الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-
علوم شعرية كالبلاغة والشعر والجدل.
3-
العلوم العملية كالأخلاق والاقتصاد والسياسة1.
وقسمها ابن سينا إلى صنفين:
الأول: العلوم النظرية كالرياضيات والطبيعيات والإلهيات.
والثاني: العلوم العملية كالأخلاق وتدبير المنزل وتدبير المدينة "ويقصد بها الاقتصاد" وأخيرًا السياسة.
وصنفها ابن خلدون في صنفين: الأول العلوم العقلية وهي النظرية عند غيره، والثانية العلوم النقلية وهي العلوم الشرعية.
وصنفها آمبر إلى قسمين: الأول العلوم الكونية وموضوعها المادة، والثاني العلوم المعنوية وموضوعها الفكر وآثاره.
وهناك تقسيمات أخرى مثل العلوم التطبيقية مثل: الصناعة والاقتصاد والعلوم الإنسانية وهي التي تبحث في سلوك الناس والمعنويات والاجتماعيات والعلوم المعيارية مثل: المنطق وعلم الأخلاق وعلم الجمال والعلوم الخفية مثل القوى المادية والروحية المجهولة.
فمن هذا المنطلق إذا أردنا الإجابة على سؤال: هل الأخلاق علم؟ فنقول: بالتأكيد إنه علم، وإذا أردنا أن نعرف مكانها بين العلوم فنقول: إنه يمكن تصنيفه بين العلوم الإنسانية والعلوم المعيارية والعلوم العملية والعلوم الشرعية.
1 المعجم الفلسفي، جميل صلبيا، مرجع سابق ص 100.
ثانيا:
مفهوم كلمة الأخلاق
فقد اختلفت المذاهب والاتجاهات الفلسفية
في تحديده، ولا أريد هنا -كعادة الباحثين- أن أستطرد فأذكر جميع أو أكثر التعاريف والمفاهيم الواردة في كلمة الأخلاق، إذ إنه لا داعي إلى ذلك في نظري، وإنما سأقتصر كما فعلت في كلمة العلم على بعض المعاني والمفاهيم الهامة التي تكون سندا علميا لنا في الوقوف على معنى الأخلاق، وذلك لدعم بعض المفاهيم ومناقشة بعضها الآخر أو اتخاذها وسيلة إيضاح نلقي بها بعض الأضواء الكاشفة على معالجتنا لبعض الموضوعات في ثنايا الدراسة.
ولهذا اقتضى الأمر أن نبحث عن معناها في ثلاث نواحٍ: في اللغة وفي الفلسفة وأخيرًا في الإسلام نفسه.
أما في اللغة، فقد جاءت كلمة الخَلْق في أساس البلاغة بمعنى التقدير، واستعملت في القرآن مجازا بمعنى الإيجاد بتقدير وحكمة، يقال: رجل مختَلق أي: حسن الخِلْقَة، ويقال: رجل له خُلُق حسن وخليقة، وهي ما خلق عليه من طبيعته.
وتخَلَّق بكذا وهو خليق لكذا كأنما خلق وطبع عليه، ويقال: امرأة خليقة أي: ذات خَلْق وجسم.
إذن خلاصة معنى الخلق في الأساس: هو الخلق بحسن التقدير والحكمة، ويشمل الخلق على هيئة جميلة، ومن هنا استعمل للسلوك على نهج مستقيم جميل.
وجاءت كلمة الخُلُق في القاموس المحيط بمعنى السجية والطبع والمروءة والدين1، والخلقة بمعنى الفطرة، والخَلْق بمعنى التقدير.
وفي لسان العرب الخُُلُق: الطبيعة وجمعها أخلاق، والخُلْق والخُلُق:
1 انظر إلى معنى الدين في كتاب العقيدة والأخلاق ص 76، للدكتور محمد بيصار.
السجية، وقال الخُلُق هو الدين والطبع والسجية، وحقيقته أنه وصف لصورة الإنسان الباطنة وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها، بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها ولهما أوصاف حسنة وقبيحة.
من هذا العرض اللغوي للأخلاق يمكننا تلخيص ثلاثة معانٍ بارزة:
الأول: الخُلُق يدل على الصفات الطبيعية في خلقة الإنسان الفطرية على هيئة مستقيمة متناسقة.
