المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الإيمان والأمان والقاسم المشترك بينهما - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٩٤

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌الافتتاحية

- ‌توجيهات عامة

- ‌الفتاوى

- ‌ نصح أرباب الأموالالباطنة، وإذا لم يظهر عليهم آثار إخراجها)

- ‌ بعث عمال الخرص من مقر ولي الأمر)

- ‌ وتأسيا بالنبي وخلفائه)

- ‌ خرص الأموال على أصحابها)

- ‌ وسم إبل الصدقة، ونعم الجزية، والحكمة في ذلك)

- ‌من فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌‌‌فضل صيام رمضان وقيامهمع بيان أحكام مهمة قد تخفى على بعض الناس

- ‌فضل صيام رمضان وقيامه

- ‌من فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ

- ‌ توزيع الماء على الناس في المقبرة

- ‌ خروج من يغسل الميت من المسجد قبل دخول خطيب الجمعة

- ‌ الكتب المفيدة لطلب العلم

- ‌من فتاوىاللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

- ‌ القدر المناسب لقراءة الإمام في الصلاة الجهرية

- ‌البحوث

- ‌خطة البحث:

- ‌تمهيد:

- ‌المطلب الأول: توحيد مصدر تلقي العقائد والعبادات والقضايا الكبرى في حياة المسلمين:

- ‌المطلب الثاني: النهي عن الابتداع في الدين:

- ‌المطلب الثالث: النهي عن الفتوى بغير علم:

- ‌المطلب الرابع: بين القرآن كيفية العلاقة بين المسلم وغير المسلم:

- ‌المطلب الخامس: التربية الإيمانية:

- ‌المطلب السادس: الاهتمام بالدوائر التربوية:

- ‌المطلب السابع: تحقيق التكافل الاقتصادي ومحاربة الفقر والبطالة:

- ‌المطلب الثامن: شغل وقت الفراغ ومحاربة الرفاهية الزائدة:

- ‌المطلب التاسع: الإعلام البديل المنافس:

- ‌المطلب العاشر: الحوار:

- ‌المطلب الحادي عشر: حب الوطن:

- ‌المطلب الثاني عشر: المؤاخاة:

- ‌المطلب الثالث عشر: الوسطية:

- ‌الخاتمة

- ‌الأمن والإيمان

- ‌ الإيمان والأمان والقاسم المشترك بينهما

- ‌العبادات أسباب تحمي من المصائب وترفعها بإذن الله

- ‌المقدمة:

- ‌أهمية هذا البحث:

- ‌منهجي في البحث:

- ‌خطوات البحث:

- ‌التمهيد:

- ‌المطلب الأول: أنواع المصائب وأسبابها

- ‌المسألة الأولى معنى المصيبة:

- ‌المسألة الثانية: أنواع المصائب:

- ‌المسألة الثالثة: أسباب وقوع المصائب

- ‌المطلب الثاني: الأسباب

- ‌المسألة الأولى: معنى السبب في اللغة والاصطلاح:

- ‌المسألة الثانية: أقسام الأسباب:

- ‌المسألة الثالثة: حكم الأخذ بالأسباب:

- ‌المطلب الثالث: العبادة:

- ‌المسألة الأولى: معنى العبادة في اللغة والاصطلاح

- ‌المسألة الثانية: أقسام العبادة

- ‌المبحث الأول: التوكل على الله يحمي من المصائب قبل وقوعها ويعالجها بعد وقوعها بإذن الله

- ‌تمهيد:

- ‌معالجة المسلم من المصائب بعد وقوعها بالتوكل:

- ‌المبحث الثاني: الأذكار تحمي من المصائب قبل وقوعها وتدفعها بعد وقوعها بإذن الله

- ‌السبب الأول: الأذكار:

- ‌السبب الثاني القرآن:

- ‌أولاً: سورة الفاتحة:

- ‌السبب الثالث: الدعاء:

- ‌السبب السادس: الاستغفار:

- ‌المبحث الثالث: الصلاة تحمي من المصائب قبل وقوعها وترفعها بعد وقوعها بإذن الله

- ‌المبحث الرابع: الصلاة على المصطفى صلى الله عليه وسلم تحمي من المصائب قبل وقوعها وترفعها بعد وقوعها بإذن الله

- ‌المبحث الخامس: الصدقة تحمي من المصائب قبل وقوعها وترفعها بعد وقوعها بإذن الله

- ‌المبحث السادس: بر الوالدين يحمي من المصائب قبل وقوعها ويعالجها بعد وقوعها بإذن الله

- ‌وزن أفعال العباد يوم القيامة

- ‌المقدمة:

- ‌المبحث الأول: معنى الميزان

- ‌المبحث الثاني:الميزان بين الإثبات والإنكار

- ‌المبحث الثالث:وصف الميزان وحجمه:

- ‌المبحث الرابع: الاختلاف في الموزون

- ‌المبحث الخامس:هل هناك مَلكٌ موكل بالميزان

- ‌المبحث السادس:متى وقت وزن الأعمال

- ‌المبحث السابع:هل هو ميزان واحد أو موازين متعددة

- ‌المبحث الثامن:الحكمة من وزن الأعمال:

- ‌المبحث التاسع:ميزان الآخرة ليس كميزان الدنيا

- ‌المبحث العاشر:أول وأثقل وأعظم ما يوضع في الميزان

- ‌المبحث الحادي عشر:طبيعة الوزن يوم القيامة (العدل)

- ‌المبحث الثاني عشر:كيفية حساب الحسنات والسيئات يوم القيامة

- ‌المبحث الثالث عشر:هل توزن جميع الأعمال يوم القيامة أم لا

- ‌المبحث الرابع عشر:الحسنات تضاعف في الميزان يوم القيامة

- ‌المبحث الخامس عشر:الميزان في الدنيا بيد الرحمن

- ‌المبحث السادس عشر:النبي صلى الله عليه وسلم يقف عند الميزان يوم القيامة للشفاعة:

- ‌بل فرعون مات كافرا

- ‌بيان من اللجنة الدائمة للبحوث العلميةوالإفتاء حول ما نسب إليها من فتوىمزورة ومكذوبة

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌ الإيمان والأمان والقاسم المشترك بينهما

اشتقاق المادة:

ولما كانت مادة (أمن) كما جاءت في المعاجم العربية لها اشتقاقات كثيرة منها: أمن أمانة وكان أميناً، وأمن إيمانًا صار ذا أمن، وآمن به وثق به وصدّقه، وأمّن فلانًا جعله يأمن وغير هذا من الاشتقاقات، التي تعطي راحة للنفوس وطمأنينة للمجتمعات.

فإن الأمن الذي تبحث عنه المجتمعات المسلمة وغيرها، وتحتاج إليه الأمم: أفرادًا وجماعات، سواء في حياة البشر الدنيوية، وهي عاجل أمرهم، أو في اطمئنانهم على مصيرهم بعد وفاتهم، آجل أمرهم، فإن هذا المقياس تخاطب به أهل الإسلام، المؤمنون بالله، المدركون لما يجمع بين‌

‌ الإيمان والأمان والقاسم المشترك بينهما

.

ذلك أن ما يدور حول هاتين الحالتين: ما هو إلا جزء من مشتقات (أمن)، الذي توسع فيها اللغويون، ويدور على محورها ارتياح النفس، واطمئنان القلب، وينتج عن ذلك سلامة الأمة، التي تحرص تعاليم الإسلام عليها في مثل هذه المقولة، من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، في استفهامه صلى الله عليه وسلم، التقريري الموجه للصحابة: «أيّ يوم هذا؟ وأيّ بلد هذا؟

ص: 180

وأيّ شهر هذا» (1)؟.

فظنوا أنه سيسمّيها بأسماء غير أسمائها، فقالوا: الله ورسوله أعلم.

ثم لما أخبرهم بأسمائها المعهودة عندهم، قال:«إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا» (2) وهذا من تأكيد الأمن المقرون بعقيدة الإيمان.

