المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌انتزاع الملكية للمصلحة العامةإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٤

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الرابع

- ‌كلمةمعالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلاميالأستاذ/ سيد شريف الدين بيرزاده

- ‌كلمةمعالي رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلاميالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌كلمةمعالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدوليالدكتور محمد الحبيب بن الخوجة

- ‌كلمةمعالي الأستاذ سيد شريف الدين بيرزاده

- ‌كلمةمعالي رئيس البنك الإسلامي للتنميةالدكتور/ أحمد محمد علي

- ‌كلمةمعالي الأمين العام بالنيابة لرابطة العالم الإسلاميالأستاذ/ أمين عقيل عطّاس

- ‌كلمةمعالي وزير الأوقاف بدولة الكويتالشيخ خالد أحمد الجسار

- ‌كلمةمعالي رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلاميالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌كلمةمعالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدوليالدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌كلمةالوفود المشاركةألقاها بالنيابة سعادة السفير الدكتور عمر جاه

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادمعالي الدكتور محمد علي البار

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًغرس الأعضاء في جسم الإنسانمشاكله الاجتماعية وقضاياه الفقهيةإعدادمعالي الدكتور محمد أيمن صافي

- ‌التشريح الجثماني والنقل والتعويض الإنسانيإعدادفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادفضيلة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

- ‌‌‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًفي الفقه الإسلاميإعدادفضيلة الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًفي الفقه الإسلاميإعدادفضيلة الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادالدكتور عبد السلام داود العبّادي

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادفضيلة الشيخ آدم عبد الله علي

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حيّاً أو ميّتاًإعدادفضيلة الشيخ محمد عبد الرحمن

- ‌صرف الزكاة لصالح صندوقالتضامن الإسلاميإعدادسعادة سيدي محمد يوسف جيري

- ‌صرف الزكاة لصالح صندوقالتضامن الإسلاميإعدادفضيلة الشيخ تيجاني صابون محمد

- ‌صرف الزكاة لصالح صندوقالتضامن الإسلاميإعدادفضيلة الشيخ مولاي مصطفى العلوي

- ‌صرف الزكاة لصالح صندوقالتضامن الإسلاميإعدادسعادة الدكتور عبد الله إبراهيم

- ‌مذكرة تفسيرية بشأن صندوق التضامن الإسلامي ووقفيته

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ عبد الله البسام

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة أ. دكتور وهبه مصطفى الزحيلي

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ محمد عبد اللطيف آل سعد

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ هارون خليف جيلي

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ رجب بيوضي التميمي

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ محمد عبده عمر

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌المثامنة في العقار للمصلحة العامةإعدادالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌انتزاع الملكية للمصلحة العامةإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌انتزاع الملكية للمنفعة العامةإعدادأ. د. يوسف محمود قاسم

- ‌نزع الملكية الخاصة للمنفعة العامةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌انتزاع الملك للمصلحة العامةإعدادالدكتور محمود شمام

- ‌الإسلاموانتزاع الملك للمصلحة العامةإعدادفضيلة الشيخ محمد الحاج ناصر

- ‌سندات المقارضةإعدادالصديق محمد الأمين الضرير

- ‌سندات المقارضةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌سندات المقارضةوسندات الاستثمارإعدادالدكتور حسن عبد الله الأمين

- ‌سندات المقارضةإعدادالقاضي محمد تقي عثماني

- ‌ضمان رأس المال أو الربحفي صكوك المضاربةأو سندات المقارضةإعدادالدكتور حسين حامد حسان

- ‌سندات المقارضةوسندات التنمية والاستثمارإعدادفضيلة الشيخ محمد المختار السلامي

- ‌سندات المقارنة وسندات الاستثمارإعدادفضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌تصوير حقيقة سندات المقارضة والفرق بينها وبينسندات التنمية وشهادات الاستثمار والفرق بينهاوبين السندات الربويةإعدادالدكتور سامي حسن حمود

- ‌سندات المقارضة والاستثمارإعدادفضيلة الدكتور علي أحمد السالوس

- ‌سندات المقارضةإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌البيان الختامي وتوصياتلندوةسندات المقارضة وسندات الاستثمارالتي أقامهامجمع الفقه الإسلامي بجدة

- ‌بدل الخلوإعدادالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌ موضوع (بدل الخلو)

