المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌30 - (باب المشي إلى الصلاة وفضل المساجد) - التعليق الممجد على موطأ محمد - جـ ١

[أبو الحسنات اللكنوي - محمد بن الحسن الشيباني]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمات الطبع والتحقيق]

- ‌تقدِيم بقَلم سَمَاحَةِ الشَّيخ أبي الحَسَن عَلي الحَسَني النَّدوي

- ‌تَقدمة بقلم الأستاذ عَبد الفتاح أبو غُدّة

- ‌حفظ الله تعالى للسنة:

- ‌نصيب المدينة من السنة أوفى نصيب وسَبْقُها في تدوين السنة:

- ‌تأليف مالك الموطأ:

- ‌تأريخ تأليف الموطأ:

- ‌الموطأ أوَّلُ ما صُنِّف في الصحيح:

- ‌مكانة "الموطأ" وصعوبة الجمع بين الفقه والحديث:

- ‌كبار الحفاظ الأقدمين وحدود معرفتهم بالفقه:

- ‌الإمامة في علم تجتمع معها العامية في علم آخر:

- ‌يُسر الرواية وصعوبة الفقه والاجتهاد:

- ‌مزايا "الموطأ

- ‌كلمةٌ عن روايات الموطأ عن مالك:

- ‌كلمات في ترجمة محمد بن الحسن راوي الموطأ وكلمات في العمل بالرأي الذي يُغمَزُ به:

- ‌كلماتٌ في العمل بالرأي الذي يُغمزُ به محمد بن الحسن والحنفيةُ وغيرهم:

- ‌ظلم جملة من المحدثين لأبي يوسف ومحمد الفقيهين المحدثين:

- ‌كلمات للإمام ابن تيمية في دفع الجرح بالعمل بالرأي:

- ‌تحجُّر الرواة وضيقهم من المشتغل بغير الحديث:

- ‌الردُّ على من قدح في أبي حنيفة بدعوى تقديمه القياس على السنة:

- ‌كلمات في ترجمة الشارح الإمام اللكنوي:

- ‌أهميةُ طبع كتاب التعليق الممجد:

- ‌مقدمة المحقِّق [د. تقي الدين الندوي أستاذ الحديث الشريف بجامعة الإمارات العربية المتحدة]

- ‌تَرجمَة "العَلاّمة فَخر الهِند عبد الحَي اللَّكنَوي" (من "نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواطر"، للشيخ السيد عبد الحيّ الحَسَني (م 1341 هـ) : 8/234)

- ‌مقَدِّمَة الشَّارح

- ‌مقَدمة: فيهَا فوائد مُهمَّة

- ‌[الفائدة] الأولى: في كيفية شيوع كتابة الأحاديث وبَدْء تدوين التصانيف، وذكر اختلافها مَقصِداً، وتنوّعها مسلكاً، وبيان أقسامها وأطوارها

- ‌الفائدة الثانية: في ترجمة الإمام مالك

- ‌الفائدة الثالثة: في ذكر فضائل الموطّأ وسبب تسميته به وما اشتمل عليه

- ‌الفائدة الرابعة: قد يُتَوَهَّم التعارض بين ما مرَّ نقله عن الشافعي

- ‌الفائدة الخامسة: من فضائل الموطّأ اشتماله كثيراً على الأسانيد التى حكم المحدثون عليها بالأصحية

- ‌الفائدة السادسة: قال السيوطي: في "تنوير الحوالك

- ‌الفائدة السابعة: [نسخ الموطأ]

- ‌الفائدة الثامنة: [عدد أحاديثه]

- ‌الفائدة التاسعة: في ذكر من علق على موطّأ الإمام مالك

- ‌الفائدة العاشرة: في نشر مآثر الإِمام محمد وشيخيه أبي يوسف وأبي حنيفة:

- ‌الفائدة الحادية عشرة: [أهمية رواية محمد، وترجيحها على رواية يحيى المشهورة]

- ‌الفائدة الثانية عشرة: في تعداد الأحاديث والآثار التي في موطأ الإمام محمد [بالتفصيل] :

- ‌خاتمة:

- ‌أبواب الصلاة

- ‌2 - (بَابُ ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ)

- ‌5 - (بَابُ الْوُضُوءِ مِنْ مسِّ الذَّكر)

- ‌8 - (بَابُ الْوُضُوءِ مِنَ الرُّعاف)

- ‌10 - (بَابُ الْوُضُوءِ مِنَ الْمَذْيِ)

- ‌12 - (بَابُ الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْبَحْرِ)

- ‌15 - (بَابُ الاغْتِسَالِ مِنَ الْجَنَابَةِ)

- ‌17 - (بَابُ الاغْتِسَالِ يَوْمِ الجُمُعة)

- ‌18 - (بَابُ الاغْتِسَالِ يومَ الْعِيدَيْنِ)

- ‌24 - (بَابُ الْمُسْتَحَاضَةِ

- ‌25 - (باب المرأة ترى الصُّفرة والكُدْرة

- ‌26 - (بَابُ الْمَرْأَةِ تَغْسِل بعضَ أعضاءِ الرَّجُلِ وَهِيَ حَائِضٌ)

- ‌27 - (باب الرجل يغتسلُ أو يتوضأ بِسُؤْرِ الْمَرْأَةِ

- ‌28 - (بَابُ الْوُضُوءِ بِسُؤْرِ الهِرّة)

- ‌29 - (باب الأَذَانِ وَالتَّثْوِيبِ

- ‌30 - (بَابُ الْمَشْيِ إِلَى الصَّلاةِ وَفَضْلِ الْمَسَاجِدِ)

- ‌34 - (باب القراءة في الصلاة خلف الإمام

- ‌39 - (باب السهو في الصلاة)

- ‌42 - (بَابُ السُّنَّةِ فِي السُّجُودِ)

- ‌43 - (بَابُ الْجُلُوسِ فِي الصَّلاةِ)

- ‌44 - (بَابُ صَلاةِ الْقَاعِدِ)

- ‌45 - (بَابُ الصَّلاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ)

- ‌46 - (بَابُ صَلاةِ اللَّيْلِ)

- ‌7 - (بابُ الحدَثِ فِي الصَّلاةِ)

- ‌8 - (بَابُ فَضْلِ الْقُرْآنِ وَمَا يُستحبُّ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عز وجل

- ‌50 - (باب الرجلان يصلِّيانِ جَمَاعَةً)

- ‌52 - (بَابُ الصلاةِ عِنْدَ طلوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا)

- ‌53 - (بابُ الصلاةِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ)

- ‌54 - (بَابُ الرَّجُل يَنْسَى الصلاةَ أَوْ تفوتُهُ عَنْ وَقْتِهَا)

- ‌56 - (بَابُ قَصْرِ الصَّلاةِ فِي السَّفَرِ)

- ‌57 - (بَابُ الْمُسَافِرِ يَدْخُلُ المِصْرَ أَوْ غيرَه مَتَى يُتِمّ الصلاةَ)

- ‌58 - (باب الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاةِ فِي السَّفَرِ)

- ‌59 - (بَابُ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْمَطَرِ)

- ‌60 - (بَابُ الصَّلاةِ عَلَى الدَّابَةِ فِي السَّفَرِ)

- ‌61 - (بَابُ الرَّجُلِ يصلِّي فَيَذْكُرُ أنَّ عَلَيْهِ صَلاةً فَائِتَةً)

- ‌64 - (بَابُ فَضْلِ الْعَصْرِ وَالصَّلاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ)

- ‌65 - (بَابُ وَقْتِ الْجُمُعَةِ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الطِّيبِ وَالدِّهَانِ

- ‌66 - (بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي صَلاةِ الْجُمُعَةِ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الصَّمْتِ

- ‌67 - (بَابُ صَلاةِ الْعِيدَيْنِ وَأَمْرِ الْخُطْبَةِ)

- ‌68 - (بَابُ صَلاةِ التَّطَوُّعِ قَبْلَ العيد أبو بَعْدَهُ)

- ‌69 - (بَابُ القراءةِ فِي صَلاةِ الْعِيدَيْنِ)

- ‌70 - (بَابُ التَّكْبِيرِ فِي الْعِيدَيْنِ

- ‌72 - (بابُ القنوتِ فِي الْفَجْرِ)

- ‌73 - (بَابُ فضلِ صلاةِ الْفَجْرِ فِي الْجَمَاعَةِ وَأَمْرِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ)

- ‌74 - (بَابُ طولِ القراءةِ فِي الصَّلاةِ وَمَا يُسْتَحَبُّ مِنَ التَّخْفِيفِ)

- ‌75 - (بابُ صلاةِ المغربِ وترُ صلاةِ النَّهار)

الفصل: ‌30 - (باب المشي إلى الصلاة وفضل المساجد)

‌30 - (بَابُ الْمَشْيِ إِلَى الصَّلاةِ وَفَضْلِ الْمَسَاجِدِ)

93 -

أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَلاءُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (1) بنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ (2) ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إذ ثُوِّبَ بالصلاةِ (3)

قال: كان بلال ينادي بالصبح فيقول: حي على خير العمل، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أن يجعل مكانها الصلاة خير من النوم، وترك حي على خير العمل. ذكره الشيخ عبد الحق الدهلوي في "فتح المنان"، وقد مرَّ من رواية البيهقي، مثله، وذكر نور الدين علي الحلبي في كتابه "إنسان العيون في سيرة النبي المأمون" نقل عن ابن عمر، وعن علي بن الحسين أنهما كانا يقولان في أذانهما بعد حيّ على الفلاح حي على خير العمل. انتهى. فإن هذه الأخبار تدل على أن لهذه الزيادة أصلاً في الشرع فلم تكن مما ليس منه، ويمكن أن يُقال: إن رواية البيهقي وأبي الشيخ قد تُكُلِّم في طريقهما، فإن كانت ثابتةً دلَّت على هجران هذه الزيادة وإقامة الصلاة خير من النوم مقامه، فصارت بعد تلك الإِقامة مما ليس منه، وأما فعل ابن عمر وغيره فلم يكن دائماً بل أحياناً لبيان الجواز، ولو ثبت عن واحدٍ منهما دوامُه أو عن غيرهما، فالأذان المعروف عن مؤذِّني رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت بتعليمه الخالي عن هذه الزيادة يُقدَّم عليه، فافهم فإن المقام حقيق بالتأمل.

(1)

هو تابعي كابنه.

(2)

هو عبد الرحمن بن يعقوب الجهني المدني، قال النسائي: ليس به بأس. وابنه العلاء أبو شِبْل - بالكسر - المدني صدوق، كذا في "الإِسعاف" و"التقريب".

(3)

قوله: إذا ثُوِّب، أي: أقيم، وأصل ثاب رجع، يقال: ثاب إلى المريض جسمه، فكأن المؤذِّن رجع إلى ضرب من الأذان للصلاة، وقد جاء هذا الحديث عن أبي هريرة بلفظ:"إذا أقيمت الصلاة"، وهو يبيِّن أن التثويب ها هنا

ص: 362

فَلا تأتُوها تسعَوْن (1) وأْتُوها وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ (2) ، فَمَا أدركتُمْ (3) فصلُّوا وما فاتَكُم (4)

الإِقامة، وهي رواية الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة، وفي رواية لهما أيضاً:"إذا سمعتم الإِقامة". وهي أخص من قوله في حديث أبي قتادة عندهما أيضاً: "إذا أتيتم الصلاة".

(1)

قوله: تسعَوْن، السعي ها هنا المشي على الأقدام بسرعة والاشتداد فيه، وهو مشهور في اللغة، ومنه السعي بين الصفا والمروة، وقد يكون السعي في كلام العرب العمل بدليل قوله تعالى:{وَمَنْ أَرَادَ الآخرةَ وَسَعى لَهَا سَعْيَهَا} ، وقوله تعالى:{إِنَّ سعيَكم لشتى} ونحو هذا كثير، قاله ابن عبد البر.

(2)

بالرفع على أنها جملة في موضع الحال، وضبطه القرطبي بالنصب على الإِغراء.

(3)

قوله: فما أدركتم فصلوا، جواب شرط محذوف، أي: إذا فعلتم ما أمرتكم به من السكينة فما أدركتم

إلخ.