والثاني: تدل الأخلاق أيضا على الصفات التي اكتسبت وأصبحت كأنها خلقت مع طبيعته.
والثالث: أن للأخلاق حانبين: جانبًا نفسيًّا باطنيًّا وجانبًا سلوكيًّا ظاهريًّا.
وأما مفهوم الأخلاق لدى الفلاسفة فتابع في مقوماته للاتجاهات التي يدين بها هؤلاء الفلاسفة، فكل يعرف الأخلاق ويحدد معناها وخصائصها وفقًا للاتجاه الفلسفي الذي يعتنقه، ونحن نعلم أن هناك اتجاهات فلسفية متعددة ومختلفة حول الأخلاق، مثل: الاتجاه الاجتماعي والمثالي والتجريبي والواقعي والعقلي والحدسي والنفعي، وما إلى ذلك، ولا أريد تفصيل القول في اتجاه كل فلسفة في الأخلاق ولكن أريد أن أعطي فكرة موجزة عن بعضها، وهي المهمة في نظري.
وفي هذا الصدد سأعرض أولا بعض الاتجاهات في المذاهب الفلسفية المختلفة وأتبع ذلك باتجاه الفلاسفة الأخلاقيين المسلمين، وذلك لما بين الفلسفتين من الصفات المميزة، وإن كانت هناك صفات أخرى مشتركة.
فمن الناحية الأولى توجد عدة اتجاهات مختلفة منها:
الاتجاه الاجتماعي الوضعي:
فقد ذكر "ليفي بريل" الذي يتبنى هذا الاتجاه ثلاث دلالات أو معانٍ لكلمة الأخلاق، وهي الدلالات الآتية:
أولاً: تطلق كلمة الأخلاق على مجموعة من الأفكار والأحكام والعواطف والعادات التي تتصل بحقوق الناس وواجبات بعضهم تجاه بعض، والتي يعترف بها ويقبلها الأفراد بصفة عامة في عصر معين أو في حضارة معينة.
ثانيا: أنها تطلق أيضا على العلم الذي يدرس هذه الظواهر، كما أن علم الطبيعة هو العلم الذي يدرس الظواهر الطبيعية، وبذلك يتميز علم الأخلاق عن العلوم الطبيعية الأخرى، وإذا كانت هذه العلوم الأخيرة تتميز عن موضوعها في الدلالة، فإن علم الأخلاق يدل على العلم وعلى موضوعه في آن واحد.
ثالثاً: وأخيرا تطلق الأخلاق على تطبيقات هذا العلم.
وعلى هذا يفهم من تقدم الأخلاق تقدم الحياة الاجتماعية مثل: زيادة العدالة والتعاون والأمن والطمأنينة، وما إلى ذلك1.
وأهم صفات أو خصائص الأخلاق عند "دور كايم" الواجب أو الخير من حيث إنه نظام وقاعدة للسلوك الاجتماعي، ومن حيث إنه يضع للسلوك الإنساني غاية خيِّرة ويجذب إرادة الناس إلى عمل الخيرات، وهذه الواجبات وضعها المجتمع لتحقيق الخير لنفسه 2.
1 الأخلاق وعلم العادات الأخلاقية، ليفي بريل، ترجمة الدكتور محمود قاسم ص 169.
2 التربية الأخلاقية، إميل درو كايم، ترجمة السيد محمد بدوي، ص 117.
وبناء على ذلك تكون الأخلاق في نظر الاتجاه الاجتماعي علما وضعيا واقعيا يدرس سلوك الإنسان مرتبطا بزمانه ومكانه، وليس علما معياريا مثاليا يدرس السلوك من حيث ما ينبغي أن يكون عليه وفقا للمثل العليا التي يؤمن بها المجتمع على أنها فوق موضوعاته.
ومنها الاتجاه المثالي العقلي الذي يفهم الأخلاق على خلاف الاتجاه السابق تماما، فهو يرى أن الأخلاق هي السلوك الإنساني كما ينبغي أن يكون وفقا للمثل العليا التي توجب على العقل الإنساني أن يسايرها في سلوكه لا لغاية بل لأنها واجب.