- ‌بدل الخلوإعدادالدكتور محمد سليمان الأشقر

- ‌حكم الشريعة في بدل الخلو (السرقفلية)إعدادفضيلة الأستاذ إبراهيم فاضل الدبو

- ‌بدل الخُلُوِّفي الفقه الإسلاميإعدادفضيلة الشيخ محيي الدين قادي

- ‌بدل الخلو وتصحيحهإعدادفضيلة الشيخ حجة الإسلام محمد علي تسخيري

- ‌كيفية مكافحة المفاسد الأخلاقيةإعدادفضيلة الشيخ/ رجب بيوض التميمي

- ‌كيفية مكافحة المفاسد الأخلاقيةإعدادالشيخ هارون خليف جيلي

- ‌مجالات الوحدة الإسلاميةوسبل الاستفادة منهاإعدادالأستاذ مصطفى الفيلالي

- ‌مجالات الوحدة الإسلاميةوسبل الاستفادة منهاإعدادفضيلة الدكتور عمر سليمان الأشقر

- ‌مجالات الوحدة الإسلاميةوسبل الاستفادة منهاإعدادالحاج شيت محمد الثاني

- ‌الوحدة الإسلاميةوالتعامل الدوليإعدادفضيلة الشيخ/ محمد علي التسخيري

الفصل: ‌انتزاع الملكية للمصلحة العامةإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

‌انتزاع الملكية للمصلحة العامة

إعداد

الدكتور عبد الله محمد عبد الله

المستشار بمحكمة الاستئناف العليا بدولة الكويت

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، حمدًا لا ينقطع عدده، ولا يفنى مدده، وأصلي وأسلم على مصدر الفضائل، الذي ظل ماضيًا في الدعوة إلى الله حتى أضاء الطريق للضال، وهدى الله به القلوب النافرة ، وأقام به موضحات الأعلام سيدنا محمد بن عبد الله خاتم أنبيائه، وصفوة أوليائه، وأكرم خلقه عليه، وأعلاهم منزلة عنده ، صلى الله عليه وعلى صحابته الأخيار وآله الأبرار.

وبعد فإن الإسلام دين ودنيا ، هدى الله به الإنسانية من الضلالة ، وبين في كتابه المجيد الأحكام التي بها سعادتهم في الدنيا والآخرة أفرادًا وجماعات ، وتناول جميع الارتباطات التي تربط الإنسان بكل من سواه ، واشتملت شريعته الغراء على النظام القانوني الذي قامت على عمده وقضاياه مبادئ الدين ونظام الدنيا.

وفي مبحث (نزع الملكية للمنفعة العامة) يتجلى سمو الشريعة الإسلامية ونزعتها الإصلاحية وحمايتها لحقوق الفرد والجماعة على أساس من الحق والعدل.

وسأبدأ بمقدمة كتمهيد أتناول فيها العمل في الإسلام وملك الإنسان لثمرة عمله وكفاحه، ثم أبين معنى المال والملك والمقصود من المنفعة العامة، ثم أستعرض المواطن التي يسوغ فيها تدخل ولي الأمر. وقد أجملت هذه المسوغات في ست حالات ، وتكلمت على كل حالة بإيجاز ، ثم أستعرض آراء الأئمة في نزع الملك الخاص لأجل المنفعة العامة.

ص: 649

مقدمة

أجمعت الشرائع السماوية على حرية التملك واقتناء الأموال، وحثت الشريعة الخاتمة على العمل والسعي، ونظمت البحث عن المال وطريقة تحصيله ، وجعلت العمل أساسًا وسببًا لملكية الإنسان نتائج كده وكفاحه، وقد سخر الله سبحانه هذا الكون الفسيح ، وجعله ميدانًا لنشاط الإنسان بما يحويه من مصادر للرزق وموارد للثروة ، وينبوعًا لا ينفذ ولا يقصر عن حاجته ، وركب المولى عز سلطانه في فطرة الإنسان غريزة التملك وحب الاقتناء ، فأقبل بفطرته يستنبت سطح الأرض مختلف الزرع والثمار من الغابات والصحارى على كل ما يريد من الأخشاب والحيوان ، ثم أخذ يتجه إلى الماء ، فاصطاد أسماكه وشاركها السباحة فيه والغوص في أعماقه بحثًا عن اللآلئ الثمينة والتقاطًا للأحجار الكريمة واستخراجًا للثروات المختلفة ، ثم مخر عبابه بالفلك، فقرب القاصي، وأدنى البعيد من الجهات ، ثم اتجه إلى السماء ، فاقتنص طيورها ، ولم يرض حتى شاطرها الطيران في أجواء الفضاء طاويًا بذلك ما بقي بين سائر جهات الأرض من مسافات، ولم يقف في شيء مما حصل عليه من الثروات عند صورتها الأولى ، وإنما عالجها وغير من أشكالها وتركيباتها وفق حاجاته واستعمالاته وتطلعاته باذلًا في سبيل ذلك غاية الجهد؛ كي يفيد منها أقصى فائدة ، ويحوز منها أكثر ما يقدر عليه استجابة لميله وما فطر عليه من حب التملك والاقتناء.