ففي شؤون الحياة المختلفة، نجد أهمية تلك الاشتقاقات، بعد الأمان العقديّ، الذي هو عقيدة مهمة في الرابطة مع الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذه العقيدة التي جاءت في حديث جبريل عليه السلام، وسؤاله رسول الله، ثم هو يصدّقه: وجاء فيه ما يدل على أن ركائز هذا الدين، ثلاثة أمور: الإسلام بأركانه الخمسة، والإيمان بأركانه الستة: أن تؤمن بالله، وبملائكته وبكتبه، وبرسله، وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى.

وثالثها: الإحسان وهو ركن واحد أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهذا من أمكن الإيمان بين العبد وربه، ومرتبته التقوى، التي هي مراقبة الله في السّر والعلن.

وهذه الركائز التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته

(1) صحيح البخاري الحج (1739)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 230).

(2)

من خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع التي رواها جابر بن عبدالله، وجاءت في صحيح مسلم.

ص: 181

جاء بها أنبياء الله كلّهم لأممهم ليكون امتثالها: إيمانًا راسخاً، وتصديقًا كاملاً لا شك فيه ولا تفريق بين الرسل والملائكة، ولا الكتب المنزلة من عند الله، إلا ما أخبرنا الله في كتابه العزيز به، أنه قد دخله التحريف والكذب، من أهل الكتاب. والتفريق بين أركان الإيمان، وركائز دين الله الحق، ينقض عُرى الإيمان، الذي تحدث به الفرقة.

وقد عرّف العلماء هذا الإيمان: بأنه قول باللسان، وتصديق بالجنان - وهو القلب - وعمل بالأركان وهي الجوارح.

بمعنى أن القول، لا بُد أن يصدقه العمل، وتصاحبه النّية المخلصة، فإذا تمكن هذا الإيمان ورسخ في القلب، الذي هو عليه محور الأعمال، ويسمونه ملك الجوارح؛ لأنه يتحكم فيها، وفي أعمالها، وما ذلك إلا أن دين الله الذي بعث به الرسل واحد، في الحث على أهم الأمور: عبادة الله وحده.

وبنْتُ نبيّ الله شعيب عليه السلام، وصفت لأبيها مساعدة موسى لها في سقيا أغنامها، بأوجز الصفات وأشرفها:{يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} .

ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لكل أمة أميناً، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح» (1)

(1) ينظر أسد الغابة لابن الأثير في ترجمة أبي عبيدة.

ص: 182

ومن كان بهذه الصفة، من التزكية بالأمين، فلا شك أن الإيمان عقيدة، متمكنة من بقية أعماله، ومن تمكنت منه عقيدة الإيمان أمنه الله على أموال الناس وأعراضهم، وأسرارهم. ويرتبط بذلك بقية الأعمال التي تحتاج إلى الأمان والطمأنينة، وبالثبات عليه يؤمنه سبحانه من عذابه، وقد سُمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل النبوة بالأمين، فصاروا يأتمنونه على كل شيء، وصادق ملك الروم على هذا اللقب وقال: ما كان ليصدق معكم ويكذب على الله، وهذا بعدما بُعث وكذبوه.

ص: 183

ومن كان مؤمنًا عقيدة فإن الناس يأتمنونه على شؤونهم ولو خالفوه في بعض الأمر، حتى يرسخ المدلول في أمور جدّت في مؤخر الأيام في حياة البشر.

-كالأمن الصحي الذي به سلامة الجسم من الأمراض والعاهات.

- والأمن النفسي: الذي به الراحة والطمأنينة، وعدم الخوف في الفرد وفي المجتمع.

- والأمن الغذائي، الذي لا تهدأ النفوس، ولا تستقيم المجتمعات إلا بتوفر الأغذية والاحتياجات الضرورية؛ ولذا جاء التحذير عند الأزمات، من احتكار الأقوات، والتضييق على الناس، لإخلاله بناحية من نواحي الحياة الضرورية.

- والأمن الاقتصادي، الذي به انتعاش المجتمعات؛ لأن رأس

ص: 183

المال كما يقولون: جبان لا ينتعش إلا بالأمن.

-والأمن الأخلاقي الذي هو من مستلزمات الرّاحة والاطمئنان على الأعراض من الانتهاك، والأنساب من الاختلاط وغيرها من الأعمال، التي ترتبط بالأمن في المجالات المختلفة.

ولأن الخلل بأي نوع من أنواع الأمن، الذي تتعهد الحكومات بحمايته، لسلامة مواطنيها، بحيث اهتمت به، وأنشأت لذلك أجهزة برجالها وعتادها، سُميت قوة الأمن، ويسهر رجالها على توفير الأمن بأشكاله عن التعديات والإضرار، والإخلال بأي جانب من جوانب الأمن، وفي المقدمة الأمن في مكافحة الجريمة والمخدّرات، والإجرام بأشكالها وأنواعها، لأن الانتزاع، والتهاون بالأمن يفتح باب شر في المجتمعات التي لا تستقيم الأمور بدون أمن قوي يردع المتهاون، ويقمع الإرهاب، وبه ينكمش الفساد وتجف منابع الجريمة، مع الوازع القوي، كما يروى عن عثمان بن عفان: الخليفة الراشد الثالث، رضي الله عنه في قوله:(يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن).

ويقوى هذا الوازع مع قوة الإيمان العقدي في المجتمع؛ لأن كلّ ما نبع من عقيدة دينية شرعية، فإنه سيبقى حارسًا أميناً، يوجه القلوب والجوارح لكل خير، ونضرب مثلاً قريبًا ببعض البلاد التي قوي فيها الإيمان عقيدة، فقد انكمشت الجريمة بفروعها، وعرف كل فرد ماله وما عليه برقابة ذاتية، ولم يحتاجوا لحراسة أمنية مسلحة؛ لأن قوة الإيمان تردع النفس مهابة من عقاب الله، وخوفًا من الإثم

ص: 184

والعقوبات الشرعية، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} ، ويقترن بذلك الخوف من الفضيحة في المجتمع.

يقول أحد علماء الاستشراق في أحد مؤتمراتهم: لوطبق المسلمون تعاليم دينهم، لأغلقت السجون ودور الشرطة، وعمّ الأمن وانقادت أوروبا للإسلام.

ص: 185

والإرهاب الذي أحدث فسادًا وخروجًا عن الجماعة، ناتج عن سوء فهم لمكانة الأمانة، ودلالتها، التي تبرأت منها السماوات والأرض والجبال، وادعى الإنسان، الذي ندب نفسه لحملها، جاهلاً لمكانتها عند الله، كما قال سبحانه:{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} .

ولجهل الضّالين حسب فكرهم المنحرف بالأمانة، فقد أثاروا بلبلة في المجتمعات، وغرروا بالأبرياء، وأحدثوا ضوضاء بدون هدف بيّن، ولا مطلب متعيّن، وأفتوا بغير ما أنزل الله.

ذلك أن القلب الذي ضعف فيه الوازع الديني، يصبح كالبيت الخرب، إذا أُصلِحَ فيه جانب، تعطل جانب آخر.

فعوامل الأمن في الجوانب الاجتماعية كلها، التي مرّ بعضها والتي لم يمر البعض الآخر، بأجمعها لا تتحقق على الوجه

ص: 185

المطلوب، بدون الإيمان العقدي الذي يضرب سياجًا أمنيًا على الإنسان في جميع تصرفاته، وهو من مستلزمات الرّاحة والاطمئنان في الفرد والجماعة.

ولا تستقيم هذه الأمور مع الفكر الضال، الذي هتك ستر الأمن لضعف الوازع الإيماني، فنشأ عن ذلك الإرهاب والإفساد، وشق عصا الجماعة والخروج على ولاة الأمور، وقتل الأبرياء، وتخويف الآمنين .. بدون هدف معيّن ولا مطالب ذات أهمية في الأمور الشرعية.

فكان الفكر الذي قاد إلى الإرهاب لا هدف له، ولا وطن معروف، حتى يمكن التفاهم مع المنظّرين له، ولا قيادة تأخذ وتعطي، وإنما تهديدات وتصرفات، يحتار فيها الحليم كما قيل:

لا يصلح الناس فوضى لاسراة لهم

ولا سراة إذا جهالهم سادوا

والأمن العام، الذي ترعاه الحكومات، من أجل حماية وراحة المواطنين، والقضاء على ما يؤرقهم، حتى يأمنوا على أنفسهم وأولادهم، وأموالهم وجميع ممتلكاتهم، هو المطمئن للفرد والجماعة حتى تستقيم أحوال الناس، وتستقر أوضاعهم.

