الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
انتفاع الإنسان بأعضاء
جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً
إعداد
فضيلة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
أستاذ في قسم الفقه الإسلامي بجامعة دمشق
بسم الله الرحمن الرحيم
مخطط البحث
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد، فإن هذا البحث يسير وفق المخطط التالي:
أولاًـ طبيعة البحث الفقهي في هذه المسألة، والمستندات الشرعية في دراستها.
ثانياً: جذور هذه المسألة في التراث الفقهي القديم. والتطور الذي انتهى إليه الطب فيها.
ثالثاً ـ صورة المسألة اليوم، والتقسيمات المحتملة لها:
1-
عندما يكون المستفاد منه حياً، وله حالتان:
أ - أن يتعلق بحياته حق للغير كالحد والقصاص.
ب - أن لا يتعلق بحياته حق للغير وله هنا حالتان:
- إما أن يكون كامل الأهلية مستقلاً بأمر نفسه.
- وإما أن يكون ناقص الأهلية غير مستقل بأمر نفسه.
2-
عندما يكون المستفاد منه ميتاً. وتتعلق به النقاط التالية:
أ - الموت الذي نعنيه (بيان الفرق بين الموت الشرعي وموت الدماغ) .
ب - حكم الاستفادة من أعضاء الميت للحي.
ج- حكم تشريح الميت لسبب ما.
د- هل يجب الرجوع في ذلك إلى أولياء الميت، والتأصيل الفقهي لذلك.
مقدمة
طبيعة البحث الفقهي في هذه المسألة
والمستندات الشرعية لدراستها
إن النظر في حكم انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر، حياً أو ميتاً، في الشريعة الإسلامية إنما يدخل في المسائل الاجتهادية الفقهية الحديثة، ولعله من أهمها ومن أحوجها إلى الدراسة الشاملة ابتغاء الوصول إلى حكمها، أو أحكامها، في شرع الله عز وجل، بحيث تستند إلى أدلة يقتنع بها أولو الملكة الفقهية السليمة، ويطمئن إليها أولو البصيرة الإسلامية المخلصة.
ومما لا ريب فيه أن هذا البحث يتصل اتصالاً مباشراً ووثيقاً بجملة من القواعد الفقهية الكلية من شأنها أن تنير السبيل بوضوح أمام تلمس حكم الشريعة الإسلامية، أو أحكامها، في هذا الموضوع الهام.
ولعل من المناسب أن نبدأ فنتعرف على هذه القواعد أولاً، ثم نتخذ منها الدليل الهادي على طريق دراسة هذا البحث الذي سنجد أنه يتصل ببعض المسائل الجزئية مما قد تناوله الفقهاء وفرغوا من دراسته وبيان حكمه، بل أبرمت السنة المطهرة بشأن بعض منها.
أوسع هذه القواعد شمولاً، وأرسخها في البنيان الفقهي، قاعدة المقاصد الخمسة والترتيب الذي صنفت ـ من حيث الأهمية ـ على وفقه. وهي كما نعلم: مقاصد الدين فالحياة، فالعقل، فالنسل، فالمال.
ومما يجدر بلفت النظر إليه أن كثيراً من العلماء يعبرون بالعرض بدلاً من النسل، وكثير منهم يضيفون إلى هذه المقاصد الخمسة العرض، وذلك لإدخال حق الكرامة، بل القدسية الإنسانية، في مجموعة المقاصد التي تدور عليها أحكام الشريعة الإسلامية (1) .
وسواء علينا أن استعملنا عبارة " النسل " أو " العرض " أو استعملناهما معاً، فإن تنويه الإسلام بقدسية الإنسان وكرامته، ورعاية الشريعة الإسلامية لذلك في سائر الأحكام، حقيقة ثابتة لا يرتاب فيها باحث أو فقيه، ومن ثم فإن رعاية الكرامة الإنسانية داخلة دخولاً أولياً في المقاصد أو المصالح التي هي محور الشرع الإسلامي الحنيف.
القاعدة الثانية: انقسام جملة الحقوق الشرعية إلى قسمين: حق لله، وحق للعباد وإنما يجوز التصرف بما هو حق للعباد أو غلب عليه حق العباد. ثم إنه يكون حقاً أصيلاً ومباشراً بالنسبة لمن أعطي هذا الحق أصالة، سواء كان على وجه التمليك أو التمتيع، ويكون حقاً فرعياً ومقيداً بالنسبة للولي أو الوكيل.
(1) انظر شرح المحلى على جمع الجوامع، وحاشية البناني عليه: 2/179
القاعدة الثالثة: تنهض مشروعية الإيثار على سائر الحقوق البدنية والدنيوية الداخلة في حقوق العباد، دون ما سواها من حقوق الله عز وجل، ومن الثابت أن المحافظة على أصل الحياة ومقوماتها من حقوق الله عز وجل.
القاعدة الرابعة: الحقوق المعنوية الداخلة في حقوق العباد تورث بالموت كما تورث الحقوق العينية، دون خلاف في ذلك، وإنما ينعكس الخلاف إلى مسائل بعض هذه الحقوق، من الخلاف بين الفقهاء في: هل هي داخلة في حقوق الله، أم في حقوق العباد، كالقذف وحق المعاقبة عليه (1) ؟
فهذه القواعد الأربع، تشكل جسراً ممتداً بين ينبوع الشريعة الإسلامية، إلى هذا العصر والعصور التالية، من شأنه أن يكشف لنا عن موقف الشريعة الإسلامية المطهرة من مسألة زرع الأعضاء الاصطناعية في جسم الإنسان، وهو ما عالجه الفقهاء وأوضحوا حكمه قديماً، ومن مسألة زرع عضو من إنسان في جسم إنسان آخر، وهو ما يمارسه الأطباء، اليوم، وما يطرح نفسه لبيان حكمه الشرعي.
وقد أدلى الفقهاء السابقون ـ كما قلنا ـ باجتهاداتهم في أصل هذه المسألة، وهو اتخاذ الإنسان عضواً اصطناعياً مكان العضو الطبيعي الذي افتقده. ومن الجدير أن نستعرضها إجمالاً، نظراً إلى أنها تشكل مستنداً فرعياً، بعد الاستناد إلى تلك القواعد التي ألمحنا إليها، لدراسة تطوراتها الحديثة اليوم، ونظراً إلى أن ذلك يبرز جذور هذه المسألة في تراثنا الفقهي العظيم.
جذور هذه المسألة
(1) سيأتي تفصيل الخلاف فيه في غضون هذا البحث إن شاء الله
في التراث الفقهي القديم
والتطور الذي انتهى إليه الطب فيها
لجذور هذه المسألة مستند أصيل من السنة النبوية الشريفة، بالإضافة إلى القواعد الفقهية التي تشكل الأساس الاجتهادي فيها، وهو حديث عرفجة الذي رواه الترمذي وصححه ابن حبان، ((أنه قطعت أنفه فاتخذ أنفاً من فضة، فأنتن عليه، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذه من ذهب.))
فقد قرر الفقهاء بالاتفاق جواز اتخاذ سن أو أنملة أو أنف من ذهب، إن اقتضت الضرورة أن يكون ذهباً، وعلى خلاف فيما بينهم في جواز اتخاذه من الذهب إن قامت الفضة أو نحوها مقامه، فأجاز الشافعية والمالكية الذهب مطلقاً، ومنعه الحنفية عند عدم الضرورة (1) .
أما الأطراف، كاليد والرجل، وكالإصبع الكاملة منهما، فقد ذهب الحنفية والشافعية، في المعتمد عندهم، إلى عدم جواز اتخاذها من ذهب أو فضة، نظراً إلى أنها لن تكون أعضاء عاملة، بل لمجرد الزينة فلا ضرورة في تركيبها إذن، أي فلا ضرورة في ارتكاب المحظور (2) ومعنى ذلك أن اتخاذ طرف اصطناعي من غير الذهب والفضة جائز بالاتفاق.
