الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صرف الزكاة لصالح صندوق
التضامن الإسلامي
إعداد
سعادة سيدي محمد يوسف جيري
عضو المجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله عليه توكلت وإليه أنبت
وصلى الله وسلم على من سيبقى فعله وقوله وإقراره مناراً على مدى الدهر لكل باحث عن الصراط المستقيم.
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبع سنته واهتدى بهديه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وبعد،،،
فهذه محاولة متواضعة ومركزة، لا نطمع بها في التمكن الفوري من استجلاء الكلمة الفصل بخصوص قضية إجزاء دفع الزكاة المفروضة إلى صندوق التضامن الإسلامي، بل همنا الأساسي هو تقديم دراسة مقارنة بين الزكاة وبين صندوق التضامن الإسلامي من حيث الأهداف وأساليب العمل؛ حتى تكون المسائل المبدئية والفقهية والتنفيذية التي تتضمنها هذه القضية واضحة وظاهرة بصورة أكثر حدة.
وبطبيعة الحال، فإن هذه المقارنة تجر إلى طرح بعض الاستنتاجات والاقتراحات العملية على بساط البحث. فينبغي ألا تقيم تلك الاستنتاجات والاقتراحات بمقدار ما سيتوفر إزاءها من قبول أو رفض من طرف السادة الأعضاء، بل تكون هذه الاقتراحات قد كملت مهمتها وآتت أكلها إذا تمكنت من إثارة نقاش علمي صريح وبناء بيد ذوي الاختصاص حتى يتوصلوا في النهاية إلى حل يرضي الله تعالى، حل يكون في الحقيقة انتصاراً للاجتهاد الجماعي على الرأي الفردي.
ومن هذا المنطلق فإن هيكل البحث يكون كالآتي:-
المحتوى
الباب الأول
- تعريف الزكاة
- أهداف الزكاة
الباب الثاني
- تعريف صندوق التضامن الإسلامي
- أهداف الصندوق
الباب الثالث
- دراسة مقارنة بين الزكاة وصندوق التضامن
الباب الرابع
- استنتاجات واقتراحات عملية
- قائمة بأهم المصادر والمراجع
بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الأول
تعريف الزكاة والتذكير بأهدافها وأبعادها
تعريف الزكاة:
الزكاة بالمعنى الشرعي: صدقة مكتوبة وعبادة تتم بأخذ قيمة مخصوصة من مال مخصوص، حسب أوصاف مخصوصة، تصرف إلى فئات مخصوصة من الناس بنية الامتثال لأمر الله.
وهي الركن الثالث من أركان الإسلام.
وفرضيتها ثابتة في الكتاب والسنة والإجماع.
إن للزكاة بعدين يكتسب كل منهما في نظر الخلق أهمية خاصة تكاد تكون مطلقة، فهي من ناحية عبادة ونسك وقربة إلى الله عز وجل. وهي من ناحية أخرى معالجة عملية لظاهرة اجتماعية واقتصادية بالغة الخطورة: حق المحرومين والفقراء في أموال الأغنياء.
فمن حيث كونها عبادة مفروضة، وركناً أساسياً في الإسلام، يرى المسلم أنه لزام عليه أن يقيد نفسه في إيتائها وفي التصرف في تأويلها وتفسيرها وتطبيقها بالحدود التي وضعها الشارع.
ففي الحديث فيما رواه أبو داود عن زياد بن الحارث الصدائي وفيه: ((إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقة، حتى حكم هو فيها، فجزأها ثمانية أجزاء..))
ومن الفقهاء الذين غلبوا هذه النظرة التعبدية للزكاة على غيرها من الاعتبارات الإمام الشافعي وأحمد في "المشهور"، وبعض المالكية وكذلك الظاهرية.
ومن حيث كونها معالجة عملية لظاهرة اجتماعية يرى المسلم نفسه أمام تطورات اجتماعية تستجد يوماً بعد يوم، مما يجعل لزاماً عليه أن يأخذ بعين الاعتبار تلك المتغيرات عند أدائه للزكاة.
ومن الفقهاء الذين غلبوا هذه الناحية الاجتماعية أبو حنيفة وآخرون من الأئمة، فهم يرون أن الزكاة حق مالي قصد به سد خلة الفقراء.
والحقيقة أن الاجتهاد الأصيل في زمننا هذا يقودنا إلى موقف جامع لحكمة هذين الاتجاهين.
فالزكاة كعبادة وقربة ليس لنا الحق أن ننظر إليها كنظرتنا إلى ميادين الأمر العام بالمعروف والنهي عن المنكر، بحيث نكيفها كما نشاء، ولا نخشى وزراً ما دمنا لم نخرج عن إطار الأمر العام، بل يجب أن تكون استنباطاتنا بخصوص كيفية تطبيقها استنباطات موثقة محاطة بكل الضوابط التي تضمن لنا أمان البقاء الدائم في حدود العبادة والنسك. لكن يجب علينا ونحن نتقيد بالناحية التعبدية ألا ننظر إلى قربة الزكاة من حيث الشكل الخارجي كنظرتنا إلى الصلاة أو الصوم أو الحج من حيث الشكل الخارجي في أدائها.
فشكل هذه العبادات لا يتغير مهما اختلفت العصور وتعاقبت الدهور، أما الزكاة فلأنها ترتكز في تطبيقها على متغير بالطبيعة وهو المجتمع فإن فريضة الاجتهاد تبدو لا مناص منها في كل حين ومكان؛ لكي نقوم بهذه العبادة على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى. لكن يجب أن يكون الاجتهاد اجتهاداً أصيلاً بعيداً عن الانسياق الأعمى وراء كل جديد؛ حيث الواجب على المسلم أن يطبق الشريعة على المستجدات لا أن يفرض المستجدات على الشريعة.
أهداف الزكاة:
إن للزكاة أهدافاً وفوائد كثيرة روحية وأخلاقية واجتماعية واقتصادية وسياسية، بعضها فردية وبعضها جماعية.
فمن هذه الأهداف ما يتعلق بالمعطي ومنها يتعلق بالمعطى له، ومنها ما يتعلق بالكيان الاجتماعي العام الذي تصرف فيه الزكاة.
وبحكم طبيعة بحثنا وهو دراسة مدى إجزاء دفع الزكاة إلى صندوق التضامن الإسلامي، وحيث إن أهداف صندوق التضامن الإسلامي أهداف اجتماعية وسياسية في أساسها، فإننا مع إحساسنا العميق بالجانب الفردي والروحي والتعبدي والأخلاقي في عملية الزكاة، فإننا سنركز جل اهتمامنا على الرسالة الاجتماعية والسياسية لهذا الركن الأساسي من أركان الإسلام.
