانين لنظام الحياة.
أما المعيار الأول هو: المعيار العقلي
فهو الذي يختص بالتمييز بين الحق والباطل، والحق خير والباطل شر. فيظهر دور العقل باعتباره معيارا لوزن الأعمال الأخلاقية وتمييز أخلاقيتها من عدم أخلاقيتها.
وقد أقر الرسول صلى الله عليه وسلم معيارية العقل عندما أرسل معاذ بن جبل قاضيا إلى اليمن فقال له: "كيف تقضي؟ قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله. قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد برأيي، قال الرسول عندئذ: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله"2. وروي أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوما تستفسر عن جواز أداء الحج عن أمها فقالت: يا رسول الله إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: "نعم حجي عنها، أرأيت لو كان عليها دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله؛ فالله أحق بالوفاء" 3.
وليست السنة هي التي أجازت القياس واستعملته فحسب بل إن القرآن
1 ص: 126.
2 التاج جـ3، فصل الاجتهاد ص 66.
3 التاج جـ 2، يقضي الحج عن الميت ص110.
نفسه استخدم القياس العقل، وقد استشهد العلماء على ذلك ببعض الآيات فمن ذلك قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} 1. فلقد ترك الله لنا أن نستنبط عن طريق القياس العقلي. إننا إذا فعلنا فعل اليهود فسوف يلحق بنا ما لحقهم بعينه؛ لأننا نحن أيضا بشر مثلهم، وسنة الله في الكون ماضية بأسبابها، ولقد بين الله في موضع آخر أن أحكامه جارية بالأسباب {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً، فَأَتْبَعَ سَبَبا} 2، فالظواهر تابعة لأسبابها ولهذا وجهنا الله إلى مراعاة الأسباب بقوله {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} .
ومن ذلك أيضا قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} 3.
فقد استدل الله على ما أنكره المنكر بالقياس وذلك بقياس الآخر على الأول وهو أن الذي أنشأه أول مرة من العدم لا يعجز عن إنشائه وإعادته مرة أخرى. والإعادة أسهل من الإيجاد.
ومن هذا النوع أيضا قوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} 4.
ولنا أن نسأل: هل المعيار العقلي هو الأساس لقياس السلوك الأخلاقي أو
1 الحشر: 2.
2 الكهف:84-85.
3 يس: 78-79.
4 سورة ق: 15.
الشرع، وهل من الممكن قياس جميع القيم الأخلاقية بالمعيار العقلي وحده دون الاستعانة بالشرع وبالمعايير الأخرى؟
نحن نعرف الخلاف الكبير في هذه النقطة بين المعتزلة وأهل السنة.
فالأولون اعتبروا المعيار العقلي هو الأساس، في حين أن الشرع جاء تأييدا للعقل. وأما الآخرون فقالوا: إن الشرع هو الأساس مع اعترافهم بأن العقل كذلك أحد المعايير الأخلاقية. وسنعود إلى هذه المسألة في الفصل القادم. حيث إننا نواصل الآن بيان المعايير الداخلية.
المعيار الثاني: المعيار الوجداني أو الضمير الأخلاقي.
أشرنا من قبل إلى هذا المعيار وقلنا: إنه قوة فطرية تجعل المرء يشعر بالرضا إذا سلك طريق الخير وبالندم إذا سلك طريق الشر واستدللنا بقول الرسول: "استفت نفسك، البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس" ، وفي رواية "البر ما انشرح له صدرك" 1، وفي رواية:"البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس"2. وقال: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" 3.
هذا دليل نقلي، وهناك دليل واقعي وهو أننا نحس في قرارة نفوسنا بهذه الحقيقة قبل الفعل وبعده. نعم قد يختلف الناس في درجة الإحساس بناء على سيكولوجية الفروق الفردية الناتجة عن طبيعة التكوين الجسمي والنفسي وعن
1 مسند الإمام أحمد جـ4 ص227-228.
2 صحيح مسلم جـ4، ص1980. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
3 الجامع الصغير، جـ2 فصل الدال ص15.
العوامل الوراثية والبيئية والتربوية. وقد يزول هذا الإحساس في بعض النواحي الخلقية لسبب من الأسباب الخارجية السابقة كما قد يصبح البصير أعمى لعوامل خارجية، ولهذا قال تعالى:{فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} 1. فعمى القلب أو الوجدان كعمى البصر في عدم أداء وظيفته.
