الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنفسنا في الوقت نفسه أعضاء في العالم المحسوس1.
ويدخل في هذا الاتجاه أيضاً بصفة عامة اتجاه الماتريدية مع وجود فروق بينهم وبين غيرهم في بعض النواحي، فهم يقولون: إن الله خلق في الإنسان قدرة وأن الإنسان له حرية استخدام هذه القدرة في الخير أو الشر، ونتيجة استخدامه لهذه القوة في أحد الضربين يتحمل مسئولية عمله أو كسبه القائم على اختياره لهذا العمل أو ذاك، غير أنهم يقرنون قدرة الله مع قدرة العبد على التنفيذ أي: تنفيذ العمل المختار، على أي حال فإنهم يعترفون بوجود حرية الإرادة في الإنسان، ويقول صاحب اللمعة معبراً عن رأي جمهور الماتريدية:"إن المؤثر في أصل الفعل قدرته تعالى وفي وصفه قدرة العبد ففيما إذا ضرب زيد يتيماً تأديباً أو ظلما فأصل الفعل وهو الحركة المشتركة بين الضربين مخلوق بقدرته تعالى، وكون الضرب طاعة وحسناً في الأول ومعصية وقبيحاً في الثاني حاصل بتأثير قدرة العبد وهذا التأثير هو الكسب"2.
1 تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق ص 76-116 أمانويل كانط. ترجمة عبد الغفار مكاوي.
2 اللمعة للشيخ إبراهيم بن مصطفى الحلبي المذاري ص 48، تحقيق محمد زاهد الكوثري.
3-
اتجاه الوسط بين الاتجاهين السابقين:
من أنصار هذا الاتجاه ابن "مسكويه" فهو يقول: "إن وجود الجوهر الإنساني متعلق بقدرة فاعله وخالقه، وأما تجويد جوهره فمفوض إلى الإنسان وهو متعلق بإرادته"1.
ومن أهم المذاهب التي تمثل هذا الاتجاه من الناحية الميتافيزيقية مذهب الأشاعرة، ويمكن أن نقول إن الأشاعرة يقسمون الحرية فيعطون نصفها للإنسان
1 تهذيب الأخلاق لابن مسكويه ص 39.
ويحرمونه من النصف الآخر، ذلك أنهم يعطون للإنسان حرية الإرادة ولا يعطون له حرية التنفيذ، فالعبد له أن يختار وليس أن ينفذ أي: له قدرة الاختيار وليست له قدرة على تنفيذ المختار، أما التنفيذ فإن الله هو الذي يخلق الفعل الذي يختاره العبد، ويعبر صاحب اللمعة عن اتجاههم قائلاً:"إن للعبد إرادة وقدرة تتعلقان بفعله لا على وجه التأثير"1.
ويمكننا أن ندخل في هذا الاتجاه الوسطي رأي الإمام "الغزالي" فهو عندما يتكلم عن الأسباب والمسببات وأثر العبد في أفعاله وأثر الرب في أفعال عباده يتخذ موقفاً وسطاً بين الجبر والاختيار، ويقسم الأسباب مبدئياً بين ما هو مقدور للعبد وغير مقدور له. فهناك أسباب ليست في قدرة العبد العمل بها، وأسباب أخرى مقدورة له.
فالأول كأسباب السموات والأرض أو خلقهما وأسباب خلق الحيوانات، والثاني كأسباب إيجاد الصناعات والنظم والمجاهدات وما إلى ذلك، يقول:"الأمور الموجودة تنقسم إلى ما لا يرتبط حصولها بقدرة العباد أصلاً كالسماء والأرض والكواكب والحيوان والنبات وغيرها، وإلى ما لا يرتبط حصوله إلا بقدرة العباد، وهي التي ترجع إلى أعمال العباد كالصناعات، والسياسات والعبادات والمجاهدات"2.
وأما فيما يتعلق بأثر العبد في أفعاله في الأعمال التي يمكن أن يكون له أثر فيها، وأثر الرب في أفعال عباده هذه، فيرى أن للعبد أثراً في أفعاله كما أن للرب أثراً في أفعال عباده، وعن طريق هذه الفكرة يفسر الآيات التي تسند
1 اللمعة ص 47.
2 الإمام الغزالي: المقصد الأسنى ص 46.
