الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الافتتاحية
لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء
توجيهات عامة
الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، نسأله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن تبعهم بإحسان، وسار على نهجهم وتبع طريقهم واهتدى بهديهم في أقوالهم وأعمالهم، وثبت على ما ثبتوا عليه من الخير، وقام بمثل ما قاموا به من دعوة إلى الله، وتبصير عباد الله، وهدايتهم إلى طريق الله المستقيم، ندعو لهم بالرحمة والرضوان، ندعو لهم بالمغفرة من رب العالمين، نتذكر محاسنهم وفضائلهم ومكانتهم، نتذكر لهم جهادهم ونضالهم، نتذكر لهم صبرهم ومصابرتهم، نتذكر نصرتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم وجهادهم معه وبذلهم الغالي والنفيس في سبيل هذا الدين وإعلاء كلمة
فندعو الله لهم بالمغفرة، سبقونا بالإيمان والهجرة، سبقونا بالجهاد والدعوة إلى الله، سبقونا بكل خير، سبقونا بكل مكرمة وهدى، فرضي الله عنهم وأرضاهم ونسأله أن يجعل محبتهم في قلوبنا ثابتة، نحبهم في الله، ونواليهم في الله، ونعرف لهم فضلهم ومكانتهم وسابقتهم وهجرتهم وجهادهم.
أيها الإخوة:
إن خير ما يرشد الناس إليه وما يدعون إليه دعوتهم إلى كتاب الله العزيز للتدبر والتأمل والتعقل؛ لأن هذا القرآن العظيم خير ما وعظت به القلوب وذكرت به النفوس {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} ، {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} ، فالقرآن هو شفاء لأمراض القلوب والأبدان {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} ، إنه كتاب
الله، إنه الذكر الحكيم، والكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، إنه الرحمة المهداة:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} ، وكلما قرأ المسلمون كتاب الله بتدبر وتعقل وتأمل، ووقفوا عند كل وصاياه وأوامره ونواهيه وجدوا الخير العظيم والهدى الكثير، {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} ، فمن اتبع القرآن فإنه مهتدٍ وسعيد في الدنيا والآخرة، هو مهتد وليس بضال، وهو سعيد وليس بشقي، إنّ تدبر القرآن وتأمّله لأمر مطلوب منا:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} ، ولكن يحول دون تدبر القرآن الذنوب والمعاصي {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} ، نعوذ بالله من سوء الحال.
أيها الإخوة:
إن المسلم كلما قرأ القرآن وجد في كل آية من الحكم والخير العظيم ما الله به عليم، فإنه جامع لأسباب السعادة في الدنيا والآخرة، هو نظام هذه الأمة وهداها وعزها وكرامتها وشرفها {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} ، وقال جل وعلا:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} ، فهو شرف لهذه الأمة وعز لها، فهو خاتم كتب الله، هو آخرها عهدًا برب العالمين، جمع الله به معاني ما سبق من الكتب، وجعله مهيمنًا عليها؛ ليحق الحق ويبطل الباطل، قال جل وعلا:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} .
فعندما يتأمل الإنسان كتاب الله، وكل آية فيه يقول: لعلها أجمع من غيرها، وهو لا يزال في تدبر وتأمل ليعلم أن هذا القرآن كله خير وهدى وموعظة للقلوب وتذكير للنفوس، وتأصيل للخير في القلوب، وإني لأجدني أتحدث عن وصايا في كتاب الله يسميها العلماء الوصايا العشر، وهي آيات من كتاب الله ذكر الله فيها ثلاث وصايا:{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، إن هذه الوصايا المؤكدة الثلاث المختومة كل آية بالعقل والفكر والتقوى لجدير بالمسلم أن يتأملها ويتعقلها؛ لأنها وصية الله لعباده ووصية نبيه لأمته، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات من سورة الأنعام {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى آخر الآيات، حقا إنها وصايا يجب العناية بها، والوقوف عندها؛ لأن فيها صلاح القلوب والأعمال، ولأن فيها الدعوة إلى الخير؛ ولأن فيها المنهج المستقيم الذي إذا سار المسلمون عليه نالوا من الله السعادة في الدنيا والآخرة، ومحمد صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بشرع الله؛ لأنه قال لنا: «وإني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله
…
» (1) فكتاب الله وصيته لأمته، وإن هذا الكتاب إن لزموه فلن يضلوا
(1) أخرجه مسلم في صحيحه ح 2408، بلفظ:((وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به))، وأخرجه الترمذي في سننه 5/ 663 ح3788، بلفظ ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله
…
)).
بعده، بل سيكونون في سعادة وهناء، وخير في حياتهم وفي برزخهم ويوم معادهم.