ولا ينبغي أن يفهم من فطرية الحاسة الخلقية أن جميع المبادئ الأخلاقية منقوشة في الضمير والوجدان، بل إنها مجرد قوة مستعدة للتمييز بين الخير والشر والطيب والخبيث، وإنما تنقش فيها الطيبات والخبائث عن طريق التربية والمجتمع، فما تقدمه أيديولوجية المجتمع إلى الإنسان أو الفرد أنه طيب أو خبيث، وتلقنه من صغره ويتربى عليه ينقش في ضميره أنه طيب أو خبيث، ومن هنا نجد الاختلاف في وجدانات الناس وضمائرهم في بعض النواحي الخلقية بحسب الأيديولوجية الاجتماعية التي يتبعونها أو التي نشأوا فيها.
وهناك فرق بين معيار العقل ومعيار الوجدان من حيث التمييز والتأثير والتأثر. أما من حيث التمييز فالعقل يميز بالتأمل والتفكير أما الوجدان فإنه يميز من غير تفكير وروية، ولهذا عبر الله عن هذا الإدراك بالرؤية {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} 2، وأما من حيث التأثير فتأثير العقل غير مباشر وأما الوجدان فتأثيره مباشر. أما من ناحية التأثر فالعقل لايتأثر وإنما يؤثر، وأما الوجدان فيؤثر ويتأثر، ومن هنا نجد الوخز والتأنيب في الوجدان إذا فعلنا عملا لا ينبغي فعله وانشراحا وسرورا إذا فعلنا عملا ينبغي فعله.
وقد توجه إلينا ضروب من النقد في هذا الصدد لهذه التفرقة، لكن لا بأس
1 الحج: 46.
2 النجم: 11.
ما دامت هذه التفرقة لا تقوم على قواعد موضوعية بقدر ما تقوم على قواعد تجريبية ذاتية، ذلك أن هذه الحاسة الأخلاقية مهما كانت موجودة في كل إنسان بالفطرة فإنه يزيد أو ينقص بحسب اختلاف الناس وهذا الاختلاف يرجع أساسا إلى سيكولوجية الفروق الفردية التي هي بدورها ترجع إلى الوراثة والتربية العامة والتجربة العلمية.
المعيار الثالث: النية والإرادة والغاية الخيرة:
يجدر بنا قبل بيان دور هذا المعيار الأخلاقي أن نحدد بعض المصطلحات التي تستعمل عادة في هذا الصدد فمنها الباعث: وحقيقة الباعث أنه اندفاع داخلي نحو الأشياء والأفعال، وقد يكون المثير له العوامل البيولوجية والفسيولوجية الداخلية أو العوامل الأيديولوجية الاجتماعية الخارجية ومهما كان من أمر عامل الباعث فإنه غالبا يتم تحت إثارة أو ضغط أحد العوامل السابقة لا تحت نور العقل والفكر، ولهذا فإن قيمة الباعث في المعيار الأخلاقي لا أهمية لها كأهمية النية والإرادة والغاية الخيرة.
ومنها النية: وهي كما عرفها بعض العلماء "قصد الشيء وعزم القلب عليه"1. وقسموها إلى قسمين: القصد وهو إرادة الفعل حالا، والعزم وهو إرادة الفعل مستقبلا، وقالوا إن النية والإرادة شيء واحد أو أن الإرادة يشملهما، وبناء على هذا فالقصد والعزم جزء من الإرادة وتطلق الإرادة على كل واحد منهما من إطلاق الكل على الجزء كإطلاق النية2. ثم إن الإرادة أو النية قد تنصب على
1 نهاية الأحكام في بيان ما للنية من الأحكام ص7.
2 المرجع السابق ص8.
الفعل ذاته وقد تنصب على شيء خارج عنه أي: على النتيجة أوالغاية منه.
أما الغاية فهي آخر ما يهدف إليه الإنسان من وراء فعله، إذن الغاية هي الهدف البعيد أو الغرض البعيد من الفعل، وإذن الغاية والإرادة قد تشتركان في هذا المعنى، فهناك عموم وخصوص من وجه بينهما، وقياس العمل الخلقي مرتبط بالمعنيين معا، ذلك أن المعنى الأول ضروري؛ لأن من ضروريات العمل أن يكون مقصودا مرادا حتى يدخل في مجال المسئولية الأخلاقية، والمعنى الثاني ضروري أيضا لتحديد درجات المسئولية والجزاء في العمل الأخلاقي. فالغاية تضفي على العمل حسنا أو قبحا بحسب نوعها من حيث الخير والشر.