مصارف الزكاة في محكم التنزيل، حددت بصورة مفصلة {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} التوبة:60.
ونظرة فاحصة في هذه الآية الكريمة تظهر ثلاثة أبعاد وأهداف متكاملة للزكاة على مستوى المجتمع ككل.
أولاً: هدف تكافلي:
يغطي هذا الجانب بجميع مظاهره قوله تعالى: لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
إذا تتبعنا في تراثنا الفقهي الكبير هذه الأصناف الخمسة فإنه يمكن القول بأنها تغطي جميع الحالات الفردية التي تحتاج إلى مؤازرة اجتماعية مباشرة:
فالفقراء هم العجزة والأرامل واليتامى والمصابون في أثناء العمل والمرضى والزمنى والمكفوفون والمسنون وذوو العاهات البدنية أو العقلية، شريطة عدم غناهم بمال موروث.
والمساكين هو ذوو الدخل القاصر عن كفايتهم؛ لقلة الأجر أو كثرة العيال أو ارتفاع الأسعار.
والغارمون هم ضحايا الديون أو الغارمون لإصلاح ذات البين.
وفي الرقاب: شراء الرقاب وعتقها أو فك الأسير المسلم الذي يتحكم فيه الكفار (مع الخلاف في ذلك) .
وابن السبيل: المهاجرون والمهجرون في سبيل الله والمشردون بفعل الكوارث الطبيعية، أو اللاجئون السياسيون الذين فروا من أجل دينهم من ديار الكفر والطغيان، وطلبة العلم في ديار الغربة الذين لا يجدون كفايتهم في إطار صندوق دولة أو جمعية، ولم يكن عندهم دخل خاص.
إن دور الزكاة أقرب إلى مؤسسات الضمان الاجتماعي في عصرنا، فعلى الهيئات المختصة استناداً إلى الآية الكريمة اختيار أفضل الطرق لمعرفة المستحقين وحصرهم والتأكد من استحقاقهم وقدر حاجاتهم ومبلغ ما يكفيهم ووضع الأسس السليمة لتحقيق غاية التكافل الاجتماعي وفقاً للعدد والظروف.
فمد يد المساعدة إلى هذه الأصناف الخمسة له انعكاساته الخيرة على كل فرد معني وعلى المجتمع ككيان متكامل. وفي هذا ضمان شامل لجميع أصناف المحتاجين ولحاجاتهم المختلفة من بدنية وعقلية ونفسية.
والحق أن الزكاة من هذا المنظار الشامل تعد أول تشريع منظم في سبيل تحقيق ضمان اجتماعي، لا يعتمد على الصدقات الفردية التطوعية فقط، بل يقوم على التدخل اليقظ من طرف الدولة الإسلامية لكل الأفراد (راجع فقه الزكاة للدكتور يوسف القرضاوي) ، فلا نجد في المجتمعات سلفاً وخلفاً هذا النوع من الإلزام بالتكافل الاجتماعي يفرضه الدين وتنظمه الدولة، وتحارب من أجله لاستخلاص حقوق الفقراء مما جعل الله الأغنياء مستخلفين فيه.
ثانيا: هدف ديني سياسي:
يغطي هذا الجانب قوله تعالى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} . مع هذين المصرفين من مصارف الزكاة يتضح البعد الديني السياسي للزكاة، فالإسلام دين ودولة، وشاءت عناية الله أن يخصص جزء من هذا الحق المعلوم للجهاد في سبيل الله والدفاع عن العقيدة وامتداد سلطانها حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة أعداء الله السفلى، والمرابطة لتحرير أرض الإسلام من حكم الكفار حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، وكذلك استمالة المؤلفة قلوبهم وشدهم إلى رحاب الدين الحنيف عن طريق الاهتمام بهم.
ثالثاً: هدف تنظيمي إداري:
يغطي هذا الجانب قوله تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} ، إن تخصيص جزء من الزكاة لهذا الصنف وجعل ترتيبه بعد الفقراء والمساكين وهم في طليعة مستحقي الزكاة لدليل أكيد على أن الزكاة ليست فقط عبادة فردية، وإنما هي وظيفة من وظائف الدولة الإسلامية، تعين لها جهازاً إدارياً ومالياً كفؤا يقوم بتنظيم عملية الجباية والتوزيع، ويصرف للذين يعملون فيه رواتب عادلة من مال الزكاة.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث السعاة لجباية الزكاة، فقد بعث عليه الصلاة والسلام عمر بن الخطاب وأبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل وغيرهم لأخذ الزكاة ودفعها إلى مستحقيها.
إن الجانب الروحي في دفع الزكاة والذي يجعل المسلم يدفعها عن طيب خاطر سائلاً الله عز وجل أن يتقبل منه لا يغني عن الجانب الإداري والتنظيمي الذي يفرض على أولي الحل والعقد في الدولة الإسلامية أن يقيموا إدارة لتحصيل الزكاة وتوزيعها وفق ما أمر به المولى عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} التوبة: 103.
الباب الثاني
تعريف صندوق التضامن الإسلامي
وحصر أهدافه ورسالته
بعد أن تبين لنا هذه الأهداف الثلاثة الرئيسية للزكاة عن طريق تصنيف مصارفها الثمانية، يجدر بنا أن نعرف بصندوق التضامن الإسلامي والأهداف التي رسمتها له منظمة المؤتمر الإسلامي لنرى إذا كان بالإمكان أن تندرج رسالة الصندوق في إطار رسالة الزكاة.
1-
صندوق التضامن الإسلامي:
صندوق دائم منبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي له شخصيته الاعتبارية المستقلة.
أقر مؤتمر القمة الإسلامي الثاني بمدينة لاهور عام 1974م إنشاء هذا الصندوق بهدف الوفاء باحتياجات ومتطلبات القضايا الإسلامية وللنهوض بالثقافة والقيم والجامعات الإسلامية، على أن تدفع الدول الأعضاء مساهماتها في الصندوق بما يتفق واستطاعة كل منها.
وأقر نظامه الأساسي المؤتمر الإسلامي الخامس لوزراء الخارجية بكوالالمبور بماليزيا عام 1974م.
2-
أهداف الصندوق:
بالرجوع إلى المادة الثانية من النظام الأساسي لصندوق التضامن الإسلامي يتضح أن أهدافه هي العمل على تحقيق كل ما من شأنه رفع مستوى المسلمين في العالم، والمحافظة على عقيدتهم، ودعم تضامنهم وجهادهم في جميع المجالات، وخاصة في المجالات الآتية:
"أ- التخفيف من أثر نتائج الأزمات والمحن والكوارث الطبيعية والظروف الاجتماعية التي تتعرض لها البلاد والمجتمعات الإسلامية، وتوجيه المساعدات اللازمة لذلك.