وهو صلى الله عليه وسلم لا يوصيهم إلا بكتاب الله؛ ليتدبروه ويتعقّلوه، وليتأملوا معانيه؛ ليروا الحق على حقيقته، والباطل على حقيقته، قال جل وعلا في سورة الأنعام في الثمن الأخير منها:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
حري بالمسلم أن يقف عند هذه الآيات، وينظر أهو ملتزم بها حقاً، أم هناك إخلال ببعض هذه الوصايا، فإن كان ممن التزم بها حقًا فليحمد الله على هذه النعمة، وليعلم أن الله أراد به خيرًا وسعادة، وأراد به علوًا ورفعة في الدنيا والآخرة، وإن يكن أخلّ بشيء من
ذلك فليراجع نفسه، وليحاسب نفسه على النقص الذي حصل عليه، والتقصير الذي وقع فيه، هكذا المسلم، فإن القرآن ميزان الأخلاق والأعمال، فمن وزن أعماله بكتاب الله لينظر هل أعماله توافق كتاب الله وسنة نبيه، فتكون حقًا يلزمه، أم تكون أعماله تخالف كتاب الله والسنة فيكون باطلاً يجب أن يبتعد عنه، هكذا المسلم حقًا، يزن أعماله وأقواله بالكتاب والسنة، فما وافق الكتاب والسنة فهو الحق المقبول، وما خالف الكتاب والسنة فهو الباطل المردود، هكذا يجب على كل مسلم أن يكون هذا هدفه في الحياة ليكون من عباد الله المتقين وأوليائه الصالحين، الله يقول:{قُلْ تَعَالَوْا} ، يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بدعوة العرب إلى هذا الدين، ودعوتهم إلى هذه الوصايا العظيمة، تعالوا وهلموا وأقبلوا، أقص عليكم ما حرم ربكم حقًا لا ظنًا ولا تخرصًا ولكن بوحي منه أوحاه إلي سبحانه:{تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} ، أقص عليكم ما حرم ربكم حقًا لا ما حرمتموه على أنفسكم بمجرد الظنون والأوهام، وما كنتم عليه في جاهليتكم من تحريم السوائب وغير ذلك، وما كنتم عليه من الضلالات والخرافات، أقص عليكم ما حرم عليكم، وأقص لكم ما أوجب الله
عليكم، وأوضح لكم المنهج القويم الذي تسيرون عليه في حياتكم؛ لتكونوا من السعداء حقًا، وهذه الآية مكية؛ لكنها عظيمة الشأن لمن تعقل وتدبر، هي مكية لكنها اشتملت على وصايا عديدة؛ لأن القرآن كتاب الله سبب للسعادة في الدنيا والآخرة، {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} ، الشرك بالله أعظم الذنوب، الشرك بالله أعظم الظلم، الشرك بالله غاية الجور والطغيان، الشرك بالله أكبر الكبائر، الشرك بالله أعظم محبط للأعمال الصالحة، الشرك بالله موجب للخلود في النار لمن لقي الله غير تائب ولا نادم، نعم، الشرك بالله أكبر الذنوب وأعظمها؛ لأنه مناقض للحكمة التي من أجلها خلق الله الثقلين الإنس والجن، فإن الله خلقنا جميعًا جنّنا وإنسنا لعبادته وحده لا شريك له؛ لنعمر الأرض بطاعته، ونقيم عليها شرع الله، ونتوجه بقلوبنا إلى الله محبة وخوفًا ورجاء، هكذا أمرنا {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} ، فالحكمة التي من أجلها خلقنا هي عبادتنا لله وحده لا شريك له، وإخلاصنا لدين الله، وتوجهنا بقلوبنا في دعائنا واضطرارنا ورجائنا واستغاثتنا
واستعانتنا ورغبتنا ورهبتنا، أن نتوجه بكل ذلك إلى الله وحده؛ لأنه جل وعلا خالق للكون كله، خلقنا وخلق من قبلنا ومن بعدنا، وخلق الكون كله، فهو مالك الدنيا والآخرة، خلقنا أيها العباد وما خلقنا ليستكثر بنا من قلة، ولا يستعزّ بنا من ضعف، ولا ليستغني بنا من فاقة، فهو الغني الحميد، وهو القوي العزيز، وإنما خلقنا لنعبده وحده لا شريك له؛ لنقيم دينه بعبادته وحده لا شريك له، ونعتقد أن كل معبود عبد من دون الله فهو باطل:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} ، فكل عبادة لغير الله فإنما عبدت بالباطل والضلال، والرسل جميعًا إنما أرسلوا لهذه الغاية الوحيدة، دعوة العباد إلى دين الله، إذ لما وقع الشرك في قوم نوح، بعث الله نوحًا إلى قومه يدعوهم إلى عبادة الله وإخلاص الدين لله ويحذرهم من أصنامهم التي كانوا يعبدونها {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} ، يدعوهم إلى إخلاص الدين لله، يدعوهم إلى إفراد الله بالعبادة فكذبوه وخالفوا أمره {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ} ، مع أنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، وهكذا جميع الرسل كما
أخبر الله عنهم في كتابه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} ، فالرسل جميعهم دعوتهم واحدة اتفقوا عليها كلهم أن كل واحد منهم يقول {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، أخلصوا لله العبادة، فما لكم إله غير الله تدعونه، ومالكم من إله غير الله ترجونه، ومالكم من إله غير الله تعلّقون به آمالكم ورجاءكم؛ لأن كل هذه المخلوقات أمثالكم، كما قال جل وعلا:{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وكل المعبودات مخلوقات، لا يجوز أن يعطى شيء من حقوق الله جل وعلا لغيره من المخلوقات، فالأنبياء والمرسلون إنما جاؤوا ليقولوا للخلق:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} هكذا دعوة الرسل جميعًا، يدعون إلى توحيد الله، إلى إخلاص الدين لله، المشركون ما كانوا يقولون إن أصنامهم تخلق أو ترزق أو تدبر أمر من دعاها، ولكنهم يقولون عن هذه المعبودات: وسائط بيننا وبين
ربنا وشفعاء لنا عند ربنا، يرفعون لله حاجاتنا وضرورياتنا، نتوسل بهم إلى ربنا، هذا هو الشرك العظيم؛ لأن القلب التفت لغير الله، وتأله غير الله، وقصد غير الله، وكان رقيقًا عبدًا لتلك المعبودات، والإسلام جاء ليحرر العقول من هذه الخرافات، ويقيم الدين كله لله، ويخبرهم أن الملائكة والأنبياء ليس لهم حق في العبادة، ليس لهم حظّ في جانب العبادة، إنما الأنبياء دعاة إلى الله وإلى دينه، وأما العبادة فإنها لمستحقها وهو الرب جل وعلا، المشركون عبدوا تلك الأصنام والأوثان ما بين أشجار وأحجار وما بين أموات وغائبين، وما بين جن وشياطين، يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، ويقول سبحانه:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .
المشركون عبدوا غير الله، وتعلقت قلوبهم بهذه المألوهات التي ألهوها، وبهذه الأشجار والأصنام والأوثان التي عبدوها، فجاءت
الرسل توقظهم من غفلتهم، وتعيدهم إلى رشدهم، وتبين خطأ ما كانوا يعبدون. هذا إبراهيم عليه السلام وموقفه من قومه، وتحطيمه الأصنام التي يعبدونها، وتعليقه الفأس عليها وقوله:{فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} ، وهذا محمد صلى الله عليه وسلم يمكث بمكة بضع عشرة سنة، كلها مركزة للدعوة إلى توحيد الله، يدعو العرب قومه إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، يدعوهم إلى أن يتركوا تلك المعبودات والأوثان، تلك المعبودات من أشجار وأحجار وأصنام وأوثان وغير ذلك، يدعوهم إلى أن تكون العبادة لله، وأن تتوجه القلوب إلى الله، وأن يتجردوا من هذه الضلالات والخرافات، بقي في هذا الزمن الطويل بقية في صراع مع العرب، في صراع مرير وجهاد عظيم كما أخبر الله عنهم أنهم عرفوا ذلك الحق ولكنهم استكبروا وأبوا:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} ، إنه دعاهم إلى كلمة واحدة إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، فلما علم القوم أن هذه الكلمة تقضي على كل المعبودات، وتوجب إخلاص العبادة لله، وأن كل معبود من دون الله انتهى دوره، ولا حقيقة له، ولا قيمة له، أبوا أن
يقولوا: لا إله إلا الله، لو كان الهدف النطق بها لأجابوه؛ ولكن العرب أهل فصاحة وبيان، يعلمون مراد المتكلم من كلامه، هدفه من مقاله، فقالوا كما قال الله عنهم:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} ، يستكبرون ويأبون أن يقولوها {وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} ، وصفوا النبي صلى الله عليه وسلم بالشعر والجنون، يريدون الحط من قدره ودعوته، ولكنه صابر محتسب، المهم أنهم فهموا الحقيقة، وعلموا ما دُعُوا إليه، قال الله جل وعلا عنهم: إنهم قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} ، يقولون: إن محمد بن عبد الله أراد أن يجعل الآلهة المتعددة إلها واحدًا، ويمنعنا من اللات ومن مناة، ومن العزى، ومن، ومن .. ، يريد إلها واحدًا يدعى، إلهًا واحدًا يرجى، إلهًا واحدًا يسأل، إلهًا واحدًا يستغاث به، إلهًا واحدًا يلتجأ إليه، وإلهًا واحدًا يستعان به، وإلهًا واحدًا يخاف منه، وإلهًا واحدًا يرهب، علموا هذا الأمر وعلموا أن الدعوة، دعوة إلى التوحيد الخالص الصادق، لكن القلوب فيها من الزيغ والضلال ما الله به عليم، فقالوا:
{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} ، يرون هذا عجبًا أن يدعوهم محمد بن عبد الله إلى إله واحد، ويبعدهم عما كانوا يعبدون هم وآباؤهم وأسلافهم من هذه المعبودات المتنوعة الضّالة، قال الله جل وعلا عنهم: إنهم قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} ، والله جل وعلا أخبر: أن هذا التوحيد هو الأصل، وأن الشرك ضد التوحيد ومناقض له، كما قال جل وعلا:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} ، فالشرك بالله أعظم الظلم، قال الله عن لقمان: إنه قال لابنه: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، أيّ ظلمٍ أعظم من ظلم الشرك، فالله خلقه، والله رزقه، والله الذي أوجده من العدم، والله هو الذي رباه بالنعم، والله الذي يكلؤه بليله ونهاره، والله متكفّل برزقه، والله، والله .. ، ثم جعل إلها آخر يتعلق قلبه به، ينسى خالق الأرض والسماوات، ينسى من يقول:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} ،
نسي قوله: {أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} ، ينسى قوله:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ، وينسى قوله {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ، ينسى قوله:{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} ، فيأتي القبور والأموات ليطوف بهم ويستغيث بهم، ويصرف حق الله لهم، ويزعم أن هذه المخلوقات وهذه المألوهات بأنها تنفعه وتضره، وأنها تخلصه وأنها تقربه إلى الله زلفى كأن في نفسه - والعياذ بالله - تقليلاً لعلم الله وانتقاصًا بعلم الله وإحاطته بخلقه، وكأنه يستعطف الله على خلقه، ولم يعلم أن الله أرحم الراحمين، رحمته وسعت كل شيء، هو أرحم بعبده من الوالدة بولدها، ينسى المشرك كل هذه الأشياء ويأتي لهذه المعبودات يرجوها، ويطلب منها، والله جل وعلا خاطب نبيه بقوله الكريم:
{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} ، وقوله:{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
إن التوحيد لله خالص، ليس لأحد فيه نصيب، لا النبي ولا الملائكة ولا سائر الأنبياء كلهم، ولا الأولياء، ولا الصالحون، التوحيد الخالص لله، هو حق الله على عباده، يجب أن يفرد الله به؛ لأن هذا هو الدين الحق {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} ، {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} .
