الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلا بد من الاعتراف بهما معا في الحياة العملية مع التنسيق بينهما.
حقا إن التنسيق بينهما من الصعوبة بمكان ولكن التنسيق أمر لا مفر منه، ولقد استطاع الإسلام تحقيق ذلك التنسيق وذلك بإعطاء كل منهما قيمة مع ترجيح الغيرية بالجبر أحيانا والاختيار أحيانا أخرى ومع ترجيح الأنانية أيضا في الحالات ثم ترك حرية الترجيح لأحد الأمرين إلى ضمير الفرد في بعض الحالات في الحياة العامة.
وخلاصة القول: إن الإسلام اعتبر الفرد الحجر الأساس في المسئولية: مسئوليته عن نفسه ومسئوليته عن غيره وقد حدد له حقوقا وفرض عليه واجبات وترك له مجالا لحرية العمل يكافأ إن عمله ولا يعاقب إن تركه.
وأخيرا فإن المرء متى أدى واجباته الأخلاقية نحو نفسه أو غيره بروح من الإخلاص فإن سلوكه يعد سلوكا أخلاقيا، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له" 1، وقال أيضا:"على كل مسلم صدقة، قيل: أرأيت إن لم يجد؟ قال: يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق، قيل: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف، قيل: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يأمر بالمعروف أو الخير، قيل: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: يمسك عن الشر فإنها صدقة"2.
1 صحيح مسلم كتاب الزهد والرقائق جـ 18، ص125.
2 صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الزكاة، باب كل نوع من المعروف صدقة ص 94.
النوع الثالث: أخلاقيات الحاكم المسلم
قد يبدو هذا التقسيم غريبا لأول وهلة ولا سيما إذا نظرنا إليه من زاوية
الأخلاق التقليدية الشائعة غير أن من يتأمل في النصوص الإسلامية ويتحقق في فحص التفكير الأخلاقي في الإسلام يجد ذلك حقيقة ويجد فيه حكمة.
وإذا نظرنا إلى هذا النوع من الأخلاق من الزاوية الفردية والاجتماعية وجدناه وسطا بينهما، ذلك أن الحاكم من حيث إنه فرد من المجتمع ينبغي أن يتصف بما يتصف به أي فرد ومن حيث إنه يمثل جماعة فينبغي أن يكون رمزا مثاليا لإرادة وأخلاقية هذه الجماعة في شخصيتها وفي تنفيذ قوانينها، ونتيجة لذلك فقد تحمل مسئوليات تتجاوز حدود مسئوليات أي فرد آخر وأصبح هناك فرق بين عمله وبين عمل غيره ومن ثم اقتضى الأمر الالتزام ببعض الأخلاقيات الخاصة به بصفته حاكما ولا أقصد من الحاكم رئيس الدولة فحسب، بل أقصد أيضا كل من يتولى وظيفة اجتماعية تتصل بتحمل مسئوليات تتجاوز حدود مسئوليات الفرد العادي، ومن ثم كان عليه أن يتصف ببعض أخلاقيات خاصة، وأهم هذه الأخلاقيات ما يلي:
1-
فضيلة العدالة في الحكم1:
العدالة فضيلة في مجال الحكم وقصاص في مجال المعاملة، والعادل ممدوح في المجال الأول وليس بممدوح ولا بمذموم في المجال الثاني والحاكم مطالب بالعدالة وملزم بها بينما غير الحاكم مخير بين أخذ حقه كاملا بالتساوي وبين التجاوز عنه أو عن بعض حقه وإذا عفا يكون فاضلا وإن لم يعف لا يكون فاضلا ولا يكون كذلك ظالما: ذلك أن الإسلام قد حدد موقفه في ثلاث تصرفات أخلاقية في
1 عالج الدكتور محمد عبد الله دراز هذه النقطة باستفاضة في كتاب: في الدين والأخلاق والقومية ص27 وكتابه الآخر نظرات في القرآن ص67 ومعالجتي لهذه النقطة في ضوء فكره في هذين المرجعين السابقين.
