الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
انتزاع الملك للمصلحة العامة
إعداد
الدكتور محمود شمام
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه وسلم
{رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي}
العنوان يشتمل على أربعة عناصر:
انتزاع - ملك - مصلحة - عامة.
وسوف نتحدث عن كل عنصر منها بانفراد حتى إذا جمعنا شملها وأكملنا شرحها ، وصلنا إلى غايتنا وأدركنا بحول الله هدفنا.
الانتزاع:
الانتزاع لغة: استلب واقتلع وأخذ.
جاء في لسان العرب لابن منظور:
"فرق سيبويه بين نزع وانتزع ، فقال: انتزع: استلب، ونزع حول الشيء عن موضعه.
والانتزاع فقهًا وقانونًا هو: أخذ الشيء من يد صاحبه والاستيلاء عليه وتوظيفه لفائدة المجموعة ، وبذلك يصبح ملكا لها دون صاحبه الفرد المالك الأصلي وهو بهذه الصفة:
نزع ملكية خاصة لتحقيق نفع عام لقاء تعويض شرعي وعادل ". والاستيلاء والانتزاع والأخذ أشياء ، الأصل فيها الحرمة المطلقة؛ لأن الشرع يحمي المصالح والحقوق سواء منها العامة أو الفردية الواسعة بمفهومها الكامل العام أو بمعناها الفردي الضيق.
وكل اعتداء على حق الغير وعلى ملكه هو محرم شرعًا، والشرع يقف في وجه الغاصب ، ويرد عمله ويبطله حتى في البسيط من الأمر ، كماء الطهارة ، وثياب الصلاة ، ومكان أداء العبادة ، وحتى في نفقة الحج والمصاريف التي يصرفها لأدائه.
ومن هنا يمكن القول: إن حكم العنصر الأول من هذه العناصر الأربعة - أي: الانتزاع - هو الحرمة والمنع. عدا ما استثني بصورة ضيقة تعتمد المبدأ العادل الذي لمحنا إليه عرضًا ، وهو أخذ الشيء واغتصابه وانتزاعه من يد صاحبه لتحقيق مصلحة عامة ، شريطة التعويض العادل النزيه.
ووجب علينا لذلك بيان حقيقة الملك وشرح عناصره كبيان المصلحة العامة وتدقيق حدودها حتى نبلغ الحكم المذكور.
الملك:
هو لغة: ما يملك ويتصرف فيه، يذكر ويؤنث. قال الله سبحانه وتعالى:{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . الشورى: 49.
والملك هو: ما يملكه الإنسان ويتصرف فيه ويحوزه، وجمعه أملاك. يقال: هذا ملك يميني ، أي: أملكه وأتصرف فيه بتثليث الميم: ملكه يملكه ملكًا وملكًا وملكًا.
وملكه الشيء تمليكًا جعله ملكًا له يملكه (1)
ومن ملك شيئًا كان له حق استعماله وحق استغلاله وحق التصرف فيه.
أما في الاصطلاح:
فالملك هو: اختصاص بالشيء يمنع الغير منه ويمكن صاحبه من التصرف فيه ابتداء إلا لمانع شرعي.
قال القرافي في الفرق الثمانين بعد المائة:
إن الملك إباحة شرعية في عين أو منفعة تقتضي تمكين صاحبها من الانتفاع بذلك العين أو المنفعة أو أخذ العوض عنها من حيث هي كذلك.
والملك ينقسم إلى قسمين: تام مطلق، أي: ملك الرقبة والمنافع. وللمالك وحده هنا في حدود القانون حق التصرف في ملكه واستعماله واستغلاله دون قيود أو شروط.
وناقص وهو ملك الرقبة دون المنافع ، أو ملك المنافع دون الرقبة؛ كحقوق الارتفاق من مرور وكشف وغيرها.
والملك التام الذي نقصد في بحثنا هذا له مصادر عامة جاءت بها شريعتنا السمحة.
أولا: المباح: أي المال الذي لم يكن على ملك أحد ولا ينسب لأي شخص معين بذاته ولا يوجد أي مانع شرعي في الاستيلاء عليه والاستبداد به كالماء في منبعه والكلأ والحطب والشجر في الفلاة من البر، وكإحياء الموات. فالرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم يقول فيما يرويه جابر بن عبد الله:((من أحيا أرضا ميتة فله فيها أجر وما أكلت العافية فهو له صدقة)) .
(1) لسان العرب لابن منظور 12 /382.
وهو حديث صحيح أخرجه أبو عبيد في الأموال، وأخرجه الإمام أحمد وابن حبان من حديث حماد بن سلمة عن أبي الزبير ، عن جابر. وأخرجه أحمد وابن حبان من طرق عن هشام بن عروة ، وإسناده جيد صحيح. (شرح السنة للإمام البغوي ج6 صفحة 150) .
ثانيًا: الملك الحاصل بعقد ، سواء كان العقد عقد عوض كالبيع أو بدونه كالهبة، والوصية، وسواء أكان العقد عن طريق التقاء الإرادتين أم طريق الجبر به بإرادة فردية شرعية قانونية كالشفعة.
أو ما يسمى الاستملاك للصالح العام لتوسيع مسجد أو طريق أو إحداث معلم من معالم الدولة للمصلحة العامة بشروط وقيود سوف نأتي عليها إن شاء الله.
ثالثًا: التملك عن طريق الشرع والقانون كالتملك عن طريق الإرث هذا التملك الذي سنه الشرع وأباحه ونظم طرقه وحدد سبله ولم يهمل أمره وأبان حليته وكان ذلك عن طريق النص ، ومن المعلوم أن الاجتهاد لا يجوز فيما ورد فيه نص قطعي الثبوت، قطعي الدلالة.
حرية الفرد في الملك
ما هي هذه الحرية؟ وما هو نطاقها ومداها؟ وما هي حدودها؟
تنطلق صيحة الحرية الفردية عندما يستهل مولودنا صارخًا: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟
فإذا هذا المولود الذي استهل بتلكم الصيحة واستقبلته الحياة وهي تستقبل الآلاف من أمثاله كل يوم بفرحة القدوم وبسمة اللقاء يتدرج في نفس تلكم الحياة في طريق وعرة ملتوية تخيم عليها السحب وتغطي أرضيتها الأشواك.
وإذا المجتمع وإذ الطبيعة وإذ القانون يأخذ بيده ويرعاه ويحضنه ويرشده ، وإذا هذه الحرية يحد من أطرافها ويتقلص ظلها في صالح ذلكم القادم نفسه وفي صالح مجتمعه وأمته وقومه وشعبه ، بل وفي صالح العالم البشري بأجمعه.
فالحرية التي يتغنى بها الكل والتي يتعشقها الجميع والتي هي حرية بذلك ، يختلف الناس في أمرها ، وتتباين النظريات في شأنها.
فهل إن الفرد لا يكون حرا طليقًا متمتعًا بلذائذ هذه الحرية إلا متى أرخى له المجتمع العنان في تصرفاته وأعماله حتى ولو كان في أفكاره وآرائه ما يهدم بعض قواعد مجتمعه ويحطم أركان دولته حتى ولو أدى به الأمر إلى أن يكون فوضويا في مجتمع تعمه الفوضى وتسوسه وتغشاه.
أم أن الحرية الحق هي التي تصان معها كرامة الفرد وكرامة أسرته ومجتمعه وقومه ودولته بصرف النظر عن مدى اتساعها وترامي أطرافها، ضرورة أن الحرية المطلقة لا وجود لها ، إذ أنها تشبه الفوضى إن لم تكن هي الفوضى عينها؟
لقد حار ذلكم الفرد من قبل التاريخ في أمره وتخبط في دياجير ظلامه وطافت به الأحداث كل مطاف واشتدت به الأعاصير وضغطت عليه الأيام ، فإذا هو يفتش عن مذهب يحميه وقانون يقيه وملجأ يأويه يرجو العثور على الضوء الذي ينير له السبيل ويقيم له الدليل على حقيقة تلكم الحرية واتساع أرجائها وامتداد بساطها وشرعية ما يوضع لها من حدود تحد من امتدادها وترامي أطرافها.
وإذا المذاهب يشع بريقها ويتوهج لمعانها تسعى لفتح الطريق وتعبيد السبل وإقامة الدعائم المتينة لمبادئ الحرية والانعتاق وقواعد التحرر والانطلاق لكن في حدود حددتها ومناطق رسمتها وخطتها وحصنتها ، فلم تدع الفرد وشأنه ولم تنس أن تجعل القانون هو السيد الذي يركع لأوامره ونواهيه الفرد وتخضع لسيادته الجماعات.
أما الإسلام ديننا الحنيف فقد جاء من أول وهلة واحتضن شجرة الحرية وتبناها وبارك زرعها وسقاها وتعهد أصولها وفروعها وغذاها فأينعت في أيامه وفاخرت بجليل أحكامه.
جاء الدين الإسلامي الحنيف يشع منه نور التسوية في الحقوق والواجبات ويشرع المساواة الشاملة الخالدة ويقي الحريات ويوسع نطاقها ومدلولها ومفاهيمها.
ولقد صدق من قال وهو شاهد من أهلها (1)
: ففي القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدن على شفا جرف هار من الفوضى لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت ولم يكن ثم ما يعتد به مما يقوم مقامها وكان يبدو إذ ذاك أن المدنية الكبرى التي تكلف بناؤها جهود أربعة آلاف سنة مشرفة على التفكك والانحلال وأن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية ، إذ القبائل تتحارب وتتناحر ، لا قانون ولا نظام. وكانت المدنية كشجرة ضخمة متفرعة امتد ظلها إلى العالم كله واقفة تترنح وقد تسرب إليها العطب حتى اللباب.
وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد محمد الرجل الذي حرر العالم ووحده.
وفعلًا فقد اتخذ الإسلام الحرية دعامة لكل ما سنه من أحكام وخطه من نظم وحرص الحرص كله على تطبيق تلكم الحرية في مختلف أمور الحياة ، فجاء بالحرية السياسية والحرية الفكرية والحرية الدينية والحرية المدنية بمفهومها الواسع ، خاصة حرية الأفراد في أموالهم وممتلكاتهم.
فالإسلام يعبد طريق الحرية في ميادين الحياة المدنية ، ويحمي الأنفس والأموال ، وقواعده ظاهرة جلية في هذه النواحي.
فالفرد حر في تصرفه المدني ومعاملاته وعقوده، والتشريع يحميه ويرد عنه المعتدي ، ولم يحدث قط أن أحل الإسلام مال غني وأعطاه لفقير مهما اشتدت حاجته.
(1) هو العالم ج - هـ - دينسو مؤلف كتاب: العواطف كأساس للحضارة.
والإسلام يسن العقاب الصارم الحازم لكل من يحاول الاعتداء على الأنفس والذوات والأموال والأعراض.
وهكذا نشاهد أن الإسلام قد قرر وحقق المبادئ الخاصة بحقوق الإنسان الفرد وحريته في تصرفه على أكمل صورة وأوسع نطاق ، خاصة فيما يتعلق بأملاكه ومكاسبه ، لكن نشاهده مع ذلك لم يترك الحبل على الغارب ، ولم يهمل شأن المصالح العامة تلقاء المصالح الفردية.
فتراه للمصلحة العامة الاجتماعية ولمنفعة جماعة المسلمين يحد من بعض الحرية الفردية ، ويضحي بالبسيط من الأمر لفائدة الهام والمهم.
والأديان التي هي في أصلها وواقعها جهاد متصل مسترسل لتحرير العقل البشري وإثبات حريته وكرامته وإزاحة كل حجر عليه.
ألم تكن هذه الأديان نفسها قيودا لحرية المرء وانطلاقه بما جاء فيها من أمر ونهي وتحليل وتحريم وإباحة ومنع؟
فالإسلام يحرص الحرص كله على تقرير المساواة بين الناس في الشؤون الاقتصادية ، وذلك بالعمل على تحقيق تكافئ الفرص بينهم في شؤون الحياة المدنية وعلى تقليل الفوارق بين الطبقات وتقريبها من بعضها وتحقيق المساواة في أحسن وأجمل صورها.
يقول الأستاذ سيد قطب في كتابه العدالة الاجتماعية (صفحة 60) : " لا تستقيم حياة يذهب فيها كل فرد إلى الاستمتاع بحريته المطلقة إلى غير حد ولا مدى ، يغذيها شعوره بالتحرر الوجداني المطلق من كل ضغط وبالمساواة المطلقة التي لا يحدها قيد ولا شرط ، فإن الشعور على هذا النحو كفيل بأن يحطم المجتمع كما يحطم الفرد ذاته، فللمجتمع مصلحة عليا لا بد أن تنتهي عندها حرية الأفراد ، وللفرد ذاته مصلحة خاصة في أن يقف عند حدود معينة في استمتاعه بحريته لكي لا يذهب مع غرائزه وشهواته ولذائذه إلى الحد المردي ثم لكي لا تصطدم حريته بحرية الآخرين ، فتقوم المنازعات التي لا تنتهي وتستحيل الحرية جحيما ونكالا ويقف نمو الحياة وكمالها عند المصالح الفردية القريبة الآماد.
والإسلام يمنح الحرية الفردية في أجمل صورها والمساواة الإنسانية في أدق معانيها ، ولكن لا يتركهما فوضى ، فللمجتمع حسابه ، وللإنسانية اعتبارها ، وللأهداف العليا للدين قيمتها ، لذلك يقرر مبدأ التبعة الفردية في مقابل الحرية الفردية ، ويقرر إلى جانبها التبعة الجماعية التي تشمل الفرد والجماعة بتكاليفها وهذا ما ندعوه بالتكافل الاجتماعي. انتهى.
ويقول الغزالي في الإحياء:
إنه لا يجوز أن يستعمل الإنسان حقه في غير الغاية الاجتماعية التي منح من أجلها الحق.
ويقول أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات (ص 348 وما بعدها) :
"إن من يثبت حقه الشرعي في أي أمر فإنه يمنع من استعماله إذا لم يقصد من ذلك إلا الإضرار بالغير".
ويقول القاضي الأستاذ زهدي يكن في محاضرة له عن المسؤولية المدنية، نشرية القضاء والتشريع التونسية ملحق عدد جانفي 1961:
"إن فكرة المصالح المرسلة دليل على المرونة المباحة في دائرة الشريعة نفسها ، ويمكن أن نفهمها فهمًا عصريا بأنها اتخاذ ما يقتضيه الصالح العام ، ويمكن أن نجعل أساسًا لها جميع القيود التي أوجبتها القوانين والأنظمة تقييدًا لحرية الأفراد في ملكيتهم من أجل الصالح العام ، فحق الملكية حق فردي مقدس ، إلا أنه يضحى به في سبيل المصلحة العامة عن طريق الاستملاك ، وقد زيد في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام ، واشتري الزائد من أصحابه في غير ضرار حينما كانت المصلحة العامة تقتضي ذلك ، ويحسن أن ننوه بما صرح به الزرقاني في شرحه على الموطأ من أنه من الممكن اتخاذ أحكام جديدة في الظروف التي تطرأ عليها حوادث جديدة ولا غرو في تبعية الأحكام للأحوال. انتهى.
هذا وقد أباح الإسلام للإمام رئيس الدولة أن يتصرف في توزيع الأموال على وجه يحقق التوازن الاقتصادي بين الطبقات ولو أدى ذلك إلى أن يخص ببعض المال طبقة دون أخرى.
وقد سن هذه السنة الحكيمة وأنفذها عمليا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي من الله عز وجل فقد منح الرسول جميع أموال الفيئ من بني النضير للمهاجرين خاصة ، ولرجلين فقيرين من الأنصار ، ليقرب بذلك بين ثروات المهاجرين وثروات الأنصار ، أي: مقدرة هؤلاء ومقدرة هؤلاء الحياتية ليحقق شيئًا من التوازن في ملكية الأموال بين هذين الفريقين اللذين كان يتألف منهما أول مجتمع إسلامي.
وفي هذا يقول الله سبحانه في كتابه العزيز:
فالملكية الفردية معترف بها ، لكنها محددة بهذه القاعدة ، قاعدة ألا يكون المال دولة بين الأغنياء ممنوعًا بين الفقراء.
ومن ثم فالنظام الإسلامي يبيح الملكية الفردية وهي نظام فريد متوازن الجوانب متعادل الحقوق والواجبات (في ظلال القرآن: 6/ 3524) .
وقد حرم الإسلام تحريمًا قاطعًا كل الطرق التي تؤدي إلى تضخم رؤوس الأموال بأكل أموال الناس بالباطل أو الغش أو التحكم في المعاش بانتهاز الفرص في الأوقات الاستثنائية وبذلك منع الاحتكار وسد الباب في وجوه مستغلي أسواقه.
(1)(الحشر:7 -8)
قال سبحانه وتعالى:
{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (1)
وقال عز من قائل:
وقال عليه الصلاة والسلام:
((من احتكر طعاما أربعين يوما فقد برئ من الله وبرئ الله منه))
ويقول عليه الصلاة والسلام:
((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) رواه مسلم.
وهو عليه الصلاة والسلام يحمي أملاك الناس وأموالهم فيقول:
((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه)) ويقول: ((من ظلم شبرا من الأرض طوقه الله من سبع أرضين))
وقد أقامت الشريعة الإسلامية في باب الميراث حدودًا ضيقة منسقة جعلتها سدا منيعًا في سبيل تضخم الثروات ، وتجمعها بيد واحدة ، وكان النظام الإسلامي في هذا الباب نظامًا محكما ، من شأنه أن يكفل توزيع الأموال بين الناس توزيعًا عادلًا لا تتفتت معه رؤوس الأموال وتقسم دائرة الانتفاع بها بين عدة عائلات ، الأمر الذي من شأنه تقليل الفروق بين الطبقات.
وقد وقفت تلك الحدود التي حرم الله تجاوزها في وجه بعض التصرفات الشاذة التي من شأنها العبث بالأموال وجمعها بيد واحدة أو الانحراف بها عن مصرفها الشرعي.
فقد حرم الإسلام الوصية للوارث ، وأباحها لغيره في حدود الثلث فقط ، فحد بذلك حرية تصرف الفرد في تركته بعد مماته إلا طبق الحدود الشرعية.
(1)(البقرة: 188)
(2)
(النساء: 29)
((عن سعد بن أبي وقاص قال: مرضت عام الفتح مرضا ، أشفيت منه على الموت، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني ، فقلت: يا رسول الله ، إن لي مالا كثيرا ، ولا يرثني إلا ابنتي ، أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا. قلت: فثلثي مالي؟ قال: لا. قلت: فالشطر. قال: لا. قلت: فالثلث؟ قال: الثلث ، والثلث كثير ، إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ، وإنك لن تنفق نفقة إلا أجرت فيها ، حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك)) .
رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
يقول الإمام ابن تيمية في الفتاوى:
قال الله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} النساء: 12.
فالله سبحانه وتعالى إنما يقدم على الميراث وصية من لم يضار الورثة بها ، فإذا أوصى ضرارًا كان ذلك حرامًا ، وكان للورثة إبطاله ، وحرم على الموصى له أخذه بدون رضاهم ، فلو اعترف الموصي أنه أوصى ضرارًا ، لم تجز إعانته على تنفيذ هذه الوصية ، ووجب ردها.
قيود في طريق الملكية الفردية:
قد رأينا أن الإسلام لا يمنع الملكية الفردية ، ولا يقف في وجه حرية الأفراد وتصرفاتهم المالية ، وهو بالعكس جاء حاميًا صائنًا لهذه الملكية مدافعًا عنها رادا الأيدي المعتدية عليها.
وبصرف النظر عن هذه الاعتبارات اللفظية التي جاء بها العصر الحاضر من أن الملكية الفردية هي وظيفة اجتماعية ، هدفها وغايتها إرضاء متطلبات كافة أفراد المجتمع ، والفرد موظف في خدمته ، والقانون يحميه ، فإن تشريعنا الإسلامي كما أنه يحمي المالك الفرد ، يقي المجموعة البشرية الإسلامية من سوء تصرفات هذا الفرد ومن إفراطه في استعمال حقه وتجاوز حدوده فيه.
فالتشريع الإسلامي يرفض الطرق الملتوية للملكية الفردية ، ويأبى الاعتراف بالملكية غير المشروعة التي من أسبابها الغش والاختلاس والاعتداء وظلم الناس.
والتشريع الإسلامي يمهد الطريق لإقرار السلم الاجتماعي بين المتساكنين والأجوار في حقوق الارتفاق مثلًا بما سنه من حدود لها تنظم شأنها.
وهو يمنع إلحاق الضرر بالآخرين ويقف بالفرد عند حد إذا تطاول إلى الأموال ذات النفع العام مما يهم المجموعة كاملة.
والتشريع الإسلامي يخطط ويبين الأوامر التي فزع الناس إليها في عصورهم المتأخرة آخذين مبادئها عن المبادئ الإسلامية السامية. وتراه بذلك يحمي الفرد والمجتمع من اعتداء أحدهما على الآخر ، ولا نقصد بالاعتداء الاعتداء على أملاك الناس وحرماتهم وأعراضهم ، فهذه أمور أساسية تنبع من مقاصد الشريعة السمحة.