لقد دعا محمد صلى الله عليه وسلم إلى هذا التوحيد، عاش بمكة يناضل ويجادل ويدفع الباطل بالحق، ويدحض الباطل بالحق، والقوم مصرون على باطلهم، كما أخبر الله عنهم أنهم تعلقوا بأصنامهم وأوثانهم، وقالوا: يريد محمد أن يضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها، يريدون أن يبقوا على هذا الضلال، وعلى هذه الخرافات الباطلة التي ضلت بهم عن سواء السبيل، إن محمدا دعاهم إلى توحيد الله فقال جل وعلا:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} ،
فقد حرم عليكم الشرك به، وحرم عليكم عبادة غيره، وحرم عليكم تعلقكم بغير الله، وأوجب عليكم عبادة الله، وإخلاص الدين له، ومحمد صلى الله عليه وسلم من أعظم الخلق هروبًا عن الشرك وتحذيرًا منه، وهو القائل:«اللهم لا تجعل قبري ثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (1) وهو القائل: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (2) تقول عائشة: يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا. إن الدعوة إلى التوحيد وتأصيله في النفوس أمر مهم فوق كل الأعمال؛ لأن صحة هذا التوحيد وسلامته من مضادّه سبب لصلاح الأعمال والأقوال، وإن فساد هذا التوحيد فساد لكل الأعمال، قال تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} ، فالأعمال إذا اختلت، ضعفت العقيدة في القلب، وضعف اليقين في القلب، فكل الأعمال تعتبر باطلة وحابطة، لا اعتبار لها ولا ميزان لها، وإنما ينظر في الأعمال عندما تصح العقيدة عندما يقوى الإيمان في
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 2/ 246.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه ح425، ومسلم في صحيحه ح531.
القلب، ولهذا من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم دعا قومه إلى توحيد الله فأسلم من سبقت له من الله السعادة، وشقي من حيل بينه وبين ذلك. أتى لعمه أبي طالب في آخر رمق من حياته، يقول له:«يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاجّ لك بها عند الله» (1)؛ لأن عمه أبا طالب الذي نصره وأيده، وقف كل المواقف معه، مع هذا هو غير مسلم، عاش على ضلاله لما لله في ذلك من حكمة، فهو يأتيه في آخر حياته لعل الله أن ينقذه من النار، لعله أن ينطق بلا إله إلا الله، لعلها تكون آخر كلامه، فيختم له بخاتمة خير، وعنده أبو جهل وأضرابه فقالوا: أترغب عن ملة عبد المطلب؟؛ لأن ملة عبد المطلب عبادة الأصنام والأوثان، فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم، فأعادوا عليه، فقدّر الله ما قدّر، وقال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. انظر إلى حرص شياطين الإنس والضلال على إفساد العباد وعلى إبعادهم من الخير، والغش والخيانة بعلاقتهم، يريد إنقاذه من النار، وإبعاده من النار، وتخليصه من النار؛ ولكن دعاة الباطل وجلساء السوء ذكّروه بالحجّة الشيطانية، ملة عبد المطلب، كما قال جل وعلا:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} .
(1) أخرجه البخاري في صحيحه ح1360، ومسلم في صحيحه ح24.
إن محمدا صلى الله عليه وسلم اهتم بالتوحيد، من أول ما بعث إلى آخر رمق من حياته، وهو مهتم بهذا التوحيد دعوة إليه وترغيبًا فيه، وتحذيرًا من الشرك صغيره وكبيره، وحماية لجناب التوحيد، وإغلاق كل الطرق الموصلة والمفضية إلى الشرك، وهو القائل:«لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله، فقولوا عبد الله ورسوله» (1) وهو القائل: «إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو» (2)
(1) أخرجه البخاري في صحيحه ح 3445.
(2)
أخرجه الإمام أحمد 1/ 215،ح1851.
ثم يقول جل وعلا: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} ، وأتلو عليكم ما أوجب الله عليكم من الإحسان بالوالدين، والإحسان إليهما، يكون بالأمور التالية:
أولاً: بالإنفاق عليهما.
ثانيًا: خدمتهما برعايتهما وبخطابهما بالخطاب اللّين الذي يشفّ عن الرحمة والإحسان؛ لأن الأبوين هما السبب في وجودك بعد الله، فواجب عليك أن ترعى حقهما، وأن تحسن إليهما، وأن تحترمهما، وأن تعرف لهما مقامهما ومكانتهما، فإن الله جل وعلا أوجب حقهما بعد حقه، وقرن حقه مع حقهما، في آي من القرآن
كما في هذه السورة، والنساء، وكما في سورة لقمان والعنكبوت وفي الأحقاف وغيرها. وصية بحق الوالدين توجب حقهما، وتوجب الإحسان إليهما، فتحسن إليهما قولاً، لتخاطبهما بكل خطاب لين، قال جل وعلا:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} .
