الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: مدى ضرورة الأخلاق للحياة الإنسانية
مدخل
…
الفصل الرابع: مدى ضرورة الأخلاق للحياة الإنسانية
إذا أردنا إبراز هذه النقطة قلنا: إن الأخلاق أمر لا غنى عنه؛ لأنها شرط في دوام الحياة الاجتماعية وتقدمها وتقدم الحضارة، وهي ضرورية أيضا لتحقيق السعادة للإنسان، وهذا أمر شديد الوضوح في الإسلام، وهي ضرورية باعتبارها علما من العلوم، وكل علم لازم للإنسان بدرجة أقل أو أكثر، وقبل أن نشرح النقطة السابقة يجدر بنا أن نبدأ بشرح هذه النقطة الأخيرة؛ لأن الأمر يطرح أمامنا سؤالا وهو: هل يمكن وصف الأخلاق بأنها علم؟ وما علاقته بالعلوم الأخرى؟
أولاً:
مدى علمية الأخلاق
كنا تكلمنا عن الأخلاق باعتباره علما من العلوم، ونتكلم هنا عن مدى علميته وصلته بالعلوم الأخرى لتحديد أهمية هذا العلم.
نحن نعرف أن العلم نظام من القوانين التي تجمعها صفة مشتركة مميزة، تخص ظاهرة من الظواهر الكونية أو مجموعة من هذه الظواهر، فعلم الجيولوجيا مثلا يبحث عن ظاهرة تركيب المواد الطبيعية في الأرض، والقوانين التي بموجبها يتم هذا التركيب، وتتكون هذه المادة أو تلك، وعلم الأحياء يبحث عن ظاهرة الحياة، والقوانين الخاصة بها، من حيث نشأة الحياة وتطورها من الناحية الإيجابية والسلبية، وهناك علوم أخرى تبحث عن الأشياء غير المرئية كعلم المنطق الذي يبحث في ظاهرة التفكير وقوانينها الخاصة بها، وهكذا فكل علم من
العلوم يخص ظاهرة معينة من هذا الوجود.
ولننظر الآن إلى الأخلاق عم تبحث؟ لقد ذكرنا سابقا أن موضوع الأخلاق هو السلوك الإنساني، وعرفنا علم الأخلاق بأنه علم الخير والشر1.
وإذا نظرنا إلى هذا الموضوع من زاوية الوضعية العلمية نجد فيه عنصرين بازرين: عنصر السلوك العملي الموضوعي، وعنصرا معياريا، وهو مفهوم "ينبغي".
وكان هذا سببا لاختلاف المفكرين في موضوعية الأخلاق أو عدم موضوعيتها، وما يتبع ذلك من علمانية الأخلاق أو عدم علمانيتها.
الحقيقة أن هذا الموضوع من الموضوعات المعقدة في الدراسات الأخلاقية، وأسباب ذلك ترجع إلى أن الأخلاق لها صلة بالعلوم وقوانينها، كما أن لها صلة بالأديان والعادات والقوانين الاجتماعية، ثم تعقد الظواهر الأخلاقية بصفة خاصة.
وربما تتجلى لنا في هذه الحقيقة بصورة أوضح إذا درسنا طبيعة القوانين الأخلاقية وصلتها بالقوانين الطبيعية، وبالقوانين المنطقية الرياضية، ثم القوانين الوضعية باعتبار أن كل مجموعة من هذه القوانين تمتاز بصفات خاصة بها تختلف عن الأخرى.
فالقوانين الطبيعية تكشف عن العلاقات بين الأشياء أو الظواهر، وقد تكون هذه العلاقات سببية، وهي الخاصة بالتغيرات التي تحدث بين ظاهرتين، بحيث يؤدي التغير في خواص إحداهما إلى تغير في الأخرى باطراد، مع اعتبار إحداهما مقدمة للأخرى.
1 اختلف الدارسون في تعريف علم الأخلاق في الأقوال الآتية:
1-
علم العادات 2- علم الواجبات 3- علم الإنسان 4- علم الخير والشر 5- علم دراسة الفضائل "العقيدة والأخلاق ص188".
وقد تكون تلك العلاقة وظيفية بمعنى أن يوجد ترابط بين ظاهرتين من حيث التواجد والتغير معا، دون أن تعد إحدهما سببا أو مقدمة والأخرى نتيجة.
وأخيرًا قد تكون تلك العلاقة مجرد اقتران في الوجود دون أن تكون إحداهما سببا أو شرطا لأخرى، واطراد العلاقة أو القانون في العلاقات الوظيفية أكثر منه في العلاقة السببية وعلاقة الاقتران، إذ إن هاتين الأخيرتين تقبلان الاستثناء دون الأولى.