وإنما المراد حماية الأفراد والمجتمع من الإفراط في استعمال الحق والبعد بهذا الاستعمال والتعرف على الخطوط الكبرى التي يرسمها التشريع للمجتمع الإسلامي. وقد اعتمد فقهاء الإسلام على حديث ((لا ضرر ولا ضرار)) كأصل ثابت لهذا الموضوع ، وهو حديث صحيح أخرجه الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة رضي الله عنه في الموطأ.
وقد اقتضى هذا النص حرمة صدور الضرر من كافة الأشخاص على غيرهم ، سواء في البدن أو الأموال ، وذلك عند التصرف المباح فيما هو من حقوق الفرد فضلًا عن تصرفه اعتداء على ما هو راجع لغيره.
واعتمد فقهاؤنا من المالكية بناء على قاعدة المصالح المرسلة أن ذلك يقوم على ثلاثة أركان:
أ) عدم جوز استعمال الحق إذا كان هذا الاستعمال لا تتولد عنه أية منفعة ، بل ينشأ عنه ضرر للغير.
ب) عدم جواز ممارسة الحق إلا في الحدود التي منح من أجلها هذا الحق.
ج) ينقطع استعمال الحق المشروع في الوقت الذي ينشأ عنه ضرر فاحش للغير.
قال عليه الصلاة والسلام في الحديث ذي السند الصحيح:
((خذ حقك في عفاف واف أو غير واف)) .
وفي رواية أخرى:
((خذ حقك في كفاف وعفاف واف أو غير واف يحاسبك الله حسابا يسيرا))
وقال عليه الصلاة والسلام:
((لا تستعل على جارك بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه)) .
والنظم العصرية تنظر إلى سوء استعمال الحق من زاوية الضرر. أما الشريعة الإسلامية فهي لا تقتصر على تقييد استعمال الحق بضرورة عدم وجود نية الإيذاء وانتفاء الإهمال أو المصلحة لصاحب الحق والوقوف عند ما يسمح به القانون وتحدده التراتيب ، بل إنها ترمي إلى تقييد ممارسة الحق بالأغراض الاجتماعية والمناهج الاقتصادية التي وجد الحق وتكون من أجلها ، وهي حينئذ تقوم على مبادئ سامية ومقاصد عالية اعتمدتها وقررتها هي نفسها ، وهي:
أ) إذا تعارضت المصلحة الخاصة مع المصلحة العامة ، قدمت هذه.
ب) جواز تحمل الضرر الخاص في سبيل دفع الضرر العام.
ج) إن درء المفاسد أولى من جلب المصالح.
وهذه النظرية مبسوطة في كتب الفقه معروفة منذ قرون عديدة تسبق التشاريع العصرية بآماد طويلة بعيدة ، وقد طبقها علماء الإسلام تطبيقًا نظريا وعلميا منذ أزمان غابرة قبل أن يتناولها فقهاء القانون بالغرب وقبل أن ينقلوها عنا وقبل تدوينها في نظمهم العصرية متباهين متفاخرين بها.
فإبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي المالكي المتوفى سنة790 هـ/1388 م. (صاحب الموافقات والاعتصام والمجالس والإفادات) قد حلل في كتبه مقاصد الشريعة والمصالح التي بنيت عليها أحكامها ، فأوجب في الأحكام الشرعية أن تطبق وفاقًا للمقاصد التي وضعت لها ، وعلى هذا توصل إلى منع استعمال الفعل المأذون فيه شرعًا إذا لم يقصد منه فاعله إلا الإضرار بالغير وفي ذلك حرمة وحماية لأموال وأملاك الناس ووقاية لمبادئ عالية أساسها الأخلاق والحق.
وهذا هو عين نظرية التعسف في استعمال الحق التي لم يعرف عنها الغرب شيئًا إلا منذ زمن قريب.
وهذا ابن تيمية في الفتاوى ج 3 ص 39 يقول: إن المقاصد - أي النوايا - معتبرة في التصرفات والعادات كما هي معتبرة في التقربات والعبادات ، فقد قال الله سبحانه:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [لنساء: 12] ، فهو سبحانه يقدم على الميراث وصية من لم يضار الورثة بها ، فإذا أوصى ضرارًا كان ذلك حرامًا وكان للورثة إبطاله ، وحرم على الموصى له أخذه بدون حصول رضا الورثة.
فلو اعترف الموصي أنه أوصى ضرارًا أو ثبت ذلك من الخارج لم تجز إعانته على تنفيذ هذه الوصية لما فيها من اعتداء على الحقوق يتجاوز ما أحل لصاحب الملك والمال.
وهويقول ج 3 ص 212:
إن قصد بالعقد غير ما شرع له العقد ، فيجب أن لا يصح؛ وذلك لأنه سبحانه وتعالى شرع العقود أسبابًا إلى حصول أحكام مقصودة ، وأن القصود والنيات معتبرة في العقود كاعتبارها في العبادات ، فإنما الأعمال بالنيات. اهـ.
واتباعًا لنظرية ابن تيمية في كون المقاصد والنوايا معتبرة في التصرفات والعادات كما هي معتبرة في التقربات يمكن القول: إن الإنسان المسلم المؤمن بمبادئ دينه الحنيف والعامل بأحكامه يجب عليه أن لا يمارس حقه بصورة تمس بحقوق الآخرين حتى ولو كان القانون في جانبه والقضاء لفائدته والظواهر لصالحه.
فالإنسان المسلم يقيم من ضميره ووجدانه حارسًا رقيبًا يتعقب أعماله وتصرفاته يأمره وينهاه ويصده عن البغي والاعتداء ويجعله مثالا في الإنصاف والعدل ينصف الناس من نفسه حتى ولو كان التشريع والقانون ظاهريًا في جانبه ولفائدته.
ويقول عليه الصلاة والسلام:
((كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد)) .
أي: أن صاحبه مسؤول عنه ومردود عليه ، ويناله العقاب من أجله.
والتشريع الإسلامي يقرر أن المسلم مطالب باحترام حقوق الآخرين وأن القاضي بشر يخطئ ويصيب ، وعلى المحكوم لفائدته أن يرد نفسه عن غيها وينهاها عن فجورها ، فإذا كان القضاء لفائدته وهو يعلم أنه مخالف للحقيقة ، فالواجب يقتضيه أن لا يستفيد من ذلكم الحكم ، وأن يعترف بالحقيقة ، وأن ينصف الناس من نفسه.
يقول عليه الصلاة والسلام:
((إنما أنا بشر ، وإنكم لتختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه ، فلا يأخذنه ، فإنما أقطع له قطعة من نار))
وعن أبي أمامة أنه صلى الله عليه وسلم قال:
((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة ، وأوجب له النار. قالوا: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيبا من أراك. قالها ثلاث مرات)) .
كما يمكن أن نلاحظ أن الدين الإسلامي الحنيف في احترامه للحقوق جاء ناهيًا عن تجاوز الحق والإفراط فيه حتى ولو كان ضد المعتدي ، فلا يمكن أن يجازى الإنسان عما اقترف من إثم بعقاب يتجاوز حدود ما صنعه واقترفه.
يقول الشاطبي في الموافقات:
"الممنوعات في الشرع إذا وقعت ، فلا يكون إيقاعها من المكلف سببًا في الحيف عليه بزائد عما شرع له من الزواجر وغيرها كالغصب إذا وقع فإن المغصوب منه لا بد أن يوفى حقه ، لكن على وجه لا يؤدي إلى الإضرار بالغاصب فوق ما يليق به من العدل والإنصاف ، فإذا طولب الغاصب بأداء ما غصب أو قيمته أو مثله ، وكان ذلك من غير زيادة صح؛ لأن العدل هو المطلوب مع عدم الزيادة.
ومن الملاحظ أيضًا أن فقهاء الإسلام تقصوا مظاهر التعسف في استعمال الحق احترامًا للملكية الفردية وصونًا لحقوق الأفراد ونصوا على ذلك في الفقه التقديري.
فقد ذكر الإمام ابن تيمية أنه إذا سلطت مظلمة على جماعة من الناس بأداء مال معين ظلما ، فليس من حق أحدهم أن يتهرب من أداء منابه وقسطه من هذه المظلمة ، فيحمل على باقيهم ويضاعف بذلك مظلمتهم ، بل إنه مدعو لدفع قسطه وإن لم يفعل يكون آثما.
ويمكن أن نذكر أمثلة مختصرة تبرز بوضوح آراء الفقهاء المسلمين في احترام الملكية الفردية واحترام حقوق الأفراد والنهي عن المس بهذه الحقوق حتى ولو كان الإنسان بصدد استعمال حق مباح له. فقد منع سحنون (1) رضي الله عنه صعود الصومعة إذا كان في ذلك كشف على المحلات والدور المجاورة لها.
وجاء في التبصرة لابن فرحون (2) : إنه من حق المالك أن يفتح في داره نافذة لدخول النور والهواء بشرط عدم تجاوز حقه ، بأن تكون هذه النافذة كاشفة على جاره يستطيع بواسطتها الاطلاع على أحواله.
(1) هوعبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي الملقب بسحنون ففيه مالكي ولد سنة 160 هـ/777 م بالقيروان. عالم جليل تولى القضاء وأحسن إدارته وله مواقف مشهورة ، توفي بالقيروان سنة 240 هـ/ 854 م.
(2)
ابن فرحون هو أبو الوفاء برهان الدين إبراهيم ابن الإمام شمس الدين محمد بن فرحون اليعمري المغربي المالكي. ولد ونشأ ومات بالمدينة سنة 799 هـ/1397 م ، وتولى القضاء بها. فقيه مالكي محقق جليل ، له كتب مطبوعة ، منها تبصرة الحكام في أصول الأقضية والأحكام ، وكتاب الديباج المذهب في تراجم أهل المذهب.
وتعرض الفقهاء إلى أن ما يغرسه الجار في حديقة له يجب أن لا يتأذى منه جاره ، ورتبوا على ذلك أن الفروع الممتدة إلى أرض الجار يجب أن تقطع.
جاء في كتاب الأحكام السلطانية للماوردي (450 هـ) بسط ضاف في هذا الموضوع أثناء الحديث عن الحسبة والمحتسب.
والتشريع الإسلامي يصل به إلى التشدد في هذا المضمار إلى إزالة آثار الاعتداء ولو كانت نافعة.
فعن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن هشام بن عروة عن أبيه يرفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال:
((من أحيا أرضا ميتة فهى له ، وليس لعرق ظالم حق. قال: الجمحى: قال هشام: العرق الظالم أن يجيء الرجل إلى أرض قد أحياها رجل قبله ، فيغرس فيها أو يحدث فيها شيئا)) .
قال أبو عبيد: فهذا التفسير للحديث يحققه حديث آخر: سمعت عبادة بن عوام يحدثه ، عن محمد بن إسحاق ، عن يحبى بن عروة ، عن أبيه يرفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام مثل هذا الحديث. قال عروة: ولقد أخبرني الذي حدثني بهذا الحديث ((أن رجلًا غرس في أرض رجل من الأنصار نخلًا ، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقضى للأنصاري بأرضه ، وقضى على الآخر أن ينزع نخله. قال: فلقد رأيتها يضرب في أصولها بالفؤوس وأنها لنخل عم)) أي تامة في طولها والتفافها ، والمفرد: عميهة ، شرح السنة للإمام البغوي ج 8/ ص 230.
والتشريع كذلك يحترم حق الجماعة على حساب الأفراد ، وينظر من زاوية المصلحة العامة إلى مصلحة الجماعة ، فيدفع عنهم المضرة ويجنبهم التصرفات الشاذة ببعض الأفراد ويحد من حق هؤلاء لفائدة المجموعة العامة.
من ذلك وضع القيود في كيفية تداول بعض السلع الغذائية التي هي ضرورية لفائدة الناس في يومهم القريب وتحريم احتكارها ومنع تداولها ، فالفرد وإن كان من حقه الاتجار والاقتناء والربح ، فإنه ليس من حقه أن يتحكم بسبب ثرائه وقوته المالية في الحياة الاقتصادية بإلحاق الأذى والمضرة بالضعفاء والمساكين. قال عليه الصلاة والسلام:((لا يحتكر إلا خاطئ)) .
جاء في شرح الزرقاني على مختصر خليل في باب البيع:5/4:
للشخص أن يشتري وقت السعة قوت سنة أو أكثر، لا بوقت الضيق ، فإنما يشتري ما لا يضيق على غيره كقوت شهر أو أيام ، فإن اشترى ما يضيق أو اشترى كثيرًا وقت السعة ، ثم حصل للناس ضرر ، وجب عليه بيع ما زاد على قوته وقوت من تلزمه نفقته إن خيف بحبسه إتلاف المهج. باتفاق الباجي والقرطبي وابن رشد ، فإن مست الحاجة ولم يكن الخوف المذكور ، بل دونه ، وجب عند ابن رشد. وقال الباجي: لا. واتفق على جواز احتكار غير الطعام كصوف وكتان ، حيث لا ضرر على الناس في احتكاره ، وفي الطعام حيث لا ضرر خلاف.
وعلق البناني في حاشيته على الزرقاني بقوله:
من اشترى ما يضيق على الناس فإنه يؤخذ منه بالسعر الذي اشتراه به ، وأما من اشتراه وقت السعة ، فإنه يؤخذ منه بسعر وقته.
وقول الزرقاني: وفي الطعام حيث لا ضرر خلاف ما قال المازري: قال ابن القاسم وابن وهب: سئل مالك عن التربص بالطعام وغيره رجاء الغلاء ، قال: ما سمعنا فيه بنهي ، ولا أرى بأسًا أن يحبس إذا شاء ، ويبيع إذا شاء ، ويخرجه إلى بلد آخر. وقال ابن العربي: إذا كثر الجالبون للطعام وكانوا إن لم يشتر منهم ردوه ، كانت الحكرة مستحبة.
وعلى كل فإن القاعدة هي وقوف التشريع في وجه المضر بالناس المتجاوز لحقه في اتجاره ، وهذا ما يفيده النقل السابق.
ومن ذلك أيضًا تحريم الربا بأنواعه وتحريم عقود الغرر والمخاطرة والإثراء على حساب الآخرين وحتى الاعتداء بالرائحة الكريهة في المجتمعات والأندية وخاصة المساجد. قال عليه الصلاة والسلام: ((من أكل من هذه الشجرة فلا يقرب مسجدنا يؤذينا بريح الثوم)) .
ومن هذا أيضًا حق الحجر على السفهاء الذين لا يحسنون التصرف في أموالهم وإنفاقه في أوجهه الصالحة. فهم وإن كان من حقهم التصرف في خالص ما يملكون ، فإنه من حق الجماعة أيضًا ومن حق الأمة أن تراقب تصرف أفرادها وطرق صرف أموالهم حتى لا يحيدوا بها عن طريق الصلاح والمنفعة والخير لفائدتهم ولفائدة مجتمعهم ، كل ذلك اعتمادًا على قوله سبحانه:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} النساء: 4
وقوله سبحانه وتعالى في آية الدين:
وقد عارض الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه في عموم هذه القاعدة اعتمادًا على حرية التصرف في الأموال والاستقلال الذاتي ، إلا أنه لا يخالف في عدة فروع يتجسم فيها الضرر بالمجموعة ، فيحجر على الرشيد تصرفه فيها.
والإمام أبو حنيفة يبسط رأيه هذا ، ويقدم بين يديه أدلته وأسانيده التي اعتمدها وأخذ بها ، وذلك منذ ثلاثة عشر قرنًا (80 – 150) بينما نرى فقهاء القانون العصري عند تعرضهم لهذه النظرية ينسبونها إلى فقيه فرنسي معاصر هو الفقيه بلانيول الذي يقول: إن التعسف في استعمال الحق هو خروج عن الحق وهذا ينتهي حيث يبدأ التعسف ، وأن العمل الواحد لا يصح أن يكون في وقت واحد متفقًا مع القانون ومخالفًا له.
وهذا عين ما ذهب إليه فقيهنا المسلم منذ قرون.
(1) البقرة: 282
تطور النظم العصرية
أما في النظم العصرية الحديثة فلقد تطور القانون المدني والقانون التجاري والقوانين الاجتماعية وسائر القوانين الأخرى من الفردية إلى الجماعية ، وانفصلت عنها عدة فروع ، وأخذت شكلًا جماعيًا يبتعد شيئًا فشيئًا عن الفردية المحضة؛ ذلك لأن الركنين الأساسيين في القانون الاعتيادي الكلاسيكي، وهما الملكية والالتزام ، قد أخذا هما في التطور وقد تغير مظهرهما وكثير من أجزائهما الطبيعية.
لقد كانت فكرة الالتزام حجر الزاوية الذي تقوم عليه وترتكز علاقات الأفراد ضرورة أن الالتزام هو القانون الضاغط على الفرد للوفاء بالتزاماته وعقوده نحو معاقديه الأفراد الآخرين. وهذا النظام هو الذي يكون ويحدث الخلاف والنزاع والشجار بين الأفراد أنفسهم ويخلق ويوجد التصادم الضروري بين مصالح هؤلاء الأشخاص.
والمقنن العصري اتباعًا لسنة التطور واتباعًا لاتجاهات الناس وتغييرات أحوالهم ونزول نوازلهم أخذ يتدرج بهذا الحق نحو الزوال.
فقد كانت الحياة تقوم على أساس هذه المصانع البسيطة المتواضعة يملكها فرد واحد ويتعامل مع أجراء يبادلونه الحب والمودة والعاطفة ويكونون جميعًا أسرة واحدة ليس بين أفرادها خصومات أو شحناء ، بل إن كل واحد يشعر بحاجته إلى صاحبه ، وأن ربحه متوقف على دوام الصلة القائمة على الود والمحبة.
ثم جاءت الآلة وتضخم بها الإنتاج وسهل أمره كما وكيفًا وتكون المصنع العملاق يملكه جماعة من أصحاب رؤوس الأموال وقوم من الأثرياء يستخدمون فيه آلافًا مؤلفة من العملة الفقراء المحتاجين الذين لا يملكون قوت يومهم ولا يجدون ما يرضي متطلبات الحياة ، وقد أصبحت معقدة لا يعرف الضروري فيها من غيره، وظهرت الجفوة ودب الخلاف وتحكمت المادة في العلاقة بين الجانبين ، ودب الخلاف بين الأجير والعرف ، ونبت الحقد وظهرت الكراهية ، وأطلت الفتن بنارها الوقادة.
وجمع العمال شتاتهم وتكتلوا في هذه المنظمات والهيئات التي توحد صفوفهم وتلم شملهم ، تشد أزرهم وتخذل من يخذلهم ، جاعلة منهم قوة تواجه قوة أصحاب وأرباب المعامل والمصانع والمؤسسات.
أخذت الفردية تضمحل في الميادين القانونية لتحل محلها النظم الجماعية القائمة على ذلكم البساط وتنازل الفرد الواحد عن حقوقه الضيقة لفائدة الجماعة الذي هو لبنة في هيكلها وانخرط معها في عقد جديد هذبه القانون إن لم نقل: صنعه وحماه ، وشد ساعده ورعاه بغية إقامة علاقات ينقطع بها التزاحم والصراع بين أفراد هاتيكم المجموعات لتحل محلها روابط التعاون لإدراك الأهداف وتحقيق المصالح وحمايتها والإبقاء عليها عند تكونها ووجودها.
ومن هذا الوقت صار هذا المجتمع يمثل بصفة قانونية أفراده المتكون منهم الذين تخلوا طوعًا منهم واختيارا أو كرهًا وجبرًا عن حقوقهم أي عن التمتع بها بصفة فردية لها صبغة الحرية المطلقة وما لها من طعم خاص وصار التعاون الجماعي إن لم يكن اختياريا فهو مفروض فرضًا اقتضته الظروف وأملته المصالح وتغيرت بذلك فكرة الالتزام بمعناها التقليدي المتعارف بين الناس قديمًا.
وتجلى عن هذه الحقيقة أن الحياة الجماعية لم تعد أمرًا ماديا محضًا وجد بين أفراد أرادوا ذلك وسعوا إليه وعملوا على وضعه وإقامة حدوده ، بل أصبحت نظامًا مقررًا ودستورًا مصادقًا عليه يقتضي التزام الفرد باحترام المبدأ للجماعة الذي هو أساسها ، ذلكم المبدأ المتولد عن تكتلها واجتماعها وإقامة العلائق بينها على أساس المصلحة المشتركة لحماية الكل والذود عن حقوق كافة الأفراد ، فلا تنقطع الشاة عن القطيع ولا يأكلها الذئب.
وهكذا أصبحت العلاقة الفردية مركزة بصورة قانونية شرعية على مبادئ وقوانين هاتيكم الجماعات.
ولنضرب لذلك بعض الأمثلة التي توضح هذه الحقيقة وتتجلى معها تلكم الفكرة بصورة واضحة ضرورة أن التطور الجديد أحدث تغييرًا في الأهلية وفي الالتزام وفي التمتع بالحقوق وحتى في تعاطيها.