فالشعور بأن هذا السلوك أو ذاك واجب هو الذي يضفي عليه الصفة الخلقية، إذن فالأخلاق بناء على هذا الاتجاه علم معياري لا وضعي كما ذهب إليه الاجتماعيون الوضعيون.
ومن أهم خصائص الأخلاق في هذا الاتجاه -على نحو ما ذكره الدكتور توفيق الطويل- أنها عامة وليست جزئية، ضرورية وليست عرضية، واضحة بذاتها لا تقبل برهانا ولا تقبل شكا ولا جدلا ولا تحمل تناقضا1.
وقد تمثل هذا الاتجاه في أضيق صوره، أو ذروة مثاليته لدى الفيلسوف الألماني "كانط" وهو يتفق في اتجاهه العقلي مع الاتجاه العقلي اليوناني في الأخلاق الذي يتمثل لدى سقراط وأفلاطون وأرسطو2 وإن كان يختلف عن هؤلاء في الهدف الأخلاقي إذ إنه أنكر أن يكون للأخلاق هدف أو غاية وإن كانت
1 الفلسفة الخلقية، دكتور توفيق الطويل، ص9374.
2 فالأخلاق عند هؤلاء نظام للسلوك الإنساني يقوم على أساس من العقل، وتكون له غاية معقولة بدلا من ذلك النظام الذي يقوم على أساس العادة والعرف - تجديد في الفلسفة، جون دوي، - ص267.
الأخلاق تؤدي بطبيعتها إلى الخير العام، إلا أنه ينبغي ألا تتبع الأخلاق بهذه النية، بل بنية أنها الواجب فقط لا غير، ولذلك يسمي الأخلاق علم الواجبات، أما أولئك الفلاسفة فقد اتفقوا على أن تكون الأخلاق غاية وهي الخير أو الكمال الإنساني أو السعادة، وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه.
ومن تلك الاتجاهات الاتجاه النفعي:
ويدخل فيه ثلاثة مذاهب: الأول مذهب المنفعة الشخصية، وله صورتان: صورة دعا إليها "أرستبوس" تلميذ سقراط الذي فسر السعادة عند سقراط باللذة، ودعا إلى اللذات الحسية الفردية العاجلة، وقال: على المرء أن يستعجلها؛ لأن تأخيرها يثير في النفس البؤس والشقاء، والحرمان، والسلوك الذي يحقق هذه السعادة القائمة على تلك اللذات أخلاقي، والمبادئ السلوكية التي تحققها مبادئ أخلاقية1 ونجد صورة أخرى لهذا المذهب، وهي المنفعة الفردية التي دعا إليها "هوبز" ومن سلك مسلكه، فقد ادعى "هوبز" أن الطبيعة الإنسانية طبيعة أنانية تعمل لمصلحة الذات، وقد اخترع المبادئ الأخلاقية متخذها وسيلة لتحقيق منفعته الشخصية، ولهذا يرى أن الأخلاق توضع وسيلة لتحقيق المنفعة وليست طبيعة في الإنسان، والفرق بين "هوبز" و"أرستبوس" أن "هوبز" يجاوز اللذة الحاضرة ويطلب النظر إلى الخير والشر الذين ينتجان عنها2 ولهذا أولى أن نسمي مذهب أرستبوس بمذهب اللذة الفردية، ومذهب هوبز بالمنفعة الفردية وتجمعها صفة الأنانية الشخصية.
2 مذهب المنفعة العامة في فلسفة الأخلاق، د. توفيق الطويل، ص 41 وما بعدها.
1 المرجع السابق، وانظر كذلك المذاهب الأخلاقية، د. عادل العوا جـ2 ص 378- 389.
الثاني: مذهب المنفعة العامة الذي دعا إليه "بنتام" و"جون ستورات ميل" وغيرهما قالوا: إن على الإنسان أن ينشد منفعة البشر عامة حتى الحيوانات1.
وقد اشترك "مل" مع "بنتام" في إقرار المنفعة غاية للأفعال الإنسانية ومعيارا للأخلاق، وتقاس أخلاقية الفعل بنتائجها لا ببواعثها، والجزاء هو العامل الوحيد لفعل الخير وتجنب الشر، وزاد "ميل" على "بنتام" بتقرير الجزاء الباطني والوجداني2.