ب- تنظيم منح المساعدات والمعونات المادية للبلاد والأقليات والجاليات الإسلامية بغية رفع مستواها الديني والثقافي والاجتماعي، والمساهمة في بناء المساجد والمستشفيات والمدارس التي تحتاج إليها.
ج- تنظيم نشر الدعوة الإسلامية ورسالتها وتعاليم الإسلام ومثله العليا ودعم المراكز الإسلامية داخل الدول الإسلامية وخارجها؛ لأجل خير المجتمعات الإسلامية ونشر الفكر الإسلامي.
د- تشجيع البحث العلمي والتقني وإنشاء وتمويل الجامعات الإسلامية؛ استجابة لاحتياجات العالم الحديث، حيثما كان ذلك مطلوباً، ودعم الجامعات القائمة فعلاً.
هـ- دعم وتنظيم نشاط الشباب المسلم في العالم روحيا واجتماعياً ورياضياً.
و تنظيم الحلقات الدراسية التي تضم نخبة من الخبراء والمختصين في قضايا التشريع والتقنية والإدارة والاقتصاد والثقافة والعلوم التي يحتاج العالم الإسلامي إلى بلورة الفكر الإسلامي بشأنها.
ز- تنفيذ جميع المشروعات التي يقرها المؤتمر الإسلامي ويعتبر تنفيذها من اختصاص صندوق التضامن الإسلامي".
أما موارد الصندوق فتنص عليها المادة السادسة كما يلي:
"أ- تتكون موارد الصندوق من تبرعات الدول الأعضاء ومن الهبات والمنح التي تقدمها الهيئات العامة والخاصة والأفراد، ومن عائدات وقفية الصندوق بعد إتمام إجراءات إنشائها.
ب- وللدول الأعضاء والهيئات العامة أو الخاصة والأفراد أن يدعموا صندوق التضامن الإسلامي بالخبرات أو المساعدات العينية أو الجهود البشرية".
ويقدم النظام الأساسي للصندوق في المواد الأخرى (2، 4، 5، 7، 8، 9، 10، 11، 12، 13) المتطلبات التنظيمية والعملية المتعلقة بإدارة الصندوق وتسيير أعماله وتحديد علاقاته مع الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي ومع الهيئات والمؤسسات الأخرى.
أما وقفية صندوق التضامن الإسلامي فهو جاء كامتداد طبيعي للصندوق حيث تنشأ الوقفية عن صندوق التضامن وتخصص العائدات لصندوق التضامن دعماً لمركزه المالي بإمداده "بريع سنوي يعزز مكانته ويكفل له الاستمرار في رسالته" مع الالتزام في استثمار أموال الوقفية بجميع أنواعها بمراعاة أحكام الشريعة الإسلامية والبعد عن الربا.
وتحدد المادة (4) من النظام الأساسي لوقفية صندوق التضامن الإسلامي موارد الوقفية على الشكل التالي:
"أ- الأموال السائلة التي توقفها حكومات الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي وكذلك الأشخاص الطبيعيون أو الاعتباريون من العالم الإسلامي.
ب- العقارات وسائر الأموال المنقولة التي توقفها الحكومات والأشخاص الطبيعيون والاعتباريون من العالم الإسلامي".
الباب الثالث
دراسة مقارنة بين الزكاة وصندوق التضامن
إن الدراسة المتمعنة للزكاة ولصندوق التضامن بقصد المقارنة تقودنا إلى الحقائق التالية:
1-
نظراً للظروف الراهنة التي تمر بها المجتمعات الإسلامية في يومنا هذا، حيث مواطن الفقر والجهل والمرض تكاد تتطابق مع مواطن الإسلام على وجه الكرة الأرضية مع ملاحظة تفوق الأراضي الإسلامية في نفس الوقت على الأراضي الأخرى في ميدان الثروات الطبيعية والاستراتيجية والسيولات المالية، فإن صندوق التضامن الإسلامي يفرض نفسه على الأمة الإسلامية كإحدى الحلول الأساسية لمآسي الأمة ولمساعدتها على تبوء مكانتها كخير أمة أخرجت للناس.
وهذا يعني أنه يجب على مجمع الفقه الإسلامي أن يدرس على ضوء الكتاب والسنة والتراث الإسلامي كل ما من شأنه أن يضفي اعتبارات دينية خاصة لكل مجهود يقوم به الأفراد والمجتمعات لدعم هذا الصندوق، وفي هذا الإطار فإن دور مجمع الفقه الإسلامي لا يقتصر على مجرد حث الدول والأفراد على التبرع السخي لصالح صندوق التضامن الإسلامي كوجه من أوجه البر والصدقة الطوعية، بل يجب على المجمع كذلك أن يدرس بجدية إمكانية إجزاء دفع الزكاة المكتوبة إلى هذا الصندوق، كما يجب على المجمع كذلك أن يقترح على الصندوق أي تعديل في الهيكل أو النظام أو الأهداف يرمي إلى فتح الطريق أمام الصندوق لكي يتقدم إلى الوزراء، ومن ثم إلى القمة، بمشروع نظام معدل يطرح للإقرار ويكون الصندوق بموجبه وعاء صالحاً لتلقي الصدقات الفرضية من الأفراد والمجتمعات جنباً إلى جنب مع التبرعات الطوعية.
فهذا النوع من الاجتهاد باتجاهاته المختلفة يفرضه على المجمع نظامه الأساسي؛ حيث نصت المادة (4 ب) على شد الأمة الإسلامية لعقيدتها ودراسة مشكلات الحياة المعاصرة والاجتهاد فيها اجتهاداً أصيلاً لتقديم الحلول النابعة من الشريعة الإسلامية.
2-
إن التضامن والتآخي كفكرة مبدأ أساسي في الإسلام: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} الحجرات: 10. ((المسلم أخو المسلم)) ، ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)) . وهذه الفكرة هي من صميم أهداف الزكاة وهي كذلك من صميم أهداف صندوق التضامن الإسلامي.
لكن وجود فكرة التضامن في صميم كل من الصندوق والزكاة يجب ألا يقودنا إلى استنتاجات سريعة.
إذ إن صندوق التضامن الإسلامي بصفته جهازاً تنفيذياً واجتهاداً جماعياً معاصراً يرمي إلى تطبيق فكرة التضامن الإسلامي في زمننا على مستوى العالم الإسلامي ككل، وبصفته هيئة لها شخصيتها الاعتبارية وأسلوب عملها ومصادر إيراداتها ونظام توزيع واستثمار مواردها
…
الصندوق من هذا المنظار ظاهرة جديدة فرضتها متطلبات العصر على الأمة.