التعامل الاجتماعي، فالأولى الأثرة: وهي مذمومة عموما إلا فيما يتعلق باسترداد الحقوق؛ لأن الأمر إذا كان متعلقا بالمال فاسترداد المرء لأكثر من حقه ظلم لأنه يعتبر غصبا أو ربا، والثانية: الإيثار وهو التجاوز عن حقه أو بعضه وهذا فضيلة؛ لأنه صدقة، والثالثة: العدالة وهي أن يأخذ حقه دون زيادة أو نقصان وهذا ليس بفضيلة ولا برذيلة، ولهذا ذم الله السلوك الأخلاقي الأول وأشاد بالثاني وسكت عن الثالث في قوله تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1. ونجد الروح نفسها في آية الربا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ، وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 2، وأوضح من هذا كله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 3.
هذا دليل نقلي والدليل العقلي يقتضي أيضا ألا يكون في العدالة فضيلة وقيمة أخلاقية في هذا المجال؛ لأنه لم يفعل شيئا سوى أن أخذ حقه كاملا، فالفضيلة تأتي من الإيثار وليس في ذلك إيثار ولا عمل من أجل الغير اللهم إلا
1 الشورى: 40-42.
2 البقرة: 278-279.
3 البقرة: 178.
أنه اعتدل في معاملته لغيره فلم يظلم ولم يتعد حدود حقه في مظلمته، أما العدالة في ميدان الحكم فقد جاء الثناء على العادل ووعد الله له بالمكافأة الجزيلة في الآخرة؛ لأن العدالة هنا منتهى الأخلاق وعدمها منتهى الظلم، وقد وردت نصوص كثيرة في القرآن والسنة تدعو الحكام إليها وتشوقهم وتحرضهم عليها وتنذرهم من الخروج على العدالة بالعقاب والعذاب الأليم، من هذه النصوص قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} 1، {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ} 2، {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 3.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة ومن غلب جوره العدل فله النار" 4، وقال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل وشاب نشأ في عبادة الله
…
" 5. وقال: "أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال" 6.
وهكذا نجد الفرق بين المقامين مقام الحكم ومقام المعاملة العادية، ولقد فرق الدكتور "محمد عبد الله دراز" أيضا بين المقامين فقال:"فمقام الحكم هو مجال العدل الدقيق الصارم ومقام المعاملة هو مجال العفو والمسامحة والمكارمة والمجاملة"7.
1 النحل: 90.
2 المائدة: 8.
3: المائدة: 42.
4 التاج جـ 3، ص 58، الله مع القاضي العادل.
5 التاج جـ 5، العدل أساس الملك ص 76.
6 المرجع السابق ص 77.
7 في الدين والأخلاق والقومية. د. محمد عبد الله دراز، ص33.
هذا فيما يتعلق بالحاكم بصفة الحاكم في مجال الحكم والقضاء، ولكن الأمر يختلف فيما يتعلق بحقوقه الخاصة في مجال التعامل الاجتماعي فالتجاوز عن حقه هنا يعتبر فضيلة بل أكبر من فضيلة تسامح أي إنسان؛ لأنه بالرغم من سلطته ونفوذه يتخلى عن حقوقه ويتسامح فيها، فالعفو عند المقدرة أكثر فضيلة منه عند العجز. والفرق بين المجالين أن الحقوق في المجال الأول حقوق الناس وهو مكلف برد الحقوق إلى أصحابها وليس له حق في التجاوز عنها بالمحاباة لقرابة أو شفاعة أو لمركز، ولهذا فلم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم شفاعة أسامة بن زيد في إقامة الحد على المرأة المخزومية التي سرقت قائلا:"أيها الناس إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"1.
وأما الحقوق في المجال الثاني فمن حقه التصرف فيها كما يشاء بالاسترداد أو بالعفو.
وهكذا نجد أن أخلاقية العدالة تختلف من الحاكم إلى غيره من حيث الفضيلة ومن حيث المسئولية أيضا.