الثالث: مذهب النفعية العملية "المذهب البرجماتي":
يعد هذا المذهب -الذي يمثله جون ديوي في مرحلته الأخيرة- صورة من الاتجاه النفعي أو فرعا متطورا منه كما يقول الدكتور توفيق الطويل3.
فقد اتفق المذهب البرجماتي مع النفعية في إرجاع الأخلاق إلى نتائج الأعمال دون بواعثها، ويهتم البراجماتي بالنجاح العملي وما له من قيمة معنوية، عكس النفعية التي تجعل الأعمال تجارية وصناعية وترد الأخلاق إلى تحقيق ذاتية أو رغبات شخصية أكثر من خدمة اجتماعية إنسانية4.
وخالف الواقعيين التجريبيين؛ لأنهم يرفضون الأفكار المطلقة والمبادئ الميتافيزيقية، فإنها في نظره إذا أدت إلى تحقيق عمل نافع لا مانع من قبولها ولو لم تكن صحيحة في ذاتها؛ لأن قيمة الشيء ليست في حقيقة وجوده بل فيما يحقق من فائدة عملية، ولو لم يكن موجودا في حقيقة ذاته، وأرجع المثل الأخلاقية إلى نتائج الظروف الواقعية للإنسان، فهي ليست مبادئ مطلقة ثابتة.
1 مذهب المنفعة العامة في فلسفة، د. توفيق الطويل، ص 41 وما بعدها.
2 الفلسفة الأخلاقية، د. توفيق الطويل، ص 200.
3 الفلسفة الخلقية، د. توفيق الطويل، ص 269.
4 تجديد في الفلسفة، جون ديوي، ص 298.
يضعها الفلاسفة، كما يدعي المثاليون، وليست من وضع المجتمع كما يدعي الوضعيون الاجتماعيون، وليست من وضع السماء كما يدعي رجال الدين1، ثم أنكر أن تكون للأخلاق غاية علية سامية ثابتة وأن لها مبادئ مطلقة لا تقبل التغير؛ لأن الحياة متطورة2، ومغزى هذا المذهب أنه جعل أساسا هدف الإنسان في الحياة العمل المنتج النافع، وبناء على ذلك اعتبر كل فكرة أو اعتقاد يؤدي إلى العمل الناجح أمرا قيما بصرف النظر عن قيمتها العلمية أو المنطقية أو الحقيقية، ومن ثم اتفق عنده أن معيار الخطأ والصواب أو الحق والباطل، ومعيار الأخلاق هو تحقيق المنفعة العملية3، وعلى ذلك فقد عرَّف ديوي الأخلاق بأنها "كل ما ينطوي عليه العمل من عمليات الإمعان أي: الموازنة والتروي والرغبة أو الدوافع سواء كانت هذه العمليات قريبة أو بعيدة"4.
وأخيرا هناك اتجاه الطبيعة البشرية، ويسمي هذا الاتجاه الأخلاق أحيانًا بأنها علم السجايا الإنسانية؛ لأنه يحاول أن يستخلص المبادئ الأخلاقية عن طريق السجايا الإنسانية5.
ومفهوم الأخلاق في هذا الاتجاه عموما هو عبارة عن مبادئ للسلوك الإنساني تنبع من طبيعة الإنسان، غير أن القائلين بهذا الاتجاه لم يتفقوا على هذه الطبيعة، ولا تحديد تلك المبادئ التي تحدد السلوك الأخلاقي، ومن ثم ذهبوا مذاهب مختلفة في تفسير سلوك الإنسان وبيان دوافعه. فقد ذهب "شفتسبوري"
1 الفلسفة الخلقية، دكتور توفيق الطويل، ص 276.
2 تجديد في الفلسفة، جون ديوي، ص 273.
3 الفلسفة الخلقية، د. توفيق الطويل، ص 269 وما بعدها.
4 التربية وطرق التدريس، صالح عبد العزيز، جـ2 ص 235.
5 علم أخلاق "باللغة التركية"، وزارة الأوقاف بتركيا، مطبعة أنقرة، 1341هـ، ص9.
Shaftesbury إلى أن في الإنسان ميولا اجتماعية طبيعية وعاطفة إنسانية نبيلة يدركها كل منا عندما يتأمل في إعجابه بالنبل وميله إلى التعاطف مع الآخرين وحبه الخير لهم.
