الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (سورة البقرة (155: 157). وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} (سورة المائدة (106). وهذه حال الإنسان في الدنيا قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} (البلد:4) يقول ابن كثير (1)" أي يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة "(2) ويقول الشاعر:
ما أكثر الشاكين من دنياه
…
ليت شعري هذه الدنيا لمن (3)
ويقول آخر:
لكل شيء إذا ما تم نقصان
…
فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول
…
من سره زمن ساءته أزمان (4)
ومن أشد المصائب أن يصاب الرجل بدينه من حيث لا يشعر
يقول القرطبي:
فمن البلية أن ترى لك صاحبًا
…
في صورة الرجل السميع المبصر
فطن بكل مصيبة في ماله
…
وإذ يصاب دينه لم يشعر
(1) هو: أبو الفداء، عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير، حافظ، مؤرخ، فقيه، مفسر، له مصنفات عديدة منها (تفسير القرآن العظيم) و (البداية والنهاية)، ت: 774هـ، انظر: الطبقات الكبرى، ابن سعد: 5/ 442، ط/1400هـ- 1980م.
(2)
تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير: 4/ 109. ') ">
(3)
ديوان مهيار الديلمي:1588. ') ">
(4)
الشاعر صالح بن شريف الرندي. انظر: نفح الطيب/للمقري التلمساني:4/ 487. ') ">
المسألة الثالثة: أسباب وقوع المصائب
.
أسباب وقوع المصائب عديدة وأولها الذنوب قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} سورة النساء (62)، وقال:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} سورة النساء (79)، وقال:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} سورة الشورى (30).
وبعض الأسباب:
1) العقوبة على الذنوب مثل الشرك والكفر والموبقات:
لقد حرم الله الذنوب والفواحش ما كان علانية وما بطن منها (1)(2)
(1) انظر جامع البيان الطبري: 8/ 166.
(2)
انظر جامع البيان الطبري: 8/ 166. ') ">
{وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} سورة القصص (47)، وقد أهلك سبحانه وتعالى قوم نوح بالغرق لشركهم، قال تعالى عن قوم نوح:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} (العنكبوت:14).
وقال تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} (الفرقان:37). وقضى على فرعون وقومه بالغرق، قال تعالى:{فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} (الزخرف:55).وسلط الله الطاعون على اليهود عقوبة لهم، قال صلى الله عليه وسلم:«الطاعون رجز وعذاب أُرسل على بني إسرائيل أو على من كان قبلكم» (1) وقال صلى الله عليه وسلم: «كان عذابًا يبعثه الله على من يشاء» (2) ولقد دعا هود قومه للحق فكذبوه وخالفوه وعاندوه فأرسل عليهم ريح شديدة الهبوب ذات بردٍ شديد (3)
قال تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} (الحاقة:6) ، وعندما أنكر قوم صالح الرسل وعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وتكبروا وتجبروا على اتباع الرسل أخذتهم الصيحة (4)
قال تعالى:
(1) أخرجه مسلم: 4/ 1737.
(2)
أخرجه البخاري: 6/ 2441.
(3)
انظر تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير: 3/ 343. ') ">
(4)
انظر جامع البيان الطبري: 8/ 232. ') ">
{وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} (هود: 94).
وما كان حال قوم شعيب بأحسن منهم عندما كفروا بالله فإن الله تعالى حبس عليهم الريح سبعة أيام وسلط عليهم الحر حتى أخذ بأنفاسهم فلم ينفعهم ظل ولا ماء فكانوا يدخلون الأسراب ليتبردوا فيها فيجدوها أشد حرًا من الظاهر فهربوا إلى البرية فأظلتهم سحابة وهي الظلة فوجدوا لها بردًا ونسيمًا فأمطرت عليهم نارًا فاحترقوا (وقيل) سلط الله عليهم الحر سبعة أيام ولياليهن ثم رفع لهم جبل من بعيد فأتاه رجل فإذا تحته أنهار وعيون وشجر وماء بارد فاجتمعوا كلهم تحتها فوقع عليهم الجبل وهو الظلة) (1) وأهلك أصحاب الفيل بالحجارة قال تعالى: {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} (الفيل:4).
2) العقوبة على الذنوب التي دون الشرك والكفر الأكبر لتطهير العباد من ذنوبهم وتمحيصهم:
إن من أسباب المصائب التي تصيب الناس في الدنيا في أنفسهم وأهليهم وأموالهم هو من كسب وعمل أيديهم وأن ما يصيبهم من ذلك عقوبة من الله لهم بما اجترحوا من الآثام (2) قال تعالى:
(1) انظر الجامع لأحكام القرآن القرطبي. ') ">
(2)
جامع البيان/الطبري:27/ 235. ') ">
{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: 30). وقال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (النساء: 79)، يقول ابن كثير:" من نفسك أي بذنبك "(1)
(فالحسنات هنا النعم والسيئات المصائب)(2)
وقال صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية: «ما من اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر» (3) وقال صلى الله عليه وسلم: «يا علي ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله أكرم من أن يثنى عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا الله تعالى عنه في الدنيا فالله تعالى أحلم من أن يعود بعد عفوه» (4) وقد توعد المصطفى صلى الله عليه وسلم أمته بالعذاب من الله إن أعلنوا بالمعاصي فقال: «إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله – عز وجل بعذابٍ من عنده فقالت أم سلمة: يا رسول الله أما فيهم يومئذٍ أناس
(1) تفسير القرآن العظيم ابن كثير: 1/ 529. ') ">
(2)
القضاء والقدر عمر الأشقر: 69. ') ">
(3)
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان 7/ 153، وهناد في الزهد: 1: 249، وأورده ابن كثير في التفسير: 1/ 529، والمناوي في فيض القدير: 5/ 492، وقال الألباني في: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1796 (ضعيف).
