المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مجالات الوحدة الإسلاميةوسبل الاستفادة منهاإعدادفضيلة الدكتور عمر سليمان الأشقر - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٤

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الرابع

- ‌كلمةمعالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلاميالأستاذ/ سيد شريف الدين بيرزاده

- ‌كلمةمعالي رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلاميالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌كلمةمعالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدوليالدكتور محمد الحبيب بن الخوجة

- ‌كلمةمعالي الأستاذ سيد شريف الدين بيرزاده

- ‌كلمةمعالي رئيس البنك الإسلامي للتنميةالدكتور/ أحمد محمد علي

- ‌كلمةمعالي الأمين العام بالنيابة لرابطة العالم الإسلاميالأستاذ/ أمين عقيل عطّاس

- ‌كلمةمعالي وزير الأوقاف بدولة الكويتالشيخ خالد أحمد الجسار

- ‌كلمةمعالي رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلاميالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌كلمةمعالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدوليالدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌كلمةالوفود المشاركةألقاها بالنيابة سعادة السفير الدكتور عمر جاه

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادمعالي الدكتور محمد علي البار

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًغرس الأعضاء في جسم الإنسانمشاكله الاجتماعية وقضاياه الفقهيةإعدادمعالي الدكتور محمد أيمن صافي

- ‌التشريح الجثماني والنقل والتعويض الإنسانيإعدادفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادفضيلة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

- ‌‌‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًفي الفقه الإسلاميإعدادفضيلة الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًفي الفقه الإسلاميإعدادفضيلة الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادالدكتور عبد السلام داود العبّادي

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادفضيلة الشيخ آدم عبد الله علي

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حيّاً أو ميّتاًإعدادفضيلة الشيخ محمد عبد الرحمن

- ‌صرف الزكاة لصالح صندوقالتضامن الإسلاميإعدادسعادة سيدي محمد يوسف جيري

- ‌صرف الزكاة لصالح صندوقالتضامن الإسلاميإعدادفضيلة الشيخ تيجاني صابون محمد

- ‌صرف الزكاة لصالح صندوقالتضامن الإسلاميإعدادفضيلة الشيخ مولاي مصطفى العلوي

- ‌صرف الزكاة لصالح صندوقالتضامن الإسلاميإعدادسعادة الدكتور عبد الله إبراهيم

- ‌مذكرة تفسيرية بشأن صندوق التضامن الإسلامي ووقفيته

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ عبد الله البسام

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة أ. دكتور وهبه مصطفى الزحيلي

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ محمد عبد اللطيف آل سعد

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ هارون خليف جيلي

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ رجب بيوضي التميمي

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ محمد عبده عمر

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌المثامنة في العقار للمصلحة العامةإعدادالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌انتزاع الملكية للمصلحة العامةإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌انتزاع الملكية للمنفعة العامةإعدادأ. د. يوسف محمود قاسم

- ‌نزع الملكية الخاصة للمنفعة العامةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌انتزاع الملك للمصلحة العامةإعدادالدكتور محمود شمام

- ‌الإسلاموانتزاع الملك للمصلحة العامةإعدادفضيلة الشيخ محمد الحاج ناصر

- ‌سندات المقارضةإعدادالصديق محمد الأمين الضرير

- ‌سندات المقارضةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌سندات المقارضةوسندات الاستثمارإعدادالدكتور حسن عبد الله الأمين

- ‌سندات المقارضةإعدادالقاضي محمد تقي عثماني

- ‌ضمان رأس المال أو الربحفي صكوك المضاربةأو سندات المقارضةإعدادالدكتور حسين حامد حسان

- ‌سندات المقارضةوسندات التنمية والاستثمارإعدادفضيلة الشيخ محمد المختار السلامي

- ‌سندات المقارنة وسندات الاستثمارإعدادفضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌تصوير حقيقة سندات المقارضة والفرق بينها وبينسندات التنمية وشهادات الاستثمار والفرق بينهاوبين السندات الربويةإعدادالدكتور سامي حسن حمود

- ‌سندات المقارضة والاستثمارإعدادفضيلة الدكتور علي أحمد السالوس

- ‌سندات المقارضةإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌البيان الختامي وتوصياتلندوةسندات المقارضة وسندات الاستثمارالتي أقامهامجمع الفقه الإسلامي بجدة

- ‌بدل الخلوإعدادالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌ موضوع (بدل الخلو)

- ‌بدل الخلوإعدادالدكتور محمد سليمان الأشقر

- ‌حكم الشريعة في بدل الخلو (السرقفلية)إعدادفضيلة الأستاذ إبراهيم فاضل الدبو

- ‌بدل الخُلُوِّفي الفقه الإسلاميإعدادفضيلة الشيخ محيي الدين قادي

- ‌بدل الخلو وتصحيحهإعدادفضيلة الشيخ حجة الإسلام محمد علي تسخيري

- ‌كيفية مكافحة المفاسد الأخلاقيةإعدادفضيلة الشيخ/ رجب بيوض التميمي

- ‌كيفية مكافحة المفاسد الأخلاقيةإعدادالشيخ هارون خليف جيلي

- ‌مجالات الوحدة الإسلاميةوسبل الاستفادة منهاإعدادالأستاذ مصطفى الفيلالي

- ‌مجالات الوحدة الإسلاميةوسبل الاستفادة منهاإعدادفضيلة الدكتور عمر سليمان الأشقر

- ‌مجالات الوحدة الإسلاميةوسبل الاستفادة منهاإعدادالحاج شيت محمد الثاني

- ‌الوحدة الإسلاميةوالتعامل الدوليإعدادفضيلة الشيخ/ محمد علي التسخيري

الفصل: ‌مجالات الوحدة الإسلاميةوسبل الاستفادة منهاإعدادفضيلة الدكتور عمر سليمان الأشقر

‌مجالات الوحدة الإسلامية

وسبل الاستفادة منها

إعداد

فضيلة الدكتور عمر سليمان الأشقر

كلية الشريعة والدراسات الإسلامية

جامعة الكويت

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله قيوم السماوات والأرض، بيده مقاليد الحكم، له الأمر كله والخلق كله، يصرف الأمور ويقدرها وفق علمه وحكمته، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، أنه على كل شيء قدير، قوله القول، وحكمه الحكم، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا مبدل لأمره.

وأصلى وأسلم على عبده المصطفى، ورسوله المجتبي، خيرته من خلقه، وخاتم أنبيائه ورسله، الذي أقام الشريعة الغراء، وأنار القلوب العمياء، ومحا دولة الباطل، وطمس معالم الشرك، وأصلي وأسلم على آله وصحبه الذين جعلوه لهم قدوة وأسوة، واتبعوا النور الذي جاء به، وكانوا على المحجة البيضاء، يقرون بالحق ويدعون إليه، ويجاهدون في سبيل إعلائه حتى ظهر أمر الله، وأصبح الدين كله لله، وعلى التابعين ومن اتبع سبيلهم إلى يوم الدين.

ص: 2002

أما بعد:

فإن الأمة الإسلامية –بإذن من الله وقدر-تسلمت قيادة ركب البشرية منذ أن تكونت على يدي معلم البشرية وهاديها محمد صلى الله عليه وسلم ، واستمرت على ذلك دهورا طويلة، ولكنها فقدت تلك المنزلة شيئا فشيئا، حتى أصبحت في أيامنا على الحال التي نعرفها ونشاهدها، ذلت بعد عزة، وجهلت بعد علم، وضعفت بعد قوة، وأصبحت في ذيل القافلة بعد أن كانت في طليعتها، وأخذت تتسول على موائد الفكر الإنساني بعد أن كانت منارة تهدي الحيارى والتائهين، وأخذت تضطرب في سيرها وتتأرجح في فكرها، ولا تعرف السبيل الذي تسلكه بعد أن كانت الدليل الحاذق الرائد في الدروب المتشابكة في الصحراء التي لا يهتدي فيها الأدلاء المجربون.

وجاء الذين آلمهم حال أمتهم من أصحاب الفهم الثاقب، والبصر النافذ، والرأي السديد يفكرون في حال هذه الأمة في ماضيها وحاضرها، فهالهم الأمر، فالبون بين الحالين بعيد والفرق كبير. لقد جرب عالمنا الإسلامي مختلف الأنماط في عصرنا هذا، فقد تسلط على رقابنا جماعات وأحزاب وعدتنا بأنها ستعيد لنا عزتنا وكرامتنا وإنها ستنهي مشكلاتنا، وتجمع شملنا، وتوحد جموعنا، وننظر إلى حالنا وقد مضى على الأمل الموعود وقت طويل فلا نرى إلا السراب، لقد كان حظنا مما وعدنا به مزيدا من الفرقة والانقسام والتأخر، فقد أصبحت الأمة الواحدة أمما، والدولة دولا، وانتشر الفقر، وازدادت التعاسة في كثير من ديار المسلمين، وضاع كثير من هذه الديار عندما استولي عليها أعداء الله من الشيوعيين والصليبيين واليهود.

ص: 2003

لقد تبين لنا تبينا لا لبس فيه فشل دعاة الوطنية ودعاة القومية، كما فشل الاشتراكيون والبعثيون، ولم يبق إلا الإسلام.

لقد نجح الإسلام في الماضي عندما حكم هذه الديار –ديار الإسلام- نجح في إيجاد مجتمع مثالي في عالم البشر، فقد أوجد كيانا سعدت به البشرية، وترعرعت في جنباته القيم الصالحة، وتناسى المسلمون في ظله العصبيات للأقوام والأجناس والأوطان، وأصبحوا في ظله إخوة، ولاؤهم لله رب العالمين.

لقد أضاع المسلمون الكثير من تعاليم دينهم، وانحرف بهم المسار، واستبدلوا به عادات موروثة، وعادات وفلسفات وتوجهات وافدة، فكان ثمار ذلك الفرقة والانقسام والهزائم العسكرية والفكرية.

واليوم صحا المسلمون من جديد يحاولون تنظيم صفوفهم، وتلمس طريقهم ليحملوا الراية من جديد، غير أن الطريق ملئ بالصعاب محفوف بالمخاطر، فالأعداء متربصون بنا من كل جانب يرصدون حركاتنا، ويقرؤون كتاباتنا، ويدرسون فكرنا، ثم يأتمرون ويخططون، ويرسلون إلينا سهامهم، وبعض سهامهم رجال من هذه الأمة، يدعوننا إلى الدمار وغضب الجبار، وقد أصيب جموع كثيرة من هذه الأمة، كما أصيب الدعاة الصالحون فيها بسهام الأعداء ومكرهم وخديعتهم.

أضيف إلى ذلك الجهل الذي انتشر في ربوع العالم الإسلامي، والأمراض الفكرية الهائلة التي يعاني منها المسلمون في هذه العالم الرحب، كل ذلك يؤخر المسيرة، ويضعف تيارها، ويجعلنا نعاني معاناة هائلة ونحن نشق طريقنا إلى الأمام.

وهذا البحث يسلط الضوء على المكانة الفضلى التي استحقتها هذه الأمة، والسر في استحقاقها لها، ثم يبين السبب الذي عزل الأمة عن المكانة التي كانت تحتلها، وقد أعاد الباحث هذا إلى سبب واحد هو الفرقة بأنواعها: الفرقة في الدين والاعتقاد، والفرقة التشريعية، والفرقة السياسية.

كما سلط الضوء على الطريق الذي يعيد للأمة عزها من جديد، ويرقي بها إلى المكانة التي كانت تحتلها، وقد أعاد الباحث هذا إلى سبب واحدة هو الوحدة بكل أنواعها وشتى مجالاتها وأصولها هذه الوحدة: الانتماء للإسلام دون سواه، وتوحيد مصدر الهداية، ووحدة العقيدة، والوحدة السياسية المتمثلة في إقامة الدولة الإسلامية وإرجاع الخلافة الراشدة.