وقد استجاب الإسلام - وهو دين الفطرة - لميول الإنسان هذه دون أن يترك لها العنان حتى لا ينقلب إلى أداة فساد وطغيان ، ولم يقف عقبة إزاء تلك الفطرة الداعية إلى حب التملك والاقتناء؛ لأن حب التملك غريزة فطر عليها الإنسان ، وهي في قوتها واندفاعها تفوق غيرها من الغرائز ، إلا غريزة حب البقاء. والإنسان مطبوع على الاستجابة لغرائزه وإشباعها بالعمل والحصول على ما يرغب فيه ، ولذلك يرى كادحًا ساعيًا إلى جمع المال والاستكثار فيه ، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لو كان لابن آدم واديان من المال لابتغى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)) (1)

(1) مسلم، ج/7، ص 139، من كتاب الزكاة.

ص: 650

يقول: ((يهرم ابن آدم وتشب منه اثنتان: الحرص على المال ، والحرص على العمر)) (1) ومن أجل هذا جعل الإسلام للعمل قيمة ، وجعله سببًا لملكية العامل ثمار عمله ، ورتب على ذلك:

أولا: اعتبار العمل عنصرًا أساسيا من عناصر توزيع الثروة بين أفراد المجتمع.

ثانيًا: سمح للفرد حق التملك على أساس من العمل.

ثالثًا: حدد نطاق هذه الملكية الخاصة بالثروات التي يكون للعمل دخل في إيجارها أو تشكيلها.

رابعًا: إبقاء الثروات التي لم يتدخل فيها العمل بالإيجاد أو التشكيل على الملكية العامة لجميع أفراد المجتمع تتولى الدولة تنظيم استثمارها واستغلالها والإفادة منها على النحو الذي يتفق ومصلحة الجماعة.

وإتمامًا للفائدة أستعرض معاني كل من هذه الكلمات: المال، والملك، والمنفعة العامة وبيان المقصود منها.

المقصود من المال:

وردت هذه الكلمة في آيات كثيرة في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المطهرة ، وجاء الحث على اقتناء المال والسعي في كسبه والحض على إنفاقه وبذله ، وأسندت ملكيته إلى الله عز وجل في بعض الآيات ، وأسندت إلى الناس في آيات أخرى ، كل ذلك يقتضينا أن ندرك حقيقته ثم نتعرف على بعض الجوانب لتلك الإطلاقات.

يقول ابن الأثير: المال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة ، ثم أطلق على كل ما يقتنى ويملك، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنها كانت أكثر أموالهم.

وفي تفسير القرطبي جملة أقوال فيما يعد مالا وما لا يعد كذلك ، ونقل عن أبي عمرو أن المعروف من كلام العرب أن كل ما تمول وتملك فهو مال (2)

(1) مسلم، ج/7، ص 139، من كتاب الزكاة.

(2)

تفسير القرطبي، ج/8، ص 245.

ص: 651

وأما في لسان الفقهاء فإن من تتبع أقوالهم في تعريفه يستخلص منها أن المال هو كل ما له قيمة بين الناس ، وينتفع به انتفاعًا مشروعًا ، ومع هذا نجد فريقًا منهم وهم الأحناف يستبعدون المنافع من حيز المالية ، أما جمهور الفقهاء فإنهم يلحقون المنافع ضمن المال ، وهذا المعنى يمكن ملاحظته من تعريفاتهم ، فقد عرفه الأحناف بأنه ما يمكن حيازته وإحرازه والانتفاع به انتفاعًا معتادًا ، وعلى هذا عرفت المادة 126 من مجلة الأحكام العدلية بأنه ما يميل إليه طبع الإنسان ، ويمكن إدخاله إلى وقت الحاجة منقولًا أو غير منقول ، فالمنافع لما كانت معدومة قبل كسبها وبعد كسبها ، لا يمكن إحرازها ، فإنها ليست بمال ، ولكن إن لم تعتبر مالا ، فإنها تعتبر ملكًا؛ لأن الملك لا يقتضي الوجود كالمالية ، إذ هو القدرة على التصرفات الشرعية (1)

المال في اصطلاح جمهور الفقهاء:

جاء في كتب المالكية أن المال هو ما يقع عليه الملك ويستبد به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه. ويستوي في ذلك الطعام والشراب واللباس على اختلافها وما يؤدي إليها من جميع المتمولات (2) .