إذًا فالإحسان بالقول الطيب، ثم الدعاء لهما أن يحسن الله إليهما وأن يجازيهما عنك خيراً، ثم الإحسان بالنفقة والإحسان بالسكنى، والإحسان بالخدمة، والإحسان بالسمع والطاعة لهما في المعروف، فإن هذا من البر بالأبوين يجعل فيه خيرًا كثيرًا، وعملاً عظيماً، ليبارك الله للعبد في عمره، ويبارك له في ولده، ويبارك له في ماله، ويبارك له في أوقاته، يهيئ الله له من ذريته من يخدمونه، ويحسنون إليه، ويرعون حقه، ويقوم بواجبه جزاء لما قدم للوالدين من الخير العظيم. النبي صلى الله عليه وسلم جعل بر الوالدين مقدمًا على جهاد التطوع، فإنه لما قال له رجل: «يا رسول الله، إني أبتغي الجهاد؟،
قال: ((أحي أبواك))، قال نعم، قال:((ارجع ففيهما فجاهد))» (1) فجعل برهما والإحسان إليهما جهادًا في سبيل الله؛ لأن هذا أمرٌ ما تقوى عليه إلا النفوس الطيبة، إلا النفوس ذات المروءة والأخلاق والمكارم، الذين يعرفون للمروءات حقها، ويقابلون الجميل بالجميل والفضل بالفضل، إن المخلوق لو أحسن إليك يومًا لكان في قلبك محبة له، ومودة له، وقرب منه؛ لأجل إحسانه لك بأمر ما، من الأمور، إما ماديًا أو معنوياً، والأبوان قد قدما لك خدمة عظيمة، وخيرًا كثيرًا، فالأمّ تحملت المشاق بالوحم والحمل والوضع والإرضاع والحضانة والخدمة إلى أن كبر سنك واستقر حالك، والأب كم شقي بطلب الولد، وكم أنفق، وكم بذل، وكم وكم، وكم وفّر للأولاد من الخير، أفحقهما بعد ذلك أن يهجرا، أفحقهما أن ينسيا، أفحقهما أن يهانا ويذلا، أفحقهما أن يرميا في دار العجزة، وكأنه لا يعرفهما، ولا ينتبه إليهما، إن العقوق دليل على ضعف المروءة، وقلة الوفاء، وسوء الأخلاق، وقلة الحياء، وإن البر علامة للوفاء، وحسن الخلق، وقوة الإرادة، وعظيم المروءة، فلا يقابل بر الوالدين والإحسان إليهما إلا ذوو التق، ولهذا جعل الله عقوقهما طريق العصيان والشقاء، قال سبحانه في
(1) أخرجه البخاري في صحيحه ح 3004، ومسلم في صحيحه ح 2549.
حق يحيى عليه السلام: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} ، وقال في حق عيسى ابن مريم عليه السلام:{وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} ، فجعل العقوق شقاء، العاقّ شقي بلا إشكال، والعاقّ عاصٍ بلا إشكال، والعاقّ ذليل مهان بلا إشكال، والعاقّ في نفسه قلق مضطرب، غير مستقرة حياته لتعاسته، فحياته شقاء، ولا يهنأ بعيش، ولا يتلذذ بأولاد، ولا يهتني بطعام، ولا يتلذذ بمنام، بل المصائب تتوالى عليه وتتتابع عليه، لمن عقل وتدبر وتعقل.
والنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن برهما سبب لتفريج الكربات، والنجاة من المائق عندما تقع، ففي قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار، ثم أطبقت عليهم الصخرة، فحالت بينهم وبين الناس، ولم يجدوا سبيلاً، إلا أن يتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم، والتوسل إلى الله بصالح العمل أمر مطلوب، قال أحدهم: «اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، كنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي طلب الشجر يومًا فلم أرح حتى ناما، فحلبت غبوقهما وكرهت أن أوقظهما، والصبية يتضاغون عند قدمي، فلم أعطهم شيئًا حتى استيقظا، فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك
ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه، قال: فانفرجت الصخرة لكنهم لا يستطيعون الخروج منها» (1) فالمهم أن هذا البرّ نجاهم من بلاء، وخلصهم من مضائق، وهكذا البرّ يحفظ الله البار في نفسه، ويحفظه في أهله، ويحفظه في ماله، وتحيط به عناية الله، ويعيش في أمان واطمئنان، وراحة بال، وانشراح صدر، وقرة عين. والبرّ بالوالدين سبب لبركة العمر، يقول صلى الله عليه وسلم:«من أحب أن ينسأ له في أجله، ويبسط له في رزقه فليصل رحمه» (2). وأي رحم أعظم، وأفضل وأقدم من رحم الأب والأم.
أيها المسلم:
إن الإحسان للأبوين عمل شريف وعمل تتفق الفطر على استحسانه، ولا يرفضه ويشك فيه إلا شقي والعياذ بالله، الإسلام ربى أبناءه على هذا البر ليبني المجتمع بناءً متتابعًا، بناء على الخير والمحبة والاتصال الصحيح. إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل البرّ بالأبوين يمتدُّ حتى بعد موتهما: «الرجل يقول: يا رسول الله، هل بقي من برّ أبَوَيّ شيء أبر بهما بعد موتهما، قال:((نعم، الصلاة عليهما))، أي الدعاء، ((الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام
(1) أخرجه البخاري في صحيحه ح2272، ومسلم في صحيحه ح 2743.
(2)
صحيح البخاري البيوع (2067)، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2557)، سنن أبو داود الزكاة (1693)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 247).
صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما))» (1)
فمن برّهما أن تصل أرحامهما، أقرباءهما، وأن تبرّ صديقهما، وتحسن إليه، وتعرف له فضله ومكانته، وأن تُنْفِذ عهودهما ووصاياهما، وأن تسعى في قضاء دينهما، إن كان عليهما دين.
