الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلا وشرعا، سميت تلك الهيئة خلقا حسنا، وإن كان الصادر الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقا سيئا"1.
وربما كان السبب في انتهاج الغزالي هذا المنهج هو اعتماده في دراسته الأخلاقية على الدراسات الصوفية والفلسفية معًا.
1 إحياء علوم الدين جـ 3 ص 53، مرجع سابق.
ثالثا:
مفهوم علم الأخلاق الإسلامية:
بعد هذا العرض لمفهوم الأخلاق في الاتجاهات الفلسفية المختلفة ننتقل إلى تحديد مفهوم الأخلاق في الاتجاه الإسلامي.
مفهوم علم الأخلاق الإسلامية؛ هو علم الخير والشر والحسن والقبح، وهو واحد من العلوم الإسلامية التي تقوم على مصادر المعرفة الإسلامية منها القرآن والسنة والمصادر التشريعية الأخرى، والدليل على ذلك كثير في القرآن والسنة؛ إذ جاءت كثير من الآيات والأحاديث تبين أين الخير والشر وأين الحسن والقبح، وتعرفها أحيانا بالمعروف وأخرى بالمنكر والنفع والضر، وسوف نذكر لذلك كله دليلا من الآيات والأحاديث فيما بعد.
بعد هذا تبقى نقطة أخرى في المفهوم المحدد سابق، وهي أن الأخلاق تنظم الحياة من الناحية العملية من أجل الحياة الخيرة مع الغير أيا كان هذا الغير إنسانا كان أم حيوانا أو غير حيوان من حيث ما ينبغي أن يكون عليه هذا السلوك كسلوك إنساني تجاه الغير، وذلك بناء على مكانته في الكون ومسئولياته التي يجب أن ينهض بها، وبناء على ما وضع له خالقه من أهداف في هذه الحياة.
هذا جانب من مفهوم الأخلاق في الإسلام، وهناك جانب آخر وهو تكامل
الجانب النظري مع الجانب العملي منه، ثم إن هناك شيئا آخر هاما لا بد من ملاحظته وهو أن النظام الأخلاقي ليس جزءا من نظام الإسلام العام، بل إن الأخلاق هو جوهر الإسلام وروحه السارية في جميع جوانبه، فالنظام الإسلامي عموما مبني على فلسفته الخلقية أساسا.
ومصداق ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق" 1، فقد قصر الرسول أهداف رسالته في هذا الحديث على الأخلاق، وأنه جاء ليتم البناء الأخلاقي الذي بدأت الرسالات السابقة به، كما قال في حديث آخر:"مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها ويقولون: لولا موضع اللبنة، فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء"2.
إذن فهدف الرسالات الإلهية كلها هدف أخلاقي أيضا؛ لأنها تستهدف إرشاد الإنسان إلى طريق الخير وإبعاده عن الشر في الدنيا وسوء العاقبة في الآخرة، وهذا هو موضوع الأخلاق كما بينا سابقا.
ولهذا قال الرسول: "الدين حسن الخلق" 3، وكانت عائشة تفهم هذا المعنى من الدين الإسلامي، ولهذا فهي عندما سئلت عن أخلاق النبي قالت:"كان خلقه القرآن"4، يؤيد ذلك قول الرسول أيضًا: "إن أحسن الناس خلقا أحسنهم
1 مسند أحمد بن حنبل ج 2 ص 381.
2 صحيح مسلم بشرح النووي جـ 15 ص 52 باب ذكر كون النبي خاتم الأنبياء.
3 قال الحافظ العراقي في هامش الأحياء جـ 3 ص 50 أخرجه المروزي في مسنده في كتاب تعظيم قدر الصلاة من رواية أبي العلاء بن الشخير مرسلًا.. انظر علم الأخلاق لأرسطو جـ 1 ص 131.
4 صحيح مسلم تحقيق عبد الباقي جـ 1 ص 512-513، كتاب صلاة المسافرين.