فالشريك مثلًا في الشركات التجارية عندما يتم العقد يكتسي حقه صبغة جديدة لا علاقة لها بالحق الذي كان له سابقًا فهو غير حر في تصرفه وتمتعه إلا حسب بنود عقد الشركة واتفاق الأفراد المشاركين له، والأقلية في الشركات تكون خاضعة لرأي الأغلبية حتى في مالها الخاص الذي هو نتيجة أرباح لمال قدمه.
والمحكمة عليها أن تقضي بذلك وأن تعمل به حادة من إرادة وحرية بعض الأفراد لصالح الأغلبية من بقية الجماعة. انظروا مثلًا ما جاءت به الفصول 122 حتى 134 من القانون التجاري التونسي.
ونشاهد أن النقابات تستطيع التحدث باسم جميع أفرادها وتدافع عن حقوقهم وتعلن الإضراب باسمهم ، وبعبارة عامة تستطيع تعاطي كل الحقوق النقابية باسم سائر المنخرطين ، ولا يستطيع المنخرط الواحد أن يصنع ذلك بالرغم عن كونه عضوًا في تلكم الجماعة وهاتيكم المنظمة.
وفي النقابات الصناعية والخاصة كأصحاب العمارات مثلا رعاية الدائنين المجردة ديونهم عن الامتياز ، فإن الحق المشترك يقع تعاطيه بصفة جماعية لا بصفة فردية ولو أن الغاية لا تتغير.
وقد نرى تغييرًا تاما في الالتزام بالقيام بالشيء أو عدم القيام به فيما يتعلق بمخالفات الاحتكار وتحجير البيع بالثمن المختار وتحديد الأسعار. وفي الحجرات التجارية والفلاحية والشركات الصناعية أو بين أصحاب المهن كالمحامين والأطباء ، فهذه تنظم تعاطي التجارة والصناعة أو المهنة ، وترخص أو لا ترخص فيها تحت قيود وبنود يجب أن يخضع لها الفرد.
ونذكر هنا أيضًا المدينين المتضامنين فإن سلوك الواحد منهم يتوقف على سلوك الآخر.
والدعوى المنحرفة قيام الدائن لإبطال عقود مدينة فإنها مسموح بها لبعض الدائنين الذين كان دينهم متقدمًا عن الأعمال التي كانت سببًا في نقص المكاسب وترهلها وفقدان الضمان الكافي بسببها.
وفي حقوق العائلة نرى القانون يضغط على الحق الفردي لفائدة العائلة نفسها ومنفعتها وإبعاد الأذى عنها كإهمال العيال، فالأب يعاقب عقابًا عسيرًا؛ لأنه أهمل عياله وأبناءه ماديا وحتى أدبيا.
ونذكر أيضًا الأضرار الحربية ومشاركة الجميع فيما ضحاه أحدهم لفائدة ومصلحة المجموعة.
وقوانين الأكرية التي هي قوانين استثنائية تولدت ووجدت بموجب أزمة السكن في العصور الأخيرة بسبب الحرب وما نشأ عنها من وجود احتكار من طرف المالكين وانتهاز الفرصة لاستغلال حاجة المتسوغين فاقدي المسكن والمأوى ، فاخترع المشرع هذه القوانين لحماية هؤلاء عادا بذلك لحقوق المالكين ، وذلك لإحداث توازن عادل بين شرائح المجموعة وللوقوف في وجه الاحتكار والمحتكرين.
وكذلك كافة القوانين الاجتماعية بصفة عامة المكونة هي أيضًا لتوازن بين الأجير ومؤجره والعامل وعرفه.
ونذكر عقود الانخراط وقوة فاعليتها وتأثيرها على المرتبطين بها الذين أمضوها وارتضوها.
وأخيرًا فقد تطور حق الملكية تطورًا كبيرًا محسوسًا وفقد طبيعته المطلقة ووقع السير به نحو المصلحة الاجتماعية وزالت عنه فكرة الملكية الفردية الحرة في التصرف المطلق واصطبغ بلون آخر يهدف إلى اعتبار أن الحق منح لخدمة الأفراد تحقيقًا لغرض اجتماعي ، وبذلك أصبح وظيفة يقوم بها المالك تحت شروط وقيود تهم النظام العام وصالح الجماعة ، وبذلك فإن أساء صاحب الحق استعماله ، يكون قد أخل بالقيام بوظيفته ، وكان ذلك داعيًا لتدخل الهيئة الاجتماعية وموجبًا للجزاء والعقاب والمؤاخذة والمسؤولية.
وهكذ نشاهد اندفاعًا قانونيا نحو الجهة المعاكسة يرمي إلى الوقوف في وجه الفرد ومنعه من تحطيم غيره والإضرار به وتمكين الجماعة من السير بأفرادها في الطريق السوي والاتجاه الحسن النافع ولفائدة الكل والقانون هنا لا يعتبر الفرد بل يعتبر الجماعة التي ينتمي إليها ذلكم الفرد.
وهذا الاتجاه الجديد الذي جاء بعد الانطلاقة الفردية يصور لنا أن القانون لا يترك الأمور تتغلب لجهة دون الأخرى ، فمتى شاهد اندفاعًا نحو إحدى الجهتين عدل بين الكفتين ، فهو يمسك بيده الميزان الحقيقي ميزان العدالة وهو وحده الذي يستطيع أن يجري التوازن بين هذه الحرية الفردية المطلقة المتحررة وبين اندفاع الجماعات لتضييق هذه الحرية والحد منها بل وحتى القضاء عليها أحيانًا.
فالحرية المطلقة الكاملة المتحررة من كل القيود والموانع التي هي فوضى لا وجود لها ولم يكن لها وجود شرعي في الغابر منذ بدأت الخليقة ومنذ بدأت معركة الحرية سواء حرية العقل والفكر أو حرية التملك واكتساب الأموال والتصرف فيها ، وليس لها وجود في الحاضر ولا يمكن أن يكون لها وجود في المستقبل ، إذ إن الفرد الذي يعيش في مجتمع لا بد أن يتنازل عن بعض حريته لهذا المجتمع وبمقدار اعتزازه بحريته واستقلاله في تفكيره وآرائه يكون تأثير المجتمع فيه وفي حريته وحرية تصرفه وكل ما ينقص من هذه الحرية يضاف إلى سلطان المجتمع هذا المجتمع الذي يجب أن يؤمن بمفهوم هذه الحرية على حقيقتها الواقعية ويشيع هذا الإيمان وذلكم الفهم في كل أفراده على حد سواء بتصرفه الحاذق العادل النزيه.
ومع أن كل الدساتير تحترم حرية الأفراد وحرية المعتقد وتزجر كل من يحاول النيل منها.
ومع أن كل الشعوب تنادي بحرية القول والرأي والتملك والتعلم إلا أن كل ذلك لا يسمح للفرد الذي يعيش في أمة تريد أن تنهض وتريد أن تبلغ غايتها وتدرك أهدافها لا يسمح له أن يشل هذه النهضة وأن يوقف سير تطورها وتقدمها وذلك بالخروج بالحرية عن إطارها الطبيعي القانوني وتشويه صورتها والعبث بما فيها ، وهذا أمر لا يحده ولا يرده إلا القانون في ظل المبادئ الدينية الأخلاقية ، وهو الذي يرعى الحرية ويحتضنها ، فيسير بها في هذه الطرق الملتوية والمنعرجات الخطرة يجنبها العثرات ويقيها مغبة الهفوات وينطلق بها انطلاقًا كاملًا في إطار من النظام والعدالة الاجتماعية الشاملة النافذة التي تخدم الصالح العام تحقيقًا لصالح الأفراد.
والفرد مهما ترنم وتغنى بحريته المطلقة في التصرف المالي والتملك العقاري وفي استعمال الحق وفي اختيار الطرق لهذا الاستعمال وانتخاب السبل التي يراها صالحة للوصول إلى تحقيق مخططاته وأدرك أغراضه والانتهاء إلى غاياته وتدعيم خططه ومناهجه لا يمكن له أن يستغني قط عن رعاية حاضنته العطوف الحنون الدولة التي هو أحد أفرادها ، وهو ركن من أركانها ، والتي تسعى إلى إسعاده وحفظ حقوقه وتوجيهه إلى السبيل القويم وحتى ولو كان في ذلك مظهر من مظاهر الحد من حريته وانطلاقه وتمتعه تمتعًا كاملًا بماله وأملاكه.
وهو لا يكون عضوا صالحًا فيها ومواطنًا شريفًا قائما بواجبه إلا إذا سلك السبيل المؤدية إلى مصلحة الجميع وإلى خير الكل ، وإلا كان بنقيض ذلك فوضويا أنانيا يسعى عن غير قصد إلى تخريب أعماد الجماعة والفت في ساعد الأمة.
والفرد مهما اعتز بهذه الحرية حرية التصرف والتملك وتنادى بالمحافظة عليها والذود عن حياضها ، فهو كمعاقد لأمته يلتزم بأن لا يقوم إلا بكل نافع ومفيد وهذا العقد وهذا الالتزام يقتضيانه التنازل طبعًا عن بعض حريته ومصالحه لفائدة المجتمع ولصالح الأمة.
والدولة التي لا تسعى إلى تحقيق هذا الصالح العام وإقراره ولو بالحد من بعض الحريات - بقيود وشروط طبعًا - تكون خانت الأمانة التي ألقاها نفس ذلكم الفرد على عاتقها وطوق بها عنقها.
فالحرية المقيدة يزداد حسنها ويلمع بريقها ويصان جمالها بما يسن لها من أحكام.
إن من سن للمليحة قيدًا إنما صان حسنها حين سنا
المصلحة
أما وقد ربطنا الانتزاع بالملك ، وسار التيار في هذا السلك ، وعلمنا أن النزع والاستيلاء قد يصيب الملك من طرق مباحة شرعًا وعرفًا وعادة وقانونًا.
فلا بد أن ندرس بعد ذلك المعنى الثالث من عناصر الموضوع التي حواها عنوانه حتى يصيب التيار المفتاح ، وتنقدح الشرارة وتنير المصباح.
وقد علمنا أن قداسة حق التملك مصانة محترمة إلا في صور استثنائية خاصة تدعو إليها وتلح في شأنها المصلحة.
فما هي هذه المصلحة المنظور إليها عند استنباط القواعد وترتيب الأحكام عليها وإباحة النافع وما فيه فائدة ومنع الضار المضر بالمسلمين وجلب المنفعة لهم ودفع المفسدة عنهم.
هي المصلحة التي يمتطيها القرار توصلا إلى الملك دون النظر إلى الجوانب الأخرى والزوايا المتعددة لهذه المصلحة.
ما حقيقة المصلحة حينئذ ، وما هي حدودها وظروفها وملابساتها حتى تكون المفتاح الذي ينير المصباح ويمهد الطريق لفعل مباح لحالة يعبر عنها بالاستصلاح ، ويتوصل بها المصلح إلى الانتزاع في سبيل الإصلاح؟
المصلحة لغة:
هي مفعلة تدل على المكان ، كمأسدة ومسبعة: مكان تكثر به الأسود والسباع.
وهي كل ما يبعث على الصلاح والمنفعة.
قال المعري:
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها فعدوا مصالحها وهم أجراؤها
والمصلحة مصدر ميمي أريد منه الحدث دون الزمان والمكان ومعناه: الصلاح والحسن الموجود في الفعل.
جاء في لسان العرب 3/348:
"المصلحة: الصلاح جمع مصالح ، والاستصلاح نقيض الاستفساد".
ويطلق رجال العصر المصلحة على قسم من الإدارة يهتم بفرع من فروعها وشأن من شؤونها ، له رئيس يسمى رئيس المصلحة.
المصلحة عرفًا وفقهًا:
عرفها رجال التشريع الإسلامي بعدة تعاريف تصب كلها في مصب واحد وتنبع من منبع متحد.
عرفها الأصوليون بأنها تشريع الحكم في واقعة لا نص فيها ولا إجماع بناء على مراعاة مصلحة مرسلة أي: مطلقة أو ساذجة لم يرد عن الشارع دليل باعتبارها ولا بإلغائها.
وقد اختلفت عبارات الأصوليين في تعريف المصلحة وتعيين المقصود منها على أقوال:
عرفها أبو حامد الغزالي (في المستصفى 1/286) بأنها عبارة عن جلب منفعة أو دفع مضرة ويعني بها المحافظة على مقصود الشرع وهو المحافظة على الدين والنفس والمال والعقل والنسل ، وهذه الأمور الخمسة هي معيار المصلحة ، فما يفوقها فهو مفسدة ، وما يؤكدها فهو مصلحة.
وهو يقصد أن المصلحة المعتبرة هي ما قام الدليل الشرعي على اعتبارها ، وليس كل ما اعتبره الناس أن فيه جلب منفعة أو دفع مضرة.
ويعرفها عز الدين بن عبد السلام وينوعها إلى أربعة أقسام: اللذات وأسبابها ، والأفراح وأسبابها ، والمفسدة: الآلام وأسبابها ، والهموم وأسبابها (1)
وهو يمثل للمصالح المجازية التي هي في الأصل مفاسد ، وأمر بها الشارع لما فيها من مصلحة كالقطع في حد السرقة والقتل في جرائم القتل والرجم في الزنا. فهذه مفاسد أوجبها الشارع وسنها؛ لأنه تترتب عنها مصالح ، فهي مصالح مجازًا من باب تسمية السبب باسم المسبب (2)
والشيخ ابن عاشور في كتابه (مقاصد الشريعة) يقول: المصلحة وصف للفعل يحصل به الصلاح؛ أي: النفع منه دائما أو غالبًا للجمهور أو للأفراد ، وتحقيق الحد الذي نعتبر به الوصف مصلحة أو مفسدة أمر دقيق في العبارة ، ولكنه ليس عسيرًا في الاعتبار والملاحظة (3)
جلب المصالح ودرء المفاسد:
(1) ابن عبد السلام: قواعد الأحكام 1/10 وما بعدها.
(2)
ابن عبد السلام: قواعد الأحكام 1/10 وما بعدها.
(3)
ابن عاشور: مقاصد الشريعة: 66.
لقد جاءت الشريعة الإسلامية بانية أحكامها على جلب المصالح ودرء المفاسد ، ذلك أنها تسعى إلى مصالح الناس ومنافعهم وفاء بمطالب الحياة البشرية الإنسانية. والناس متفقون على أن التشريع الإسلامي قائم على حكم ومقاصد لرعاية مصلحة الخلق واللطف بهم وتحسين أحوالهم والرفع من مستواهم في حياتهم هذه ثم ما يثيبهم ويجلب لهم الأجر في حياتهم الأخرى.
فكل حكم من الأحكام الشرعية التي سنتها الشريعة السمحة مرتبط ارتباطًا وثيقًا بحكمة ومصلحة ومنفعة دعت إلى تقرير ذلكم الحكم وتشريعه.
والفقهاء لا يختلفون في كون استنباط القواعد الشرعية وترتيب الأحكام عليها يستند في كثير من مصادره إلى البحث عن هذه الحكمة التي قصد إليها الشارع وراعاها وجعل بعض الأوامر والنواهي علاقة عليها ووسيلة للوصول إليها.
وهذا الحكم هو ما يعبر عنه بالمصلحة والبحث عن هذه المصالح واستقصائها هو ما يسمى أحيانًا بالاستصلاح؛ لأنه إذا كانت هذه المصلحة مطلقة في أحكام الشريعة فمن الخير استكشافها والبحث عنها للاستدلال بها على الحكم الشرعي وهذا ما يرمي إليه الإمام مالك رضي الله عنه في تسميته هذا الاستصلاح بالمصلحة المرسلة.
وعلماء الأصول متفقون على اعتبار المصلحة إذا ورد دليل شرعي على اعتبارها ، كما أنه لا خلاف في عدم اعتبارها إذا قام الدليل على إلغائها.
وشيخنا الأستاذ الإمام محمد الطاهر بن عاشور يعتني بوصف هذا الموضوع ويصف واجب علماء المسلمين في تتبع مقاصد الشريعة والإلمام بما ترمي إليه والاستعداد لما يحدث من قضايا لا نص فيها لما أحدثه الناس من أمور فيقول:
" فمن حق العالم بالتشريع أن يخبر أفانين هذه المصالح في ذاتها وفي عوارضها وأن يسبر الحدود والغايات التي لاحظتها الشريعة في أمثالها وفي أحوالها اعتمادًا ورفضًا لتكون له دستورًا يقتدى وإمامًا يحتذى ، إذ ليس له مطمع عند عروض النوازل والنوائب العارضة أن يظفر لها بأصل مماثل في الشريعة المنصوصة ليقيس عليه بلا نص مقنع يفيئ إليه ، فإذا عنت للأمة حاجة وهرع الناس إليه يطلبون قوله الفصل فيما يقدمون ، وجدوه ذكي القلب صارم القول غير كسلان ولا متبلد (1)
(1) ابن عاشور: مقاصد الشريعة: 80.
أقسام المصلحة
القسم الأول: المصلحة التي قام دليل على اعتبارها واعتبرها الشارع وهي في نفسها ثلاثة أقسام:
أ) مصالح ضرورية وهي التي يتوقف عليها قيام مصالح الناس في حياتهم الدينية والدنيوية وإذا اختلت لم يستقم أمر هذه الحياة ، وحفظ هذه المصالح يكون بالمحافظة على الأمور الخمسة: الدين ، والنفس ، والعقل ، والمال ، والنسل.
وهذه مصالح تتولد عنها الأحكام كالحكم بتحريم كل ما يفسد العقل، مما لم يكن له وجود في عصر النبي عليه الصلاة والسلام.
ب) مصالح حاجية وهي التي يحتاجها الناس لرفع الحرج عنهم ، فلو فاتت هذه المصالح لم ينخرم ولم يضطرب حبل النظام في الحياة ، ولكن يحصل العنف والحرج ، والدين يسر لا عسر.
ج) ومصالح تحسينية وهي التي تكون من قبيل محاسن العادات وسمو الأخلاق كالتجمل بلبس الثياب الجديدة في الأعياد والمحافل والاجتماعات وكنبذ أكل ما فيه رائحة كريهة عند غشيان المجتمعات. وهذه المصالح التحسينية لا اعتبار بها في الاستنباط.
القسم الثاني: مصالح لم يعتبرها الشارع وألغاها ، إذ أقام الدليل على الغائها؛ لأنه وضع أحكامًا تدل على إهدارها ضرورة أن الشرع الإسلامي لا ينظر إلى مجرد مصلحة الفرد ، بل ينظر إليها من زاوية مصالح الآخرين ، أي: مصالح المجتمع بصفة عامة ، فهو لا يترك الحبل على الغارب في تصرفات الأفراد ولا يهمل شأن المصالح العامة تلقاء المصالح الذاتية الفردية ، وتراه من أجل المصلحة الاجتماعية ولمنفعة جماعة المسلمين يحد من بعض تصرفات الأفراد ، ويضحي بالبسيط من الأمر لفائدة الهام والمهم. وهذا ما يرشد إليه قوله عليه الصلاة والسلام:((لا ضرر ولا ضرار)) فهذا الحديث لفظه خبر ، والمراد منه النهي عن الإضرار بالناس ابتداء ، وعن رد الفعل بمضارتهم بسبب ما وقع منهم من ضرر ، فلا يجازي المسلم أخاه لإدخال الضرر عليه ، وهذه قاعدة مهمة جدا ، بنيت عليها كثير من الأحكام الشرعية.
ومن أمثلة هذه المصالح الملغاة إبرازًا لما نحن بصدده وإيضاحًا له نذكر:
1) حقوق الجواروالكشف ، فقد تعرض الفقهاء إلى أنه ليس للجار أن يستعمل حقه بحيث يترتب على هذا الاستعمال ضرر لجاره. وقد منع سحنون رضي الله عنه صعود الصومعة إذا كان في ذلك كشف على المحلات والدور المجاورة.
وقد جاء في الحديث المتفق على صحته الذي رواه مالك في الموطأ، ورواه الإمامان البخاري ومسلم:
عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبته في جداره)) .
ثم يقول أبو هريرة: مالي أراكم عنها معرضين ، والله لأرمين بها بين أكتافكم.
يقول الإمام البغوي (1) هذا حديث متفق على صحته ، أخرجه محمد بن عبد الله بن مسلمة ، وأخرجه مسلم عن يحيى ، كلاهما عن مالك. والعمل على هذا عند بعض أهل العلم. قالوا: إذا بنى الرجل بناء ، فاحتاج فيه إلى أن يضع رأس الخشب على جدار الجار ، فليس للجار منعه ، وإليه ذهب الشافعي في القديم ، وهو قول أحمد.
وذهب الأكثرون إلى أنه لا يجبر الجار عليه ، والخبر محمول على الندب والاستحباب وحسن الجوار وهو قول مالك وأصحاب الرأي وعامة أهل العلم وقول الشافعي في الجديد. اهـ.
وعلى هذا الرأي الأخير العمل لدى القوانين الوضعية، ومنها القانون التونسي.