وختمت البحث بكلمة موجزة، لإلقاء الأضواء على طرق الدعاة التي سلكوها في عملهم في مجال الارتقاء إلى المستوي الذي يطمعون في بلوغها إليه.

وفق الله العاملين بالإسلام إلى توحيد الوجهة والعمل، وإلى توحيد الصفوف، ورصها، وسد الثغرات، وتقويم النفوس وبناء الأمة بالإسلام، كي ستعيد الأمة مجدها من جديد.

ص: 2004

فضل الأمة الإسلامية

قال تعالى مبينا فضل هذه الأمة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} . (1) .

وأصل الوسط الموضع الذي هو الجزء بين الطرفين.

والوسط مركز الاتزان والاعتدال، يقول الزمخشري في هذا:(الوسط عدل بين الأطراف، ليس بعضها أقرب من بعض) . (2)

وقد تعارف الناس على ذم الذي يمسك أحد طرفي الشيء ولا يلزم موضع الاعتدال، فتراهم يقولون: فلان متطرف في أمره في مقام الذم، كما يقولون: فلان معتدل في مقام المدح.

والسر في ذلك أن العباد في أكثر أحوالهم يجنحون إلى الإفراط أو التفريط، فترى بعضهم يجنح إلى الغلو في الرهبنة والتعبد حتى يتركوا الزواج والملذات ويسكنوا الفيافي والقفار، وآخرون يغرقون في العب من الشهوات بالملذات بعيدا عن مقاصد الشرع وضوابطه، واتباع المنهج الوسط الذي يحقق الاعتدال والاتزان يقضي بأن يعيش المرء في دنياه آخذا منها قدرا أباحه الله من الطيبات في الوقت الذي يؤدي حق ربه، ويكون همه تحقيق مراد الله منه.

يقول الطبري في تفسير الوسط: (وأنا أرى أن الوسط في هذا الموضوع هو الوسط الذي بمعني الجزء الذي هو بين طرفين، مثل وسط الدار، وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى الذين غلو بالترهب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم مقصرين فيه تقصير اليهود، الذين بدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياء الله، وكذبوا على ربهم وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها) . (3)

والوسط هو الأفضل والأحسن لأمرين:

الأول: أن الأطراف يتسارع إليها الخلل والأعوار، والأوساط محمية محوطة، كما يقول الزمخشري (4)، ومنه قول الطائي:

كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت بها الحوادث حتى أصبحت طرفا

(1) البقرة: الآية (143)

(2)

الكشاف: 1/317

(3)

تفسير الطبري: 2/6

(4)

تفسير الزمخشري: 1/317

ص: 2005

والثاني: أن الوسط هو مركز الاعتدال والاتزان، فالعرب تقول: قريش أوسط العرب نسبا، أي افضلها، والرسول صلى الله عليه وسلم وسط قريش، أي أفضل قريش نسبا، وفي هذا يقول زهير بن أبي سلمى:(1)

هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم

وفي محكم التنزيل {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} . (2) أي خيرهم، وقال تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . (3)

والصلاة الوسطى صلاة العصر كما ثبت في بعض الأحاديث، وما حث على الالتزام بها إلا لأنها أفضل من بقية الصلوات. وفي الحديث أن الفردوس وسط الجنة وأعلي الجنة، وفوقه عرش الرحمن.

وقد صرح الحق –تبارك وتعالى بأفضلية هذه الأمة على غيرها من الأمم مما يدل على أنه عني بالوسطية الأفضلية، وهذا التصريح جاء في قوله تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} . (4) .

وصرح في موضع آخر باجتبائه لهذه الأمة واصطفائه لها، ولا يكون الاصطفاء والاجتباء إلا لفضلها وعلو شأنها، قال تعالى:{هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . (5) .

(1) تفسير الطبري: 2/6

(2)

القلم: الآية (28)

(3)

البقرة: الآية (238)

(4)

آل عمران: الآية (110)

(5)

الحج: الآية (78)

ص: 2006

سر هذا الفضل

أن هذا التفضيل الذي صرحت به النصوص ليس اعتباطا، وإنما كان لأن الأمة الإسلامية استقامت على منهج الله، فالإسلام هو الذي صنع هذه الأمة، فقد بني عقيدتها، ورسم منهجها وطريقها، وأقام أخلاقها وقيمها، وتأمل في قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} . (1) . تجد أن كلمة (جعلناكم) ليس معناها خلقناكم، وإنما المعني الصحيح هو صيرناكم أمة وسطا، وإنما صيرها الله كذلك بدينه المنزل، عندما استقامت على الخصائص التي رسمها رب العالمين، وتستطيع أن تلحظ هذا المعني في قوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} . (2) .

فها هنا مخرج وهو الله، ومخرج وهو هذه الأمة، وأداة حصل بها الإخراج على هذا النحو وهو الإسلام، فبالاستقامة على الإسلام تحققت الأفضلية.

إذن ليست الأفضلية والخيرية لقبا أطلق على هذه الأمة من غير مضمون، ولكنه عنوان لحقيقة تجسدت في هذه الأمة، فقد سما هذا الدين بهذه الأمة في عقيدتها وتفكيرها وتوجهات قلوبها وأقوالها وأعمالها ونظمها، حتى مثلت الأنموذج الفاضل الذي يريده الله تبارك وتعالى للبشرية.

وهذه الأفضلية مرهونة باستمرار هذه الخصائص في هذه الأمة، فإذا تدنت هذه الخصائص أو انحرفت أو زالت، فإن الخيرية تتناقض أو تضمر أو تضعف. وهذا هو السر في تخلف هذه الأمة في عصرنا، والسبب فيما أصابها من فرقة واختلاف، وما رماها به الأعداء من بلايا ومصائب.

أن أفضلية هذه الأمة تتلخص بأخذها بهذا الدين في نفسها، ودعوة الناس إلى الحق الذي قرره هذا الدين، ونهيهم عن الباطل الذي نهاهم عنه هذا الدين، مع تحقيق الإيمان وفق ما جاء به الإسلام {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} . (3)

(1) البقرة: الآية (143)

(2)

آل عمران: الآية (110)

(3)

آل عمران: الآية (110)

ص: 2007

لِمَ عَرَّفَ الله الأمة الإسلامية بمكانتها وفضلها؟

إن الحياة الإنسانية مجال صراع رهيب بين الأمم المختلفة، وكل أمة تدَّعي أنها الأفضل والأكمل، وأنها تستحق أن تغلب وتسود، وقد أخبر الله هذه الأمة بمكانتها كي لا تذل في مجال الصراع، ولا تهون في ميدان الخصام {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . (1) لقد ادَّعي كل من اليهود والنصارى والوثنيين أنه الأفضل والأكمل، وأن غيره ليس على شيء {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} . (2)

والذين لا يعلمون: هم مشركون العرب.

وغلا اليهود والنصارى في دعواهم عندما ادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} . (3)، وادعوا أن الجنة وقف عليهم {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (4) ورتب كل فريق على دعواه مطالبة غيرة باتباع منهجه:{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . (5) ولا تزال الأمم المختلفة إلى اليوم تدعي هذه الدعوى، لقد رفع هتلر شعار ألمانيا فوق الجميع، والشعب الأمريكي اليوم يشعر كأنه من طينة أخرى غير طينة البشر، وروسيا تدعي أنها جاءت العالم بإكسير السعادة.

إن اليهود كانوا في ميزان الله خير الأمم عندما استقاموا على الشريعة التي أنزلها الله تبارك وتعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} . (6){وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} . (7) . والنصارى كانوا أصحاب رسالة لهم في ميزان الله فضل عندما استقاموا على الدين الذي أنزله الله إليهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} . (8) . ولكن اليهود والنصارى انحرفوا عن المسار، وتنكبوا الجادة، فأصبح اليهود مغضوبا عليهم، والنصارى ضالين، وهو في ميزان الله من الخاسرين، لقد غيروا وبدلوا فلعنهم الله، وغضب عليهم، وضرب عليهم الذلة والمسكنة، وهو لا يمثلون اليوم الفئة الفاضلة في ميزان الحق، وقد جاءت هذه الأمة من بعدهم لتكون الأمة الفاضلة.

(1) سورة آل عمران: الآية (139)

(2)

سورة البقرة: الآية (113)

(3)

سورة المائدة: الآية (18)

(4)

سورة البقرة: الآية (111)

(5)

البقرة: الآية (135)

(6)

البقرة: الآية (47)

(7)

الدخان: الآية (32)

(8)

الصف: الآية (14)

ص: 2008

وإذا أنت رجعت إلى سورة البقرة، وإلى ما حدثنا الحق فيها عن أهل الكتاب، تري أن القرآن كشف لنا عن الدعوى المضللة التي يدعيها أهل الكتاب من أنهم الأفضل والأصلح، وبيَّن أنها دعوى زائفة، ذلك أن أهل الكتاب انحرفوا عن الخصائص التي كانت ترفعهم إلى مصافِّ الأمة الفاضلة وسرت فيهم العلل والأدواء التي شوهت العقيدة الصافية، والشريعة المنزلة، واختلت عندهم القيم والتصورات الإيمانية، كما اختل السلوك والقول والعمل، فمن اتهامات للخالق العظيم، إلى تشويه لسير الأنبياء، إلى تحريف للكتب المنزلة، إلى كتمان للعلم، وسفك للدماء، وتمرد على أحكام الشرع، واتباع الشياطين.

وبعد هذا البيان الطويل لحال الأمم التي تدعي الأفضلية في سورة البقرة يأتي قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} . (1) . ليقرر مكانة هذه الأمة، وأنها الأمة الفاضلة كي تعرف مكانتها، ولا تهون في مواجهة أهل الكتاب، ولقد سمي أهل الكتاب الذين يحاولون انتقاص هذه الأمة، وإلقاء الشكوك حول تشريعها بالسفهاء {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} . (2)

إنهم سفهاء فقدوا المقاييس القويمة، واختلت عندهم الضوابط، ولذلك صدرت عنهم أحكام خاطئة، وتصرفات باطلة.

أما الأمم الأخرى التي تنازع هذه الأمة الفضل، ففضلها دنيوي عارض، ليس له في ميزان الله اعتبار؛ لأنه قائم على متاع الدنيا العارض {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} . (3) ، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} . (4) ، {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . (5)

ولقد وصف القرآن الحضارات التي ارتقت في العلوم المادية، ولكنها انحدرت في عقيدتها وأخلاقها وقيمها بالضلال والزيغ.

إن المجتمع الذي يستحق أن يوصف بالرقي –في ميزان الله- هو المجتمع الذي يقيم حياته وفق منهج الله وتشريعه، وإن كان غير متقدم في مجال العمران والزراعة والصناعة.

أما الجاهلية فإنها تعتبر المجتمع راقيا إذا كان يملك العلوم المادية، والمجتمع المتأخر في عرفها هو المجتمع الفقير الذي لا يملك أسباب الرقي المادي وتنتشر فيه الأمية.

