المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كلمات في ترجمة الشارح الإمام اللكنوي: - التعليق الممجد على موطأ محمد - جـ ١

[أبو الحسنات اللكنوي - محمد بن الحسن الشيباني]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمات الطبع والتحقيق]

- ‌تقدِيم بقَلم سَمَاحَةِ الشَّيخ أبي الحَسَن عَلي الحَسَني النَّدوي

- ‌تَقدمة بقلم الأستاذ عَبد الفتاح أبو غُدّة

- ‌حفظ الله تعالى للسنة:

- ‌نصيب المدينة من السنة أوفى نصيب وسَبْقُها في تدوين السنة:

- ‌تأليف مالك الموطأ:

- ‌تأريخ تأليف الموطأ:

- ‌الموطأ أوَّلُ ما صُنِّف في الصحيح:

- ‌مكانة "الموطأ" وصعوبة الجمع بين الفقه والحديث:

- ‌كبار الحفاظ الأقدمين وحدود معرفتهم بالفقه:

- ‌الإمامة في علم تجتمع معها العامية في علم آخر:

- ‌يُسر الرواية وصعوبة الفقه والاجتهاد:

- ‌مزايا "الموطأ

- ‌كلمةٌ عن روايات الموطأ عن مالك:

- ‌كلمات في ترجمة محمد بن الحسن راوي الموطأ وكلمات في العمل بالرأي الذي يُغمَزُ به:

- ‌كلماتٌ في العمل بالرأي الذي يُغمزُ به محمد بن الحسن والحنفيةُ وغيرهم:

- ‌ظلم جملة من المحدثين لأبي يوسف ومحمد الفقيهين المحدثين:

- ‌كلمات للإمام ابن تيمية في دفع الجرح بالعمل بالرأي:

- ‌تحجُّر الرواة وضيقهم من المشتغل بغير الحديث:

- ‌الردُّ على من قدح في أبي حنيفة بدعوى تقديمه القياس على السنة:

- ‌كلمات في ترجمة الشارح الإمام اللكنوي:

- ‌أهميةُ طبع كتاب التعليق الممجد:

- ‌مقدمة المحقِّق [د. تقي الدين الندوي أستاذ الحديث الشريف بجامعة الإمارات العربية المتحدة]

- ‌تَرجمَة "العَلاّمة فَخر الهِند عبد الحَي اللَّكنَوي" (من "نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواطر"، للشيخ السيد عبد الحيّ الحَسَني (م 1341 هـ) : 8/234)

- ‌مقَدِّمَة الشَّارح

- ‌مقَدمة: فيهَا فوائد مُهمَّة

- ‌[الفائدة] الأولى: في كيفية شيوع كتابة الأحاديث وبَدْء تدوين التصانيف، وذكر اختلافها مَقصِداً، وتنوّعها مسلكاً، وبيان أقسامها وأطوارها

- ‌الفائدة الثانية: في ترجمة الإمام مالك

- ‌الفائدة الثالثة: في ذكر فضائل الموطّأ وسبب تسميته به وما اشتمل عليه

- ‌الفائدة الرابعة: قد يُتَوَهَّم التعارض بين ما مرَّ نقله عن الشافعي

- ‌الفائدة الخامسة: من فضائل الموطّأ اشتماله كثيراً على الأسانيد التى حكم المحدثون عليها بالأصحية

- ‌الفائدة السادسة: قال السيوطي: في "تنوير الحوالك

- ‌الفائدة السابعة: [نسخ الموطأ]

- ‌الفائدة الثامنة: [عدد أحاديثه]

- ‌الفائدة التاسعة: في ذكر من علق على موطّأ الإمام مالك

- ‌الفائدة العاشرة: في نشر مآثر الإِمام محمد وشيخيه أبي يوسف وأبي حنيفة:

- ‌الفائدة الحادية عشرة: [أهمية رواية محمد، وترجيحها على رواية يحيى المشهورة]

- ‌الفائدة الثانية عشرة: في تعداد الأحاديث والآثار التي في موطأ الإمام محمد [بالتفصيل] :

- ‌خاتمة:

- ‌أبواب الصلاة

- ‌2 - (بَابُ ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ)

- ‌5 - (بَابُ الْوُضُوءِ مِنْ مسِّ الذَّكر)

- ‌8 - (بَابُ الْوُضُوءِ مِنَ الرُّعاف)

- ‌10 - (بَابُ الْوُضُوءِ مِنَ الْمَذْيِ)

- ‌12 - (بَابُ الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْبَحْرِ)

- ‌15 - (بَابُ الاغْتِسَالِ مِنَ الْجَنَابَةِ)

- ‌17 - (بَابُ الاغْتِسَالِ يَوْمِ الجُمُعة)

- ‌18 - (بَابُ الاغْتِسَالِ يومَ الْعِيدَيْنِ)

- ‌24 - (بَابُ الْمُسْتَحَاضَةِ

- ‌25 - (باب المرأة ترى الصُّفرة والكُدْرة

- ‌26 - (بَابُ الْمَرْأَةِ تَغْسِل بعضَ أعضاءِ الرَّجُلِ وَهِيَ حَائِضٌ)

- ‌27 - (باب الرجل يغتسلُ أو يتوضأ بِسُؤْرِ الْمَرْأَةِ

- ‌28 - (بَابُ الْوُضُوءِ بِسُؤْرِ الهِرّة)

- ‌29 - (باب الأَذَانِ وَالتَّثْوِيبِ

- ‌30 - (بَابُ الْمَشْيِ إِلَى الصَّلاةِ وَفَضْلِ الْمَسَاجِدِ)

- ‌34 - (باب القراءة في الصلاة خلف الإمام

- ‌39 - (باب السهو في الصلاة)

- ‌42 - (بَابُ السُّنَّةِ فِي السُّجُودِ)

- ‌43 - (بَابُ الْجُلُوسِ فِي الصَّلاةِ)

- ‌44 - (بَابُ صَلاةِ الْقَاعِدِ)

- ‌45 - (بَابُ الصَّلاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ)

- ‌46 - (بَابُ صَلاةِ اللَّيْلِ)

- ‌7 - (بابُ الحدَثِ فِي الصَّلاةِ)

- ‌8 - (بَابُ فَضْلِ الْقُرْآنِ وَمَا يُستحبُّ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عز وجل

- ‌50 - (باب الرجلان يصلِّيانِ جَمَاعَةً)

- ‌52 - (بَابُ الصلاةِ عِنْدَ طلوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا)

- ‌53 - (بابُ الصلاةِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ)

- ‌54 - (بَابُ الرَّجُل يَنْسَى الصلاةَ أَوْ تفوتُهُ عَنْ وَقْتِهَا)

- ‌56 - (بَابُ قَصْرِ الصَّلاةِ فِي السَّفَرِ)

- ‌57 - (بَابُ الْمُسَافِرِ يَدْخُلُ المِصْرَ أَوْ غيرَه مَتَى يُتِمّ الصلاةَ)

- ‌58 - (باب الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاةِ فِي السَّفَرِ)

- ‌59 - (بَابُ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْمَطَرِ)

- ‌60 - (بَابُ الصَّلاةِ عَلَى الدَّابَةِ فِي السَّفَرِ)

- ‌61 - (بَابُ الرَّجُلِ يصلِّي فَيَذْكُرُ أنَّ عَلَيْهِ صَلاةً فَائِتَةً)

- ‌64 - (بَابُ فَضْلِ الْعَصْرِ وَالصَّلاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ)

- ‌65 - (بَابُ وَقْتِ الْجُمُعَةِ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الطِّيبِ وَالدِّهَانِ

- ‌66 - (بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي صَلاةِ الْجُمُعَةِ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الصَّمْتِ

- ‌67 - (بَابُ صَلاةِ الْعِيدَيْنِ وَأَمْرِ الْخُطْبَةِ)

- ‌68 - (بَابُ صَلاةِ التَّطَوُّعِ قَبْلَ العيد أبو بَعْدَهُ)

- ‌69 - (بَابُ القراءةِ فِي صَلاةِ الْعِيدَيْنِ)

- ‌70 - (بَابُ التَّكْبِيرِ فِي الْعِيدَيْنِ

- ‌72 - (بابُ القنوتِ فِي الْفَجْرِ)

- ‌73 - (بَابُ فضلِ صلاةِ الْفَجْرِ فِي الْجَمَاعَةِ وَأَمْرِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ)

- ‌74 - (بَابُ طولِ القراءةِ فِي الصَّلاةِ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنَ التَّخْفِيفِ)

- ‌75 - (بابُ صلاةِ المغربِ وترُ صلاةِ النَّهار)

الفصل: ‌كلمات في ترجمة الشارح الإمام اللكنوي:

قيل: أليس مالكٌ تكلَّم بالرأي؟ قال: بلى، ولكن أبو حنيفة أكثَرُ رأياً منه، قيل: فهلَاّ تكلَّمتم في هذا بحصته وهذا بحصته؟ فسكت أحمد.

قال أبو عمر: ولم نجد أحداً من علماء الأمة أثبَتَ حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رَدَّه إلَاّ بحُجَّة، كادِّعاءِ نسخ بأثرٍ مِثلِه، أو بإجماع، أو بعملٍ يجبُ على أصلِهِ الانقيادُ إليه، أو طعنٍ في سند. ولو رَدَّهُ أحدٌ من غير حجة لسقطَتْ عدالتُه فضلاً عن إمامتِه، ولَزِمَهُ اسمُ الفِسْق، ولقد عافاهم الله من ذلك.

ولقد جاء عن الصحابة رضي الله عنهم من اجتهاد الرأي والقولِ بالقياس على الأصول، ما يطولُ ذكرُه، وكذلك التابعون. وعدَّدَ ابنُ عبد البر منهم خلقاً كثيرين.

انتهى كلامُ ابن عبد البر، وفيه جوابٌ شافٍ عن ذلك القَدْح. والحاصلُ أنَّ أبا حنيفة لم ينفرد بالقولِ بالقياس، بل على ذلك عمَلُ فقهاء الأمصار كما قاله ابن عبد البر، وبَسَط الكلامَ عليه رَدَّاً على من جَهِلَ فجعَلَ ذلك عَيْباً". انتهى كلام ابن حجر الهَيْتَمي.

وهذا القَدْرُ من كلام الإمامين: ابنِ حجر المكي الشافعي، ابن عبد البر الأندلسي المالكي - إلى جانب كلام الإمام ابن تيمية الحَرَّاني الحنبلى - كافٍ في تجليةِ رَدِّ جرح الراوي بالعمل بالرأي، والله سبحانه وتعالى أعلم.

‌كلمات في ترجمة الشارح الإمام اللكنوي:

- ترجَمَ الإمام اللكنوي رحمه الله تعالى لنفسه، في ستة كتب من كبار تآليفه، في خاتمة " النافع الكبير لمن يطالع الجامع الصغير"، وفي مقدمة كتابه هذا:"التعليق الممجد" في آخر الفائدة التاسعة، وفي مقدمة "السعاية لكشف ما في شرح الوقاية"، وفي مقدمة "عمدة الرعاية لحل شرح الوقاية"، وفي "التعليقات السَّنِيَّة على الفوائد البهية"، وفي مقدمة "الهداية" للإمام المَرْغِيناني.

وقد جمعتُ له ترجمةً مطولة مستفيضة من هذه الكتب الستة، وأثتبُّها في أول كتابه "الرفع والتكميل في الجرح والتعديل"، الذي خدمتُه في طبَعاته الثلاث، وأوفاها ترجمةً له في الطبعة الثالثة، كما ترجمتُ له بتراجم منقولة عن بعض معاصريه أو تلامذته، ومنها الترجمة في أول كتابه "الأجوبة الفاضلة عن الأسئلة العشرة الكاملة"، في مباحث هامة شائكة من علوم مصطلح الحديث الشريف. ومنها في أول كتابه "تحفة الأخيار بإحياء سُنَّة سيد الأبرار" صلى الله عليه وسلم الذي قريب الصدور إن شاء الله تعالى.

ص: 42

وقد تحقق عندي واستقَرَّ في نفسي، من تتبعي لكتب الإمام محمد عبد الحي اللكنوي رحمه الله تعالى ومؤلَّفاته: رسائلَ صغيرة في صفحات، أو كتباً كبيرة في مجلدات: أنَّ تصانيفَهُ دائماً - على اختلاف مواضيعها - تتميَّزُ بمزايا لا تجتمع عند غيره.

ففيها التميُّزُ بالضبط التام الدقيق للألفاظ المقتضية ذلك، والشرحُ الوافي للمعاني، وتبيينُ الأحكام الفقهية - إن كان الموضوع فقهاً - بما يكفي ويشفي.

وفيها تراجم العلماء الذين يأتي ذكرُهم في سياق البحثِ عنده، لزيادة التعريف بهم، بإيجاز في محله، وباستيعابٍ في محله.

وفيها الحديثُ عن رجال الإسناد أو بيانُ حاله إذا كان المقامُ يقتضي ذلك. وفيها تنوُّع مَعارفه المتوازِنُ المتينُ، في التفسير، والحديث وعلومهما، والفقه، والأصول، والفتاوي، والكلام، والتاريخ، والسِّيَر، والتراجم، والأنساب، واللغة، والنحو، والصرف، والمنطق، والمناظرة، والحكمة. وقلَّ أن يجتمع هذا كلُّه في العلماء.

وفيها التمكن التام من الولوج في كل علم أو فن يؤلِّفُ فيه، بل فيه التفوُّقُ والمهارة البارزة والإتقان الظاهر في كل ما يكتبه، وفيها من التواضع البالغ عند عرض المسائل والآراء، التي يختارها أو يرجحها أو يجزم بها ويخطِّئ سواها، فلا انتفاخ ولا صُراخ، ولا استكبار ولا استعلاء، ولا تكلف ولا مغالاة.

وفيها الإنصاف والاعتدال، والبعدُ عن التعصب لمذهب أو رأيٍ معيَّن، بوضوح وجلاء، اتباعاً منه للدليل ولوجاهة الرأي المختار. وفيها استيعابُ الاستدلال للمسألة التي يحققها حتى ينتهي بالقارئ إلى الحكم الذي قرَّره ويُقنعَه به.

وفيها الصبر والجَلَدُ القوي على مناقشة ما يَحتاج إلى المناقشة بتروٍّ وأناة، ليتميَّز الصوابُ من الخطأ في الموضوع.

وفيها كثرةُ المصادر المعروفة وغيرِ المعروفة، يَسردُها بلا كلل ولا ملل، وكأنها كلَّها كالخاتم في يده، أو السطورِ أمامَ عينيه، فينقلُ منها ما يريد، لدعم ما انتهى إلى تقريره بكل أمانة ودقة واستيفاء، وكثير من تلك المصادر التي ينقل منها ما سمع جلَّة العلماء المشتغلين في العلم بأسمائها فضلاً عن معرفتهم بذواتها وقراءتها، فلذا يَكثُر الجديدُ والمفيدُ في كل ما يكتبه.

ص: 43

وإني لأتعجَّبُ كيف نَقَل تلك النقول من مكامنها، وهي في بطون الكتب البعيدة عن الأيدي والأنظار، التي لا فهارس لها ولا أدلةً على مضامِينها، وإني أتصور أنَّ بينه وبين تلك النقول شعاعاً مرشداً إليها ومغناطيساً دالاً عليها أصدَق الدلالة وأدقِّها.

نعم الأمرُ كذلك في تصوري، وذلك الشعاع والمغناطيس هو الذَّهنُ الفريدُ المتقد، العجيب، الذي أكرمه الله به، فهو يرشده إلى كل شاذة وفاذة في الباب، فتراهُ يُوردُها في تأليفه دِراكاً تباعاً، حتى كأنه قد استظهرها حفظاً، وتمثَّلها لفظاً.

وقد صار طابَعُ الوَلُوع بالتحقيق والتدقيق، وترجيح الراجح وتضعيفِ الواهي في المسألة: عفوياً في حجاه وسِمَةً بارزة في جميع كتبه ومؤلفاته، فقد أَلِفَ واستلذَّ التحقيق واستطعمه حتى صار طبعاً في خاطره وتفكيره، وأُوتيَ الصبرَ عليه، على أنه لم يَسلم من الخطأ الذي ما تنزه عنه إلا الأنبياء الكرامُ عليهم الصلاة والسلام، الذي عصمهم الله تعالى بفضله وكرمه.

وكنتُ في أول أمري لمَّا أُطالعُ في كتابه المتميز المفيد: "الفوائد البهية في تراجم الحنفية"، وأراه يقول في تراجم من يترجمهم:(وقد طالعت من كتبه كتاب كذا، وكتاب كذا، وكتاب كذا) .

كنتُ أقول هذا القول على التجوُّز، أي أنه يتصفح الكتاب وينظر فيه بالإجمال، لأن الكتب التي يذكر مطالعته لها كثيرة جداً جداً، وبعضها في مجلدات كبار، فهي إلى ندرة وجودها، وأنها من المخطوطات: واسعةٌ متسعة، لا يَصبُر على قراءة الكتاب الواحد منها أمثالُنا! إلا إذا دَفَعَتْه إلى ذلك رغبة حبٍّ وشوق، أو إلزام أتاه من فوق.

فلما قرأتُ جملةً من كتبه، واستنرتُ بتآليفه ومداركه العالية عملاً بوصية شيخي الإمام العلامة المحقن محمد زاهد الكوثري رحمه الله تعالى، تبيَّن لي أن قوله:(طالعت من كتبه كتاب كذا، وكتاب كذا....) : حقيقةٌ لا تجوُّز فيها، وأنها مطالعةُ العالم الذكي اللوذعي الذي يفهم ويعي، ويحفظ ما قرأ وطالع.

ويكون ما قرأهُ من سنين بعيدة منصوباً بين عينيه، ففي كثير من المواضِع والموضوعات، التي يكتبُ أو يؤلفُ فيها، تجدُهُ ينقلُ الكلمة القصيرة الصغيرة من الكتاب الطويل الكبير، فانبهرتُ من حَذَاقته وزكانته وشدةِ استيعابه للموضوع، الذي لا يصلُ إليه المطالعُ المطَّلعُ في مَظِنَّتِه إلى بصعوبة، تراهُ هو قد تناوله بسهولة ويُسر وانسجام.

ص: 44

ومما أذكره مثالاً لهذه السِّمَةِ الساميةِ في كتبه: الكتابُ الكبيرُ الذي سمَّاه "ظفر الأماني في شرح مختصر السيد الجُرجاني"، في علم المصطلح الحديثي ومن أكبر ما أُلِّف فيه، فقد هالني حين حققته واعتنيت به لطبعه كثرةُ النقول فيه من مصادر بعيدة متباينة المواضيع والعلوم.

فتراه ينقل الجملة والجملتين، والكلمةً والكلمتين، ثم يُعَرِّحُ على كتاب آخر فينقل منه الصفحة أو نصفَها أو مثيلها، ثم ينتقل إلى كتاب آخر لا يُظَنُّ ولا يَرِدُ إلى الذهن أن يكون فيه الجملةُ التي يلتقطها منه، وتكون هي في موضعها الذي أثبتها فيه كحجرة الخاتم الثمينة في الخاتم النفيس.

فللَّه دَرُّه ما أعلمَهُ بالنصوص ومظانها وغيرِ مظانها، وما أصبرَهُ على نقلها وأنقَدَه لاختيارها، والكتبُ أغلبها لديه مخطوطة!

وإذا كان هذا شأنَه في الكتاب الكبير الضخم فلا يستغرب أن يكون هكذا شأنُه أيضاً في الكتب الصغيرة والرسائل اللطيفة، كرسالته:"تحفة الأخيار بإحياء سنة سيد الأبرار"، وهي من آخر ما اعتنيت بخدمته وتقديمه للطبع، فهذه الرسالةُ على لطافتها حجماً، نَقَل فيها من مصادر مخطوطة ما سمعتُ بأسماءِ كثيرٍ منها فضلاً عن رؤيتها، في الفقه الحنفي وفي غيره، فقد كان لديه مكتبة عامرة جامعة، تستجيبُ لكل علم يريدُ تحقيقَهُ والتأليفَ فيه.

فهذا الرجل إمامٌ في العلم، وإمام في كثرة التآليف المفيدة المتقنة، مع قِصَر العمر، فقد عاش تسعاً وثلاثين سنة وأربعة أشهر، وخلَّفَ أكثر من خمسة عشر ومئةِ كتاب ورسالة، في مواضيع شتى في المنقول والمعقول، شرحاً أو تحشيةً أو تأليفاً مبتكراً مستأنفاً.

ولو حُسِبَتْ أيامُ حياته، وقُسِّمَتْ على صفحات مؤلفاته، لأتت بالمدهش العجاب، من وفرة ما يصنِّفُه كلَّ يوم، فأين وقتُ المطالعة والتفكير والنسخ والتسويد والتبييض إن كان لديه تسويد، والأكل والشرب والنوم والأسفار عنده؟

ولكنَّ هناك أناساً آتاهم الله تعالى المواهبَ النادرة الفَذَّة، والقدرةَ العجيبة الباهرة عل احتواء العلم، وتحقيقه، وتدوينه عَذْباً مُضيئاً وَضِيئاً، من شعاع الخاطر إلى رأس

ص: 45