كما اتفقوا على أن وصل الجسد بعظم من حيوان طاهر، للتداوي به، أو للاستعاضة به عن عضو أو عظم فقده صاحبه، جائز، وإن وصل بعظم نجس مع وجود الطاهر، أو بدون ضرورة تدعو إلى ذلك، فهو غير جائز، ويجب نزعه عند الجمهور في هذه الحالة، إلا إن خيف من هلاك أو عطب، أما إن تعين العظم النجس، فلا مانع من الاستفادة منه عند الضرورة (3) .
(1) انظر مغني المحتاج للشربيني: 1/ 391، والهداية للمرغيناني: 4/ 61، وجواهر الإكليل: 1/10 وما بعد.
(2)
انظر مغني المحتاج للشربيني: 1/ 391، والهداية للمرغيناني: 4/ 61، وجواهر الإكليل: 1/10 وما بعد.
(3)
انظر الفتاوى الهندية: 5/ 354، وروضة الطالبين للنووي: 1/ 275، والشرح الصغير للدردير: 1/58.
ولكن هل أجاز الفقهاء الاستفادة، في هذه الحال، من عظم إنسان آخر؟ قال في الفتاوى الهندية: لا يجوز الانتفاع بأجزاء الآدمي، قيل: للنجاسة، وقيل: لكرامة الإنسان، وهو الصحيح (1) .وأطلق الشربيني في مغني المحتاج القول بحرمة ذلك فقال:" والآدمي يحرم الانتفاع به وبسائر أجزائه، لكرامته "(2) .
أقول: ينبغي أن يكون هذا الاجتهاد خاصاً بالحالات التي لا يتعين فيها الآدمي دون غيره، أما عندما يتعين الآدمي ولا يقوم مقامه جزء آخر من غيره، وكان في ذلك إنقاذ لحياته أو تمتيع بعضو أصيل في جسمه، فلا نشك في أن ضرورة إنقاذ حياة الإنسان أو إعادتها إلى النهج القديم، أرجح في سلم المصالح المعتبرة من مراعاة كرامة الإنسان بعد موته.
هذه خلاصة لما انتهى إليه الفقهاء في هذه المسألة، في العهود الغابرة. ومن الواضح أنها تبرز مدى مسايرة الفقه الإسلامي لحركة الطب وتقدمه آنذاك، ومدى تناسق الفقه معه في السعي إلى خدمة الإنسان وتحقيق مصالحه.
غير أن الطب، بلغ اليوم شأواً بعيداً، بالنسبة إلى ما كان عليه بالأمس، فقد تجاوز مرحلة تثبيت أنف أو أنملة أو سن اصطناعي، أو وصل الجسم بعظم إنسان أو حيوان آخر، تجاوزه إلى زرع كلية مكان أخرى، وتركيب قلب مكان قلب آخر، وإلى استبدال عين سليمة بأخرى تالفة. وهو بهذا التقدم الذي بلغه اليوم، إنما يعيد الأمل إلى الإنسان الذي استيأس من حياته، ويضع الإنسان في الوقت ذاته أمام أسمى امتحانات التعاون والإيثار.
ثم إن هذا التقدم العلمي في نطاق الطب، يصور لنا بعضاً من الفروق بين عمل الطب في هذا المضمار بالأمس وعمله في اليوم.
وأبرز هذه الفروق، أن تلك الإنجازات الطبية القديمة، لم تكن تعدو عملاً تزيينيا أو سداً شكلياً لنقص في البدن، وليس له من فائدة إلا ضمن حدود الشكل والمظهر. فكان أثره المصلحي محصوراً في نطاق مرتبة التحسينات لمصلحة الحياة. أما هذا الذي وصل إليه الطب اليوم، فهو يرقى إلى درجة استعادة مقومات الحياة بعد فقدها أو بعد الإشراف على فقدها، فهو يدخل بذلك في إنجاز أبرز المقومات الضرورية لمصلحة الحياة.
ومما لا ريب فيه أن هذا الفرق في مضمار العمل الطبي في هذا المجال، ما بين الأمس واليوم، له تأثيره ودوره الكبير في إبراز كثير من وجوه الاختلاف في الأحكام الفقهية لهذه المسألة ما بين الأمس واليوم، وهذا ما سنشرع في بيانه وتفصيل القول فيه بعون الله وتوفيقه.
(1) الفتاوى الهندية: 5/ 354
(2)
مغني المحتاج: 1/ 191
صورة هذه المسألة اليوم
والحالات الخاضعة لها
تدور وقائع هذه المسألة في عصرنا هذا على ركنين أساسيين: مستفيد، ومستفاد منه. ويتبعه ركن تنفيذي هو العمل الجراحي الذي يقوم به الطبيب.
ولا شأن لنا في بحثنا هذا بالمستفيد، ولا بالعمل الجراحي الذي هو أمر فني بحت، وإنما يدور حديثنا كله حول الركن الثاني وهو الشخص المستفاد منه.
وهذا الشخص إما أن يكون حياً أو ميتاً.
وفي الحالة الأولى إما أن يتعلق بحياته حق للغير، سواء كان حقاً للمجتمع، وهو الذي يسمى في المصطلح الفقهي حق الله عز وجل، أو حقاً للفرد، وإما أن لا يتعلق بحياته حق لأحد. وهو في هذه الحالة إما أن يكون كامل الأهلية مستقلاً بأمر نفسه ورعاية شأنه، وإما أن يكون ناقص الأهلية غير مستقل برعاية نفسه.
وفي الحالة الثانية: أي عندما يكون ميتاً، إما أن يكون موته موتاً دماغياً، وهو الموت الذي اصطلح عليه الأطباء أو موتاً قلبياً تاماً، وهو الذي تعتمد عليه أحكام الشريعة الإسلامية.
وعلى كلا الاحتمالين، فإما أن يكون له ورثة من أقاربه وذوي رحمه، أو لا يكون له من قريب أو ذي رحم، وإنما يتولى أمره ولي المسلمين.
فهذه هي صورة المسألة بمختلف الاحتمالات التي يمكن أن تدور عليها. وسنعالج بيان حكم، بل أحكام هذه المسألة، من خلال النظر في كل من هذه الاحتمالات على حدة.
أولاً
عندما يكون المستفاد منه حياً
وقد قلنا إن هذه الحالة يتفرع عنها احتمالان اثنان: الاحتمال الأول أن يتعلق بحياته حق للغير، والاحتمال الثاني أن لا يتعلق بحياته حق لأحد، ولنبدأ بدراسة الاحتمال الأول منهما.
عندما يتعلق بحياة المستفاد منه حق للغير:
ونعني بذلك أن يرتكب الإنسان جرماً، قد أدين به طبقاً لأحكام الشريعة الإسلامية، وترتبت عليه بسببه عقوبة الإعدام، كزنا المحصن، وقتل النفس عمداً بغير حق، والارتداد عن الإسلام مع الإصرار عليه.
ومن المتفق عليه أن هذا الإنسان يصبح مهدر الدم بعد إدانته أمام القضاء، بمثل هذا الجرم، فهل يجوز أخذ شيء من أعضائه ليزرع في جسم إنسان محترم محصن الدم، قد أشرف على الهلاك، وتعين لإنقاذ حياته زرع عضو من غيره في جسده، ككلية وقلب وعين أو نحو ذلك، بقطع النظر عما قد يستلزمه استلاب ذلك العضو من صاحبه، من موت أو تشويه؟
قبل أن نجيب عن هذا السؤال، يستحسن أن نمهد له ببيان رأي الفقهاء في حكم أكل المضطر من جسم إنسان مهدر الدم قد وجب قتله بحكم القضاء الإسلامي.
