الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليه بتأليف "الموطأ": يا أبا عبد الله، إنه لم يَبق على وجه الأرض أعلَمُ مني ومنك، وإني قد شغَلَتني الخلافة، فضَعْ أنت للناس كتاباً ينتفعون به، تجنَّبْ فيه رُخَص ابن عباس، وشدائدَ ابن عمر - وشوادَّ ابن مسعود -، ووطِّئْهُ للناس توطئة، قال مالك: فوالله لقد علَّمني التصنيف يومئذ". انتهى.
فألف مالك "الموطأ"على هذا المنهج، فالموطأ معناه: المسهَّل الميسَّر (يقال في اللغة: وَطُؤَ الموضعُ يَوْطُؤُ وَطاءةً ووُطوءةً: لانَ سَهُل، فهو وطيءٌ، ووطَّأ الموضعَ صَيَّرهُ وطيءاً، ووطَّأ الفرِاشَ: دَمَّثَهُ ودَثَّرهُ، والموطَّأ: المسهَّلُ الميسَّر. كما في "القاموس" و"المعجم الوسيط") .
وذكر العلماء أن الإمام ابنَ أبي ذئب مُعاصِرَ الإمام مالك وبلديَّه - قد صنَّف موطّأً أكبرَ من موطأ مالك، حتى قيل لمالك: ما الفائدة في تصنيفك؟ فقال: ما كان لله بقي (من "الرسالة المستطرفة" ص 9) .
تأريخ تأليف الموطأ:
- ذكر العلماء أن أبا جعفر المنصور حين حَجَّ بالناس أيام خلافته، طَلَب من الإمام مالك أن يُدوِّن كتاب "الموطأ".
وقد استقرأت حجات أبي جعفر بعد خلافته، في "تاريخ الطبري"، فتبيَّن أنها كانت خمسَ حجات، أولُها في سنةِ 140 ثم سنة 144، ثم سنةِ 147، ثم سنةِ 152، ثم سنةِ 158، التي توفي فيها بمكة حاجاً محرماً.
ولم يتعرض الإمام ابن جرير عند ذكره هذه الحجات لأبي جعفر، للحديث عن تدوين كتاب "الموطأ".
نعم تعرَّض لذلك ابن جرير في كتابه "ذيل المذيَّل" المطبوع بآخر تاريخه 11: 659، فذكر القصة عن المهدي أولاً، ثم ذكرها عن أبي جعفر ثانياً برواية الواقدي.
وتابعه على ذكرِ ذلك كذلك: بتقديم رواية أن المهدي هو المُقترحُ لتأليف "الموطأ"، على رواية أن المنصور هو المقترح تأليفه: الإمامُ ابن عبد البر في "الانتقاء" ص 40، فساق الروايتين من طريق ابن جرير، الأولى بسنده إلى إبراهيم بن حماد الزهري المدني، عن مالك. والثانية بسنده إلى محمد بن عمر الواقدي، عن مالك.
وعلَّق عليه شيخنا العلامة الكوثري رحمه الله تعالى، ما يلي:
"وصنيعُ ابن جرير في "ذيل المذيَّل" كما هنا، يُؤذِنُ بترجيحِهِ الروايةَ الأولى، وتحاميهِ عن رواية الواقدي - أن القصة مع المنصور -، لكن ابن عساكر خرَّج في "كشف المغطَّا من فضل الموطَّا" بطرقٍ عن مالك ما يُؤيدُ روايةَ الواقدي، وإن لم تخلُ واحدُ منها عن مقال. وفيه - أي في "كشف المغطى" - سماعٌ الرشيد "الموطأ" عن مالك لمَّا حَجَّ مع أبي يوسف.
والذي يُستخلص من مختلِفِ الروايات في ذلك، أنَّ المنصور تحادث مع مالك في تدوين عِلم أهل المدينة عامَ ثمانية وأربعين ومئة محادثةً إجمالية، ولمَّا حَجَّ قَبْلَ حجتِهِ الأخيرة، أوصاه أن يتجنب فيما يدونه شدائدَ ابن عُمَر، ورُخَصَ ابن عباس، وشَوَاذَّ ابن مسعود رضي الله عنهم.
وأما إخراجهُ للناس ففي سنة تسع وخمسين ومئة في عهد المهدي، فلا تثبُتُ روايتُهُ ممَّن تقدَّم على ذلك". انتهى.