وهنا نعيد ما قلناه آنفاً من أنه يجب على العلماء الاستعانة بالكتاب والسنة والقياس والاستنباط والاستقراء والاستئناس كذلك بتجارب السلف وجميع وسائل الأمر بالمعروف لحث الأمة على مساندة هذا الصندوق ودعمه مادياً ومعنوياً.
أما جعل الزكاة أو بعض الزكاة مصدراً من مصادر إيرادات الصندوق فتلك قضية أخرى يجب النظر فيها على ضوء الضوابط التي رسمها الشارع للزكاة.
3-
إن مؤسسي صندوق التضامن الإسلامي قادة دول كانوا أو وزراء لحكمة هداهم الله إليها، لم يشؤوا أن يقحموا الزكاة المكتوبة بصورة علنية في إطار هذا الصندوق.
فموارد الصندوق التي أشير إليها في المادة (6) من القانون الأساسي تنص على: التبرعات، الهبات، المنح، عائدات وقفية الصندوق، الخبرات أو المساعدات العينية، والجهود البشرية، وكلها مصطلحات عصرية لها مدلولاتها المحددة وترتكز أساساً على الناحية التطوعية، ولم يستعمل النظام الأساسي للصندوق ولو مرة واحدة كلمة "الزكاة" أو الكلمات القرآنية الأخرى التي استعملت شرعاً لأداء معنى الزكاة؛ ككلمة "الصدقة" الصدقات، الإنفاق، والحق المعلوم، وغيرها.
ويلاحظ كذلك أن المصطلحات القرآنية في تحديد مصارف الزكاة ثمانية: "الفقراء، المساكين، العاملين عليها، المؤلفة قلوبهم، في الرقاب، الغارمين، في سبيل الله، ابن السبيل
…
" هذه المصطلحات لم ترد ولو مرة واحدة بصيغتها القرآنية في أي عبارة من عبارات النظام الأساسي للصندوق، ولربما كانت الحكمة التي هدى الله إليها قادة الدول الإسلامية ووزراء الخارجية هو، على الرغم من أهمية الصندوق وإسلاميته، أن يترك الباب مفتوحاً لتحديد هذه النقطة الخطيرة أمام جهاز مختص هو مجمع الفقه الإسلامي حيث كانت فكرة تأسيس هذا المجمع موجودة منذ فجر منظمة المؤتمر الإسلامي لكنها لم تر النور بصورة قانونية إلا عند إقرار نظامه الأساسي من طرف المؤتمر الثالث عشر لوزراء الخارجية عام 1982م في نيامي بجمهورية النيجر، ثم انعقاد المؤتمر التأسيسي لمجمع الفقه الإسلامي في مكة المكرمة عام 1983م تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.
4-
مما لا يقبل الجدال أن بعض الأهداف المشار إليها في النظام الأساسي لصندوق التضامن الإسلامي، والتي تدعمها محصلة النتائج لمختلف نشاطات الصندوق ومساهماته منذ تأسيسه إلى يومنا هذا يمكن الموافقة بينها وبين بعض المعاني أو المدلولات الشرعية لمصارف الزكاة، مثل باب الأزمات والمحن والكوارث الطبيعية والظروف الاجتماعية التي تتعرض لها بعض الدول والمجتمعات الإسلامية، مما يبرز في تلك المجتمعات جماعة من الفقراء والمساكين والغارمين وابن السبيل.
ويتوقف ضيق أو سعة دائرة الموافقة بين مصارف الزكاة وبين الأجهزة والهيئات التي أسسها المسلمون لتجسيد فكرة التضامن والتآخي في الإسلام على مدى استعداد المذاهب الفقهية والمجتهدين من الفقهاء لتأويل أو تفسير مصارف الزكاة.
فبعضهم يرون الحكمة في الوقوف عند تفسير السلف وعدم تعديه، مثال ذلك: ما رجحته هيئة كِبار العلماء في المملكة العربية السعودية بخصوص تفسير {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} انظر قرار الهيئة رقم 24 بتاريخ 21/8/1394 هـ حيث رأى أكثرية أعضاء المجلس "الأخذ بقول جمهور العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء" من أن المراد بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} الغزاة المتطوعين بغزوهم وما يلزم لهم من استعداد، وإذا لم يوجدوا صرفت الزكاة كلها للأصناف الأخرى، وليس صرفها في شيء من المرافق العامة إلا إذا لم يوجد لها مستحق من الفقراء والمساكين وبقية الأصناف المنصوص عليهم في الآية الكريمة.
ويلاحظ نفس الاتجاه في تفسير كلمات الفقراء والمساكين، والمؤلفة قلوبهم، والغارمين.
ولا نرى أية فائدة في الاسترسال في ذكر الشواهد المشتقة من تراث الفقه الإسلامي الواسع إزاء تفسير هذه العبارات، فذلك معروف لدى السادة أعضاء المجمع الكرام، ولا يتسع صدر هذه المقالة التي نريدها مركزة بقدر المستطاع.
(ولمن يريد أن يقف على المصادر والمراجع التي يعتمد عليها هؤلاء وأولئك أن يراجع علماء المذاهب كالسرخسي من الحنفية وابن العربي من المالكية والنووي من الشافعية وابن قدامة من الحنابلة وابن حزم من الظاهرية وغيرهم) .
وفي المقابل، كان وما زال هناك فريق من العلماء والمجتهدين يسترسلون في تفسير معاني مصارف الزكاة، وهم على درجات، فمنهم من يقتصد فيه ويتقيد بما أثر عن مذهب معين أو مجتهد معين من السلف، ومنهم من يجاري العصر بدون تحفظ كبير إلى درجة أنه يوسع مفهوم الفقراء والمساكين أو ابن السبيل أو الغارم أو المؤلفة قلوبهم وبصفة خاصة مفهوم {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} مستعيناً بالمدلولات اللغوية والتاريخية ليشمل في النهاية أشياء كثيرة.