وهو ما ترعاه شريعة الإسلام، مع تقوية ركائز الإيمان بالعمل، مع تقوى الله، ذلك الحاجز الذي يمنع من استقرّ في قلبه الإيمان، من التجرؤ عليه، حيث تُحْمى بموجبه الأعراض والأموال وترعى المصالح بمهابة الدولة، ومتابعة ولاة الأمر فيها، كل ما يثبّت أركان

ص: 186

الأمان في أطراف الدولة، حراسة للمواطن حيث جاء في المأثورات: من أصبح آمنًا في وطنه، معافى في بدنه، قد كفل قوت يومه له ولأسرته، فكأنما حاز الدنيا بحذافيرها، والحكمة تقول: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة في الأبدان، والأمن في الأوطان (1)

وقد شدّد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مفارقة الجماعة، ولمن مات وليس في عنقه بيعة لولي الأمر بعقاب شديد، «فقد مات ميتة جاهلية» (2)

والحديث الذي جاء في مسلم: «من جاءكم ليفرق جماعتكم وأمركم جميع

» (3) فقد جاء في آخره بعقاب رادع لغيره (4)

ولأن الأمن في الأوطان مما ترعاه وتوفره الدولة بهيبتها ومكانتها، يترتب عليه أمن النفوس، والأمن على الأعراض، والأمن على الممتلكات والأموال، والأمن في الطرقات والتنقلات، والأمن على خصوصيات الآخرين، وكلّها تتعلّق بالمجتمع وترابطه، وهذا

(1) يرويه بعضهم أثرًا موقوفًا على ابن مسعود، لكنه في البخاري عن ابن عباس بلفظ:(والفراغ)، ينظر جامع الأصول لابن الأثير، ط 1، تحقيق الأرناؤوط، ج11:800.

(2)

صحيح مسلم، ج12: 333، برقم (1852) ونصّه عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية)).

(3)

صحيح مسلم الإمارة (1852)، سنن النسائي تحريم الدم (4021)، سنن أبو داود السنة (4762)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 261).

(4)

صحيح مسلم، ج12: 339، ونصّه عن عرفجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشقّ عصاكم أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه)).

ص: 187

لا يثبته إلا قوة الدولة الرادعة، وقطع دابر كل فتنة تظهر رأسها، بالجزاء الصارم الذي جاء في القرآن الكريم، وطبّقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفهمه منه أصحابه.

فوسائل تثبيت الأمن من المطالب الملحة، في كلّ بيئة تسعى إليها البشرية، في كلّ عصر وفي كل مكان، ويحميها الإسلام بالثبات وقوة الإيمان، وتمكّنها تعاليم الإسلام وبأهمية تطبيقها، ردعًا بما يزجر ويخيف، وقمعًا للمجترئين على ما شرع الله من حدود وعقاب، ونهيًا وقمعاً، لمن يريد بالأمة وولاة أمرها شراً، وتخويفًا بسبب موت القلوب والحسد، ولمن يحركهم بغايات يراد بها شر.

ومن رأفة الله بعباده: أمنهم على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، بالجزاءات والحدود التي فرضها في كتابه الكريم.

فيجب على من آتاهم الله علمًا وفهماً، ومن وهبه الله سُلطةً، ومن يريد للأمة خيراً، أن يسعى الجميع، وبتضافر الجهود في تأصيل المضامين الأمنية، وإبراز أثرها العام والخاص في طبقات المجتمع في المحافل، وعند الشباب بصفة خاصة -ذكورًا وإناثاً-وربط ذلك بالأمن العقدي الذي يحمي عن الانحراف، أو الاستهانة بتعاليم دين الله، وما جعل الله للدولة من مهابة، حيث قرن الله طاعة ولي الأمر بطاعته سبحانه، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن من خرج عن طاعة ولي الأمر، وفارق الجماعة لمآرب شخصية فقد ارتفع عنه ظلّ الإيمان، ويخشى عليه مالم يتب العقوبة، ورسول الله

ص: 188

أكّد في أن: «من مات وليس في عنقه بيعة لولي الأمر، مات ميتة جاهلية» (1)

ولأهمية الأمن المرتبط بالأمان، فقد حثّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أهمية تطبيق الحدود، وبيّن في بعضها: «أن إقامة حدّ من حدود الله، خير من أن تمطروا أربعين خريفًا

» (2) وهذا مما بان في عهده عليه الصلاة والسلام: بأن من اقترف ذنبًا من ذكر أو أنثى، يأتي إليه عليه الصلاة والسلام ليطهره بالحدّ، واعتبر ذلك الرسول الكريم توبة وتطهيراً، وأمانًا من عقاب الآخرة، كما في قصة ماعز والغامدية وغيرهما.

(1) صحيح مسلم، ج12: 333، برقم (1852) ونصّه عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية)).

(2)

سنن النسائي قطع السارق (4905)، سنن ابن ماجه الحدود (2538)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 402).

ص: 189

الشباب أمانة:

وحتى لا يكبر في أيّ مجتمع الاستهانة بتلك الثوابت الإيمانية، وما يتحتم معها من أمور أمنية، وذلك بالتهاون والتساهل، وعدم المبالاة، وإفلات الشباب بدون رقابة؛ لأنهم أمانة في أعناق ولاة أمورهم، حتى لا تتنازعهم الأفكار الضالّة ولا تؤثر فيهم وجهات النظر المنكرة.

بل يجب المحافظة عليهم وحمايتهم، وتمكين شرع الله بحدوده، وزواجره من قلوبهم؛ لما في ذلك من حصانة يجعلها الله سدًا صعب التخطي، خوفًا من عقاب الله وحدوده، في الدنيا بتطهير

ص: 189

القلب؛ لأن عقاب الدنيا أخف من عقاب الآخرة، وفي الآخرة بالأمان من العقاب، مع هذه التوبة الدنيوية التي جعلها الله حاجزًا يردع بعض النفوس الضعيفة، وتُخوّفُ من في قلبه مرض.

وإن في حسن الرعاية لهم، والرقابة لمن يصاحبهم حاجزاً، يحمي من التأثر وحماية من الله، فإذا عُرف: أن الحرابة والتعدّي على الممتلكات قد فرض الله عليها عقابًا شديداً، يردع من يهمّ بالفعل فكيف بالفاعل، حيث بينت آية الحرابة في سورة المائدة (1) عقاب من تسول له نفسه نزع فتيل الأمان، في المجتمع المستقرّ والآمن، أو الاستهانة بحرمات الآخرين، وذلك بالقتل أو الصلب أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من الأرض.

والتّعدي بالقتل أو السرقات، لما في ذلك من جرأة على حُرمة النفوس والممتلكات، التي كفل لها الإسلام أمانًا وحرّم الاستهانة بذلك: نهبًا أو سرقة وحماية عن التسلط بغير حق، بالاستهانة بالحاجز الأمني، والزجر لمن هتك حرمات آمنة وفي حرزها، وهذا من التعدي على مكانة ولي الأمر، الذي جعله الله قيمًا على الحدود، وحارسًا على الأمن في المجتمع الإسلامي بماله من نفوذ ومهابة، وسلطة يجتث الله بها جذور الفتنة وموقدي نارها.

لكن قوّة الإيمان تجعل لدى بعض النفوس حارسًا أمنياً، في المجتمع الإسلامي المتفهّم لشرع الله، وحكمته سبحانه في تشريع

(1) الآيتان، 33، 34.

ص: 190

الحدود والزواجر، إذ يروى لكثير من سلف الأمّة أنهم يحاسبون أنفسهم، عن كل هفوة، وبعضهم يعرض يده على النار لتأديب نفسه الأمارة بالسوء، ويخاطب يده، بأنها لم تتحمل نار الدنيا، فكيف بنار الآخرة.