(4)

قوله: وما فاتكم فأتمّوا، قال الحازمي في كتاب "الناسخ والمنسوخ": أخبرنا محمد بن عمر بن أحمد الحافظ، أنا الحسن بن أحمد القاري، أنا أبو نعيم، نا سليمان بن أحمد، نا أبو زرعة، نا يحيى بن صالح، نا فليح، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل، قال: كنا نأتي الصلاة، أو يجيء رجل وقد سُبق بشيء من الصلاة أشار إليه الذي يليه: قد سُبقت بكذا وكذا، فيقضي، قال: فكنا بين راكع وساجد وقائم وقاعد، فجئتُ يوماً وقد سُبقت ببعض الصلاة وأُشير إليَّ بالذي سُبقت به، فقلت: لا أجده على حال إلَاّ كنت عليها، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قمت وصلَّيت، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس وقال: من القائل كذا وكذا، قالوا: معاذ بن جبل، فقال:"قد سنَّ لكم معاذ فاقتدوا به، إذا جاء أحدكم وقد سُبق بشيء من الصلاة فليصل مع الإِمام بصلاته، فإذا فرغ الإِمام فليقضِ ما سبقه به".

ص: 363

فَأَتِمُّوا (1) ، فإنَّ أحدَكم فِي صَلاةٍ مَا كَانَ (2) يَعْمِدُ (3) إلى الصلاة.

قال الشافعي: إذا سبق الإِمام الرجل الركعة فجاء الرجل فركع تلك الركعة لنفسه ثم دخل مع الإِمام في صلاته حتى يكملها فصلاته فاسدة وعليه أن يعيد الصلاة، ولا يجوز أن يبتدئ الصلاة لنفسه ثم يأتم بغيره، وهذا منسوخ قد كان المسلمون يصنعونه حتى جاء عبد الله بن مسعود أو معاذ بن جبل، وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من الصلاة، فدخل معه ثم قام يقضي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن ابن مسعود - أو معاذاً - سنَّ لكم فاتبعوها".

(1)

قوله: فأتمّوا، فيه دليل على أن ما أدركه فهو أول صلاته، وقد ذكر في "التمهيد" من قال في هذا الحديث "فاقضوا".

وهذان اللفظان تأوَّلهما العلماء في ما يدركه المصلّى من صلاته مع الإِمام هل هو أول صلاته أو آخرها؟ ولذلك اختلفت أقوالهم فيها (أوجز المسالك 2/12) ، فأما مالك، فاختلفت الرواية عنه، فروى سحنون، عن جماعة من أصحاب مالك، عنه أن ما أدراك فهو أول صلاته ويقضي ما فاته، وهذا هو المشهور من مذهبه، وهو قول الأَوْزاعي والشافعي ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل، وداود والطبري، وروى أشهب، عن مالك، أن ما أدرك فهو آخر صلاته، وهو قول أبي حنيفة والثوري والحسن بن حَيّ، وذكر الطحاوي، عن محمد عن أبي حنيفة أن الذي يقضى هو أول صلاته ولم يحكِ خلافاً. وأما السلف فرُوي عن عمر وعليّ وأبي الدرداء: ما أدركتَ فاجعله آخر صلاتك، وليست الأسانيد عنهم بالقوية، وعن ابن عمر ومجاهد وابن سيرين مثل ذلك، وصحَّ عن سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومكحول وعطاء والزهري والأَوْزاعي وسعيد بن عبد العزيز ما أدركت فاجعله أول صلاتك، واحتجَّ القائلون بأن ما أُدرك فهو أول صلاته بقوله صلى الله عليه وسلم:"ما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتمّوا"، قالوا: والتمام هو الآخر، واحتجَّ الآخرون بقوله:"وما فاتكم فاقضوا"، فالذي يقضيه هو الفائت، كذا في "الاستذكار".

ص: 364

قَالَ مُحَمَّدٌ: لا تَعْجَلَنَّ (1) بركوعٍ وَلا افتتاحٍ حَتَّى تَصِلَ (2) إِلَى الصَّفِّ وتقومَ فِيهِ، وَهُوَ قولُ أبي حنيفة رحمه الله.

(2) قوله: ما كان يعمد إلى الصلاة، يدل على أن الماشي إلى الصلاة كالمنتظر لها وهما من الفضل سواء بالمصلّي إن شاء الله تعالى على ظاهر الآثار، وهذا يسير في فضل الله ورحمته لعباده، كما أنه من غلبه نوم عن صلاةٍ كانت عادة له، كُتب له أجر صلاة، وكان نومه عليه صدقة، كذا قال ابن عبد البر.

(3)

بكسر الميم، أي: يقصد.

(1)

أيها المصلّي.

(2)

قوله: حتى تصل إلى الصف وتقوم فيه، استُنبط من النهي عن الإِتيان ساعياً وكون عامِدِ الصلاة في الصلاة من حيث الثواب، وذلك لأن العَجَلة في الاشتراك قبل الوصول إلى الصف يفوِّت كثرة الخطا، وامتداد زمان العمد إلى الصلاة مع لزوم قيامه خلف صف مع غير إتمامه، وقد ورد فيه نص صريح هو ما أخرجه البخاري وغيره، عن أبي بكرة أنه دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم راكع، فركع دون الصف، ثم دبَّ حتى انتهى إلى الصف، فلمّا سَلَّم قال:"إني سمعت نَفَساً عالياً فأيُّكم الذي ركع دون الصف ثم مشى إلى الصف، فقال أبو بكرة: أنا يا رسول الله، خشيت أن تفوتني الركعة فركعت دون الصف ثم لحقت بالصف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "زادك الله حرصاً ولا تعد". قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية": إرشاد إلى المستقبل بما هو أفضل منه، ولو لم يكن مجزئاً لأمره بالإِعادة، والنهي إنما وقع عن السرعة والعجلة إلى الصلاة، كأنه أَحَبَّ له أن يدخل الصف ولو فاتته الركعة، ولا يعمل بالركوع دون الصف، يدل عليه ما رواه البخاري في كتابه المفرد في "القراءة خلف الإِمام": ولا تعد، صلِّ ما أدركتَ واقضِ ما سبقتَ. فهذه الزيادة دلَّتْ على ذلك، ويقوّيها حديث: وعليكم السكينة فما أدركتم فصلّوا وما فاتكم فاقضوا.

ص: 365

94 -

أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَمِعَ الإِقامة وَهُوَ بِالْبَقِيعِ فأَسْرَعَ الْمَشْيَ (1) .

قَالَ مُحَمَّدٌ: وَهَذَا (2) لا بَأْسَ بِهِ مَا لَمْ يُجْهِدْ نفسَه (3) .

(1) قوله: فأسرع المشي، وروُي عنه أنه كان يهرول إلى الصلاة، وعن ابن مسعود أنه قال: لو قرأت: {فَاسْعَوْا إلى ذِكرِ اللَّهِ} لسَعَيْتُ حتى يسقط ردائي، وكان يقرأ:{فَامْضُوا إلى ذِكْرِ اللَّهِ} ، وهي قراءة عمر أيضاً. وعن ابن مسعود أيضاً: أحق ما سَعَيْنا إليه الصلاة. وعن الأسود بن يزيد وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن يزيد، أنهم كانوا يهرولون إلى الصلاة.

فهؤلاء كلهم ذهبوا إلى أنَّ من خاف فوت الوقت سعى، ومن لم يخف مشى على هيأة، وقد رُوي عن ابن مسعود خلاف ذلك، أنه قال: إذا أتيتم الصلاة فأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلّوا وما فاتكم فأتمّوا، وروى عنه أبو الأحوص، أنه قال: لقد رأيتُنا وإنا لنقارب بين الخطا. وروى ثابت، عن أنس، قال: خرجت مع زيد بن ثابت، إلى المسجد، فأسرعت المشي فحبسني. وعن أبي ذرّ، قال: إذا أقيمت الصلاة فامشِ إليها كما كنت تمشي فصلِّ ما أدركت واقضِ ما سبقك.

وهذه الآثار كلها مذكورة بطرقها في "التمهيد" وقد اختلف السلف في هذا الباب كما ترى، وعلى القول بظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب جمهور العلماء وجماعة الفقهاء، كذا في "الاستذكار".

(2)

أي الإِسراع.

(3)

قوله: ما لم يُجهد نفسه، أي: لا يكلف نفسه ولا يحمل عليه مشقة، ويشير بقوله لا بأس به إلى الجواز وإلى أن النهي عن الإِتيان ساعياً في الحديث المرفوع ليس نهي تحريم بل نهي استحباب إرشاداً إلى الأليق الأفضل.

ص: 366

95 -

أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا سُمَيٌّ (1) أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرٍ (2) يَعْنِي ابنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (3) يَقُولُ: مَنْ غَدَا (4) أَوْ رَاحَ (5) إِلَى الْمَسْجِدِ لا يُرِيدُ غيرَه ليتعلَّمَ خَيْرًا أَوْ يُعَلِّمه ثُمَّ رجَعَ إِلَى بَيْتِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ كَانَ (6) كَالْمُجَاهِدِ في سبيل الله رَجَع (7) غانماً.

31 -

(باب الرجل يصلِّي وقد أخذ (8) المؤذِّنُ في الإِقامة)

96 -

أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا شَرِيك (9) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن

(1) مولى أبي بكر.

(2)

قوله: أبا بكر، قيل اسمه محمد، وقيل: أبو بكر وكنيته أبو عبد الرحمن، والصحيح أن اسمه وكنيته واحد، وكان مكفوفاً، وثقه العجلي وغيره، مات سنة 93 هـ، كذا في "الإِسعاف".

(3)

ابن الحارث بن هشام.

(4)

ذهب وقت الغداة أوَّلَ النهار.

(5)

من الزوال.

(6)

في الثواب.

(7)

إلى بيته بعد الفراغ من الجهاد وأخذ الغنيمة.

(8)

أي شرع.

(9)

قوله: شَريك بن عبد الله بن أبي نمر، أبو عبد الله المدني، وثقه ابن سعد وأبو داود، وقال ابن معين والنسائي: لا بأس به، وقال ابن عدي: إذا روى عنه ثقة فلا بأس به، كذا في "هدي (في الأصل:"الهدي الساري"، وهو تحريف) الساري" مقدمة "فتح الباري" للحافظ ابن حجر.

ص: 367

أَبِي نَمَيْر (1)، أنَّ أَبَا سَلَمَةَ بنَ عبدِ الرحمنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ (2) : سَمِعَ قومٌ (3) الإِقامةَ فقالوا يصلُّون، فَخَرَجَ عَلَيْهِمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَصَلاتَانِ (4) مَعًا (5) ؟!

قَالَ مُحَمَّدٌ: يُكره (6) إذا أُقيمت الصلاة أن يُصلِّيَ الرجلُ

(1) قوله: أبي نمير، بضم النون وفتح الميم مصغراً، كذا وجدناه في بعض النسخ، وفي نسخة يحيى "أبي نمر" وضبطه الزرقاني بفتح النون وكسر الميم.

(2)

قوله: قال، ابن عبد البر، لم يختلف الرواة، عن مالك في إرسال هذا الحديث إلَاّ الوليد بن مسلم، فإنه رواه، عن مالك، عن شريك، عن أنس. ورواه الدراوردي، عن شريك، فأسنده عن أبي سلمة، عن عائشة. ثم أخرجه ابن عبد البر من الطريقين وقال: قد رُوي هذا الحديث بهذا المعنى من حديث عبد الله بن سَرْجِس وابن بُحَيْنة وأبي هريرة.

(3)

أي: بعض من كان في المسجد النبوي.

(4)

قوله: أصلاتان معاً، قال ابن عبد البر: قوله هذا وقوله في حديث ابن بحينة: "أتصلّيهما أربعاً"، وفي حديث ابن سرجس:"أيتهما صلاتك"، كل هذا إنكار منه لذلك الفعل.

(5)

أي: أتجمعون الصلاتين معاً.