فقد أتى رجل لابن عمر رضي الله عنهما وهو في سفره، ومعه راحلته وحماره يرتاح عليه عند التعب من الراحلة، فجاء هذا الرجل وسلم عليه، وهو أعرابي، فسأله فأخبره عن اسمه فأعطاه حماره وعمامته التي كانت عليه، فقيل: يا ابن عمر إنهم الأعراب، يكفيهم القليل، قال: إن أبا هذا كان صديقًا لعمر، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إن أبرّ البر إكرام الرجل أهل ودّ أبيه» (2)
وزار أبا بردة الأشعري، وقال: ما أتيتك إلا أن أباك كان صديقًا لعمر.
هكذا المؤمنون الصادقون، هكذا كانوا يقبلون النصوص ويطبقونها.
ومرة طاف ابن عمر بالبيت الحرام، فجاء رجل حاملاً أمه على ظهره، يطوف بها فقال: يا عبد الله بن عمر، أتراني أدّيت حق أمي،
(1) أخرجه أبو داود في سننه ح5144.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه ح2552.
قال: لا، ولا طلقة من طلق الولادة، ولكنك محسن والله يثيبك. ولقد كانوا يتقربون إلى الله ببرّ الأمهات والإحسان إليهن، وللآباء أيضًا، حتى ما كانوا يخاطبون الأب باسمه، ولا الأم باسمها تأدبًا، بل يقولون: يا أبتاه، ويا أماه.
كل هذا من الأمور المهمة التي يجب أن يربى النشء عليها، وأن يشعر الأبناء والبنات من الأب والأم بالعناية بأبيهما وأمهما، فإذا رأى الأولاد أباهم وكيف يعامل أباه بالاحترام، والإجلال والتقدير، ورأوا كيف يعامل أمه بالإكرام والاحترام والتقدير، نقلوا ذلك الأدب الحسن والخلق الجم وتأثروا به، نشؤوا عليه، لكن إذا رأوا أباهم مهينا لأمه، عاصيًا لها جافيًا في معاملاتها، يخاطبها بأسوأ قول، وأقبح لفظ، فإنهم ينشؤون على هذا الخلق الذميم، والخلق القبيح، والخلق السيئ، الذي لا يرضى به مؤمن بالله واليوم الآخر.
ثم يقول جل وعلا: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} أمر بإكرام الأولاد، والإحسان إلى الأولاد، وحسن تربية الأولاد، والقيام بحقهم واحتساب ذلك عند الله، ولقد كانوا في جاهليتهم يقتلون الأولاد، يئدون البنات {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} ، والأنثى يقتلونها إما خوفًا من العار أن
، الصحة رقم: 32
يلحق بها بعد كِبَرها، أو خوفًا ألا تقوم بخدمة نفسها، وطلب الرزق، أو يقتل الولد ولو كان ذكرًا خوفًا أن ينافسه على مطعمه ومشربه؛ لأن الثقة بالله منعدمة في قلوبهم، ينظرون إلى الساعة الراهنة، ولا يؤملون في البعيد، ولهذا ذكّر الله العباد بنعمه فقال:{وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، وقال:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .
والملك يأتي الجنين عندما يمضي مائة وعشرون يومًا، ليكتب رزقه وأجله وعمله، وشقيًا أو سعيدًا، والله يقول:{نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} ، الرزق من الله لكم ولهم، فضل الله عام، ولهذا رغّب بالنفقة على الأولاد، وجعل الإنفاق عليهم من أهم النفقات وأفضلها، «وكفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول» (1)«ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» (2)
(1) أخرجه النسائي في السنن الكبرى 5/ 374 ح9176.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه ح 997، بلفظ:((ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك)).
حرّم علينا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، حرّم علينا معاصيه، فإنها فحش وسوء عاقبة، حرمها علينا ظاهرها وباطنها، فباطنها أن يكون في قلبك والعياذ بالله حبّ لهذه المعصية، وتمن لهذه المعصية، ورغبة في هذه المعصية، وتفكير في هذه المعصية، واستئناس بالتحدث عن النفس بالمعصية، وظاهرها فعل المعاصي ومباشرتها، والله جل وعلا وصفها بأنها فاحشة، يقول سبحانه:{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا} .
ووصف عمل قوم لوط بالفاحشة حيث قال: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} ، فحذرنا من الفواحش ظاهرها وباطنها، فواحش القلوب حب الشر والأنس به، وكون المعاصي خفيفة في قلبك، وليس في قلبك تعظيم لحرمات، وليس في قلبك كراهية حرمات الله، والله يقول:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} ، فتعظيم المسلم لحرمات الله في قلبه، واعتقاد فسادها وشرها، وأن الخير والسعادة في البعد عنها، هذا هو الخير العظيم.
{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، حذرهم من قتل النفس بغير حق؛ لأن الواجب المحافظة على النفوس البشرية، وأن الأصل فيها حرمة الدماء، وأن الدماء المعصومة محرمة، وأن قتل النفس بغير حق من أعظم الكبائر، بل هي مفسدة تلي الشرك بالله.