ويُشْعر نفسه بأن الأمان من شدة نار الآخرة، تذكّر هذا في الدنيا وردع النفس عما هو ذنب خفيف، في تلبيس شياطين الإنس والجن عليه، ويبكي وهو يقرأ:{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} ، وغيرها من الآيات؛ ليشعر نفسه تخوّفًا: كأن حرارة جهنم بين أذنيه.

فكان الجزاء لهذا التعدي والظلم، أن استحق الفاعل ما يردعه، ويخيف غيره نظير التطاول على الأمن والتجرؤ على الحرمات بقتل القاتل، وقطع يد السارق جزاء وفاقًا للاستهانة بالآخرين، وإخافة لمن تسوّل له نفسه العمل كعمله.

ذلك أن الله جعل حدودًا فلا يعتدى عليها، ونهى عن ترويع المسلم وإخافته، هذا على مستوى الفرد، فما بالك بالإرهاب، وأعمال الضالين، والتعدي على من أمّنه الله: من نفس ومال وعرض؟؟.

ثم يأتي نداءات وزواجر، عديدة تؤمّن المسلم وتردع الظالم، وتقمع المعتدي، بالسبّ والشتم، والقذف والتطاول .. وغير هذا من أمور، حفظتها تعاليم دين الله الحق -الإسلام-تبيّن مكانة هذا الدين

ص: 191

عن التطاول على كرامة الفرد: ذكرًا أو أنثى، من أن تهان، وأهمية المحافظة على الأفراد والجماعة في البيئة الإسلامية.

مما يدعو إلى ترسيخ قاعدة الإيمان، وأن الأمن الذي ترعاه الدولة، وتمكّن قواعده من الثبات والرسوخ، حتى يأخذ المواطنون ما يطمئنهم، هو من ثوابت دين الإسلام التي تعدّدت في كتاب الله، مئات المرات لأهمية الأمان، وتمكين قاعدة عقيدة الإيمان بأركانه الستة، ويبدأ هذا الدور مع الشباب منذ تفتح مداركهم، حتى يسلموا من تخطّف الأيدي الضالة، فيُحَصّنوا عن الأخطار الضّالة، كحمايتهم من الأمراض، إذ لا يجوز ترويع المسلم، ولو عن طريق المزاح، وحرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، رفع الحديدة في وجهه، وغير ذلك من أمور تخيف المسلم، وتخفّف الحاجز الأمني، ونزع المكانة الأمنية في المجتمع الإٍسلامي، أو التهاون بذلك ليدبّ الخوف، بحيث تنتهك الحرمات المتعددة.

وغير هذا من أمور تحفظ كرامة الفرد، وتحافظ على أمن الجماعة مما يجب تأصيله: مكانة واحترامًا في قلوب الشباب، الذين هم عماد الأمة في البناء والحرص، حتى لا تتنازعهم الأهواء، ولا يسمّم أفكارهم المضلّلون، ولا يُعْتَدَى عليهم، بالتطاول والتنقيص، ولا يعتدون هم أيضًا بفكر وافد.

ليتربوا على حسن التعامل، ولا فرق لعربي على عجمي إلا بالتقوى، وقوة الإيمان الذي هو رابطة في النية، والعمل مع الله

ص: 192

سبحانه، وإدراك هذه المكانة، لتكون متمكنة من القلب لأنّ الإيمان محله القلب.

ص: 193

نفس بلا إيمان:

إن كل نفس تأخذ مصدرًا تشريعيًا في سلوكها أو منهجها، عقديًا في تصرفاتها، من غير المصدر الذي رضيه الله سبحانه للمؤمنين، وبعث به رسله، فإنه لا يلبي رغبة، ولا يريح قلبًا، ولا يحقق أماني؛ لأنه ممّا يراد به إشراك غير الله فيه، والله لا يرضى إلا ما هو خالص لوجهه الكريم، وهو الذي قاعدته الإيمان الصحيح يقول سبحانه:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} .

لأن المصدر الإيماني الذي ارتضاه سبحانه، وتأمَنُ به النفوس في حاضرها، وينجّيها من المخاوف في آخرتها، هو ما أوضحه جل وعلا من عقيدة شرعها لصالح الأمة، وإنقاذهم من الضلالة، وأرسل بها رسله وآخرهم سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذين بعثهم الله لأممهم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.

وأما كون الإنسان تائهًا، فإن من يسير بغير هدى، أو معرفة بشرع الله الذي شرع لعباده، فإنه يكون بعيدًا عن العقيدة الإيمانية، كمن يسير في صحراء مقفرة وفي ظلام، لا يدري أين يتّجه.

ويكون خائفًا، وبعيدًا عن طريق الأمان، الذي يوضحه رسول الله

ص: 193

صلى الله عليه وسلم في كل المناسبات لأصحابه رضي الله عنهم، وقد بلّغوه للأمة بعده، بعدما أصّله ومكّنه من قلوبهم، فأخذوه عنه قولاً وعملاً، ونقلوه لمن بعدهم بأمانة وإخلاص، وامتثلوا أمره في التبليغ، حيث أشهد به عليهم.

ولئن تمادى الإنسان في أهوائه ورغباته، وإضراره بالآخرين، فقد جعل له الله فرصة ما دام يعيش على وجه الأرض، وذلك بالإستجابة لنداء رب العالمين، بما يقوّيها على الرجوع إليه والاطمئنان، برجاء وخوف في الفضل العظيم المحسوس، والملموس أثره، استمع إلى هذا الكرم من ربّ العزة والجلال:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} .

وباب التوبة مفتوح قبل الموت لمن أدرك خطأه، وأراد الرّجوع إلى باب الأمان، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)(2) وهذه بشارة من الله مريحة، تبعث الأمل وتقوي الإيمان الذي به الأمن الشخصي، والأمن الاجتماعي، وتكبر معها تقوى الله سبحانه التي تعني مراقبته في السرّ والعلن.

وعلامة إقفال باب التوبة الإصرار على المعصية حتى الممات، وخروج الدابة عندما تكثر الشرور، التي تَسِمُ المؤمن والكافر، بعقيدة

(1) يراجع أحاديث التوبة عند البخاري، وفي كتب الحديث وهي كثيرة.

(2)

يراجع أحاديث التوبة عند البخاري، وفي كتب الحديث وهي كثيرة. ') ">

ص: 194

كلّ منهما والآية في خروجها في سورة النمل (1)

ذلك أن الخير في الإيمان وأن النجاة في التمسك به، وظواهره في الدنيا بارزة في أعمال الفرد، وما تتجه إليه الجماعة، وفي الفوز والنجاة بما تجده النفس أمامها مدّخرًا، وشيخنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، يتردّد على لسانه كلمة: الوعد قدّام .. يعني إمّا بالفوز أو الخسارة بعد الممات؛ لأن الأعمال بالخواتيم.

وكنموذج واقع يجب أخذه عبرة، ما أخبر الله سبحانه عنه في قصة فرعون الذي طغى وتجبّر، فبعد أن أدركه الغرق، وعاين العقاب، ضاع عنه عزّه وسلطانه، ودبّ فيه الخوف، فأراد الرجوع إلى الإيمان طلبًا للنجاة، حيث توضّح حالته هذه الآية الكريمة:{حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} .

فإيمان فرعون الذي تلفظ به، يريد به الأمان والاطمئنان من عذاب الله وعقابه، بعد أن عاين المصير الذي ينتظره، كما في الحديث الصحيح: أن الإنسان إذا مات وهو محسن يقول: «عجلوني عجلوني، فإن كان مسيئًا يصيح يا ويلتاه أين تذهبون بي، فيسمعه كل

(1) الآية 82 من سورة النمل. ') ">

ص: 195

شيء إلا الثقلين، ولو سمعوه لصعقوا» (1)

يقول ابن كثير على هذه الآية: إن جبريل عليه السلام، أسرع بأخذ تراب من قاع البحر، ووضعه في فمه مخافة أن تدركه رحمة الله

(1) رواه مسلم في صحيحه.

