الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهل رأيت في هؤلاء الأدعياء المدَّعين للاجتهاد، من يُنصف الواقع والحق، فيقولُ عن نفسِهِ فيما لا يُحسنه مثلَ هذا؟!
خلق الله للعلوم رجالاً * ورجالاً لنَفْشَةٍ ودَعَاوي!
وقال الحافظ الإمام أبو عًمَر بن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"(160: 2)، تعقيباً على قول الإمام أحمد: "من أين يَعرفُ يحيى بنُ معين الشافعي؟! هو لا يعرف الشافعي ولا يعرف ما يقول الشافعي قال أبو عمر: صدق أحمد بن حنبل رحمه الله، إنَّ ابن معين لا يَعرفُ الشافعي. وقد حُكي عن ابن معين أنه سُئل عن مسألةٍ من التيمم، فلم يعرفها!
حدثنا عبدُ الوارث بن سفيان، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا ابن زهير، قال: سُئل يحيى بن معين وأنا حاضر، عن رجل خيَّر امرأتَه، فاختارت نفسَها؟ فقال:"سَلْ عن هذا أهلَ العلم". انتهى.
وجاء في "ذيل طبقات الحنابلة" للحافظ ابن رجب (131: 1)، و"المنهج الأحمد" للعُلَيمي (208: 2) ، في ترجمة (يحيى بن منده الأصبهاني) :"قال فُوْرَان: ماتت امرأة لبعض أهل العلم، فجاء يحيى بن معين والدَّوْرَقي، فلم يجدوا امرأةً تغسِلُها إلَاّ امرأةً حائضاً، فجاء أحمد بن حنبل وهو جلوس، فقال: ما شأنكم؟ فقال أهلُ المرأة: ليس يجدُ غاسلةً إلَاّ امرأةً حائضاً، فقال أحمد بن حنبل: أليس تَرْوُون عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة، ناولِيني الخمْرة، قالت: إني حائض، فقال: إنَّ حَيضَتَك ليست في يدكِ"، يجوزُ أن تغسِلَها، فخجلوا وبَقُوا! ". انتهى.
يُسر الرواية وصعوبة الفقه والاجتهاد:
- فلا شك في يُسر الرواية بالنظر لمن توجه للحفظِ والتحملِ والأداء، وآتاه الله حافظةً واعية، فلهذا كان المتأهلون للرواية أكثَرَ جداً من المتأهلين للفقه والاجتهاد، روى الحافظ
الرامَهُرْمُزِي، في كتابه "المحدِّث الفاصِل بين الراوي والواعي"(ص 560) ، بسنده عن أنس بنِ سِيرين، قال:"أتيتُ الكوفة، فرأيتُ فيها أربعةَ آلافٍ يطلبون الحديث، وأربعَ مئةٍ قد فَقهُوا". انتهى.
وفي هذا ما يدل على أن وظيفة الفقيه شاقةٌ جداً، فلا يكثُرُ عدَدُه كثرةَ عَدَدِ النَّقَلَةِ الرواة، وإذا كان مثلُ (يحيى القطانِ) ، و (وكيع بن الجراح) ، و (عبدا الرزاق) ، و (يحيى بن معين) ، وأضرابِهم، لم يجرؤوا أن يخوضوا في الاجتهاد والفقه، فما أجرأ المدَّعين للاجتهاد في عصرنا هذا؟! مع تجهيل السلف بال حياءٍ ولا خجل، نعوذ بالله من الخذلان.
وإنما أكثرت من هذه الوقائع، لأولئك الحفاظ الكبار والمحدثين الأئمة، التي تبين منها أن الحفظ شيء، والفقه وفهم النصوص شيء آخر، لأن عدداً من الناس في عصرنا، يخيَّل إليهم أن كثرة الكتب التي تَقذِفُ بها المطابع اليوم، ووفرة الفهارس التي تُصنَعُ لها: تجعل (الإجتهاد) أمراً ميسوراً لمن أراده، وهو خيال باطل، وتوهم خادع.
فالحفظ العجيب الذي كان عليه هؤلاء المحدثون الأكابر في القرون الأولى الزاهرة، مع سيلان أذهانهم المسعفة - وليست كالكتب الجامدة الصماء - والبيئة التي كانت تجيش فيها من حولهم حلقات التحديث والتفقيه، والسماع والتدريس ووفرة المحدثين والفقهاء، كل ذلك لم يخولهم أن يجتهدوا ويغالطوا أنفسهم فصدقوا مع الله ومع أنفسهم، ومع الناس.
ولم يكونوا بحال من الأحوال أقل ذكاء من (المتمجهدين) في هذا العصر، بل كانوا أهل ذكاء مشهور، وفطنة بالغة، ووعي شديد وانقطاع للعلم، ولكنهم لم يدخلوا أنفسهم فيما لا يحسنون، واقتصروا على ما يحسنون فحُمِدَتْ سِيرتُهم، وعَظُمَتْ مكانتهم في النفوس، ودل ذلك على حُسن إسلامهم وفَهمهم لواقعهم، فرحمة الله تعالى عليهم ورضوانه العظيم.
قال الحافظ الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه"(81: 2) : "وليُعلم أن الإكثار من