وقد أيد وجهة نظره هذه "هاتشيسون" عندما أكد وجود حاستين خاصتين في الطبيعة الإنسانية: إحداهما حاسة الجمال، والأخرى حاسة الخير، وبهما يكشف الإنسان جمال السلوك الأخلاقي وخيريته، ويندفع إلى عمل الخيرات، وإصدار الأحكام على الأفعال.
ومن أنصار هذا الاتجاه "آدم سميث" الذي أثبت في الإنسان غريزة التعاطف الإنساني، وجعلها منبع الأخلاق الإنسانية.
كما سار على هذا النحو "جان جاك رسو" الذي يرى أن الطبيعة الإنسانية طبيعة طيبة، لكن المدنية هي التي تفسد هذه الطبيعة، لذا يرى أن الفساد الخلقي من نتاج المدنية، والأخلاق الإنسانية ناتجة أساسًا من هذه الطبيعة الطيبة1، يقول روسو:"إن في قرارة النفوس مبدأ فطريا للعدل والفضيلة، نقيس إليه أفعالنا وأفعال سوانا من الناس، ونحكم عليها بالخير أو السوء، وهذا المبدأ هو الذي أسميه الضمير"2.
ويقول روسو أيضا: "يخرج كل شيء من يد الخالق صالحا، وكل شيء في يد البشر يلحقه الاضمحلال.. يقلب كل شيء، ويشوه كل شيء، يحب المسخ والإمساخ، ولا يريد شيئا على الوجه الذي برأته به الطبيعة حتى ولو كان
1 المذاهب الأخلاقية، دكتور عادل العوا، مطبعة دمشق ط2، جـ2 ص 385.
2 كتاب إميل، جان جاك روسو، ترجمة د. نظمي لوقا، ص 213 وما بعدها.
ما برأته الطبيعة إنسانا مثله، فهو يأبى إلا أن يروض له كأنه جواد ركوب، وأن يصاغ على هواه كأنه شجرة في بستانه1"، وهذا ضد الاتجاه المسيحي الذي يرى أن تلك الطبيعة الإنسانية شريرة في أصلها2.
ومن مذاهب هذا الاتجاه مذهب العاطفة الجمالية الذي ذهب إليه جون روسكين "John Ruskin" والذي يرى أن الإحساس بجمال الطبيعة وآثار الفن البديعة هو الأساس للشعور الأخلاقي، ولقد بالغ في الأمر حتى اعتبر تعبد الجمال أخلاقا، فالجمال الذي أبدعته يد الخالق والجمال الذي صنعته يد الفنان كلاهما يهب الإنسان سموا ونبلا، والإحساس بذلك يؤدي إلى السعادة الروحية التي هي هدف الأخلاق3.
ومن أنصار هذا الاتجاه "شوبنهور" الذي أعاد أساس الأخلاق إلى غريزة التعاطف والتراحم، فقال:"إن التعاطف المباشر وهو شعور غريزي يقصر وحده عن بناء الأخلاق ولا بد من عاطفة الرحمة"4 وشبيه بهذا ما ذهب إليه "وليم مكدوجل" حيث إنه أثبت مجموعة من الغرائز أو الميول الفطرية في الطبيعة الإنسانية وعلى رأسها مراعاة الذات والحنان والتقزز من كل ما هو كريه ومنبوذ واعتبرها استعدادات أولية للأخلاق والتنمية الأخلاقية5.
وأخيرا من أنصار هذا الاتجاه "فولتير" الذي أرجع قانون الأخلاق إلى الطبيعة
1 إميل، جان جاك روسو، ص 24.
2 دراسات في الفلسفة الإسلامية، دكتور محمود قاسم، ص 3، ص 119.
3 المذاهب الأخلاقية، دكتور عادل العوا، جـ2 ص 385.
4 المرجع السابق جـ2 ص 488.
5 الأخلاق والسلوك في الحياة، وليم مكدوجل، ص 24-25، 80- 84.
الإنسانية فقال "وما هذا القانون الطبيعي إلا القانون الأخلاقي الذي أودع الله في غريزة جبلتنا محبته والتقيد به والحفاظ عليه"1.