ومن مظاهر ذلك حرمة الطريق وعدم الاعتداء عليه وعدم حيازته وفي قضاء فقهاء المسلمين ما يوضح ذلك:
(1) البغوي: فقه السنة 8/ 246.
اختلف رجلان جاران في أمر ، وهو أن أحدهما أحدث "دكانة" بالطريق لصق باب داره ليجلس عليها مع أصحابه يتحدثون ويتسامرون ، فتعرض له جاره ، وطلب منه إزالتها ، إذ لا حق له في إشغال الطريق بهذه الدكانة ، ولما احتد الخلاف بينهما ، اتفقا على رفع أمرهما إلى قاضي القيروان حماس بن مروان الهمذاني (1) قاضي الجماعة في عهد الأمير زيادة الله الأغلبي ، وقصداه وعثرا عليه في الطريق حاملًا لجرة ماء ، فاستوقفاه وأشعراه بأنهما يريدانه لأمر بينهما ، وطلبا منه أن يسمع منهما ، فرحب بذلك ، وأمرهما ببسط ما يتشاجران فيه ، ثم وضع جرة الماء على ركبته ، وتهيأ للسماع ، فطلبا منه أن يستريح وأن يضع الجرة على الأرض ، فقال: إن الطريق جعل للمارة ، ومن حقي أن أمر منه ، وليس من حقي أن أشغله بجرتي ، وإن فعلت أكن قد تجاوزت حقي ، وألحقت الضرر بالناس ، وهذا لا يجوز.
فوليا عنه شاكرين قائلين: إنك قضيت بيننا ، ولو أنك لم تسمع مقالتنا. وذهبا لحالهما ، وأزال صاحب الدكانة دكانته ، ورجع إلى الحق ، وعدل عن تجاوزه.
3) ويندرج تحت هذا حرمة المساكن؛ لأنها ملك للغير ، لا يجوز للناس حتى دخولها بدون موافقة أربابها.
4) الحجر على فاقدي الأهلية والسفهاء.
5) حق الشفعة.
6) الانتحار فهو ممنوع مطلقًا وقد تكون فيه مصلحة ومنفعة ، كأن يكون مريضًا يعاني من الآلام من جراء مرض ميؤوس من شفائه ، وهذا يحدث الآن في غير بلاد الإسلام ، وقد يقتل المريض شفقة عليه.
7) مصلحة الجبان في عدم خوض المعركة والهروب من الميدان أو الاستسلام للعدو وذلك محافظة على نفسه وهذه ألغاها الشارع طالبًا بذل النفس في سبيل عزة كلمة الله.
(1) القاضي حماس بن مروان ولي القضاء في رمضان سنة290 هـ/902 م بالقيروان من طرف زياد الله الأغلبي. قال الشيخ الجودي عنه في كتابه تاريخ قضاة القيروان: وكان لولايته فرح شديد ، إذ كان من أفضل القضاة وأعلمهم ، حسن الفطنة والنظر ، وكانت أيامه أيام حق وعدل ، وقص القصة أعلاه. توفي سنة 304 هـ/ 916 م ودفن بالقيروان.
8) لا يمكن الحكم بقطع أصبع شاهد الزور ، وإن كانت المصلحة ظاهرة ، منعًا له من التمادي في الباطل وزجرًا أو ردعًا لغيره ، لكن الشارع ألغى هذه المصلحة وردها؛ لأن التشريع الإسلامي قرر حفظ النفوس والأبدان إلا بحدود جاءت بها أحكام هذا التشريع.
9) جاء في رسائل الإصلاح للعلامة المرحرم الشيخ محمد الخضر حسين أن الشارع لا يلغي مصلحة إلا إذا عارضتها مصلحة أرجح منها.
ومن هنا نلاحظ العناية الفائقة باحترام النصوص وبحسن تطبيقها وعدم مسايرة المصالح العارضة لإهمال هذا التطبيق الحازم وظاهر أن حسن تطبيق النص أفضل من جهة المصلحة وأعمق أثرًا وأكثر خيرًا من احترام بعض الاستثناءات العارضة وخرق النص من أجلها.
وهذا ما يحدث الآن لبعض رجالات القضاء عند تطبيق النصوص الجامدة الجافة التي لم تترك فرصة للقاضي بأن يفسرها أو يؤولها لفائدة بعض المصالح الظاهرة الواضحة التي قد تهدر عند تطبيق النص واحترام حرفيته.
فالخصم الذي يطرق باب الاستئناف مثلًا بعد مضى الأجل يوجب النص على القاضي رفض مطلبه شكلًا ومنعه من الدخول في تفاصيل القضية وسبر أغوارها؛ لأن باب الاستئناف لم يفتح في وجهه بسبب شكلي. جاء القانون الحازم قاضيًا باحترامه وعدم إلغائه.
فإذا اطلع القاضي رغم ذلك على ما يحويه الملف واتضح له حصول غلط في القضاء الابتدائي ، فهل يسوغ له لمصلحة إصلاح هذا الغلط وإنصاف هذا الخصم المتظلم الذي تهاون في طلب الاستئناف في أجله أن يفتح الباب وأن يقبل عنه الاستئناف رغم النص الحازم الشديد القاضي بالرفض تقديمًا للمصلحة على المفسدة.
الجواب بالنفي طبعًا؛ لأنه من الخير للناس أن تحترم النصوص وأن تطبق تطبيقًا سليما من أن تتلاعب بها الأهواء ، وقد يكون هذا القاضى المحاول للإصلاح والتدارك هو المخطئ في نظرته ، والأول هو المصيب.
ومن هنا جاء تمسك الفقهاء من المسلمين بحرمة النص ورعايته وعدم اللجوء إلى الاجتهاد مطلقًا في فهمه وتأويله متى كان قطعي الثبوت قطعي الدلالة واضح المقصود.
من ذلك مثلًا ما أفتى به بعضهم لبعض السائلين الأثرياء من أن كفارة جماع الزوجة في رمضان هي الصيام دون غيره. ولما قيل له في ذلك ، قال: إن مثل هذا الثري يمكنه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة ، ولكن الواجب حمله على أصعب الأمور. قال الشاطبي: هذا مخالف للإجماع (1)
وهو قبل ذلك مخالف للنص. والفتوى لا تجوز بما لم يأت به نص.
10) المثال العاشر إلغاء الشارع مصلحة صاحب المال في إنماء ثروته بالربا.
11) حرمان بعض الأزواج من إرجاع مطلقاتهم في بعض الصور.
والأمثلة كثيرة لا تدخل تحت حصر ، وما قدمناه منها يوضح ما قصدنا إليه.
القسم الثالث: مصلحة لم يقم دليل على اعتبارها ولا على إلغائها ، وأرسلها الشارع فلم يقيدها ، من أرسل الشيء؛ إذا أطلقه ، وهذا المسلك في التشريع وابتناء الأحكام عليه هو من محاسن الشريعة الإسلامية السمحة.
اختلاف الفقهاء في تعريف هذه المصلحة:
يعرفها بعضهم بأنها هي التي لم يقم دليل من الشارع على اعتبارها ولا على إلغائها وإنما سميت مرسلة؛ لأن الشارع أرسلها فلم يقيدها باعتبار ولا إلغاء. وذهب الإمام مالك رضي الله عنه إلى اعتبار هذه المصلحة كنظائرها عند تحققها.
ويلاحظ آخر بأن المراد أن أمر تقدير المصلحة موكول للاجتهاد والرأي دون اعتبار الشارع لها أو عدم اعتباره.
ويلاحظ ثالث أن المراد ألا يتقيد المجتهد في حكمه على ما يحدث من القضايا ويستجد من الأحداث المختلفة بالقياس على أصل منصوص عليه وأن تقيد بالمصالح والمقاصد والأهداف التي يرمي الشارع إليها.
والاختلاف في الأخذ بها:
كل المذاهب تأخذ بالمصلحة وكلها تستند إليها بقلة أو كثرة ، وللمالكية القدح المعلى.
(1) الشاطبي: الاعتصام 2/ 98.
يقول شيخنا المنعم محمد العربى الماجري رحمه الله في دراسة له قيمة نشرها بمجلة جوهر الإسلام عدد1- 2 سنة أولى 1388 /1986.
: قد رأينا أن العمل بالمصلحة قد ترجح بكثرة دلائله ، فعمل بها في سائر المذاهب مع الاختلاف في القدر ، فيكون القول بالنعم غير بين ، لهذا تصدى شهاب الدين القرافي لبيان هذا السر ، وإليك زبدته:
إن السر في ذلك الإعراض عن تقرير هذا الأصل تقريرًا صريحًا واضحًا في ابتناء الأحكام عليه مع اعتبارهم له في الواقع ، هو الخوف من استناد أئمة الجور عليه ، وجعله حجة يصلون بها إلى تحقيق أهوائهم وإرضاء شهواتهم في دماء المسلمين وأموالهم.
لذا أرجعوا جميع الأحكام إلى النصوص ولو بأقيسة خفية وبناء على هذا يكون عدم نسبته للقائل به الخوف من طلب الإفتاء منه على وفقه عندما تدعو الحاجة إلى ذلك.
يقول الشيخ الماجري: ورأيي أن هذا التوجيه بعيد ، إذ تواطأ جمهرة العلماء على إهدار هذا الأصل وعدم العمل به لتوهم ذلك الاستغلال مع ما في هذا الأصل من التبسط في ابتناء الأحكام عليه بطريق ميسور ، وكيف يصح ما قالوا ، والغزالي من رجال الطبقة الثانية في التأليف في الصناعة الأصولية بعد الإمام الشافعي وقد بسطه مع وضوح وسلامة في التعبير يعسر الظفر بمثيل له ، فالظاهر أن السر هو تمسك السلف بالاعتماد على الكتاب والسنة والإجماع والقياس والبعد عن الاعتماد على الرأي ، ألا ترى ابن حزم لهذا السبب أعرض حتى عن القياس ، وقد توسم في كتابه الإحكام في إبطاله بما يساوي جزءًا خاصا. وقال في الإحكام ما مجمله: إن الاستصلاح والاستحسان والرأي لا يجوز الاستناد عليها. انتهى كلام الشيخ الماجري.
يقول شيخنا الأستاذ الإمام محمد الطاهر بن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية ص 47:
وبعضهم نفى الاعتماد على القياس وعلى المصلحة (الظاهرية) وهم يقعون بذلك في ورطة التوقف عن إثبات الأحكام فيما لم يرو فيه عن الشارع حكم وهو موقف خطير يخشى على المتردد فيه أن يكون نافيًا عن شريعة الإسلام صلاحها لجميع العصور والأقطار. انتهى.
والعلماء فيما يظهر ينقسمون في شأن هذه المصالح التي يمتطونها للوصول إلى أهدافهم ، ومنها الانتزاع ، الموضوع الضيق لدراستنا ، ينقسمون إلى عدة شعب:
أ) نفي الاستصلاح والاقتصار على اتباع كل معنى له أصل.
ب) جواز اتباع وجوه الاستصلاح إذا لم يكن هناك نص من كتاب أو سنة أو إجماع يصادمه.
ج) التمسك بالمعنى وإن لم يكن فيه نص على شرط قربه من معاني الأصول الثابتة.
د) نظرية الطوفي التي تعتمد أن المصلحة هي مقصود الشارع ومن ثم فهي أقوى أدلته وأخصها وإذا عارض النص أو الإجماع المصلحة ، فإنها تقدم ، هذا في المعاملات ، لا في العبادات.
ومن المعلوم المتفق عليه أن المجتهد الذي تعرض له قضية ينظر عند البحث عن حل لها وجواب مقنع للسائل عنها من الكتاب والسنة ، فإن لم يجد فيها ، فزع إلى إعمال الرأي ، وأقوى دعائمه القياس. وهذا ما أشار إليه الحديث المشهور حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الذي رواه أبو داود والترمذي والإمام أحمد وهو ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعثه قاضيًا على اليمن قال له: كيف تقضى إذا عرض لك قضاء؟ فقال: أقضي بكتاب الله. قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو.
فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدر معاذ ، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله)) (1) والمراد بقول معاذ رضي الله عنه: أجتهد رأيي. القياس طبعًا؛ لأن معنى أجتهد: أبذل الجهد في معرفة الحكم بالقياس على النصوص الواردة بالكتاب العزيز أو بالسنة الكريمة ، وليس المراد به الرأي الذي يلوح به من قبل نفسه أو يخطر بباله ولا يستند إلى أصل منها ، إذ لا بد أن يكون اجتهاد الرأي مرده إلى أصل من الدين وإلا كان رأيًا مرسلًا. لا مستند له ، والرأي المرسل لا عبرة ولا اعتداد به في الأحكام الشرعية.
(1) مال إلى صحة هذا الحديث غير واحد من المحققين ، منهم أبو بكر الرازي وأبو بكر بن العربي والخطيب البغدادي وابن قيم الجوزية. وهذا حديث جامع لعدة مبادئ في طريقة أخذ النصوص وفهمها وتأويلها وإعمال الرأي والاجتهاد.
ونلاحظ أن في هذا الحديث ما يرشد إلى تشريع الامتحان بل المناظرة لانتخاب القاضي من بين المترشحين حفظًا لهذه الخطة وصونًا لها ورعاية لمصالح الناس وحقوقهم من أن يسند النظر فيها إلى غير الأكفاء.
ونلاحظ أن وجود القياس واعتباره كمصدر من مصادر التشريع عند غالب المذاهب وإن خالف فيه بعضهم كابن مسعود وبعض أهل الظاهر ، فهو من أبرز الأدلة على سمو التشريع الإسلامي وسماحته ويسره وملاءمته لكل العصور ، ذلك أن أحكام المعاملات تتغير بتغير الأحوال ، فلزم الالتجاء إلى القياس ، ومن ثم مراعاة مصالح الناس. قال سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور.
والشريعة الإسلامية في مجموع أحكامها وعامة عناصرها وكافة أسسها إنما هي معقولة المعنى واضحة الغاية جلية الإدراك وهي تشرح أسباب الأحكام وتعلل التحريم والإباحة والندب والترغيب ثم هي تعتمد قواعد جامعة ، لها أصل من الكتاب والسنة وتعتمد لكل باب من أبواب الفقه أصولًا عامة يمكن إرجاعها إليها.
وهذا ما اعتمده الفقهاء وقرروا إخضاع المسائل المعروضة عليهم إلى تلك الأصول وقياسها عليها ولو لم يكن فيها نص سابق نظرًا لاتحاد علة الحكم وتشابه أوجه الأمر وفي ذلك يسر لا يضارعه أي يسر.
فإذا اهتدى الفقهاء إلى وصف مناسب في فعل منصوص على حكمه أمكن لهم القياس فيما يجد ويحدث من الأحداث وهي تنزل كل يوم بل كل ساعة ، والمشاكل تطرح نفسها ، وأصحابها يطالبون بالحلول.
فإذا حدث فعل ولم يوجد له نظير نص عليه ويمكن القياس عليه أي بالتعبير العصري إذا طرحت مشكلة لم يسبق فقه قضائي نظري أو حكمي فيها ، فما هو العمل؟
فهل نحكم هنا باعتبار ما يترتب من جلب منفعة أو دفع ورد مضرة ، أي برعاية المصلحة المطلقة المرسلة التي لا تتقيد رعايتها فيما جد من الأعمال بنظير سابق منصوص عليه وعلى حكمه أو بوجود وصف في الفعل المحكوم عليه سبق أن شهد الشارع باعتباره؟
هذا هو مناط البحث بين الفقهاء ، فالعمل بالمصلحة المرسلة يفيد تعليل الأحكام في الأفعال التي لم ينص على حكمها بالمصالح المشروعة المترتب عليها أو بضوابط ومعايير اجتهادية ، هي أوصاف مناسبة مرسلة في الأفعال المحكوم عليها لم يشهد الشارع بإلغائها كما أنه لم يشهد باعتبارها بأي وجه من الوجوه.
يقول شيخنا الأستاذ الإمام محمد الطاهر بن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة: (1)
"لا شبهة في صحة الإسناد إلى المصالح المرسلة لأنا إذا كنا نقول بحجية القياس الذي هو إلحاق جزئي حادث لا يعرف له حكم في الشرع مجزئ ثابت حكمه في الشريعة والمماثلة بينهما في المصلحة المستنبطة وهي مصلحة جزئية ظنية غالبًا لقلة صور العلة المنصوصة. فلأن نقول بقياس مصلحة كلية حادثة في الأمة لا يعلم لها حكم في الأثر على كلية ثابت اعتبارها في الشريعة استقراء أدلة الشريعة الذي هو قطعي أو ظني قريب من القطعي أولى بنا وأجدر بالقياس وأدخل في الاحتجاج الشرعي.
أمثلة:
ولنذكر أمثلة عامة باختصار للأخذ بقاعدة هذه المصالح تمهيدًا لما نحن بصدد دراسته وبحثه وتحقيقه بصفة عامة شاملة.
1) لا شك ولا خلاف أن الشارع متشوف لإثبات الأنساب وللمحافظة عليها ، ولذا جاءت شهادة الشهود في عقود الأنكحة وأخذت بذلك التراتيب الإدارية الوضعية ، فقانون الحالة المدنية يشترط شهادة شاهدين يحضران العقد ويصرحان بخلو الزوجين من الموانع الشرعية. ومما لا شك فيه ولا ريب أن شهادة الزور انتشرت وتفشى عدم التحري والجري وراء العواطف السطحية على حساب الأخلاق والأنساب مما تكفي الإشارة إليه بلا إطناب.
(1) ابن عاشور: مقاصد الشريعة: 86.
وحينئذ فالواجب يقتضي تسجيل عقود النكاح وإثباتها إثباتًا منظما محافظة على الأسرة والأنساب ، والمصلحة تدعو إلى هذا ، وهي مصلحة مطلقة مرسلة راعاها الشارع من جهة حثه على المحافظة والعناية بالإنسان والنسل ، ولا يمكن بحال أن نترك الحبل على الغارب ، فلا نأمر بتسجيل عقود الأنكحة ، ولا ننهى عن العقود العرفية بعلة أنه ليس هناك نص ، وأنه ليس هناك فعل مماثل منصوص عليه وعلى حكمه نقيس عليه ، خاصة إذا كنا أمام الواقع وأمام قوانين الحالة المدنية العصرية التي توجب تسجيل عقود الزواج ولا تعترف بغيرها من العقود المدعى وقوعها على العرف والعادة فالتشريع الإسلامي والفقه المنبثق عنه سباق للأخذ بما فيه مصلحة وخير ومنفعة ، لا أن يقف في سبيل ذلك.
2) وهذا أيضًا يقال في عقود البيع وخاصة عقود بيع العقار.
فالشارع يدعو إلى المحافظة على المال وينهى عن أكل أموال الناس بالباطل ويحرض الناس على الإصداع بالحق وعدم كتم الشهادة ويحرضهم على الإشهاد في تعاملهم المدني في آية التداين اجتنابًا لكل الخصومات وبعدًا عن الخلافات والمشاجرات والنزاعات.
وهذه الآية الكريمة التي هي دستور وسائل الإثبات ومصدر التشريع في موضوعها جاءت آمرة بالإثبات.
فحمل الناس حينئذ على تسجيل عقودهم حفظًا على مصلحة شرعية من غير قياس على فعل مماثل أو إلزامهم بذلك لوجود وصف مناسب يترتب على ربط الإلزام به تحقيق مصلحة شرعية هو من باب مصالح الخلق ورعاية منافعهم واتباع مقاصد الشريعة ، وفي كل ذلك عمل بالمصلحة وأخذ بها.
3) وهناك مثال آخر فرضته الظروف وجاءت القضايا النازلة والحوادث الواقعة ثم التراتيب المعاصرة المعمول بها في كافة البلدان وهو موضوع تسجيل العقار باسم صاحبه حفظًا له وصونًا من كل نوائب الدهر.
هذا الموضوع الذي كنا أشرنا إليه إشارة عابرة هو من أجل وأعظم المنافع التي تهم الأملاك العقارية ، فالقوانين الآن تفرض تسجيل العقار وترسيمه بالسجل العقاري وتجعل حقوق المالكين غير معتبرة بالنسبة لغير المتعاقدين.
فإذا باع أحدهم عقارًا لشخص ، وهذا أهمل ترسيمه بالسجل العقاري ، وحدث أن باعه صاحبه مرة أخرى ، فالمشتري الجديد إذا رسم شراءه ، كان هو المالك ، وضاع حق المشتري الأول ولم يبق له إلا الرجوع على صاحبه البائع له ، أما العقار فهو لمن سجله ورسمه.
وطبيعي أن يعتبر هذ الإجراء السليم المطهر للعقار خاضعًا للمصلحة مطبقًا لمقصد الشريعة السمحة (1) .
