الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-
الجزاء الوجداني:
وأما الجزاء الوجداني فهو تلك الحركة الشعورية التي نحس بها في أعماق قلوبنا بالفرح أو التأنيب بعد كل فعل مباشرة نعتقد أنه فعل حسن أو قبيح.
هذا الشعور أو الإحساس المتحرك الذي يجيش في نفوسنا يختلف درجة من فرد إلى آخر بحسب الاستعداد الفطري أو الوراثي والتربية الأخلاقية وصفاء الضمير ونظافته وإيمانه بموافقة ذلك العمل لإرادة الله أو مخالفته لها.
ولعل هذا هو المعنى الذي أشار إليه الرسول عندما عرَّف البر والإثم فقال: "البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس" 1، وفي رواية أخرى:"البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس"، وفي رواية ثالثة:"البر ما انشرح له صدرك والإثم ما حاك في صدرك وإن أفتاك الناس"2.
فالوجدان أو الضمير يعتبر محكمة عدل مباشرة لا تحتاج إلى شاهد ولا قاضٍ يخبرك بخيرية الفعل أو شريته قبل الفعل ويجزيك بالسرور إن كان فعلا حسنا وبالوخز والألم إن كان شرا.
إن قيمة هذا الجزاء أكثر تأثيرا من قيمة الجزاء المادي؛ لأن هذا الأخير وقتي وقد يصيب ويخطئ وقد يكون مكافئا للعمل أو لا يكون، أما الأول فهو مصيب مستمر؛ ولهذا قال علماء علم النفس: إن المجرمين تحت عقاب مستمر وإن نجوا
1 صحيح مسلم جـ4 ص198 كتاب البر والصلة والآداب جـ15.
2 مسند الإمام أحمد جـ4 ص 228.
من العقاب القانوني أو انتهوا منه.. يقول الدكتور "عادل العوا": "أما عذاب الوجدان أو وخز الضمير وتأنيبه فهو ألم معنوي ينتج عن تصور شر وقع والإنسان مسئول عنه إنه هو الذكرى التي تعض قلب المجرم ولا تفارقه ليل نهار"1، وهذا حق، ذلك أن المجرم لا يخلو من إحدى الحالتين الآتيتين؛ لأنه إما أنه لم تتكشف جريمته بعد أو عرفت لدى الآخرين.
ففي الحالة الأولى تعتريه ثلاث حالات وجدانية مؤلمة: الأولى حالة الخوف والقلق المستمرين من انكشاف الجريمة، ولهذا فهم يتحرجون عادة من الحديث حول الموضوعات التي ارتكبوا فيها الجرائم والآثام خوفا من الانكشاف، وصدق الله العظيم إذ قال:{وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} 2.
والحالة الثانية هي تأنيب ضمير مستمر وإحساس بذنب يخدش وجدان المجرم وشعوره باشمئزاز من نفسه وذاته وهنا تعتري هؤلاء دائما حالات نفسية كئيبة لا تنفرج سريرتهم ولا سيما في حالات التذكر لتلك الجرائم التي ارتكبوها.
يقول هنا سقراط: "إن من كان مجرما ولم يعاقب على جرائمه يكون أشقى الناس والمجرم دائما أشقى من ضحيته"3، "وإن أسعد الناس إذن هو ذلك الذي تخلو نفسه من الضرر "أي: الجرم"؛ لأن ضرر النفس كما قلنا: هو أقبح الضرر"4.
والحالة الثالثة: إنه يفقد أهليته الاجتماعية من حب ومودة
…
إلخ في شعوره الخاص وإن لم يفقدها في المجتمع، ذلك أنه يشعر عندما توجه إليه
1 الوجدان. دكتور عادل العوا ص57.
2 محمد: 30.
3 محاورة جورجياس ص 83.
4 المرجع السابق ص 81.