دينا" وقوله كذلك: "الإسلام حسن الخلق" 1.
وقال الرسول: "ما من شيء أثقل في الميزان من خلق حسن" 2، وروي عنه أنه قال:"حسن الخلق خلق الله الأعظم" 3، وعندما سئل الرسول أي الإسلام أفضل قال:"من سلم المسلمون من لسانه ويده "4، وجاء في تفسير القرطبي وابن كثير في قوله تعالى:{وَإنَّكَ لعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} أي: على دين فيه أخلاق عظيمة ولأن الدين عبارة عن واجبات نحو الله تعالى ونحو الإنسان نفسه وغيره، وواجباته نحو المخلوقات الحية الأخرى، وإذا علمنا أن الله لم يصف أحدا من الأنبياء بالخلق العظيم وإنما وصفهم بأوصاف مثل: رشيد وصالح وحليم وما إلى ذلك، علمنا السر في ذلك.
وقد سمى البعض الأخلاق بأنها علم الواجب أي: أنها علم يعرِّف الإنسان الواجبات كما يجب أن يفعلها5، ومن ثم كان إطلاق الأخلاق على الدين في اللغة كما سبق، وفي الاصطلاح أحيانا كما بينا، ومن هنا يدخل العبادات في إطار الواجبات "انظر آراء الفلاسفة في إدخال الواجبات الإلهية في إطار الأخلاق في علم الأخلاق لأرسطو ج1 ص 131".
وليس هذا الفهم الذي عرضناه مفروضا على الإسلام أو غريبا عنه، بل روح الإسلام فإن هذه الروح روح أخلاقية، وهدف الإسلام في الحياة تحقيق غاية
1 منخب كنز العمال في هامش مسند الإمام أحمد جـ 1 ص 132 - كتاب الأدب المفرد للبخاري ص 81.
2 مختصر شرح وتهذيب سنن أبي داود، باب حسن الخلق جـ 7 ص 172.
3 التاج جـ 15 ص 61 كتاب الأخلاق.
4 مختصر صحيح البخاري، زين الدين الزبيدي، دار النفائس 1405 هـ جـ1 ص 27.
5 علم الأخلاق "تركي"، وزارة الأوقاف أنقرة 1341 هـ، ص 11.
أخلاقية هذه روح نجدها في كل جانب من جوانب الإسلام، نجدها في جانب العقيدة، كما جاء في الحديث، فقال الرسول:"أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا"، وقال:"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" 2، وقال أيضا:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت"3.
ثم إن الإسلام اعتبر الإيمان برا فقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} 4.
ومعلوم أن البر صفة للعمل الأخلاقي أو هو جامع لأنواع الخير، كما يقول بعض العلماء5.
وقد بين الرسول أن من لم يتخلق بالأخلاق الحسنة لا يقبل الله منه الإيمان والدين، فقال:"لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له"6.
وأخلاقية الإيمان تتضح من ناحيتين: الأولى: باعتباره عملا، ذلك أن الأعمال إما داخلية وإما ظاهرية، والإيمان من النوع الأول، ولهذا فقد نص الرسول نفسه على أن الإيمان عمل فقال عندما سأله رجل، أي العمل أفضل؟ فقال:"إيمان بالله وجهاد في سبيله" 7؛ لأنه عمل إيجابي من أعمال القلب، الناحية الثانية: أن الإيمان في حقيقته عمل القلب بالاعتراف بالحقيقة الإلهية والاعتراف
1 صحيح المستدرك للحاكم النيسابوري، مكتبة مطابع النصر الحديثة بالرياض، جـ1 ص53.
2 اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان جـ ص 10 كتاب الإيمان.
3 المرجع السابق جـ 1 ص 10.
4 سورة البقرة آية: 177.
5 انظر التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول جـ 5 ص 3.
6 الجامع الصحيح الصغير للإمام السيوطي جـ2 ص 198.