فالشرك بالله أبغض المعاصي إليه، يليه سفك الدم الحرام بغير الحق، فقد جعل الله قتل النفس الواحدة كقتل الأمة كلها، كما قال جل وعلا:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} ، ورتب على قتل النفس بغير حق الآثام العظيمة، والأوزار الكبيرة، فرتب عليه خمس عقوبات، وهي من أشد العقوبات:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} ، ولا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا، فالمسلم يحترم النفوس البشرية، ويعلم أن عدو الله إبليس يفرح بالعبد في غضبه؛ ولأن
زوال الدنيا بأسرها أهون عند الله من قتل مسلم بغير حق، ونعوذ بالله من الشر والبلاء، فقتل النفوس مصيبة، وحفظ الدماء واجب، دماء المسلمين ودماء المعصومين، ودماء المعاهدين، ودماء المؤتمنين، كل هذه يجب مراعاتها وحفظها، والعناية بها:«فمن قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة» (1)؛ لأن المعاهد والمستأمن، من له عهد أو ذمة أو دخل بأمان، يجب أن نحترم دمه وأن نحفظ عليه ذلك، قال جل وعلا:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} .
والمسلمون أوفياء بالعهود، ولذلك قال الله في سورة الأنفال:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} ، فاحترام النفوس من أعظم الواجبات، أن تحترم النفس وتدعها تعيش بأجلها المكتوب لها، وإن الإقدام على قتل النفوس إنما هو من المصائب، فقد أجرى الله سنته في القاتلين أنهم في قلق في حياتهم، وشقاء في حياتهم، وأن مآلهم النار، والعياذ بالله، حتى إن من العلماء من لا يرى توبة القاتل، وأنه قد
(1) أخرجه البخاري في صحيحه ح1366.
أتى بجرم وإثم عظيم، نسأل الله العافية.
وقص الله قصة ابني آدم، وما جرى بينهما، نعوذ بالله من البلاء. ثم قال:{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، تعقلون عن الله المراد فتجتنبون ما نهيتم عنه، وتلتزمون الخط المستقيم، والطريق الواضح المبين.
ثم قال جل وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} ، اليتيم فاقد الأب يجب احترامه ورعايته؛ لأن المسلم أخو المسلم، يرعى الصغير كما يرعى الكبير:«لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (1) ولما كان اليتيم قد تؤكل أمواله، ويستغل صغره وجهله، وعدم علمه فيتولى أموالهم من لا يحسنها، ولا يحسن العمل فيها، ولا يخاف الله ولا يراقبه فيها، فقد جاء التحذير في سور القرآن: في النساء وفي الأنعام، وفي الإسراء، وفي سورة الماعون، التحذير من أكل أموال اليتامى فقال سبحانه:{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، أي أحسن له وأرفق لماله، وأنمى لهذا المال لا من أجل شهواتكم وأهوائكم، قال تعالى:{وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} ،
(1) أخرجه البخاري في صحيحه ح13، ومسلم في صحيحه ح45.
فقد جعل مال اليتيم لآكله خبيثًا؛ لأنه أخذه بغير حق: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} ، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}
وكانوا في الجاهلية إذا كانت اليتيمة امرأة لها مال وجمال حجروها لأنفسهم، وإن كانت ليست ذات مال وجمال لم يهتموا بها، فحذرهم الله من ذلك وقال:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ انِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} ، وقال:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} ، فحذرهم من ذلك، وأمرهم بالعدل في الأيتام ذكورًا وإناثًا، وقال صلى الله عليه وسلم: «إني أُحرِّج حق الضعيفين المرأة
واليتيم» (1) فأموال اليتامى وحفظها وصيانتها، والدفاع عنها والائتمان عليها من أخلاق المؤمنين.
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 2/ 439 ح9664. وابن ماجه في سننه ح 3678.
ثم قال جل وعلا: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} ، أمر المسلمين في معاملاتهم أن يلزموا العدل في تعاملهم فيما بينهم وبين عباد الله، فإن المطففين إن كان الحق لهم استوفوه، وإن كان لغيرهم نقصوه، وهكذا كثير من الناس، إن كانت الحقوق لهم سعوا في طلبها، وإن كانت عليهم ماطلوا بها، إن كان للعمال حقوق طالبوهم بالخدمة، وطالبوهم بالقيام بالواجب، ولكن حقوق العمال في ذممهم، تكون ثقيلة عليهم وشاقة عليهم، فيماطلون ويؤخرون، ويرجئون ويتلاعبون، ولهذا قال الله:{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} ، أي بالعدل، فكما أن هذا في الكيل والوزن، فكل الحقوق سواء، كما في الحديث:«من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه» (1)
(1) أخرجه الإمام أحمد 2/ 161 ح650 و6503، ومسلم في صحيحه ح1844.