وأكبر مثال على ذلك عبارة {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} فحيث رأينا الفريق الأول يحصرها في الغزاة المتطوعين، نرى هنا علماء يعتقدون بصور متفاوتة أنه يشمل كل مجاهدة لنصرة دين الله ومحاربة أعدائه وإعلاء كلمته في الأرض حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين كله لله، فهم يرون أن الغزو قد يكون عسكرياً وقد يكون فكرياً أو سياسياً أو تربوياً، وأن الجهاد قد يكون بالقلم واللسان وقد يكون بالسيف والسنان، وقد تكون المرابطة اقتصادية أو اجتماعية أو إعلامية، فإذا كان المسلم في أي خندق من هذه الخنادق فهو في رأيهم غاز ومرابط ومجاهد في سبيل الله يجب أن يعان بقسط من مال الزكاة يقل أو يكثر حسب حصيلة الزكاة من ناحية، وحسب حاجة الجهاد من ناحية ثانية، وحسب حاجة المصارف الأخرى حدة وضعفاً من ناحية ثالثة، شريطة أن يرتبط هذا الجهاد وهذا النوع من الغزو بأهداف إسلامية معلنة صريحة لا يشوهها اعتبارات قومية أو عرقية أو طبقية أو إيدولوجية أخرى.
وقد أبدع الدكتور يوسف القرضاوي في استقصاء أدلة كل فريق من هذه الفرق والاتجاهات. ولمن يريد مزيداً من الشرح الرجوع إلى مؤلفه القيم "فقه الزكاة" وما ألحقه بكتابه من فهرس وافٍ للمصادر والمراجع ص 1190-1204 ج2.
5-
في الوقت الذي نلاحظ إمكانية التطابق بين بعض أهداف الصندوق وبين مصارف الزكاة فإنه يجب أن نقر بأن هنالك أهدافاً أخرى من بين أهداف الصندوق يصعب إدراجها تحت مفهوم أحد مصارف الزكاة الثمانية إلا إذا حذونا حذو من يساير متطلبات العصر مسايرة مطلقة، ويجند كل المدلولات اللغوية والفقهية والتاريخية لكل كلمة بغية الوصول إلى حل توفيقي بين هدف معين وبين مصرف من مصارف الزكاة، وفي هذا الاتجاه ما فيه من خطورة حيث سبق أن أشرنا إلى أن الزكاة ليست براً أو معروفاً فحسب، وإنما هي ركن أساسي من أركان الدين وعبادة حدد الشارع كيفيتها.
فمثلاً الهدف (5) من أهداف الصندوق ينص على: "دعم وتنظيم الشباب المسلم في العالم روحياً واجتماعياً ورياضياً" ومن الواضح أنه لكي يندرج هذا الهدف في دائرة مصارف الزكاة يجب علينا أن نتوسع بشكل مفرط في تفسير هذا المصرف أو ذلك، وليس ذلك من الحكمة في شيء لما سبق أن ذكرنا من أن واجب المسلم في هذا العصر وفي كل عصر هو تطبيق الشريعة على المستجدات وليس فرض المستجدات على الشريعة.
6-
حتى في الحالات التي تتضح إمكانية التوفيق بين هدف معين من أهداف الصندوق ومصرف محدد من مصارف الزكاة فإن مسألة تثبيت نفس المسلم على أن زكاته بلغت مصرفها تبقى قضية معلقة؛ حيث إنه بالإضافة إلى مشكلة الهدف توجد مشاكل فقهية كثيرة يجب تذليلها.
أهمها: مسألة نقل الزكاة من مكان إلى آخر، ومسألة التمليك، ومسألة تعجيل الزكاة أو تأخيرها، ومسألة دفع القيمة عن العين.
أ- مسألة نقل الزكاة من مكان إلى آخر مع وجود من يستحقها من الفقراء والمساكين في مكان الزكاة (ونعيد إلى الذاكرة ما قلناه آنفاً من التطابق بين معاقل الفقر والمرض والجهل في العالم وبين مواطن الإسلام، مما يتعذر معه الجزم بأن الزكاة المنقولة إلى صندوق التضامن الإسلامي لصرفها في إحدى مصارف الزكاة لم يكن في بلد المزكي من كان في حاجة ملحة إليها) .
فهناك أدلة كثيرة تظهر أن الصحابة والتابعين والأئمة من بعدهم قد فهموا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)) على أنه تفريق المال في مكانه أي حيث جمع، فكان السعاة في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين يرجعون من مهمتهم إلى المدينة لا يحملون غير أحلاسهم أو عصيهم. والحكمة في ذلك: أن المقصود من الزكاة إغناء الفقراء بها، كما وضح ذلك ابن قدامة في المغني، ومراعاة حرمة الجوار وقرب دار الفقير من دار الغني والاكتفاء الذاتي والابتعاد عن المركزية المفرطة، وذلك بعلاج المشاكل حيث وجدت، فإذا أبحنا نقلها إلى مكان آخر بصورة مخالفة أفضى ذلك إلى إبقاء فقراء ذلك البلد محتاجين وإلى زعزعة عرى الجوار.
وعلى هذا المعنى يقول فرقد السبخي: "حملت زكاة مالي لأقسمها بمكة فلقيت سعيد بن جبير فقال: ردها فاقسمها في بلدك". وقد رد عمر بن عبد العزيز زكاة الري إلى الري بعد أن كان أهلها أحضروها إلى الكوفة.
وإذا تتبعنا ما أثر عن السلف في هذا الباب فإننا لا نراهم يجوزون النقل من مكان إلى مكان آخر إلا عند استغناء أهل المكان الأول.
وأكبر دليل على ذلك تلك المراجعات المتكررة بين معاذ بن جبل وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما عندما أرسل إليه معاذ ثلث الزكاة فنصفها من اليمن فأنكره عمر عليه، لكن عندما علم أن ذلك جاء بعد تغطية الحاجة عند أهل اليمن أقره.
أما عند وجود الحاجة فالخلاف بين من يقولون بعدم الإجزاء ومن يقولون بالإجزاء بإثم وعلى كراهية، ولم يستثن من ذلك إلا الحنفية الذين يقولون بجواز النقل بدون إثم ليس فقط لصلة الرحم أو لتلبيية حاجة أشد من بلد المزكي، بل أيضاً إذا كان نقلها إلى من هو أصلح وأنفع للمسلمين أو كانت الزكاة معجلة قبل تمام الحول.