(6)

قوله: يكره، لما أخرجه مسلم وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعاً:"إذا أُقيمت الصلاة فلا صلاة إلَاّ المكتوبة"، وفي رواية للطحاوي:"إلَاّ التي أُقيمت لها"، وفي رواية ابن عَدِيّ، قيل: يا رسول الله، ولا ركعتي الفجر؟ قال: ولا ركعتي الفجر، وإسناده حسن، قاله الزرقاني. وقد يعارض هذه الزيادة بما رُوي:"إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلَاّ المكتوبة إلَاّ ركعتي الصبح"، لكنه من رواية عبّاد بن كثير وحجّاج بن نصير وهما ضعيفان، ذكره الشوكاني.

ص: 368

تَطَوُّعًا (1) غَيْرَ ركعَتَيْ الْفَجْرِ (2) خَاصَةً، فَإِنَّهُ لا بأس بأن يصلِّيَهُما

(1) أي: نفلاً أو سُنَّة، فإن الكل يُسمّى تطوُّعاً لكونه زائداً على الفرائض.

(2)

قوله: غير ركعتي الفجر، أي: الركعتين اللتين تصلَّيان قبل فرض الصبح، لما رُوي، عن عبد الله بن أبي موسى، عن أبيه: دعا سعيد بن العاص، أبا موسى وحذيفة وابن مسعود قبل أن يصلي الغداة، فلما خرجوا من عنده أقيمت الصلاة، فجلس عبد الله بن مسعود إلى أسطوانة من المسجد يصلي ركعتين، ثم دخل المسجد ودخل في الصلاة. وعن أبي مخلد: دخلت مع ابن عمر وابن عباس والإِمام يصلّي، فأما ابن عمر فقد دخل في الصف، وأما ابن عباس، فصلّى ركعتين ثم دخل مع الإِمام، فلمّا سلَّم الإِمام قعد ابن عمر، فلما طلعت الشمس ركع ركعتين. وعن محمد بن كعب: خرج ابن عمر من بيته، فأُقيمت صلاة الصبح، فركع ركعتين قبل أن يدخل المسجد وهو في الطريق، ثم دخل المسجد فصلّى الصبح مع الناس. وعن زيد بن أسلم، أن ابن عمر جاء والإِمام يصلّي صلاة الصبح ولم يكن صلّى الركعتين قبل صلاة الصبح، فصلاهما في حُجرة حفصة، ثم صلّى مع الإِمام. وعن أبي الدرداء: أنه كان يدخل المسجد والناس صفوف في صلاة الفجر، فيصلّي الركعتين في ناحية، ثم يدخل مع القوم في الصلاة. أخرج هذه الآثار الطحاوي في "شرح معاني الآثار"، وأخرج أيضاً عن مسروق وأبي عثمان النهدي والحسن إجازة أداء ركعتي الفجر إذا أُقيمت الصلاة. وذكر أن معنى فلا صلاة إلَاّ المكتوبة: النهي عن أداء التطوُّع في موضع الفرض، فإنه يلزم حينئذٍ الوصل، وبَسَط الكلام فيه. لكن لا يخفى على الماهر أن ظاهر الأخبار المرفوعة هو المنع، من ذلك حديث أبي سلمة المذكور في الكتاب، فإن القصة المذكورة فيه قد وقعت في صلاة الصبح كما صرَّح به الشراح، ووقع في موطأ يحيى بعد هذه الرواية: وذلك في صلاة الصبح في الركعتين اللتين قبل الصبح. ومن ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، عن عبد الله بن مالك بن بُحَينة: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم برجل وقد أُقيمت الصلاة يصلّي ركعتين، فلما انصرف لاث به الناس،

ص: 369

الرَّجُلُ (1) إنْ (2) أخذَ المؤذِّنُ فِي الإِقامة، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله (3) .

32 -

(باب تسوية (4) الصف (5))

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: آلصبح أربعاً؟ آلصبح أربعاً؟ قال القسطلاّني: الرجل هو عبد الله الراوي كما عند أحمد بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ به وهو يصلّي. ولا يعارضه ما عند ابن حبان وابن خزيمة أنه ابن عباس، لأنهما واقعتان. انتهى.

وأخرج الطحاوي، عن عبد الله بن سرجس، أن رجلاً جاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح، فركع ركعتين خلف الناس، ثم دخل مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، قال: يا فلان، أجعلتَ صلاتك التي صلَّيتَ معنا أو التي صلَّيتَ وحدك؟ وكذلك أخرجه أبو داود وغيره. وحمل الطحاوي هذه الأخبار على أنهم صلّوا في الصفوف لا فصل بينهم وبين المصلّين بالجماعة، فلذلك زجرهم النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه حَمْل من غير دليل معتدٍّ به، بل سياق بعض الروايات يخالفه.

(1)

خارج المسجد، أو في ناحية المسجد خارج الصفوف.

(2)

وَصْلية.

(3)

وبه قال أبو يوسف، ذكره الطحاوي.

(4)

هو اعتدال القامة بها على سمت واحد (ويستحب للإِمام تسوية الصفوف كذا في المغني 1/458، ولعله متفق عند الكلّ ويُكره تركها، وراجع للتفصيل فتح الباري 2/175، وعمدة القاري 2/789) .

(5)

قوله: تسوية الصف، قال ابن حزم بوجوب تسوية الصفوف لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لَتُسَوُّنَّ صفوفكم أو ليخالِفَنَّ اللهُ بين وجوهكم"، متفق عليه، لكن ما رواه البخاري:"سوُّوا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة" يصرفه إلى السّنَّة، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك.

ص: 370

97 -

أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَأْمُرَ (1) رِجَالاً (2) بتسوية الصفوف، فَإذا جاؤوه فأخْبَرُوه بِتَسْوِيَتِهَا كَبَّرَ (3) بعدُ.

98 -

أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو سُهَيْل بْنِ مَالِكٍ (4) وأَبو النَّضر مولَى عُمر بْنِ عُبيد اللَّهِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ الأَنْصَارَيِّ (5) : أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عفَّان كَانَ يَقُولُ فِي خُطبته: إِذَا قَامَتِ الصلاةُ، فاعْدِلُوا (6) الصفُوفَ، وحَاذُوا (7) بالمَناكِب، فإنَّ اعْتِدَالِ الصُّفُوفِ من تمام

(1) قوله: كان يأمر، قال الباجي: مقتضاه أنه وكّل من يُسَوِّي الناس في الصفوف، وهو مندوب.

(2)

أي: من أصحابه.

(3)

أي قال: الله أكبر.

(4)

قوله: أبو سهيل بن مالك، هو عمّ مالك بن أنس، اسمه نافع، وثَّقه أحمد وأبو حاتم والنسائي، كذا في "الإِسعاف".

(5)

الأصبحي من كبار التابعين، ثقة، روى له الجميع، مات سنة 74 هـ على الصحيح، وهو جَدّ الإِمام مالك والد أبي سهيل، كذا قال السيوطي وغيره.

(6)

أي: سوّوا.

(7)

قوله: حاذُوا، أي: قابلوا المناكب بأن لا يكون بعضُها متقدِّماً وبعضُها متأخِّراً، وهو المراد بقول أنس: (كان أحدُنا يُلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه

ص: 371

الصَّلاةِ (1) . ثُمَّ لا يكبِّر حَتَّى يَأْتِيَهُ رِجَالٌ قَدْ وكَّلهم (2) بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ، فَيُخْبِرُونَهُ أَنْ قَدِ استوتْ فيكبِّر.

قَالَ مُحَمَّدٌ: يَنْبَغِي لِلْقَوْمِ إِذَا قَالَ المؤذِّن حيَّ عَلَى الْفَلاحِ أَنْ يَقُومُوا (3) إلى الصلاة (4) فيصُفّوا

بقدمه) ، وقول النعمان بن بشير:(رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه)(زعم بعض الناس أنه على الحقيقة، وليس الأمر كذلك، بل المراد بذلك مبالغة الراوي في تعديل الصف، وسدّ الخلل كما فتح الباري، 2/176، والعمدة 2/294. وهذا يردّ على الذين يدَّعون العمل بالسنَّة في بلادنا حيث يجتهدون في إلزاق كعابهم بكعاب القائمين في الصف ويفرجون جداً للتفريج بين قدميهم مما يؤدي إلى تكلّف وتصنُّع، وقد وقعوا فيه لعدم تنبُّههم للغرض، ولجمودهم بظاهر الألفاظ، (معارف السنن) 1/292) ، ذكرهما البخاري في صحيحه.

(1)

أي: من كمال صلاة الجماعة.

(2)

بخفة الكاف وتشديدها.

(3)

في "ن": يقدموا.

(4)

قوله: أن يقوموا، إلى الصلاة، اختلفوا فيه: فقال الشافعي والجمهور: يقومون عند الفراغ من الإِقامة، وهو قول أبي حنيفة، وعن مالك: يقومون عند أوَّلها، وفي "الموطأ" أنه يرى ذلك على طاقة الناس، فإن فيهم الثقيل والخفيف، كذا ذكره القسطلاّني في "إرشاد الساري" وفي "الاستذكار": قد ذكرنا في "التمهيد" بالأسانيد، عن عمرو بن مهاجر: رأيت عمر بن عبد العزيز ومحمد بن مسلم الزهري وسليمان بن حبيب يقومون إلى الصلاة في أول نداء (في الاستذكار 2/103، بدله (بدء)) من الإِقامة، قال: وكان عمر بن عبد العزيز، إذا قال المؤذِّن: قد قامت الصلاة عدّل الصفوف بيده عن يمينه

ص: 372

ويُسَوُّوا (1) الصُّفُوفَ ويحاذُوا (2) بَيْنَ الْمَنَاكِبِ، فَإِذَا أقامَ (3) الموذن الصلاةَ كبَّر الإِمامُ، وَهُوَ قولُ أَبِي حنيفةَ رحمه الله.

وعن يساره، فإذا فرغ كبَّر، وعن أبي يعلى (في الأصل أبي العلاء. وهو تحريف) : رأيت أنس بن مالك إذا قيل: قد قامت الصلاة قام فوثب، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا لم يكن معهم الإِمام في المسجد، فإنهم لا يقومون حتى يروا الإِمام لحديث أبي قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا أُقيمت الصلاة، فلا تقوموا حتى تروني" وهو قول الشافعي وداود، وإذا كان معهم فإنهم يقومون إذا قال: حيّ على الفلاح. انتهى ملخَّصاً (الاستذكار 2/103 - 104) .

(1)

من تسوية.

(2)

من المحاذاة، أي: يقابلوا بين مناكبهم.

(3)

فإذا أقام، أي: قال: قد قامت الصلاة، وهو محتمل لأمرين: الشروع فيه والفراغ منه، وذكر في "جامع الرموز"، عن "المحيط" و"الخلاصة" أن الأول قول الطرفين والثاني قول أبي يوسف، والصحيح هو الأول كما في "المحيط" والأصح هو الثاني كما في "الخلاصة". قلت: روى أبو داود، عن أبي أمامة أن بلالاً أخذ في الإِقامة، فلما أن قال: قد قامت الصلاة، قال رسول الله: أقامها الله وأدامها، وقال في سائر الإِقامة كنحو حديث ابن عمر في الأذان، أي: أجاب كل كلمة بمثلها إلاّ الحيعلتين. فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كبَّر بعدما تمَّت الإِقامة بجميع كلماتها. وأخرج ابن عبد البرّ في "الاستذكار"، عن بلال، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسبقني بآمين (السنن الكبرى للبيهقي 2/23)، وقال: فيه دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان

ص: 373

33 -

(بَابُ افْتِتَاحِ (1) الصَّلاةِ)

99 -

أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا الزُّهريُّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عبدِ اللَّهِ بْنِ عُمر أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ عُمَر قَالَ: كَانَ (2) رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا افْتَتح (3)

يكبِّر، ويقرأ، وبلال في إقامة الصلاة (الاستذكار 2/105) . انتهى.

وفيه نظر لا يخفى، والأمر في هذا الباب واسع، ليس له حد مضيق في الشرع، واختلاف العلماء في ذلك لاختيار الأفضل بحسب ما لاح لهم (وذهب عامة العلماء إلى أنه يُستحب أن لا يكبِّر الإِمام حتى يفرغ المؤذن من الإِقامة، ومذهب الشافعي وطائفة أنه يُستحب أن لا يقوم حتى يفرغ المؤذن من الإِقامة، وهو قول أبي يوسف، وعن مالك: السنَّة في الشروع في الصلاة بعد الإِقامة وبداية استواء الصف، وقال أحمد: إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة يقوم. وقال أبو حنيفة ومحمد: يقومون في الصف إذا قال: حي على الصلاة، فإذا قال: قد قامت الصلاة كبَّر الإِمام لأنه أمين الشرع، وقد أخبر بقيامها فيجب تصديقه، وإذا لم يكن الإِمام في المسجد فقد ذهب الجمهور إلى أنهم لا يقومون حتى يروه، كذا في "عمدة القاري" 5/676) .

(1)

أي: ابتدائها.

(2)

قوله: كان....إلخ، هذا أحد الأحاديث الأربعة التي رفها سالم، عن أبيه ووقفها نافع، عن ابن عمر، والقول فيها قول سالم، والثاني: "من باع عبداً وله مال

"، جعله نافع، عن ابن عمر، عن عمر، والثالث: "الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة"، والرابع: "في ما سقت السماء والعيون أو كان بَعْلاً العشر، وما سُقي بالنضح نصف العشر". كذا في "التنوير".

(3)

قال ابن المنذرك لم يختلف أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح، نقله ابن دقيق العيد في "الإِمام".

ص: 374

الصلاة (1) رفع (2) يديه (3)

(1) قوله: افتتح الصلاة (قال الباجي: افتتاح الصلاة يكون بالنطق، ولا يكون بمجرَّد النيّة، لمن يقدر على النطق. أوجز المسالك 2/41) : استند به صاحب "البحر" أن وقت الرفع قبل التكبير، وفيه نظر لأنه يحتمل أن يكون معناه إذا كبَّر رفع يديه، لأن افتتاح الصلاة إنما هو بالتكبير، نعم، إن كان المراد بالافتتاح إرادة الافتتاح لتم الاستشهاد.

(2)

هذا مستحب عند جمهور العلماء، لا واجب كما قال الأَوْزاعي والحُمَيْدي وابن خزيمة وداود وبعض الشافعية والمالكية.

(3)

قوله: رفع يديه، معنى رفع اليدين عند الافتتاح وغيره خضوع، واستكانة، وابتهال، وتعظيم الله تعالى، واتِّباع لسنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم (الاستذكار 2/122) .

(1)

بالكسر: أي: مقابله.

(2)

قوله: إذا كبَّر

إلخ، رواه يحيى ولم يذكر فيه الرفع عند الانحطاط إلى الركوع، وتابعه على ذلك جماعة من الرواة، للموطأ عن مالك، ورواه جماعة عن مالك، فذكروا فيه الرفع عند الانحطاط، وهو الصواب، وكذلك رواه سائر مَن رواه مِن أصحاب ابن شهاب عنه (في الأوجز 2/44، قال ابن عبد البر: هو الصواب. قلت: هو وهم منه وكذلك "إن سائر من رواه، عن ابن شهاب ذكره" سهو منه، فإن الحديث أخرجه الزبيدي عن الزهري عند أبي داود وليس فيه ذكر الرفع عند الركوع، وأيضاً لم يختلف فيه على الزهري فقط، بل اختلف سالم ونافع على ابن عمر رضي الله عنهما، كما لا يخفى على من سهر الليالي في تفحّص كتب الحديث) . كذا في "التنوير".

(3)

أي: حذو منكبيه.

ص: 375

حِذاءَ (1) مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا كَبَّر (2) للرُّكوعِ رَفَعَ يَدَيْهِ (3) ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكوع رَفَعَ يديْه، ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللهُ (4) لِمَنْ حَمِدَهُ، ثُمَّ قال (5) : ربَّنا ولك الحمد (6) .

(4) معنى سمع ها هنا: أجاب.

(5)

قوله: ثم قال، قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وجماعة من أهل الحديث: إن الإِمام يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، وحجَّتهم حديث ابن عمر: ورواه أبو سعيد الخُدْري وعبد الله بن أبي أوفى وأبو هريرة، وقال جماعة: يقتصر على سمع الله لمن حمده، وحجّتهم حديث أنس: عن النبي صلى الله عليه وسلم: فإذا رفع الإِمام فارفعوا: وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد. كذا في "الاستذكار"(2/128) .

(6)

قوله: ربنا ولك الحمد، قال الرافعي: روينا في حديث ابن عمر: ربنا لك الحمد، بإسقاط الواو وبإثباتها والروايتان معاً صحيحتان. انتهى.

قلت: الرواية بإثبات الواو متفق عليها، وأما بإسقاطها ففي صحيح أبي عوانة: وقال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الواو في: "ربنا ولك الحمد"، فقال: زائدة، وقال النووي: يحتمل أنها عاطفة على محذوف، أي: أطعنا لك وحمدناك، ولك الحمد، كذا في "التلخيص (في الأصل:"تلخيص الحبير"، وهو تحريف) الحبير في تخريج أحاديث الشرح الكبير"، للحافظ ابن حجر، وعند البخاري، عن المقبري، عن أبي هريرة: كان رسول الله إذا قال: سمع الله لمن حمده، قال: اللهم ربنا ولك الحمد. وعند أبي داود الطيالسي، عن ابن أبي ذئب عنه: كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: اللهم ربنا لك الحمد، كذا في "ضياء الساري"

ص: 376

100 -

أخبرَنا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نافعٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: كَانَ (1) إِذَا ابتدأَ الصَّلاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكبَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الركوع (2) رفعهما دون ذلك (3) .

(هو شرح على البخاري للشيخ عبد الله بن سالم البصري المكي، المتوفى سنة 1134. مقدمة "لامع الدراري"، ص 457) .

(1)

قوله: كان

إلخ، الثابت، عن ابن عمر بالأسانيد الصحيحة هو أنه كان يرفع عند الافتتاح، وعند الرفع من الركوع، وعند الركوع حسبما رواه مرفوعاً، وأخرج الطحاوي بسنده، عن أبي بكر بن أبي عيّاش، عن حصين، عن مجاهد، قال: صليت خلف ابن عمر، فلم يكن يرفع يديه إلَاّ في التكبيرة الأولى، ثم قال الطحاوي: فلا يكون هذا من ابن عمر إلاّ وقد ثبت عنده نسخ ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.

وفيه نظر لوجوه: أحدها: أنه سند معلول لا يوازي الأسانيد الصحيحة، فقد أخرجه البيهقي من الطريق المذكور في كتاب "المعرفة"، وأسند، عن البخاري أنه قال: ابن عياش قد اختلط بآخره، وقد رواه الربيع وليث وطاووس وسالم ونافع وأبو الزبير ومحارب بن دثار وغيرهم قالوا: رأينا ابن عمر يرفع يديه إذا كبَّر وإذا رفع، وكان أبو بكر بن عيّاش يرويه قديماً، عن حصين، عن إبراهيم، عن ابن مسعود مرسلاً موقوفاً: أنه كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، ثم لا يرفعهما بعد. وهذا هو المحفوظ، عن ابن عياش، والأول خطأ فاحش لمخالفته الثقات، عن ابن عمر. انتهى. وثانيها: أنه لو ثبت، عن ابن عمر ترك ذلك فلا يثبت منه نسخ فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت بالطرق الصحيحة، عن الجمع العظيم إلاّ إذا كان فيه تصريح، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذ ليس فليس. وثالثها: أن ترك ابن عمر لعله يكون لبيان الجواز، فلا يلزم منه النسخ.

(2)

في نسخة: ركوعه.

(3)

قوله: دون ذلك، يعارضه قول ابن جريج: قلت لنافع، أكان ابن عمر يجعل الأولى أرفعهنّ؟ قال: لا. ذكره أبو داود.

ص: 377

101 -

أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا وهبُ بْنُ كَيْسان (1)، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ: أنهُ يُعَلِّمُهم (2) التَّكْبِيرَ فِي الصَّلاةِ، أَمَرَنَا (3) أَنْ نكبِّر كُلَّمَا خَفَضْنَا وَرَفَعْنَا.

102 -

أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (4) بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالبٍ أَنَّهُ قَالَ (5) : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يكبِّر كُلَّمَا (6) خَفَضَ، وَكُلَّمَا رَفَعَ، فَلَمْ تَزَلْ تِلْكَ صَلاتُهُ حَتى لقي (7) اللَّهَ عز وجل.

(1) هو أبو نعيم المدني، وثقه النسائي وابن سعد، مات سنة 127 هـ، كذا في "الإِسعاف".

(2)

أي: أصحابه التابعين، وفي نسخة: كان يعلِّمهم.

(3)

بيان للتعليم.

(4)

هو أبو الحسين زين العابدين، قال ابن سعد: كان ثقةً مأموناً كثير الأحاديث، مات سنة 92 هـ، كذا في "الإِسعاف".

(5)

قوله: أنّه قال

إلخ، قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافاً من رواة الموطأ في إرسال هذا الحديث. رواه عبد الوهاب بن عطاء، عن مالك، عن ابن شهاب، عن علي بن حسين، عن أبيه موصولاً: ورواه عبد الرحمن بن خالد، عن أبيه، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عليّ بن الحسين، عن عليّ، ولا يصح فيه إلَاّ ما في "الموطأ" مرسلاً.

(6)

ظاهر الحديث عمومه في جميع الانتقالات، لكن خُصَّ منه الرفع من الركوع بالإِجماع.

(7)

بارتحاله من الدنيا.

ص: 378

103 -

أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أنَّه أَخْبَرَهُ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ: كَانَ يصلِّي بِهِمْ، فكبَّر كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ، ثُمَّ انْصَرَفَ (1) قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي (2) لأَشْبَهُكُمْ (3) صَلاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

104 -

أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي نُعَيْمٌ المُجْمر (4) وَأَبُو جَعْفَرٍ الْقَارِئُ (5)، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ: كان يصلي بهم، فكبَّر كلما خفض وفع، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حِينَ يكبِّرُ وَيَفْتَحُ (6) الصَّلاةَ.

قَالَ مُحَمَّدٌ: السنَّة أَنْ يكبِّر الرجل في صلاته كلما خفض (7)

(1) من الصلاة.

(2)

قال الرافعي: هذه الكلمة مع الفعل المأتي به نازلةٌ منزلة حكاية فعله صلى الله عليه وسلم.

(3)

قوله: لأشبهكم

إلخ، هذا يدلُّك على أن التكبير في الخفض والرفع لم يكن مستعملاً عندهم ولا ظاهراً فيهم، كذا في "الاستذكار".

(4)

هو نعيم المُجْمر بن عبد الله، أبو عبد الله المدني، وثَّقه ابن معين وأبو حاتم وغيرهما.

(5)

أبو جعفر القارئ: اسمه يزيد بن القعقاع المدني المخزومي، وقيل: جندب بن فيروز، وقيل: فيروز، ثقة، مات سنة سبع وعشرين ومائة، وقيل: سنة ثلاثين، كذا قال الزرقاني.

(6)

في نسخة: يفتتح.

(7)

كلما خفض وكلما رفع لما أخرجه الترمذي والنسائي من حديث ابن مسعود: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبِّر في كل خفض ورفع وقيام وقعود وأبو بكر وعمر.

ص: 379

وكلما رفع، وإذا انحطّ (1) للسجود كبَّر،

وأخرجه أحمد والدارمي وإسحاق بن راهويه والطبراني وابن أبي شيبة. وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبِّر حين يقوم، ثم يكبِّر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركوع، ثم يقول وهو قائم: ربنا ولك الحمد، ثم يكبر حين يهوي ساجداً، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبِّر حين يسجد، ثم يكبِّر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلِّها، ويكبِّر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس، وفي "الصحيحين"، عن عمرانَ بن حُصين أنه صلّى خلف علي بن أبي طالب بالبصرة، فقال: ذكَّرنا هذا الرجل صلاةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أنه كان يكبِّر كلما رفع وكلما خفض، وفي الباب عن أبي موسى عند أحمد والطحاوي، وابن عمر عند أحمد والنسائي، وعبد الله بن زيد عند سعيد بن منصور، ووائل بن حُجْر عند ابن حِبَّان، وجابر عند البزار، وغيرهم عند غيرهم.