7 اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان جـ1 ص 16 كتاب الإيمان.
بالحقيقة فضيلة، وعدم الاعتراف بها مكابرة، وهي خروج على الخلق الحسن، ولهذا فقد وصف الله الكافرين بالتكبر في كثير من الآيات، كما وصف الشرك بالظلم؛ لأنه يشرك غير المنعم بالمنعم في الإجلال والتعظيم، ولهذا يقول "رنيه مونييه": إن الإيمان ليس على الصعيد المنطقي بل على الصعيد الأخلاقي؛ لأنه ينتمي إلى واجب" "البحث عن الحقيقة ص46".
وهو اعتراف أيضا بإنعام المنعم والاعتراف بالفضل وهو أخلاق، ولهذا بيَّن الله في الآية السابقة "أن الإيمان به بر"؛ لأنه من أعمال القلوب الإيجابية الأخلاقية، ثم الشكر على هذا واجب وأداء الواجب أخلاق.
ومن هنا نجد أن روح العبادة روح أخلاقية في جوهرها؛ لأنها أداء الواجبات الإلهية، ولهذا نجد الاتجاه الأخلاقي سائدا في جميع العبادات، ففي الصلاة قال تعالى:{إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} 1، وبيَّن الرسول أن من لم يتخلق لا يقبل الله منه الصوم، فقال:"من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" 2، وقال تعالى في الحج:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} 3، وقال أيضا في الأضحية:{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} 4، وقال في الزكاة:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 5، وقد ذكر للرسول مرة أن فلانة تكثر من
1 سورة العنكبوت آية: 45، وقال في حديث قدسي: "إنما أتقبل الصلاة من تواضع لعظمتي وكف شهواته عن محارمي
…
" الأحاديث القدسية، ص30.
2 رواه الخمسة إلا مسلما، التاج ج2 ص61.
3 سورة البقرة آية: 197.
4 سورة الحج آية: 37.
5 سورة التوبة آية: 103.
صلاتها وصدقتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: هي في النار" 1.
هنا نجد الإسلام يختلف في نظريته الأخلاقية بالنسبة إلى الله عن بعض الفلاسفة مثل "كانط" الذي يرى عدم وجود هذا النوع من الأخلاقية؛ لأن الأخلاق في نظره واجبة، والواجب يقتضي سبق حق وليس للإنسان حق سابق على الله2.
أما الإسلام فقد قرر أن للعباد حقا على الله كتبه الله على نفسه إذا عبدوه ولم يشركوا به أن يدخلهم الجنة، فقال الرسول:"فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولم يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله عز وجل ألا يعذب من لا يشرك به شيئا" 3، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 4.
بل أكثر من ذلك فقد قرر الإسلام حقوقا للحيوان على الإنسان في مقابل حق تسخيرها له، قال تعالى:{وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَاّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} 5، هذا إلى أن الإسلام
1 الترغيب والترهيب ج3 ص356، قال الحاكم: صحيح الإسناد.
2 كلمات في مبادئ الأخلاق، دكتور محمد عبد الله دراز، ص27، انظر رأي كانط بالذات في كتابه: التربية ص95 أنه خلاف ما هنا بالنسبة للحيوانات.
3 التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول ج1 ص32.
4 سورة التوبة آية: 111.
5 سورة النحل الآيات: 5-7.
قرر الحقوق الطبيعية للحيوان، وعلى الإنسان أن يحترم هذه الحقوق، وبيَّن الرسول "أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها ولا سقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض" 1، وقال عبد الله:"كنا مع رسول الله في صفر فانطلقت لحاجتي فرأيت حمرة "عصفورة" معها فرخان، فأخذت فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت تعرض "تغرد حزنا" فجاء النبي فقال: "من فجع هذه بولدها ردوا ولدها إليها" 2.
ثم إن الإسلام دين الرحمة جاء رحمة للعالمين، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 3.