الأفعال أحياناً إلى الله وأحياناً أخرى إلى العباد فهو يشرح رأيه كالآتي: "فإن قلت فكيف الجمع بين التوحيد والشرع ومعنى التوحيد لا فاعل إلا الله ومعنى الشرع إثبات الأفعال للعباد، فإن كان العبد فاعلا فكيف يكون الله فاعلا وإن كان الله فاعلا فكيف يكون العبد فاعلا، ومفعول بين الفاعلين غير مفهوم، فأقول نعم ذلك غير مفهوم إذا كان للفاعل معنى واحد وإن كان له معنيان ويكون الاسم مجملاً مردداً بينهما لم يتناقض كما يقال: قتل الأمير فلاناً، ويقال: قتله الجلاد ولكن الأمير قاتل بمعنى والجلاد قاتل بمعنى آخر، فكذلك العبد فاعل بمعنى والله عز وجل فاعل بمعنى آخر، فمعنى كون الله فاعلاً أنه المخترع الموجد، ومعنى كون العبد فاعلاً أنه المحل الذي خلق فيه القدرة بعد أن خلق فيه الإرادة بعد أن خلق فيه العلم فارتبطت فيه القدرة بالإرادة والحركة بالقدرة ارتباط الشرط بالمشروط، وارتبط بقدرة الله ارتباط المعلول بالعلة وارتباط المختَرَعِ بالمختَرِعِ، وكل ما له ارتباط بقدرة فإن محل القدرة يسمى فاعلا له كيفما كان الأمر.
كما يسمى الجلاد قاتلاً والأمير قاتلاً؛ لأن القتل ارتبط بقدرتيهما ولكن على وجهين مختلفين؛ فلذلك سمى فعلا لهما ارتباط، فكذلك ارتباط المقدورات بالمقدرتين ولأجل توافق ذلك وتطابقه ينسب الله تعالى الأفعال في القرآن مرة إلى الملائكة ومرة إلى العباد ونسبها بعينها مرة أخرى إلى نفسه فقال تعالى:{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} ، ثم قال عز وجل:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} ، وقال تعالى:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} 1.
وبذلك يجمع "الغزالي" بين الجبر والاختيار في أفعال العباد بل تغلب عليه
1 إحياء علوم الدين جـ 4 ص 256.
النزعة الجبرية عندما يتعمق في الخلق والإيجاد كما يفهم هذا بوضوح من المثال الآتي الذي يضربه لبيان فكرته، فيقول: "لو أراد الإنسان أن يجز رقبة نفسه لم يملكه لا لعدم القدرة في اليد ولا لعدم السكين ولكن لفقد الإرادة الداعية المشخصة للقدرة وإنما تنفذ الإرادة؛ لأنها تنبعث بحكم العقل أو الحس بكون الفعل موافقاً وقتل نفسه ليس موافقاً له فلا يمكنه مع قوة الأعضاء أن يقتل نفسه إلا إذا كان في عقوبة مؤلمة لا تطاق فإن العقل هنا يتوقف في الحكم ويتردد؛ لأنه تردد بين شر الشرين فإن تراجع له بعد الروية أن ترك القتل أقل شراً لم يمكنه قتل نفسه وإن حكم بأن القتل أقل شراً وكان حكمه جزماً لا ميل فيه ولا صارف عنه انبعثت الإرادة والقدرة وأهلك نفسه؛ لأن داعية الإرادة مسخرة للقدرة والكل مقدور بالضرورة فيه من حيث لا يدري، فإنما هو محل ومجرى لهذه الأمور فأما أن يكون منه فكلا ولا.
فإذن معنى كونه مجبوراً أن جميع ذلك حاصل فيه من غيره لا منه ومعنى كونه مختاراً أنه محل لإرادة حدثت فيه جبراً بعد حكم العقل بكون الفعل خيراً محضاً موافقاً وحدث الحكم أيضاً جبراً، فإذن هو مجبور على الاختيار، ففعل النار في الإحراق مثلاً جبر محض وفعل الله اختيار محض وفعل الإنسان على منزلة بين المنزلتين فإنه جبر على الاختيار1.
إذن خلاصة رأيه أن للعبد أثراً في أفعاله وللرب أيضاً أثراً في أفعال عبده؛ لأنه الخالق، ولأنه موجد القدرة في عبده الذي يؤثر في أفعاله، فالعبد له اختيار وتأثير باعتباره محل قدرة الله، فمن هنا يبدو أنه مجبور من جهة مختار من جهة
1 إحياء علوم الدين جـ 4 ص 254.