(1) جاء في كتب التاريخ عن سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: شكا رجل من بنى مخزوم أبا سفيان لعمر بن الخطاب بدعوى أن أبا سفيان ظلمه في حد مشترك بينهما ولزم إجراء توجه عيني من القاضي يحضره الخصمان والشهود وتجري فيه المعاينات وتحدد الحدود. وتوجه عمر رضي الله عنه مع المتداعيين إلى المكان الذي تنازعاه ، وأجرى أبحاثه وأدرك بفراسته واستنتج مما سمعه صدق الشكوى ، فأمر أبا سفيان بأن ينقل الحجر دلالة الحد وأن يرده إلى مكانه الصحيح ، فأخذه ووضعه في مكانه الأصلي. ومن هنا نفهم أن تحديد العقارات وجعل علامات حجرية دالة على الحدود هو أمر عرفه المسلمون في صدر الإسلام ومارسوه ماديا وهم يسبقون بعدة قرون ما وضعه (تورانس) الاسترالي منظم تسجيل العقار في العصر الحديث. وفعلًا فإن عمر رضي الله عنه كان أنشأ ديوان الأموال الذي تحصى وتسجل فيه الأراضي والعقارات.
اختلاف المذاهب
في الأخذ بهذه المصلحة
العلماء والأئمة والفقهاء متفقون على أن أمور العبادة لا يعتد فيها إلا بالنص.
يقول الشاطبي (1) إن الشارع لم يكل شيئًا من التعبدات إلى آراء العباد ، فلم يبق إلا الوقوف عند حده ، والزيادة عليه بدعة ، كما أن النقصان منه بدعة. اهـ
وسبق أن قلنا: إن التشريع الإسلامي كان ثابتًا في ميدان العقيدة وأمور العبادة وأصول الأخلاق وما إلى ذلك ، وحصل شبه الاتفاق على الاقتصار على النص في هذه المسائل.
وهو متطور في ميادين المعاملات المدنية والاجتماعية والتجارية بالأخص في كل ما يمس حياة التعامل بين الناس في معاشهم وحياتهم اليومية.
وفي المعاملات اختلف العلماء في اعتبار المصلحة ، أخذ بها قوم ، وذهب آخرون إلى عدم الاعتداد بها ، ونشأ بسبب هذا الاختلاف أو الخلاف تأثير على الفروع الفقهية بين المذاهب.
الرأي الأول: الذي يذهب إلى جواز العمل بالمصالح المرسلة وهو رأي مالك بن أنس رضي الله عنه يقول أبو الحسن علي الآمدي: قد اتفق الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم على امتناع التمسك بالمصلحة المرسلة ، وهي الحق ، إلا ما نقل عن مالك أنه يقول بها مع إنكار أصحابه ذلك عليه ، ولعل النقل إن صح عنه ، فالأشبه أنه لم يقل بذلك في كل مصلحة ، بل فيما كان من المصالح الضرورية الكلية القطعية ، ومثل لذلك ، كما إذا تترس الكفار في الحرب بأسرى المسلمين. وقد رد على الآمدي شيخنا المنعم محمد العربي الماجري في دراسة له منشورة بمجلة جوهر الإسلام التونسية لصاحبها المغفور له العلامة الحبيب المستاوي قائلًا: ادعاء الآمدي أنه لم يقل بالمصلحة المرسلة فقهاء الشافعية والحنفية وغيرهم فهو ينفيها عما عدا مالك ، والواقع خلافه ، إذ ما من مذهب إلا وفيه من يقول بها ، وهو يدعي أن الفقهاء المالكية ردوا على إمامهم ، ولم يذكر لنا ولو واحدًا منهم ، وهو الواقع. والواقع أن عدة شبه نسبت لمالك وهو منها بريء.
ققالوا: إنه قال: يقتل الثلث لإصلاح الثلثين. وهذا لا أصل له. أنكر ذلك الشهاب القرافى والتاودي وغيرهم ، ونسبوا إليه قطع العضو في التعزير ، ولا أصل له في المذهب ، ونسبوا إليه: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور ، وهو غلط ، فالنص نقله مالك نقلًا ، ونسبه الزقاق والتاودي في شرحه للزقاقية لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. .
(1) الشاطبي: الاعتصام: 2/ 316.
يشترط لذلك ثلاثة شروط:
أ) أن تكون متفقة مع مقاصد الشرع ولا تنافي أصلًا من أصوله ولا دليلًا من أدلته.
ب) أن تكون معقولة في ذاتها تتلقاها العقول بالقبول متى عرضت عليها.
ج) أن يكون في الأخذ بها حفظ أمر ضروري أو رفع حرج لازم في الدين لقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [سورة الحج: 78] .
ثم إن مالكًا رضي الله عنه يستدل على هذا الجواز بأكثر من دليل:
1) إن التشريع الإسلامي عودنا بأنه بني وأسس على المصالح مع إيضاحها أحيانًا وتبيانها وتسهيل فهمها على الناس.
قال الله سبحانه وتعالى:
{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الآية 6 من سورة المائدة] .
فالقرآن يعلل سبب الدعوة والأمر بالوضوء بوجود مصلحة عامة هي التطهر. وهو يدعو الناس لإقامة الصلاة والمحافظة عليها؛ لأن في ذلك مصلحة عامة وكبيرة بينها وشرحها في قوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} . [العنكبوت الآية 45] .
2) إن في الأخذ بالمصالح دليلا على اتباع منهاج التشريع الإسلامي وهو المرونة واليسر والسهولة والاحتياط.
فالناس تختلف مصالحهم الدنيوية ومعاملاتهم المدنية وتتغير بتغير الزمان ولا يمكن حصرها ولا سبيل إلى تقصيها وفرض وضبط أحكام جامعة لها، ولا يمكن حينئذ الوقوف عند الحوادث التي حدثت في عهد التنزيل وفي صدر الإسلام ، إذ من شأن هذا تضييق المحيط التشريعي والحيلولة بين الناس والتفكير في تيسير سبل معاشهم والتماس أفضل الوسائل توصلًا إلى الأغراض الشريفة والمصالح النافعة في حياتهم الدنيوية هذه.
ومن شأن هذا التضييق إلحاق المضرة بالناس وبمصالحهم وبسير دواليب المجتمع بصفة عامة ، والدين يسر لا عسر.
فكان من الواجب ومن اللازم التوسع في استنباط الأحكام وابتنائها اعتمادًا على مقاصد الشريعة الإسلامية وشواهدها الجامعة المرشدة والدالة على الطريق بما وضعته من منارات توضح السير ويجب عدم الوقوف عند الجزئيات الفردية الحوادث الخاصة والشواهد المفردة.
وهذا بدون شك ولا ريب ضرب من محاسن هذه الشريعة السمحة ومن أسباب مرونتها وتطورها وصلاحيتها لكل زمان ومكان ولكافة شرائح المجتمع أي مجتمع.
3) إن علماء الأصول يجعلون الركن المهم في القياس هو العلة وما بني عليه الحكم في الأصل وتحقق في الفرع.
فالفقيه يعلل الأحكام بأوصاف في الأفعال المحكوم عليها مناسبة تلك الأحكام.
والمجتهد إذا وجد العلة التي بني عليها الحكم في الأصل متحققة أمر لم يرد فيه نص لزم بطريق القياس أن يكون الحكم في هذا الفرع مماثلًا للأصل الوارد فيه نص ، ومن هنا جاء ما يعرف بتوليد الأحكام بطريق القياس.
فالخمر نص على حكمه بالحرمة لعلة الإسكار، ونبيذ الشعير أو التمر المسكر فرع لم ينص على حكمه ، فإذا وجدت العلة التي بني عليها الحكم في الأصل متحققة في الفرع ، لزم بطريق القياس أن يكون الحكم في الفرع مثله كالأصل.
فقد ورد في الحديث المتفق على صحته الذي أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه ، فإن ذلك يحزنه)) وعلة ذلك لئلا يقع في نفسه الشك بأنهما يتناجيان ضده أو يبديان رأيا فيه أو لا يثقان في أمانته وحفظه للسر.
فهذا أصل يقاس عليه حرمة الكلام ومنعه بين اثنين بلغة لا يفهمها ثالثهما متى كانا يحسنانها طبعًا.
فالصلة قد وجدت وتحققت في فرع لم ينص عليه ، فيحكم فيه بمثل حكم الأصل.
وقد صح عن عائشة رضي الله عنها: ((إنا كنا أزواج النبي عليه الصلاة والسلام عنده ، فأقبلت فاطمة رضي الله عنها ، فلما رآها رحب بها ثم سارها)) . أخرجه البخاري. يقول البغوي: ففيه دليل على أن المسارة في الجمع حيث لا ريبة ولا شك جائزة، والله أعلم. ج 3 ص 91.
ومن المعلوم أن القياس أصل هام من أصول التشريع يقول بعض علماء الأصول: نظير الحق حق ، ونظير الباطل باطل ، وهو معمول به من طرف الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين بصفة عامة.
وقد أنكره إبراهيم النظام المعتزلي (221هـ) وداود الظاهري (270 هـ) وحاربه ابن حزم (456 هـ) وبالغ في إنكاره ، وألف رسالة سماها" إبطال القياس". وتبعا للقياس يلاحظ أن الشارع أثر عنه تعليل الأحكام بالمصالح المترتبة عنها.
وإذا صح القياس بناء على تعليل الأحكام من طرف الشارع بالأوصاف المناسبة كما شرحنا سابقًا وجب تبعًا لذلك أن يصح اعتبار المصلحة المطلقة والمرسلة؛ لأن الشارع علل كثيرًا من الأحكام بالمصالح الناجمة عنها.
وهذه أمثلة لما ذكرنا:
أ) علل وجوب الوضوء بالطهارة ، وعلل وجوب الصلاة بما يترتب على حسن أدائها من البعد عن الشرور والآثام.
ب) وعلل النهي عن شرب الخمر ولعب الميسر باتقاء المضار المترتبة عليها.
قال سبحانه وتعالى:
ج) وعلل قسمة الفيء على ذوي الحاجة وعدم قسمته كما تقسم الغنائم بحسن توزيع الثروات وعدم تجمعها في يد واحدة وعدم تكون الطبقات بعيدة المستوى.
قال جل من قائل:
ومن أمثلة ذلك في السنة قوله عليه الصلاة والسلام للمغيرة بن شعبة وقد خطب امرأة لم يشاهدها ((انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)) . فعلة النظر واضحة جلية يمكن القياس عليها متى وجدت هذه العلة ولم يؤثر النص.
4) ونجد الشارع يدعو دومًا إلى المحافظة على النفس والمال والنسب والعقل ، والمجتهدون يقيسون بناء على ذلك عدة أمور وجدت فيها الأوصاف التي علل بها الشارع بأوصاف مشابهة.
ومثال ذلك تحريم المخدرات بناء وقياسًا على تحريم الخمر لجامع فقد العقل وعدم المحافظة عليه.
وحينئذ فالمجتهد عندما يراعي المصلحة في حادثة ما لا يعدو في الواقع أن يكون قد قاس على الأعمال التي أقرها وارتضاها الشارع لتحقيق هذه المصالح بناء على تعليل الأحكام بالمصلحة المترتبة عليها حين تعذر تعليلها بأوصاف مناسبة في أفعال منصوص على حكمها.
ونرتب على ذلك أن الشارع قرر أحكامًا وعللها بالمحافظة على النسل والمال ، فنقول: إن المصلحة تدعو إلى تسجيل عقود الزواج ، وفي ذلك حفظ للأنساب والنسل ، لا شك فيه ، وخاصة في زمن أصبح فيه ضمير الشاهد يشترى بالمال ، والمصلحة كذلك ، تدعو لتسجيل عقود بيع العقارات؛ لأن في ذلك حفظًا للمال وإقرارًا للنظام في هذا المجتمع المتقلب.
5) والدليل الخامس الذي يستند إليه القائلون بجواز الأخذ بالمصالح المرسلة هو جريان العمل.
(1)[الحشر:7] .
فالصحابة رضوان الله عليهم راعوا المصالح ورتبوا عليها أحكامًا من غير قياس على حوادث خاصة حدثت زمن التنزيل:
أ) فهذا أبو بكر رضي الله عنه جمع صحف القرآن المتفرقة ، ولم يجمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك فيما روى الإمام البخاري عن عبيد بن السياق أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إلي أبو بكر الصديق رضي الله عنه مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عنده ، فقال: إن القتل قد اسحعر يوم اليمامة بقراء القرآن ، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن ، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن.
قلت لعمر: كيف تفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هذا والله خير.
فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت الذي رأى عمر ، قال زيد: قال لي أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك ، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتتبع القرآن فاجمعه. (1)
وأبو بكر رضي الله عنه يحارب مانعي الزكاة ولم يحارب أحد من قبل جماعة من المسلمين؛ وذلك لأن المصلحة مصلحة الجماعة دعت لهذه الحرب وهو نفسه رضي الله عنه يشرح العلة وسبب الحكم.
ب) وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يراعي المصلحة في أحكامه فقد أسقط سهم المؤلفة قلوبهم من الصدقات لزوال العلة ولوجود المصلحة ، كما أسقط لنفس الغرض حد السرقة في عام المجاعة كما منع بيع الإماء أمهات الأولاد.
روي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: كنا نبيع سرارينا أمهات الأولاد ، والنبي صلى الله عليه وسلم حي لا يرى في ذلك بأسًا ، وكذلك في زمن أبي بكر ، فلما كان عمر ، نهانا فانتهينا.
(1) ابن حجر: فتح الباري 10 /384.
وعن بريدة أنه قال:
كنت جالسًا عند عمر إذ سمع صائحة ، فنادى غلامه ، وقال له: انظر ما هذا الصوت. فنظر ثم جاء ، فقال: جارية من قريش تباع أمها. فقال عمر: ادع لي المهاجرين والأنصار. فلم يمكث ساعة حتى امتلأت الدار والحجرة ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد ، فهل كان في ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم القطيعة؟
قالوا: لا.
قال: فإنها أصبحت فيكم فاشية. ثم قرأ:
{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (1)
ثم قال: وأي قطيعة أفظع من أن تباع أم امرئ منكم وقد أوسع الله لكم؟
قالوا: فاصنع ما بدا لك.
فكتب إلى الآفاق: ألا تباع أم حر ، فإنها قطيعة ، وأنه لا يحل. فهو رضي الله عنه يجتهد ويتتبع مسالك العلة ويراعي المصلحة ، ويستشير أصحابه ، ويبدي رأيه معللًا إياه بما اقتضته المصلحة العامة ، ثم يأتي بالتنفيذ. فقد كان رضي الله عنه يفهم الإسلام ومقاصده ، ويطبق أحكامه بنظرة واعية وبصيرة نافذة وسعي لخير الأمة وتحقيق مصالحها العامة.
ونقل أن سيدنا عليا كرم الله وجهه هم بالإذن ببيع أمهات الأولاد ، وقال: إن عمل عمر كان رأيًا وافقناه عليه ، فقال له قاضيه عبيدة السلماني: يا أمير المؤمنين ، رأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك. فقال علي: اقضوا كما كنتم تقضون ، فإني أكره الخلاف.
وسيدنا عمر رضي الله عنه يراعي المصلحة العامة ويقدمها على مصالح الأفراد ويتخذ الحكم المناسب.
(1) محمد: 22.
روي أنه كان يمارس تفقد أحوال المسلمين ويحرسهم حتى في الليل ، فمر ذات ليلة في المدينة وسمع امرأة تغني:
هل من سبيل إلى الخمر فأشربها
أو من سبيل إلى نصر بن حجاج
فسأل عن نصر هذا ، فإذا هو أصبح الناس وجهًا وأحسنهم شعرًا ، فأمر بقص شعره ، فلم يفقد حسنه ، فأمره بأن يعتم ، فازداد حسنًا ، فقال عمر: والله لا يقيم بأرض أنا فيها ، ونفاه إلى البصرة بعد أن سلمه ما ينفعه في سفره.
وما روته كتب السيرة يفيد أن عمر بن الخطاب قسى في حكمه هذا على هذا الشاب الذي جادله وقال له: لقد سمتني قتل نفسي. فقال عمر: كيف ذلك قال: إن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} (1)
فقرن قتل النفس بالنفي والخروج من الديار. فقال عمر: ما أبعدت ولكن أقول ما قال شعيب عليه السلام:
ثم قال له: ولقد أضعفت عطاءك ليكون ذلك عوضًا لك.
وقد حاول بعضهم تفسير موقف عمر هذا طبق مقاصد الشريعة وأحكامها في حرمة الناس وحرمة حرياتهم في أبدانهم وأموالهم خاصة إذا لم يقترفوا جريمة تعاقب عليها. يقول العقاد في كتابه عبقرية عمر:
" وفي القضية جور على نصر بن حجاج لا جدال فيه ، ولكن في سبيل مصلحة أكبر وأبقى ، أي في مصلحة عامة يرعاها الحكم العسكري في أزمنة كأزمنة عمر ويقضي فيها بما هو أعجب من إقصاء نصر بن حجاج يرعاها أحيانًا بمنع الإقامة بمكان ومنع المرور من طريق وتحريم تجارة لا حرام فيها ومراقبة إنسان يخشى أن يقترف جريمة وتقييد السهر بعد وقت معين من الليل.
ويقول عميد كلية عين شمس الأستاذ سليمان الطماوي في كتابه عمر بن الخطاب:
إن عهد عمر كان عهد تعبئة عامة لجميع الرجال القادرين على القتال ، ونصر بن حجاج شاب فيه فتوة ، وليس فيه ما يمنعه من الذهاب إلى ميادين القتال ، ولكنه بدلًا من ذلك بقي في المدينة يصفف شعره ويجالس النساء. حقيقة إن الجهاد في الإسلام يقوم على التطوع الاختياري ، ولكن أليس الخليفة ملزمًا بأن يحافظ على أعراض جنوده المجاهدين في سبيل الله.
(1) النساء: 66.
(2)
هود: 88.
وكيف يستقيم ذلك وكثيرات من نساء المدينة قد تغيب أزواجهن ، ومثل نصر بن حجاج يسرح بينهن ، إذن فليذهب إلى مدينة عسكرية كالبصرة تعج بالرجال الأشداء ، فلعله يراجع نفسه ويجاهد في سبيل الله؟
وأضيف إلى كلام السابقين خروجًا من التمحلات أن عمر رضي الله عنه راعى المصلحة ، ولما جادله الرجل رجع عن قراره كحاكم وأمير تنفذ قراراته وجوبًا إلى استرضاء الرجل ومنحه ما يكفيه وزيادة حتى يرحل عن البلاد ويكف الأذية عن أهلها ، وبذلك فلا نفي ولا إخراج ، ولا جبر ولا إخراج ، وكثيرًا ما رجع عمر رضي الله عنه إلى رأي غيره وسار مع الرأي المعارض ، وهنا يكون قد صرف من بيت مال المسلمين مالا لمصلحة عامة ، دعت إليها الضرورة الاجتماعية ، وأقام بفعله دليلًا آخر على ما نحن بصدد شرحه.
والنفي والتغريب عن البلاد من الأمور المتعارفة الآن ، وللقوانين الوضعية تفاصيل في شأنها ، أهمها عدم النفي إلى خارج تراب الجمهورية.
وفي قضاء عمر أيضًا اعتمادًا على الأصل العام ، وهو إباحة النافع وما فيه مصلحة ، ومنع الضار المضر بالمسلمين ولو لم يكن ذلك بالقياس على حكم معين في قضية سابقة.
ما رواه الإمام مالك في الموطأ عن عمر بن يحيى المازني ، عن أبيه ، أن الضحاك بن خليفة ساق خليجًا له من العريض ، فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة ، فأبى محمد ، فقال له الضحاك (1) .
(1) الضحاك بن خليفة بن ثعلبة الأنصاري الأشهلي شهد غزوة بنى النضير قيل: هو الذي قال صلى الله عليه وسلم: " يطلع عليكم رجل من أهل الجنة ذو مسحة من جمال زنته يوم القيامة زنة أحد ". فطلع الضحاك بن خليفة. والخليج: شبه ساقية قال ابن منظور في لسان العرب 3/ 81: الخليج: شعبة تتشعب من الوادي تنقل بعض مائه إلى مكان آخر ، والجمع خلج وخلجان. والخليج: نهر في شق من النهر الأعظم ، وهو يقتطع من النهر الأعظم إلى موضع ينتفع به فيه. وفي الحديث: أن الضحاك ساق خليجًا
…
وساق الأثر. والعريض: واد بالمدينة المنورة.
: لم تمنعني وهو لك منفعة تشرب به أولا وآخرا ، ولا يضرك. فأبى ، فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب ، فدعا عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة ، فأمره أن يخلي سبيله ، فقال محمد: لا. فقال عمر: لم تمنع أخاك ما ينفعه ، وهو لك نافع ، فتسقي به أولًا وآخرًا ، وهو لا يضرك؟ فقال محمد: لا والله. فقال عمر عندئذٍ: والله ليمرن به ولو على بطنك. فأمر عمر ، فمر به الضحاك.