أما الشافعية، فقد ذهبوا إلى جواز ذلك، نظراً إلى أن مهدر الدم لا حرمة له، ولا قيمة لحياته فهو في حكم الميت، قال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام:(لو وجد المضطر من يحل قتله، كالحربي والزاني المحصن وقاطع الطريق الذي تحتم قتله، واللائط والمصر على ترك الصلاة، جاز له ذبحهم وأكلهم، إذ لا حرمة لحياتهم، لأنها مستحقة الإزالة فكانت المفسدة في زوالها أقل من المفسدة في فوات حياة المعصوم)(1) .
وأما الحنابلة، فقد اختلف الرأي في ذلك عندهم، غير أن ما ذكره ابن قدامة في المغني يتضمن ترجيح القول بجواز ذلك، موافقة لما ذهب إليه الشافعي وأصحابه (2) .
وأما المالكية، فالمذهب عندهم منع ذلك مطلقاً، قال الدردير في الشرح الصغير:(إلا الآدمي فلا يجوز أكله للضرورة، لأن ميتته سم، فلا تزيل الضرورة)(3) . وقال الصاوي تعليقا: (أي فلا يجوز تناوله سواء كان حياً أو ميتاً، ولو مات المضطر، وهذا هو المنصوص لأهل المذهب) .
وهذا الذي ذهب إليه المالكية هو الراجح عند الحنفية، على ما ذكره ابن عابدين في حاشيته) (4) .
ويتحصل من هذا أن الشافعية والحنابلة وبعضاً من الحنفية، يجيزون أكل لحم المهدر دمه عند الضرورة. أما المالكية والراجح عند الحنفية ـ فيما يراه ابن عابدين ـ فعلى حرمة ذلك.
(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 1/81
(2)
المغني لابن قدامة: 9/419
(3)
الشرح الصغير للدردير، مع حاشية الصاوي عليه: 2/ 184
(4)
انظر حاشية ابن عابدين: 5/ 296
ولعل المذهب الأول هو المتفق مع القواعد الفقهية المتعلقة بهذه المسألة، كقولهم: يتحمل الضرر الأخف لدرء الضرر الأشد، وكقولهم: إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً، بارتكاب أخفهما. وهما من القواعد المتفق عليها لدى المذاهب الفقهية. وهما متفرعتان عن قاعدة (الضرر يزال)(1) .
أما الاستدلال بالكرامة الإنسانية، فمن المعلوم أن هذه الكرامة تصبح مهدرة بتحقق موجب القتل. وإلا لما أوجبت الشريعة الإسلامية قتله، وقد تبين من صريح قول الله عز وجل:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين: 4، 5، 6] أن الكرامة التي ميز الله الإنسان بها، ليست نابعة من جوهر بشريته، حتى تكون ملازمة له في كل الحالات: وإنما هي وصف يلازمه ما كان متجاوباً مع فطرة عبوديته لله عز وجل، مستقيماً على الانصياع لأمره وسلطانه، ولو في الجملة.
إذا علمنا هذا، فلنعد إلى أصل المسألة التي طرحنا السؤال عن حكمها، وهو: استفادة الحي المشرف على الهلاك من عضو إنسان تعلق بحياته حق للغير واستوجب القتل. فنقول:
لا بد من تخريج هذه المسألة على تلك التي نقلنا أقوال الفقهاء فيها. فإن رجحنا ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة وبعض الحنفية، من جواز الإقدام على أكل من قد استوجب القتل شرعاً، عند الضرورة، فلأن يجوز هنا اقتطاع عضو منه ليزرع في جسم إنسان معصوم الدم مشرف على الهلاك، من باب أولى، ولا فرق في هذه الحال بين أن يسري اقتطاع هذا العضو من المستفاد منه إلى الموت أو لا. إذ إن مناط القول بصحة ذلك إنما هو زوال حرمة حياته واستحقاقه للقتل، والحالتان عندئذ سواء.
نعم، ينبغي اشتراط الضرورة بالنسبة لحال المستفيد. بحيث يقرر الطبيب العادل المختص أن لا بد لاستنقاذ حياته من زرع هذا العضو في جسده، ولا يقوم مقامه عضو اصطناعي أو عضو من حيوان غير نجس.
وسبب اشتراط الضرورة بهذا الشكل، يعود إلى ما هو مقرر من حرمة التمثيل في القتل عند إقامة حد أو استيفاء قصاص (2) . ولا ريب أن اقتصاص جزء من الحي يدخل في معنى المثلة وحكمها. فينبغي أن يتوقف جواز ذلك على الاضطرار، كما ينبغي أن يكون التنفيذ محدداً بقدر الضرورة ذاتها، وأن نتخذ الوسائل الحديثة الممكنة التي تبعد العملية عن معنى المثلة وعن السبب الذي حرم من أجله، وهو التعذيب.
ولكن ينبغي ـ حسب القواعد التي اعتمدنا عليها في ترجيح هذا الرأي ـ أن لا يكون ثمة فرق في هذا الحكم بين أن تكون ضرورة المستفيد في نطاق استنقاذ الحياة، أو في نطاق الاستفادة من عضو أو طرف هام بعد تلفه أو إشرافه على ذلك، كالاستفادة من عين سليمة بدل عينه التالفة، إذ مهما كان قدر الفائدة العائدة إلى المستفيد المعصوم دمه، فإن رعايتها أرجح في ميزان المصالح الشرعية، من رعاية إنسان في حياته أو شيء من أعضائه أهدر دمه بحكم قضائي شرعي صحيح.
(1) انظر الأشباه والنظائر لابن نجيم من 98 و 99، والأشباه والنظائر للسيوطي: ص 79
(2)
انظر مغني المحتاج للشربيني: 4/44 وبداية المجتهد لابن رشد: 2/ 397، والقوانين الفقهية لابن جزي: ص 261.
عندما لا يتعلق بحياة المستفاد منه حق للغير:
وهو الذي يسمى في الاصطلاح الفقهي: الإنسان المحترم أو المعصوم دمه. هذا الإنسان إما أن يكون كامل الأهلية رشيداً مستقلاً بأمر نفسه، أو لا. فهما إذن صنفان من الناس.
ونبدأ بالحديث عن الصنف الأول منهما، فنقول: هل لهذا الإنسان أن يتنازل عن عضو أو جزء من جسمه ليستفيد منه إنسان آخر، توقفت استمرارية حياته على ذلك؟
والجواب أن اقتطاع هذا العضو منه إن غلب على الظن تسببه للموت ـ أو بتعبير أصح: إن لم تتحقق الطمأنينة التامة بأن ذلك لن يؤثر على استقرار حياته وسلامتها ـ لم يجز منه الإقدام على ذلك، كما لا يجوز لأحد أن يكرهه على هذا التنازل، ولا يجوز للطبيب الجراحي أن يقبل على تنفيذه.
وعلة الحرمة واضحة، وهي أن الإنسان لا يملك الإيثار في نطاق حقوق الله عز وجل، وأصل الحياة حق الله سبحانه وتعالى، فليس للإنسان الذي يتمتع بها أن يهبها أو يؤثر بها أحداً غيره، وهذا هو الأساس في تحريم الانتحار. ونظراً إلى أن الأمر هنا متعلق بجوهر الحياة، وجوهر الحياة بين المستفيد والمستفاد منه، في هذه الصورة، واحدة دون أي تفاوت أو اختلاف، فليس ثمة من مصلحة تترجح بها حياة الأول على الثاني أو العكس. فالسبيل إذن أن يترك الأمر بعد جهد الطبابة والعلاج لقضاء الله عز وجل.