وعلى ذلك فلا بد من أن يقرر لكل مخلوق حي حقوقا طبيعية، وأن يوجب على الإنسان احترام هذه الحقوق، ولهذا فقد جاءت أحاديث كثيرة عن الرسول في الرفق بالحيوان فمنها أيضا ما روي عن المقداد أن الرسول قال لعائشة عندما رآها ركبت بعيرا فكانت فيه صعوبة فجعلت تردد:"عليك بالرفق فإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه" 4، وقال:"إن الله يحب الرفق في الأمر كله"5.
ولعل هذا المبدأ هو الذي جعل "شبلي" رحيما حتى لأتفه مخلوق، لدرجة أنه اشترى يوما كيسا من القمح وبعد أن حمله على كتفه إلى بلده وجد فيه نملة،
1 اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان ج3 ص201.
2 التاج ج5 ص18-19، كتاب الأخلاق.
3 سورة الأنبياء آية: 107.
4 صحيح مسلم بشرح النووي ج16 ص146-147.
5 هداية الباري إلى ترتيب أحاديث البخاري ج1 ص159.
فأخذته الشفقة فبات قلقا عليها حتى أعادها في الصباح إلى مكانها قائلا لها: "أيتها الجريحة ليس من الرحمة أن أجلب لك الحزن"، ثم قال:"إذا أردت أن تعيش سعيدا فأسعد قلوب الذين ألمت بهم الأحزان"1.
ولقد أثار القرآن هذا التعاطف والتراحم بين الإنسان والكائنات الحية الأدنى في قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} 2.
أما روح الأخلاق في المعاملة العامة بين الناس في جانب الشريعة الإسلامية فنجدها بصورة أوضح، ومن الأدلة الواضحة على ذلك ما نجد من اعتراف علماء الشريعة أنفسهم بهذا المفهوم، ذلك أنهم في صدد بيان مقاصد الشريعة قالوا: إن مقاصد الشريعة ثلاثة، وهي: تحقيق الضروريات والحاجيات والتحسينات للإنسان في هذه الحياة، والضروريات في نظرهم "هي الأمور التي لا بد منها لقيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وبهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين
…
ومجموع الضروريات خمس وهي: حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل"3، وأما الحاجيات فهي: الأمور التي يحتاج إليها الإنسان في هذه الحياة لرفع الضيق والحرج والمشقة التي تكون نتيجة عدم تحقيق بعض المطالب مثل: تحقيق كل حاجيات الإنسان بشيء من السعة والرفاهية من المأكل
1 بوستان، سعد الشيرازي، ترجمة الدكتور محمد موسى هنداوي، الأنجلو المصرية، ج2 ص17-18.
2 سورة الأنعام آية: 38.
3 الموافقات في أصول الأحكام للشاطبي ج2 ص4 وما بعدها.
والمشرب والملبس والمسكن وإزالة ما يؤدي إلى الضيق والحرج في بعض الظروف كالتخفيف عن المكلف بالرخص في بعض التكاليف في حالات الاضطرار، وأما التحسينات فهي اتخاذ أجمل وأحسن الأساليب في حالة معاشرة الناس ومراعاة شعورهم وإحساساتهم الأدبية1.
وإذا كان الأمر كذلك نجد مقاصد الشريعة مقاصد أخلاقية، لذا من الممكن تفسير النظام التشريعي في ضوء النظرية الأخلاقية أو في ضوء هذه الروح الأخلاقية، ويؤيدنا في هذه الفكرة نصوص كثيرة لا حصر لها، من ذلك قوله تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا، وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلا، جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} 2. ومنها قول الرسول: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما حرم الله"، وفي رواية "والمهاجر من هاجر ما نهى الله عنه" متفق عليه3، وقال الرسول أيضا: "من غشنا فليس منا، ومن حمل علينا السلاح فليس منا" 4.