ثم قال: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} ، إذًا كما أمرنا الله بالعدل في الأفعال، أمرنا أيضًا أن نعدل في الأقوال، فنتقي الله في أقوالنا، ونتقي الله فيما نقول، فلا نقول سوءًا، ولا نمشي بنميمة، ولا نسعى بغيبة، ولا نرمي الناس بما هم براء منه، ولا نسيء الظن بهم، ولا نتدخل في سرائرهم وضمائرهم، بل نكل أمرهم إلى الله، فمن أظهر الخير والصلاح والتقى أحببناه، ومن أظهر الباطل كرهناه على قدر باطله، لكننا لا نتدخل في نوايا الناس، فأمر العباد إلى الله جل وعلا، فنكون عادلين في أقوالنا غير جائرين، من أظهر باطلاً ناقشناه على قدر باطله وخطئه، نحب المؤمن لخيره، ونكره ما فيه من شر؛ لكننا لا نجعل الباطل قاضيًا على الحقوق، ولا نجعل الخطأ ملغيًا لكل المحاسن، فالعبد يشتمل أحيانًا على خير وشر، يكون فيه جوانب من الخير تحبها، وجوانب من النقص تكرهها؛ لكنك إذا قلت فلا تنس الفضائل، والأعمال الطيبة، ولا تجعل السوء نصب عينيك، وتنسى فضائله وأعماله الصالحة، فلو تفكرنا في أنفسنا، وقوّمنا عيوبنا وتقصيرنا، لوجدنا أننا مقصرون، وأن فينا من الأخطاء ما يجب أن نصلحه قبل أن نسعى في إصلاح الناس، كم من شامت بالناس ومسيء إليهم وهاتك لعوراتهم، يذله
الله: «يا معشر من آمن بلسانه، ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فمن تتبع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته أخزاه في جوف بيته» (1) وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: «خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله، وشرار عباد الله المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرآء العنت» (2) هؤلاء والعياذ بالله، يتظاهرون بالخير معك، وبحسن الأخلاق معك، وهم في باطن الأمر يسعون بإلحاق الضرر بك إن شئت أم أبيت، علمت أم جهلت؛ لأن صلتهم بك، إنما هي للمصالح والفوائد، المصالح المادية، ولكنهم أعداء للأخلاق والكرامة والفضائل نعوذ بالله من سوء الحال. ثم قال جل وعلا:{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} ، بعهد الله الذي عهد إليكم، بدينه الذي أمركم به وفرائضه التي ألزمكم بها، احفظوها والزموها:{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ، ثم قال لهم:
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 4/ 420 ح20014، وأبو داود في سننه ح4880.
(2)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده 4/ 227 ح18161.
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} ، سبيل الله دينه، كتابه وسنة رسوله، أوامره ونواهيه، الآداب والأخلاق الفاضلة، والتحذير من الأعمال السيئة، هذا سبيل الله فاتبعوه، وسيروا على نهجه واحذروا السبل المؤدية إلى الضلال والغواية المتباينة والمتنوعة التي على كل سبيل شيطان، يدعو إليه وعلى كل ضلالة داع إليها:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} ، فسبل الشياطين سبل الفساد، دعاة الضلال ودعاة الانحراف عن المعتقد السليم، دعاة التغريب، دعاة الذين يحاولون إفسد دين الناس والإساءة إلى إسلامهم، والنأي بهم عن أخلاقهم الكريمة، وعن منهجهم القويم، وعن طريق الله المستقيم، فهم أعداء للإنسانية حقًا، أعداء للدين، وأعداء للأمن والاستقرار، وأعداء للأخلاق والفضائل، هذه سبل وطرق الشياطين، يذكر ابن مسعود رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن النبي خطّ خطًّا، فقال: «هذا سبيل الله، وخط خطوطًا عن يمين ذلك الخطّ ويساره، وقال: وهذه السبل على كل
سبيل شيطان يدعو إليه» (1)
فالداعون إلى التبرج والسفور، والداعون إلى انتشار الربا والمحرمات، والداعون إلى الحرية التي حقيقتها نبذ الأخلاق والفضائل وانتزاع الحياء، كل هؤلاء دعاة إلى أبواب جهنم، الداعون إلى تحكيم القوانين، ونبذ الشريعة، كلهم دعاة إلى الباطل وعلى كل سبيل شيطان يؤيد ذلك. الداعون إلى الفوضى، والداعون إلى الإرهاب، والداعون إلى الفساد، والداعون للإخلال بالأمن والاستقرار، والمروجون للخمور والمخدرات، والمؤوون للمفسدين والمتربصون بالأمة، الداعون للفوضوية بالأمة، كل أولئك دعاة إلى سبيل الشيطان، إنما ينجو العبد من ذلك: إذا تمسك بكتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 1/ 435، ح4142.
أيها الإخوة الكرام:
إن الله جل وعلا منّ علينا في بلادنا بنعمٍ عظيمة، وآلاء جسيمة، فيجب أن نشكره جل وعلا على فضله وإحسانه، وعلى عطائه وامتنانه، لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، فوفقنا للتمسك بهذه العقيدة الصحيحة السليمة من الشرك والبدع والضلالات، وفقنا لهذا الأمن المستتب وهذا الارتباط الوثيق،
وهذه القيادة المباركة التي نرجو من الله سبحانه أن يأخذ بنواصي قادتها، لما فيه خير الإسلام والمسلمين، وأن يوفق خادم الحرمين وولي عهده والنائب الثاني لكل خير، ويهديهم سواء السبيل، ويجعلهم دعاة إلى الله على علم وبصيرة.
هذا البلد الذي حباه الله بهذه الخيرات العظيمة، والنعم الجليلة، هذه البلاد يحسدها أعداؤها، ويدبرون لها المكائد، فواجب المسلم أن يكون داعية خير، وعينًا ساهرة على هذا البلد، وأمنه واستقراره، وألا يسمح لأي مفسد متربص بهذه الأمة، أن ينشر سمومه وبلاياه، فإننا في نعمة عظيمة من نعم الله.
نسأل الله أن يديم نعمته، وأن يرزقنا شكره وحسن عبادته، نسأله تعالى أن يرحم أمهاتنا وآباءنا، وأن يرحم ذرياتنا، وأن يثبتنا على الطريق المستقيم، وأن يرزقنا شكر نعمته وحسن عبادته، نسأله أن يوفق خادم الحرمين وولي عهده لكل خير، وأن يأخذ بأيديهم لما يحب ويرضى، ويجعلهم قادة مصلحين وهداة مهتدين، وأئمة خير وصلاح، يحكّمون شرع الله، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون هذا الدين على أحسن حال، وأن يبقي فينا وفيكم وفيهم الخير والصلاح، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه محمد بن عبد الله وعلى
آله وصحبه، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.