الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثاً:
أبعاد قياس المسئولية الأخلاقية:
ثم إن السلوك المسئول عنه له بعدان: البعد المادي، والبعد النفسي أو الوجداني.
ففي البعد الأول ننظر إلى مدى ما يترتب على السلوك فعلاً كان أو كلاماً من نفع أو ضرر ومن آثار تتبعه وتنشأ عنه مهما طال الزمن؛ لأن الفعل يصبح كائناً موجوداً أو مولوداً للإنسان قد يعيش أكثر من صاحبه، ومن هنا قال الرسول- صلى الله عليه وسلم:"من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء" 1، وقال أيضاً:"من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه ولا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً" 2، وقال "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" 3، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} 4، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل ينعش بلسانه حقاً فيعمل به من بعده إلا جرى عليه أجره يوم القيامة ثم وفاه الله أجره يوم القيامة" 5.
1 صحيح مسلم، جـ 16، باب من سن في الإسلام سنة حسنة ص 226.
2 صحيح مسلم، جـ 16، المرجع نفسه والصفحة 227.
3 صحيح مسلم، جـ 11، باب الوصية ص 85.
4 يس: 12.
5 منتخب كنز العمال في هامش مسند الإمام أحمد جـ 1 ص 145.
وفي البعد الثاني ننظر في قياس المسئولية إلى مدى ما يتخذ الفعل من القداسة أو البشاعة في أعماق قلوب الناس، فالقتل مثلا أبشع من السرقة والتضحية بالنفس من أجل الدفاع عن الإسلام أقدس من التضحية بالمال من أجل الغرض نفسه، ثم إن العمل نفسه يتغير بحسب الصورة التي يتم فيها، فالقتل عن طريق تقطيع الأجزاء أبشع من القتل ضرباً بالرصاص، والحرق بالنار أبشع من الطعن بالسكين، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" 1، ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم:"عن القتل بالنار والقتل بالمُثْلَة" 2، أياً كان المقتول إنساناً أم حيواناً، وكذلك الاستشهاد بعد القيام بأعمال بطولية من ثبات وشجاعة في أشد الأزمات أكثر قداسة من مجرد الاستشهاد دون أي إبداء لأعمال بطولية وهكذا.
وهكذا قسم الإسلام الأعمال الأخلاقية بحسب المسئوليات، فقسم الواجبات إلى واجب عيني وكفائي ومندوب، وقسم المنهيات إلى كبائر وصغائر وإلى محرم ومكروه، فقال تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} 3 نرى إذن: ليست المسئولية كلها في درجة واحدة لا من حيث النفع والضرر ولا من حيث ما يثير في النفوس من تقبل واشمئزاز ولا من حيث الموضوعات التي تتعلق بها أو التي تترتب عليها من خير أو شر على مر الزمان.
1 التاج جـ 3، فصل القصاص 8.
2 المرجع السابق جـ 4 كتاب الجهاد ص 373-374.
فقال الرسول: "إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلاناً بالنار وإن النار لا يعذب بها إلا الله فإذا أخذتموهما فاقتلوهما" هداية الباري إلى ترتيب البخاري جـ 1 ص 232.
3 النساء: 31.
ومن ثم نستطيع تحديد مجال المسئوليات الفردية بوجه عام بأن الحياة كلها مجال المسئوليات الأخلاقية، والإنسان مسئول فيها عن كل تصميم وسلوك صادر عن قصد واختيار يتصل بحسن أو قبح وبخير أو بشر سواء كان إيجابياً أو سلبياً. وكل فرد تتوافر فيه شروط المسئولية مسئول عن سلوكه في إطار مجاله الشخصي وفي إطار مجاله الوظيفي، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته والأمير راعٍ ومسئول عن رعيته والرجل راعٍ على أهل بيته والمرأة راعية على بيت زوجها وولده فكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته" 1، ولقد حدد الرسول عما يسأل عنه الإنسان فقال:"لا تزال قدما ابن آدم يوم القيامة عند ربه حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وماذا عمل فيما علم" 2، هذا هو مجال الفرد عن نفسه وسلوكه درجة ونوعا.