2-
ومن أخلاقيات الحاكم المسلم أيضا عدم قبوله الهدية ممن يشمل عليه حكمه وسلطانه؛ لأن قبول الهدية يكون موضع سوء الظن من الناس لمحاباة الحاكم للمهدي، ولأن الإهداء إلى الحاكم يكون غالبا مصحوبا بالغرضية ويفيد الرشوة ثم إن الحاكم الذي يقبل الهدية يتأثر غالبا بالميل إلى الذي أهداه في القضايا والخصومات، ولهذا منع الرسول صلى الله عليه وسلم قبول ولاته وعماله الهدايا عندما حدث أن
1 صحيح مسلم تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي جـ 3 ص 1315.
أحد عماله قدم بصدقات جهة من الجهات وقال للرسول: هذا لكم وهذا لي قد أهدي لي فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي، فلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا، والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تَيْعَر" 1، وقال بعض العلماء: إنها لسحت وأن ما أخذ عليه رده إلى مهديه فإن تعذر فإلى بيت المال2.
3-
لقد جاء في أدب القاضي صفات كثيرة خاصة به ينبغي أن يتحلى بها في مجلسه ومعاشرته مع الناس ونذكر منها: كراهة مباشرته البيع والشراء، وألا تخل تصرفاته العامة مع الناس بالوقار والرزانة والنزاهة، ومن أدبه أن يسوي بين الخصوم في المقابلة ولو كان أحدهم عدوه، في الالتفات واللحظ والخطاب والدخول عليه والإنصات وما إلى ذلك3.
4-
خاصية المسئولية الأخلاقية للحاكم. إجبار المحكومين على تطبيق الأخلاق.
لقد بينا في المسئولية مدى مسئولية الفرد عن سلوك الغير ولكن هناك فرقا بين تلك المسئولية الغيرية للشخص العادي وبين مسئولية الحاكم عنها، ذلك أن الفرد العادي لا يستطيع إجبار الناس على تطبيق المبادئ الأخلاقية في الحياة العامة؛ لأنه لا يملك هذه السلطة بخلاف الحاكم فإنه مالكها وقد خوله هذا المجتمع فلا يكون له العذر بالعجز وإذا لم يطبق ذلك لعدم إيمانه بهذه المبادئ يكون كافرا
1 صحيح مسلم جـ 13، كتاب الإمارة، باب تحريم هدايا العمال ص 219.
2 المغني لابن قدامة جـ 10، كتاب القضاء ص 162.
3 المرجع السابق ص 163-165.
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 1؛ لأن الآية السابقة قد وصفتهم بالكفر لعدم إيمانهم بتلك المبادئ.
وإذا ترك ذلك إهمالا أو ظلما فيكون ظالما {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 2، ومعلوم أن هذه الآية قد نزلت بعد آية القصاص وإذا لم يطبق القصاص يظلم الناس بعضهم بعضا ويتعدون أكثر مما يتعدى عليهم وينتشر الثأر وهذا ظلم والسكوت على الظلم ظلم أيضا والقصاص يمنع الظلم؛ لأنه يمنع تجاوز الحدود في القود، ولهذا قال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} 3، وإذا أراد انتشار الفساد من عدم تنفيذ ذلك يكون فاسقا {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 4؛ لأن إرادة الفساد فسق {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} 5، والدليل على صدق ما نذهب إليه سياق هذه الألفاظ نفسها فهي تعبير عما يدور في نفوس أولئك الحكام الذين لا يطبقون تلك المبادئ لوجود إحدى هذه الحالات الثلاث وإلا فما الذي يمنعهم من تطبيق ذلك مع وجود إمكانات في أيديهم.
ولا ينبغي أن يفهم من الحاكم هنا -رئيس الدولة فقط- بل المقصود كل رئيس جماعة أو إدارة أو مؤسسة أو رب أسرة فكل واحد مسئول عن أخلاق مؤسسته أو إدارته أو بيته والسكوت على اللا أخلاقية مع قدرته على منعها يدل على اللا أخلاقية، ثم إن الفرد العادي غير مسئول عن البحث عن مواضع الفساد لإزالته وإنما هو مسئول فقط بحسب قدرته التي ذكرناها عن فساد يراه ولم ينكره
1 المائدة: 44.