أما القوانين الرياضية فهي: قوانين عقلية تعبر عن العلاقات المجردة التي يستنبطها العقل من خواص الأعداد والسطوح أو الأشكال التي يبتكرها؟
والفرق بين القانونين الرياضي والطبيعي هو أن الأول لا يربط السبب بالنتيجة، كما هو الشأن في الثاني، وإنما يربط كمين يعادل أحدهما الآخر1.
وهناك فرق آخر وهو أن القوانين الرياضية ضرورة تصورية وواقعية أي عقلية وتجريبية معا، بينما القوانين الطبيعية ضرورة واقعية فقط، مثال ذلك إذا اجتمع قدر معين من الأكسجين بمقدار معين من الأيدروجين فإنه بالضرورة يتكون منه ماء، فهذا التركيب يخضع للتجربة ولا يخضع للمنطق، وبالتالي فهو ضرورة تجريبية وليس ضرورة عقلية.
والصفة المشتركة بين القوانين الطبيعية والرياضية أنها مطردة، ولهذا يجب أن تراعى وتطاع في كل الأزمنة والأمكنة2.
وأما القوانين الوضعية أو المدنية فهي قوانين قد سنها المشرع المدني ليحدد
1 المنطق الحديث ومناهج البحث، الدكتور محمود قاسم، ص194، 200 - 201.
2 الفلسفة الأدبية أو علم الأخلاق، حنا أسعد، ص1وما بعدها.
بها سلوك الشعب نحو حكومته، وسلوك الحكومة نحو الشعب، أو الأفراد بعضهم تجاه بعض فيما يتعاقدون عليه، ولها صفتان مخالفتان لصفات القوانين الطبيعية والرياضية: الأولى أنها قوانين عملية تقرر ما ينبغي عمله وليس ما هو حاصل بالطبع، فهي إذن آمرة فقط، والثانية أنها اصطناعية أي: وضعية؛ لأنها لم تصدر عن طبيعة الاشياء، ولهذا فهي ليست ثابتة بل تتغير وتتعدل باختلاف الأزمنة والأمكنة وباختلاف الواضعين.
أما القانون الأخلاقي فيشترك مع هذه القوانين المدنية والمنطقية والطبيعية، فاشتراكه مع القوانين الأولى في الصفة الآمرية، أي: أنها تأمر بالفعل وليست مجرد صيغة تعبر عن واقع، واشتراكه مع الثانية في أنه معقول يأمر به العقل، فهو لذلك ضرورة عقلية، واشتراكه مع الثالثة في أنه يصدر عن طبيعة الإنسان ويعتمد على قوانين الحياة، فهو لذلك يشبه القانون الطبيعي الذي يعبر عن طبيعة معينة، ويتميز القانون الأخلاقي عن هذه القوانين بأنه ليس صارمًا كالقوانين الطبيعية المجبرة على الخضوع لسلطانها، بل إنه يعطي الحرية للإنسان في أن يخضع له أو يخالفه، وإن كان يعاقب المخالف بطريقة أو بأخرى1.
وهناك جانب آخر مشترك بين العلم والأخلاق وهو الكشف عن الخير والشر، وتزيد الأخلاق في البحث عن وسائل الإلزام بالخير والابتعاد عن الشر.
هذه المناقشة أفادتنا في بيان العنصر الموضوعي في القوانين الأخلاقية، وما لهذه القوانين من صفات تتميز بها عن غيرها وصفات أخرى تشترك فيها مع غيرها.
1 الفلسفة الأدبية أو علم الأخلاق، حنا أسعد، ص5 وما بعدها.
أما الجانب المعياري أو غير الموضوعي في نظر الوضعية العلمية، فإنه لا زال يحتاج إلى مناقشة وتوضيح، الحقيقة أن تعريف الأخلاق بأنها الصورة التي ينبغي أن يكون عليها السلوك الإنساني أمر فيه غموض، ذلك أن الأخلاق من حيث السلوك ظاهرة مادية حية؛ لأن هذا السلوك صادر من كائن حي لدوافع معينة بيولوجية أو سيكولوجية، ولكن من حيث إنه سلوك كما ينبغي أن يكون فإنه ليس ظاهرة مادية وليس في إمكاننا إرجاعه -من هذه الزاوية- إلى أحد القوانين البيولوجية أو الفسيولوجية أو السيكولوجية أو الطبيعية الإنسانية عموما، أن كلمة "ينبغي" تفيد المعيار، وهذا المعيار عنصر هام في مفهوم الأخلاق؛ لأن الأخلاق بدونه تكون سلوكا لا يتميز عن سلوك الحيوان، ولأنه هو الذي يدفع الإنسان إلى تكييف سلوكه وفقا لمفهومه، لكن ما حقيقة هذا المفهوم المعياري أو العنصر المعياري في الأخلاق ومن أين جاء إليها ومن أين أخذ هذه السلطة التي بها يفرض نفسه علينا؟
الحقيقة أن تحديد ذلك ليس أمرا سهلا، إذ إنه يعد من أصعب الأمور في التفكير الأخلاقي، إنه ليس أمرا موضوعيا نقسيه بالمقاييس الموضوعية، ولهذا فإن تحديده من الناحية العقلية الصرفة صعب للغاية؛ لأن هذا التحديد يخضع للاتجاهات الفلسفية -كما ذكرنا- ومن هنا نجد الاختلافات الكثيرة بين الفلاسفة في هذه النقطة بالذات، ثم إن تحديده يتوقف على الدراسات الأخرى، مثل دراسة الطبيعة الإنسانية، وإذا كانت هذه الدراسة قد تقدمت بصورة مذهلة من الناحية البيولوجية فإنها تعتبر في مؤخرة الدراسات من الناحية السيكولوجية، والعنصر المعياري يتوقف على هذه الدراسة الأخيرة كما يتوقف على الدراسات
الفلسفية والدينية والاجتماعية1، ولهذا فإن هذا الجانب من الأخلاق لا زال غامضا، مفتقدا للتحديد ومتزعزعا غير ثابت على أسس متينة.