ص: 196

وفي عصرنا حرصت أجهزة الأمن المتنوعة، في كل دولة ومجتمع، أن تأخذ الأسباب بالأجهزة والمتابعة؛ لحفظ الأمن الذي يُطَمئن الشعوب، وتشعرهم بالاهتمام ورُصِد لذلك مبالغ هائلة، وما يتطلبه الأمن المنشود، بأجهزة وتدريبات وبحوث ونصائح، وأعمال سرّية وعلنية، وابتكرت نماذج للمحافظة والحيطة.

لكن الأمن لم يتحقق، فقد زادت جرائم القتل والنهب، والاعتداء على الضعيف والأعراض؛ لأن السبب هو فقدان الأمن العقديّ: الذي هو الإيمان بأركانه الستة، وترسيخ ذلك تطبيقًا، وتأصيلاً.

والعلاج المريح في صيدلية الإسلام، حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلاّ بحقها وحسابهم على الله تعالى» (1) متّفق عليه.

(1) صحيح البخاري الإيمان (25)، صحيح مسلم الإيمان (22).

ص: 196

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحلّ دم امرئ مسلم، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (1)

فالإسلام الذي اختاره الله دين آخر أمة أخرجت للناس، يؤمّن النفس ويحافظ عليها، ويعصمها من التعدي عليها، أو أن تَعْتَدِي على أحد، ويحفظ حقّها عندما يُعتدى عليها بغير حقّ.

فالنفس في عقيدة المسلم ملك لله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} ، لابدّ أن تعيش آمنة مطمئنة وفق شرع الله، فلا يحق حتى لصاحبها إيرادها المهالك، أو يحملها فوق طاقتها، ولا أن يقتل نفسه، بأي سبب وبأيّ نوع، سواء لخلاصٍ من مشكلة، أو لأيّ غرض حلّ به، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ولا يتمنّين أحدكم الموت، من ضرّ أصابه، فإن كان لا بدّ فاعلاً، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي» (2)

وقال صلى الله عليه وسلم في الوعيد لمن قتل نفسه: «من قتل نفسه بشيء فهو يجأ بها في نار جهنم» (3)؛ لأن القاتل لنفسه في

(1) رواه البخاري ومسلم.

(2)

أخرجه الجماعة إلا الموطأ: جامع الأصول لابن الأثير، 2:554.

(3)

يراجع عند ابن كثير، آيات قتل النفس (ولا تقتلوا) بالنسبة للأولاد أو النفس في التفسير.

ص: 197

النار، والنفس ملك لله سبحانه، فقتلها بالانتحار أو تفجير نفسه، ما هو إلا اعتداء على حق الله، وأن الإيمان وقت الفعل، قد ارتفع عن الفاعل؛ لأنه لو كان متلبسًا بالإيمان لحجزه عن الفعل، وفي الحديث:«لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن» (1) .. إلى آخر الحديث (2) قال بعض العلماء: إنه يرتفع عنه الإيمان عندما يفعل تلك المعاصي، فإن تاب رجع إليه إيمانه.

(1) صحيح البخاري الأشربة (5578)، صحيح مسلم الإيمان (57)، سنن الترمذي الإيمان (2625)، سنن النسائي الأشربة (5659)، سنن أبو داود السنة (4689)، سنن ابن ماجه الفتن (3936)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 386)، سنن الدارمي الأشربة (2106).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب المظالم، باب النهبى بغير إذن صاحبه، من حديث مطول، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 198

الأمن الذي تبحث عنه النفوس:

والأمن الذي تبحث عنه النفوس، في كل شأن من شؤون الحياة، هو جزء من مشتقات مادة (أمن) عند اللغويين وأوضحوها، وهي عديدة، وقد جعل الله سبحانه في القرآن الكريم، وجاء في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، محور هذا الإيمان الذي مقره القلب، سواء كان ذلك فيما يتعلّق بالنفس ومتطلباتها، أو ما يتعلق بالمجتمع وترابطه: كالأمن في الأوطان، والأمن على النفوس والأعراض، والأمن على الأموال والممتلكات، والأمن على الأسرار والأعمال، وعلى خصوصيات الآخرين، إلى غير هذا من مسائل الأمن الخاصّ والعام المتعدّدة، ومنها الأمن على أسرار العمل، وأجهزة الدولة عن القريب والبعيد. وكل هذه الأنواع من الأمن: مطالب ملحّة تسعى إليها البشرية،

ص: 198

في كل عصر ومكان، بل تهتم بها مخلوقات الله الأخرى: العجماوات وأشكالها .. يؤكد هذا قوله صلى الله عليه وسلم، في أحد أسفاره وقد رأى أنثى إحدى الطيور (1)(2) مضطربة يمينًا وشمالاً، في حركات تدل على الفزع فقال:«من فجع هذه في فراخها قال رجل أنا يا رسول الله، فقال: ردوا إليها فراخها» (3).

ويؤصل هذا المدلول الأمني، ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله:«نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة في الأبدان والفراغ» (4) رواه البخاري عن ابن عباس (5)

ولئن كانت بعض الزعامات البشرية تغفل عن الأمن الأخروي، والأمن من عقاب الله، فإنما هذا عائد لنقص الإيمان لديها، وعدم الخوف من الله، وإلاّ لما تجرؤا على قتل الأبرياء، وتجويع النساء، والأطفال وتخويفهم، ونهب الخيرات وطرد الآمنين من بيوتهم، فالمجرم لا يقدم على فعلته، والخائن لا يستمر في خيانته، إلاّ لخلو القلب من الإيمان الرادع، الذي هو الرقابة على كلّ عمل وميزان لما بعد العمل، فمن خان الأمانة، ومن خان العهد مع ولي الأمر، وتمرّد على طاعته، ومن خوّف الناس على أنفسهم وممتلكاتهم، ومن زعزع أمن الدولة، ومن أقدم على قتل نفسه وقتل الآخرين، ومن أفتى بشرعية ذلك، وغير ذلك كلّه بسبب فكر ضال، وذهن ملوّث تحت

(1) هي: الحمّرة.

(2)

هي: الحمّرة. ') ">

(3)

سنن أبو داود الجهاد (2675)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 404).

(4)

صحيح البخاري الرقاق (6412)، سنن الترمذي الزهد (2304)، سنن ابن ماجه الزهد (4170)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 258)، سنن الدارمي الرقاق (2707).

(5)

وجاء في الأثر: الصحة في الأبدان والأمن في الأوطان. ') ">

ص: 199

مسميات ومبرّرات وفتاوى ضالّة ومضلّة.

كل هذه تدعو إلى الشّر، وانتهاك ما حرّم الله ورسوله الكريم؛ لأن معتقدات أصحاب هذه الأمور قد ارتكبوا المحذور وخانوا الأمانة، التي ذكرها الله في آخر سورة الأحزاب، وفي آيات أخرى من القرآن لأهمية ذلك.

فالإسلام جاء لمصلحة البشر، وتوجيههم إلى الخير، وما فيه سعادتهم، ومن هنا ندعو كل فرد قبل أن يقدم على عمل أن يدرك أهمية ما جاء في القرآن الكريم، ولا يتجرأ عليه بتأويل أو تحريف، وما فيه من دعوة للأمن والإيمان، وينظر في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما فيها من عبر تقوّي الإيمان، وتمكنه من النفوس، في كل أمر يعترض الإنسان، في أمور حياته، وما يؤول إليه بعد مماته، وكأنهم قد أمنوا مكر الله:{فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} .

والله سبحانه وتعالى يسوق الكوارث على البشر في حياتهم الدنيا، تنبيهًا للنفوس من غفلتها، وليعيدها إلى خالقها، ويربطها بمهمتها في الحياة، أمانًا لها نفسيًا، حتى تدرك الخطأ، فتعود إلى المنهج، كلّما غفلت عن معرفة الحقّ المطمئن، الذي جاء من عند الله، إيمانًا به سبحانه، تدل على ذلك آيات من كتاب الله الكريم، يقول سبحانه:

ص: 200

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} .

