الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم كان أفقَههم في زمانه إبراهيمُ النخعي؟؟، كان فيهم بمنزلة سعيد بن المسيب في أهل المدينة، وكان يقول: إني لأسمعُ الحديث الواحد، فأقِيسُ به مئة حديث. ولم يكن يَخرج عن قول عبد لله وأصحابه. وكان الشعبيُّ أعلم بالآثار منه. وأهلُ المدينةِ أعلمُ بالسنةِ منهم.
وقد يوجد لقدماء الكوفيين أقاويلُ متعددة، فيها مخالفةٌ لسنة لم تبلغهم، ولم يكونوا مع ذلك مطعوناً فيهم، ولا كانوا مذمومين، بل لهم من الإسلام مكانٌ لا يخفى على من عَلِمَ سيرة السلف، وذلك لأن مثل هذا قد وُجِدَ لأصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، لأن الإحاطة بالسنَّة كالمتعذر على الواحِد أو النفرِ من العلماء. ومَنْ خالف ما لم يبلغه فهو معذور". انتهى.
قال عبد الفتاح: ولله دَرُّ الإمام ابن تيمية كيف جَلَّى هذه المسألة، واستوفاها ورَدَّ قول الجارح بها بمتانة وإقناع. وبهذه البيان الشافي الوافي يتبيَّنُ أن جرح الراوي بأنه (من أهل الرأي) مردود، ولا يصح غمزُ الثقات الأثبات والأعلام الكبار به.
تحجُّر الرواة وضيقهم من المشتغل بغير الحديث:
- ومأتى جَرحهم الراوي بهذا الجرح المردود: أنه كانت هِمّةُ أكثر أهل الحديث متوجهة إلى الرواية والسماع، ويرفضون النظر في المآخذ والمدارك، كما أشار إليه الشيخ القاسمي رحمه الله تعالى فيما تقدم من كلامه.
بل كان أولئك الرواة يَرون العلم كل العلم رواية الحديث ومتناً لا بحثاً وفقياً، ويرون إعمال الرأي في فهم الأثر خروجاً عليه، فإذا بلغهم عن فقيه أنه تكلّم في مسألةٍ باحثاً مجتهداً، أو عن متكلّم قال في صفةٍ من صفات الله تعالى قولاً، أو عن مُذكّرٍ تحدث عن حال النفس كاشفاً مُنَقّباً، أو عن محدثٍ روى شعراً: ثارَتْ لذلك حفيظتُهم، ونقموا عليه ما صنع، وقالوا فيه من الجرح ما يرونه ملاقياً للجارح الذي اتصف به في نظرهم.
وقد جاء في ترجمة الإمام الشافعي رضي الله عنه، في "معجم الأدباء" لياقوت الحموي (299: 17) ، ما نصه: "عن مصعب الزبيري قال: كان أبي والشافعي يتناشدان، فأتى
الشافعي على شعر هُذيل حفظاً، وقال: لا تُعلِم بهذا أحداً من أهل الحديث، فإنهم لا يحتملون هذا". انتهى.
قلتُ: بل إنّ أهل الحديث لم يحتملوا أقل من هذا بكثير! لم يحتملوا تصنيفَ الحديث على الأبواب! جاء في "الحلية" لأبي نعيم (165: 8)، في ترجمة الإمام الجليل القدوة عالِم خراسان الفقيه المحدث العابد المجاهد:(أبي عبد الرحمن عبد الله بن المبارك) المتوفى سنة 181 رحمه الله تعالى، ما يلي:
"قال أحمد بن أبي الحَوَارى: سمعتُ أبا أسامة - هو الحافظ الإمام الحجة حماد بن أسامة الكوفي - يقول: مررت بعبد الله بن المبارك بطرَسوس -ثغر من ثغور الجهاد في وجه الأعداء - وهو يُحدِّث، فقلتُ: يا أبا عبد الرحمن، إني لأنكر هذه الأبوابَ والتصنيف الذي وضعتمون ما هكذا أدركنا المشيخة! " انتهى.
فإذا كان هذا شأن أحد كبار المحدثين، مع شيخ المحدِّثين والزهاد، وإمام المجاهدين والعُبَّاد: عبد الله بن المبارك، وكلُّ الذي صنَعَهُ هو أنه جمع الأحاديث تحت عناوين (الأبواب والتصنيف عليها) ! فلا شك أنَّ شأنهم أشدُّ إنكاراً مئةَ مرةً مع الذي يُعمل رأيَه في فهم النص أو يؤوله لدليلٍ يقتضي ذلك عنده!
وقال الإمام الغزالي في "الإحياء"(79: 1 في مبحث (آفات العلم وبيان علامات علماء الآخرة والعلماء السوء)) : "كان الأولون يَكرهون كَتبَ الأحاديث وتصنيف الكتب، لئلا يشتغل الناس بها عن الحفظ، وعن القرآن، وعن التدبر والتذكر، وكان أحمد بن حنبل ينكر على مالك في تصنيفه "الموطأ"، ويقول: ابتدع ما لم يفعله الصحابة رضي الله عنهم". انتهى.
وانظر أقوالاً أخرى للإمام أحمد - في هذا الصدد أيضاً وعلى غِرار ما نقله الإمام الغزالي - في "مناقب الإمام أحمد " لابن الجوزي في (الباب الثامن والعشرون في ذكر كراهيته وَضْعَ الكتبِ المشتملة على الرأي، ليتوافر الالتفات إلى النقل)