وهذا الحكم يوازنه في الطرف الآخر نقيضه الذي يذكره علماء الأصول في باب الإكراه. وهو حرمة إقدام (المكره) على قتل شخص ما لا يتعلق حق ما بحياته، وإن أيقن (المكره) أنه سيقتل إن لم ينفذ ذلك. فالعلة نفسها ترد هنا. وهي أن جوهر الحياة التي هي حق الله عز وجل واحد في شخص كل منهما، فلا تمتاز بأي مرجح إذ تكون في جسم أحدهما دون الآخر، ما دام كل منهما معصوم الدم. أما مظاهر التفاوت العارضة بين الناس في خدمة المجتمع أو السبق في الصلاح والتقوى، فلا دخل لشيء منها في تصنيف درجات أصل الحياة، وإن كان لهذا التفاوت أثره الذي لا ينكر في تفاوت الاهتمام والإكرام والتوقير في نطاق التعامل ضمن دائرة جنس الحياة الواحدة.
أما إن جزم طبيبان عادلان مختصان (1) بأن حياة المستفاد منه من دون ذلك العضو ستظل مستمرة ومستقرة على نهج سوي، وذلك اعتماداً على قواعد الطب وتجاربه، كإمكان استمرار حياة الإنسان بكلية واحدة، دون وجود ما يتهددها ـ فإن استظهار حكم ذلك منوط بالرجوع إلى قاعدتين من القواعد التي ذكرناها في مقدمة هذا البحث، وقلنا: إن مداره عليها. وهاتان القاعدتان هما:
1-
كل ما كان من حق الإنسان أو تغلب حق الإنسان فيه على حق الله عز وجل، جاز التصرف به، سواء كان مصدراً ثبوت هذا الحق تمليكاً أو تمتيعاً.
2-
كل ما ثبت للإنسان حق التصرف فيه، كان له حق الإيثار به. ولنقف عند كل من هاتين القاعدتين بشيء من البيان والضبط، كي لا يقع في تطبيقهما أي خطأ أو لبس فنقول في بيان القاعدة الأولى:
من الثابت أن الإنسان بكل ما له من حقوق ملك لله عز وجل، فمآل الحقوق كلها إذن، على تنوعها واختلافها أن تكون لله وحده. وهذا معنى كلام الشاطبي:(إن كل حكم شرعي ليس بخال عن حق الله تعالى) وقوله: (كل ما ثبت فيه اعتبار التعبد فلا تفريع فيه، وكل ما ثبت فيه اعتبار المعاني دون التعبد، فلا بد فيه من اعتبار التعبد)(2) .
ولكن الله مكن عباده من التصرف بطائفة من هذه الحقوق، فسميت من هذا الجانب حق العباد. ولم يمكنهم من التصرف بطائفة أخرى منها، فبقيت على أساسها الأصلي: حقوق الله.
(1) الصحيح أن يكتفى بشهادة طبيب واحد، في المسائل التي لا تتعلق بها حقوق للآخرين. أما في المسائل التي تتعلق بها حقوق لهم ـ وهذه منها ـ فلا بد فيها من شهادة طبيبين (انظر الأشباه والنظائر للسيوطي: 296)
(2)
الموافقات: 2/310 و 317
ولقد علمنا فيما سبق أن الله لم يأذن لأحد من عباده بالتصرف في أصل الحياة، بأن يتسبب في إنهائها عندما يشاء، وإنما أمره وعزم عليه أن يرعاها في كيانه ويحافظ عليها ضد كل ما يتهددها من الأخطار k ولذا فهي من أبرز حقوق الله عز وجل.
أما أعضاؤه ودمه وعظامه وجلده، وسائر أجزاء جسده، فإن التصرف فيها من شأنه أن يؤول إلى أحد قسمين:
القسم الأول: تصرف يسري بصاحبه إلى الموت يقيناً أو ظناً ولو ظنا غير راجح، فهذا القسم من التصرفات متعلق بحقوق الله عز وجل بالتبعية واللزوم. ومن ثم فلا يجوز للإنسان أن يقدم على هذا النوع من التصرف بأعضائه مهما كانت الأسباب (1) .
القسم الثاني: تصرف ليس من شأنه أن يسري بصاحبه إلى الموت، لا يقيناً ولا ظناً، بل الشأن فيه أن لا يعقب أي ضرر بأصل الحياة، بل تبقى سالمة مستقرة، فهذا التصرف، ضمن هذا القيد، من حق العبد، أو بتعبير أدق حق العبد متغلب فيه على حق الله.
وبمقتضى هذا الحق، يسوغ للإنسان أن يذهب في استخدام عينيه لقراءة، أو يديه في صناعة أو قدميه في قطع مفاوز، مذهباً قد يلحق به عطباً كلياً أو جزئياً بهذه الأعضاء أو بعض منها، دون أن يكون ذلك منه عدواناً على حق الله أو تجاوزاً لحدود الشرع، ما دام أنه كان يتوخى في استخدامه لتلك الأطراف مصلحة مشروعة، ولم يكن يهدف إلى مجرد الإضرار بنفسه.
(1) لا يعترض على هذا بمشروعية الجهاد، إذ حتى في ساحة الجهاد، لا يجوز أن يقصد المجاهد إزهاق روحه، بل يجب أن يتجه القصد منه إلى تحصين الدين وحمايته من العدو المتربص به، مضحياً في سبيل ذلك بروحه إن اقتضت الضرورة. وذلك طبقاً لما يقتضيه أولوية مصلحة الدين على مصلحة الحياة في سلم المصالح الخمس
وقد يقول أحدنا: ولكن ما لا ريب فيه أن الإنسان لا يملك أن يتلف شيئاً من أطرافه أو أن يعطب شيئاً من جسمه، قل العطب أو كثر، أفليس ذلك دليلاً على أن لا حق للإنسان في شيء من أطرافه وأعضائه، وأنه ـ كحق الحياة ـ عائد إلى الله عز وجل؟ والجواب أن سائر حقوق العباد مقيدة بنظام الشرع، نظراً إلى أن جذور هذه الحقوق كلها، إنما هي ملك لله وحده. فالمالك هو الله، والعبد مخول بالتصرف في كل ما جعله الله حقاً له، لا بشكل كيفي، وعلى النحو الذي يشاء، بل طبق النظم والضوابط التي شرعها الله له
…
وهذه الضوابط والنظم لا تعدو في جملتها أن تكون توجيهاً للعبد إلى الطريق الأمثل لرعاية المصالح الإنسانية، المتمثلة في المقاصد الكلية التي سبق بيانها، وتحذيراً من الانزلاق في مهاوي الضرر والفساد بين العباد (1) .
ومن هنا، حرم الله تبذير الأموال وإتلافها وإن صدر ذلك من مالكها الذي هو صاحب الحق في التصرف بها. وبهذا المعنى ذاته يحرم على الإنسان أن يعرض شيئاً من جسده للضرر والفساد، رغبة في الضرر ذاته، أي دون أن يحمله على اقتحام ذلك تحقيق مصلحة مشروعة ضمن سلم الأولويات المقررة.
فإذا تبين لنا معنى هذه القاعدة، وظهر لنا انطباقها على علاقة الإنسان بأطرافه ودمه وأجزاء جسده، لا من حيث المحافظة بها على حياته، بل من حيث تصرفه بها ضمن حدود الوقاية التامة لها ـ فإن القاعدة الثانية تترتب عليها لزوماً. وهي:(كل ما ثبت للإنسان حق التصرف فيه، كان له حق الإيثار به) .