فإذا كان الإنسان في حياته الخاصة، إذا أصابه مرض وأحسّ بالألم، يلجأ إلى الطبيب؛ ليأخذ علاجًا يهدئه أمانًا صحيًا، فإن البلوى في نزول المصائب على النفوس المؤمنة أكبر، فهي مأمورة بما يقوي إيمانها؛ لتستعين على ذلك بالصبر والتّحمل، الذي جعله الله مرتبة إيمانية، في مجابهة ما ينزل من المصائب، التي جاءت في الآية الكريمة، وهذا علاج يترسّخ الإيمان به، ويتمكن في القلب ليطمئن؛ لأن تسليم الأمور لله، وربط النفس بخالقها، بدل الجزع ممّا حلّ، لتأمن العواقب نتيجة الصبر والاحتساب، مما أنعم الله به في الآيات السابقة، على من رضي واطمأن احتسابًا وامتثالاً، باسم المهتدين السائرين على الدرب المستقيم والراضين بما قدر الله عليهم.

والصبر يأتي على ضربين: صبر المؤمن الذي يرجو جزاء الله، ويخاف عقابه، فيتحمّل في ذلك برضى واطمئنان أمورًا كثيرة، وهذا هو الذي حثّ عليه الله سبحانه، في أكثر من ستين موضعًا ف القرآن الكريم.

وهذا أول نوع من الجهاد، فرض في الإسلام فقد مكث صلى الله عليه وسلم، في مكة ثلاث عشرة سنة، يرسّخ في أصحابه عقيدة

ص: 201

التوحيد، ويأمرهم بالصبر على أذى قريش، حتى يجعل الله لهم مخرجًا، يؤمنهم ويطمئنهم بنصر الله وتأييده، وأن الغلبة لله ولرسوله وللمؤمنين، وهذا أمكن أمان للعبد.

وصبر الكافرين على ما ينزل عليهم من مصائب وكوارث: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .

فهو إن صبر فبغير احتساب، وصبره كصبر البهائم لما يحمل عليها من أثقال، أو تلقى من أصحابها من مشقة، فإنه إن جزع فإنما يجزع بتسخّط على الله، الذي قدّر الأشياء لحكمة وعبرة فحياته قلق وضجر.

والقاسم المشترك بين المؤمن والكافر، في البحث عن الأمان، يبرز في النيّة لحديث جبريل ولتحمّل المصائب والكوارث، وتطبيقه برضى، أو النكوص عنه بتسخّط، والمحرك لذلك العامل الإيماني، الذي تتفتح عنه النفوس وتتقبله الأفئدة، كما توضّحه الآية الكريمة في بلوى تمرّ بالإنسان، فيها محكّ الإيمان بهذا الاختبار في المواقف الصعبة:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} .

ص: 202

وفي هذا ربط كلّ عامل من عوامل الدنيا، التي تجعل الإنسان قلقًا بشأنها، بقوة العقيدة وسلامة الإيمان ونقاوته، وبذلك تخف الوطأة، وتهون المصيبة، فهو جلّ وعلا: يخاطب النفوس بما يطمئنها ويريحها، ويهدئ ثائرتها، فمن استجاب أفلح وأنجح، ومن لا فلا يلومنّ إلا نفسه.

ولن يمرّ بالقارئ لكتاب الله سبحانه آية، إلا ويلمس فيها سرًا عجيبًا وعلاجًا مريحًا، يزيل عن الإنسان كابوس القلق، ومؤشر الاضطراب، ويريحه بالإيمان الصادق إن استجاب، أو باللّوم والثبور إن أصمّ أذنيه عن الحق، وابتعد عن طريق العقيدة السليمة، التي يؤمّن الله بها من أراد به الخير.

يقول بعض العلماء: من كان بالله أعرف كان منه أخوف.

وهذا هو أمكن وأقوى طريق علاجيّ للخروج بالنفس من ذلك الطريق المضطرب، بالأمن الهادئ، حيث اعترفت كثير من أمم الأرض أن سبب وجوده لدى المسلمين، ما هو إلا بقوة الإيمان.

ولم يخفّ ميزان في المجتمع إلا بضعف الإيمان في القلوب، حيث توالت المحن، وتكالبت عليهم الأمم، إلا بعد ما دبّ فيهم ضعف الوازع الإيماني، والتّساهل في أمور الدين، والبعد عن مصدر عزّهم في الاهتمام بكتاب الله، الذي هو أكبر مؤشر يريح النفس، وتطمئن به القلوب؛ لما فيه من عظات وعبر، ووعد ووعيد، ثم البعد عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي يعطي حديثًا لكل

ص: 203

حادثة، ويوضّح عن كل حالة تعترض حلاً ومخرجًا.

ص: 204

وأنواع العقوبات المفروضة في الإسلام تُطَمْئِنُ المجتمع، وتزيل الحقد من النفوس وتردع من تسول له نفسه الإقدام على أمر فيه جناية، وإقلاق للمجتمع حيث يقول سبحانه:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .

فالقصاص من أسباب الاطمئنان في المجتمع، والقضاء على الجريمة بالردع، حيث يُقْضَى على الفئات الفاسدة، ويخيفهم الجزاء الرادع، حتى لا يتوسع النطاق في أماكن أخرى من المجتمع، حسبما يُرى في المجتمعات الغربية التي رأفت بالمجرم؛ لأنه في نظرهم يحتاج للرعاية والعطف، فهو لم يرتكب الإجرام على تقدير المهتمين بأمره، إلا من مؤثّرات تحيط به: صحيّة أو اجتماعية أو أسرية أو غيرها .. فماذا كانت النتيجة؟؟ هل أمن الناس والمجتمع من جريمته؟!.

فبالنسبة للأفراد: انتهاك أعراض، وقتل أنفس بريئة، وتشويه بعمل إجراميّ متعمد.

وبالنسبة للأموال: نهب واعتداء وتسلّط وحيَلٌ.

أما بالنسبة للمجرم نفسه: فسجن محدود، وغرامة مالية قليلة، ثم يخرج للمجتمع من جديد، وبفنّ جديد في عالم الجريمة، وهكذا تستمر الحلقة .. ولم يتحقق الأمن بل يزداد الخوف من هذا المجرم،

ص: 204

وأمثاله لأن السجن أتاح له فرصة لتعلّم أساليب جديدة في الجريمة، من النزلاء معه.

فأذكر بالمناسبة: أنني في إحدى زياراتي لأمريكا ، مررت بولاية المباما وحاضرتها مدينة مونتجمري ، وفيها ثلاثة سجون، وهي على الحدود مع المكسيك ، وقد أخبرني أحد الدعاة الذي يؤم المصلين في المسجد الوحيد، وهو هندي ويشارك في المسجد للدعوة في السجون، وأسلم على يده أشخاص من المسجونين، وأنه يزورهم في السجون حاكم الولاية، وطلب مني زيارتهم، وهذا اليوم سوف يمر بهم هذا الحاكم الذي كان يحب الدعاة المسلمين، ويسهل أمرهم.

فذهبت معه، وقد حضر بالفعل، وجرى معه نقاش جاء فيه: إن الجريمة في أمريكا كثيرة وخاصة في الولايات الجنوبية، وإنني أرى أنه لا يقضي عليها إلا الإسلام؛ لأن من أسلم عن طريق الدعوة في المسجد تحسنت أحواله ولا يعود للجريمة ثانية.

أما من يخفف عنه الحكم من تأثير الدعاة في الكنيسة، أو عن طريق علماء النفس أو الاجتماع، أو المرشدين الصحيين، فيعود أكثر عنفا، وبتفنن جديد.

وهذه شهادة منهم وعلى واقعهم، عن مكانة تعاليم الإسلام في إصلاح المجتمعات بالإيمان الحقيقي. ومن مسؤول في الإدارة الأمريكية.

ص: 205

لكن الأمن الحقيقي في شرع الله الذي شرع لعباده، وهو سبحانه أرأف من أولئك الدارسين للإجرام، والمقننين عقوباتهم، فما يُصْلح المجتمعات، ولا ينشر الأمن في ربوعها، ويقضي على جذور الاعتداء، والاستخفاف بمقادير الناس، وإخافة الآمنين، إلا حكم الله، ومن أحسن من الله حكمًا، ففيه الجزاء الرادع، الذي بتطبيقه يقضى على الشر، والخوف منه يصلح النفوس، ويردها عن غيّها .. وقد كُتِب هذا الجزاء على أهل الكتاب قبلنا، فبدّلوا شرع الله برغبات نفوسهم، كما قال تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ، فهذا على أهل الكتاب الذين خالفوا، وطبّقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، فأمن المجتمع.

ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} ، وهذا على أمة محمد فاستجابوا وطبّقوا فأمنوا.

وهذا هو حكم الله الذي فيه طمأنة المجتمع، وإخافة الفاعل، والردع عن التّمادي في العمل الضار، حتى تأمن النفوس في المجتمع، قد أنزله الله سبحانه على بني إسرائيل في التوراة، فخالفوا وعاندوا وبدّلوا، فكثرت الجرائم عندهم، واضطرب مجتمعهم وكثر

ص: 206

عندهم الاستخفاف بالدماء.

وسار على منوالهم النصارى – لجهلهم - فحلّ بهم ما لحق بسابقيهم، حسبما أخبر الله عنهم في سورة الفاتحة، وما نلمسه اليوم في قوانينهم الوضعية، من امتداد لذلك العمل، حيث تُجْنى الثمرات السيئة، وما يطفح على الصحافة من أخبار، وما يبرز في تقارير الجريمة من أرقام {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} ، واختار الله هذه الأمة – أمة محمد صلى الله عليه وسلم لتطبيق ذلك فأمن مجتمعهم، واطمأن الناس على أنفسهم، وأعراضهم وأموالهم، كما أخبر صلى الله عليه وسلم، بأن المسافر بين مكة واليمن في أمن لا يخشى على نفسه ومواشيه، إلا الله والذئب على غنمه، وهذا من أمن الإسلام الوارف، لكن لمّا دبّ القلق في بعض المجتمعات الإسلامية، وفسدت الذمم لأن أقوامًا في بعض المجتمعات الإسلامية، قد دبّ القلق في قلوبهم، وجاء في الأثر (يصيبهم داء الأمم).

لأنّهم استبدلوا بحكم الله قانونًا بشريًا وغيّروا وبدّلوا، بما أخذوه عن غيرهم تقليدًا، واستبدلوا بحكم الله حكم البشر، فنزع الله عنهم البركة، وارتفع عنهم ظل الأمن، والهدوء والطمأنينة، وتفشى بينهم القلق والجريمة المتنوعة، ألم يقل سبحانه:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} .

ص: 207

إذ لا شيء يؤمّن المجتمع، ويحفظ الأمة ويقضي على أسباب الخوف، ويعصم من الشّرور، إلا تطبيق ما ارتضاه الله في شرعه وأكده رسوله الكريم، بحماية الأفراد، والمحافظة على الجماعات، لأن الله بعباده رؤوف رحيم.

فإذا التقى الإيمان الصادق، بالأمن العادل، فإن في ذلك يتحقق حفظ الأموال من التّعدي، والحقوق من التطاول، وقد جعل الإسلام لكل نوع منها حرزه المتعارف عليه في كلّ مجتمع، فمن أخذ شيئًا من هذا الحرز الذي هو مقرّ الأمان في كل بيئة، فقد تعدى على هذا الحرز، وسرق مما فيه، فاعتباره سارقًا، يستحق بالقرائن الجزاء الذي ذكره الله في كتابه الكريم، وقد استهزأ بهذا الحكم بعض المعترضين على شرع الله، ويوجد مثله في كلّ عصر ومصر، من يحمل آراء تندّد بأحكام الله ووصفها بالقسوة، وفي الاعتراض على الله سبحانه في تشريعه، جرأة على من يقدم عليها، ممن قلبه ناقص الإيمان فقال بعضهم:

يدٌ بخمس مئين عسجدًا فديت

ما بالها قطعت في ربع دينار (1)

فكان الردّ عليه من أحد العلماء بقوله:

عزّ الأمانة أغلاها وأرخصها

ذلّ الخيانة فافهم حكمة الباري

فقطع يد السارق والسارقة، ليس عدوانًا، أو بقصد التشويه،

(1) العسجد: الذهب ويريد بخمس مئين: أي خمسمائة دينار والدينار 12 درهمًا، ويريد قطعها في ربع الدينار: أي ثلاثة دراهم، وهو الحدّ في القطع.

ص: 208

ولكنه جزاء، يعطي كل ذي حقّ حقه، ويمنع التعدي، وبه تجتث الشرور في المجتمع، ومثله القتل، ولو أحصي عدد من قُطِعَتْ أيديهم، أو قُتِلوا بأحكام شرعية، لكان عددهم على الأصابع؛ لأنها تعلن على الملأ، فأمن بها المجتمع.

إلى جانب الجرائم في المجتمعات الغربية ومن لا يطبّق شرع الله، في عدد القتلى والمشوهين، نتيجة العدوان، وسلب الأموال التي تخرجها الإحصائيات بسبب الجريمة، عندهم لبانت النسبة العالية، التي يعلن بعضها للملأ، علاوة على ما سُلب من أموال.

وما الإعلان في تنفيذ الحدود، إلاّ سياج أمني يحفظ الله به الأنفس، والأموال والأعراض؛ لأن المجرم كالعضو الفاسد، في جسم الإنسان الذي يُصِرُّ الأطباء على قطعه، لسلامة باقي الجسد، يقول سبحانه:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، ويقول صلى الله عليه وسلم في مخزومية سرقت، وجاء قوم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يشفعون لها، فغضب وقال:«أتشفع في حدّ من حدود الله، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها» (1)

(1) أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء، برقم 3288.

ص: 209

وإن من يتمعن في مدلول الآيات الكريمات والأحاديث النبوية، ليدرك منهج الإسلام الصارم في القضاء على الأمور التي

ص: 209

يترتب عليها إخلال بالأمن، وترويع المؤمنين، والإضرار بالأمة، والناس لا يمتدّون في معيشتهم، ولا ينتعش وضعهم، إلا مع الأمن الوطني، والقضاء على كلّ أمر يترتب عليه من قريب أو بعيد، خلل في الأمن، أيًا كان نوعه، ولا يتم ذلك إلا:

- بتوعية شاملة في المجتمع قاعدتها الإبانة عن مكانة تعاليم الإسلام في إشاعة الأمن والإيمان، وحكمة التّشريع في الحدود.

- وحث الناس على التطبيق العملي، في كل موقف يُبْرز الأمانة، بدءًا بالصغار في البيت ثم المدرسة ومكافأة المتّصف بالأمانة.

- أن يراعى في الوسائل الإعلامية عدم بث ما يشيع في المجتمع نماذج من الجرائم والخيانات؛ لأنها ترسخ في الأذهان، وتطبّق أسلوبًا إجراميًا بتفاصيلها التي أبرزها الإعلام.

- الإشادة مع المكافأة: في البيت والمدرسة بالنسبة للشباب والشابات، وللكبار والكبيرات، بمن برزت منهم نماذج من الأمانة، التي مبعثها الإيمان؛ ليكون في ذلك حافز للتشبّه ثم تكون عادة اجتماعية ذات أثر ومردود حسن.

هذا مع ما يفرضه ولي الأمر، من أعمال وسلطة تتابع وتجازي، وبالمواصلة والاهتمام حتى ينقطع من البيئة الإسلامية، دابر الخيانة والجريمة من المجتمع.

وقد أفاقت دول الغرب، على ضرر منهج أساليبهم في الرأفة

ص: 210

بالمجرم، وصدرت أصوات من بعضهم في أمريكا مثلاً: بأن الحلّ الوحيد، في تثبيت الأمن، وتخليص المجتمع الأمريكي من الجريمة، التي تؤرّقهم، وتخفيف ما يسببه المجرمون للمجتمع الأمريكي، وأجهزته، يكمن في تعاليم الإسلام الذي يجعل على النفس رقابة قوية أقوى من رقابة البوليس وأنظمته.