تقديرات الناس إنه لم يعد ذلك الشخص الذي يستحق تلك التقديرات، وكأن ما يناله من تقدير لا يوجه إليه ومن ثم يفقد ذلك الإحساس الطيب بخيرية شخصيته في نفسه الذي كان يحس به من قبل ويصبح غريبا بين أهله وأحبابه في داخل شعوره الباطني.
ومن هنا يقول الفيلسوف الفرنسي "هنري برجسون" عندما يصف نفسية المجرم وشعوره الباطني عندما يحاول إخفاء جريمته: "فالمجرم في محاولته إخفاء جريمته حتى يقضي على كل معرفة يمكن أن تتطرق إلى نفس إنسان كأنه يحاول أن يبطل الجرم نفسه، وبعد أن يظفر المجرم بإخفاء جريمته عن الناس لا يستطيع أن يخفيها عن نفسه، فهو ما زال يعرف أنه مجرم ومعرفته هنا تنأى به عن المجتمع شيئا فشيئا بعد أن كان يرجو أن يظل فيه بمحو آثار الجريمة، إنه يعرف أن الاحترام الذي كان يوجه إليه الآن إنما يوجه إلى شخصه السابق الذي لم يعد موجودا ويعرف أن المجتمع لا يخاطبه هو بل يخاطب شخصا آخر غيره. إنه يعرف من هو فيعيش بين الناس وهو أكثر عزلة مما لو كان يحيا في جزيرة خالية؛ لأنه في عزلته يحمل معه صورة المجتمع الذي تحف به وتسنده، أما الآن فقد انقطع عن المجتمع وعن صورته معا"1، وقد عبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن عذاب الوجدان وبيَّن كيف أنه يؤدي إلى سقم الجسم فقال:"من ساء خلقه عذب نفسه ومن كثر همه سقم بدنه"2 ، وقال أيضا:"من شقاوة ابن آدم سوء الخلق"3.
هذا في حالة إخفاء الجريمة أما في حالة انكشاف الجريمة فتستمر معه
1 منبعا الأخلاق والدين ص 27 هنري برجسون.
2 منتخب كنز العمال على هامش مسند الإمام أحمد جـ1 ص 258.
3 المرجع السابق جـ1 ص 258.
الحالتان الأخيرتان وهي تأنيب الضمير وشعوره بفقد شخصيته في المجتمع، وأكثر من ذلك فإنه يفقد شخصيته عندئذ في المجتمع ظاهرا وباطنا ولا يجد ذلك التقدير والاحترام الموجهين إليه من الناس، وبذلك يصبح غريبا بين أهله وعشريته ويقول "فيلون الإسكندري":"وربما بدا مظهر الشرير مبتسما مسرورا لكنه في قرارة نفسه يشعر بالفزع من العقاب الذي ينتظره والذي بيَّنه له الضمير"1.
وبخلاف هذه الحالات حالة إنسان لم يرتكب الجرائم والآثام، فإن صفاء وجدانه يجعله يشعر بالابتسامة الدخلية ويشعر في قرارة نفسه بطريقة لاشعورية وبصفة دائمة بالخيرية والسرور المستمر، ومن ثم يؤثر هذا وذاك في سماته الشخصية الظاهرية.
وشتان بين الوجدانين وبين الشخصيتين المجرمة والشخصية الخيرة. وصدق الله العظيم إذ قال: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم} 2، فإن الإنسان إذا كان مجرما فاسدا فاجرا يظهر ذلك في سيماه ووجهه، فيصبح وجهه مظلما قاتما واجما عبوسا، وإذا كان خيرا يصبح وجهه باسما ناضرا، وصدق الله العظيم إذ يقول في وصف هؤلاء وأولئك {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، وقال تعالى:{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُم} 4، كما يعرف الصالحون بسيماهم {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود} 5.
1 الآراء الدينية والفلسفية، فيلون الإسكندراني، ص380.
2 الفتح: 29.
3 يونس: 26- 27.
4 الرحمن: 41.
5 الفتح: 29.