ومن مقتضى ذلك أن يملك الإنسان إيثار غيره بشيء من دمه أو بأي من أجزاء جسده، ما لم يستلزم ذلك ـ ولو على وجه الاحتمال البعيد ـ هلاكه.
وواضح أن معنى الإيثار قائم على إسقاط المؤثر حظ نفسه، وتقبل المضرة اللاحقة به، رعاية لمصلحة أخيه. فهو وإن كان في الظاهر سعياً إلى مفسدة ليس من شأن الشريعة الإسلامية أن تأذن بالاتجاه إليها، إلا أنها أساس وسبب لمصلحة ضرورة تتحقق للغير، بالإضافة إلى ما يتوج هذا العمل به، من الخلق النبيل المتمثل في ترك المؤثر حظ نفسه رعاية لحظ غيره، اعتماداً على يقينه بالله وأملا في مرضاته والعوض الذي سيكرمه الله به. فهو، وإن كان في الظاهر مضرة وفساداً، إلا أنه منطو على مصلحة هامة في طريق بناء الأمة الإسلامية والمجتمع الإسلامي، ولا ريب أنها أجل بكثير من حجم المفسدة التي قد تنجم عنه.
(1) انظر ما ذكره الشاطبي في المسألة التاسعة ص 377 من الجزء الثاني من الموافقات. فقد جاء بالكلام جامع في هذا الموضوع.
يقول الإمام الشاطبي، بعد أن أصل قاعدة الإيثار هذه في الفقه الإسلامي، موضحاً المصلحة التي تترجح على مفسدة إسقاط المؤثر حظ نفسه:
(والإيثار على النفس: وهو أعرق في إسقاط الحظوظ. وذلك أن يترك حظه لحظ غيره اعتماداً على صحة اليقين، وإصابة لعين التوكل، وتحملاً للمشقة في عون الأخ في الله على المحبة من أجله. وهو من محامد الأخلاق وزكيات الأعمال. وهو ثابت من فعل رسول الله وعمله المرضي) وبعد أن استشهد بطائفة من الأحاديث الواردة في الإيثار والمبينة لحدوده قال: (وتحصل أن الإيثار هنا مبني على إسقاط الحظوظ العاجلة. فتحمل المضرة اللاحقة بسبب ذلك لا عتب فيه إذا لم يخل بمقصد شرعي. فإن أخل بمقصد شرعي فلا يعد ذلك إسقاطاً للحظ ولا هو محمود شرعاً)(1) .
وقد ذكر السيوطي في الأشباه والنظائر قاعدة الإيثار هذه، مفرقاً بين حقوق الله وحقوق العباد ثم قال:(ولو أراد المضطر إيثار غيره بالطعام لاستبقاء مهجته، كان له ذلك وإن خاف فوات مهجته)(2) . وذكر ابن نجيم نحو ذلك أيضاً (3) .
يترتب على هذا الذي أوضحناه، أن للإنسان أن يتنازل عن أي من أجزاء جسده أو دمه لإنسان آخر ذي حياة محترمة مشرف على الهلاك، قرر طبيبان عدلان أن زرع ذلك العضو أو الجزء في جسده ينقذه من الهلاك ويمتعه بحياة سليمة، وأن اقتطاعه من جسم الأول لا يسبب هلالكه، بل يظل متمتعاً بحياة مستقرة سليمة.
(1) الموافقات. 2/355 و 356
(2)
الأشباه والنظائر للسيوطي: 104، 105
(3)
الأشباه والنظائر لابن نجيم: 182
ولكن ما الحكم إن كانت الضرورة ليست إنقاذاًَ لحياة المستفيد، وإنما هي استبدال طرف أو عضو سليم عامل، بعضو تالف من جسده؟ وذلك كأن يؤثر الرجل صاحبه بعينه، فتؤخذ منه وتزرع في مكان العين التالفة من وجه صاحبه؟
مقتضى القواعد والأدلة التي اعتمدنا عليها في الحكم بجواز الحالة الأولى، أن تجوز هذه الحالة الثانية أيضاً، ولقد أمعنت النظر والتفكير، فلم أجد في هذه الحالة الثانية أي فارق عن الأولى يستدعي الحكم بالحظر. والله أعلم.
ومها يكن، فإن جواز الإقدام على هذا الأمر منوط بالضرورة، سواء كانت ضرورة إنقاذ حياة، أو ضرورة إحياء عضو تالف. ولكي نزيد بيان هذه الضرورة ضبطاً، نذكر بالمحترزات التالية:
أ - لا يجوز التنازل، إن ثبت أن عضواً اصطناعياً يمكن أن يقوم مقام العضو الطبيعي في إنقاذ حياة المريض، أو كان احتياجه إلى ذلك العضو غير ضروري، أو كانت استفادته منه شكلية.
ب - لا يجوز التنازل، إن كان على وجه الإهدار والإتلاف، كأن يمكن غيره من إتلاف أحد من أعضائه أو من إلحاق أي ضرر بجسمه، دون أي ضرورة تستلزم ذلك.
ج- لا يجوز التنازل، إن كان لمصلحة ذي حياة غير محترمة، كمرتد أصر على الردة واستوجب القتل، أو زان محصن قضى القاضي في حقه بالرجم.
وسبب حرمة الإيثار في هذه الحالات الثلاث أن تحمل المؤثر للمضرة مخل في كل منها بالمقصود الشرعي. فلا يعد التنازل فيها إسقاطاً للحظ الشخصي في سبيل الغير، على نحو ما تم تأصيله للمعنى الفقهي في الإيثار.
وبملاحظة هذه المحترزات يزول وهم التناقض الذي قد يتصوره القارئ لكلام الشاطبي، إذ عاد بعد أن أصل قاعدة الإيثار وأيدها بالأدلة المختلفة، فأوضح أن حق العبد وإن كان ثابتاً له في حياته وكمال جسمه وبقاء ماله في يده، فإنه لا يجوز له أن يسلط يد الغير عليه بالإتلاف أو الإضرار (1) .
ذلك لأن عدم جواز التسليط هنا، إنما هو بسبب افتقاره إلى الشروط التي لا بد من توافرها لتحقق معنى الإيثار، فكلامه في المرة الأولى والثانية منسجم مترابط.
ويلاحظ أن الشاطبي هنا ساوى في الحرمة بين تسليط الرجل يد الغير على جسمه وعلى ماله، ليعلم أن شروط الإيثار إن لم تتوافر، فالتسليط عندئذ يصبح محرماً لا على الجسم فقط، بل على المال أيضاً، وليعلم أن شروطه إن تمت كان تمكين الغير إيثاراً مبرراً مثاباً عليه بالنسبة لكل من الجسم والمال معاً.
(1) الموافقات: 2/376
الصنف الثاني: وهو الإنسان الذي لا يتمتع بأهلية كاملة يستقل بها بإرادة شؤون نفسه، كالطفل وكالمجنون. فمن الثابت أن هذا الصنف من الناس لا يملك أن يستقل بالتصرف في هذا الأمر، الذي هو من أخطر شؤونه الشخصية، ومن ثم فإن القيام بالإيثار الشرعي لا يتأتى منه.
ولكن هل يملك أن يقوم عنه بهذا الأمر وليه كأبيه وعمه مثلا؟
والجواب أن وليه أيا كان ـ سواء كان يتمتع بالولاية الخاصة أو العامة ـ لا يملك مثل هذا التصرف بشيء من أجزاء جسد موليه، ولا حتى بماله أو أي من حقوقه الأخرى.
أي أن الإيثار لا يتأتى إلا من الأصيل صاحب الحق ذاته.
وبيان ذلك أن تصرف الولي إنما هو بمقتضى حكم الولاية. لا بمقتضى عقد الوكالة.