2 المائدة: 45.
3 البقرة: 179.
4 المائدة: 47.
5 النور: 19.
أما الحاكم فمسئول عن فساد المجتمع ومواضع الفساد فيه أيضا. ولهذا فقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث المسئولية -الذي ذكرناه في المسئولية- كل صاحب أمر وسلطة مسئول عمن ينفذ عليه أمره وسلطانه اعتبارا من الأمير إلى رب الأسرة وقال عمر بن الخطاب: "والله لو أن ناقة انتكست في أصقاع العراق لكنت مسئولا عنها" لعدم تمهيده الطريق للمسافرين.
فمسئولية الحاكم أكبر وأوسع نطاقا من مسئولية أي فرد آخر وأن جزاءه كذلك أكبر ولهذا قال الر سول صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة" 1، وقال أيضا:"من من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة"2.
والآن بعد هذه المعالجة لهذا الموضوع ننتهي إلى أن الإسلام يعتمد في تنظيمه الأخلاقي للحياة الاجتماعية على فلسفته الأساسية في قيمة الفرد والمجتمع والسلوك الأخلاقي نفسه. فالفرد له طبيعته وشخصيته المستقلة ومن ثم له قيمة مستقلة أيضا وبناء على هذه الفكرة ينبغي احترام متطلباته الطبيعية عن طريق إتاحة الفرص لتحقيقها ومن ضمن متطلباته أن يعيش في مجتمع من جنسه وذلك ضرورة وفطرة.
ولكن الحياة في المجتمع تتطلب نظاما أو أخلاقا؛ إذ لو تركت الحرية للفرد لتحقيق رغباته فيها فقد يستغل المجتمع لتحقيق مآربه وحاجياته ويتخذ المجتمع وسيلة وغرضا، وهذا النظام ينبغي ألا يسمح باستغلال الآخرين والإضرار
1 التاج جـ 5، كتاب البر والأخلاق، باب أعظم الظلم ص 22.
2 المرجع نفسه ص22.
بهم في سبيل مصلحة الأفراد. ولكن ينبغي كذلك ألا يسمح للجماعة باستغلال أفرادها باتخاذهم وسائل لتحقيق أغراض وتسخيرهم لذلك إذ في ذلك إهدار لقيمة الإنسان ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"1.
إذن ينبغي أن تقوم هذه العلاقة بين الفرد والمجتمع على مبادئ أخلاقية من شأنها أن تمنع الاستغلال والتسخير من أحد الطرفين للآخر ومن شأنها أن تؤدي إلي التنسيق بين المتطلبات الاجتماعية والفردية وتؤدي في الوقت نفسه إلى حياة مستقرة آمنة مطمئنة، هذا ومن الضروري أن تكون هناك سلطة تنفيذية لتنفيذ هذا النظام لإرغام الناس على احترامه، وهذه السلطة يجب أن تخضع بدورها لمبادئ أخلاقية حتى لا تستغل نفوذها وتصبح مجتمعا مستغلا داخل المجتمع الكبير فيعيش على حساب المجتمع حياة مترفة باستعباد أفراده واستغلالهم لنفسه، إذن لا بد من أن تكون هناك أخلاقية خاصة للحكام تمنعهم من الاستغلال والسطو وتلزمهم بتنفيذ ذلك النظام لتأمين الحياة الاجتماعية.
وهكذا فعل الإسلام لقد راعى هذه الأمور كلها في نظامه الخلقي وحدد أخلاقية الفرد وأخلاقية المجتمع ثم أخلاقية الحكام ووفقا لهذه الفلسفة الأخلاقية وضع نظامه التشريعي في شئون الحياة في المجالات المختلفة.
1 الحديث الثاني والثلاثون من الأربعين النووية.