ومما يدل على ما نقول فهم بعض أهل الشريعة أن جوهر الشريعة يكمن في تحقيق الخير ودفع الشر، يتبين ذلك لنا عندما نرى البعض عند محاولة سرد القواعد الأصولية واختصارها، فحصرها البعض في قاعدتين الأولى: جلب
1 الموافقات في أصول الأحكام جـ 2 ص 5-6 للشاطبي.
2 سورة طه آيات 74-76
3 كشف الخفاء ومزيل الإلباس جـ2 ص 253 حديث 3304 صحيح مسلم جـ2 ص 100 بدون من هاجر.... الخ.
4 صحيح مسلم كتاب الإيمان باب من غشنا فليس منا جـ2 ص 108.
المصلحة والثانية: دفع المفسدة، واختصرها البعض في قاعدة واحدة وهي تحقيق المصلحة أو جلب المصلحة، وذلك على أساس أن جلب المصلحة أو تحقيقها يقتضي دفع المفسدة والمضرة.
والشريعة تحاول تحقيق روح الأخلاق بالتشريعات الملزمة لدفع الناس إلى طريق الخير والفلاح وردعهم عن طريق الشرور والمفاسد، ولا تتحقق للإنسان السعادة إلا بذلك، ولهذا الأمر بالمعروف وهو الخير والنهي عن المنكر وهو الشر واجب.
وهكذا نجد أن الإسلام قد ربط بين جوانب الإسلام برباط أخلاقي لتحقيق غاية أخلاقية، وأصدق دليل على ذلك قوله تعالى:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} 1، وأصحاب الخلق هم هؤلاء الذين يؤدون تلك الواجبات السابقة، وقد فهم هذه الروح الأخلاقية في الإسلام "أكثم بن صيفي" أحد حكماء العرب الذي قال عندما دعا قومه إلى الإسلام:"إن الذي يدعو إليه محمد لو لم يكن دينا لكان في أخلاق الناس حسنا"2.
وبعد هذا كله لا نبالغ إذا قلنا: إن الأخلاق في الإسلام بالمفهوم السابق هي
1 سورة البقرة آية: 177.
2 مختارات من روائع الأدب العربي، دكتور عبد السلام سرحان ص 533.
روح الرسالة الإسلامية، وإن النظام الإسلامي التشريعي يعد صورة مجسمة لهذه الروح.
وبعد هذه التحليلات والتحديدات لمفهوم الأخلاق في نظر الإسلام يمكننا أن نجمل هذا المفهوم بأن "الأخلاق الحسنة هي أنماط السلوك الحسن الخير والمعروف في الحياة"، سواء كان هذا السلوك ظاهرا أو باطنا يصدر من الإنسان بإرادة ويهدف إلى تحقيق غاية، وهذا الفهم ليس غريبا على الاستعمال اللغوي والفلسفي، بل يدخل في إطار نظرة الإسلام توسيعا لإطار استعمالها اللغوي والفلسفي، ومن ثم فإن معالجتنا لهذا الموضوع ستقتصر على المعالجة النظرية وسوف أحاول فيها بقدر المستطاع الكشف عن الأصول الفكرية لفروع الأخلاق الإسلامية المختلفة وبيان فلسفته فيها، كما أحاول أحيانا معالجة بعض المشكلات المعاصرة لأَضرب مثالا عمليا لإمكان معالجة مشكلاتنا المعاصرة المتعلقة بالأخلاق أو النابعة من الانحرافات الخلقية.
وعلى ذلك يكون مفهوم الأخلاق السيئة هي أنماط سلوك الشر والقبيح والمنكر، وينبغي أن نعرف أن هناك أنواعا ومستويات من الخيرات الظاهرة والباطنة والخيرات المادية والمعنوية والاجتماعية والصحية.
كما أن هناك أنواعا ومستويات من الشرور الظاهرة والباطنة والشرور المادية والمعنوية والاجتماعية، انظر إلى تفصيلات ذلك في كتابنا "طريق السعادة".