إذ لا تتأتى الوكالة هنا، ذلك لأن من شروط صحة عقد الوكالة، أن يملك الأصيل التصرف الذي يطالب به الوكيل. ومن المعلوم أن الأصيل لا يملك مثل هذا التصرف بنفسه، فأحرى أن لا يملك تنفيذه بواسطة غيره.
فإذا ثبت أن تسلط الأب أو من يقوم مقامه على حقوق الطفل ونحوه، إنما هو بحكم الولاية عليه لا النيابة عنه، فإن من القواعد الثابتة التي لا نعرف فيها خلافاً أن تصرف الولي منوط بما هو الخير والمصلحة لموليه. ومن ثم فلا ينفذ من تصرفاته بحقوقه، إلا ما كان على وجه الغبطة والمصلحة له.
وعلى هذا، فليس لولي الطفل أو المجنون، سواء كان ذا ولاية خاصة أو عامة، أن يتبرع عنه بكلية أو أي من أجزاء جسده، لمضطر من الناس، أيا كان شأنه ومهما بلغت ضرورته. لما في ذلك من إلحاق الضرر البين بموليه، نعم إن ثبت بشهادة طبيبين عدلين أن أخذ شيء من دمه لمريض محتاج إلى الدم، ينشطه ويحقق له فائدة صحية، كأن يكون دمه أكثر من القدر الذي ينبغي، فالمسألة تختلف عندئذ، إذ تصبح خاضعة حينئذ لقاعدة: تصرف الولي منوط بالمصلحة للمولي.
أما في سائر الصور الأخرى للمسألة، فلا يجوز مثل هذا التصرف قط.
ثانياً
: عندما يكون المستفاد منه ميتاً
ما هو الموت؟
الموت الذي نتحدث عنه في هذا الصدد، هو الموت ذاته الذي تترتب عليه جملة الأحكام الشرعية من ميراث وانفصام لعرى الزوجية وعدة وفاة وانقطاع عهد التكليف، ووجوب التجهيز والدفن، وغير ذلك. إذ ليس لدينا في الاصطلاح الشرعي أو اللغوي أو الطبي أكثر من حقيقة واحدة للموت. فما هو الموت الذي تعارف الناس جميعاً على معناه، والذي هو مناط لأحكام شرعية كثيرة؟
هو: مفارقة الروح للبدن مفارقة تامة. وإن شئت فقل: رعاية لمن لا يفهمون الروح ولا يتعاملون مع هذه الكلمة. هو انقطاع الحياة عن البدن انقطاعاً تاماً. ولا نحسب أن ثمة أي خلاف بين فئات الناس في أن هذا هو معنى الموت.
غير أن خلافاً قد يقع اليوم في الدليل الذي يمكن أن يعتمد على تحققه ووقوعه.
فالدليل المعتمد لذلك شرعاً هو سكون النبض ووقوف حركة القلب وقوفاً تاماً. إلا أنه يجب الاحتياط والتحري بتلمس أدلة أخرى، كلما حامت الشبه وظهرت موجبات الشك والريبة، لاسيما من جراء الأسباب التي أدت إلى الموت. قال النووي نقلاً عن الشافعي في الأم:
(
…
فإن مات فجأة، لم يبادر بتجهيزه، لئلا تكون به سكتة، ولم يمت. بل يترك حتى يتحقق موته) . ثم قال:(وذكر الشافعي والأصحاب للموت علامات، وهي أن تسترخي قدماه وينفصل زنداه ويميل أنفه وتمتد جلدة وجهه) . زاد الأصحاب: (وأن ينخسف صدغاه)(1) .
أقول: ولعل من الضروري في كل الأحوال الاستعانة بالطبيب للوصول إلى اليقين، لاسيما في حالات خاصة كالموت صعقاً أو غرقاً أو احتراقاً أو تردياً في جبل، أو على أثر عملية انتحار كتناول أقراص مميتة بنوعها أو كميتها.
(1) المجموع: 5/124 و 125 وانظر المغني لابن قدامه: 2/457
أما الأطباء، فهم يعتمدون اليوم، بالإضافة إلى الأدلة الشرعية التي هي محل اتفاق، على ما يسمونه بموت الدماغ!
…
وهي حالة دماغية تبعث على اليقين عند الأطباء بانحدار حالة المريض إلى الموت. بمعنى انقطاع أمل الحياة عنه انقطاعاً تاماً في يقينهم العلمي، مع احتمال استمرار لدقات القلب وحرارة أو حركة في النبض.
بيد أن موت الدماغ هذا، لا يعد، وحده، في ميزان الشريعة الإسلامية، دليلاً قاطعاً على حلول الموت فعلاً، بل هو في أكثر الأحيان نذير موت محقق حسب المقاييس الطبية المجمع عليها. إلا أنه ليس نذيراً قطعياً بالموت في حكم الشريعة، بل العقيدة الإسلامية، ذلك لأن هذه الحالة، وإن كان من شأنها أن تورث الطبيب يقيناً تاماً بأنها حالة موت، وبأن المسألة عندئذ لا تعدو أن تكون مسألة وقت يتمثل في بضع دقائق ويسكن القلب بعدها بيقين ـ إلا أن هذا اليقين بحد ذاته ليس يقيناً علمياً لدى التأمل والتحقيق، وإنما هو طمأنينة نفسية منبعثة من كثرة التجارب المتكررة التي لا لم تشذ، وهي التي يسميها كثير من العلماء، ومنهم الغزالي (اليقين التدريبي)(1) .
وسبب عدم الاعتبار بهذا الدليل الطبي، من قبل الشريعة الإسلامية سببان اثنان: أولهما: أن أحكام الموت، أيا كانت، إنما تترتب على وقوعه الفعلي التام، لا على توقعاته مهما كانت يقينية جازمة.
ثانيهما: أن هذه الدلالات أو التوقعات، مهما استندت إلى اليقين العلمي، فإن انتعاش المريض وتوجهه مرة أخرى إلى الحياة ليس مستحيلاً عقلياً، ومن ثم فليس مستحيلَا شرعياً
…
ذلك لأن الموت الحقيقي التام لم ينزل به بعد، ومقدمات الموت وأسبابه التي لم تشذ قط، ليست أسباباً موجبة بطبعها، وإنما بجعل الله إياها علامات على قربه. ولله أن يبطل دلالتها ويلغي سببيتها للموت عندما يشاء. ومن ثم فإن قرار الموت بناء على مجرد هذا الذي يسمونه الموت الدماغي لا يرقى إلى يقين علمي جازم بأن الروح قد فارقت أو ستفارق البدن، كما هو الشأن في الموت الحقيقي التام المصطلح عليه لغة وشرعاً، هذا بالإضافة إلى أنه مستند قاعدة (استصحاب الأصل) في الحكم باستمرار الحياة، أقوى من مستند الدلالة الطبية على الموت أو قرب حلوله، في الحكم بطروء الموت.
(1) انظر تهافت الفلاسفة: 243
ويتساءل كثير من الأطباء، عن قيمة دقات القلب أو قيمة الأنفاس الصاعدة، في ميزان الشريعة الإسلامية: عندما تكون هذه الأنفاس أو الدقات، منبعثة بفعل أجهزة متصلة بالمريض، بحيث لو فصلت عنه لتوقف القلب للتو، ولهمد كل شيء، وحل الموت الذي لا ريب فيه؟ وإلى متى يجب أن تكون هذه الأجهزة موصولة به تصطنع له صورة الحياة وتمتعه بكثير من دلائلها؟
والجواب: أن حركة القلب ما دامت مستمرة، فقرار الموت غيب لا يجوز الحكم به، سواء كانت هذه الحركة طبيعية أم اصطناعية، بواسطة بعض الأجهزة، وهذه الأجهزة فيما تقدمه من معونة، ليست أكثر في هذه الحال من غطاء مسدل على المريض يمنع من معرفة واقع حاله أميت هو أم حي.