دور النية والغاية في السلوك الأخلاقي:
فدور النية والغاية في السلوك الأخلاقي هام إذ لا يكفي أن يكون السلوك مطابقا للقانون الأخلاقي من حيث الصورة الخارجية بل لا بد للسلوك الأخلاقي من شكل ومضمون أو مادة وروح، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" 1، وقد بينا في المسئولية أن مجالها قسمان: ظاهري وباطني، ظاهرها الفعل المادي، وباطنها النية والغاية، فمن نوى نية حسنة فله أجر العمل بها وإن لم يستطع إلى ذلك سبيلا، وكذلك من نوى نية سيئة فعليه وزر العمل بها إذا حالت بينه وبين تنفيذها عوامل خارجية. والنية الحسنة تجعل الأعمال المباحة عبادة يثاب فاعلها عليها؛ فإذا نوى عند الأكل أنه إنما يأكل لأداء واجباته في الحياة يثاب عليها، حتى إتيان الرجل امرأته؛ فإذا نوى عند
1 صحيح البخاري جـ1، فصل بدء الوحي ص13.
ذلك أنه بذلك يؤدي أمرًا إليها فيثاب كأنه قد فعل خيرا، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر" 1؛ لأن في ذلك إدخال السرور للطرف الآخر، ومن يكسب لينفق على أهله ففيه أجر، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة حتى اللقمة التي ترفعها إلى في امرأتك"2.
ولكن هل الإرادة الخيرة تجعل الأعمال كلها خيرة ولو كانت شرا، والإرادة السيئة تجعل الأعمال كلها قبيحة ولو كانت حسنة؟
الحقيقة أن النية ليست كل شيء في العمل الأخلاقي وإنما هي ركن فيه، فالعمل الأخلاقي له كيان مادي ومعنوي، ولهذا قال الرسول- صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"3.
والأول يتمثل في الفعل، والثاني في النية والإرادة الحسنة، وهذه الإرادة الخيرة لا تجعل الفعل السيئ حسنا أو خيرا أو الفعل غير الأخلاقي أخلاقيا كما أن الضوء المسلط على الوجه القبيح لا يجعله جميلا. أما كون النية الحسنة تجعل الأعمال العادية المباحة حسنة وعبادة؛ فذلك لأن هذه الأعمال ليست قبيحة ولا حسنة في ذاتها فهي لذلك لا تعتبر صورة حسنة ولا قبيحة ولكن تسلط النية الحسنة عليها يحسن من منظرها كما أن الضوء يحسن شيئا ما من منظر شيء لا هو حسن ولا هو قبيح. ولكن لا يكون الحسن الناتج هنا كالحسن الناتج عن
1 رياض الصالحين، باب بيان كثرة طرق الخير ص71.
2 فتح الباري جـ6 ص296 كتاب النفقة.
3 صحيح مسلم جـ4 ص 1987، كتاب البر والأخلاق.
منظر حسن تتسلط الأضواء عليه.
ولهذا يقل مقدار الثواب الذي يناله الإنسان من العمل المباح العادي بالنية الحسنة عن مقدار الثواب الذي يناله من الواجب الأخلاقي بالنية نفسها، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث قدسي:"إن الله عز وجل قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء، أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته"1. إن النية الخيرة لا تحول فعلا شريرا في ذاته إلى فعل خير، بل تحول الفعل الذي ليس شرا في ذاته إلى درجة من الخيرية لا الخيرة الكاملة.
ولكن ماذا تكون النتيجة إذا أخطأت النية الخيرة الصورة الأخلاقية:
الجواب المنطقي هو أن يأخذ نصف أجر ما لو أصابت الصورة؛ لأنه وجد أحد الركنين فقط ولم يوجد الركن الثاني، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"2.