(1) البقرة: الآية (143)

(2)

البقرة: الآية (142)

(3)

آل عمران: الآية (185)

(4)

الأنعام: الآية (32)

(5)

الروم: الآية (7)

ص: 2009

ونحن عندما ندرس المجتمع الإسلامي المثالي تراه كان مجتمعا فقيرا، لا يكاد الفرد يجد فيه ما يسدُّ رمقه، ولا ما يوراي جسده، وكانت بيوت الرسول صلى الله عليه وسلم يمر عليها الهلال والهلال، ثلاثة أهلة في شهرين –كما تقول أم المؤمنين عائشة - ولا يوقد نار لإنضاج طعام، والذين كانوا يحسنون القراءة والكتابة في ذلك المجتمع قليل، والصناعات والعلوم التي ترقى بالحياة في جانبها المادي كانت فيهم قليلة نادرة.

إن نظرة الجاهلية إلى المجتمع الصالح المتحضر تصادم نظرة الإسلام، إن الإسلام يَصِمُ أكثر التجمعات الإنسانية تقدما بالتأخر والرجعية والضلال إن لم تحقق العبودية لله، ولم تقم حياتها وتشريعاتها وفق منهج الله. إن هذا الرقي المادي والعلم المادي لم يخلِّص فرعون ونمرود وعادا وثمود وغيرهم من الأمم من مقت الله وغضبه، ليس معني هذا أن الإسلام يحارب الرقي المادي، فالإسلام يأمرنا أن نسعى في الأرض لنسخر ما فيها من خيرات لصالحنا، {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} . (1) .

ولكنه يريد منا أن نبني هذا الرقي على أصول سليمة قويمة، يريدنا أن نقوم علوم الحياة ونضبطها بضوابط إلهية تحميها من الانحراف والضلال، فلا نقيم الصروح الضخمة التي تستنفذ طاقات الألوف وعشرات الألوف من البشر لغاية تافهة، كما فعل بناة الأهرام الذين أفنوا أعمار أجيال ليقيم الحاكم منهم هرما يكون له قبرا، أو كما فعل النصارى عندما أقاموا الكنائس الفخمة والأديرة، وبذلوا في سبيل ذلك جهودا وأموالا هائلة كان أكثر الأمة بحاجة إلى القليل منها. وقد أنكر هود على قومه مثل هذه الأفعال الحمقاء {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} . (2) .

والجاهلية الجديدة أثمرت حضارة مادية هائلة سخرتها لخدمة الشيطان، وإقرار الظلم وإزهاق الحق، وامتصاص دماء الشعوب المغلوبة على أمرها، وأزهقت أرواح الملايين من البشر لا لشيء إلا لكي تكون العزة لأمة على بقية الأمم، أو لشعب على بقية الشعوب. نحن لا نوافق الأمم التي تدعي أنها الأفضل والأحسن لأنها تملك العمارات الشاهقة، والحدائق الغناء، والمسارح الرحبة، والقصور الفخمة، والشوارع المنسقة، والمدارس والجامعات والمستشفيات.. لا نوافقها على أنها الأفضل من أجل ذلك وحده، ولا لأنها توصلت إلى علوم هائلة بنت بها الرقي المادي، ولو كان هذا صحيحا فان اللص صاحب القصر الكبير أفضل من الشريف صاحب الكوخ الصغير، والعالم الذي يخطط لتدمير البشرية أفضل من الإنسان العادي الذي يسعى في إصلاح العباد.

(1) الملك: الآية (15)

(2)

الشعراء: الآية (128)

ص: 2010

لقد أقامت كثير من الأمم حضارات راقية في المجال المادي، ولكنها أقامتها على أسس ظالمة، فأتي الله بنيانهم من القواعد، ودمر ما كانوا يعرشون {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} . (1){وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} . (2){وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} (3)

ارتقاء أمة الإسلام إلى المكانة الفضلي

حقق المسلمون –بفضل الله ورحمته- في عالم البشر الرقي العظيم الذي أصبحوا به خير أمة أخرجت للناس.

ويمكننا أن نلخص العوامل التي أوصلتهم إلى هذا الرقي في عبارة واحدة: (لقد حققوا الهدف الذي خلقهم الله من أجله إلا وهو العبودية لله العظيم){وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . (4) .

ومن أجل تحقيق هذا الهدف العظيم أنزل الله كتابه، وأرسل رسله، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} . (5) ويحقق البشر العبودية لله في عالمهم عندما يرضون بالله إلها معبودا، ويتخذون دينه الذي أنزل منهجا يستمدون منه عقيدتهم وأخلاقهم وتشريعه، فالدين الذي أنزله الله منهج يقيم العباد على النحو الذي يريده الله تبارك وتعالى، وهو نظام كامل يصوغ حياة البشر صياغة إلهية ربانية، لذا فإن العبارة التي تقول:(إن الإسلام منهج الحياة) تلخص القضية بأوجز عبارة وأوضحها.

وتتحقق العبودية باتخاذ الإسلام منهج حياة يحقق الصلاح للنوع الإنساني في داخل نفسه وفي مجتمعه، ولذلك لم يبعد الذين قالوا: إن غاية الدين الذي أنزله الحق –تبارك وتعالى هي إصلاح النوع الإنساني، وقطع دابر الفساد عن الحقيقة، فقد قال شعيب لقومه:{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} . (6) . وذم الله المفسدين في الأرض: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} . (7) . {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} . (8)

(1) سورة الحج: الآية (45)

(2)

سورة الحج: الآية (48)

(3)

سورةالأنبياء: الآية (11-14)

(4)

الذريات: (56)

(5)

الأنبياء: (25)

(6)

هود: (88)

(7)

البقرة: (205)

(8)

القصص: (4)

ص: 2011

إن إصلاح الإنسان حسب فقهنا لكتاب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يتم بأمرين:

الأول: إصلاح الفرد، وذلك بإصلاح عقيدته وتصوراته وأفكاره وقيمه وأخلاقه وموازينه.

والثاني: إصلاح المجتمع الإنساني بإصلاح علاقاته ونظمه وقوانينه.

وإذا أنت تأملت سيرة المصطفي صلى الله عليه وسلم رأيت عنايته كانت منصبة في المرحلة المكية على تحقيق الأمر الأول ألا وهو إصلاح الفرد، بينما كانت عنايته متجهة في المرحلة المدنية إلى تحقيق الأمر الثاني، وما أَسْلَمَ صلوات الله عليه الروح لبارئها، إلا بعد أن قام المجتمع المسلم الصالح الذي يقوم على أفراد صالحين.

لقد نجح الإسلام في إقامة مجتمع صالح، استنارت بصائر أفراده، وصلحت عقائدهم، واستقامت أخلاقهم، وأحكمت العلاقات فيما بينهم، وكانت الدينونة فيه لله وحده، وكان حاكم المسلمين فيه واحدا منهم، يخضع لسلطات الشريعة كما يخضعون، ويحاسب كما يحاسبون، ونسج الإسلام من ذلك المجتمع وحدة، كانت آصرتها الدين، ولحمتها التقي، وهدفها تحقيق العدل في ربوع الأرض بمنهج الحق، وساح المسلمون في المشارق والمغارب ينشرون دين الله، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وتحطمت القوي الجاهلية الجبارة أمام المد الإسلامي المتماسك، وأصبحت الدولة الإسلامية هي الدولة العظمى إلى أمد ليس بالقصير، وصدق الله في هذه الأمة قوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} . (1) .

لقد كان العرب في جزيرة العرب حيارى تائهين ضالين يسلب قويهم ضعيفهم، ويقتل بعضهم بعضا، لا دين يجمعهم، ولا ملك يوحدهم، فغيروا ما بهم من أمراض، وأصلحوا نفوسهم وأمتهم بالدين، فارتقوا إلى مرتبة لم يسبقهم فيها سابق، ولم يلحقهم فيها لاحق، وكانوا كما قال الحق تبارك وتعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} . (2)

لقد أنجز الله لهم ما وعدهم فاستخلفهم في الأرض، ومكن لهم دينهم الذي هو سبب عزهم وذكرهم، عندما أنجزوا ما شرطه الله عليهم {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} . (3)

ولا نزال إلى اليوم ننعم ببقية صلاح الأجيال الأولى التي حملت الإسلام، فعلي الرغم من البلايا والزرايا التي تعرض لها الإسلام من أعدائه وحكامه عبر تاريخ المسلمين الطويل، إلا أن الإسلام لا يزال له وجود ظاهر، وحملته من المسلمين منتشرون في كل مكان.

(1) الرعد: الآية (11)

(2)

آل عمران: (110)

(3)

النور: (55)

ص: 2012

تأخر الأمة وانحطاطها

إن المتفكر في حال الأمة الإسلامية عندما يقارن بين حاضرها المشهود، وماضيها الغابر يهوله الأمر، فالبون شاسع، والفرق بعيد، وعندما يرجع الباحث النظر مرة أخرى مقارنا بين الواقع المشهود والموقع الذي رسمه القرآن لها فإنه يجدها لا تتبوأ المقعد الذي حدده القرآن لها.

والدارس لخط سير تاريخ الأمة الإسلامية يجد أن استمرار الأمة الإسلامية على خصائصها التي جعلتها خير أمة أخرجت للناس لم يستمر على وتيرة واحدة، فالخط البياني كان ولا يزال متذبذبا بين هبوط وصعود. وقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذا التذبذب في خط سير الأمة الإسلامية، فقد سأل حذيفة بن اليمان الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا:((يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله، صفهم لنا. قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وأمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)) رواه البخاري.

فالأمة الإسلامية كما يشير الحديث يصيبها الشر فتهزل، ثم تعود إلى أصالتها، وقد تكون العودة مشوبة فيها دخن على حد قول الرسول صلى الله عليه وسلم :((وفيه دخن)) وقد يكون الانحراف هائلا، وذلك عندما يتسلط على رقاب هذه الأمة دعاة إلى أبواب جهنم، يدعون الناس إلى مذاهب كافرة، فمن استجاب لهم كان مصيره النار، وبئس القرار.

لقد ألمحنا من قبل إلى أن الرقي العظيم الذي رفع هذه الأمة هو أخذها بالدين الذي أنزله الله تبارك وتعالى، ثم التفافها حول هذا الدين فأصبحت أمة واحدة، فتشكلت من هذه الأمة قوة هائلة لا تغلب.

ويمكن أن نعيد تأخر المسلمين وانحطاطهم إلى قضية واحدة هي الفرقة التي فرقت وحدتها، فجعلتها أمما وشيعا وطوائف وتجمعات.

ص: 2013

إن السمة العظيمة التي تعطي الأمة الإسلامية مكانة قوية هائلة هي اجتماعها على أساس من دينها، وهذه حقيقة أثبتها القرآن ونبه إليها وأمر بها، فقد أمرنا القرآن بالوحدة ونهانا عن الاختلاف والتفرق، قال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} . (1)

ثم ذكرنا بالحال التي كنا عليها قبل الإسلام. فقد كنا قبائل متفرقة، يقتل بعضها بعضا، ويسبي بعضها بعضا، فجاءنا الله بالإسلام فأصبحنا في ظله إخوة أحبة {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} . (2)

ثم نهانا الحق تبارك وتعالى عن مسلك الأمم السابقة وهو التنازع والاختلاف بعد أن جاءتنا البينات {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . (3)

وقد أخبر جل وعلا أن التنازع والاختلاف يسبب الفشل وذهاب القوة، ذلك أن الوحدة تجعل الأمة قوية متماسكة في وجه الرياح والأعاصير، وعندما توجه هذه القوة مجتمعة نحو أعدائها، فإنها تفتت بأسهم وتقضي على كيدهم، فإذا اختلفت الأمة أصبح بأسها بينها، وهذا هو الفشل، لأنها تدمر نفسها بنفسها، وعند ذلك ينال أعداؤها منها ما يريدون، وقد حذرت النصوص من هذا المصير، وأخبرت أن الفرقة تعني ذهاب القوة وغلبة الأعداء {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} . (4) . وفي صحيح مسلم عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سالت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوي أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا)) .