ومن ثم فإن فصل هذه الأجهزة عنه لا يعد قتلاً له ولا تسبباً بموته، مهما ظهر أن هذا الفصل قد ينهي حركة القلب ويعجل بالموت، ذلك لأن الحياة الحقيقة ليست تلك التي تنبعث من أجهزة، فتمد القلب بالوجيب وتجعل صاحبه وكأنه يمارس الشهيق والزفير.
وإنما الحياة ذلك السر المنبعث من داخل الكيان، بل من كل أجزاء الجسد، ومن ثم فإن للطبيب أو لذوي المريض فصل هذه الأجهزة وإنهاء عملها في الوقت الذي يشاؤون.
لذا، فإن السبيل الوحيد لمعرفة حال المريض وما آل إليه أمره، عندما يكون محجوباً بفعل هذه الأجهزة، أن تفصل عنه، ثم ينظر في أمره آنذاك، فإن تحققت الدلائل الشرعية للموت، حكم بموته وترتبت عليه أحكامه.
وإلا فإنه لا يزال في الأحياء، وتظل أحكام الحياة هي السارية في حقه.
حكم الاستفادة من جسد الميت:
بعد أن حررنا المعنى المقصود شرعاً بالموت، نعود إلى أصل المسألة، فنتساءل: هل يجوز اقتطاع جزء من الميت ليستفيد منه حي محترم معصوم الدم، في إنقاذ حياته المهددة بالموت، أو في استعاضة عضو سليم بعضو تالف منه؟
نعيد إلى الذاكرة، القاعدة الرابعة من جملة القواعد التي ألمحنا إليها في مقدمة هذا البحث، وهي: كل ما كان حقاً للعبد يورث بالموت عينياً كان أو معنوياً، ولا شك أن الكرامة، بل القداسة التي متع الله بها الإنسان حق من حقوقه، فهو مخول بالدفاع عنها والمخاصمة في سبيلها أو التنازل عنها بالتجاوز والعفو، أي ضمن حدود معنى الإيثار.
فإذا مات الإنسان، آل حق كرامته الشخصية هذا إلى ورثته فهم المخولون في رعايتها والمحافظة عليها أو التنازل عنها بالإيثار ضمن حدوده الشرعية التي سبق بيانها.
ولعل من أبرز الأمثلة المندرجة في هذا الحق، موت المقذوف قبل مطالبته بحقه في إقامة الحد على القاذف، فإن الحق ينتقل إلى ورثته، فإن شاؤوا أقاموا الدعوى، وطلبوا إقامة الحد على القاذف، وإن شاؤوا عفوا (1) . نعم خالف الحنفية في ذلك، فذهبوا إلى أن حق المقذوف يسقط بموته ولا يورث.
غير أن مخالفتهم ليست في العمل بهذه القاعدة والأخذ بها، بل هي محل اتفاق من الجميع. وإنما سبب مخالفة الحنفية هنا للجمهور، ما يرونه من أن إقامة الحد على القاذف حق لله عز وجل. أو المتغلب فيها هو حق الله عز وجل. ولذا فهو لا يورث، تطبيقاً منهم للقاعدة ذاتها (2) .
وبناء على هذا، ولما كان اقتطاع جزء من الميت مخلاً بكرامته من حيث هو إنسان مكرم، بحيث لو كان حياً لكان له حق المنع، رعاية لكرامته، وحق الإذن إيثاراً وإسقاطاً لحظه ـ فإن النظر في هذا الحق يؤول، بسبب موته، إلى ورثته، فإن شاؤوا منعوا، ولا سلطان عليهم من أحد، وإن شاؤوا تجاوزوا حقهم وسمحوا باقتطاع عضو أو جزء مورثهم لإسعاف من اقتضت الضرورة إسعافه.
(1) انظر بداية المجتهد: 2/ 433 وحاشية الدسوقي: 4/ 331 والفروق للقرافي: 1/ 141
(2)
انظر بدائع الصنائع: 7/ 56 وحاشية ابن عابدين: 4/ 189
ولعل انطباق هذه القاعدة على موضوعنا في هذه الحال، يعد دليلاً آخر على ضعف ومرجوحية قول الفقهاء الذين أطلقوا القول بحرمة الاستفادة من جسم الميت، وهم الحنفية والشافعية، مستدلين بالكرامة الإنسانية التي ميز الله بها الإنسان (وقد مرت النصوص التي نقلناها عنهم في ذلك ص:192. ذلك لأنه قد ثبت ثبوتاً جلياً بأن رعاية هذه الكرامة حق للإنسان فهو المدافع عنها والمتصرف بها في حياته، ومن ثم فإن له حق الإيثار بها، كما مر بيانه مدعوماً بالأدلة والنقول. وإذا تقرر أنها حق للعبد، فلا مناص من القول بأنها تورث بعد موته، وإن حق التصرف بها يؤول إلى ورثته بحكم أن هذا الحق قد آل إليهم، فلهم عندئذ أن يسمحوا أو أن لا يسمحوا بالاستفادة من جسم ميتهم لإنقاذ الغير.
ويبعد أن يكون أولئك الفقهاء غافلين عن هذا المستند الجلي الذي لا نعلم خلافاً فيه، ولذا فالرجح أنهم أرادوا بما أطلقوه من المنع الاستفادة التي لا تلجئ إليها ضرورة، كأن تكون في حدود التجميل الشكلي للمستفيد، ويؤكد هذا أن الطب في عصورهم لم يكن يملك زرع عضو في جسم الإنسان لأكثر من الزينة وإزالة مظهر التشوه فيه.
ونعود إلى مسألتنا فنقول: هذا إن لم يتعلق حق عام بجسد الميت خصوصاً، أو على سبيل الفرض الكفائي الشامل له ولغيره عموماً. فإن الأمر في هذه الحالة لا يتوقف على إجازة الولي وموافقته.
مثال الحالة الأولى، وهي تعلق حق عام بجسد ميت بخصوصه، أن يموت الشخص في ظروف غامضة أو يرى مقتولاً، وتيقن القاضي أو غلب على ظنه أن تشريح الجثة من قبل الطبيب الشرعي من شأنه أن يكشف عن الجريمة التي ربما تكون هي التي أودت بحياته، ومن ثم فإن ظهور الجريمة سيكون موصلاً إلى معرفة القاتل: فلقد تعلق حق عام ـ هو حق العدالة ـ بجسد هذا الميت بخصوصه، وإنما تأخذ العدالة هنا مجراها وحقها بإخضاع الجثة للتشريح.
ومثال الحالة الثانية توقف الدراية الصحيحة بالطب أو الطب الجراحي في البلدة، على تشريح بعض الجثث لإجراء تجارب وتطبيقات عملية عليها، ابتغاء الحصول على الخبرة الكافية التي تخول الأطباء حق إجراء العمليات الجراحية للمرضى مع افتراض أن استخدام أي من الحيوانات غير الإنسان لا يحقق الغاية المطلوبة. فالحق هنا متعلق بالقدر الكافي من الجثث لا على التعيين.
فلنوضح حكم كل من هاتين الحالتين على حدة:
الحالة الأولى: مما لا ريب فيه أن مصلحة الحق العام هي الراجحة، بل لا ريب أن مصلحة رعاية كرامة الميت منطوية في مصلحة الحق العام، بمعنى أن كرامة الميت آيلة إلى التمزق والهدر، إن لم تراع مصلحة الحق العام في حفظ العدالة وتحقيق مقتضياتها.