هذا أحد وجهتي النظر في فطرية السلوك التي مرجعها النفس والقلب، وهناك وجهة نظر أخرى تقول بوجود ملكة عقلية -لا ملكة نفسية أو قلبية كالأولى- تصدر أحكامها على أفعال الإنسان، وأحكامها بريئة عن احتمال الخطأ، وترى أن بعض الأفعال في ذاتها حق وعدل وخير، وبعضها الآخر باطل وظلم وشر، وأكبر مؤيد لهذا الاتجاه هو "بطلر"2 الذي قال "إن الفضيلة طبيعية في الإنسان والرذيلة انتهاك لطبيعتنا، إذ هي نوع من تشويه الذات"3.
ويقول "جون كارل فلوجل" مؤيدا وجهة النظر هذه، ومبينا مدى وضوح تلك المبادئ الأخلاقية في الطبيعة الإنسانية أو في عقل البشر "إن الأخلاق "بمعنى المثل العليا التي نسعى وراءها، والقيود التي تفرض وتراعى والآثام التي نشعر بها والعقاب الذي يجب أن نناله" راسخة كل الرسوخ في العقل البشري، وإن الإنسان في أساسه حيوان أخلاقي، لكن كثيرا من أخلاقياته خشن بدائي، سيئ التكيف مع الواقع، ولذلك كثيرا ما يبدو سلوك المرء متنافيا مع ما يحلم به عقله، وما يطمح إليه من سامي الآمال التي يكون متفطنا إليها"4.
1 المذاهب الأخلاقية، دكتور عادل العوا، جـ 2 ص 412.
2 الفلسفة الخلقية، دكتور توفيق الطويل ص 161.
3 الموسوعة الفلسفية المختصرة، نقلها عن الإنجليزية مجموعة الأساتذة بإشراف الدكتور مصطفى نجيب محمود ص 84.
4 الإنسان والأخلاق والمجتمع جون كارل فلوجل، ترجمة عثمان نوير وغيره، ص 237.
ويقول "ازفلد كولبه": "إن معظم الفلاسفة الأخلاقيين قالوا بفطرية الضمير الأخلاقي"1.
1 المدخل إلى الفلسفة، ازفلد كولبه "Oswald Kulpe"، ص 311-312.
ما يكون مستفادا بالعادة والتدرب، وربما كان مبدؤه بالروية والفكر، ثم يستمر عليه أولا فأول حتى يصير ملكة وخلقا"1.
والطابع العام في الاتجاه العقلي هو تفسير المبادئ الأخلاقية وتدعيمها بالعقل، وجعل غايتها غاية عقلية ثابتة، ومقياسها الأسمى العقل والوسطية، ثم حصر الفضائل الأخلاقية تحت أمهات الفضائل الأربع: وهي الحكمة والشجاعة والعفة والعدالة، وأساس الفضيلة هو التصرف بمقتضى العقل والحكمة، وهذا الاتجاه يظهر بصورة أوضح لدى المعتزلة، وسيأتي تفصيل رأيهم.
وأما الاتجاه الثاني فيمثله المتصوفون بصفة عامة، ونحن نعرف أن الأخلاق من أهم موضوعات التصوف، ولقد بالغ بعض المتصوفين حتى قصر التصوف على الأخلاق، فعرف التصوف "بأنه الدخول في كل خلق سني، والخروج من كل خلق دني"2، وقال التستري:"من لم يدخل فيما بينه وبين الله على مكارم الأخلاق لم يتهن بعيشه في دنياه وآخرته"3، وقال الجنيد عندما سئل عن التصوف "التصوف تصفية القلب عن موافقة البرية، ومفارقة الأخلاق الطبيعية، وإخماد الصفات البشرية، ومجانبة الدواعي النفسية، ومنازلة الصفات الروحانية، والتعلق بالعلوم الحقيقية، واستعمال ما هو أولى على الأبدية، والنصح لجميع الأمة، والوفاء لله على الحقيقة، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في الشريعة"4 من هذه التعريفات نرى مدى اهتمام المتصوفين بالأخلاق، وتتبلور الأخلاق في الاتجاه الصوفي في النقط الآتية:
1 تهذيب الأخلاق لابن مسكويه، ص 31.
2 الرسالة القشيرية للإمام القشيري، ص 217.