إن الوعد الإلهي في غاية الوضوح، لقد وعد الله الأمة بالنصر والتأييد والغلبة ما دامت متحدة على كلمة سواء، فإذا تفرقت واختلفت واقتتلت فهناك تكون الهزائم وتسلط الأعداء، وحلول النقم والبلايا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

(1) سورة آل عمران: (103)

(2)

سورة آل عمران: (103)

(3)

سورة آل عمران: (105)

(4)

سورة الأنفال: (46)

ص: 2014

أنواع الفرقة

وقد وقعت الأمة الإسلامية في المحذور، فتفرقت وتنازعت واختلفت، وتعددت أشكال الفرقة، ويمكن إرجاعها إلى ثلاثة أنواع:

1-

الفرقة العقائدية. 2- والفرقة التشريعية. 3-والفرقة السياسية.

وسنعرض لكل واحدة من هذه الثلاث بقدر ما يسمح به المقام.

أولا: الفرقة في الدين والاعتقاد:

أخطر أنواع الفرقة الفرقة العقائدية؛ لأن الإنسان أسير فكره ومعتقده، وما عمل الإنسان وسلوكه وتصرفاته في واقع الحياة إلا صدى لفكره وعقيدته، ومن هنا كان تبني الفكر المنحرف، وغرس العقائد الضالة في قلوب المسلمين موجبا لاختلاف المسلمين في واقع الأمر.

إن الله أراد لهذه الأمة أن تنضوي على اختلاف أجناسها وألونها ولغاتها تحت اسم واحد وهو الإسلام، ولكن الدعوات الضالة لم تزل تطل برؤوسها عبر التاريخ الإسلامي لتجزئ المسلمون إلى فرق وجماعات تخالف الإسلام مخالفة كلية أو جزئية.

إن بعض الدعوات والانحرافات التي نشأت في المسلمين تنادي بتوجُّه المسلمين إلى عبادة غير الله، واتباع منهج غير منهج الله، فعادت في ديار الإسلام كثير من مظاهر الشرك المتمثلة بعبادة الأولياء والأموات والأشجار والأحجار، فترى بعض الجهلة من المسلمين يدعونها ويستغيثون بها وينذرون لها ويحجون لها، ويخافون منها كخوفهم من رب العباد.

هذه طائفة لها أتباع وأنصار يعدون بعشرات الملايين يزعمون أنهم مسلمون، ومؤسس الجماعة يطالب أتباعه إذا ما وقع الواحد منهم في الكرب أن يناديه هو، لا أن يلجأ إلى الله، يقول من قصيدة له:

إذا كنت في هم وغم وكربة فنادني أيا مرغني أنجيك من كل كربة

وهذا البوصيري يمدح الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيأتي بقصيدة مدهشة، ولكنه أذهب جمالها وبهاءها وطمس ضياءها بما قذرها به من شرك وبغلوه في الرسول صلى الله عليه وسلم ، ودعائه له من دون الله. وفي ذلك يقول:

ص: 2015

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عندك حلول الحادث العمم

ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تجلي باسم منتقم

فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم

إن البلاء الأعظم الذي أصاب البشر كما يعلمنا القرآن –هو اختلافهم في الدين، وذلك باتخاذهم من دون الله أندادا، وعدم استقامتهم على دين الله ومنهجه، وفي ذلك يقول رب العزة:{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} . (1)

ويقول في موضع آخر: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} . (2) وقد فسر ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أسلم الأمة الواحدة التي وردت في النصين السابقين بالدين الواحد. (3)

والتقطع الذي أشارت إليه الآيتان هو التفرق والاختلاف وعبادة غير الله واتباع غير منهجه، وقد لا يصل الأمر إلى عبادة غير الله، ولا إلى الخروج عن دين الله خروجا تاما، ولكن الأمة تختلف في الأصول، وكل هذا يفرق الأمة، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا البلاء قد أصاب الأمم من قبلنا، وأنه سيصيب هذه الأمة كما أصاب غيرها من قبلها.

ففي سنن أبي داود ومسند أحمد بإسناد صحيح عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة وهي الجماعة)) . زاد في رواية: ((وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء، كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقي منه عرق ولا مفصل إلا دخله)) (التجاري: الوقوع في الأهواء الفاسدة. والتداعي فيها تشبهها بجري الفرس، والكلب: داء معروف يعرض للكلب إذا عض حيوانا عرض له أعراض رديئة فاسدة قاتلة، فإذا تجارى بالإنسان وتمادى هلك) .

(1) سورة المؤمنون: (52، 53)

(2)

سورة الأنبياء: (92، 93)

(3)

تفسير ابن كثير: 4/ 590.

ص: 2016

وفي سنن أبي داود وسنن الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة)) .

لقد انقسمت الأمة إلى خوارج ومعتزلة وشيعة وأشاعرة وكلابية وماتريدية ومرجئة وقدرية، واختلفت هذه الفرق في الإيمان وحدوده، كما اختلفت في صفات الله وقدر الله، ونشأ عن ذلك كله اختلافات في واقع الأمر. وقد تبنت كثير من هذه الفرق مناهج مضادة للمنهج الإسلامي، ومن ذلك تبني المنهج الفلسفي الكلامي في إرساء العقيدة والإيمان. وهذا المنهج مزاحم للمنهج الإيماني القرآني القائم على الوحي، وعمدة المنهج الفلسفي الكلامي نظريات عقلية، وأصول فلسفية، ومصطلحات منطقية، وهذا المنهج يختلف من المنهج الإيماني القرآني في طريقة الاستدلال وفي المقصد والهدف.

فالاستدلال القرآني الإيماني أساسه الوحي والإيمان بالرسالة، ومن علوم الوحي نعرف ربنا، وقد أرشدنا القرآن إلى الدلائل العقلية، ووجه أنظارنا إلى التفكير في الكون، وهذه الدلائل دلائل فطرية قريبة المأخذ مأمونة العاقبة، والغاية التي يدعو المنهج القرآني إليها هي عبادة الله وحده لا شريك له، وعبادته متضمنة لمعرفته وتوحيده.

أما عمدة المنهج الكلامي الفسلفي فهو تلك النظريات والأقيسة العقلية التي جعلوها أصولا للعقائد والتشريعات، وهذه الأدلة فيها حق وباطل، وهي سبيل وعر لا يسهل الارتقاء إليه، وقد ينقطع السالك قبل الوصول إلى مراده.

وقد اقتضت الأقيسة الباطلة رد كثير من الحق الذي في الكتاب والسنة فردوا كثيرا من الأسماء والصفات بهذه الأقيسة الباطلة.

والغاية التي كانوا يريدونها من وراء بحوثهم هي المعرفة الباردة، وهذا لا يكفي، فدعوة الرسل عبادة الله وحده.

وهذا يفسر لنا ذلك البرود الذي نجده لدى العلماء الذين يتخرجون من كثير من الجامعات الإسلامية اليوم.

ومن المناهج المخالفة للمنهج الإسلامي المنهج الصوفي الذي يفرق في التعبد ويستحدث أنماطا من العبادات لم يشرعها الله تبارك وتعالى.

ص: 2017

وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا المنهج، ففي سنن أبي داود عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم)) .

وقد قوم الرسول صلى الله عليه وسلم توجه كثيرا من أصحابه الذين أرادوا قيام الليل كله، وصيام الدهر أبدا، أو أرادوا الانقطاع إلى العبادة واعتزال النساء، أو تحريم اللحم، وبين لهم أن ذلك كله مخالف لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن من رغب عن سنته فليس منه.

وجاءت الطامة الكبرى في العصر الحديث حيث قامت في ديار المسلمين دعوات أخذت تنادي بالكفر الصراح. ونبذ الإسلام والانضواء تحت رايات تعلن الحرب على الإسلام، ومن هذه الدعوات تلك التي تنادي بالعلمانية والشيوعية والبعثية. والدعوات التي تنادي بالاعتزاز بالحضارات الكافرة البائدة كالفرعونية والآشورية والبابلية، وقامت دعوات تضع مبادئ ضالة على أساس القومية والوطنية، وتحت ستار هاتين الدعوتين توضع منهاج مخالفة للإسلام تدعو الناس إلى تجمعات ضيقة تضاد الإسلام وتحاده.

وقام في أيامنا فريق ينادي بتقليد العالم الغربي، والسير في الطريق الذي سار فيه، غير مفرقين بين ما يحسن أخذه، وبين ما لا يجوز أخذه، فهم يرون أننا لن ننهض حتى ننبذ ديننا، ونسير في مسار العالم الغربي ولو اقتضى الأمر أن ننسلخ من جلودنا ونلبس جلودهم، وما هذا الانبهار بالحضارة الغربية إلا ثمرة لجهل الأمة بدينها ومركزها، وهذا جعلها تنظر إلى الأمم التي غلبتها نظرة فيها كثير من التعظيم والتبجيل، وأخذت تقلد الأمم الغالبة في عوائدها، وتلك سنة من سنن الله في خلقه عقد لها ابن خلدون في مقدمته فصلا فقال:(فصل: المغلوب مولع بتقليد الغالب) .

وفي الحديث في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى ولو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟.)) .

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون من قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع. قيل له: يا رسول الله كفارس والروم، قال: من الناس إلا أولئك؟))

ص: 2018

وقد تسلم الذين صبغوا بالثقافة الغربية مراكز التوجيه في ديار الإسلام، وصبغوا الحياة فيها بالصبغة الغربية، وتأثر بهم الناشئة كثيرا.

ثانيا: الفرقة التشريعية:

لا نعني بالفرقة هنا الاختلاف الذي وقع بين السلف في فقه النصوص بسبب تفاوت العلماء في الفهم والإدراك، كما لا نعني به الاختلاف الناشئ عن عدم وجود نص، فهذا النوع من الاختلاف لا يسبب فجوة بين المسلمين، وقد وقع هذا النوع من الاختلاف بين الصحابة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينكره المصطفى على أصحابه، فإنه اختلاف طبيعي، تأبي طبيعة البشر أن لا يختلف فيه.

والاختلاف المذموم هو الخلاف الناشئ عن الإعراض عن نصوص الكتاب والسنة تقليدا لآراء الرجال، أو الإعراض عن النصوص اتباعا للهوى.

وقد نشأت في المسلمين دعوات كثيرة تهدف –بقصد أو بغير قصد- إلى زحزحة نصوص الكتاب والسنة عن مرتبة الصدارة، ورد الأمر إلى عقول الرجال والقواعد التي أفرزتها تلك العقول.

وقام في المسلمين من يدعي أن أكثر نصوص الكتاب والسنة لا تصلح للاستدلال لأنها ظواهر وعموميات لا تفيد اليقين، وأخذ هؤلاء ينادون بالرجوع إلى القواعد العقلية لأنها وحدها التي تفيد اليقين.

وقام في المسلمين من نادي بالاقتصار على القرآن وحده ونبذ السنة النبوية، وسمي هؤلاء أنفسهم –زورا وبهتانا- بالقرآنيين. وكذبوا فلو كانوا قرآنيين لأخذوا بالسنة التي يلزمها القرآن بالأخذ بها، وبعض الفرق الضالة رفضت السنة رفضا كليا، وجوز أصحاب هذا المذهب على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخطأ في غير القرآن، ومعني ذلك أن كلامه ليس بحجة، وقد خالف الخوارج والمعتزلة أهل السنة في كثير مما أجمعوا عليه، ولذلك جوزت الخوارج الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها، وذهبوا إلى أن الحكم الواجب في حق الزاني هو جلد مائة جلدة، لا يفرقون بين المحصن وغير المحصن مستدلين بالقرآن ورادِّين للحديث.

وذهب المعتزلة إلى رد أحاديث الآحاد مطلقا، فهم يقبلون المتواتر دون الآحاد، وإن كان في أصح كتب الحديث، زاعمين أن الآحاد ظني الثبوت والدين لا يقوم على الظن. وذهب آخرون إلى أن المفروض هو أحاديث الآحاد في العقيدة وقد زعموا أن أحاديث الآحاد ظنية والعقيدة لا تقوم على الظن.

ص: 2019

وأعاد بعض المغرضين في هذا العصر القضية جذعة، فطعنوا في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ورواتها، وأقاموا عقولهم حكما فيما يأخذون ويدعون من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وفريق آخر بما ليس بحجة في الدين، ومن هؤلاء الذين يعتمدون في إثبات العقائد والأحكام على الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وبذلك يقررون عقائد وأحكاما ليست من الدين وينسبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله وقد حذرنا رسولنا من مثل هذا أشد التحذير، ففي الحديث الصحيح:((من حدث عني بحديث يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين)) (1) وتوعد الرسول صلى الله عليه وسلم الكاذب عليه بالنار؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)) .

ومن الفرقة التشريعية الافتراق بسبب التقليد، فكثير من المقلدة يرفضون الأخذ بنصوص الكتاب والسنة التي تخالف قول الإمام الذي يقلدونه بدعوى أن إمام المذهب أعلم منهم بالنصوص، وقد بلغ الأمر ببعض المقلدين إلى القول بأن كل نص يخالف المذهب فإنه إما منسوخ أو مؤول.

وقد أنشأت العصبية المذهبية فرقة بين الأمة فانقسمت الأمة إلى مذاهب، كل فريق يناصر مذهبه، ويغلو في تقديس إمام المذهب، ويغض من المذاهب الأخرى وأئمتها وفقهها، ونشأ من هذا الخلاف مناظرات وصراعات وقتال في بعض الأحيان.

وكان الواجب أن يبقى الخلاف في دائرة فقه النص، وأن يكون رائد الجميع الوصول إلى الحق من خلال النظر في النصوص، وأن يكون فقه العلماء السابقين ثروة تساعدنا على الوصول إلى هذا الهدف.

وقد رأينا بعض التجمعات الحديثة في هذا العصر يلزم أصحابها أتباعهم بما تتبناه الجماعة.

وفيما تبنته تلك الجماعة أمور مخالفة للكتاب والسنة، فإذا استمسك أحد أتباعها بما علمه من نصوص الكتاب والسنة المخالفة لرأي تلك الجماعة طردته الجماعة من صفوفها.

وقد زاد بلاء الفرقة التشريعية في هذا العصر، عندما أقصيت الشريعة الإسلامية عن الحكم في ديار الإسلام، واستبدلت بها القوانين الوضعية، وحكم المسلمون في رقابهم حكم الطاغوت، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

(1) الكاذبان: منشئ الكذب وناقله.

ص: 2020

ثالثا: الفرقة السياسية:

الأمة الإسلامية أمة واحدة، يجمعها إطار سياسي واحد، ويحكمها حاكم واحد، هكذا علمنا الإسلام.

وافترقت الأمة الإسلامية في نهاية حكم الخلفاء الراشدين، ولكنها استردت وحدتها، وأول فرقة سياسية وقعت واستمرت كانت بعد انهيار الدولة الأموية، حيث حكم العباسيون في الشرق، وحكم الأمويون في الأندلس، ولكن لا تمض بضع مئات من السنين حتى تفرقت كلتا الدولتين إلى دول كثيرة، وقام على كل دولة حاكم وزعيم، إلا أن الخليفة بقي في عاصمة الخلافة رمزا للكيان السياسي الذي يحكم الأمة الإسلامية، ولكنه لم يكن يملك من الأمر الكثير، وكان يحكم باسمه في كثير من الأحيان، بل كان يعزل ويولي غيره بإراده الذين لا يريدون بالأمة خيرا.

ثم إن الرمز الذي كان يلوح في عاصمة الخلافة زال وتلاشى، غير أن الاسم الذي يمثل الكيان السياسي للمسلمين استمر، ولم يُقْضَ عليه إلا منذ عهد قريب عندما اجتمعت على تركيا المسلمة جيوش الأعداء ومكر المنافقين، ولم يرضوا منها إلا أن تتنازل عن الشريعة التي كانت تحكم بقاياها تلك الدول، واشترطوا عليها إلغاء الخلافة الإسلامية، ومنصب شيخ الإسلام، وما تركوها حتى غيروا الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية. ووضعوا القبعة فوق رؤوسهم بدل العمامة، وسلخوا الولايات الإسلامية التي كانت تابعة لدولة الخلافة، وتجزأ العالم الإسلامي إلى دول كثيرة ضعيفة هزيلة، ونالت هذه الدول استقلالها ولكنها لم تنهض من كبوتها، ولم تملك زمام الأمور في بلادها. وهذه الطريقة التي سلكها أعداؤنا معنا طريقة قديمة معروفة، استخدمها المستعمرون منذ ألوف السنين، فقد ذكر ابن كثير في (البداية والنهاية) أن الإسكندر المقدوني اليوناني عندما غلب على ملك الفرس (دارا بن دارا) وأذل مملكته وخرب بلاده، واستباح بيضة قومه، ونهب حواصله، وفرق شمل الفرس شذر مذره، وضع خطة تبقي الفرس ضعفاء لا تقوم لهم قائمة، كي يبقي له السيطرة عليهم ويأمن من انتفاضتهم عليه ومحاربتهم له، يقول ابن كثير موضحا ما فعله هذا الرجل الداهية بالفرس:(عزم أن لا يجتمع لهم بعد ذلك شمل، ولا يلتئم لهم أمر، فجعل يقر كل ملك على طائفة من الناس في إقليم الأرض ما بين عربها وعجمها، فاستمر كل ملك منهم يحمي حوزته، ويحفظ حصته، ويستغل محلته، فإذا هلك قام ولده من بعده، أو أحد قومه، فاستمر الأمر كذلك قريبا من خمسمائة سنة، حتى كان أزدشير بن بابك من بني ساسان بن بهمن، فأعاد ملكهم إلى ما كان عليه، ورجعت الممالك برمتها إليه، وأزال ممالك الطوائف، ولم يبق منهم تالد ولا طارف....)(1)

(1) البداية والنهاية 2/ 183.

ص: 2021

قارن بين ما فعله الإسكندر في الماضي البعيد بما فعله الكفار بدولتنا الإسلامية تجد التخطيط واحدا والنتائج واحدة، بل إن الحال معنا أشد وأقسي، فإننا لم نعط الاستقلال إلا بعد أن أخذت علينا العهود والمواثيق بأن لا نعود إلى تحكيم الشريعة الإسلامية، ولا نقيم الكيان السياسي الإسلامي، كتب اللورد كرومر في الفصل الأخير من كتابه (مصر الحديثة) الصادر في سنة 1908م (إن انجلترا كانت مستعدة لتمنح الحرية السياسية النهائية لكل ممتلكاتها المستعمرة حالما يكون جيل من المفكرين والسياسيين المشحونين بمثل الثقافة الإنجليزية عن طريق التربية الإنجليزية مستعدا للاضطلاع بالأمور، ولكن الحكومة الإنجليزية لن تسمح بحال من الأحوال بقيام دولة إسلامية مستقلة، ولو للحظة واحدة) .

أثر إثارة النعرات والعصبيات

في الفرقة السياسية

ولا يفوتني –قبل أن أنهي الحديث عن الفرقة والاختلاف- أن أتعرض إلى مرض خطير كان ولا يزال يعمل على تفتيت وحدة المسلمين السياسية، ألا وهو العصبيات التي تثور بين الفينة والفينة في المجتمعات الإسلامية.

إن الإسلام جعل الرابطة التي تجمع المسلمين وتوحدهم هي الإسلام. وقد قامت دولة الإسلام على أساس الجامعة الإسلامية، وانصهرت في بوتقة هذه الجامعة العصبية للجنس واللون والوطن والنسب، وأصبح التنادي بين المسلمين للتجمع على أساس غير أساس الرابطة الإسلامية يعد دعوة جاهلية مقيتة، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر عندما عير رجلا بسواد أمه:((إنك امرؤ فيك جاهلية)) وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه العصبيات المقيتة، ففي حديث جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قتل تحت راية عمية يدعو لعصبية، أو ينصر عصبية فقتله جاهلية)) . أخرجه مسلم والنسائي.

وفي سنن أبي داود عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية)) .

وعندما اختلف رجلان من المهاجرين والأنصار فتناديا يا للمهاجرين، يا للأنصار، وهب كل فريق لنصرة صاحبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :((ما هذا؟ أدعوى أهل الجاهلية؟)) رواه مسلم في صحيحه. وفي رواية أخري عند مسلم: ((دعوها فإنها منتنة)) .

ص: 2022

إن الإسلام لا يلغي الانتماءات للأوطان والقبائل والشعوب، ولكنه لا يسمح أن تجعل لغير ما أراد الله له، إن حكمة الله اقتضت تقسيم البشر إلى شعوب وقبائل للتعارف لا للتفاضل:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . (1)

إن الآصرة التي تجمع المسلمين هي الإسلام، وفي ظل هذه الآصرة تتجمع القبائل والشعوب، وسعي المرء في شأن قومه وأهله من الفضائل التي يحمد الإسلام أصحابها، ولكن الإسلام لا يرضي أن ينصر المرء قومه أو بني عشيرته/ أو الذين يشاركونه في اللون محقين أو ظالمين، إن الإسلام قبل مقولة أهل الجاهلية (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) ولكنه رفض التفسير الجاهلي لهذه المقولة، وأعطى تفسيرا مضادا لتفسير الجاهلية، ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما، إن كان ظالما فلينهه، فإن له نصر وإن كان مظلوما فلينصره)) .

إن نصرة المرء قومه عصبية لهم جريمة كبرى في المجتمع الإسلامي، في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من نصر قومه على غير حق، فهو كالبعير الذي ردي في مهواة، فهو ينزع بذنبه)) والمهواة: الحفرة من الأرض، وكل مهلكة مهواة، والتردي الوقوع من علو.

وقد ثارت العصبيات في القرن الأخير، وحطمت الرابطة الإسلامية والدولة الإسلامية، فدعا الأتراك إلى التركية، والأكراد تنادوا إلى الكردية، وفعل مثل ذلك البربر والعرب، ثم جاءت الدعوة إلى الأوطان، فكل قوم يعيشون على بقعة من الأرض أقاموا عصبية منتمية إلى تلك البقعة، وقامت دعوات تدعو إلى الاعتزاز بالفرعونية والآشورية والفارسية، وقطع الترك كثيرا من الحبال التي كانت تربطهم بالإسلام، وأصبح العالم الإسلامي على الصورة الكئيبة التي نراها عليه اليوم.

(1) الحجرات: (13)

ص: 2023

طريق الارتقاء بالأمة الإسلامية

إذا كانت الفرقة هي طريق الانحطاط، فإن الوحدة هي سبيل الارتقاء وتبوء المكانة الفاضلة من جديد.

والوحدة الإسلامية على أساس من الإسلام أمل القلوب المسلمة الصادقة في كل مكان، ذلك أن الإسلام، يغذي أتباعه دائما وأبدا بأنهم إخوة في دين الله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} . (1) ، ويجعل الأمة الإسلامية أمة مترابطة ترابط الجسد الواحد، ففي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) وفي رواية أخرى عند مسلم: ((المسلمون كرجل واحد، إن اشتكى عينه، اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه، اشتكى كله)) .

وشبههم في حديث آخر بالبنيان المرصوص، ففي صحيح مسلم عن أبي موسي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)) . فالأحاديث تصور المجتمع الإسلامي بالجسد الواحد الذي يخفق فيه قلب واحد، وتسري فيه روح واحدة، ويتأثر كل عضو فيه بما يصيب بقية الأعضاء، أو هو كالجدار الذي تجتمع لبناته لتشكل فيما بينها واحدة متماسكة متراصة.

أصول الوحدة الإسلامية:

ونحن إذ ننادي بالوحدة الإسلامية لا نريدها وحدة على غير أصول، لا نريدها وحدة تجمع شتاتا مختلفا متناقضا، إنما نريدها وحدة صادقة تقوم على أصول قوية ثابتة، ويلخص هذه الأصول قوله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} . (2)

وسنحاول أن نبرز أهم الأصول التي تقوم عليها وحدة الأمة.

الأصل الأول: الانتماء للإسلام دون سواه:

العالم اليوم بحر محيط يموج بالدعوات والأفكار، وتقوم هذه الدعوات على مناهج ونظريات أتعب أصحابها أنفسهم في تزيينها وتزويقها، ويجب أن يجهد دعاة الإسلام أنفسهم في الدعوة إلى نبذ جميع المذاهب والمبادئ التي غزت ديار المسلمين وعقولهم وعلي الدعاة أن يحصنوا المسلمين ضد هذه السموم التي تبثها مختلف وسائل الإعلام صباح مساء.

(1) الحجرات (10)

(2)

آل عمران: (103)

ص: 2024

لقد فقد كثير من أبناء المسلمين اليوم هويتهم، ومسخت شخصيتهم بفعل التضليل المستمر الذي يمارسه شياطين الجن والإنس بمختلف الوسائل، وسبيلنا للوحدة الصادقة هو الدعوة إلى الالتزام بالإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة، والاعتزاز بالانتساب إلى هذا الدين، ونبذ كل ما يخالفه ويضاده، وهذا النهج هو نهج أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، الذي حرص على إقراره في بنيه وذريته، وهو المنهج الحق الذي أمرنا الله بالتزامه، وحكم على من أعرض عنه بالسفه والضلال، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالي:{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} . (1)

هذه هي ملة إبراهيم، وهي توحيد الخالق جل وعلا بعبادته وحده لا شريك له، وإقامة الحياة وفق منهج الله، والاعتزاز بهذا المنهج وإقراره في واقع الحياة، ورفض المبادئ المنحرفة الضالة التي اخترعها البشر وجعلوها أديانا يقيمون حياتهم وفقها، ويعتزون بالانتماء إليها.

إن الإسلام منهج حياة، والعبودية لله معلم كبير في حياة المسلم، والمسلمون وفق هذا المنهج والفهم يشكلون أمة واحدة في مقابلة التجمعات البشرية.

والمسلم الصادق يعتز بالانتساب إلى الإسلام {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . (2) فقد نص على أن أفضل الناس هم الذين يعلنون انتسابهم إلى الإسلام.

وكثير من المسلمين اليوم فقدوا انتماءهم، فأخذوا يبحثون عن عقائد ومذاهب وأقوام ينتسبون إليها، وآن لنا أن نرفع الراية التي كان أسلافنا ينتسبون إليها، ألا وهي الإسلام، لا راية الأوطان، أو الأقوام أو الأحزاب أو التجمعات الضالة.

التوحيد والانتساب إلى الإسلام ملة إبراهيم، وقد أمر الله رسوله باتباع ملة إبراهيم:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} . (3) . ونحن أولى الناس بإبراهيم بعد أتباعه {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} (4)

(1) البقرة: (130-133)

(2)

فصلت: (33)

(3)

النحل: (123)

(4)

آل عمران: (68)

ص: 2025

الأصل الثاني: توحيد مصدر الهداية:

والأصل الثاني توحيد مصدر الهداية، وهذا لازم للأصل الأول، فما دمنا قد آمنا بأن هذا الدين من عند الله، أنزله لهداية البشر للتي هي أقوم، فيجب أن نحل هذا الدين في المرتبة التي يستحقها في هذا المجال.

إن جميع الدعوات والمذاهب والأديان التي يموج بها عالم اليوم يدعى أصحابها أنهم يملكون إكسير السعادة، وهداية البشر للتي هي أقوم، ونحن نقول كما علمنا الله أن نقول:{إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} . (1)

إن مصدر الهداية الوحيد كتاب الله وسنة رسوله، واتباع أهل الكتاب، وأصحاب الدعوات الباطلة يقود إلى الردة والكفر:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . (2) ومتي فقهنا هذه الحقيقة التي قررها قوله تعالى: {إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} . (3) وفرنا على أنفسنا جهودا كثيرة في تلمس الهداية في الكتب السماوية المحرفة، وفي نظريات البشر وأفكارهم المتضاربة المتعارضة، وسرنا في الطريق المرسوم، ندعو البشر إلى طريقنا، ونحاكم أفكارهم وعقائدهم ومبادئهم إلى موازين الإسلام، وإذا ما جاؤوا يعرضون بضاعتهم علينا رفضناها، لأننا نعلم أن في بضاعتهم دخنا، وهم لا يرضون عنا حتى ننسلخ من ديننا ونأخذ دينهم {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} . (4) وقد وقف الرسول صلى الله عليه وسلم في وجه تلمس الهداية من الأديان المحرفة بقوة، وشدد التنكير على من ذهب هذا المذهب، ففي مسند أحمد عن عبد الله بن جابر قال: ((جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني مررت بأخ لي يهودي من بني قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال عبد الله بن ثابت: قلت له: ألا ترى وجه رسول الله؟ فقال عمر: رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا.

قال: فسري عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى عليه السلام ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين)) .

(1) آل عمران: (73)

(2)

آل عمران: (100-101)

(3)

آل عمران: (73)

(4)

البقرة: (120)

ص: 2026

ولذلك فإننا ننظر –اليوم- بكثير من الريبة والحذر إلى ما يسمي بمؤتمرات التقريب بين الأديان والتي تعقد في شتى أنحاء العالم ويحضرها علماء مسلمون وغير مسلمين يبحثون في الالتقاء والتقارب بين الإسلام والنصرانية، ويبحثون في إزالة سوء التفاهم بينهما. إننا نرفض هذه المؤتمرات، لأنها تضع الإسلام الدين الحق والنصرانية الدين المحرف الباطل في مرتبة سواء، ونرفضها لأن الإسلام جاء مهيمنا على النصرانية وغيرها من الأديان، وليس هناك مجال للتقريب بين دين محرف مغير مبدل والدين الحق.

إننا نقف في مجامع النصارى لا لنقرب بين دينهم الباطل وديننا، وإنما لنقول لهم: دعوا هذا الدين، ودعوا الشرك بالله والكفر به، وتعالوا إلى الدين الذي بشر به موسى وعيسى، دين الله الخاتم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

إننا نعد قبول العلماء المسلمين بحضور هذه المؤتمرات انحرافا يضر بهم وبدينهم وعقيدتهم، ولا ينفع إلا الذين قالوا اتخذ الرحمن ولدا، لأنهم بذلك يجرجروننا إلى باطلهم، ويوقعوننا في شباكهم.

ففي شهر أبريل سنة 1974 عقد مؤتمرا من هذا النوع في باريس التقي فيه علماء مسلمون ورجال فكر أوربيون للبحث في التقارب بين الإسلام والمسيحية، وزار الوفد الإسلامي الفاتيكان وألقي هناك محاضرتين، وقد مهد لهذا المؤتمر منذ عام 1972، وقد وصفت الصحف هذا المؤتمر بأنه مهم.

وفي شهر سبتمبر من العام نفسه 1974 انعقد المؤتمر الإسلامي المسيحي في مدينة (قرطبة) وقد كانت مهمة المؤتمر تقريب وجهات النظر بين العالمين المسيحي والإسلام، ودراسة تزايد موجة السعي من أجل إزالة الخلافات وسوء الفهم الذي قد يكون قائما بين الدينين بالنسبة للمعنيين بالأمر والرأي العام.

وفي شهر نوفمبر من ذلك العام كان المؤتمر المسيحي الثالث في مدينة (تونس) .

وقد عقد مؤتمر إسلامي في مدينة لاهور في باكستان في ذلك العام في شهر فبراير 1974 ومع كونه إسلاميا في الظاهر إلا أنه قد حضره ممثلون من نصارى لبنان، وقد أشاد المؤتمر بالتعاون الإسلامي المسيحي.

ص: 2027

وهذه المؤتمرات لم تكن الأولى ولا الأخيرة فقد عقد قبلها مؤتمرات وبعدها مؤتمرات على النمط نفسه.

وقد تحدث عن شيء من بلايا هذه المؤتمرات الكاتب العلامة الباحث الدكتور محمد محمد حسين في كتابه (حصوننا مهددة من داخلها) ص (321) عندما كشف عن زيف ودجل المؤتمر الإسلامي المسيحي الذي دعت إليه جامعة برنستون ومكتبة الكونغرس الأمريكي في صيف عام 1953 ونشرت قسما من بحوثه مؤسسة فرانكلين الأمريكية كما كشف الدكتور الأهداف الخبيثة لذلك المؤتمر.

إن الذين يؤمون تلك المؤتمرات لا يدركون الدسيسة والمكيدة التي أوقعهم أعداؤهم فيها، وآخرون يعلمون ذلك ولكنهم يريدون بالإسلام والمسلمين شرا، وعندما يوجه إليهم اللوم لا تكون إجابتهم إلا كإجابة إخوانهم من قبل:{إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} . (1) ، وذلك بالتقارب بين الإسلام والمبادئ البشرية، وقد فضح القرآن هذا الصنف من الناس، وبين هؤلاء أتباع الطواغيت همهم إفساد البلاد والعباد وصد الناس عن دين الله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} . (2)

إننا نعلن لبني قومنا أن الهداية من الضلال لن تكون في غير الكتاب والسنة، وهذا ليس تقولا من أنفسنا، ولكنه صريح كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ، ففي الموطأ عن أنس بن مالك وفي المستدرك للحاكم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما كتاب الله، وسنة رسوله)) .

(1) النساء: (62)

(2)

النساء: (60-63)

ص: 2028

الأولى: لا يجوز طلب الهداية من الأديان المحرفة والمذاهب الباطلة وقد أسلفنا القول في هذا الموضوع.

الثانية: وهذا لا يعني أنه لا يجب علينا دراسة هذه المذاهب والأديان لبيان عوارها والرد عليها، ويدلنا على صحة هذا مناقشة القرآن لأهل هذه المذاهب والأديان، وقد ألف علماؤنا مؤلفات كثيرة في هذا المجال.

الثالثة: أن العلوم الدنيوية في المجالات المختلفة كالطب والهندسة يجب علينا دراستها والاستفادة من جهود البشر فيها، ولا تدخل دراستها في المحذور.

الأصل الثالث: وحدة العقيدة:

لا يمكن أن تقوم وحدة المسلمين ما لم تجمعهم عقيدة واحدة، والعقيدة تشكل في البناء الفردي والاجتماعي القاعدة التي تقوم عليها الأعمال والعلاقات والأخلاق، فإذا كانت العقيدة مشوهة أو مزورة فإن البناء لا يستقيم، ولا يكاد البناء يواجه الأعاصير والفتن حتى ينهار، بل إن البناء قد لا يقوم من أساسه، وقد شهد عالمنا العربي والإسلامي مزيدا من الفرقة والانقسام، والعقائد الموروثة والحادثة كثيرة، وقد انتشرت في الأمة الإسلامية انتشارا كبيرا، وانقسمت الأمة بناء على ذلك في التقديم والحديث إلى فرق وجماعات، وقام بينها العداء والخصام والحروب.

قد يقال: من أين تأتي العقيدة الإسلامية التي تصلح للم شتات المسلمين؟

الجواب: أن العقيدة الإسلامية الصافية منصوص عليها في الكتاب والسنة، ويمكن التدليل على كل أصل من أصولها، أو جزئية من جزئياتها، ثم إن السلف الصالح الذين استقاموا على عقيدة الإسلام الحق دونوا هذه العقيدة تدوينا يميزها عن عقائد أهل الفرق والضلال، ومن هؤلاء العلامة الطحاوي دون عقيدة عرفت باسمه، شرحها محمد بن محمد بن محمد بن أبي العز الحنفي، ولم يقف الأمر عند هذا، فقد دون العقيدة الصحيحة كثير من العلماء من قبله وبعده، منهم الإمام أحمد وابن تيمية، والشوكاني، والإسفرائني وغيرهم.

وأحب أن أنبه إلى أن هذه العقائد قواعد تعصم من الخطأ في مجال الاعتقاد وهناك لون آخر من العقيدة، يبعث العباد إلى العمل بما جاءهم من عند الله، مخلصين دينهم لله، وهذا اللون هو الذي يجعل المسلم قوة حية متحركة عاملة، وهذا اللون من العقيدة حتى يعطي ثماره لا بد من دراسته من خلال النصوص.

ص: 2029

الأصل الرابع: جعل الكتاب والسنة محور الدراسة ومصدر التشريع:

لا بد أن تعود المكانة الكبيرة للكتاب والسنة، فقد كانا محور الدراسة والتعليم والتشريع، ولا يجوز استبدالها بآراء الرجال، ولا يجوز إلغاؤهما بحجة أن الفقه الذي دونه الأئمة يكفى في هذا الجانب.

ليس معني ذلك أننا نلغي فقه الأئمة فذلك وهم، بل نري أن فقه الأئمة هو محاولة دائبة لفقه الكتاب والسنة، فنحن ندرس الكتاب والسنة، وندرس كيف فَقِهَ علماؤنا النصوص، واستنبطوا منها الأحكام، أما الفقه المجرد الذي لا يصطبغ بالكتاب والسنة، فإنه يبعدنا عن النبع الأصيل. ولا يجوز إقصاء الكتاب والسنة عن دائرة الدراسة والفقه، بحجة أن ذلك مهمة المجتهد وحده، ولا شك أن هذا مزلق خطر، فإن الذي يدرس الكتاب والسنة لن يكون عالما بهما، ولكن ليس كل من درس آيات وبضع أحاديث أصبح عالما يحق له الإفتاء.

إن مثل العالم وطالب العلم مثل الطبيب ودارس الطب، فطالب الطب يعطي العلم الذي يؤهله لعلاج الناس وإجراء العمليات الجراحية لهم ولكنه لا يؤذن له في العلاج وإجراء العمليات في السنة الأولى التي يدرس فيها الطب، غير أنه يترقى في ذلك حتى يحصل قدرا صالحا من العلوم الطبية، ثم يتدرب على أيدي المتخصصين من الأطباء الكبار، ثم يمارس مهنة الطب، وقد يواصل دراسته وتنمو خبرته بعد ذلك حتى يستقل في بعض القضايا وتصبح له نظرة اجتهادية يستقل بها عن غيره، ولو منعنا طلاب الطب بعد تخرجهم عن العلاج والممارسة لما كان هناك أطباء كبار.

وعالم الشريعة عليه أن يدرس الشريعة من مصادرها، وأن يتفقه في هذا الدين، ويدرس العلوم الخادمة لعلم الشريعة ومن ذلك علم اللغة العربية، ثم لا يزال يترقى في هذا المجال حتى يبلغ مبلغ العلماء المؤهلين. وهذا الطريق ليس بالطريق الصعب المستحيل، ولذلك لا يجوز صد الناس عن السير في طريق العلم الشرعي، كما لا يجوز لمن كان في البدايات أن يُنَصِّبَ نفسه عالما ومفتيا.

ص: 2030

الفصل الخامس: إقامة دولة الإسلام وإرجاع الخلافة الراشدة:

لا يمكن أن تنتهي فرقة المسلمين السياسية إلا بإقامة دولة إسلامية راشدة تقيم فينا دين الله وشرعه، وتحكمنا بالإسلام، وتقيم فينا وفي العالم موازين الإسلام وقيمه، وتسمع العالم صوت الله، فتقيم بذلك الحجة على العالمين، وتقوم بواجب البلاغ الذي كلفنا به، وتحمي حمى الإسلام وتحرس هذا الدين، كما تحمي ديار الإسلام، وتحفظ حرمات المسلمين، وترد كيد الكائدين، وترفع الظلم عن المظلومين، وترد هذا البلاء الذي رمانا به أعداء الإسلام، هذا البلاء الذي جعلنا في ديار المسلمين أذلة، نخشى إن قلنا كلمة الحق أن تقطع منا الرؤوس، وتسلب منا الأموال، ويؤذى أهلنا وأحبابنا، إن دولة الإسلام هي المؤهلة لرد هذا البلاء الذي جعل ديار الإسلام مرتعا لأعداء الإسلام، فصالوا وجالوا من غير رقيب وحسيب. لقد قسموا ديارنا فجعلوها دولا، وجزؤوا أمتنا فجعلوها أمما، بعد أن كنا دولة واحدة وأمة واحدة، إننا نريد دولة الإسلام كي نتوحد في ظلها، لنعود مرة أخرى دولة واحدة وأمة واحدة، تختفي في ظلها النعرات الجاهلية، والعصبيات المقيتة التي فرقت شملنا، وأذهبت قوتنا، وملكت منا الأعداء.

أنا أدرك أن إقامة الدولة الإسلامية لا يتحقق بمجرد الأماني، وأن الطريق إليه ليس مفروشة بالورود والرياحين، وأن الطريق إلى تحقيق ذلك تعترضها عقبات جسام، أنا أعلم أن قيام الدولة الإسلامية يقتضي من المسلمين أن يبذلوا في سبيل تحقيقها أوقاتهم وأموالهم وأنفسهم، وأن يرضوا بالتشريد حينا من الدهر، كما يرضوا بالعذاب والسجون، فإن لإقامة الدولة ضريبة وأية ضريبة، ذلك أن دولة الإسلام تبطل مخططات خصوم الإسلام، التي عملوا على تحقيقها دهرا طويلا، بحيث جعلت لهم السيطرة على بلادنا وشعوبنا ومقدراتنا، وتبطل امتيازات المسلطين في ديارنا، كما تبطل مصالح الطبقة التي تأخذ ما تأخذ بالباطل، فإذا جاء الإسلام وأعمل حكم الله أوقف نهب ثروات الشعوب وسوى بين المسلمين وحكم بالعدل، وجعل العزة لله، ومن هنا يحرص أعداؤنا والظلمة المسلطون علينا أن يخنقوا صوت الإسلام. الذي ينادي بالعودة إلى إقامة خلافة راشدة تحكِّم شرع الله، وتقيم دين الله.

ص: 2031

أنا أعلم أن الصعوبات هائلة والعقبات كثيرة، واقتحامها لا يكون بمؤتمر يعقد، ولا اجتماع يتبادل فيه الرأي، ولا بمحاضرة تلقى، ولكننا مع ذلك كله ننادي بإقامة هذه الدولة، ونوقن أن أبناء الإسلام الذين رضوا بالله ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا سيقدمون الثمن، ثمن إقامة الدولة الإسلامية، وهذا الذي سيقدمونه ليس أمرا مندوبا إليه، يمكن أن يقوم به المسلمون كما يمكن أن يغضوا الطرف عنه، فالعقيدة الراسخة في أعماق قلوبنا، والتي تشكل فينا قاعدة الدين الذي رضينا به، كما تعتبر بحق أساس الإسلام والإيمان لا ترضى أن نعيش هكذا من غير راع يرعى المسلمين، ولا دولة تنتظم أمورهم، وتحرسهم، وترفع صوت الله لتسمعه العالم أجمع، إن عقيدتنا تقول لنا: إن الله هو حاكم هذا الكون، الكون كله: أرضه وسمائه، بره وبحره، حيوانه ونباته، نجومه وشمسه وقمره، وكذلك هو الحاكم للتجمعات البشرية فوق ظهر الكرة الأرضية، والفرق بين البشر وغيرهم أن البشر يتحاكمون إلى شرع الله باختيارهم، أما بقية الكائنات فإنها لا تستطيع أن ترفض أمر الله، فالله يريدنا أن نتخذه إلها وربا وحاكما ونرضى بذلك، ونخضع لعظمته ونرضى بشريعته، لأنه خالقنا ورازقنا ومحيينا ومميتنا، وإليه مآبنا، فهو المستحق لأن يجعل حاكما، والله لا يرضى منا حتى نقيم دولة الإسلام التي تسلم مقاليد الحكم إلى الذين يجعلون التشريع لله تعالى، وتنبذ الطواغيت والظلمة الذين اعتدوا على سلطان الله ونازعوه في حكمه وقضائه، وقد قرر الإسلام بصورة واضحة هذه القضية {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} . (1) .

فالحكم لله والعبادة لله، ولا تجوز منازعة الله في حكمه، ولا يجوز صرف شيء من ذلك لغير الله، فالإيمان بالله يقتضي تحكيم شرع الله، ونبذ حكم الطواغيت والكفر بها {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} . (2) .

فكل من ادعى الإيمان بالله فعليه أن يكفر بالطاغوت، فإن ادعى أنه مؤمن وهو يرضى بحكم الطاغوت فقد تناقض في دعواه، ووقف موقفا يتعجب منه، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} . (3)

(1) يوسف: (40)

(2)

البقرة: (256)

(3)

النساء: (60)

ص: 2032

إن المسلم لا يقف عند حد الكفر بالطاغوت، بل يتعدى ذلك إلى مصارعة الطاغوت ومغالبته وإقصائه عن مشاركة الله في حكمه {الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} . (1)

والطواغيت هم الذين نصبهم الناس، أو نصبوا أنفسهم آلهة ينازعون الله في حكمه، فالقول قولهم والأمر أمرهم، وكلمتهم هي العليا، وشرعهم هو المتبع، وقد يصل الحال إلى السجود لهم وعبادتهم، والله لا يرضى أن يشاركه أحد في حكمه {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} . (2) ، أي لا يرضي أن يشاركه أحد في حكمه، وفي القراءة الأخرى:{وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} . (3) ، أي لا تشرك أيها المؤمن مع الله غيره في حكمه، والقراءتان معناهما متلازم، وقد جعل الإسلام التحاكم إلى غير شرع الله تحاكما إلى الجاهلية {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . (4) . وحكم على الذين لا يحكمون شرعه المنزل ودينه العظيم بالكفر والظلم والفسق {ووَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ.... فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.... فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . (5)

هذه القضية (الحكم لله) عقيدة عند المسلمين، ولا يمكن تحقيق هذه العقيدة إذا بقيت مقاليد الحكم في عالم البشر بأيدي الطواغيت:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . (6) .

إننا لا نستطيع تحقيق الإيمان إلا بإقامة دولة الإسلام التي تقيم شرع الله في كل شئون الحياة.