ولهذا الذي نقول مستند قوي في تراثنا الفقهي المتمثل في أحكام أخذ بها الجمهور، تدعم هذا المبدأ الذي نقرره في هذه المسألة، وهو اتفاق جمهور الفقهاء على أن الرجل إن اغتصب جوهرة ثمينة من صاحبها، فابتلعها ثم مات، وغلب على الظن إمكان الحصول عليها بشق بطنه، وجب شق بطنه لاستخراج الجوهرة منه، إن حرص صاحبها على المطالبة بحقه. ومثل ذلك اتفاقهم أيضاً على وجوب شق بطن الحامل، إن ماتت وقرر الأطباء أن جنينها حي، وأن استخراجه من رحمها حياً ممكن يقيناً أو ظناً (1) .
ومن المعلوم أن الحق الذي يتعلق بجثة الميت لاستخراج الجنين أو لاستخراج الجوهرة الثمينة، إنما هو حق خاص عائد إلى شخص بعينه. فإذا كانت رعاية الحق الخاص تستدعي ـ فيما أجمع عليه جمهور الفقهاء ـ إخضاع جسم الميت للتبضيع والتمزيق، فلأن تستدعي رعاية الحق العام ذلك، من باب أولى.
(1) أما مسألة ابتلاع قدر كبير من المال أو جوهرة ثمينة اغتصاباً، فالحكم فيها محل اتفاق ولا نعلم فيها خلافاً، إلا أن يسقط المالك حقه، وأما مسألة الجنين الحي عندما تموت أمه، فقد خالف فيها ـ من حيث الظاهر ـ الحنابلة، نظراً منهم إلى أن حياة الجنين غير مؤكدة، واستنقاذه حيا غير معلوم، (انظر المغني لابن قدامة: 2/ 458) ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار تقدم الطب في هذا العصر، وإمكان الحصول على اليقين العلمي بأن الجنين حي أم لا، وبأن استخراجه حياً ممكن يقيناً، فإن العلة التي من أجلها خالفت الحنابلة الجمهور تزول، ويعود مظهر الخلاف إلى الوفاق. هذا وقد كتب العلامة الشيخ يوسف الدجوي مقالاً مفصلاً في مسألة تشريح الجثة في مجلة نور الإسلام مجلد
…
عدد
…
فليرجع إليه.
الحالة الثانية: وهي تدخل في جملة الأمثلة الكثيرة للفروض الكفائية، وبيان ذلك أن توفير القدر الضروري من الأطباء في المجتمع الإسلامي فرض على مجموع المسلمين بالاتفاق، بحيث لو أنهم أعرضوا عن النهوض بهذا الواجب أثموا جميعاً. ومن المعلوم أن كل ما يتوقف عليه تحقيق الواجب يندرج معه في حكم الوجوب، فيصبح هو الآخر واجباً، تطبيقاً لقاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وعلى هذان فإن توقف تحصيل القدر الكافي من الخبرة الطبية الواجب تحصيلها على إجراء تجارب عملية على بعض الجثث في نطاق الجراحة الطبية، كان تيسير السبيل إلى ذلك واجباً على مجموع المسلمين، شأنه كشأن سائر الفروض الكفائية المختلفة.
ولكن كيف، وعلى أي أساس، يتم اختيار الجثث التي تجرى عليها هذه التجارب العلمية؟
والجواب أنه يجب قبل كل شيء التقييد في السعي إلى تحقيق هذه الاستفادة بأدنى حدود الضرورة، دون أن توسع عن هذا الحد. ذلك لأن الضرورات يجب أن تقدر بقدرها لاسيما في مثل هذه المسألة، ولعل الواقع الذي يجري اليوم في كثير من البلاد العربية لا يخضع من قريب أو بعيد لهذا الضابط.
وفي نطاق الالتزام بحدود الضرورة هذه نقول: لا بد أن يتم قبل كل شيء الإعلان عن الحاجة الماسة إلى العدد المطلوب من الجثث لهذا الأمر، فإن تقدم من أولياء الموتى من يكفي لتغطية الحاجة، بالسماح للاستفادة من موتاهم، فذاك
وإلا فإن السبيل ينحصر ـ والحالة هذه ـ في إحدى طريقتين:
الطريقة الأولى: الاستفادة من جثث أولئك الذين يؤول أمر تجهيزهم ودفنهم إلى الولي العام مما لا يوجد لهم ورثة من الأقارب أو ذوي الأرحام. ذلك لأن حق النظر في هذه الجثث إنما يؤول بالإرث وإلى الولي العام كما قد بيناه من قبل. ومن ثم فهو يملك أن يقرر ما يشاء ضمن حدود المصلحة الضرورية التي لا تتجاوزها، ولا ترد هنا قاعدة: تصرف الولي منوط بالمصلحة لوليه، لأن المسألة هنا ليست ترديداً بين مصلحتين متساويتين للميت وللمجتمع وإنما هي ترديد بين مصلحة تحسينية للميت ومصلحة ضرورية لعموم المجتمع، فالمسألة إذن بمعزل عن هذه القاعدة.
الطريقة الثانية: ويتم اللجوء إليها عند عدم إمكان اللجوء إلى الطريقة الأولى: الاعتماد على إجراء قرعة تجريها الدولة للوصول إلى تحقيق الواجب الكفائي.
وتعتمد في ذلك على السبل الإجرائية التي ترى أنها الأليق والأكثر اتفاقاً مع المصلحة العامة.
وثمرة القرعة في هذه الحال، سقوط حق أولياء الميت الذي خرجت عليه القرعة، في النظر في هذا الأمر، وثبوت حق الدولة في تشريح جثته للمصلحة الضرورية العامة، مع وجوب الالتزام الدقيق بما ذكرناه من ضوابط الضرورة القصوى، وعدم تجاوزها بحال من الأحوال.
وبعد، فلعلنا استوفينا من خلال هذا الموجز بيان أحكام هذه المسألة بجوانبها وصورها المختلفة، ولقد حرصنا أن يكون معتمدنا أولا: الأصول والقواعد الشرعية التي هي الأساس المتبع للبحث والاجتهاد الفقهي، ثانياً الاعتماد على ما قرره أئمتنا الفقهاء الأعلام في نظائر هذه المسألة أو ما يجري مجراها، ويدخل في مناطاتها، من الأحكام الجزئية المختلفة.
فإذا جاء الاجتهاد منضبطاً بهذين الأساسين، فإنا لنرجو ونسأل الله أن يكون مكللاً بالتوفيق وإصابة الحق في علم الله عز وجل وحكمه.
غير أن ثمة أساساً ثالثاً لا بد للاعتماد عليه في طريق الحرص والسعي إلى موافقة اجتهاداتنا حكم الشريعة الإسلامية، إلا أنه ليس من اختصاص الباحث ولا هو في مقدوره. وإنما المعتمد في رعايته هو المجتمع الذي ينهض بدور التنفيذ والتطبيق.
هذا الأساس هو مراقبة الله عز وجل في تنفيذ هذه الأحكام، والحرص على ممارستها وتطبيقها على الوجه الذي يتفق مع مقاصد الشريعة الإسلامية والحكمة التي يتوخاها الشارع مما شرع لعباده.
فإن لم يتحقق هذا الأساس التنفيذي، فإن جهود الباحثين والمجتهدين تظل على الغالب نظرية، هذا إن لم نقل: إنها قد تصبح مطايا تحت سلطان الكثيرين لتحقيق المآرب الدنيوية والوصول إلى كثير من المبتغيات غير المشروعة.
والله المستعان أن يوفقنا، باحثين ومنفذين، لرعاية هذه الأسس الثلاثة على خير وجه، إنه نعم المستعان ونعم النصير.
د. محمد سعيد رمضان البوطي