وسيدنا عمر- رضي الله عنه في قضاء آخر له يعتمد ذلك. فقد جاء في الموطأ عن عمر بن يحيى المازني ، عن أبيه ، أنه قال: كان في حائط جده (وهو أبو الحسن تميم الأنصاري الصحابي)، ربيع - أي: جدول صغير – لعبد الرحمن بن عوف فأراد عبد الرحمن أن يحوله إلى ناحية من الحائط هي أقرب إلى أرضه ، فمنعه صاحب الحائط ، فكلم عبد الرحمن بن عوف عمر بن الخطاب في ذلك ، فقضى لعبد الرحمن بتحويله (1)
وهذا اجتهاد من الخليفة الثاني رضي الله عنه يقرر المبدأ والقاعدة بصرف النظر عن الأخذ بذلك في هذا الفرع من عدمه.
فقد علق الزرقاني بقوله: قضاء سيدنا عمر لأنه حمل حديث: ((لا يمنع أحدكم جاره خشبة يغرزها في جداره)) . على ظاهره ، وعداه إلى كل ما يحتاج الجار إلى الانتفاع به من دار جاره وأرضه.
روى ابن القاسم عن مالك: ليس العمل على حديث عمر هذا ، ولم يأخذ به ، وقال الشافعي في (كتاب الرد) لم يرد مالك عن الصحابة خلاف عمر في ذلك ، ولم يأخذ به ، ولا بشيء مما في هذا الباب ، بل رد ذلك برأيه.
(1) شرح الزرقاني على الموطأ 4/ 34 - 35. - ط. دار الفكر 1401.
قال ابن عبد البر: وليس كما زعم؛ لأن محمد بن مسلمة والأنصاري صاحب عبد الرحمن كان رأيهما خلاف رأي عمر وعبد الرحمن ، وإذا اختلف الصحابة ، رجع إلى النظر ، وهو يدل على أن دماء المسلمين وأموالهم من بعضهم على بعض حرام ، إلا بطيب نفس في المال. ومذهب مالك أن لا يقضي بشيء مما في هذا الباب؛ لحديث:((لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه)) . وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه وهو أيضًا قول الشافعي رضي الله عنه في القديم ، ومشهور قوله في الجديد. انتهى.
وهذا هو الذي اقتبسته النظم الحديثة فيما وضعته من قوانين ، ومنها القانون التونسي في شأن حقوق الارتفاق. الفصل 165 من مجلة الحقوق العينية.
ولقد اهتم الخليفة الثالث سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه - بموضوع جمع القرآن لما خاف الفتنة في اختلاف الرواة ، فجمع القرآن في مصحف واحد ، وأمر بإحراق ما عداه ، وما ذلك إلا مراعاة منه للمصلحة العامة.
فقد روى البخاري ، عن أنس بن مالك ، أن حذيفة بن اليمان كان يغازي أهل الشام وأهل العراق حتى فتح أرمينية وأذربيجان فأفزعه اختلافهم في القرآن ، فقال لعثمان رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين ، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة (1)
(1) حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ولدت سنة 18 / 604 قبل الهجرة. من أمهات المؤمنين. صحابية جليلة صالحة. ولدت بمكة وتزوجت خنيس بن حذافة السهمي ، فكانت عنده إلى أن ظهر الإسلام. فأسلما وهاجرت معه إلى المدينة ، فمات عنها ، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيها ، فزوجه إياها سنة 2 هـ أو سنة 3 هـ ، واستمرت في المدينة بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى أن توفيت بها سنة 45 هـ/ 665 م روى لها الشيخان ستين حديثًا. (الأعلام 2/ 292) .
: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ، فإنما نزل بلسانهم. ففعلوا ، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ، رد عثمان الصحف إلى حفصة ، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا ، وأمر بسواه في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق (1)
وحدثت في عهد سيدنا علي - كرم الله وجهه - قضية ، صورتها أن رجلًا كان يلاحق آخر لقتله ، وكاد الهارب أن يتملص ويفر وينجو بنفسه ، إلا أن مارا بالطريق أعان الملاحق وساعده ، وذلك بمسكه للفار المراد قتله ، حتى تمكن منه خصمه وقتله ، وكان هناك رجل آخر بالطريق ينظر ولم يساعد القتيل ، ولم ينجده ولم يسع لإبعاد الموت عنه.
فقضى سيدنا علي كرم الله وجهه بأن يقتل القاتل ، وبأن يسجن المساعد حتى الموت ، وأن تفقأ عين الذي كان يرى ويشاهد ، ولا يساعد ولا ينجد.
وهذا من باب قاعدة المصلحة واعتمادًا على قاعدة التعزير إذ لا نص فيه.
وعقاب الممسك عن النجدة أخذ منه مبدأ المشاركة المعبر عنها بالامتناع المحظور ، وهي جريمة جاءت بها القوانين الحديثة ، ونص عليها في قانون العقوبات التونسي بالأمر المؤرخ في رجب 9 جويلية 1361 /1942 والأمر المؤرخ في جمادى الآخرة سنة 1373 فيفري 1954 ، والقانون عدد 48 المؤرخ في صفر 1386 الموافق 3 جوان 1966 المنشور بالرائد الرسمي عدد 24 المؤرخ في صفر جوان 1386 /1966.
وقد نص الفصل الثاني من هذا القانون على مبدأ إغاثة الغير ونص على عقاب من أمسك وامتنع عن هذه الإغاثة.
(1) ابن حجر: فتح الباري 10/ 391 وما بعدها.
وهذه العقوبة تصل إلى خمسة أعوام سجنًا وعشرة آلاف من الدنانير خطية. وحينئذ فإن أصل هذه المخالفة الزجرية التعزيرية مأخوذ عن التشريع الإسلامي وعن فقه قضائه الذي اعتمد المصلحة في إقراره.
الفقه القضائي والفتاوى
وهناك فقه قضائي وفتاوى لكبار الفقهاء وبالرغم من عدم الأخذ بنظرية المصالح من طرف كثير من أئمة الفقه الإسلامي إلا أنه تطبيقيًا نشاهد آثار ذلك متعددة تفيد أن غالب هؤلاء يوافقون المالكية ويبنون اجتهاداتهم وأحكامهم واستنتاجاتهم على المصالح للنظر في استنباط الأحكام وابتنائها عليها.
الحنفية:
فالإمام أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه لم يتعرض في الأصول التي بنى عليها أحكامه إلى المصلحة المرسلة ، ولم يتخذها مصدرًا مستقلا من مصادر التشريع الإسلامي ، ولكنه مع ذلك أخذ بالاستصلاح ، وابتنى كثيرًا من اجتهاداته عليه ، وهو زعيم أصحاب الرأي وأسبقهم في مضماره.
ولئن لم يدون في أصوله ما يدل على أخذه بذلك ، فإن فيما نقل عنه أصحابه كأبي يوسف مما كتبه في خلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى لدليلًا يوضح أهمية المصلحة في فقه أبي حنيفة وعموم اجتهاده (1)
وخط المصلحة في فقه أبي حنيفة يكمن في دليلين من أهم الأدلة التي امتاز بها فقهه رضي الله عنه وهما الاستحسان والعرف.
فقد كان الاستصلاح أو المصلحة المرسلة معتمدة عنده ، ولكنه كان داخلًا في اعتباره ضمن ما يسميه بالاستحسان أو اعتماد العرف ، وكما يقال: لا مشاحة في الاصطلاح.
وأكثر الناس استعمالا للعرف واستنادًا إليه هم الأحناف ، فقد اعتبروه وخرجوا عليه كثيرًا من الأحكام الشرعية ويأتي بعدهم المالكية والحنابلة ثم الشافعية.
(1) د. الخن، ص 535.
قال العلامة ابن عابدين في رسائله (ج1 ص 44) :
والعرف في الشرع له اعتبار
لذا عليه الحكم قد يدار
وذكر ابن نجيم في الأشباه والنظائر قاعدة العادة محكمة.
والاستحسان عند الإمام النعمان هو ما عرفه أبو الحسن الكرخي بقوله: " أن يعدل المجتهد عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم به في نظائرها لوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول".
وعرفه بعضهم: (بأنه العدول عن موجب القياس إلى قياس أقوى منه) .
فالاستحسان عند أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه أساسه أن يأتي الحكم مخالفًا لقاعدة مطردة لأمر يجعل الخروج عن القاعدة أقرب إلى الشرع من التمسك بالقاعدة.
والاستحسان كيفما كانت صوره وأقسامه ، فإنه يكون في مسألة جزئية ولو نسبيا في مقابل قاعدة كلية يلجأ إليه الفقيه في تلك الجزئية حتى لا يؤدي الإغراق في القاعدة إلى الابتعاد عن الشرع في روحه ومعناه ومقاصده وغاياته العامة.
وهو عند المالكية الأخذ بمصلحة جزئية في مقابل دليل كلي عرفه ابن رشد بقوله: الاستحسان الذي يكثر استعماله حتى يكون أعم من القياس هو أن يكون طرحًا لقياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه ، فعدل عنه في بعض المواضع لمعنى يؤثر في الحكم مختص به ذلك الموضع (1)
(1) ومن هنا نفهم البون بين ما نحن بصدده والعرف. فالعرف يعتبر أصلًا من أصول التشريع عند المالكية فيما لا يكون فيه نص قطعي. وقد تختلف الفتوى أو الحكم تبعًا لتغير العرف ، وكثير من الفقهاء عدلوا من فتاواهم عن المشهور من المذهب وبينوها على العرف. قال القرافي: إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك ، لا تجره على عرف بلدك والمقرر في كتبك ، فهذا هو الجهل الواضح. الفرق 28 من فروقه.
وشرح هذا أن الاستحسان لا يقيد الفقيه المجتهد عند بحث الجزئيات بتطبيق ما يؤدي إليه اطراد القياس ، بل يترك لتقديره الفقهي ما يراه صالحًا أي مصلحة أو أمرًا حسنًا في هذه الحادثة الطارئة ما دام ذلك يخالف نصا من كتاب أو سنة (1)
وبعض فقهاء المالكية يعبرون عن الاستحسان تعبيرًا جميلًا فيقول:
"إنه دليل ينقدح في نفس المجتهد ، لا تساعده العبارة عنه ، ولا يقدر على إظهاره ".
أي أن الاستحسان هو ما يعرف اليوم بالاتجاه إلى روح القانون ، والاعتماد في ذلك كمال فقه المجتهد وإلمامه التام بالشريعة ومقاصدها ، وليس معنى أن العبارة لا تساعده أنه لا يمكنه إقامة الدليل على وجه المصلحة فيه ، فهذا حتمي الوجوب والثبوت ، بل معناه أنه لا يمكن إظهار الأصل الفقهي الذي يعتمد عليه ويسند أمره إليه.
والفرق بين المصالح المرسلة والاستحسان عند المالكية أن الأولى هي الأخذ بمصلحة لا يشهد لها دليل خاص بالنفي والإثبات في موضع لا دليل فيه غير كونها مصلحة.
والاستحسان الأخذ بمصلحة في مسألة جزئية ينطبق عليها دليل كلي ، وترك ذلك الدليل العام الكلي وعدم الأخذ به في هذه الجزئية.
فلو اشترى بضاعة بالخيار ثم مات ، فاختلف الورثة إمضاء وردا. فالقياس الدليل الكلي - الفسخ. قال أشهب المالكي: ومع ذلك نستحسن إذا قبل البعض الممضي نصيب الراد إذا امتنع البائع وهو صاحب إيجاب معروض منه ومطروح على معاقده ، لا يمكنه التداخل في خلاف الورثة الذين انجر لهم الحق بوجه عام إذا رضي بعضهم ورفض البعض الآخر؛ لأنهم يمثلون مورثهم ، وانتقلت حقوقه إليهم جملة ، وخلافهم لا يهم معاقده البائع.
والعرف عند أبي حنيفة رضي الله عنه أصل فقهي للاستنباط وابتناء الأحكام ، وذلك لحديث:
"ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح "
(1) انظر كتاب أبو حنيفة لأبي زهرة.
ولأن مخالفة العرف والعادة لا تخلو من حرج وضيق والله سبحانه وتعالى يقول:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1)
يقول بعض الحنفية: كلام أبي حنيفة أخذ بالثقة ، وفرار من القبح ، والنظر في المعاملات بين الناس وما استقاموا عليه وصلحت به أمورهم ، فيمضي الأمور على القياس ، فإذا قبح القياس ، يمضيها على الاستحسان ما دام يمضي له ، فإذا لم يمضي له رجع إلى ما يتعامل به المسلمون.
ومعنى هذا أنه يأخذ بالقياس والاستحسان عند فقد النص ، فإذا لم يكن عنده قياس دائما عند فقد النص ، فإنه يدرس تعامل الناس والعرف الجاري عندهم ثم يقرر الحكم.
وأحسن مثال نقدمه هنا على الأخذ بالعرف والعادة لما فيهما من مصلحة ما قصه ابن عابدين في رسائله (ج3 ص143) في موضوع العشر الواجب في الأراضي الزراعية المستأجرة ، هل هو على المستأجر أم على المؤجر؟
فالإمام أبو حنيفة يحمله على المالك؛ لأن الزكاة مؤونة الملك وثمرته ، وملك الأرض للمؤجر ، لا للمستأجر.
وقال الصاحبان أبو يوسف ومحمد بن الحسن: إن العشر على المستأجر؛ لأن الزكاة تؤخذ من الزرع ، فتتبع مالك الزرع وهو المستأجر.
قال ابن عابدين: إن تطبيق رأي الإمام الذي يرجحه الأقدمون يؤدي إلى ظلم أراضي الأوقاف ، ولذا أفتي برأي الصاحبين تماشيًا مع العرف.
يقول الكاساني في بدائعه (ج 2، ص 56) :
(ملك الأرض ليس بشرط لوجوب العشر ، وإنما الشرط ملك الخارج ، فيجب في الأراضي التي لا مالك لها وهي الأراضي الموقوفة؛ لعموم قوله سبحانه وتعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} (2) وقوله عز وجل: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (3)
(1) الحج: آية 78
(2)
البقرة 267.
(3)
الأنعام: 141
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما سقته السماء ففيه العشر)) (1) وذلك لأن العشر يجب في الخارج لا في الأرض ، ولو آجر أرضه ، فعشر الخارج على المؤجر عنده ، وعندهما على المستأجر.
المذهب الشافعي:
الشافعي رحمه الله لا يعتمد إلا الكتاب والسنة والإجماع والقياس دون غيرها.
يقول في الرسالة: لا تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها. وفي كتاب المصلحة في التشريع الإسلامي يشير مؤلفه الأستاذ مصطفى زيد إلى أن الشافعية قد أفتوا في بعض الصور تطبيقًا لقاعدة المصلحة المرسلة.
المذهب الحنبلي: هذا المذهب يعتمد اعتمادًا واضحًا على المصالح العامة المرسلة. يقول ابن القيم في كتابه "الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: " إن ابن عقيل الحنبلي حاج شافعيا في موضع العمل بالمصلحة المرسلة. فقال الشافعي: لا سياسة إلا ما وافق الشرع. قال ابن عقيل: السياسة ما كان الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد ، وإن لم يضعه الرسول ، ولا نزل به وحي.
فإن أردت بقولك: " إلا ما وافق الشرع " أي: لم يخالف ما نطق به الشرع ، فصحيح ، وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع ، فغلط ، وتغليط للصحابة ، فقد جرى منهم من ذلك ما لا يجحده عالم بالسنن.
(1) في البخاري ومسلم: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عشريا العشر ، وما سقي بالنضح نصف العشر ". قال البغوي: حديث صحيح.
الطوفي: ولا يجمل بنا أن نهمل الحديث عن رأي هذا الفقيه الحنبلي الذي يبالغ في الأخذ بالمصلحة ، وأول من ألقى الأضواء على نظرية هذا الفقيه هو علامة الشام السلفي الشيخ جمال الدين القاسمي ، إذ نشر رسالة للطوفي في شرح حديث:((لا ضرر ولا ضرار)) . وعلق على ذلك. ثم تبعه الشيخ رشيد رضا ، ثم وضع عنه الأستاذ مصطفى زيد رسالة للحصول على الأستاذية ، ثم كتب عنه الأستاذ د. عبد الوهاب خلاف وغيرهم كثير.
من هو الطوفي (1) :
هو أبو الربيع نجم الدين سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم الطوفي الصرصري فقيه حنبلي ولد بقرية طوف من صرصر بالعراق. دخل بغداد سنة 691 هـ 1291م ورحل عنها سنة 704/ 1304م وزار مصر والحرمين حيث أقام هناك وتوفي سنة 716 /1316م ببلدة الخليل.
ألف عدة كتب وهي:
1) بغية السائل في أمهات المسائل.
2) الإكسير في قواعد التفسير.
3) الرياض النواخر في الأشباه والنظائر.
4) معراج الوصول في أصول الفقه.
5) الذريعة إلى معرفة أسرار الشريعة.
6) تحفة أهل الأدب في معرفة لسان العرب.
7) الإشارات الإلهية في المباحث الأصولية.
(1) راجع ترجمة الطوفي في الدرر الكامنة لابن حجر 2/ 154 وذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/ 366 زيادة على ما ذكرناه.
8) العذاب الواصب على أرواح النواصب - حبس من أجله وطيف به في القاهرة.
9) تعاليق على الأناجيل.
10) شرح مقامات الحريري.
11) شرح مختصر الجامع الصغير للترمذي.
وقد شرح الأربعين حديثًا للإمام النووي وحينما وصل في شرحه إلى حديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) . أطنب في شرحه وإجلاء مقاصد الشارع منه حتى انتهى به القول إلى اعتبار المصلحة اعتبارًا أساسيا وتقديمها على جميع الأدلة.
وقد طبع الشيخ جمال الدين القاسمي هذا الشرح لحديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) وعلق عليه في رسالة خاصة.
ويتلخص رأي الطوفي فيما يلي:
1) إن المصلحة هي مقصود الشارع ، ومن ثم فهي أقوى الأدلة وأخصها.
2) إنه ليس ضروريا أن تكون حيث القاطع أو الإجماع فقد يعارض النص أو الإجماع وجود المصلحة ، فتقدم عليها.
3) هذا في العادات والمعاملات لا العبادات.
وهو يعتمد على حديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) . الذي يكون أصلًا عظيما يبني عليه اعتبار المصلحة حيث دارت؛ لأن المصلحة لا تكون إلا حيث لا يكون هناك ضرر ولا ضرار. ويشرح الطوفي مذهبه ورأيه في هذه القضية فيقول:
واعلم أن هذه الطريقة التي ذكرناها معتمدين فيها على الحديث المذكور ليست هي القول بالمصالح المرسلة على ما ذهب إليه مالك ، بل هي أبلغ من ذلك ، وهو التعويل على النصوص والإجماع في العبادات وعلى اعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام.
ورأيه هذا لا يظهر أن أحدًا من الفقهاء شايعه فيه ، بل لم يسلم من النقد والرد. وأفضل من ناقشه من المتأخرين هو شيخنا العلامة المبرور الأستاذ محمد العربي الماجري الأستاذ بجامع الزيتونة إذ يقول باختصار (1) :
إن الطوفي تعرض في شرحه للأربعين النووية عند قوله صلى الله عليه وسلم ((لا ضرر ولا ضرار)) للمصلحة المرسلة ، ورأيه يرجع إلى:
أ) أن كل مصلحة راجحة يعمل بمقتضاها ولو عارضها نص أو إجماع ، وذلك في غير العبادات.
ب) استدلاله على تقديمها على الإجماع.
ج) استدلاله على تقديمها على نص الكتاب والسنة.
إن المصلحة المرادة للطوفي هي المصلحة التي اعتبرها الشرع. والمصلحة المرسلة إذا ترجحت بمرجح من المرجحات في نظر المجتهد ، فهذا النوع من المصلحة كلما ظفر به الطوفي يقدمه على الكتاب والسنة والإجماع. هذه الدعوة التي تعلق بها الطوفي ما سبقه إليها أحد لمخالفتها للقواعد ، إذ من الأصول المقررة أنه كلما وجد نص من الكتاب أو السنة أو وجد إجماع تعين بذلك العمل ، إذ لا اجتهاد مع وجود النص. وبهذا ظهر أن أصل الدعوى ساقط عن الاعتبار ، ويقول الطوفي في استدلاله على تقديمها على الإجماع: إن منكري الإجماع قالوا برعاية المصلحة ، فهي إذن متفق عليها والإجماع مختلف فيه ، والتمسك بالمتفق عليه أولى من التمسك بالمختلف فيه.
(1) دراسة نشرت بمجلة جوهر الإسلام التونسية عدد1- 2 السنة الأولى في ربيع الآخر سنة 1388، جويلية 1968.
هذا الاستدلال سفسطائي ضعيف فاسد ، لا يلزم من انضمام من أنكر الإجماع إلى القائلين بالمصلحة أن تكون مجمعًا عليها ، إذ من يقول بالإجماع لا يقول بالمصلحة ، فبطل ما ادعاه. ويبطله أيضًا ما نقلته في الشروط أن لا يخالفها نص.
ويقول في استدلاله على تقديمها على نص الكتاب والسنة:
إن النصوص مختلفة متعارضة ، ومن ذلك نشأ الاختلاف في الأحكام المذموم شرعًا ، والمصلحة أمر حقيقي في نفسه لا شائبة للخلاف فيه ، فهي سبب الاتفاق المطلوب شرعًا ، فكان اتباعها أولى.