وقد سمعت هذا من حاكم ولاية (ألِنوُيْ) عندما زرت بعض السجون في مدينة مونتجمري، عاصمة الولاية وقال حاكمها بالحرف الواحد، كلّ من دخل أحد السجون عندنا، واحتضنه الدعاة المسلمون، ثم أسلم وحسنت حاله، فإنه لم يرجع للجريمة أي واحد منهم، بعكس من حَسُنت حاله وتأدب في السجن، مع دعاة غير مسلمين، فإنه يعود للجريمة بأسلوب جديد .. ولذا أتوقع أن علاج الجريمة، والإخلال بالأمن في أمريكا، هو في دين الإسلام، وتعاليمه التي تهذّب النفوس.

ومن هذه الدعوة بدأت كثير من الولايات، تدعو المشرفين الاجتماعيين والدعاة من المسلمين، لتأدية محاضرات وزيارات منتظمة للسجون، التي أصبحت أوسع ميدان للدعوة الإسلامية، وقد قال بعض المسؤولين في الأمن عندهم: إن الخلاص من الجريمة، التي تزعج المجتمعات لا يكون إلا في صيدلية الإسلام، وتهذيبه للطباع.

وهذا أكبر برهان على أن الإيمان يقترن بالأمان والاطمئنان

ص: 211

وراحة النفس.

ص: 212

- ولما كان المال أعز ما يملكه الإنسان ويحرص عليه، وهو الذي يسيّر الحياة في المجتمعات، فإن سُبُل الخوف عليه، ساقت عبّاده من اليهود ومن يشايعهم، إلى ابتكار أساليب للمحافظة عليه وكنزه، وكان مما فرضوه على المجتمعات التي يعيشون فيها: الربا .. وهو زيادة المال بدون جهد، فلا يحصل النفع بالتداول، ولا يزداد الفقير إلا فقرًا، وحقدًا على الغني، الذي تتضاعف أرباحه بجهد هذا الفقير.

ولذلك جاء تشديد الإسلام في الربا، واعتباره محاربة لله، ومن ذا يستطيع محاربة الله ومحاربة رسوله، وحتى يطمئن الفرد في المجتمع الإسلامي: غنيًا على ماله، وفقيرًا على معيشته، فقد فرض الله على الموسرين حقوقًا للسائل والمحروم: فالغني إذا أعطي أمانًا على ماله، والفقير أمانًا على تسديد أحواله وأسرته، وهذا الأمان يحجزه بالقناعة عن التطاول لما عند الأغنياء يقول سبحانه:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} .

ص: 212

ومع كثرة الآيات الكريمات التي تحث على بذل المال للسائل والمحروم، والصدقات والزكوات، إلا أن هذه الآية جمعت أركان الإيمان، ويدخل السادس وهو الإيمان بالقضاء والقدر ضمن آخر الآية والحثّ على الصبر، ثم أبان الله لمن يؤتى المال بطيب نفس، وهؤلاء هم الذين لهم المعلوم في مال الغني، حقًّا فرضه الله ليتم التكافل، وترضى نفوس أولئك على ما آتى الله الأغنياء.

إنها خصال حميدة أمّنت الغني على ماله بالبركة، وأمّنت الفقير وذا الحاجة بقناعة النفس والرضى والمحبة.

وفي حالة الديون، ومن أصابته جائحة، جعل له سبيلاً في عسرته، بالإنظار وعدم التضييق:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .

فقد كانت توجيهات دين الإسلام في الناحية المالية، التي هي عصب الاقتصاد، تمثّل سياسة الأمان والرفق والرأفة بطبقات المجتمع.

وما حصلت الأزمات المالية في بلاد الغرب، إلا من الأسس التي بنوا عليها اقتصادهم: جشع ومراباة، وحرمان للمحتاج: فالغني يزداد غنى بلا تعب، والفقير يزداد فقرًا بلا رحمة.

وبعد دراساتهم التي لم تحلّ شيئًا من المشكلة بل زادهم تعقيدًا وديونًا متراكمة، فقد أعلنت بعض شركاتهم الإفلاس،

ص: 213

وأغلقت بعض البنوك، وكان رأي بعض الاقتصاديين عندهم، أن الحلّ في اتّباع الاقتصاد الإسلامي.

وهذا يرسّخ القاعدة الأصولية: ما بني على باطل فهو باطل، وأصدق من ذلك قول الله سبحانه:{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} .

ويهذّب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليم يؤمن الناس، ويرضى به أصحاب الأموال، ليأمن المجتمع ويتصافى أبناؤه، في حكاية الرجل الذي كان له ديون على الناس، فكان يرسل غلمانه لطلب الوفاء بديونهم، ويقول لهم إذا رأيتم المعسر فتجاوزوا عنه، لعل الله يتجاوز عنّا، فلقي الله وقد تجاوز عنه (1)(2)

وحتى لا يترك أمر البيع والشراء بين الناس بدون قيود، أو التداين بدون محافظة، فتحصل العداوات بين الناس، وسوء الظّن، فقد نظمت آية الدين في آخر سورة البقرة ما يجعل صاحب المال متوثّقًا على ماله، مطمئنًا على حقه بقيد آمن وشهود، حتى يحلّ أجله.

والمدين كذلك ليعمل بجهده في استثمار ما أخذه، فيحصل بذلك الأمان للآخذ والمعطى، واطمئنان كل منهما على الذي له

(1) لفظه في صحيح البخاري برقم (2077).

(2)

لفظه في صحيح البخاري برقم (2077). ') ">

ص: 214

والذي عليه .. وهذا ما يحقق أمْنًا اقتصاديًا، حيث حُفظت الحقوق بالكتابة والشهود والأجل.

وحتى يخف ثقل الجريمة في المجتمع الإسلامي، فكانت آية الدين تعطي أمانًا على المال، وأمانًا في التعامل.

وآيات البذل: صدقة وإحسانًا وزكاة، تمكّن الأمان الاجتماعي؛ لأنها موثّقة بالإيمان، وتحث صاحب القلب المؤمن على الامتثال والنفقة، وتلمس المداخل للخير، التي تؤمّن المجتمع من غائلة العوز، بالتراحم والتعاطف، وبعمل ما يزيل أسباب البغضاء، والقلق والحقد والكراهية، وذلك بمثل هذا الأمر الكريم من رب العزّة والجلال:{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} .

ويأمر سبحانه عباده ببسط اليد، والعطاء مع بشاشة الوجه، والوقت الملائم، كالكوارث والجوائح، بقوله الكريم:{وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} ، لأنّ المال مال الله، وهو وديعة عند الإنسان، ليمتحنه في أداء حق هذا المال، حتى يأمن هو ويأمن مجتمعه، وذلك حسب منزلة الإيمان في قلبه، وآيات الإنفاق في أوجه الخير كثيرة، ولإسعاد المجتمع وإدخال السرور على الضعفاء والمعوزين.

والأمن على المسلمين فيما بينهم طرقه عديدة، لو حرص كل

ص: 215

فرد من المسلمين على المسارعة في تطبيقها، بطيبة نفس، لأمن الجميع بتمكّن الإيمان؛ لأن المؤمنين ينفقون ويؤتون من أموالهم وقلوبهم وجلة، يعني خائفة ألا تقبل نفقاتهم؛ لأنهم قدّموها لوجه الله سبحانه، وابتغاء رضوانه.

والخلق عيال الله، وأحبهم إلى الله من يحنو على عياله، فهم ينفقون بسخاء، ولا يريدون السمعة والجاه، بل يمتثلون أمر الله.

فالآيات الكريمات تخاطب أهل الإيمان، وتطمئنهم بنتيجة ما يعملون، وتريح نفوسهم عما قاموا به، من عمل حيث يلمس المستقرئ نظامًا أمنيًا متكاملاً، في الأموال التي هي محك الأمور، وسبب المشكلات في كل عصر.

ومتى وقر الإيمان في المجتمع، أمن الناس وهدأت نفوسهم، وشاعت المحبة والألفة بينهم، فالأمن والإيمان متلازمان، واجتماعهما خير ومحبة، وفيه مصالح ومنافع للفرد والجماعة، وللمجتمع الإسلامي بأسره، ومدخل للدعوة لدين الإسلام، بالعمل والقدوة الصالحة والأسوة الحسنة.

ص: 216