أخرى، وتسمى المنزلة بين المنزلتين "الجبر والاختيار".
كما يمكن أن ندخل في هذا الاتجاه رأي "ابن رشد" فهو نفسه وضع رأيه وسط الاتجاهين السابقين بعد أن استعرض رأي الاتجاهين السابقين وأدلتهما قال: "فإذا كان الأمر كذلك فكيف يجمع بين هذا التعارض الذي يوجد في المسموع وفي المعقول نفسه؟ قلنا الظاهر من مقصد الشارع ليس هو تفريق هذين الاعتقادين وإنما قصده الجمع بينهما على التوسط الذي هو الحق في هذه المسألة، وذلك أنه يظهر أن الله تعالى قد خلق لنا قوى نقدر بها أن نكتسب أشياء هي أضدادها، لكن لما كان الاكتساب لتلك الأشياء ليس يتم لنا إلا لموافاة الأسباب التي سخرها الله لنا من خارج وزوال العائق عنها كانت الأفعال المنسوبة إلينا تتم بالأمرين جميعاً"1.
وفي صدد هذه الدراسات الفلسفية في الإرادة لا أريد أن يفوتنا نوع آخر من الدراسات في الإرادة قامت بها المدارس السيكولوجية الحديثة، فأود هنا إعطاء فكرة عن آرائهم المختلفة وطريقتهم في دراستهم للإرادة.
الإرادة في نظر المدارس السيكوولوجية الحديثة:
إن المدارس السيكولوجية تختلف في موضوع الإرادة كالمدارس الفلسفية، فقوم من السيكولوجيين يرون أن موضوع الإرادة ينبغي أن يعالج من الناحية الميتافيزيقية، كموضوع الوجود والعدم، وقوم منهم يرى أنه ينبغي أن يعالج من الناحية البيولوجية، وقوم ثالث يرى أنه من اختصاص علم الاجتماع، إذ لا بد من وجود أنظمة وزواجر اجتماعية للحكم على أن هذا السلوك إرادي أم غير إرادي.
1 منهاج الأدلة في عقائد الملة: ابن رشد، تحقيق الدكتور محمود قاسم ط 2 ص 226.
وأما الذين يدخلون هذا الموضوع في الدراسات السيكولوجية فيختلفون أيضاً في وجود حرية الإرادة، فمنهم من يقول: إن الإرادة لا تعدو أن تكون مجرد الاختيار والعزم دون التنفيذ، ومنهم من يرى أن حرية الإرادة لا تتم إلا بالتنفيذ1، لكن التربويين يرى بعضهم وجود حرية الإرادة في الإنسان؛ لأنها أساس التربية والتعليم وأساس النمو والتكامل الإنساني2.
والقائلون بالإرادة الحرة يحددونها من حيث المظهر ومن حيث تكويناتها ثم من حيث الوظيفة.
أما من حيث المظهر فلها مظهران للسلوك الإرادي فأولهما الكف أو المنع أي: الامتناع عن عمل ما أو الوقوف ضد ميول ودوافع معينة، والمظهر الثاني هو الانتباه والسير نحو اتجاه معين وهو ينطوي على عمليتين هما: عملية الكف أولاً ثم عملية التركيز في اتجاه معين دون غيره من الاتجاهات.
ومن ناحية المكونات يحددونها من ثلاث نواحٍ: الأولى الناحية البيولوجية، والثانية الناحية السيكولوجية، والثالثة الناحية الاجتماعية؛ لأن الناحية البيولوجية تعتبر بواعث أولية للسلوك، والناحية السيكولوجية تقوم بدور الاختيار من بين تلك البواعث وتحقيقه في الوجود الخارجي، والناحية الاجتماعية تقوم بدور تكييف عملية تنفيذ الاختيار وفقاً للقيمة الأخلاقية والعادات الاجتماعية.
وأهم وظيفة للإرادة في حياة الإنسان هي اختيار أعمال معينة من بين
1 مبادئ علم النفس العام: الدكتور يوسف مراد ص 241.
2 فلسفة التربية: فيليب هـ. فينكس، ترجمة الدكتور محمد لبيب النجيحي ص 412.