وهذا أيضًا كسابقه يبطله الشرط السابق ، وأيضًا استدلاله الأحمق بأن النصوص متعارضة نشأ عنها خلاف ، وهو مذموم شرعًا ، وهذا باطل؛ لأن سبب الاختلاف في المعاني المستفادة من الألفاظ أمر ضروري ، وذلك من جمال العربية وحسنها ، وهو راجع إلى سببين: طريق الدلالة على المعنى والأسلوب الذي يقتضيه المقام. فطريق الدلالة على المعنى المنطوق آونة والمفهوم أخرى ، والمنطوق منه النص ، ومنه الظاهر ، ومنه المجمل ، فكيف تتحد الدلالة ، ولكل واحد منها مقامه عند التركيب ، والناس في إدراك معنى المفاهيم ليسوا سواسية ، نظرًا للشرائط. وأما الأسلوب فهو البلاغة كلها ، فالبليغ يجعل لكل كلمة مع صاحبتها مقامًا خاصا بها ، فيسلك البليغ: الإيجاز - الإطناب - الحقيقة - المجاز - الاستعارة - الكناية - التشبيه وغير ذلك ، ولكل ضروبه الخاصة.
فكيف تتفق العقول في إدراكها ، وأعجب منه جعله معنى المصلحة أمرًا حقيقيا مع أنها من الأمور النسبية ، إذ لو كانت حقيقة كما ادعى ، لم يختلف العقلاء فيها ، ولله في خلقه شؤون. انتهى.
وعلى كل فالطوفي يذهب بعيدًا جدا في اعتماد مصالح الناس لتقرير الأحكام وفض المشاكل.
ويظهر أنه لو أوكل الناس أمر تقدير المصالح إلى اجتهاد المجتهدين لما حصل الاتفاق قط على مقياس معين محدد يقول أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الحفيد صاحب كتاب (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) في كتابه فصل المقال: إذا كانت هذه الشريعة حقا وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق ، فإنا معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع ، فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له ، وإذا كان هذا هكذا ، فإن أدى النظر البرهاني إلى نحو ما في المعرفة بموجود ما ، فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سكت عنه الشرع أو عرف به ، فإذا كان قد سكت عنه فلا تعارض هنالك ، وهو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام ، فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي ، وإن كانت الشريعة نطقت به ، فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقًا لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفًا ، فإن كان موافقًا ، فلا قول هنالك ، وإن كان مخالفًا طلب تأويله.
العنصر الرابع
العموم
سوف لا نطيل الكلام هنا ، فلا يتطلب هذا العنصر إيضاحًا وشرحًا مستفيضًا.
فالأمة أوكلت لقادتها وأئمتها أمر تسيير شؤونها ، وهؤلاء يعنون برعاية المصالح العامة التي تتناول الأفراد وتتجاوزهم إلى مصالح المجموعة الكاملة ، أي: بما يعم الكافة بالخير ، كأمن وحماية كل فرد في ذاته ودينه وماله وعرضه وكإقامة السدود وإنشاء الطرق وإصلاحها وإقامة المساجد ورعايتها والسعي إلى إقامة وحفظ كل معالم الدولة ولو على حساب بعض الأفراد في بعض الأحيان.
فالمصالح التي يرعاها الشارع ويساندها والتي يراعيها عند سن أحكامه وينظر إليها المجتهد عند تخريج قضاياه هي التي تتصف بالعموم والتي يعود نفعها على المجتمع بصفة عامة تعم كافة أفراده.
والانتزاع لا يكون إلا لوجود مصلحة عامة بإشراف الدولة ممثلة في فروعها الإدارية.
وبذلك يخرج عن موضوعنا الأخذ لمصلحة فردية خاصة مثل الشفعة ، فهذا استثناء تحت قيود مضيقة جاءت بها الأحكام الخاصة بالشفعة ، وهي لا تكون بمجرد أمر أو قرار ، بل لا بد من رفع القضية إلى المحاكم وصدور حكم فيها.
ومثل هذا يقال في بعض الصور الأخرى ، مثل البناء بأرض الغير ، أو الحيازة المكتسبة ، فهي صور فردية ، لا تدخل تحت المصلحة العامة ، ولا تتأثر بحق الانتزاع المخول للدولة فقط.
مظاهرالتطبيق
بعد هذه البسطة التحليلية لكافة شرائح وعناصر هذا الموضوع ، هذه البسطة التي كان من الواجب علينا وضعها وتقديمها حتى تتضح الحقائق وتتجلى الصورة بكيفية مدققة تدعو إليها طبيعة هذا البحث الجامع التحليلي المعمق والذي يكون في دائرة نوره سبيلًا يوصل إلى جميع الكلمات المعنون بها ومنطلقًا لإبداء ما يعن في شأنها على أسس ثابتة من حقائق شرعية لا لبس فيها ولا غموض ، وخير الحوار ما كان عن علم سابق بكافة عناصر وجزئيات الموضوع ، وخير نقاش ما دار في دائرة الوضوح والبيان على أرض ثابتة من الحقائق المسلم بها.
وعلى قدر علو همة وسعة اطلاع المخاطب واتساع صدره وبالغ أهمية الموضوع ووجوب الحرص على تحقيقه ، يكون العذر لنا في بعض هذا الطول الذي نرجو أن لا يكون مملا بل نرجو أن يكون مفيدًا ونافعًا ضرورة أنه يجمع الحقائق حول عناصر الموضوع يمكن الانتهاء تلقائيا إلى الإصداع بالحكم ومعرفة النتائج المطلوبة دون عناء أو زيادة بحث ودرس.
والآن نرجو أن ننتقل إلى الجزء الثاني من هذه الدراسة الذي نقسمه هو نفسه إلى قسمين اثنين:
أ) صور تطبيقية من تاريخنا التشريعي الإسلامي وحوادث جدت به تظهر تطبيع ما سبق من قواعد وجاء من مبادئ تخص الملك واحترامه وصونه ، ثم أخذه للمصلحة العامة عند اللزوم.
ب) وصور أخرى لبعض النظم العصرية وبيان أسانيدها وشروطها وأحكامها إجراءا للمقارنة وتعريفًا بما هو واقع الآن عمليا.
السنة:
يمكن التحقيق بأن السند الأول لتطبيق أحكام انتزاع الملك الخاص لفائدة المصلحة العامة هو السنة.
فالرسول عليه الصلاة والسلام قام بأفعال وإنجاز بعد هجرته إلى المدينة المنورة في سبيل إنشاء هياكل المرافق العامة وإحداث ما يحتاجه بناء هذه القواعد الأساسية الاجتماعية للأمة الإسلامية.
فقد دخل الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام المدينة المنورة مهاجرًا من مكة المكرمة على ناقته فتزاحم الأنصار لدعوته واستضافته وأمسكوا بزمام الناقة ، فقال: دعوها فإنها مأمورة حتى جاءت موضع المسجد فبركت فيه ، فقال: هذا منزلنا. وكان مربدًا يباع فيه التمر ويجفف وحديقة فيها عوسج ونخل ومسيل لمياه الأمطار وقبور للمشركين ، وكان المربد ليتيمين تحت الوصاية ، فاشتراه من وصيهما ، وأمر بإزالة آثار القبور ، ودفن المسيل ، وقطع العوسج ، وتسوية الأرض وبناء المسجد (1)
(1) كتاب وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى 1 /229 - 242.
أقوال وأعمال الصحابة:
كان ذلك في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد لزم توسيع المسجد بإدخال أملاك للغير مجاورة إليه إلى رحابه باعتبار أن تحقيق النفع العام مسوغ شرعي لنزع الملكية الخاصة.
ووقع إحصاء هذه الدور والعقارات ودعا أصحابها وعرض عليهم الخليفة الأمر وقرار الدولة بضم هذه العقارات إلى المسجد توسعة له لضيقه وشدة الحاجة إلى هذه التوسعة التي تدعو إليها المصلحة العامة.
فقد أخرج ابن سعد عن سالم أبي النضر رضي الله عنه قال: لما كثر المسلمون في عهد عمر رضي الله عنه ضاق بهم المسجد ، فاشترى عمر ما حول المسجد من الدور إلا دار العباس بن عبد المطلب وحجر أمهات المؤمنين ، فقال عمر للعباس: يا أبا الفضل ، إن مسجد المسلمين قد ضاق بهم وقد ابتعت ما حوله من المنازل نوسع بها على المسلمين في مسجدهم ، إلا دارك وحجر أمهات المؤمنين. أما حجر أمهات المؤمنين فلا سبيل إليها ، وأما دارك فبعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين أوسع بها في مسجدهم ، فقال العباس رضي الله عنه: ما كنت لأفعل.
فقال عمر: اختر مني إحدى ثلاث: إما أن تبيعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين ، وإما أن أحطك حيث شئت من المدينة وابنها من بيت مال المسلمين، وإما تصدق بها على المسلمين ، فيوسع بها في مسجدهم. قال: لا ، ولا واحدة منها.
فقال عمر رضي الله عنه: اجعل بيني وبينك من شئت. فقال: أبي بن كعب رضي الله عنه. فانطلقا إلى أبي ، فقصا عليه القصة ، فقال:
إن شئتما حدثتكما بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالا: حدثنا. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
((إن الله أوحى إلى داود: ابن لي بيتا أذكر فيه. فخط هذه الخطة ، خطة بيت المقدس ، فإذا بربعها زاوية بيت من بنى إسرائيل ، فسأل داود أن يبيعه إياه ، فأبى ، فحدث داود نفسه أن يأخذه منه ، فأوحى الله إليه: أن يا داود أمرتك أن تبني لي بيتا أذكر فيه ، فأردت أن تدخل في بيتي الغضب ، وليس من شأني الغضب ، وإن عقوبتك أن لا تبنيه ، قال: يارب ، فمن ولدي. قال: من ولدك)) .
قال: فأخذ عمر رضي الله عنه بمجامع ثياب أبي بن كعب رضي الله عنه ، وقال: جئتك بشيء فجئت بما هو أشد منه لتخرجني مما قلت. فجاء يقوده حتى أدخله المسجد ، فأوقفه على حلقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أبو ذر رضي الله عنه ، فقال أبي: إني نشدت الله رجلًا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر حديث بيت المقدس حيث أمر الله تعالى داود أن يبنيه إلا ذكره. فقال أبو ذر: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال آخر: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأرسل أبيا ، فأقبل أبي على عمر رضي الله عنهما ، فقال: يا عمر ، تتهمني على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: يا أبا المنذر ، لا والله ما اتهمتك عليه ، ولكني كرهت أن يكون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرًا ، ثم قال للعباس: اذهب فلا أعرض لك في ذلك. فقال العباس رضي الله عنه: أما إذا فعلت هذا فإني قد تصدقت بها على المسلمين أوسع بها عليهم في مسجدهم ، فأما وأنت تخاصمني فلا. فخط عمر رضي الله عنه داره التي هي له اليوم وبناها من بيت مال المسلمين (1)
، (السيوطي في الدر المنثور: 4/ 153) .
(1) يتجلى من هذا الأثر عدة أمور منها: 1- أنه عند حدوث خلاف فالإمام أصبح خصما وعليه الالتجاء إلى القضاء. 2- على المتقاضي وإن كان صاحب السلطة والحكم والنفوذ العام أن يسعى إلى القاضي وأن يأتيه إلى مكان حكمه وقضائه وأنه ليس على القاضي أن يتحول وينتقل لمباشرة القضاء وفصل النزاعات إلى مجلس أحد الخصوم مهما كانت منزلته. 3- على الحاكم أن يعتمد على النصوص التشريعية وأن يطبقها بنهاية الإنصاف حتى ولو كان أحد الأطراف من ذوي النفوذ في الدولة. 4- على صاحب الحق أن يجهر بحقه وأن يرفع أمره إلى القضاء وعلى المحكوم عليه أن يرضخ لما تصدر به الأحكام.
وهذا الأثر يدل بوضوح على أن الخليفة العظيم عمر الفاروق رضي الله عنه كان يرى تقديم المصلحة العامة على الخاصة المتعلقة بالأفراد وهو يحاول إرضاء المخالفين بمختلف الطرق حتى يتحصل على رضاهم وموافقتهم خاصة من كان في منزلة عم الرسول صلى الله عليه وسلم.
والظاهر أن نهاية الخلاف بين صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن دالة على الحرمة والمنع ، وإنما تدل على الأمر بالصلح ، وما جرى عليه العمل عند الفقهاء.
والمؤرخون أصحاب السير يحققون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو أول من سعى في توسعة المسجد وقام بانتزاع الأملاك الخاصة لفائدة المصلحة العامة لقاء تعويضات عادلة ومحقة غير مجحفة.
ونرى أنه في عهد حفيده الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما كان واليًا على المدينة للوليد بن عبد الملك تلقى الإذن بتوسعة المسجد النبوي وبعث إليه الخليفة بالمال وكتب يقول له:
" من باعك فأعطه الثمن ، ومن أبى فاهدم عليه ، وسلم له المال ، فإن أبى أخذه ، فاصرفه للفقراء ".
ولم يتحرج عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه من إتمام إجراءات الانتزاع بالرغم من وجود بعض المعارضين وهو من عرفنا تخلقا بأخلاق الشرع ووقوفًا عن حدوده.
وهكذا فعل بعده أبو جعفر المنصور بعد أن استفتى العلماء لتوسعة المسجد الحرام بمكة المكرمة.
وفعل ذلك المهدي الخليفة العباسي لما أراد توسعة المسجد الحرام بمكة ووجد من يفتيه من العلماء بحلية الانتزاع لما فيه من مصلحة عامة.
الفقه والاجتهاد
كان الرأي الفقهي على حلية وجواز الانتزاع انتزاع الملك للمصلحة العامة ، إذا تحققت هذه المصلحة وثبت جدواها كما رأينا في الانتزاع لفائدة توسيع المساجد.
ومن هنا جاء الرأي الفقهي مقررًا انتهاك حرمة الأوقاف بأخذ أعيانها لفائدة المرافق الاجتماعية العامة خارقًا بذلك القاعدة القائلة بحرمة بيع أعيان الموقوفات وبطلان عقود بيعها.
قال سيدي خليل في شأن بيع الموقوف:
"لا عقار وإن خرب ، ولا نقض ولو بغير خرب ، إلا أن يباع لتوسيع كمسجد ولو جبرًا. وقال شارحه سيدي عبد الباقي الزرقاني:
كمسجد وطريق ومقبرة ، فيجوز بيع حبس غير هذه الثلاثة لتوسيع الثلاثة أو واحد منها ، فيجبر صاحب ملك على بيعه لتوسيع ما ذكر.
وقال شارحه البناني:
" الظاهر حسب النقل أن ما وسع به المسجد من الرباع لا يحب أن يعوض منه إلا ما كان ملكًا أو حبسًا على معين وأما ما كان غير معين فلا يلزم تعويضه سواء في أحباس المسجد المعين أو غيره ، أو على الفقراء ونحوهم على ما يفيده جواب أبي سعيد بن لب أثناء نوازل الأحباس من المعيار.
ووجهه أن ما كان على غير معين لم يتعلق به حق لمعين وما يحصل من الأجر لواقفه إذا دخل في المسجد أعظم مما يقصد تحبيسه لأجله أولًا (1)
كما استثنى ما كان في الحبس الذي أدخل في المسجد لمعين وهو الخلو ، فلا حق لأربابها؛ لأنها محض كراء على التبقية ، والكراء ينفسخ بتلف ما تستوفى منه المنفعة ولا شركة لأصحابها في الأصل.
(1) شرح سيدي عبد الباقي بن يوسف الزرقاني على مختصر سيدي خليل بحاشية محمد بن الحسن البناني 7 /111 المطبعة الكبرى بمصر 1293 هـ/1095 م.
قال العلامة أحمد الدردير: (1)
قول خليل: لتوسيع كمسجد ولو جبرًا أدخلت الكاف الطريق والمقبرة ، فيجوز بيع حبس غير هذه الثلاثة لتوسيع الثلاثة حتى ولو أبى المستحق أو ناظر الحبس وإذا أجبر على ذلك في الوقف فالملك أحرى ، فلا يقال: إنه من باب الغصب كما وقع لبعض الطلبة حين وسع جامع الأزهر بالقاهرة.
وعلق على ذلك الشيخ الدسوقي في حاشيته بقوله:
يجوز البيع وظاهره كان الحبس على معين أو على غير معين وهو خلاف ما نقله الزرقاني كما رأينا.
ويقول في باب البيع عند قول خليل: " إلا أن أجبر عليه جبرًا حرامًا ".
قوله: جبرًا حرامًا ، أي: وأما لو أجبر على البيع جبرًا حلالًا كان البيع لازمًا كجبره على بيع الدار لتوسعة المسجد أو الطريق أو المقبرة أو على بيع سلعة لوفاء دين أو لنفقة زوجة أو ولد أو الأبوين ، ومن الجبر الحلال الجبر على البيع لأداء ما عليه من الخراج الحق ، كما قاله شيخنا العدوي (2)
وذكر البناني أن المسألة لها عدة نظائر تصل إلى عشرة تدل كلها على جواز الأخذ للمصلحة العامة.
والعلامة الزرقاني يذكر: أن الانتزاع يمكن أن يكون لمساحات من الأرض للمصلحة الحربية ، فهو يقول في باب البيع: يجوز انتزاع الفدان في رأس جبل يحتاج الناس إليه في الحراسة من العدو (3)
ومنها نفهم أن الأراضي المدنية في المناطق الحربية يمكن انتزاعها للمصلحة العامة لفائدة المجموعة.
(1) أحمد الدردير 4/ 91 - المطبعة الأزهرية.
(2)
العدوي 3/ 6.
(3)
ج5/ ص 10.
قال الونشريسي في المعيار لما تكلم على ما إذا ضاق الجامع بأهله: والحكم في ذلك وجوب الزيادة في الجامع حتى يحمل أهله ، فإن كان ما حواليه من الربع والعقار مملوكًا ، أجبر أربابه على بيعه بالقيمة ، رشيدًا كان المالك أو سفيهًا ، كما يجبر على بيع الماء لمن به عطش ، وهذا هو المعروف؛ لأن أصل الشريعة المعظمة القضاء للعامة على الخاصة كما في هذه المسائل ، والقاعدة في اجتماع الضررين وتقابلهما ، أن يسقط الأصغر للأكبر ، ولا أكبر من ضرر الذي لا بدل له ، والمال عنه بدل ، وهي القيمة ، وقد أنزلها الشرع منزلة المقوم ، فلا حيف على أرباب الدور ولا شطط في كل ما جاء من هذا النمط وإن كان ما حوالي المسجد الجامع حبسًا فإنه يؤخذ جميعه أيضًا لتوسعة المسجد.
ونقل ابن رشد أن مالكًا وجميع أصحابه المتقدمين والمتأخرين لم يختلفوا فيه.
وقال مطرف: وإذا كان النهر بجنب طريق عظيم من طرق المسلمين التي يسلك عليها العامة فحفرها حتى قطعها فإن السلطان يجبر أهل تلك الأرض التي حولها على بيع ما يوسع به الطريق أحبوا أم كرهوا.
قال ابن الماجشون في مقبرة ضاقت عن الدفن وبجانبها مسجد ضاق بأهله: لا بأس أن يوسع المسجد ببعضها؛ لأن المقبرة والمسجد حبس للمسلمين.
وفي نوازل سحنون: لم يجز أصحابنا بيع الحبس بحال إلا دارًا بجوار مسجد احتيج أن تضاف إليه ليوسع بها ، فأجازوا ذلك.
وقال ابن جزي في قوانينه: والعقار لا يجوز بيعه إلا المسجد تحوط به دور محبسة ، فلا بأس أن يشترى منها ليوسع به ، والطريق كالمسجد في ذلك.
والبرزلي في نوازله ينقل الفتوى عن شيخه ابن عرفة بجواز بيع الحبس إذا لم يصبح ذا نفع وعدد مسائل حدثت بتونس أفتى فيها ابن عرفة بالبيع.
فالمذهب المالكي حصل به الاتفاق تقريبًا على عدم جواز بيع الحبس حتى وإن خرب ، والإمام سحنون يقول: "لم يجز أصحابنا بيع الحبس بحال.
ومعلوم أن ذلك لحرمة الوقف وصونه واحترام إرادة الواقفين ومع ذلك فقد حصل الاتفاق الكامل على جواز هذا البيع إذا كان ذلك لمرفق عام يهم مصالح جماعة المسلمين كتوسعة المسجد والطريق وإنشاء مراكز حربية دفاعية عن حرمة المسلمين وما شابه ذلك من المرافق العامة التي ينتفع بها المسلمون بصفة عامة شاملة والتي يمكن القياس عليها عند حدوث الأقضية ونزول المشاكل والدوافع ومن باب أحرى إذا كانت الحاجة والمصلحة داعية لنزع الأملاك غير المحبسة من أربابها لفائدة المرافق العامة.