ولنتصور الآن عكس القضية وهو أنه لو طبق الصورة الأخلاقية دون روحها هنا تفصيل: ففي الأمور التي لا تشترط النية فيها لا ينال صاحبها الثواب إذا عملها بدون النية مثل ترك الشرور والمحرمات لا لوجه الله بل اتباعا للعادة أو
1 الأحاديث القدسية جـ1 ص81.
2 فتح الباري جـ17، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب إذا اجتهد الحاكم فأخطأ ص 83.
خوفا من الجماعة. أما الأمور التي تشترط النية فيها مثل الصوم فلا يعتد به بدونها إطلاقا؛ لأن الصوم قد يكون للعبادة وقد يكون لعلاج طبي فالنية هنا هي التي تميز بين ما هو عبادة وبين ما هو غير عبادة1.
وعلى العموم فالنية والغاية مناط المسئولية والعقاب والجزاء الإلهي، غير أنه لا ينبغي أن يفهم من هذا أن المتمسك بالقيم الأخلاقية عموما بدون النية والإخلاص لله يحرم من الجزاء الطبيعي للقوانين الأخلاقية نفسها، إذ إننا بينا وجود جزاءات عدة للقوانين الأخلاقية وخاصة فيما يتعلق بالقوانين المبنية على القوانين الطبيعية.
وعلينا أن نعرض لهذه المسألة الهامة وهي إذا كانت الغاية تؤدي دورا هاما في التفكير الأخلاقي الإسلامي وأنه لا يعتد بالقوانين الأخلاقية إلا من حيث غاياتها فمعنى ذلك أن الأخلاق وسيلة لغيرها وليست غاية في ذاتها أي: أنها ليست مقدسة وأنها قد تتغير من حين إلى آخر؛ لأن الوسائل عادة تتغير.
الحقيقة أن هذه مشكلة التفكير الأخلاقي عموما، ولقد اختلف فيها الفلاسفة وذهبوا فيها مذاهب شتى. نشير إليها قبل أن نحدد موقف الإسلام من تلك المشكلة بعينها:
الاتجاه الأول: يرى أن الأخلاق غاية في ذاتها وإذا أصبحت وسيلة فلا تبقى أخلاقا. وهذا ما ذهب إليه "كانط" ومن يرى رأيه، فالذي يجعل الأخلاق وسيلة ينبغي أن يقول مثلا: "علي أن أحافظ على الأخلاق إذا أردت أن أحافظ
1 الأشباه والنظائر ص 12 للإمام السيوطي.
على شرفي، أما الذي يجعل الأخلاق غاية ينبغي أن يقول: علي أن أحافظ على الأخلاق ولو لم يجلب عدم المحافظة أي عار وأي نفع؛ لأنها واجب بصرف النظر عما يترتب عليها"1.
وبناء على هذه الفكرة لا تتغير الأخلاق ولا تتبدل وتكون لها قدسيتها الدائمة، فلو كانت وسيلة لتغيرت من حين إلى آخر وفقا لأهواء الناس ومصالحهم ولجاز مخالفة قوانينها عندما تقتضي المصلحة العامة أو الخاصة وعندئذ لا تبقى للأخلاق قدسية ولا سلطان دائم بل تخرج الأخلاق عن كينونتها أخلاقا، وقيما ثابتة.
الاتجاه الثاني: يرى أن الأخلاق وسيلة لا غاية وأنها يصح أن تتغير وتتطور وفقا لمصالح الناس أو مصلحة المجتمعات وهذا الاتجاه هو الاتجاه النفعي عموما.
الاتجاه الثالث: يوفق بين الاتجاهين السابقين عن طريق التوحيد بين الوسيلة والغاية فهو يعتبر الأخلاق مبدئيا وسيلة عامة لتوجيه سلوك الإنسان في الحياة وتحقيق مطالبه فيها ويعتبرها في الوقت نفسه غاية؛ إذ لا توجد لغاية أخلاقية سوى وسيلة واحدة تخصها ولا توجد منفصلة عنها؛ ولأن الوسيلة والغاية لا تنفك إحداهما عن الأخرى.
هذا إلى أن الفصل بين الوسيلة والغاية يؤدي ضرورة إلى فكرة "أن الغاية تبرر الوسيلة" فتترتب على ذلك شرور وفساد في الحياة الاجتماعية، ولهذا لا يصح إطلاقا أن نفصل بين الوسائل والغايات في النظرية الأخلاقية ولا أن نحدد
1 تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق ص92.