وأما الأحاديث الكثيرة التي تروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستدعي الصدقات من الأعراب إلى المدينة ويصرفها في فقراء المدينة الأنصار، وما في معناها من حديث قبيصة بن المخارق حيث قدم من نجد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له صلى الله عليه وسلم:((أقم حتى تأتينا الصدقة)) إما أن نعينك عليها (أي على حاجتك) وإما أن نحطها عنك، فإننا نذهب إلى ما ذهب إليه أبو عبيد من إنه ليس لهذه الروايات محمل إلا أن يكون فضلاً عن حاجتهم وبعد استغنائهم عنها، وعلى كل حال فإن المنقول عند الحاجة الملحة لا يمكن أن يكون إلا جزءاًَ من الزكاة لا كلها، ونقل الكل لا يجوز إلا عند الاستغناء المطلق وهذا ما أثبتنا استحالته في المجتمعات الإسلامية في يومنا هذا، فحتى لو اعتمدنا على آراء من يجيزون نقل الزكاة من مكان إلى آخر مع وجود الحاجة في المكان الأول بإثم أو بدون إثم حسب اختلاف الحالات، فإن القضية النفسية المطروحة وهي قضية تثبيت نفس المسلم ستبقى بدون حل إلا إذا كان هناك إجماع أو شبه إجماع، وهذا ما يتعذر مع وجود أغلبية من المسلمين سلفاً وخلفاً يتحاشون نقل الزكاة مع وجود من يستحقها في بلد المزكي.
ب- مشكلة التمليك:
إن أغلب الأهداف التي يرمي إليها صندوق التضامن أهداف اجتماعية لا مجال فيها للتمليك الفردي، وهي بناء المدارس والمساجد والجامعات والمراكز والمخيمات وحلقات الدراسة كما هو مبين في قانونه الأساسي وفي جدول المساعدات التي قدمها المجلس الدائم لصندوق التضامن الإسلامي كمحصلة ثابتة لنشاطاته منذ ميلاده وحتى عام 1986م حتى تطبيق باب الأزمات والكوارث فإنه يأتي حسب عرف العصر الذي نعيشه في صورة جماعية لا مجال فيها إلا في القليل النادر للتمليك الفردي.
ومع أننا لا نذهب إلى القول بركنية التمليك في الزكاة فإننا نشير إلى أن جمهور المسلمين سلفاً وخلفاً فضلوا دائماً بخصوص الزكاة الحالات التي يتحقق فيها التمليك الفردي عند وجودها على المصالح العامة التي لا ملك فيها لأحد، فعلى الرغم من وجود فقهاء أجلاء أجازوا صرف الزكاة في أوجه الخير كما نسب ابن قدامة هذا المعنى بخصوص {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى أنس بن مالك والحسن البصري، وكما هو شائع في كتب الزيدية وآراء المحدثين مثل جمال الدين القاسمي، وكذلك عند بعض المعاصرين أمثال الشيخ محمد شلتوت فإنه يلاحظ أن المسلمين من أقدم العصور إلى يومنا هذا فهموا الزكاة على أنها في المقام الأول إتاحة تمليك فردي، فصارت من كثرة زيوع هذا المفهوم كأنه ركن فيها.
فإذا كان الأحناف تفردوا بالجزم بركنية التمليك، فالملاحظ أن أصحاب المذاهب الأخرى الذين لم يصلوا إلى درجة التصريح العلني بذلك قد طبقوه عملياً في كثير من الأحيان؛ حيث إنهم أعطوا غالباً الأولوية لمجالات التمليك الفردي كما قلنا بذلك آنفاً.
فالزكاة في المفهوم المتوارث منذ عهد الصحابة إما أن تؤتى للفقير والمسكين وباقي مستحقي الزكاة مناولة، أو تصل إليهم عن طريق جهاز متخصص في إحصاء الفقراء والمحتاجين، ومعروف لدى المستحقين ويستطيعون الاتصال به بدون أية مقدمات (بيروقراطية) وفي جميع الأوقات. وهذا ما سمي بإدارة الزكاة أو صندوق الزكاة وهو جزء من بيت المال.
والحكمة في هذا الاتجاه أنه قد استقر في الوجدان الجماعي للأمة الإسلامية في كل عصر أن إقحام المصالح العامة الكثيرة على ميدان الزكاة سيقود حتماً إلى إهدار حقوق عامة الفقراء والمساكين والغارمين وغيرهم من الذين لا يملكون أمام هيئات المصالح العامة المنظمة والمجهزة بالوسائل الفنية لفرض أنفسها على الرأي العام
…
لا يملكون أي وسيلة للإشعار بوجودهم وبحاجتهم، وبما أن الإسلام دين يعطي لكل من الفرد والجماعة حقهما كاملاً ولا يسمح لأحدهما أن يطغى على الآخر كما هو الشأن في المذاهب المادية الشيوعية منها والرأسمالية، فإن الوجدان الجماعي في العالم الإسلامي خصص الزكاة في المقام الأول للأفراد الثمانية المنصوص عليهم في آية مصارف الزكاة، علماً بأن في المال حقاً آخر غير الزكاة، وهذا الحق الآخر كان على مر الأزمان مجالاً للعمل الإسلامي الخيري في مجال المصالح والمرافق العامة.
وأن التمسك بهذا النهج المتوارث بين المسلمين سلفهم وخلفهم لضمان أكيد لسد ذريعة إخضاع الفرد لهيمنة المجتمع عندما يفتح باب الزكاة للمصالح العامة.
ج- ومن تلك المسائل الفقهية التي يجب البت فيها: مسألة فورية تفريق الزكاة أو تأخيرها. فصندوق التضامن الإسلامي يعتمد على الاجتماعات الدورية كما جاء في المادة (3) من النظام الأساسي لتوزيع ما يجمع لديه من إيرادات في أهدافه المختلفة إلا في حالات الكوارث والمحن حيث تجتمع لجنة الطوارئ كلما دعت الحاجة إلى ذلك، أي الأزمات والكوارث الطبيعية في إحدى الدول الإسلامية لتقرير ما يمكن أن يقوم به الصندوق.
فدورية التوزيع قد لا تتفق تماماً مع مبدأ الفورية الذي سار عليه جمهور العلماء في تعجيل الزكاة، فكما هي الحال عند مالك والشافعي وأحمد وبعض الأحناف كالكرخي وابن همام. إذ إنه في مؤسسات الزكاة الشرعية أو أقسام بيت المال المكلفة بالزكاة يوجد تواكب وتنسيق مستمران بين جباية الزكاة وبين توزيعها بدون انتظار مفرط.
وهذا الاتجاه في تعجيل دفع الزكاة إلى مستحقيها ما جعل النووي رحمه الله يرى أن عملية إحصاء المستحقين وتحديد مقدار حاجاتهم يجب أن يجري في نفس وقت جباية الزكاة بحيث "يقع الفراغ من جمع الصدقات بعد معرفتهم مباشرة أو معها ليصل إليهم حقوقهم في أقرب وقت ممكن" حيث الأمر بصرف الزكاة على الرغم من إطلاقه أمر معه قرينة الفورية الضمنية؛ لأن الزكاة لم توجد إلا لحاجة مستحقيها الثمانية، وهذه الحاجات في مجملها أو على الأقل في معظمها حاجات لا تقبل التأجيل، والتسويف. ولا يجوز التأخير فيها إلا لضرورة شرعية أو حاجة داعية، وهذا يعني أن طبيعة تحديد أوقات الصرف لأموال الصندوق لا تنسجم مع الزكاة إلا في حالتين:
- حالة الأزمات والطوارئ التي توجب اجتماع اللجنة المكلفة بذلك في أي وقت وحين.