وعرفه النفراوي المالكي في (الفواكه الدواني) : بأنه كل ما ملك شرعًا ولو قل (3) وهو عند الشافعية ما كان متمولًا محترمًا (4) ويشمل المنفعة (5) وينقل السيوطي عن الشافعي بأن اسم المال لا يقع إلا على ما له قيمة يباع بها وتلزم متلفه وإن قلت ، وما لا يطرحه الناس؛ مثل الفلس وما أشبه ذلك (6) .

(1) الملكية ونظرية العقد - أبو زهرة ص 47،54 ، الملكية في الشريعة الإسلامية للعبادي، ج/1، ص 172،175.

(2)

الموافقات 2 - 17.

(3)

الفواكه الدواني على رسالة القيرواني 2 - 372، وانظر في هذا المعنى الشرح الصغير 4 - 742

(4)

حاشية القليوبي على منهاج الطالبين 3 - 28.

(5)

حاشية القليوبي على منهاج الطالبين 2 - 314.

(6)

الأشباه والنظائر: 327.

ص: 652

وجاء في متن الإقناع للخرقي الحنبلي: أن المال ما فيه منفعة مباحة لغير حاجة أو ضرورة ، ثم تعقب هذا التعريف شارحه ، فقال: ظاهر كلامه هنا كغيره ، أن النفع لا يصح بيعه ، مع أنه ذكر في حد البيع صحته ، فكان ينبغي أن يقال هنا: كون المبيع مالا أو نفعًا مباحًا مطلقًا أو يعرف المال بما يعم الأعيان والمنافع (1) ولا يختلف علماؤنا المحدثون عن سلفهم في تلك التعريفات وإن اختلفت عباراتهم ، وذلك منشؤه تبسيط عبارات المتقدمين بقصد التوضيح والإفهام. وقد عرفه الإمام ابن عاشور: بأنه كل ما به غنى صاحبه في تحصيل ما ينفع لإقامة شؤون الحياة (2) .

ويزيده توضيحًا ، فيقول: يطلق اسم المال على كل ما يحصل به هذا المقصد ، سواء أحصل بأعيان الأشياء؛ مثل القمح والزيت والصوف ، أم بالاستبدال وتعويض أعيان بأعيان بطريق المبادلة بين جانبين لاستغناء أحد الجانبين عما يبذله واحتياجه لما يأخذه أو بذل أثمان اصطلاحية من النقود والأوراق المالية أو كفاية عمل مثل عمل الأجراء بجهودهم العقلية أو اليدوية كالمعلمين وأهل المعرفة والحراثين والحمالين، وقد يخص اسم المال بالنقدين والأوراق ، ويخص ما عداها باسم المتمول ، وهو أعم من المال (3) .

أنواع المال وما يصح تملكه منها وما لا يصح ، وأسباب الملك:

أما بالنسبة لقابلية المال للتملك وعدمه ، فهو على أنواع ثلاثة:

1-

نوع لا يقبل التمليك ولا التملك بحال من الأحوال؛ كالطرق العامة والجسور والأنهار العظيمة والحدائق العامة.

2 -

ونوع لا يقبل التملك إلا بمسوغ شرعي كأموال بيت المال الخاصة ، فهذه لا يجوز بيعها ولا تملكها إلا بمسوغ؛ كاحتياج بيت المال إلى ثمنه أو رأي ولي الأمر المصلحة في ذلك لما له من الولاية العامة.

3 -

ونوع يصح تملكه وتمليكه وهو ما عدا هذين النوعين.

(1) كشاف القناع. 1 - 7.

(2)

أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 198.

(3)

أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 198.

ص: 653

وقد فصل الإمام السيوطي في كتابه الحاوي للفتاوى ج 1 /198- 230، أحكام النوعين السابقين نظما ونثرًا ، واستوفى النقل عن أئمة المذاهب الأربعة في جواز التملك. وأما أحكام النوع الأخير ، فقد بسطت كتب الفقه مسائله وأحكامه ، وأما أسبابه المفضية إليه فهي:

1 -

الاستيلاء على المباح.