3 في الفلسفة والأخلاق، الدكتور محمد كمال إبراهيم جعفر، ص 273.
4 التعرف لمذهب أهل التصوف، أبو بكر محمد الكلاباذي، ص 25.
1-
الاهتمام الزائد بإصلاح الباطن:
وإصلاح الباطن يتوقف على ثلاثة أمور: الأمر الأول معرفة النفس ونوازعها ورغباتها، ومن هنا نرى تركيز المتصوفة في دراستهم الأخلاقية على التحليلات النفسية الدقيقة من وصف خلجات النفس وخطرات القلب، والصراع النفسي وأهوال هذا الصراع، ثم الرذائل الناتجة عن اتباع أهواء النفس ورغباتها، الأمر الثاني تطهير القلب وتصفية الروح من الرذائل وذلك عن طريق المجاهدات والعزلة والزهد والعبادة الزائدة، الأمر الثالث: التحلي بالفضائل والمكارم الأخلاقية، ولذلك نراهم يقسمون التربية الأخلاقية إلى مراحل: مرحلة للمبتدئين وأخرى للمتوسطين وثالثة للواصلين، ويسمون المرحلة الأولى بالتخلية، والثانية بالتحلية، والثالثة بالثبات والدوام في حضرة الله.
2-
التفاني في الإخلاص لله في جميع الأعمال، والتنكر للإرادة البشرية، والاتحاد مع إراداة الله في تطبيق جميع مراد الله، ومن هنا ينكرون الحرية للإنسان من حيث وجوب الاختيار لا من حيث القدرة على الاختيار؛ لأن الإنسان يجب أن يطبق إرادة الله ولا ينبغي أن يخرج على إرادة الله، ويعتبرون إفناء إرادة الإنسان في إرادة الله هو الإخلاص الكامل لله في الأعمال.
3-
تنمية علاقة المودة والمحبة والإخاء بين الناس والتفاني في الفداء والإيثار.
4-
إيثار الزهد في الدنيا والتقشف في الحياة، ومن هنا قال "أبو على الروذباري" عندما سئل عن الصوفي: "الصوفي من لبس الصوف على الصفا، وأطعم الهوى ذوق الجفا، وكانت الدنيا منه على القفا، وسلك منهاج
المصطفى"1.
5-
الثبات في الشخصية في جميع الظروف والأحوال، وذلك تطبيقا لقوله تعالى:{أَلَاّ إنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 2.
6-
الاهتمام بالجانب التطبيقي أو العملي من الأخلاق أكثر من الاهتمام بالجانب النظري؛ لأن العمل هو الأهم وليس النظر، وقد نجد تطبيق هذه المبدأ لدى المتصوفين الأوائل أكثر مما نجده لدى الأواخر3.
هذه بعض معالم الأخلاق الهامة، في الاتجاه الصوفي حاولت إيجازها بالقدر الذي يتناسب مع موضوع البحث.
وأما الاتجاه الثالث: وهو الذي يجمع بين الاتجاهين السابقين فيمثله بصورة أوضح الإمام الغزالي في معالجته للموضوعات الأخلاقية، إذ إننا نجده في هذه المعالج يسير من ناحية على خط تفكير الفلاسفة في دراسة الأخلاق، مثل: إخضاع قوى النفس المختلفة لحكم العقل وسلطانه4، ومثل: محاولة حصر الفضائل الأخلاقية تحت أمهات الفضائل كالحكمة والشجاعة والعفة والعدالة5، ويسير من ناحية أخرى على خط تفكير المتصوفين في تحليلاته النفسية والروحية الدقيقة، وفي طرق تطهير الباطن وتصفية الروح والتحلي بالفضائل الأخلاقية، ولهذا فقد عرف الأخلاق كالآتي: "الخلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كانت الهيئة بحيث
1 التعرف لمذهب أهل التصوف ص 25، مرجع سابق.
2 سورة يونس آية: 62.
3 في الفلسفة والأخلاق، الدكتور محمد كمال إبراهيم جعفر، مرجع سابق، ص 273.
4 ميزان العمل للإمام الغزالي، ص50.
5 ميزان العمل للإمام الغزالي، ص 67، إحياء علوم الدين جـ3 ص 53.