- حالة التفسير الموسع لبعض مصارف الزكاة مثل: (سبيل الله) بحيث يشمل بعض المرافق والمصالح العامة التي لا تلتزم كثيراً بعنصر الوقت، وقد سبق أن أشرنا إلى عدم حكمة إقحام هذه المصالح العامة على الزكاة في يومنا هذا، إلا في حالة الاستغناء، أي عدم وجود من يستحق الزكاة من المصارف الأخرى وذلك لأسباب ذكرناها آنفاً.
د- ومن المسائل الفقهية التي تعترض كذلك سبيلنا عند الموازنة بين طبيعة الزكاة وطبيعة صندوق التضامن الإسلامي مسألة: دفع القيمة عن العين حيث إن تكوين الصندوق لا يحتوي على استعداد لتلقي الذات العينية لأموال الزكاة. فقد اختلف العلماء بخصوص دفع القيمة عن العين فمنهم من يمنع ذلك ومنهم من يجيزه بلا كراهة ومنهم يجيزه مع الكراهة ومنهم من يجيزه في بعض الحالات دون بعض.
وإننا نعتقد أن هذه المسألة يمكن حلها باتخاذ موقف وسط أشبه بما نقل عن معاذ بن جبل بخصوص الزكاة وقيل: بخصوص الجزية هو أنه قال لأهل اليمن: (اوتوني بخميس أو لبيس أيسر عليكم وخير لمن في المدينة من المهاجرين والأنصار..) .
وقد ذهب إلى نفس الحل الوسط شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال ما معناه: إن إخراج القيمة لغير حاجة ولا مصلحة راجحة ممنوع. وأما إخراج القيمة للحاجة أو المصلحة أو العدل فلا بأس به.
وموقفنا أنه إذا تبين إجزاء تقديم الزكاة إلى صندوق التضامن الإسلامي في حالة معينة (كما قلنا إن ذلك ممكن في باب الكوارث الطبيعية) فإن تحويل عين الزكاة إلى قيمتها أدعى للمصلحة وأيسر في العمل حيث إن صندوق التضامن الإسلامي لم يملك بعد استعدادات تنظيمية لتلقي عروض التجارة أو الذات العينية الأخرى شريطة أن يكون تقييم العين أو العروض على أسس عادلة ودقيقة.
الباب الرابع
استنتاجات واقتراحات عملية
1-
في حالة مراعاتنا للحكمة التي هدى الله إليها الأمة سلفاً وخلفاً من إعطاء الأولية في الزكاة لأصحاب الحاجات الفردية الملحة من فقراء ومساكين وفي الرقاب وغارمين وأبناء السبيل، إما مباشرة أو عن طريق هيئات مختصة في شؤون الزكاة (وقد أفضنا في ذكر ما أثر في ذلك آنفاً
…
) ونظراً لما يتسم به العالم الإسلامي في يومنا من تفشي جميع مظاهر هذه السلبيات الفردية وحيث إن أهداف صندوق التضامن أهداف اجتماعية لا مجال فيها للتمليك الفردي فإن نطاق التطابق بين الزكاة وبين أهداف صندوق التضامن الإسلامي يكون ضيقاً للغاية.
من هذا المنظار فإن باب الأزمات والكوارث الطبيعية والظروف الاجتماعية في البلاد والمجتمعات الإسلامية يكاد يكون الباب الوحيد الذي يمكن إدخاله في دائرة المستحقين للزكاة بالأولوية.
وعلى هذا، فإننا لا نرى هناك مانعاً شرعياً بل نحبذ ونشجع في حالة وجود تلك الكوارث والأزمات إعطاء جزء من الزكاة إلى صندوق التضامن لإيصالها لمستحقي الزكاة من المسلمين ضحايا هذه الكوارث، ويكون ذلك في صورة توكيل شرعي تحدد فيه شروط التوكيل ويتعهد الصندوق بالتقيد بها.
ويمكن أن تضاف إلى باب الكوارث الحالات الخاصة التي لم تحط بها المرافق العامة في بلد أو مجتمع إسلامي لسبب من الأسباب، والتي يعزم صندوق التضامن الإسلامي على مد يد المساعدة فيها إلى أفراد أو جماعات من المسلمين داخل المجتمع الإسلامي أو خارجه بغية تخليصهم من براثن الفقر والجوع والمرض والدين والجهل. مثاله: قيام الصندوق بدعم ما وجد في هذه الحالات من دور الأيتام ومراكز العجزة والمعوقين والفقراء في مخيمات المهاجرين والمهجرين لأسباب دينية، وتقديم المنح الدراسية إلى أبناء المعوزين من المسلمين، فهذه الحالات إما حالات فقر أو مسكنة أو ضرب في الأرض وذلك في جميع المدلولات الفقهية القديمة والمعاصرة لهذه الكلمات.
وفي حالة عزم الصندوق على القيام بعمل محدد من هذه الأعمال سواء كوظيفة إضافية على وظائفها الأساسية أو كتفسير عملي لبعض أجزاء أهدافه السبعة المذكورة في نظامه الأساسي، فإننا لا نرى كذلك مانعاً شرعياً، بل نشجع في تلك الحالة إعطاء جزء من الزكاة إلى صندوق التضامن الإسلامي لصرفه في هذه الحالات المحددة على أساس التوكيل الشرعي الذي أشرنا إليه آنفاً.
2-
في حالة توسعنا في تأويل بعض مصارف الزكاة كالفقير والمسكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمين وابن السبيل وفي سبيل الله فإنه يمكن بطريقة أو بأخرى أن ندخل جميع أهداف الصندوق أو أغلبها تحت مظلة الزكاة بهذا المفهوم.
إلا أننا في هذه الحالة نرى ألا يصرف شيء من أموال الزكاة في هذه الأهداف العامة للصندوق إلا بعد التأكد من أن ذوي الحاجة من أصحاب الحالات الأولى قد حصلوا على حقوقهم من الزكاة في المنطقة العينية.
ويكون ذلك بإحدى الطريقتين:
أ- أن تكون البنية الاجتماعية في المنطقة المعينة شفافة إلى درجة تسمح للمزكي أن يحصل على القناعة التلقائية بأنه لا يوجد في مكان إقامته من يستحق الزكاة من الفقراء والمساكين وخاصة ذوي القربى منهم والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل.