وهذا هو أيضًا رأي الحنفية في الموضوع. يقول العلامة الزيلعي شارح الكنز عند الحديث عن الوقف:
"إذا ضاق المسجد على الناس وبجنبه أرض لرجل تؤخذ أرضه بالقيمة كرهًا ، لما روي عن الصحابة في هذا الشأن "(1)
وما استعرضناه سابقًا من آراء الفقهاء مع اختلاف مذاهبهم يتلاءم في قواعده العامة ومبادئه الواسعة الشاملة مع ما شرحنا آنفًا في شأن الملك والمصلحة وترابطهما برباط متين.
تراتيب النظم الحديثة الوضعية للانتزاع
جاء الفصل 57 من القانون العقاري القانون العقاري وضعته لجنة من علماء وفقهاء الزيتونة وصدر به أمر 19 رمضان 1302 الملاقي 12 جوان 1885. وهو يتكون من ثلاثمائة وواحد وثماثين فصلًا تتعلق بالعقار وحقوقه وكل ما يتصل به. وقد دام العمل بهذا القانون حتى عوضته وحلت محله مجلة الحقوق العينية المعمول بها الآن الصادرة في 11 شوال 1384 الملاقي 12 فيفري 1965.
والانتزاع أفرد بقوانين خاصة حسبما نراه فيما بعد. وقانون الحالة المدنية التونسي القديم المؤرخ في 27 رمضان 1303 الملاقي ماي 1886 المشتمل على أربعين فصلًا تخص الولادة والزواج والوفاة والذي نص على ابتداء العمل به في أكتوبر 1886 (3محرم 1304) جاء ناصا بفصليه 11و12 على موضوع الانتزاع. التونسي الموضوع 1302 /1885 قائلًا:
(1) شرح كنز الدقائق 3 /332. ط. بولاق.
"لا يجبر أحد على التنازل عن ملكه إلا لمصلحة عامة ، ولا يقع إكراهه على ذلك إلا بحسب القوانين الموضوعة لأخذ الملكية جبرًا".
ولما كانت القاعدة العامة السائدة تنادي باحترام حق الملكية والسماح للمالك بالانتفاع بملكه وبالتصرف فيه بالطرق التي يختارها وبسائر أوجهها ، فقد جاء الدستور التونسي ضامنًا حق الملكية صائنًا إياه من العبث والاعتداء رادعًا كل من يحاول فعل ذلك. الدستور التونسي الذي صدر به القانون عدد 57 في 25 ذي الحجة الحرام 1378 الملاقي غرة جوان 1957 جاء فصله السابع قائلًا:
"يتمتع كل مواطن بحقوقه كاملة بالطرق والشروط المبينة بالقانون ، ولا يحد من هذه الحقوق إلا بقانون يتخذ لاحترام حقوق الغير ولصالح الأمن العام والدفاع الوطني والازدهار الاقتصادي وللنهوض الاجتماعي. وجاء الفصل 14 منه قائلًا: "حق الملكية مضمون ، ويمارس في حدود القانون".
والدولة المنبثقة عن الشعب بموجب هذا الدستور تسعى إلى رفع شأن المواطن من كافة النواحي والجهات من خلال تحسين وتحقيق صلاح ظروفه الصعبة والمحافظة على أمنه وصيانته وتعليمه وتيسير سبل ذلكم التعليم وتسيهله على كافة الناس حتى يكون في متناول الغني والفقير، الثري والمحتاج ، لا فرق بين مواطن وآخر ، ثم بناء سياسة عامة لإقامة السكن وترقيته وتسهيل أموره على كل المواطنين بجعل سياسة سكنية تسعى إلى إقراره وإسعاده.
وهي كذلك تسعى إلى التنمية الشاملة في كل المرافق خاصة ما يتعلق بالنقل برا وبحرًا وجوا وبعث المشاريع الصناعية والفلاحية والتنموية حتى تجد كل يد عاملة شغلًا ترتزق منه وتستمد منه متطلبات الحياة خاصة القوت.
والدولة والمقنن إزاء هذه التطلعات الاقتصادية والاجتماعية لحياة الشعب الذي تخدمه وتحكمه مضطرة لوضع بعض القيود في طريق الانتفاع المطلق بحق الملكية الفردية.
والطريقة المثلى التي كان من الممكن الالتجاء اليها لتحقيق الوصول إلى الهدف بين الإدارة الممثلة للقانون والدولة وبين الفرد والمواطن الذي لزم تقييد حريته وسلب إرادته في شأن من شؤون حق تملكه المطلق هي المبادرة لطريقة العرض والطلب والمفاهمة لحصول الرضا على هذا القيد والحد والسلب والاتفاق على العقد وتوابعه وشرائطه وتنفيذه طبق أحكام القوانين المدنية وبحرها الواسع الشامل العميق الذي وإن تلاطمت أمواجه فهو الملاذ المنيع لكل متظلم.
لكن النظرة قد تختلف والرغبة قد تشط وعقلية بعض الناس قد تنسيهم الصالح العام فلا يفكرون إلا في مصالحهم الخاصة الضيقة ، والمال عزيز وقطعة من الكبد ، وقد يرفض أحدهم أن يبيع داره أو حقله أو أرضه عن طوع واختيار لفائدة مرفق عام يراد تأسيسه أو توسعته أو إصلاحه ويتعذر ذلك دون ضم ملك هذا الأحد ، ويكون الرفض لا لأن الثمن بخس وزهيد ، ولكن قد يكون لأسباب تافهة خيالية ينظر إليها الرافض من زاوية لا يقدرها الناس ولا يعتبرونها؛ لأنها خيالية، لا تهم إلا خيال صاحبها كوجود بعض الآثار والذكريات العائلية التي لا قيمة لها تقدر وتوضع في الميزان إلا في خيال صاحبها ورقة عاطفته وجموحها إلى حب الذات فقط.
والبيع الحر طبق القوانين المدنية قد تقف في وجهه وتحول دونه تصرفات فردية جامحة وعواطف شخصية طائشة وإرضاء الناس أمر لا يدرك.
فاضطرت الدولة واضطر التشريع القانوني لإحداث الانتزاع بجميع كلماته الأربع حتى تتمكن الإدارة من تنفيذ سياستها الإصلاحية الاجتماعية والاقتصادية، وحتى الحربية دون عرقلة في السير أو صعوبة في التنفيذ ، أما وقد أصبح الأمر بيدها ، فلا بد من حفظ حقوق الأفراد بقوة القانون وحمايته وصونه ومراقبته.
ومن هنا وفي ظل المبادئ الشرعية الإسلامية كان للنظام التونسي شرف السبق في تخطيط مخطط حافظ لكافة الحقوق وصائن للملك وحقوقه من أن تداس أو يعبث بها عند إرادة الانتزاع والأخذ للمصلحة العامة دون حصول الموافقة المسبقة من صاحب الشأن.
ولحفظ هذه الحقوق وصونها وتحقيق المصلحة العامة كانت الدعائم التي اعتمدها المقنن لهذا النظام تعتمد على المبادئ التالية:
1) أن يكون الانتزاع الصادر من الإدارة بناء على أمر رئاسي أي: في أعلى مستوى تنظيمي.
2) أن يشرح به الغرض الأساسي والمصلحة العامة من الانتزاع مع بيان المشروع المزمع إنجازه وتحقيقه في العقار المنتزع.
3) أن يعوض صاحبه تعويضًا عادلًا لا غبن فيه.
4) أن يتصل صاحبه بحقه في العوض مسبقًا.
وهذه المبادئ العادلة بنفسها يجب لتحقيقها سلوك إجراءات وتطبيق معطيات رسمتها قوانين نشرحها فيما يلي:
قانون الانتزاع التونسي هو قانون عدد 85 المؤرخ في 2 شعبان 1396 الملاقي 11 أوت 1976 والمنشور بالرائد الرسمي عدد 51 ، وقد جاء معوضًا للأمر القديم السابق عنه المؤرخ في 2 صفر 1358 الملاقي 9 مارس 1939.
1) وقد نص الفصل الأول من قانون الانتزاع على:
يتم الانتزاع للمصلحة العمومية بأمر يعين به المشروع المزمع إنجازه في العقار المنتزع.
إذن فالانتزاع لا يكون إلا بأمر ولا يكون إلا للمصلحة العامة مع وجوب بيانها وإيضاحها في نفس الأمر حتى تحمى مصالح الناس أولًا ثم لفرض رقابة قضائية تمكن القضاء من التحري في وجود المصلحة العامة في هذا المشروع المزمع إنجازه والذي بينه أمر الانتزاع نفسه.
والقضاء يقوم بناء على ذلك برقابة الإدارة في كيفية ممارسة نشاطها.
وقرارات الانتزاع هي من قبيل القرارات الفردية أو الجماعية التي لا تكتسي صبغة ترتيبية ، ومن ثم فإنه يصبح من الجائز الطعن فيها بالإلغاء.
ونلاحظ هنا للمقارنة أن مجلة الأحكام العدلية نصت بمادتها 1216: "يؤخذ عند الحاجة ملك كائن من كان بالقيمة بأمر السلطان ، ويلحق بالطريق العام ، ولكن لا يؤخذ ملكه من يده ما لم يؤد إليه الثمن".
وجاء في شرح هذه المادة للمرحوم علي حيدر:
"يستملك ملك أي أحد بقيمته للمنافع العمومية كالمسجد والطريق ومسيل الماء ولو لم يرض صاحبه ببيعه".
ثم أصدرت الدولة العثمانية التركية بعد المجلة نظما أخرى في الموضوع ترمي كلها إلى وضع قواعد للانتزاع.
ومن ذلك مثلًا القرار المؤرخ في 8 رجب 1272/ 1856 والقانون المؤرخ في 21 جمادى الأولى 1296/ 1879 والقانون المؤرخ 7 ربيع الأنور 1332/ 1914.
وقد جاءت المادة 805 من القانون المدني المصري قائلة:
"لا يجوز أن يحرم أحد ملكه إلا في الأحوال التي يقررها القانون وبالطريقة التي يرسمها ويكون ذلك في مقابل تعويض عادل.
والقانون الكويتي الخاص بنزع الملكية رقم 33 سنة 1384 / 1964 جاء فصله الأول قائلًا:
"نزع ملكية العقارات والأراضي والاستيلاء عليها مؤقتًا لا يكون إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل".
وقد جاءت بهذا المبدأ - الانتزاع للمصلحة مقابل التعويض العادل - التقنيات العربية الأخرى مثل المادة 722 من القانون السوري ، والمادة 814 من القانون الليبي ، والمادة 1050 من القانون العراقي. (وكلهم من التشريع الإسلامي ملتمسون) .
2) جاء القانون التونسي صونًا لحقوق الأفراد الذين انتزع ملكهم بفصله الثاني بوجوب التأمين المسبق قبل الحوز.
"لا يمكن للمنتزع أن يحوز العقارات المنتزعة إلا بعد دفع غرامة عادلة أو تأمين مقدارها مسبقًا ".
وقد استقر فقه القضاء الإداري على أنه حتى في صورة التأكد لا يمكن أن تحوز الإدارة العقار بمجرد صدور أمر الانتزاع ، بل لا بد من اتصال صاحب العقار بالغرامة أو تأمين مقدار الغرامة الوقتية عند رفض صاحب الملك للغرامة المعروضة عليه.
ذلك أن حوز العقار من طرف الإدارة يتنافى مع القاعدة الأساسية للانتزاع التي أشرنا إليها سابقًا. والمالك الذي انتزع عقاره لا يمكن أن يتضرر من الانتزاع ، وهو وإن نقل الملكية بموجب أمر الانتزاع طبق الفصل الثاني إلا أنه يمكنه حبس العقار حتى يخلص في الغرامة خاصة ، وأن الفصل 16 من قانون الانتزاع المتحدث عنه يقول صراحة:"يتوقف حوز المنتزع على دفع غرامة الانتزاع إلى المستحقين أو تأمينها".
3) وقانون الانتزاع سمح للإدارة بحوز العقار المنتزع حالًا لكن تحت قيود وشروط تحمي حقوق المالك المنتزع عقاره.
فقد نص الفصل 16 وما بعده من هذا القانون على أنه يمكن للإدارة طلب الحوز والقاضي المستعجل يعين لها المبلغ الذي يجب عليها تأمينه بعد إجراء اختبارات إذا تراءى له ذلك.
وهذه النصوص جاءت - تشريعًا - حامية لحقوق الأفراد ، لكن مع الأسف قد لا يرى التطبيق إلا مسايرة الإدارة في مطالبها باعتبار أن الأمر يتعلق بأمر وقتي لا نهائي.
ومن المؤسف أن يحل الخبير محل القاضي في التقدير والاجتهاد ، وقد تضيع بذلك الحقوق وتتلاشى ، والأولى أن يعنى القضاء الاستعجالي بالأمر تماشيًا مع روح النص والمبادئ السامية المستوحاة من التشريع الاسلامي وقد جاءت حامية لحقوق الأفراد وساعية لتطييب خاطرهم وجبر جرحهم ، فمنحتهم الضمانات الموصلة والحافظة.
ومن المؤسف أن تقدير بعض الأراضي المنتزعة مثلا والمهيأة للبناء والسكن يقع على اعتبار أنها أراض فلاحية فتتغير القيمة تغيرًا جذريا كاملًا وتحصل المأساة بالنسبة للمالك.
فالأجدر بالقاضي أن يتولى الأمر بنفسه ، والقانون منحه ذلك وهو خبير عالم فقيه ثقة نزيه يصون الحقوق ويسعى لحفظها ولا تأخذه في الحق لومة لائم مستعينًا في عمله بذوي الخبرة والمعرفة للإرشاد لا للاعتماد ، وبذلك يضع الأمور من أول وهلة في نصابها حتى يتصل كل ذي حق بحقه وعلى شفتيه ابتسامة الرضا تنسيه ألم الأخذ والانتزاع وحتى يقع تطبيق القانون تطبيقًا عادلًا من طرف قضاة عدول.
4) والإدارة لا حق لها في منع المالك الذي انتزع عقاره من سحب الغرامة الوقتية أو سحب بعضها عن إذن المحكمة طبعًا وهذه لها حق الاجتهاد في الموضوع.
وقد قضت المحكمة الإدارة في القضية الاستئنافية عدد 80 في 13 مارس 1980 بذلك تقول في أسانيد حكمها:
"حيث إنه سبق لهذه المحكمة أن أقرت بأن التشريع المتعلق بالانتزاع من أجل المصلحة العامة لا يوجب تأخير تسديد الغرامة الوقتية من قبل المنتزع إلى فصل النزاع بصورة باتة.
وحيث إن عمل هذه المحكمة جرى على تمكين المنتزع منهم باستخلاص جزء من الغرامة الوقتية في حدود العروض المبذولة من قبل الجهة المنتزعة.
وحيث إن العروض إذا كانت بعيدة عن الواقع وغير جدية أو كانت مفقودة ، فإنه يستحسن للمحكمة تحديد المبلغ الواجب تسديده مؤقتًا للمنتزع منه بمحض اجتهاد المحكمة.
والمادة 2 - 3 من القانون الكويتي تحرم المالك الذي رفع أمره للقضاء من المال المعروض ، تحرمه من سحب جزء من الغرامة المؤمنة لحين الفصل النهائي.
ويتعرض السنهوري إلى أن القانون المتعلق بالانتزاع المصري لا يمنع من السحب وحصول ذي الشأن على المبالغ المقدرة من طرف الإدارة لكن إذا تعذر الدفع فإنها تشعر المالك بذلك.
ويظهر أن فقه القضاء التونسي كان أفضل من جهة الإنصاف والعدل.
5) وسيرًا على المبادئ العامة الحافظة لكافة الحقوق التي رسمها لنفسه قانون الانتزاع ، فإنه جاء بفصله التاسع قائلًا:
فإذا لم تستعمل العقارات المنتزعة في أشغال ذات مصلحة عمومية المنصوص عليها بأمر الانتزاع خلال أجل قدره خمسة أعوام من تاريخ أمر الانتزاع جاز للمالكين السابقين أو لمن أنجزت لهم منهم حقوق أن يطلبوا استرجاعها ما لم يقع الاتفاق على خلافه وذلك بشرط أن يقدموا مطلبًا كتابيا للمنتزع في بحر السنتين المواليتين لانقراض الأجل المشار إليه في هذا الفصل وإلا سقط حقهم ويجب عليهم عندئذ إرجاع كامل مبلغ الغرامة التي قبضوها.
وفي صورة امتناع المنتزع أو سكوته فللمنتفعين أن يرفعوا القضية للمحاكم المختصة ".
أي إلى المحكمة الابتدائية في الطور الابتدائي وأمام المحكمة الإدارية استئنافيا غير أنه لا يجوز مقاضاة الإدارة بحق الإلغاء.
وهكذا نرى أن تأسيس الأخذ للمصلحة العامة مقابل التعويض العادل كان يعتمد في القانون التونسي المبادئ الفقهية التي شرحناها سابقًا وكذلك الإجراءات العدلية السابقة عنه والمبادئ العامة التي جاءت بها مجلة الأحكام العدلية أول من سعى لوضع المدونات القانونية هو الخليفة السلطان سليمان القانوني المولود سنة 900 /1494 والمتوفى سنة 974 /1566 فقد كلف شيخ الإسلام أبا السعود الآمدي فجمع عدة قوانين في مجموعة عرفت باسم قانون نامه ، وكلف كذلك الشيخ إبراهيم الحلبي بأن يجمع أحكام الفقه في كتاب مختصر موحد ، فلخص الشيخ الحلبي المسائل الواردة في كتب الحنفية في كتاب سماه (ملتقى الأبحر) ، ولهذا الكتاب شرح اسمه الدر المنتقى شرح الملتقى. وفي عهد السلطان عبد العزيز خان وضعت مجلة الأحكام العدلية (أول مجلة) سنة 1286 /1869. ولهذه المجلة عدة شروح ، أهمها شرح علي حيدر بالتركية ترجمة الأستاذ فهمي الحسيني إلى العربية. وهناك شرح لسليم باز اللبناني في جزأين طبع سنة 1306/ 1888 ببيروت بالمطبعة الأدبية ، وهناك شرح آخر لها في جزأين بعنوان "مرآة المجلة " ليوسف آصاف ، طبع بالمطبعة العمومية بمصر سنة 1312 /1894.
وابن النجيم صاحب الأشباه والنظائر هو زين العابدين بن إبراهيم بن محمد بن نجيم ولد سنة 926 /1519 وتوفي سنة 970 /1563. فقيه حنفي مصري له كتاب الأشباه والنظائر وله كتاب (البحر الرائق في شرح كنز الدقائق) مطبوع في 8 أجزاء ، وله كتاب (الفتاوى الزينية) مطبوع أيضًا وهو صنو الفقيه الحنفي سراج الدين عمر المتوفى سنة 1005 /1596 ، له شرح على الكنز سماه النهر الفائق. ولزين العابدين كتاب آخر هو رسائل ابن نجيم مطبوع أيضًا.
وأما ابن السبكي فهو تاج الدين عبد الرهاب بن علي بن عبد الكافي المصري السبكي قاض فقيه مؤرخ باحث سكن مع والده العالم الفقيه دمشق وتوفي بها سنة 771/ 1370 له عدة مؤلفات مطبوعة منها طبقات الشافعية الكبرى وكتاب (جمع الجوامع ومنع الموانع) وكتاب الأشباه والنظائر وكتاب التاج.
والسيوطي هو عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق الدين الخضري السيوطي له مؤلفات بلغت فيما قيل 600 مصنفًا ، منها كتاب الأشباه والنظائر في العربية والنحو ، وكتاب الأشباه والنظائر في الفقه الشافعي مطبوعان ، ومنها بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة ، توفي سنة 911 /1505 ، أما المجلة المدنية التونسية فقد وضعت سنة 1314 /1896 من طرف لجنة مؤلفة من شيوخ الزيتونة ، وكان رئاستها لفضيلة المنعم المبرور شيخ الإسلام محمود بن الخوجة المتوفى سنة 1329 /1911 وهي معمول بها حتى الآن. في مبادئها العامة
مثل: "هي مبادئ عامة مأخوذة من كتب الفقه خاصة الأشباه والنظائر في أصول الفقه لابن نجيم ، وكذلك الأشباه والنظائر لابن السبكي في أصول الفقه أيضًا ، وكذلك الأشباه والنظائر لجلال الدين السيوطي.
وهذه المبادئ أخذت بها المدونة التونسية ، وبنت عليها أحكامها.
وخلاصة القول وفي ختامه فإن الانتزاع لا يكون حلالًا مباحًا إلا تحققت المصلحة العامة منه وخلص من كل شوائب المصالح الذاتية الفردية ونال صاحب الملك المنتزع تعويضًا عادلًا ومنصفًا عن حقوقه ومكاسبه المأخوذة والمنتزعة كل ذلك بالاتفاق والمراضاة أو بإشراف قضاء عادل يعتمد كافة المعطيات وصولًا إلى الحق.
وفقنا الله لما فيه الصواب، وألهمنا لمزيد من شكره والثناء عليه بما هو أهله اعترافًا بنعمه التي لا تحصى ولا تعد.
الدكتور محمود شمام