الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أي هدف أخلاقي قبل معرفة الوسيلة الضرورية لتحقيقه وإلا كان ذلك على حساب هدف أو أهداف أخلاقية أخرى. أي: لتحقيق هدف ما قد يضحي المرء بأهداف أخرى. فمثلا قد ينقذ الرجل ماله على حساب شرفه أو شرف وطنه وقد يعمل المرء من أجل تحقيق هدفه على حساب مصلحة أصدقائه، فهو لجلب الخير لنفسه ارتكب شرا في حق غيره وهذا مخالف للأخلاق، وهذا ما ذهب إليه الفيلسوف الأمريكي "جون ديوي"1.
1 النظرية الأخلاقية عند جون ديوي ومدى صلاحيتها للتربية العصرية ص61-63، الدكتور محمد لبيب النجيحي، مخطوط بمكتبة كلية التربية.
وجهة نظر الإسلام:
وإذا نظرنا إلى الإسلام في هذه النقطة وجدناه يفرق بين مجال الدنيا ومجال الآخرة. والإسلام نفسه من حيث إنه نظام حياة للإنسان جاء لتحقيق غاية في هذه الحياة، فقد جاء ليحقق للإنسان حياة منظمة متناسقة من شأنها أن تؤدي إلى السعادة لا في هذه الدنيا فحسب بل في الحياة الأخرى أيضا، فالإسلام- إذن- من هذه الزاوية وسيلة لا غاية في ذاته ولكنه يعتبر غاية في نفسه باعتباره غاية لعمل الإنسان ولا سيما فيما يتعلق بالتخلق مع الله، فإذا لم يكن أساس أعمال الإنسان الإخلاص الكامل للإسلام بصرف النظر عما يترتب على التمسك به من النفع في الدنيا والآخرة فلا تعتبر هذه الأعمال أخلاقية ولا تجد قبولا عند الله ومن ثم فلا تستحق جزاء منه. بل الإمام الشاطبي يقول:"إن قصد الحظ الأخروي في العبادة لا ينافي الإخلاص فيها"1.
ولهذا قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ
1 الموافقات للإمام الشاطبي جـ1 ص156.
الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 1، {وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} 2، {إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} 3، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"فإن الله لا يقبل من الأعمال إلا من خلص لوجهه"4.
وهكذا نجد الغاية نفسها تكون وسيلة من جهة وغاية من جهة أخرى، وهذه حقيقة يحس بها كل منا في حياته اليومية فنحن نتخذ في حياتنا الجارية أهدافا ونتخذ لها وسائل حتى إذا ما حققناها نتطلع إلى أهداف أخرى أسمى منها ولكن لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق الأهداف التي هي أدنى منها، وهكذا تتسلسل الأهداف والغايات فكل غاية وسيلة بالنسبة إلى أعلاها وغاية بالنسبة إلى أدناها، فمتعلم الدين مثلا يقصد من تعلمه أن يكون تدينه مقبولا عند الله ويقصد من ذلك أن ينال رضا الله ويقصد من الآخر الدخول في جنته.
إذن لا نستطيع القول بأن الأخلاق وسيلة وغاية بوجه عام ونصدر حكما عاما في هذا الشأن فيما إذا أردنا أن يكون حكمنا مطابقا للحقائق الواقعية، ولكن هل معنى هذا أن الأخلاق متغيرة وغير ثابتة تتطور بتطور الزمان والحياة وتزول الأخلاقيات وتأتي أخرى مكانها؟ وهل مؤدى ذلك أن الأخلاق لا تحمل قداسة وإلزاما عاما؟
لا ينبغي أن يفهم أولا من قولنا: إن غاية الأخلاق لها مراتب وأن أدناها وسيلة لأسماها، وأسماها غاية لأدناها - إننا نذهب إلى أن عدم ثابت المبادئ
1 الزمر: 2-3.
2 البينة: 5.
3 النساء: 146.
4 منتخب كنز العمال في هامش مسند الإمام أحمد جـ1 ص130.
الأخلاقية والاستدلال على أن كل وحدة مستقلة بنفسها، بل ينبغي أن يفهم أنها في الحقيقة وحدة متكاملة ولها مراتب ومستويات مختلفة القيمة وفي التطبيق العملي. فالإحسان مثلا بصفة عامة مبدأ أخلاقي ولكن الإحسان له درجات من حيث التطبيق، فالإحسان إلى واحد ليس كالإحسان إلى مجموعة، فتزيد درجاته بحسب عدد المحسن إليه ومن حيث نوع الإحسان. ثم من حيث النية والغاية: فاتخاذ الغاية من الإحسان مجرد مساعدة الإنسان فحسب غير الإحسان الذي يتخذ منه نيل الجزاء من الله وهو غير ذلك إذا قصد وجه الله فحسب مثلا فاتخاذ الإحسان وسيلة لهذه الغايات ثم اتخاذ بعضها وسيلة لأخرى لا يدل على أن الإحسان من حيث كونه مبدأ أخلاقيا متغير بل هو ثابت في الواقع بين المجتمعات البشرية من قديم الزمان إلى يومنا هذا بالرغم من اعتباره وسيلة لهذه الأغراض كلها، نعم إن القيمة الفعلية تزيد أو تنقص بحسب الغايات التي تتخذ من ورائها، ولكن مفهوم تلك القيمة مبدأ أخلاقيا مفهوم مقدس في أذهان الناس وإن تفاوتت من إنسان إلى آخر درجة هذا التقديس والتقدير لسبب من الأسباب الاجتماعية.
إذن لا يدل كون الأخلاق وسيلة من جهة وغاية من جهة أخرى أنها متغيرة ولا تحمل تقديسا وتقديرا في نفوس الناس. يقول جان جاك روسو: "إن مبادئ الأخلاق واحدة في كل مكان ومبادئ الخير والشر هي بعينها حيثما ذهبت"1.
ثم نتساءل فنقول هل يصح لنا أن نتخذ أي وسيلة للوصول إلى أي غاية
1 إميل ص 213. ويقول بارتلمي: "إن علم الأخلاق بمعتقداته الأساسية لم تتغير"، علم الأخلاق لأرسطو جـ1، ص 165.
أخلاقية أو أن نتخذ أي مبدأ أخلاقي وسيلة لأي غاية أخلاقية؟
إن الإسلام لم يبح اتخاذ أية وسيلة لأية غاية أخلاقية بل اشترط أن تكون الوسائل أخلاقية كالغايات تماما فالغاية في نظر الإسلام لا تبرر الوسيلة، ولهذا قال الأصوليون: الغاية لا تبرر الوسيلة، واتخذوا ذلك قاعدة تشريعية.
والدليل على صدق ما ندعي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1. فالآية ترسم لنا طريقين للفلاح أو طريقا واحدا له جانبان: الأول تقوى الله بترك المحرمات والثاني التقرب إليه بالوسائل، وهي أداء الواجبات والتمسك بالقيم الأخلاقية ولا يمكن التقرب إليه بالمحرمات وإلا لما حرم المحرمات ولما نهى عنها، ولو نوى مرتكبها وجه الله والتقرب إليه. ومن هنا جاء في الحديث القدسي الذي سبق ذكره بأن أحب الأعمال التي يتقرب بها الإنسان إلى الله هي الواجبات ثم الأمور المشروعة دون المحرمات ثم إن الله تعالى نفسه قد اعتبر الواجبات الأخلاقية وسيلة للتقرب إليه إذ هي وسائل والغاية كسب رضوان الله وكسب رضوان الله وسيلة للفوز بالسعادة في الآخرة.
غير أنه قد يعترض على هذه الفكرة بأن الإسلام قد أباح في مواضع كثيرة اتخاذ بعض الوسائل اللا أخلاقية مثل: قتال الكفار والمعتدين والكذب لإنقاذ النفس من الهلاك. حقا إن هذا قد يحدث ولكننا بينا فيما سبق أن ذلك استثناء والاستثناء لا يعتبر قاعدة أخلاقية أو مبدأ دستوريا. وهذا الاستثناء من قبيل دفع الشر بشيء لا يمكن دفعه إلا به2 وليس الهدف من ذلك جلب المصلحة وإنما
1 المائدة: 35.
2 انظر صفحة "245"من هذا البحث.
هو حماية ما جاءت به الأخلاق لحمايته وهو حفظ الحياة وحفظ العقيدة عن طريق إزالة الفساد. إذن نحن نلتجئ أحيانا اضطرارا إلى حفظ الأخلاق بلا أخلاق عندما لا نملك غير ذلك. فنحن هنا مضطرون والمضطر لا يسأل عما اضطر إليه، {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} 1.
وأما الأساس في الأخلاق الإسلامية فهو دفع الشر بالخير والإساءة بالحسنى ولهذا قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} 2. وإذا لم نستطع أن ندفعه بالأخلاق ندفعه باللا أخلاق وغايتنا هو الأخلاق ولكن هل بالغاية الأخلاقية يصبح الفعل اللا أخلاقي أخلاقيا؟ وهل من الممكن أن يصبح القبيح أو الشر في ذاته حسنا وخيرا بعامل خارجي؟ لأن الخير لا يأتي إلا بالخير كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سألوه: أو يأتي الخير بالشر؟: "الخير لا يأتي إلا بالخير" 3، أما الشر فقد يأتي بأشر منه.
الواقع أن الحقائق لا تتغير من حيث الجوهر، ولكن يتغير تقييمها من الناحية المادية والمعنوية بحسب الظروف، فالذهب مثلا لا يمكن أن يكون حديدا ولا العكس والحق لا يكون باطلا والباطل لا يكون حقا. ولكن قيمة الذهب تتغير من الناحية المادية والنفسية، وقد يفقد قيمته في بعض الظروف فلا ينظر إليه إلا على أنه معدن لا أكثر ولا أقل، ولكن الذهب فيما عدا هذه الظروف يحتفظ بقيمته بشكل من الأشكال. وكذلك الأمور الأخلاقية فإراقة دم إنسان قبيح؛ لأنه إعدام موجود ذي قيمة ولكن إذا أصبح وجود الشيء فاسدا في كيان جماعة فإزالة هذا
1 البقرة: 173.
2 فصلت: 34.
3 فتح الباري بشرح البخاري جـ6 ص389، كتاب الجهاد، باب فضل النفقة في سبيل الله، انظر كذلك المرجع نفسه جـ 11 ص243، كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا.
الوجود يعتبر خيرا من هذه الزاوية ومن هنا شرع إعدام الجاني، ثم إن إعدام الجاني في نظر المجني عليه غيره في نظر إنسان لم يصل إليه جرمه. وقد يضطر الطبيب إلى قطع أحد أعضاء الجسم إذا كان مريضا ويؤدي وجوده إلى فساد الجسم كله.
إذن نحن نضحي في هذه الحالات الاستثنائية بقليل من القيمة في سبيل الحفاظ على القيم بناء على قاعدة ارتكاب أهون الشرين إذا لم نجد مفرا من ارتكاب أحدهما. كما أن غايتنا فيها دفع الشر لا جلب المنفعة؛ لأن دفع الشر أولى من جلب المنفعة حسب القاعدة الأصولية.
من هذا كله نقرر أن الأخلاق وسيلة من جهة وغاية من جهة أخرى وقيمة الغاية تؤثر في قيمة العمل الأخلاقي، وكلما كانت الغاية أسمى وأشرف كان السلوك الأخلاقي أكثر قيمة، ولكن الغائية في السلوك الأخلاقي لا تفيد عدم موضوعية المبادئ الأخلاقية، ولا تفيد كذلك عدم وجود قدسية للأخلاق.
ثم إن الأخلاق لها مادة وروح وهناك تفاوت في قيمة الصور الأخلاقية وفي قيمة روح هذه الصور من حيث التقييم الموضوعي والذاتي، وإذا كان الأمر كذلك فإن القيمة المعنوية للأخلاق تأتي من نية فاعلها وغايتها.
ولذا كان للنية والغاية من حيث كونها معيارا أخلاقيا دور كبير في السلوك الأخلاقي من حيث إضفاء القيمة وبيان درجاتها.
غير أن معيارية الغاية تختلف عن معيارية العقل والوجدان إذ إن الأَولى من حيث إضفاء القيمة، والثانية مقياسا لتمييز السلوك الأخلاقي من اللا أخلاقي يعرف بها الذات الفاعلة عندما يقوم نفسه بنفسه في ضوء نياته.