وفي هذه الحالة نرى أنه لا حرج شرعاً أن تدفع الزكاة أو ما فاض منها إلى صندوق التضامن بشرط أو بدون شرط حيث ترتقي الأهداف العامة في هذه الحالة للصندوق إلى مصاف مستحقي الزكاة بالأولوية بالنسبة لهذا الشخص.
ب- في حالة هذه الرؤية الواضحة، وفي حالة رغبة المزكي أن يعطي جزءاً من زكاته للصندوق فإن الأقرب للتقوى في رأينا أن يقوم به عن طريق هيئة متخصصة في حصر الزكاة وإحصاء مستحقيها في المنطقة التي يقيم فيها (مثل إدارة الزكاة أو صندوق الزكاة أو قسم بيت المال المتخصص في الزكاة أو أي جهاز مشابه في بلد إسلامي يتولى شؤون الزكاة) وتقوم هذه الهيئة بعد تقييم الأمر بتخصيص نسبة معينة لصندوق التضامن تقل أو تكثر حسب ما تمليه معرفة الهيئة بواقع الحال في هذه المنطقة ويفرضه الحرص على إعطاء الأولوية للفقراء والمساكين ومن في حكمهم.
إننا في هذا الصدد نذكر بالحكمة التي جعلت المسلمين على مر التاريخ يؤثرون في الزكاة أصحاب الحاجات الملحة على المصالح والمرافق العامة، حيث إن هنالك حقا آخر في المال غير الزكاة يمكن توجيهه إلى المصالح العامة.
3-
في الحالة التي يمكن لصندوق التضامن الإسلامي (على الرغم من كونه جهازاً دوليا يهتم بالأمور الجماعية لا الفردية) أن يولي الحالات الخاصة بعضاً من اهتماماته الثابتة، فإني أقترح تكوين لجنة تضم خبراء من الصندوق وفقهاء من المجمع تقوم بدراسة إمكانية وضع مشروع قانون أساسي معدل يعرض على الأمانة العامة ومن ثم على الوزراء فالقمة، يأخذ هذا القانون المعدل بعين الاعتبار متطلبات الزكاة الفقهية، ويعيد صياغة بعض أجزاء النظام الأساسي للصندوق أو يقترح إضافات عليه لكي يصبح بعد ذلك وعاء شرعياً مطلق الصلاحية لتلقي الزكاة وتوزيعها جنباً على جنب مع أهدافه الأخرى الإسلامية.
لكن هذا الحل التعديلي لا يمكن التفكير فيه إلا بطلب من الصندوق أو الأمانة العامة بصفتهما الجهتين اللتين تلمان بحدود صلاحيات صندوق التضامن الإسلامي.
4-
نظراً للأهداف التي يرمي إليها صندوق التضامن الإسلامي والتي أنجزت الكثير منها منذ ميلاد هذا الجهاز الإسلامي الهام، وانطلاقاً من الهدف الأساسي للمجمع وهو: دراسة الحياة المعاصرة والاجتهاد فيها اجتهاداً أصيلاً لتقديم الحلول النابعة عن الشريعة الإسلامية،
فإني أرى أن يصدر المجمع فتوى بتأهيل صندوق التضامن الإسلامي ليكون وعاءً لتلقي صدقات طوعية وحقوق شرعية أخرى في المال غير الزكاة بصفته جهازاً مكملاً لهيئات الزكاة في العمل لتحقيق الكفالة الاجتماعية في هذا العصر، ويحث المسلمين جماعات وأفراداً ودولاً على المسارعة والمنافسة في تقديم هذه الصدقات الطوعية أو وقف عقارات استثمارات شرعية أخرى لصالح هذا الصندوق ودعم وقفيته وذلك لتحقيق أهدافه الإسلامية النبيلة.
وما أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم.
سيدي محمد يوسف جيري
قائمة بأهم المصادر والمراجع
أولا – القرآن الكريم وتفاسيره:
- المصحف الشريف
- أحكام القرآن لابن العربي المالكي
- أحكام القرآن للجصاص
- التفسير الكبير للإمام فخر الدين الرازي
- الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي
- تفسير القرآن العظيم لابن كثير
- تفسير القرآن الكريم للشيخ محمود شلتوت
- محاسن التأويل للعلامة جمال الدين القاسمي
ثانيا – الحديث وشروحه:
- الصحيحان والسنن وشروحها
- كتب أحاديث الأحكام وخاصة: نيل الأوطار للإمام الشوكاني
الفقه:
من كتب الحنفية:
- بدائع الصنائع للكاساني
- البحر الرائق للعلامة ابن نجيم
- الخراج للإمام أبي يوسف
- رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين
- شرح فتح القدير لابن الهمام
من كتب المالكية:
- المدونة الكبرى لإمام المذهب مالك بن أنس، رواية الإمام سحنون
- بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد
- شروح مختصر خليل كالخرشي، والشرح الكبير
- بلغة السالك لأقرب المسالك للشيخ أحمد بن الصاوي
- المنتقى شرح الموطأ للقاضي أبي الوليد الباجي.
من كتب الشافعية:
- الأم للإمام محمد بن إدريس الشافعي إمام المذهب
- المهذب للشيرازي
- المجموع شرح المهذب للإمام النووي
- المنهاج للإمام النووي
- نهاية المحتاج للرملي
- مغني المحتاج لمحمد الشربيني
- الوجيز لحجة الإسلام الإمام أبي حامد الغزالي
من كتب الحنابلة:
- المغني للعلامة ابن قدامة المقدسي
- الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية
- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية
- الإنصاف في معرفة الراجح لأبي الحسن المرداوي.
من كتب الظاهرية:
- المحلى للإمام محمد بن علي بن حزم الأندلسي. وراجع كذلك:
- فتاوى الشيخ مخلوف
- شرائع الإسلام في فقه الإمامية للشيخ جعفر بن الحسن الحلي المعروف بالمحقق الحلي.
- فقه الزكاة للدكتور يوسف القرضاوي.
- مصارف الزكاة في الشريعة الإسلامية لعبد بن الجار الله
- الطرق الحكمية للإمام ابن القيم
- فتاوى الإمام محمد رشيد رضا
- الروضة الندية للسيد صديق حسن خان
وراجع كذلك أيضاً:
مذكرة تفسيرية بشأن صندوق التضامن الإسلامي ووقفيته مقدمة إلى الدورة الثالثة لمجمع الفقه الإسلامي.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم.