الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعتمد، وما مَثَله في ذلك إلَاّ كمثل خاتم أنبياء بني إسرائيل سيدنا عيسى وخاتم الخلفاء الأربعة عليٍّ المرتضى، حيث هلك فيهما مُحِبٍّ مفرط ومبغض مفرط، وكمثل سعد حيث شكاه عند عمر أهلُ الكوفة في كل شيء، حتى قالوا: إنه لا يحسن يصلي، فبرّأه الله مما قالوا، وهلكوا بدعائه المستجاب، وخسروا كما لا يخفى على ناظر كتب الصحاح والسنن المسانيد. ومن أراد الاطلاع على التفصيل في محاسنه، فليرجع إلى كتب مناقبه وغيرها فتندفع بها المعائب التي توهَّمها، وفيما ذكرناه كفاية لأرباب الإِنصاف، وأما أهل الاعتساف، فهم مطروحون خامدون، لا يليق أن يخاطَب بهم أرباب الانتصاف، ولا حاجة لنا إلى أن نمدحه بمدائح كاذبة ومحاسن غير ثابتة كما ذكر جماعة من المحبَّين المفرطين أنه تعلم منه الخضر على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وأن عيسى حين ينزل في زمن الدجّال، والإِمام مهدي، يحكمان بمذهبه، وأنه بشّر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "يكون في أمتي رجل يُكنى بأبي حنيفة ويسمّى بالنعمان
…
" الحديث، فإن أمثال هذه الأخبار كلها موضوعة، وأشباه تلك المناقب كلها مكذوبة كما حققه علي القاري في "المشرب الوردي بمذهب المهدي"، والسيوطي في "الإِعلام بحكم عيسى عليه السلام"، وابن حجر في "الخيرات الحسان في مناقب النعمان".
الفائدة الحادية عشرة: [أهمية رواية محمد، وترجيحها على رواية يحيى المشهورة]
- قد كثر الاعتماد على موطأ مالك برواية يحيى الأندلسي الليثي المصمودي الذي شرحه الزرقاني وغيره، ومر أنه المتبادر بالموطأ عند الإِطلاق، واشتهر فيما بين الموطأ (أي بين روايات الموطأ) اشتهاراً كثيراً في الآفاق، وأكبّ عليه العلماء ممن هو في عصرنا، وكثير ممن سبقنا بتدريسه ومدُّوا إليه الأعناق، وظن كثير منهم أن الموطأ برواية محمد بن الحسن الشيباني (اختلف العلماء في تسمية هذا الكتاب فمنهم من قال موطأ محمد، ومنهم من قال موطأ مالك برواية محمد بن حسن الشيباني، وهذا هو الأنسب عندي، وقد حقق ذلك أخونا الدكتور الفاضل محمد بن علوي المالكي الحسني في كتابه "أنوار المسالك إلى روايات موطأ مالك ص 172" طبع بدولة قطر) ليست بذاك، وأنها ليست معتبرة، ولا داخلة في ما هنالك.
والذي أقول طالباً الإنصاف من نقاد الفحول: أن الوجوه التي تخطر بالأوهام باعثة على عدم الاعتماد عليه (في الأصل: "إليه"، والصواب: "عليه") كلها غير مقبولة عند الأعلام، بل له ترجيح على الموطّأ برواية يحيى، وتفضيل علية، لوجوه مقبولة عند أولي الإفهام.
الأول: أن يحيى الأندلسي إنما سمع الموطّأ بتمامه من بعض تلامذة مالك، وأما مالك فلم يسمعه عنه بتمامه، بل بقي قدر منه، وأما محمد فقد سمع منه بتمامه كما مرّ فيما مر، ومن المعلوم أن سماع الكل من مثل هذا الشيخ بلا واسطة أرجح من سماعه بواسطة.
الثاني: أنه قد مرّ أن يحيى الأندلسي حضر عند مالك في سنة وفاته، وكان حاضراً في تجهيزه، وأن محمداً لازمه ثلاث سنين من حياته ومن المعلوم أن رواية طويل الصحبة أقوى من رواية قليل الملازمة.
الثالث: أن موطّأ يحيى اشتمل كثيراً على ذكر المسائل الفقهية، واجتهادات الإمام مالك المرضية، وكثير من التراجم ليس فيه إلاّ ذكر اجتهاده واستنباطه، من دون إيراد خبر، ولا أثر، بخلاف موطأ محمد، فإنه ليست فيه ترجمة باب (في الأصل:"الباب"، والصواب:"باب") خالية عن رواية مطابقة لعنوان الباب، موقوفة كانت أو مرفوعة، ومن المعلوم أن الكتاب المشتمل على نفس الأحاديث من غير اختلاط الرأي أفضل من المخلوط بالرأي.
الرابع: أن موطّأ يحيى اشتمل على الأحاديث المروية من طريق مالك لا غيره، وموطّأ محمد مع اشتماله عليه مشتمل على الأخبار المروية من شيوخ أخر غيره، ومن المعلوم أن المشتمل على الزيادة أفضل من العاري عن هذه الفائدة.
الخامس: وهو بالنسبة إلى الحنفية خاصةً، أن موطّأ يحيى مشتمل كثيراً على اجتهاد مالك المخالفة لآراء أبي حنيفة وأصحابه، وعلى الأحاديث التي لم يعمل بها أبو حنيفة وأتباعهم بادعاء نسخ، أو إجماع على خلافه أو إظهار خلل في السند، أو أرجحيّة غيره، وغير ذلك من الوجوه التي ظهرت لهم، فيتحير الناظر فيها ويبعث
ذلك العامي على (في الأصل: "إلى"، والصواب: "على") الطعن عليهم، أو عليها، بخلاف موطّأ محمد، فإنه مشتمل على ذكر الأحاديث التي عملوا بها بعد ذكر ما لم يعملوا به (في الأصل:"بعد ما ذكر ما لم يعملوا بها"، وهو خطأ) ، كما لا يخفي على من طالع بحث رفع اليدين، والقراءة خلف الإمام، وغيرها. وهذا نافع للعامي وللخاص، أما العامي فيصير محفوظاً عن سوء الظنون، وأما الخاص فيبرز بتنقيد أحاديث الطرفين الترجيح المكنون، وستطّلع في كتابي هذا إن شاء الله تعالى على ذكر الترجيح في مواضعه فيما بين المذاهب المختلفة، من دون الحميّة حميّة الجاهلية.
فإن قلت: إن موطّأ يحيى هو المتبادر (في الأصل: "هي المتبادرة"، وهو خطأ) من الموطّأ عند الإطلاق، وهذا آية ترجيحه على سائر الموطآت بخلاف موطّأ محمد، فإنه لا يتبادر منه عند الإطلاق.
قلت: يلزم منه ترجيح موطّأ يحيى على موطأ القعنبي والتنيسي أيضاً، وهما أثبت الناس في الموطأ عند ابن معين وابن المديني والنسائي، وموطأ معن بن عيسى أيضاً وهو أثبت الناس في الموطأ عند أبي حاتم كما مر ذكره في الفائدة السادسة، وليس كذلك.
فإن قلت موطأ يحيى هو المشهور (في الأصل: "هي المشهورة"، وهو خطأ) في الآفاق، وموطأ محمد ليس كذلك.
قلت: هذا لا يستلزم الترجيح في الشيء، فإن وجه شهرته على ما ذكره الزرقاني في شرحه أن يحيى لما رجع إلى الأندلس انتهت إليه رئاسة الفقه بها، وانتشر به المذهب وتفقّه به من لا يحصى وعرض عليه القضاء فامتنع، فعلت رتبته على القضاة، وقبل قوله عند السلطان، فلا يُولِّي أحداً قاضياً في أقطاره إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلَاّ بأصحابه، فأكب الناس عليه لبلوغ أغراضهم، وهذا سبب اشتهار الموطّأ بالمغرب من روايته دون غيره. انتهى.
فإن قلت: موطّأ مالك برواية يحيى مشتمل على الأحاديث التي من طريقه،
وموطأ محمد مشتمل عليه وعلى غيره، فبهذا السبب موطأ يحيى صار مرجحاً على موطأ محمد.
قلت: هذا يقتضي ترجيح موطأ محمد كما مرَّ معنا ذكره، وإنما يصلح هذا سبباً لتبادر موطأ يحيى عند الإطلاق بالموطأ بالنسبة إلى موطأ محمد لا لترجيحه عليه.
فإن قلت: يحيى الأندلسي ثقة، فاضل، ومحمد ليس كذلك.
قلت: إن أريد به أنه لم يطعن على يحيى بشيء، فهو غير صحيح، لما قال الزرقاني في ترجمته: فقيه، ثقة، قليل الحديث، وله أوهام، مات سنة أربع وثلاثين ومائتين. انتهى. وإن أريد به أن الطعن عليه لا يقدح في وثاقته، فكذلك محمد لا يوجب طعن من طعن عليه تركه، والجواب عن الطعن عليه كالجواب عن الطعن على شيخه، على أنه مر عن "الميزان"، أنه كان من بحور العلم والفقه، قوياً في مالك: فإن ثبت ضعفه عن غير مالك فلا يضر فيما هنالك.
فإن قلت: كثير من شيوخ الأسانيد التي أوردها محمد ضعفاء (في الأصل: "ضعيفة"، وهو تحريف) .
قلت: أما الأسانيد التي أوردها من طريق مالك فشيوخها هم المذكورون في موطأ يحيى وغيره، فلا يضر الكلام فيهم، وأما التي أوردها من طريق غيره، فليس أن جميع رجالها ضعفاء، بل أكثرهم ثقات أقوياء، وكون بعضهم من الضعفاء لا يقدح في المرام، فإن هذا ليس أول قارورة كسرت في الإسلام، ومن ادّعى أن كلَّهم ضعفاء فليأت بالشهداء.
فإن قلت: جماعة من المتحدثين لا يعدّون موطأ محمد في عداد الموطآت، ولا يعتمدون عليه كاعتمادهم على سائر الموطآت.
قلت: إن كان ذلك لوجه وجيه، فعلى الرأس والعين، وإلَاّ فإيراد هذا الكلام خارج عن البين، وهناك جماعة من المحدثين قد عدُّوه في عداد الموطآت ونقدوا روايته كسائر الروايات.