(4)
أخرجه أحمد:1/ 99، والطبراني في الأوسط 6/ 206، والبزار في مسنده:2/ 127، وقال السيوطي في التيسير بشرح الجامع الصغير 2/ 399:(إسناده جيد) ..
صالحون؟ قال بلى، قالت فكيف يصنع أولئك؟ قال: يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان» (1) وقال صلى الله عليه وسلم مبينا أن ظهور الفاحشة والإعلان والجهور بها يسبب المصائب: «لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا» (2) وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: «ألا إن الله ليمنع العبد الرزق بذنب يصيبه» (3) وقال صلى الله عليه وسلم «الزنى يورث الفقر» (4)
وقال الشاعر:
إذا كنت في نعمة فارعها
…
فإن المعاصي تزيل النعم
وداوم عليها بذكر الإله
…
فإن الإله سريع النقم (5)
يقول الإمام ابن القم: (إن ابتلاء المؤمن كالدواء له يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته أو نقصت ثوابه وأنزلت درجته فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء ويستعد به لتمام الأجر وعلو المنزلة ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه)
(1) أخرجه أحمد: 6/ 304، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد:7/ 268: (رواه أحمد بإسنادين، رجال أحدهما رجال الصحيح) وفي رواية (ما ظهرت فاحشة في قوم إلا سلط الله عليهم الموت ولا منع قوم قط الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر) أخرجه الحاكم:2/ 136، وقال (حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد:7/ 266 (رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير رجاء بن محمد وهو ثقة).
(2)
أخرجه ابن ماجة بلفظه:2/ 1332، والحاكم:4/ 583، وقال:(صحيح الإسناد ولم يخرجاه).
(3)
أخرجه ابن ماجه: 2/ 1334 وأحمد: 5/ 277، والحاكم: 3/ 548، وقال:(حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه).
(4)
أخرجه الديلمي في الفردوس: 2/ 302، والشهاب في مسنده، 5: 1/ 73، وقال: الألباني في: ضعيف الترغيب والترهيب1432 (منكر).
(5)
أورده البيهقي في الشعب: 4/ 132، ديوان علي بن أبي طالب:1/ 145. ') ">
3) لاختبار صبر العباد وشكرهم:
قد يبتلي الله الناس بالبلايا والمصائب والنعم ليتبين شكر المحسن وصبره وكفر المتسخط يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (ومما يظهر الأمر ما ابتلى الله به عباده في الدنيا من السراء والضراء وقال سبحانه: {فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} (الفجر:15 – 16). يقول الله سبحانه ليس الأمر كذلك، ليس إذا ما ابتلاه فأكرمه ونعمه يكون ذلك إكرامًا مطلقًا وليس إذا ما قدر عليه رزقه يكون ذلك إهانة بل هو ابتلاء في الموضعين وهو الاختبار والامتحان فإن شكر الله على الرخاء وصبر على الشدة كان كل واحد من الحالين خيرًا له كما قال النبي: «لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء فشكر كان خيرًا له
وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرًا له» (1) وإن لم يشكر ولم يصبر كان كل واحد من الحالين شرًا له (2)(3)
4) لبيان حكمة الله في مزج الخير بالشر:
إن ابتلاء الله – عز وجل – بالمصائب غاية الخلق والأمر وجعله سبحانه بدار التكليف لا في دار الجزاء والنعيم فالابتلاء محك لبيان الشاكر والصابر من الكفار لنعمة ربه المتسخط عليه.
وذكر الإمام ابن القيم: (أن الابتلاء والامتحان من تمام نصره وعزه وعافيته ولهذا كان أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأقرب إليهم فالأقرب يبتلى المرء على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة شدد عليه البلاء وإن كان في دينه رقة خفف عنه ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على وجه الأرض وليس عليه خطيئة وأن ما يصيب المؤمن في هذه الدار من إدالة عدوه عليه وغلبته له وأذاه له في بعض الأحيان أمر لازم لا بد منه وهو كالحر الشديد والبرد الشديد والأمراض والهموم والغموم، فهذا أمر لازم للطبيعة والنشأة الإنسانية في هذه الدار حتى للأطفال والبهائم لما اقتضته حكمة أحكم الحاكمين، فلو تجرد الخير في هذا العالم عن الشر
(1) أخرجه مسلم: 4/ 2295.
(2)
قاعدة في المحبة ابن تيمية: 1/ 156، وانظر الفوائد ابن القيم:1/ 155،عدة الصابرين ابن القيم:125.
(3)
قاعدة في المحبة ابن تيمية: 1/ 156، وانظر الفوائد ابن القيم:1/ 155،عدة الصابرين ابن القيم:125. ') ">