(1)

قوله: وإذا انحط

إلخ، مصرَّح به لكونه محل الخلاف أخذاً مما أخرجه أبو داود، عن عبد الرحمن بن أَبْزَى أنه صلّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لا يتم التكبير، قال أبو داود: ومعناه إذا رفع رأسه من الركوع، وأراد أن يسجد لم يكبِّر وإذا قام من السجود لم يكبِّر. وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" وقال: فذهب قوم إلى هذا، فكانوا لا يكبِّرون في الصلاة إذا خفضوا، ويكبِّرون إذا رفعوا، وكذلك كان بنو أمية يفعلون ذلك (في الأصل:"يفعل ذلك") ، وخالفهم في ذلك آخرون، فكبَّروا في الخفض والرفع جميعاً، فذهبوا في ذلك إلى ما تواترت به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى. ثم أخرج عن عبد الله بن مسعود، قال: أنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبِّر في كل خفض ورفع. وأخرج عن عكرمة، قال: صلّى بنا أبو هريرة، فكان يكبِّر إذا رفع، وإذا خفض، فأتيتُ ابن عباس، فأخبرته، فقال: أوليس سنَّة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم؟ وأخرج عن أبي موسى، قال: ذكَّرنا عليٌّ صلاةً كنّا نصلّيها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إما نسيناها، وإما تركناها عمداً، كان يكبِّر كلّما خفض ورفع، وكلَّما سجد. وأخرج عن أنس:

ص: 380

وإذا انحطّ (1) للسجود الثاني

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يُتمّون التكبير، يكبِّرون إذا سجدوا، وإذا رفعوا، وإذا قاموا من الركعة. وأخرج عن أبي هريرة نحو ما أخرجه مالك، ثم قال الطحاوي (1/130) : فكانت هذه الآثار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التكبير في كل خفض ورفع أظهر من حديث عبد الرحمن بن أبزى (ضعّف الحافظ في الفتح 2/223 حديث عبد الرحمن بن أبْزى، وقال: وقد نفى البخاري في "التاريخ"، عن أبي داود الطيالسي أنه قال: هذا عندنا باطل، وقال الطبري والبزّار: تفرد به الحسن بن عمران وهو مجهول: قال: وأجيب على تقدير صحته بأنه فعل ذلك لبيان الجواز، أو المراد لم يتم الجهر به، أو لم يمدّه. اهـ) ، وأكثر تواتراً، وقد عمل بها أبو بكر وعمر وعلي، وتواتر بها العمل إلى يومنا هذا. انتهى كلامه. وفي "الوسائل إلى معرفة الأوائل" للسيوطي: أول من نقص التكبير معاوية، كان إذا قال: سمع الله لمن حمده انحطّ إلى السجود ولم يكبِّر، أسنده العسكري، عن الشعبي. وأخرج ابن أبي شيبة، عن إبراهيم أنه قال: أول من نقص زياد. انتهى. وفي "الاستذكار" بعد ذكر حديث أبي هريرة، وحديث أبي موسى:(إما نسيناها وإما تركناها عمداً) ، وغير ذلك. هذا يدلك على أن التكبير في غير الإِحرام لم يتلقَّه السلف من الصحابة والتابعين على الوجوب، ولا على أنه من مؤكَّدات السنن، بل قد قال قوم من أهل العلم: إن التكبير هو إذن بحركات الإِمام، وشعار الصلاة، وليس بسنَّة إلا في الجماعة، ولهذا ذكر مالكٌ في هذا الباب حديثَه، عن علي بن حسين وأبي هريرة مرفوعين، وعن ابن عمر وجابر فعلهما، ليُبيِّن بذلك أن التكبير في كل خفض ورفع سنَّة مسنونة، وإن لم يعمل بها بعض الصحابة، فالحجة في السنَّة، لا في ما خالفها. انتهى ملخَّصاً (الاستذكار 2/131) .

(1)

أي: انخفض.

ص: 381

كبَّر. فَأَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلاةِ فَإِنَّهُ يَرْفَعُ الْيَدَيْنِ (1) حَذْوَ الأذنين (2)

(1) من دون مطأطأة الرأس عند التكبير كما يفعله بعض الناس، فإنه بدعة، ذكره محمد بن محمد الشهير بابن أمير الحاج في "حَلْبة المجلِّي شرح منية المصلي" (في الأصل:"حلية المحلي"، وهو تحريف) .

(2)

قوله: حذو الأذنين، لما روى مسلم، عن وائل أنه رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة حيال أذنيه، ثم التحف بثوبه

الحديث. وأخرج أحمد وإسحاق بن راهويه والدارقطني والطحاوي، عن البراء: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّى رفع يديه حتى تكون إبهاماه حذاء أذنيه. وأخرج الحاكم - وقال: صحيح على شرط الشيخين - والدارقطني والبيهقي، عن أنس: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كبَّر، فحاذى بإبهاميه أذنيه

الحديث. وأخرج أبو داود ومسلم والنسائي وغيرهم، عن مالك بن الحُوَيرث: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا كبَّر، وإذا رفع رأسه من الركوع حتى يَبلغ بهما فروع أذنيه. ويعارض هذه الأحاديث رواية ابن عمر التي أخرجها مالك وأبو داود والنسائي ومسلم والطحاوي وغيرهم. وأخرج الجماعة إلاّ مسلماً من حديث أبي حُمَيد الساعدي:"رفع يديه حتى يحاذيَ بهما مَنْكِبيه". وأخرج أبو داود والطحاوي من حديث عليٍّ نحوه. وباختلاف الآثار اختلف العلماء، فاختار الشافعي وأصحابه كما هو المشهور حذو المنكبين، واختار أصحابنا حذو الأذنين، وسلك الطحاوي على أن الرفع حذوَ المنكبين كان لعذر حيث أخرج، عن وائل: أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فرأيته يرفع يديه حذاء أذنيه، إذا كبَّر، وإذا ركع وإذا سجد، ثم أتيته من العام المقبل وعليهم الأكسية والبرانس، فكانوا يرفعون أيديهم فيها وأشار شريك الراوي عن عاصم عن كليب عن وائل إلى صدره، ثم قال الطحاوي: فأخبر وائل في حديثه هذا أن رفعهم إلى مناكبهم إنما كان لأن أيديهم تحت ثيابهم، فعملنا بالروايتين، فجعلنا الرفع إذا كانت اليدان

ص: 382

في ابتداء الصلاة (1) مرَّةً واحدة،

تحت الثياب لعلَّة البرد إلى منتهى ما يُستطاع إليه الرفع، وهو المنكبان، وإذا كانا باديتين رفعهما إلى الأذنين، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. انتهى. وقال العيني في "البناية": لا حاجة إلى هذه التكلُّفات، وقد صحَّ الخبر في ما قلنا وفي ما قاله الشافعي، فاختار الشافعي حديث أبي حميد، واختار أصحابنا حديث وائل وغيره، وقد قال أبو عمر (في الأصل:"أبو عمرو"، وهو تحريف) بن عبد البر: اختلفتْ الآثار، عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة ومن بعدهم، فروي عنه عليه السلام الرفع فوق الأذنين، وروي عنه أنه كان يرفع حذاء الأذنين، وروي عنه حذوَ منكبيه، وروي عنه إلى صدره، وكلُّها آثار مشهورة محفوظة، وهذا يدل على التوسعة في ذلك. انتهى (قال الشيخ في الأوجز 2/42: الاختلاف فيه كأنه لفظيّ، لأن ابن الهمام من الحنفية قال: لا تعارض بين الروايتين) ، وفي "شرح مسند الإِمام" لعلي القاري: الأظهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه من غير تقييد إلى هيئة خاصة، فأحياناً كان يرفع إلى حيال منكبيه، وأحياناً إلى شَحْمَتي أذنيه. انتهى.

(1)

قوله: في ابتداء الصلاة، إما قبل التكبير كما أخرجه النسائي، عن ابن عمر: رأيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه، حتى يكونا حذو منكبيه، ثم يكبِّر. وأخرج ابن حِبّان، عن أبي حميد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة استقبل القبلة، ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم قال: الله أكبر. وإما مع التكبير كما أخرجه أبو داود، عن وائل: أنه رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه مع التكبير. وإما بعد التكبير كما أخرجه مسلم، عن أبي قلابة: أنه رأى مالك بن الحويرث إذا صلّى كبَّر، ثم رفع يديه، وحدَّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل هكذا. والكل واسع ثابت إلا أنه رجَّح أكثر مشائخنا (والأصح عند الشافعية والمالكية المقارنة، وفي المغني عند الحنابلة المقارنة كذا في الأوجز 2/43) تقديم الرفع.

ص: 383

ثُمَّ لا يَرْفَعُ (1) فِي شيْء مِنَ الصَّلاةِ (2) بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (3) - رحمه الله تعالى - وفي

(1) قوله: ثم لا يرفع: ولو رفع لا تفسد صلاته كما في "الذخيرة" وفتاوى الولوالجي وغيرهما من الكتب المعتمدة، وحكى بعض أصحابنا عن مكحولٍ النسفي أنه روي، عن أبي حنيفة فساد الصلاة به، واغترَّ بهذه الرواية أمير الكاتب الإِتقاني صاحب "غاية البيان" فاختار الفساد، وقد ردَّ عليه السبكي في عصره أحسن ردّ كما ذكره ابن حجر في "الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة"، وصنَّف محمود بن أحمد بن مسعود القونوي الحنفي رسالة نفيسة في إبطال قول الفساد، وحقق فيها أن رواية مكحول شاذة مردودة، وأنه رجل مجهول لا عبرة لروايته، وقد فصلتُ في هذا الباب تفصيلاً حسنً في ترجمة مكحول في كتاب:"طبقات الحنفية" المسمَّى بالفوائد البهية في تراجم الحنفية، فليرجع إليه.

(2)

أي: في جزء من أجزاء الصلاة.

(3)

قوله: قول أبي حنيفة، ووافقه في عدم الرفع إلَاّ مرة الثوريُّ والحسنُ بن حَيّ وسائر فقهاء الكوفة قديماً وحديثاً، وهو قول ابن مسعود وأصحابه، وقال أبو عبد الله محمد بن نصر المَرْوزي: لا نعلم مصراً من الأمصار تركوا بإجماعهم رفعَ اليدين عند الخفض والرفع إلا أهل الكوفة، واختلفت الرواية فيه، عن مالك، فمرة قال: يرفع، ومرة قال: لا يرفع، وعليه جمهور أصحابه، وقال الأوزاعي والشافعي وأحمد وأبو عبيد وأبو ثور وابن راهويه ومحمد بن جرير الطبري وجماعة أهل الحديث بالرفع إلا أن منهم من يرفع عند السجود أيضاً، ومنهم من لا يرفع عنده. ورُوي الرفع في الرفع والخفض، عن جماعة من الصحابة، منهم ابن عمر وأبو موسى وأبو سعيد الخدري وأبو الدرداء وأنس وابن عباس وجابر، وروى الرفعَ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ثلاثة وعشرين رجلاً من الصحابة كما ذكره جماعة من أهل الحديث، كذا في "الاستذكار"(2/123 - 125) لابن عبد البر. وذكر السيوطي في رسالته

ص: 384

ذلك (1) آثار كثيرة (2) .

"الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة" أن حديث الرفع متواتر (قال في "نيل الفرقدين" ص 22: إن الرفع متواتر إسناداً وعملاً، ولا يُشك فيه، ولم يُنسخ ولا حرف منه، وإنما بقي الكلام في الأفضلية، وصرَّح أبو بكر الجصاص في "أحكام القرآن" أنه من الاختلاف المباح، وفي ص 123: حكى ذلك من الحافظ أبي عمر (أي: ابن عبد البر) من المالكية، ومن الحافظ ابن تيمية والحافظ ابن القيم من الحنابلة. وأما الترك، فأحاديثه قليلة ومع هذا هو ثابت بلا مرية، وهو متواتر عملاً لا إسناداً عند أهل الكوفة، وقد كان في سائر البلاد تاركون وكثير من التاركين في المدينة في عهد مالك، وعليه بنى مختاره، وكان أكثر أهل مكة يرفعون فبنى عليه الشافعي. "معارف السنن" 2/459) ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه الشيخان، عن ابن عمر ومالك بن الحويرث، ومسلم، عن وائل بن حُجْر، والأربعة، عن عليّ، وأبو داود، عن سهل بن سعد، وابن الزبير وابن عباس ومحمد بن مسلمة وأبي أسيد وأبي قتادة وأبي هريرة وابن ماجه، عن أنس وجابر وعمير الليثي، وأحمد، عن الحكم بن عمير، والبيهقي، عن أبي بكر رضي الله عنه والبراء، والدارقطني، عن عمر. وأبي موسى، والطبراني، عن عقبة بن عامر ومعاذ بن جبل.

(1)

أي: في عدم رفع اليدين إلا مرَّة.

(2)

قوله: آثار كثيرة، عن جماعة من الصحابة: منهم ابن عمر وعلي وابن مسعود، كما أخرجه المؤلف وسيأتي ذكر مالها وما عليها. ومنهم: عمر بن الخطاب، روى الطحاوي والبيهقي من حديث الحسن بن عيّاش، عن عبد الملك بن الحسن، عن الزبير بن عدي، عن إبراهيم، عن الأسود، قال: رأيت عمر يرفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود، ورأيت إبراهيم والشعبي يفعلان ذلك. قال الطحاوي: فهذا عمر لم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى، والحديث صحيح لأن الحسن بن عيّاش وإن كان هذا الحديث دار عليه، فإنه ثقة، حجة،

ص: 385

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وذكر ذلك يحيى بن معين وغيره. انتهى.

واعترضه الحاكم على ما نقله الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية"، بأنها رواية شاذه، لا يعارَض بها الأخبار الصحيحة عن طاووس، عن كيسان، عن ابن عمر أن عمر (في معارف السنن 2/470، قال: أعله المحدثون، وصححوه عن ابن عمر، عنه صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت عن عمر غير هذا) كان يرفع يديه في الركوع، وعند الرفع منه، انتهى. ومنهم أبو سعيد الخدري، وأخرج البيهقي، عن سوار بن مصعب، عن عطية العوفي أن أبا سعيد الخدري وابن عمر كانا يرفعان أيديهما أول ما يكبِّران، ثم لا يعودان. وأعله البيهقي بأن عطية سيِّئ الحال، وسوار أسوأ منه، قال البخاري: سوار منكر الحديث، وعن ابن معين غير محتج به. ويخالف هذا الأثر ما أخرجه البيهقي، عن ليث، عن عطاء، قال: رأيت جابر بن عبد الله وابن عمر وأبا سعيد وابن عباس وابن الزبير وأبا هريرة يرفعون أيديهم إذا افتتحوا الصلاة، وإذا ركعوا، وإذا رفعوا. وفيه ليث بن أبي سليم مختلف فيه، وأخرج أيضاً عن سعيد بن المسيَّب، قال: رأيت عمر يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع. وفي سنده من استضعف. ومنهم عبد الله بن الزبير كما حكاه صاحب "النهاية" وغيرُه من شراح "الهداية" أنه رأى رجلاً يرفع يديه في الصلاة عند الركوع، وعند الرفع، فقال له: لا تفعل، فإن هذا شيء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تركه، لكن هذا الأثر لم يجده المخرجون المحدثون مسنداً في كتب الحديث، مع أنه أخرج البخاري في رسالة "رفع اليدين"، عن عبد الله بن الزبير أنه كان يرفع يديه عند الخفض والرفع، وكذا أخرجه، عن ابن عباس وابن عمر وأبي سعيد وجابر وأبي هريرة وأنس أنهم كانوا يرفعون أيديهم. وأخرج البيهقي، عن الحسين، قال: سألت طاووساً عن رفع اليدين في الصلاة، فقال: رأيت عبدَ الله بنَ عباس وابنَ الزبير وابنَ عمر يرفعون أيديهم إذا افتتحوا الصلاة، وإذا ركعوا، وإذا سجدوا. وأخرج أيضاً، عن عبد الرزاق قال: ما رأيت أحسنَ صلاةً من ابن جريج رأيته يرفع

ص: 386

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يديه إذا افتتح، وإذا رفع. وأخذ ابن جريج صلاته عن عطاء بن أبي رباح وأخذ عطاء، عن عبد الله بن الزبير، وأخذ ابن الزبير، عن ابي بكر الصديق رضي الله عنه. ومنهم ابن عباس، حكى عنه بعض أصحابنا أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه كلما ركع، وكلما رفع، ثم صار إلى افتتاح الصلاة، وترك ما سوى ذلك. لكنه أثر لم يثبته المحدثون، والثابت عندهم خلافه، قال ابن الجوزي في "التحقيق"، بعد ذكر ما حكاه أصحابنا، عن ابن عباس وابن الزبير: هذان الحديثان لا يُعرفان أصلاً، وإنما المحفوظ عنهما خلاف ذلك، فقد أخرج أبو داود، عن ميمون أنه رأي ابن الزبير يشير بكفيه حين يقوم، وحين يركع، وحين يسجد، وحين ينهض للقيام، فانطلقتُ إلى ابن عباس، فقلت" إني رأيتُ ابن الزبير صلّى صلاة لم أرَ أحداً يصلّيها، فوصفت له، فقال: أنْ أحببتَ أن تنظر إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقتدِ بصلاة عبد الله بن الزبير. انتهى. وردَّه العينيّ بأن قوله: لا يُعرفان، لا يَستلزم عدم معرفة أصحابنا، هذا ودعوى النافي ليست بحجة على المثتب، وأصحابنا أيضاً ثقات، لا يَرَوْن الاحتجاج بما لم يثبت عندهم صحته. انتهى. وفيه نظر ظاهر، فإنه ما لم يوجد سند أثر ابن عباس وابن الزبير في كتاب من كتب الأحاديث المعتبرة كيف يعتبر به بمجرَّد حسن الظن بالناقلين، مع ثبوت خلافه عنهما، بالأسانيد العديدة. ومنهم أبو بكر الصديق أخرج الدارقطني وابن عدي، عن محمد بن جابر، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: صلَّيْتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلم يرفعوا أيديهم إلَاّ عند استفتاح الصلاة. وفيه محمد بن جابر، متكلَّم فيه، ويخالفه ما أخرجه أبو داود، عن ميمون كما مرَّ نقلاً عن "التحقيق". ومنهم العشرة المبشرة، كما حكى بعض أصحابنا، عن ابن عباس أنه قال: لم يكن العشرة المبشرة يرفعون أيديهم إلَاّ عند الافتتاح، ذكره الشيخ عبد الحق الدهلوي في "شرح سفر السعادة"، ولا عبرة بهذا الأثر ما لم يوجد سنده عند مهرة الفن، مع ثبوت خلافه في كتب الحديث مما يؤيد عدم الرفع من الأخبار المرفوعة ما أخرجه الترمذي وحسّنه والنسائي وأبو داود، عن

ص: 387

105 -

قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ بْنِ صالح، عن عاصم بن كٌلَيْب (1) الجَرْمي،

علقمة قال: قال عبد الله بن مسعود: ألا أصلّي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلّى، فيم يرفع يديه إلا أول مرة. وأخرج أبو داود، عن البراء: كان رسول الله صلى الله عليه وسلمإذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب أذنيه، ثم لا يعود. وأخرج البيهقي من حديث ابن عمر وعباد بن الزبير مثله. وللمحدثين على طرق هذه الأخبار كلمات تدل على عدم صحتها، لكن لا يخفى على الماهر أن طرق حديث ابن مسعود تبلغ درجة الحسن.

والقدر المتحقَّق في هذا الباب هو ثبوت الرفع وتركه كليهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن رواة الرفع من الصحابة جم غفير، ورواة الترك جماعة قليلة، مع عدم صحة الطرق عنهم إلا عن ابن مسعود، وكذلك ثبت الترك، عن ابن مسعود وأصحابه بأسانيد محتجّة بها، فإذن نختار أن الرفع ليس بسنَّة مؤكدة يُلام تاركها إلا أن ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر وأرجح. وأما دعوى نسخه كما صدر عن الطحاوي مغتراً بحسن الظن بالصحابة التاركين، وابن الهمام والعيني، وغيرهم من أصحابنا، فليست بمبرهن عليها بما يشفي العليل ويروي الغليل.

(1)

قوله: عن عاصم بن كليب، هو عاصم بن كليب مصغراً، ابن شهاب بن المجنون الجرمي الكوفي، روى عن أبيه وأبي بريدة وعلقمة بن وائل بن حجر وغيرهم، وعنه شعبة، والسفيانان، وغيرهم، وثَّقه النسائي، وابن معين، وقال أبو داود: كان من أفضل أهل الكوفة، وذكره ابن حبان في الثقات، وأرَّخ وفاته سنة 137 هـ. وأبوه كليب بن شهاب ثقة، كذا في "تهذيب التهذيب" و"الكاشف"، وفي "أنساب السمعاني": الجرمي: بفتح الجيم وسكون الراء المهملة نسبة إلى جَرْم، قبيلة باليمن، ومنها من الصحابة: شهاب بن المجنون الجَرْمي جَدّ عاصم بن كليب.

ص: 388

عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ علىَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (1) رَفَعَ يَدَيْهِ فِي التَّكْبِيرَةِ الأُولَى (2) مِنَ الصَّلاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَلَمْ يَرْفَعْهُمَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ.

106 -

قَالَ مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ بْنِ صالح، عن

(1) قوله: رأيت على بن أبي طالب، كذا أخرجه الطحاوي، عن أبي بكر النهشلي، عن عاصم، عن أبيه، أن علياً كان يرفع في أول تكبيرة من الصلاة، ثم لا يعود، وقال الدارقطني في "علله": اختلف علي أبي بكر النهشلي فيه، فرواه عبد الرحيم بن سليمان عنه، عن عاصم، عن أبيه مرفوعاً، ووهم في رفعه، وخالفه جماعة من الثقات: منهم عبد الرحمن بن مهدي وموسى بن داود وأحمد بن يونس وغيرهم. فَرَوَوْه، عن أبي بكر النهشلي موقوفاً على علي، وهو الصواب. وكذلك رواه محمد بن أبان عن عاصم موقوفاً. انتهى. وقال عثمان بن سعيد الدارمي: قد روي من طرقٍ واهية، عن علي أنه كان يرفع يديه في أول تكبيرة، ثم لا يعود، وهذا ضعيف، إذ لا يُظَنّ بعليٍّ أنه يَختار فعلَه على فعلِ النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قد روي عنه أنه كان يرفع يديه عند الركوع والرفع. انتهى. وتعقَّبه ابن دقيق العيد في "الإمام" بأن ما قاله ضعيف، فإنه جعل روايته مع حسن الظن بعليّ في ترك المخالفة دليلاً على ضعف هذه الرواية، وخصمه يعكس الأمر، ويجعل فعل عليّ رضي الله عنه بعد الرسول دليلاً على نسخ ما تقدم، انتهى. وذَكَر الطحاوي بعد روايته، عن عليّ: لم يكن عليّ ليرى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع، ثم يتركه إلاّ وقد ثبت عنده نسخه. انتهى.

وفيه نظر، فقد يجوز أن يكون ترك عليّ وكذا ترك ابن مسعود، وترك غيرهما من الصحابة إنْ ثبت عنهم، لأنهم لم يروا الرفع سنَّةً مؤكَّدة يلزم الأخذ بها ولا ينحصر ذلك في النسخ، بل لا يُعتبر بنسخ أمر ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجرد حسن الظن بالصحابي مع إمكان الجمع بين فعل الرسول وفعله.

(2)

عند افتتاح الصلاة.