غير أن هذا وذاك لا يدلان على عدم وجود معيار موضوعي ثابت في ذاته، ومهما يكن من أمر وضع هذا المعيار فإنه موجود كفكرة عامة من غير تحديد في أذهان الناس من قديم الزمان إلى يومنا هذا، فمن قديم الزمان يعمل الناس تحت الواجب وما ينبغي، وإن كانوا لم يستطيعوا حتى اليوم تحديد هذا المفهوم المعياري وبالرغم من غموض هذا المفهوم وعموميته فإنه يساعد على التقدم في الحياة الحضارية والاجتماعية.
ومهما يكن أمر هذا الخلاف في موضوعية الأخلاق أو عدم موضوعية جانب منها على الأقل، وما يتبع ذلك من خلاف في علمانية الأخلاق أو عدم علمانيتها، فإن الأمر في نظري هو: أن الأخلاق علم يدرس ظاهرة السلوك الإنساني من حيث منابعه ودوافعه وغاياته، ويحدد القيم والقواعد العملية التي يجب مراعاتها في السلوك أيا كان لون هذا السلوك أو شكله، كما يدرس وسائل الإلزام والالتزام بالسلوك الخيِّر ووسائل الابتعاد عن السلوك الشر.
من هنا يدخل في الدراسات الأخلاقية دراسة الطبيعة البشرية من الناحية البيولوجية والفسيولوجية والسيكولوجية من حيث صلتها بالسلوك، وتدخل كذلك الدراسات الدينية والاجتماعية من حيث إنها دافعة إلى السلوك الخيِّر، ومفهوم العلم -كما يقول الدكتور توفيق الطويل- لم يعد ضيقا يشمل الدراسات القائمة على أساس الاستقراء فقط كما كان في عصر أوجست كونت،
1 علم العادات الأخلاقية، ليفي بريل، الفصل الثاني.
بل إن معناه اتسع فأصبح شاملا كل دراسة منهجية منظمة ترمي إلى معرفة الحقائق وتفسيرها في ضوء منهج استقرائي أو استباطي أو نحوه، وبهذا دخلت في نطاقه دراسات جديدة لا تعتمد على التجربة والملاحظة1، ومن ضمن هذه الدراسات في رأيه الدراسات الأخلاقية غير أنه ينبغي أن نلاحظ دائما أن طبيعة الدراسة الأخلاقية تختلف عن طبيعة الدراسات الأخرى وخاصة العلوم الطبيعية؛ لأنها تخضع لقوانين خاصة بها، ولهذا يقول "ليفي بريل":"إن الظواهر الأخلاقية تخضع لقوانين خاصة بها كالظواهر الطبيعية الأخرى، وإن كان هناك اختلاف بين طبيعة هذه الظواهر وتلك"2، ولهذا من الخطأ تقويم علمانية الأخلاق من زاوية العلوم الطبيعية أو أن نفسر الحياة الخلقية أو الظواهر الخلقية بالطريقة نفسها التي نفسر بها الصفات الجيولوجية؛ لأن وظيفة الأخلاق تختلف عن وظيفة العلوم الطبيعية، إذ إن وظيفة الأولى الكشف والتقويم والتوجيه والإلزام، ولهذا كانت أهمية علم الأخلاق أكثر من أي علم آخر.
وستظهر هذه الحقيقة في الموضوعات الآتية بصورة واضحة، وقد أدرك أفلاطون هذه الحقيقة منذ زمن بعيد، حيث قال:"ليست المعرفة وإن احتوت جميع العلوم هي التي تخلق السعادة وتجلب الرفاهية ولكن الذي يخلقها فرع واحد لا أكثر من فروع المعرفة هوعلم الخير والشر"3.
1 الفلسفة الأخلاقية للدكتور توفيق الطويل، ص 261.
2 الأخلاق وعلم العادات الأخلاقية، ليفي بريل. ت. الدكتور محمود قاسم.
3 التربية لعالم حائر ص 33.