الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مقدمات الطبع والتحقيق]
تقدِيم بقَلم سَمَاحَةِ الشَّيخ أبي الحَسَن عَلي الحَسَني النَّدوي
- الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.
وبعد، فأبدأ هذا التقديم المتواضع لكتاب "التعليق الممجَّد على موطأ الإمام محمد" للإمام أبي الحَسَنات عبد الحي اللَّكنَويّ رحمه الله تعالى، تحقيق وأخراج أخينا الفاضل فضيلة الشيخ الدكتور تقيّ الدين النَّدْوي، بما قاله حكيمُ الإسلام الإمام أحمد بن عبد الرحيم المعروف بالشيخ وليّ الله الدهلوي (1114 هـ - 1176 هـ) في مقدمة كتابه "المصفّى شرح الموطأ" بالفارسية ما معناه بالعربية، قال - بعدَ ما ذكر حِيرتَه بسبب اختلاف مذاهب الفقهاء وكثرة أحزاب العلماء وتجاذيهم كلّ واحد عن الآخر إلى جانب - قال رحمه الله:
(أُلهمت الإشارة إلى كتاب "الموطأ" تأليف الإمام الهُمام حجة الإسلام مالك بن أنس، وعَظُم ذلك الخاطر رويداً فرويداً، وتيقَّنْتُ أنه لا يوجد الآن كتابٌ ما في الفقه أقوى من موطأ الإمام مالك، لأن الكتب تتفاضل فيما بينها: إما من جهة فضل المصنف، أو من جهة التزام الصحة، أو من جهة شهرة أحاديث، أو من جهة القبول لها من عامة المسلمين، أو من جهة حُسن الترتيب واستيعاب المقاصد المهمة أو نحوها، وهذه الأمور كلها موجودة في الموطأ على وجه الكمال بالنسبة إلى جميع الكتب الموجودة على وجه الأرض الآن)(نقلاً من "تسهيل دراية الموطّأ في كتاب المسوّي شرح الموطّأ"، إخراج دار الكتب العلمية - بيروت، ص 17 - 18) .
ومن كلامه فيه في نفس مقدمة المصفى:
(لقد انشرح صدري وحصل لي اليقين بأن الموطأ أصح كتاب يوجد على وجه الأرض بعد كتاب الله، كذلك تيقَّنْت أن طريق الإجتهاد وتحصيل الفقه (بمعنى معرفة أحكام الشريعة من أدلتها التفصيلية) مسدود اليوم (على من رام التحقيق) إلَاّ من وجه واحد، وهو أن يجعل المحقِّق الموطّأ نصب عينيه ويجتهد في وصل مراسيله ومعرفة مآخذ أقوال الصحابة والتابعين (بتتبُّع كتب أئمة المحدثين) ، ثم يسلك طريق الفقهاء المجتهدين (في المذاهب) من تحديد مفهوم الألفاظ، وتطبيق الدلائل، وتبيين الركن والشرط والآداب، واستخلاص القواعد الكلية الجامعة المانعة، ومعرفة عِلَل الأحكام وتعميمها وتحقيقها، وفقاً لعموم العِلّة وخصوصها، وأمثال ذلك، ويجتهد في فَهْم تعقّبات الإمام الشافعيّ وغيره (كتفقّبات الإمام محمد في موطّئه، وكتاب الحجج) ، ثم يجتهد في تطبيق المختلفات أو ترجيح الأحسن منها، ويتمكَّن من تحصيل اليقين بدلالة الدلائل على تلك المسائل، وبغالب الظن للرأي لمعرفة أحكام الله تعالى) (المرجع السابق: ص 29) .
أما ما يتصل بمكانة الموطّأ للإمام محمد رحمه الله تعالى بالنسبة إلى موطّأ مالك برواية يحيى الأندلسي الليثي المصمودي وهو المتبادر بالموطّأ عند الإطلاق، وأكبّ عليه العلماء في القديم والحديث بالتدريس والشرح، فحسب القارئ ما يقوله الإمام عبدُ الحيّ بن عبد الحليم اللَّكنَوي صاحب "التعليق الممجَّد" في مقدمته لهذا الكتاب:
(له ترجيح على الموطّأ برواية يحيى وتفضيل عليه لوجوه مقبولة عند أولي الأفهام)(التعليق الممجّد، ص 35 طبع المطبع المصطفائي 1297 هـ) .
ثم ذكر هذه الأسباب وتوسَّع في عِّدها وشرحها (يُرجع إلى البحث في المقدمة، من ص 35 إلى ص 40) .
وقد كان الإمام عبد الحيّ اللَّكْنَويّ من أقدر الناس وأجدرهم بالتعليق على موطّأ الإمام محمد، لأنه كان يجمع بين الصلة العلمية القوية بالحديث والصلة العلمية القوية بفقه المذاهب الأربعة، وبصفة خاصة بالمذهب الحنفي، الذي كان
الإمام محمد من أعلامه البارزين ومؤسِّسيه الأصيلين، فكان بذلك يجمع بين نسب علميّ معنوي قريب بصاحب الموطّأ إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس، ونسب معنوي علمي كذلك بالإمام محمد بن الحسن تلميذ الإمام مالك وصاحب الإمام أبي حنيفة. والنسب العلمي والمعنوي ليس أقلَّ قيمةً ولا أضعف تأثيراً من النسب الجسدي الظاهر، وبذلك استطاع أن يتغلب على ما يعتبره كثير من التناقض والجمع بين الأضداد واستطاع أن ينصف كل الإنصاف لصاحب الكتاب الأول الإمام مالك وراويه وناقله الراشد البار الفقيه المجتهد، والمحدث الواعي، الإمام محمد. هذا عدا ما اتصف به من اتِّساع الأُفق العلمي ورحابة الصدر، وسلامة الفكر، والذكاء النادر. يقول سَمِيُّه العلامة عبد الحيّ بن فخر الدين الحسني (م 1341 هـ)، في كتابه المشهور:"نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر" في ترجمة الإمام عبد الحيّ اللَّكْنَوي يحكي قوله:
(ومن مِنَحِه أنه جعلني سالكاً بين الإفراط والتفريط لا تأتي مسألة معركة الآراء بين يديّ إلَاّ أُلهمت الطريق الوسط فيها، ولست ممّن يختار التقليد البَحْت بحيث لا يترك قول الفقهاء وإنْ خالَفَتْه الأدلة الشرعية، ولا ممن يطعن عليهم ويحقِّر الفقه بالكلّيّة)("نزهة الخواطر" 8/235) .
وصاحب كتاب "نزهة الخواطر" قد أدرك الإمامَ عبدَ الحيّ اللَّكْنوي وحضر مجالسه أكثر من مرة، فشهادته له شهود عيان وانطباع معاصر خبير، يقول: (كان متبحراً في العلوم معقولاً ومنقولاً، مطَّلعاً على دقائق الشرع وغوامضه، تبحّر في العلوم، وتحرَّى في نقل الأحكام، وحرَّر المسائل وانفرد في الهند بعلم الفتوى، فسارت بذكره الرُّكبان، بحيث إن كل علماء إقليم يُشيرون إلى جلالته، وله في الأصول والفروع قوة كاملة وقدرة شاملة، وفضيلة تامة وإحاطة عامة
…
والحاصل أنه كان من عجائب الزمن ومن محاسن الهند، وكان الثناء عليه كلمة إجماع، والاعتراف بفضله ليس فيه نزاع) ("نزهة الخواطر": 8/234 - 235) .
و"التعليق الممجَّد" للإمام عبد الحيّ اللكنوي، يمثّل ما وُصف به من الجمع بين إتقان صناعة الحديث والاطّلاع على مراجعه، وبين المعرفة الدقيقة الواسعة بالمذاهب الفقيه، ثم ما اتّصف به من سعة الصدر من سعة العلم وإعطاء الحديث حقَّه من الإجلال والترجيح، والفقه من التقدير والاهتمام، والخروج من كل ذلك بكلام متَّزن مقتصد لا إفراط فيه ولا تفريط.
وقد اتفق لكاتب هذه السطور الاطّلاع على هذا الكتاب أيام طلبه لعلم الحديث وأيام التدريس، فأُعجب بسلامة فكره ورحابة صدره.
وقد كان هذا الكتاب "التعليق الممجد" في حاجة إلى أن يتناوله أحد المتوفِّرين على دراسة الحديث الشريف وتدريسه، بالعناية به تعليقاً وتصحيحاً، ونشره بالحروف العربية الحديثة حتى تتيسر قراءتُه لمن اعتاد ذلك من العلماء في العام العربي، فقد كان كتابُه بالخط الفارسي مطبوعاً كلَّ مرة على الحجر، غير واضح وغير شائق للمشتغلين بالحديث والفقه من العلماء الشباب والكهول والشيوخ في المشرق العربي.
وقد وُفِّق لذلك أخونا العزيز فضيلة الشيخ الدكتور تقيّ الدين النَّدْوي أستاذ الحديث بجامعة الإمارات العربية المتّحدة، وعُني بتصحيح نُسخ الكتاب والتعليق على مواضع كثيرة من الكتاب، والرجوع إلى المصادر التي نقل منها المؤلف عند التردد، ووضع الفهرس العام للكتاب، وقام بذلك بعمل علمي جليل وإحياء مأثرة من مآثر عالم مخلصٍ ربَّاني خادمِ العلوم الدينية وناشرها في ربوع الهند، ومؤلِّف كتب يبلغ عددُها إلى مئة وعشرة (110) كتب منها 86 كتاباً بالعربية، فاستحق بذلك الأخ العزيز الفاضل شكر المقدِّرين لكتاب الموطّأ، والمشتغلين بعلم الحديث والفقه، وثناء الجميع وتقديرهم، تقبَّل الله عمله ونفع به الداني والقاصي.
أبو الحسن علي الحسني الندوي 15 من ذي الحجة الحرام سنة 1409 هـ
دار العوم ندوة العلماء - الهند