ص: 389

حَمَّادٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعي، قَالَ: لا تَرْفَعْ يَدَيْكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الصَّلاةِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الأُولَى.

107 -

قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (1) ، أخبرنا حُصَين بن عبد الرحمن (2) ،

(1) قوله: يعقوب بن إبراهيم، هو الإمام أبو يوسف القاضي صاحب الإمام أبي حنيفة، قال الذهبي في "تذكرة الحفاظ": القاضي أبو يوسف فقيه العراقيين يعقوب بن إبراهيم الأنصاري الكوفي، صاحب أبي حنيفة، سمع هشام بن عروة وأبا إسحاق الشيباني وعطاء بن السائب وطبقتهم. وعنه محمد بن الحسن الفقيه وأحمد بن حنبل وبشر بن الوليد ويحيى بن معين، نشأ في طلب العلم، وكان أبوه فقيراً، فكان أبو حنيفة يتعاهده قال المزني: هو أتبع القوم للحديث. وقال يحيى بن معين: ليس في أصحاب الرأي أحد أكثر حديثاً ولا أثبت من أبي يوسف، وقال أحمد: كان منصفاً في الحديث، مات في ربيع الآخر سنة 182 هـ عن سبعين سنة إلا سنة وله أخبار في العلم والسيادة، قد أفردته وأفردت صاحبه محمد بن الحسن في جزء، وأكبر شيخ له حصين بن عبد الرحمن. انتهى ملخّصاً. وله ترجمة طويلة في "أنساب السمعاني"، قد ذكرته في مقدمة هذه الحواشي وذكرت ترجمتَه أيضاً في "مقدمة الهداية" وفي "النافع الكبير لمن يطالع الجامع الصغير" وفي "الفوائد البهية في تراجم الحنفية".

(2)

قوله: أخبرنا حصين بن عبد الرحمن، هو حصين، بالضم، ابن عبد الرحمن السلمي، الكوفي، أبو الهذيل، ابن عم منصور بن المعتمر، حدث عن جابر بن سمرة، وعمارة بن رويبة وابن أبي ليلى، وأبي وائل، وعنه شعبة، وأبو عوانة، وآخرون، كان ثقةً حجةً حافظاً عالي الإسناد. قال أحمد: حصين ثقة، مأمون من كبار أصحاب الحديث، عاش ثلاثاً وتسعين سنة، ومات سنة 136 هـ، كذا في "تذكرة الحفاظ".

ص: 390

قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَعَمْرُو بْنُ مُرَّةَ (1) عَلَى إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، قَالَ عَمْرُو: حَدَّثَنِي عَلْقَمَةُ بْنُ وائل الحضرمي، عن

(1) قوله: وعمرو بن مرّة، هو أبو عبد الله عَمرو، بالفتح، بن مُرَّة، بضم الميم، وتشديد الراء، ابن عبد الله بن طارق بن الحارث بن صلمة بن كعب بن وائل بن جمل بن كنانة بن ناجية بن مراد الجملي المرادي الكوفي الأعمى. روى عن عبد الله بن أبي أوفى وأبي وائل وسعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعمرو بن ميمون الأودي، وسعيد بن جبير، ومصعب بن سعد والنَّخَعي وغيرهم، وعنه ابنه عبد الله وأبو إسحاق السبيعي والأعمش ومنصور وحصين ابن عبد الرحمن والثوري وشعبة وغيرهم. قال ابن معين: ثقة، وأبو حاتم: صدوق، ثقة، وشعبة: كان أكثرهم علماً، وما رأيت أحداً من أصحاب الحديث إلا يدلّس إلا ابنَ عون، وعمرو بن مرة، ومسعر، لم يكن بالكوفة أحبّ إليّ، ولا أفضل منه، ذكره ابن حبان في كتاب "الثقات"، وقال: كان مرجئاً، مات سنة 116 هـ، وثَّقه ابن نمير ويعقوب بن سفيان كذا في "تهذيب التهذيب" و"الكاشف" و"تذكرة الحفاظ" وقد أخطأ القاريّ حيث قال: دخلت أنا وعمرو بن مرّة، بضم الميم وتشديد الراء، يُكنى أبا مريم الجهني، شهد أكثر المشاهد، وسكن الشام، مات في أيام معاوية، وروى عنه جماعة، كذا في "اسماء رجال المشكاة" لصاحب المشكاة في فصل الصحابة. انتهى كلامه. وجه الخطأ من وجوه:

أحدها: أنه لو كان الداخل على النخعي مع حصين عمرو بن مُرّة الصحابي لذَكَرَ رؤيتَه الرفع أو عدمه، فإنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد معه المشاهد، وصلى معه غير مرة، فكيف يصحّ أن يروي عن وائل بواسطة ابنه الرفعَ ثم يسكت على ردّ النخعي بفعل ابن مسعود وروايته ولا يذكره ما رآه رفعاً كان أو غير رفع؟!

ثانيها: عن (في الأصل: "عن"، وهي زائدة) عمرو بن مرّة هذا لم يذكره أحد من نقّاد الرجال في ما علمنا من جملة الرواة، عن علقمة بن وائل.

ص: 391

أَبِيهِ (1) : أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، فَرَآهُ يرفع يديه إذا كبَّر، وإذا ركع،

وثالثها: أنه لم يذكره أحد في علمنا ممن روى عنه حصين، بل المذكور في شيوخ حصين ورواة علقمة هو الذي ذكرناه.

ورابعها: أن هذا الصحابي مات في أيام معاوية، ووفاة معاوية كانت سنة ستين أو تسع وخمسين على ما في "استعياب ابن عبد البر" وغيره من كتب أخبار الصحابة، فلا بد أن يكون وفاة عمرو بن مرّة قبله، وقد ذكر ابن حبان في "كتاب الثقات"، أن ولادة إبراهيم النخعي سنة خمسين، وكذا ذكره غيره، فعلى هذا يكون النخعي يوم موت معاوية ابن تسع أو عشر سنين، وعند موت عمرو بن مرة الجهني أصغر منه، فهل يتصور أن يحضر عمرو بن مرّة عند هذا الصبي صغير السن بكثير، ويروي عنده الرفع، عن علقمة، عن أبيه، ويرد عليه هذا الصبي؟! وأما الحوالة إلى "أسماء رجال المشكاة" فلا تنفع، فإنه لم يذكر صاحب "المشكاة" أن عمرو بن مرّة أينما ذكره هو هذا، بل إنما هو عمرو بن مرّة المذكور في "المشكاة" وإني أتعجب من العلاّمة القاري كيف يخطئ خطأً كثيراً في تعيين الرواة في شرحه" الموطأ"، وشرحه لمسند الإمام الأعظم وغيرهما، مع جلالته وتوغُّله في فنون الحديث ومتعلقاته، والله يسامح عنا وعنه.

(1)

قوله: عن أبيه، أي: وائل الحَضرمي، بفتح الحاء المهملة وسكون الضاد المعجمة وفتح الراء المهملة نسبة إلى حضرموت، بلدة في اليمن، وكان وائل بن حُجر - بضم الحاء المهملة وسكون الجيم - ملكاً عظيماً بها، فلما بلغه ظهور النبي صلى الله عليه وسلم ترك ملكه، ونهض إليه، فبشَّر النبي صلى الله عليه وسلم بقدومه قبل قدومه بثلاثة أيام، ولما قدم قرَّبه من مجلسه وقال: هذا وائل أتاكم من أرض اليمن - أرض بعيدة - طائعاً، غير مُكرَه، راغباً في الله ورسوله، اللهم بارك في وائل وولده، ثم أقطع له أرضاً، كانت وفاته في إمارة معاوية، حدّث عنه بنوه علقمة وعبد الجبار، كذا في "أنساب السمعاني". وفي "جامع الأصول" لابن الأثير: أبو هنيدة وائل بن حجر بن ربيعة بن وائل الحضرمي كان قَيلاً من أقيال حضرموت، وأبوه كان من

ص: 392

وَإِذَا رَفَعَ (1)، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: مَا أَدْرِي (2) لعلَّه لَمْ يَرَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يصلي

ملوكهم وفد على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، وبشَّر به قبل قدومه. انتهى. وفي "تهذيب التهذيب": علقمة بن وائل بن حجر الحضرمي الكندي الكوفي، روى عن أبيه والمغيرة بن شعبة وطارق بن سويد، وعنه أخوه عبد الجبار وابن أخيه سعيد وعمرو بن مرَّة وسماك بن حرب، وغيرهم، ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال ابن سعد: كان ثقةً، قليل الحديث. وحكى العسكري عن ابن معين أنه قال: علقمة، عن أبيه مرسل. انتهى.

(1)

رأسه من الركوع.

(2)

قوله: ما أدري

إلخ، استبعاد من إبراهيم النخعي رواية وائل بأن ابن مسعود كان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر ومصاحبته أتمّ وأزيد من مصاحبة وائل، فكيف يعقل أن يحفظ رفع اليدين وائل ولا يحفظ ابن مسعود، فلو كان رفع اليدين من رسول الله صلى الله عليه وسلم لحفظه ابن مسعود ولم يتركه مع أنه لم يرفع إلا مرة، ولم يرو الرفعَ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل رُوي عنه تركه، وهذا الأثر عن النخعي قد أخرجه الدارقطني أيضاً عن حصين، قال: دخلنا على إبراهيم النخعي، فحدثه عمرو بن مرّة، قال: صلينا في مسجد الحضرميين فحدّثني علقمة بن وائل، عن أبيه، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حين يفتتح، وإذا ركع، وإذا سجد، فقال إبراهيم: ما رأى أباه رسول الله إلا ذلك اليوم، فحفظ عنه ذلك، وعبد الله بن مسعود لم يحفظه إنما رفع اليدين عند افتتاح الصلاة. ورواه أبو يعلى في "مسنده" ولفظه: أحفظ وائل ونسي ابن مسعود، ولم يحفظه؟! إنما رفع اليدين عند افتتاح الصلاة. وأخرجه الطحاوي، عن حصين، عن عمرو بن مرّة قال: دخلت مسجد حضرموت، فإذا علقمة بن وائل يحدّث، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه قبل الركوع وبعده، فذكرت ذلك لإبراهيم فغضب، وقال: رآه هو لم يَرَه ابن مسعود ولا أصحابه. وأخرج عن المغيرة قال: قلت لإبراهيم: حدّث وائل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا افتتح، وإذا ركعَ، وإذا رفع؟ فقال: إنْ كان رآه مرة يفعل،

ص: 393

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فقد رآه عبد الله خمسين مرة، لا يفعل ذلك. وههنا أبحاث:

الأول: ما نقله البيهقي في كتاب "المعرفة"، عن الشافعي أنه قال: الأَولى أن يُؤخذ بقول وائل لأنه صحابي جليل، فكيف يُرَدُّ حديثه بقول رجل ممن هو دونه؟!

والثاني: ما قاله البخاري في رسالة "رفع اليدين": إن كلام إبراهيم هذا ظن منه لا يرفع به رواية وائل، بل أخبر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فرفع يديه، وكذلك رأى أصحابه غير مرة يرفعون أيديهم، كما بيّنه زائدة، فقال: نا عاصم، نا أبي، عن وائل بن حجر: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فرفع يديه في الركوع، وفي الرفع منه، قال: ثم أتيتهم بعد ذلك، فرأيت الناس في زمان برد عليهم جُلّ الثياب تتحرك أيديهم من تحت الثياب.

والثالث: ما نقله الزيلعي، عن الفقيه أبي بكر بن إسحاق أنه قال: ما ذكره إبراهيم علّة لا يساوي سماعها، لأن رفع اليدين قد صحّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عن الخلفاء الراشدين، ثم الصحابة والتابعين، وليس في نسيان ابن مسعود لذلك ما يُستغرب، فقد نسي من القرآن ما لم يختلف فيه المسلمون فيه وهو المعوِّذتان، ونسي ما اتفق العلماء على نسخه كالتطبيق في الركوع، وقيام الاثنين خلف الإمام، ونسي كيفية جمع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة، ونسي ما لم يختلف العلماء فيه من وضع المرفق والساعد على الأرض في السجود، ونسي كيف قرأ رسول الله:{وما خَلَقَ الذكر والأنثى} ، وإذا جاز على ابن مسعود أن ينسى مثل هذا في الصلاة كيف لا يجوز مثله في رفع اليدين؟ انتهى.