أما القسم الثاني من المسئولية وهو المسئولية عن سلوك الغير ففي هذه النقطة شيء من التعقيد والغموض وقد يبدو لبعض الناس أنه أمر غير عادل، وقد يبدو أيضاً أن هذا الأمر يتعارض مع بعض المبادئ الأخرى التي تقرر مسئولية الإنسان عن نفسه فقط، ولهذا يحتاج هذا الموضوع إلى شيء من التأمل والفحص حتى ينجلي الغموض ويزول التعارض.
وإذا نظرنا إلى الاتجاهات الأخلاقية والقانونية في هذه المسألة وجدنا اتجاهين بارزين أحدهما: اتجاه فردي يرى أن الفرد ليس مسئولاً إلا عن سلوكه
1 فتح الباري بشرح البخاري، كتاب النكاح، باب المرأة رعية في بيت زوجها دار الفكر جـ 9 ص 299.
2 جامع الأصول من أحاديث الرسول، ابن الأثير جـ 12 ص 436 دار الفكر 1403 جـ 10 ص 436.
الخاص، وثانيهما اتجاه جماعي يرى مسئولية الجماعة عن سلوك الأفراد ومسئولية الفرد عن سلوك غيره، وبالرغم من هذا الاختلاف بين الاتجاهين من الوجهة النظرية عموماً، فبينهما بعض التقارب من الوجهة العملية وفي بعض الأمور الجزئية، ذلك أن الاتجاه الأول بالرغم من دعواه الفردية فإنه من الوجهة العملية قد قرر المسئولية الغيرية في بعض الجرائم مثل جريمة القتل في بعض الحالات والظروف الخاصة.
كما أن الاتجاه الثاني بالرغم من دعواه الجماعية في المسئولية فإنه لا يجعل الجماعة مسئولة عن كل سلوك الفرد بل يقصرها على بعض الأفعال والجرائم1.
وأما عن وجهة نظر الإسلام فإنا نجد نصوصاً تقرر المسئولية الفردية بصورة مطلقة كأن الفرد مسئول عن نفسه فقط، فقال تعالى:{وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَاّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 2، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} 3، لكن نجد أيضاً نصوصا تقرر مسئولية الفرد عن سلوك غيره، من هذه النصوص قوله تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 4، {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} 5، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم -بعد ما تلا قوله تعالى:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 6: "كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد
1 المسئولية والجزاء ص 61، الدكتور علي عبد الواحد وافي.
2 الأنعام: 164.
3 المائدة: 105.
4 الأنفال: 25.
5 لقمان: 17.
6 المائدة: 78.
الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقصرنه على الحق قصراً أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم" 1، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً: "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم"، وقال أيضاً: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم" 2، وسألت زينب بنت جحش النبي- صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ فقال: "نعم إذا كثر الخبث" 3، وقال أيضا: "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً" 4، وقال: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" 5، وقد حدد الرسول إنكار المنكر بالقلب بمقاطعة الفاسق بعدم التسليم عليه وعدم التعامل معه كما فعل مع الذين تخلفوا عن الحرب6 وقال: "تقربوا إلى الله ببغض أهل المعاصي وأَلْقَوْهم بوجوه مكفهرة والتمسوا رضا الله بسخطهم وتقربوا إلى الله بالتباعد منهم" 7.
1 رياض الصالحين، باب الأمر بالمعروف ص 104.
2 المصدر نفسه ص 99.
3 المصدر نفسه ص 99.
4 رياض الصالحين، باب الأمر بالمعروف ص 101.
5 صحيح مسلم جـ 1 ص 69، كتاب الإيمان ج 49.
6 انظر آية التوبة: 118 وكتاب الأدب المفرد للبخاري ص 263.
7 منتخب كنز العمال في هامش مسند الإمام أحمد جـ 1 ص 146.