وعقيدتنا تجعل الإيمان بالرسالات السماوية وخاتمها الإسلام دافعا إلى إقامة الدولة الإسلامية، ذلك أن طبيعة هذا الدين توجب إقامة الدولة الإسلامية، لأن هذا الدين منزل من عند الله العلي القدير، والله لا يرضى أن تسود مناهج البشر وشرائع البشر عالَمَ البشر ويقصى دينه وشريعته، لقد أنزل الله دينه من أول يوم ليكون هو الأعلى {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} . (7) . وقد قرر الحق أن طبيعة هذا الدين تأبى أن يخفت صوته، وتطمس معالمه، وتعلوه كلمة البشر {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} . (8) . وأوجب على المسلمين الجهاد والقتال حتى ترتفع كلمة الله، وتكون الدينونة لله الواحد الأحد {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} . (9) .

(1) النساء: (76)

(2)

الكهف: (26)

(3)

الكهف: (26)

(4)

المائدة: (50)

(5)

المائدة: 44، 45، 47

(6)

النساء: (65)

(7)

التوبة: (33)

(8)

التوبة: (40)

(9)

البقرة: (193)

ص: 2033

ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا إذا قامت دولة الإسلام، فجعلت الهيمنة في عالم البشر لهذا الدين، وهذه هي المهمة الكبرى المناطة بالدولة الإسلامية، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:(جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فإن الله تعالى إنما خلق الخلق لذلك، وبه أنزل الكتب، وبه أرسل الرسل، وعليه جاهد الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ) . (1) .

وعقيدتنا تلزمنا بإقامة الدولة الإسلامية، لأن إقامة الدولة أحد أحكام الشريعة الإسلامية، والشريعة الإسلامية هي التي تحقق العقيدة في واقع الحياة، فالدين ليس مجرد عقيدة تبقى حبيسة في صدور أصحابها ولكنها حياة دافعة تتحرك في الصدور وتنبعث بها النفوس، ثم تتشكل في إطار يحكم الواقع وحياة البشر، وبذلك فإن الشريعة التطبيق الواقعي للعقيدة، ولا تزال تلح العقيدة على صاحبها كيما يجاهد، ويناضل لإيجاد الصورة العملية التي تقتضيها تلك العقيدة.

(1) الذاريات: (56)

ص: 2034

مرحلة المخاض

تحدثنا فيما سبق عن المكانة الفضلى التي رفع الله إليها هذه الأمة بدينه المنزل ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، ثم بينا كيف انحطت هذه الأمة عن مكانتها بسبب فرقتها، وعقبنا على ذلك بالحديث عن الوحدة التي يمكن أن تعيد للأمة الإسلامية عزتها من جديد. ولكن يبقى أمر في غاية الأهمية، وهو الحديث عن الطريق التي تؤدي إلى بناء الأمة الإسلامية من جديد.

وأول ما يتبادر إلى الذهن في هذا هو الطريقة التي سلكها الرسول صلى الله عليه وسلم في بناء الأمة الإسلامية، والعالم بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يجد أنه عليه السلام كان يعنى بالدعوة إلى الله في وسط الكفار، فمن استجاب منهم لاحقه بالتربية والتقويم حتى يصبح لبنة صالحة، وكان هؤلاء يشكلون فيما بينهم وحدة مترابطة متعاونة، تعلم أن مهمتها هي تغيير مجرى الحياة الإنسانية، ولقد أوذيت هذه الفئة أذى شديدا وعذبت في دين الله، وهجرت الأوطان للبحث عن مكان آمن يقيهم الطغيان. وفي هذا الوقت أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يبحث عن مكان صالح لإقامة دولة الإسلام، فكان يعرض دعوته على القبائل مطالبا إياهم بنصره وحمايته حتى يبلغ دعوة الله، وكانت المهمة شاقة وصعبة، ولكن الله هدى بعض أهل يثرب إلى الإيمان بدعوة الإسلام، وانتشر فيهم الإسلام وهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه إلى المدينة، وكانت هذه الهجرة إيذانا بميلاد الأمة الإسلامية، وقيام دولة الإسلام الأولى، وهنا تحول المضطهدون الصابرون على الظلم والأذى إلى مقاتلين، يدفعون الشرك والمشركين بالكلمة كما يدفعونهم بالسيف والرمح، ولم يزل شأن الدولة الإسلامية يعلو حتى هيمن الإسلام على العالم كله، وأطاح بعرش كسرى، وأسقط تاج قيصر، وكان الدين لله.

واستمر الوجود السياسي الممثل في الخلافة الإسلامية قائما، كلما سقطت رايته في جانب من جوانب العالم قام في جانب آخر، وكان العلماء والدعاة يسددون الحكام ويقومونهم، وكان الحكام يقتربون من الإسلام ويبتعدون عنه بنسب متفاوته ولكن الإسلام بقي باستمرار هو الدين الوحيد المهيمن على حياة المسلمين، والشريعة الإسلامية هي القانون الذي يتحاكم المسلمون إليه.

ص: 2035

وآخر كيان سياسي جامع للمسلمين هو الدولة العثمانية التي انهارت على أيدي اليهود والصليبيين في الربع الأول من القرن العشرين، وكان انهيارها نتيجة محتمة في سنة الله، ذلك أنها أصيبت بأمراض وعلل كثيرة جعلتها ضعيفة في مواجهة أعدائها، ولو بقيت قوية قوة الجبال الرواسي لما عصفت بها الفتن، ودمرتها الرياح.

لا يكفي في تقويم الدولة العثمانية أن يدلل الباحثون على أن حكامها كانوا صالحين، وأن آخرهم وهو السلطان عبد الحميد كان مخلصا للإسلام، فهناك علل في الأمة كلها وفي السلطان نفسه تجعل استمرار تلك الدولة في الوجود مخالفا لسنة الله التي سنها في عباده.

لقد كانت تلك الدولة تمثل الإسلام، ولكن في الإسلام الذي كانت تمثله دخنا كثيرا في العقائد والسلوك والعلاقات، ودخل الترف حياة الحكام وأغرقوا فيه، وتزلزلت أركان العدل في كثير من ولايات الدولة الإسلامية وانتشرت الفرق الصوفية التي جعلت الإسلام عبارة عن أذكار ورقص وأكل وقعود عن الجهاد، وكان القائمون على الدولة لا يجاهدون لإعادة الأمة الإسلامية إلى المستوى الراقي الذي يحققه الالتزام بالإسلام، بل كان الحكام في كثير من الأحيان يعاقبون المصلحين الذين يحاولون إصلاح الفساد الذي غرقت فيه الأمة الإسلامية.

فكانت سنة الله تقضي بأن تنهار هذه الدولة، وعلى الرغم من المأساة الكبرى التي حلت بالمسلمين بسبب انهيارها، إلا أن هذا الانهيار كان ضروريا لا بد منه، واليوم وقد مر على انهيار الخلافة نصف قرن تقريبا ننظر إلى ما أصاب المسلمين في هذا النصف من المآسي والبلايا فنألم، ولكننا نرى من خلال الآلام والمآسي روحا بدأت تسري في الأمة الإسلامية تهدف إلى إعادة مجد الإسلام وعزه من جديد. وشكلت هذه الروح تيارا إسلاميا ناميا، وقد أصبح هذا التيار واضحا ظاهرا، وسر هذا التيار الإسلامي نفوس الموحدين، وأقر أعينهم وساء هذا التيار أعداء الإسلام فارتفعت عقيدتهم محذرة من الخطر الداهم، والمارد الذي بدأ يتململ في قيوده، وهو يوشك أن يخرج من محبسه ويفك أغلاله. ولكن هذا التيار لم يبلغ مبلغا يعيد فيه عزة الإسلام، وينهض بالأمة إلى المستوى الذي كانت تتبوؤه، ولا يزال العلماء والمفكرون المسلمون منذ سقوط الخلافة وإلى اليوم مختلفين في الطريقة التي نعيد بها عز الإسلام ومجده.

ص: 2036

عندما زالت الخلافة في تركيا، ظن بعض الأخيار أنه يكفي أن ينصب حاكم من حكام المسلمين خليفة كي تعود المياه إلى مجاريها، ويأخذ القوس باريها والسهم نابله، وغفل هؤلاء عن أن الذين أسقطوا الخلافة كانوا لا يزالون يسيطرون على مقاليد الأمور وهم لا يسمحون بإعادة الخلافة مرة أخرى بعد أن بذلوا جهودا هائلة غير مشكورة في هذا السبيل.

وبعض دعاة الإسلام ظن أنه يمكن أن يخدم الإسلام ويقيم بناءه إذا انضوى تحت لواء القيادات التي تهمين على مقاليد الحكم في دياره، وفي سبيل تحقيق هذا تنازل عن شيء من الإسلام، فقصر دعوته على الصلاة والصوم والزكاة والحج وبعضا من أخلاق الإسلام، وأعرض عما لا يوافق أهواء أولي الأمر، وهذا ركون للظالمين، وتضييع للإسلام وقد حاول الكفار جاهدين أن يحرفوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن المنهج الذي دعا إليه، بحيث يتفقون معه على حل وسط، فجاءه الوحي من السماء محذرا:{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} . (1) . وفي هذا أنزل الله {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} . (2) .

وقام في الأمة علماء ومصلحون، وظن هؤلاء أن نشر العلم والتفقيه في الإسلام وبيان المشكلات التي تحيط بالأمة الإسلامية كاف في إعادة مجد الإسلام وعزه، وغفل هؤلاء عن أن الذين يفقهون ويتعلمون ويعرفون من المسلمين يبقون أوزاعا متفرقين لا يشكلون تيارا يصارع الباطل والطغيان.

وقام آخرون بإنشاء الصحف الإسلامية والمجلات الإسلامية، ويحاول آخرون إنشاء إذاعات إسلامية، ومهما انتفع الناس بما تكتبه الصحف والمجلات، وما تبثه الإذاعات، فإن الفائدة محدودة؛ لأن الذين لا يريدون للمسلمين أن يفقهوا هم أصحاب الكلمة في الديار التي أنشئت فيها هذه الصحف والمجلات والإذاعات، وهؤلاء يحجبون كلمة الحق، ويمسخونها، ثم إن الذين يتأثرون بذلك كله لا يشكلون وحدة فيما بينهم، وبذلك تبقى قوتهم مشتتة متفرقة، لا تستطيع أن تهدم بناء معارضا للإسلام، كما لا تستطيع إقامة بناء الإسلام. وأفضل الرواد هم الذين تنبهوا إلى أن الخطوة الأولى في إقامة صرح الأمة الإسلامية من جديد تتحقق بإقامة تجمع يؤمن بهذه القضية، يسعى في سبيل تحقيقها باذلا في ذلك النفس والمال.

(1) الإسراء: (74- 75)

(2)

هود: (113)

ص: 2037

وفعلا قامت تجمعات كثيرة في العالم الإسلامي تنادي بالعودة إلى الإسلام وانضوى تحت لواء كل منها ألوف وعشرات الألوف، واستطاعت هذه التجمعات أن تؤثر في حياة المسلمين، لكن واحدا منها لم ينجح في إعادة الأمة إلى مكانتها من جديد.

ولا شك أن بناء الجماعة التي تأهل إلى استلام الراية يحتاج إلى بناء مبدع، لأن الخلل في البناء يؤخر النجاح، بل قد يفشله.

هناك تجمعات لا تعنى بتربية أفرادها، وتظن أن كل مهتمها هو إقامة الخلافة فإذا قامت الخلافة، فإن الخليفة سيقضي على الباطل بجرة قلم وسيقيم صرح الحق بمنشور أو بيان.

الدكتور عمر سليمان الأشقر

ص: 2038