وقال شيخنا الكوثري أيضاً رحمه الله تعالى، في مقدمته لجزء "أحاديث الموطأ واتفاق الرواه عن مالك واختلافُهم فيها" للدار قطني، ما يلي: "ألَّف عبد العزيز بن عبد لله بن أبي سلمة الماجِشُون كتاباً فيما اجتمع عليه أهل المدينة، ولما اطلع عليه مالك بن أنس رضي الله عنه، استحسن صنيعَه، إلى أنه أخَذ عليه إغفاله ذكر الأخبار والآثار في الأبواب، حتى قرر أن يقوم هو بنفسه بجمع كتابٍ تحتوي أبوابُهُ صِحاحَ الأخبار وعملَ أهل المدينة، في أبواب الفقه، فيدأ يمهُدُ السبيل لذلك.
وكان المنصور العباسي بلغه شيء مما عَزَم عليه مالك، فاجتمع به في حجته - قَبْلَ - الأخيرة في التحقيق، وأوصاه أن يدون علمَ أهل المدينة، مجتنباً رُخَصَ ابن عباس، وشدائدَ ابن عمر، وشواذَّ ابن مسعود رضي الله عنهم، حيث كان جماعة من أصحاب هؤلاء ينشرون علومهم في المدينة المنورة، منهم الفقهاء العَشَرة في أيام عمر بن عبد العزيز، ولهم أصحابٌ وأصحابُ أصحاب أدركهم مالك.
فتقوَّتْ عزيمة مالك حتى تجرَّد لجمع الصفوة من الأحاديث والآثار المروية عند أهل المدينة، ولجمع العملِ المتوارثِ بينهم، مقتصراً في الرواية على شيوخ أهل المدينة سوى ستة، وهم: أبو الزبير من مكة، وإبراهيم بن أبي عَبْلَةَ من الشام، وعبد الكريم بن
مالك من الجزيرة، وعطاء بن عبد الله من خراسان، وحُمَيدٌ الطويل وأيوبُ السِّختياني من البصرة، إلى أن أتم عملَه في عهد المهدي العباسي، كما بينتُ ذلك فيما علقتُ على "الانتقاء" لابن عبد البر". انتهى.
وهذا الذي رجحه شيخنا من أن المنصور تحدث مع مالك في سنة 148، بشأن تدوين علم أهل المدينة، وأوصاه قبل حجته الأخيرة أن يتجنب في التأليف شدائد ابن عمر.. غير ظاهر فإن حجته الأخيرة التي توفي فيها كانت سنة 158، والحجة التي قبلها كانت سنة 152 والتي قبلها سنة 147، والتي قبلها سنة 144، والتي قبلها سنة 140، كما أسلفته عن "تاريخ ابن جرير".
ولم يحج المنصور في سنة 148، وإنما حج بالناس ابنُهُ جعفر كما في غير كتاب فتكون سنةُ 148 سَبْقَ قلم عن 147.
ثم قوله: إن المنصور تحدث مع مالك في تلك السنة، وأوصاه بتجنبِ ما أوصاه بتجنبه في الحجة التي قبل الأخيرة، وهي - كما عند ابن جرير - سنة 152، فيه بُعدٌ أيضاً فإن المتبادر أن يقع ذلك من المنصور في أول حجة له بعد توليه الخلافة سنة 140، أو في ثاني حجة سنة 144، ويمكن أن يكون ذلك في ثالث حجة سنة 147، أما في رابع حجة سنة 152، ففيه بُعدٌ شديد لأنه يلزم أن يكون مالك ألَّف "الموطأ" بأقلَّ من سبع سنوات، لأنه قد سمعه منه المهدي سنة 159، على ما ذكره شيخنا، في حين أن المهديَّ إنما حجَّ بالناس سنة 160، وحجَّ الهادي سنة 161، كما عند ابن جرير.
والمذكور أن مالكاً ألَّف "الموطأ" في سنين كثيرة، ذُكر أنها أربعون، وذُكر أنها دون ذلك، وعلى كل حال يستبعد أن تكون مدة التأليف نحو سبع سنوات، لما عُرف من إتقان مالك وضبطه وانتقائه، وقلة تحديثه بالأحاديث في مجالسه، فلم يكن يحدث في مجلسه إلا ببضعة أحاديث معدودة فتأليفه "الموطأ" بعد سنة 140 جزماً أو بعد سنة 147، وفراغه منه بعد سنة 158 جزماً، والله تعالى أعلم.
وهكذا تم تأليف هذا الكتاب "الموطأ" فقد جمع فيه الإمام مالك - كما سبق نقلُ قوله - حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة، وأقوال التابعين، ورأياً هو إجماعُ أهل المدينة، لم يخرج عنها، فجمع الحديثَ بأوسع معانيه - وما يتصلُ به من آثار الصدر الأول، لأنها كانت المرجع الأكبَر في الأحكام العملية.