والرابع: أن وائلاً ليس بمتفرِّد في رواية الرفع، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل قد اشترك معه جمع كثير كما مرّ ذكره سابقاً، بل ليس في الصحابة من روى ترك الرفع فقط إلاّ ابن مسعود، وأما من عداهم، فمنهم من لم تُرو عنه إلاّ رواية الرفع، ومنهم من روى عنه حديث الرفعِ وتركِه كليهما كابن عمر والبراء إلَاّ أن أسانيد رواية الرفع

ص: 394

إلَاّ ذلك اليوم فحفظ هذا (1)

أوثق وأثبت، فعند ذلك لو عُورض كلام إبراهيم بأنه يُستبعد أن يكون ترك الرفع حفظه ابن مسعود فقط ولم يحفظه من عداه من أجلَّة الصحابة الذين كانو مصاحِبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مصاحبة ابن مسعود أو أكثر لكان له وجه.

والخامس: أنه لا يلزم من ترك ابن مسعود الرفع وأصحابه عدم ثبوت رواية وائل، فيجوز أن يكون تركهم لأنهم رأوا الرفع غير لازم، لا لأنه غير ثابت، أو لأنهم رجَّحوا أحد الفعلين الثابتين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرفع والترك فداوموا عليه وتركوا الآخر، ولا يلزم منه بطلان الآخر.

السادس: أنه قد أخذ ابن مسعود بالتطبيق في الركوع، وداوم عليه أصحابه، وكذلك أخذوا بقيام الإمام في الوسط إذا كان من يقتدي به اثنين مع ثبوت ترك ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جمهور أصحابه بعده بأسانيد صحاح. فلِمَ لا يُعتبر فعل ابن مسعود في هذين الأمرين. وأمثال ذلك؟

فما هو الجواب هناك هو الجواب ههنا (قد ردَّ الحافظ ابن التركماني جميع إيرادات البيهقي في الجوهر النقي 1/139 - 140، فارجع إليه) ، والإنصاف في هذا المقام أنه لا سبيل إلى ردّ روايات الرفع برواية ابن مسعود وفعلِه وأصحابه ودعوى عدم ثبوت الرفع ولا إلى رد روايات الترك بالكلية ودعوى عدم ثبوته، ولا إلى دعوى نسخ الرفع ما لم يثبت ذلك بنص عن الشارع، بل يُوفى كلٌّ من الأمرين حظّه، ويقال: كل منهما ثابت، وفعل الصحابة والتابعين مختلف، وليس أحدهما بلازم يُلام تاركه، مع القول برجحان ثبوت الرفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1)

أي: الرفع.

ص: 395

مِنْهُ، وَلَمْ يَحْفَظْهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُهُ (1) مَا سَمِعْتُهُ (2) مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، إِنَّمَا كَانُوا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي بَدْء (3) الصَّلاةِ حِينَ يكبِّرون.

108 -

قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ حَكِيمٍ (4)، قَالَ: رَأَيْتُ ابن عمر (5) يرفع يديه حذاء أذنيه

(1) قال القاري: أي: وسائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى. وفيه ما فيه، والظاهر أنَّ ضمير أصحابه راجح إلى ابن مسعود.

(2)

أي: الرفع.

(3)

البَدْ بالفتح، الإبتداء.

(4)

قوله: عن عبد العزيز بن حكيم، ذكره ابن حبان في "ثقات التابعين"(انظر ترجمته في كتاب الثقات 5/125، والتاريخ الكبير: 3/2/11)، حيث قال: عبد العزيز بن حكيم الحضرمي كنيته أبو يحيى، يروي عن ابن عمر، عداده في أهل الكوفة، روى عنه الثوري وإسرائيل، مات بعد سنة 130 هـ، وهو الذي يقال له ابن أبي حكيم. انتهى. وفي "ميزان الاعتدال" قال ابن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي.

(5)

قوله: قال: رأيت ابن عمر

إلخ، المشهور في كتب أصول أصحابنا أن مجاهداً قال: صحبت ابن عمر عشر سنين، فلم أره (في الأصل:"فلم أر" والظاهر: "فلم أره") ، يرفع يديه إلَاّ مرة. وقالوا: قد روى ابن عمر حديث الرفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركه والصحابي الراوي إذا ترك مروياً ظاهراً في معناه غير محتمل للتأويل، يُسقط الاحتجاج بالمروي، وقد روى الطحاوي من حديث أبي بكر بن عيّاش، عن حصين، عن مجاهد أنه قال: صلِّيت خلف ابن عمر، فلم يكن يرفع يديه إلَاّ في التكبيرة الأولى من الصلاة، ثم قال: فهذا ابن عمر قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع، ثم قد ترك هو الرفع بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يكون ذلك إلَاّ وقد ثبت عنده نسخه.

ص: 396

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وههنا أبحاث: الأول: مطالبته إسناد ما نقلوه عن مجاهد من أنه صحب عشر سنين، ولم يرَ ابن عمر فيها يرفع يديه إلَاّ في التكبير الأول.

والثاني: المعارضة بخبر طاووس وغيره من الثقات أنهم رأوا ابن عمر يرفع.

والثالث: أن في طريق الطحاوي أبو بكر بن عيّاش، وهو متكلَّم فيه لا توازي روايته رواية غيره من الثقات. قال البيهقي في كتاب "المعرفة" بعد ما أخرج حديث مجاهد من طريق ابن عيّاش، قال البخاري: أبو بكر بن عياش اختلط بآخره، وقد رواه الربيع وليث وطاووس وسالم ونافع وأبو الزبير ومحارب بن دثار وغيرهم قالوا: رأينا ابن عمر يرفع يديه إذا كبَّر، وإذا رفع، وكان يرويه أبو بكر قديماً، عن حصين عن إبراهيم، عن ابن مسعود مرسلاً موقوفاً أن ابن مسعود كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، ثم لا يرفعهما بعد، وهذا هو المحفوظ عن أبي بكر بن عيّاش، والأول خطأ فاحش لمخالفته الثقات عن ابن عمر. انتهى.

فإن قلت آخذاً من "شرح معاني الآثار" أنه يجوز أن يكون ابن عمر فعل ما رآه طاووس قبل أن يقوم الحجة بنسخه، ثم لمّا ثبت الحجة بنسخه عنده تركه، وفَعَل ما ذكره مجاهد، قلتُ: هذا مما لا يقوم به الحجة، فإن لقائل أن يعارِض ويقول: يجوز أن يكون فعل ابن عمر ما رواه مجاهد قبل أن تقوم الحجة بلزوم الرفع، ثم لما ثبتت عنده التزم الرفع على أن احتمال النسخ احتمال من غير دليل، فلا يُسْمعْ. فإن قال قائل: الدليل هو خلاف الراوي مرويَّه، قلنا: لا يوجب ذلك النسخ كما مرّ.

والثالث: وهو أحسنها أنا سلَّمنا ثبوتَ الترك عن ابن عمر لكن يجوز أن يكون تركه لبيان الجواز، أو لعدم رؤيته الرفع سنَّة لازمة، فلا يقدح ذلك في ثبوت الرفع عنه، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الرابع: أن ترك الراوي مرويّه إنما يكون مسقطاً للاحتجاج عند الحنفية إذا كان خلافُه بيقين، كما هو مصرَّح في كتبهم وههنا ليس كذلك، لجواز أن يكون

ص: 397

فِي أَوَّلِ تَكْبِيرَةِ افْتِتَاحِ الصَّلاةِ، وَلَمْ يَرْفَعْهُمَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ (1) .

109 -

قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَهْشَليُّ (2) ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيب الجَرْمي، عَنْ أَبِيهِ - وَكَانَ (3) مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ -: أنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - كرَّم اللَّهُ وَجْهَهُ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي التَّكْبِيرَةِ الأُولَى الَّتِي يَفْتَتِحُ بِهَا الصَّلاةَ، ثُمَّ لا يرفعهما في شيء من الصلاة.

الرفع الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمله ابن عمر على العزيمة، وتَرَكَ أحياناً بياناً للرخصة، فليس تركه خلافاً لروايته بيقين.

الخامس: أنه لا شبهة في أن ابن عمر قد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث الرفع، بل ورد في بعض الروايات عنه أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه، وإذا ركع، وإذا رفع، وكان لا يفعل ذلك في السجود، فما زالت تلك صلاته حتى لقي الله، أخرجه البيهقي. ولا شك أيضاً في أنه ثبت عن ابن عمر بروايات الثقات فعل الرفع، وورد عنه برواية مجاهد وعبد العزيز بن حكيم الترك، فالأَولى أن يُحمل الترك المرويّ عنه على وجه يستقيم ثبوت الرفع منه، ولا يخالف روايته أيضاً، إلا أن يُجعل تركه مضاداً لفعله، ومُسقطاً للأمر الثابت، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بروايته ورواية غيره.

(1)

أي: في الركوع والرفع وغير ذلك.

(2)

قوله: أخبرنا أبو بكر بن عبد الله النهشلي، نسبة إلى بني نَهْشل، بفتح النون وسكون الهاء، وفتح الشين المعجمة بعدها لام، قبيلة. ذكره السمعاني في "الأنساب". وفي "التقريب" و"الكاشف": أبو بكر النهشلي الكوفي، قيل: اسمه عبد الله بن قطاف أو ابن أبي قطاف، وقيل: وهب، وقيل: معاوية صدوق ثقة، توفي سنة 166. انتهى. لعله هو.

(3)

الضمير إلى كُليب.

ص: 398

110 -

قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، حَدَّثَنَا حُصَيْنُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ (1)، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ (2) يديه إذا افتتح الصلاة.

(1) هو: إبراهيم بن يزيد النخعي.

(2)

قوله: أنه كان يرفع

إلخ، أخرجه الطحاوي من طريق حصين عن إبراهيم قال: كان عبد الله لا يرفع يديه في شيء من الصلاة إلاّ في الافتتاح. وقال: فإن قالوا ما ذكرتموه عن إبراهيم عن عبد الله غير متصل، قيل لهم: كان إبراهيم إذا أرسل عن عبد الله لم يرسله إلاّ بعد صِحّتِه عنده وتَوَاتُرِ الرواية، عن عبد الله، قد قال له الأعمش: إذا حدثتني فأسند، فقال: إذا قلتُ لك: قال عبد الله،، فلم أقل ذلك حتى حدثّنيه جماعة عن عبد الله، وإذا قلتُ: حدثني فلان، عن عبد الله فهو الذي حدثني، حدثنا بذلك إبراهيم بن مرزوق، قال: نا ابن وهب، أو بشر بن عمر - شك أبو جعفر الطحاوي - عن سعيد، عن الأعمش بذلك، فكذلك هذا الذي أرسله إبراهيم عن عبد الله، لم يرسله إلاّ ومخرجه عنده أصح من مخرج ما يرويه رجل بعينه عن عبد الله. انتهى كلامه.

وفي "الاستذكار" لابن عبد البر: لم يُروَ عن أحد من الصحابة تركُ الرفع ممن لم يُختلف عنه فيه إلاّ ابن مسعود وحده. وروى الكوفيون عن علي مثلَ ذلك، وروى المدنيون عنه الرفع، من حديث عبيد الله بن أبي رافع. وكذلك اختُلف عن أبي هريرة، فروى عنه أبو جعفر القاري ونُعيم المُجمر أنه كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، ويكبِّر في كل خفض رفع، ويقول: أنا أشبهكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عنه عبد الرحمن بن هرمز الأعرج أنه كان يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رأسه، وهذه الرواية أَولى لما فيها من الزيادة. ورُوى الرفع عن جماعة من التابعين بالحجاز والعراق والشام منهم القاسم بن محمد والحسن وسالم وابن سيرين وعطاء وطاووس ومجاهد ونافع مولى ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وابن أبي نَجيح وقتادة. انتهى ملخصاً.

ص: 399