2 -

العقود الناقلة للملكية كالبيع والهبة ونحوهما.

3 -

الخلافة عن الميت عن طريق " الميراث " والوصية.

وهو إما أعيان عقار ومنقول ، وإما منافع ، وهي الفائدة المقصودة من الأعيان؛ كسكنى الدار وزراعة الأرض وركوب الدابة ولبس الثوب ، وإما حقوق، سواء كانت حقوقًا متعلقة بمال؛ كحق الشرب والمرور والتعلي ، أم لا ، كحق حضانة الصغير.

أما لفظ الملكية:

فالملكية مصدر صناعي نسبة إلى الملك ، ومعناه في اللغة كما جاء في اللسان والقاموس: عبارة عن احتواء الشيء والقدرة على الاستبداد به والتصرف فيه بانفراد. وبهذا المعنى أيضًا يرد الاستعمال الاصطلاحي للفقهاء ، فقد عرفه القابسي الحنفي: بأنه عبارة عن الاختصاص الحاجز. وعرفه القرافي المالكي: بأنه حكم شرعي مقدر في العين أو المنفعة ، يقتضي تمكين من يضاف إليه من انتفاعه بالمملوك والعوض عنه من حيث هو كذلك. وعرفه ابن تيمية: بأنه القدرة الشرعية على التصرف في الرقبة (1) .

والملكية في الإسلام حق تحميه الشريعة لصاحبه وتمكنه من الانتفاع بملكه والتصرف فيه طول حياته وبعد مماته ويحميه من كل اعتداء عليه ، ولكن مع هذا يحمل المالك بعض التكاليف والالتزامات لمصلحة الجماعة ، وهذا يؤكده القرآن الكريم بإسناد المال لله تعالى ، وأن جميع ما في الكون ملك له سبحانه ، قال تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (2) ويقول سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (3) والمنطق يقتضي أن يكون خالق الشيء هو مالكه، وقد جاءت آيات تقطع وتؤكد هذه الحقيقة {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} (4) ويقرر في آيات أخرى بأنه أنشأ الخلق من الأرض ، واستعمرهم فيها ، وجعلهم خلائف ، وسخر لهم ما خلق في السماوات والأرض ، وسلطهم عليه بقدر ما يستطيعون من استغلاله واستثماره {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (5) ويقول سبحانه:{آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} (6) .

(1) الملكية في الشريعة الإسلامية:1 - 128، 133.

(2)

[البقرة:29] .

(3)

[الأنعام:103] .

(4)

المائدة: 17.

(5)

لقمان:20.

(6)

الحديد:7

ص: 654

فالمال الذي في أيدي الناس هو مال الله ، وهم فيه خلفاء، ولهذا يقول سبحانه:{وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ} (1) .

فالملك كله لله ، وإن الحقوق كلها سنها العليم الخبير ، فقد منح الفرد حقه كما منح الجماعة ما تستحقه من عناية واهتمام.

يقول الإمام المرحوم الشيخ محمود شلتوت في هذا المعنى: " وإذا كان المال مال الله ، وكان الناس جميعًا عباد الله ، وكانت الحياة التي يعملون فيها ويعمرونها بمال الله ، هي لله ، كان من الضروري أن يكون المال وإن ربط باسم شخص معين لجميع عباد الله ، يحافظ عليه الجميع ، وينتفع به الجميع. وقد أرشد إلى ذلك قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (2) .

ومن هنا أضاف الأموال إلى الجماعة ، وجعلها قوامًا لمعيشهم {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ، (3){وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (4)

الإنسان مستخلف من الله في المال ، ومأمور بأن يؤدي دور الخلافة عن الله في عمارة الأرض. وقد بين سبحانه لخليفته طرق تحصيله وإنفاقه على نحو يتفق والغاية من استخلافه في الأرض لعمارتها، وبهذا الاعتبار فإن الإنسان ممنوع من أن يلحق ضررًا بنفسه أو بغيره، وإن ثمة قيود مفروضة عليه لمصلحة الآخرين أفرادًا وجماعات ، ويظهر أثر هذه القيود في منعه من استغلال غيره بسبب المال أو إهدار كرامته أو حبس المال عن التداول واكتنازه وعدم استخدام الفائض عن حاجته فيما يحقق مصلحة الجماعة. واستخلاف الله الإنسان في المال له صورتان:

(1) النور:33

(2)

البقرة: 29.

(3)

البقرة: 188

(4)

النساء: 5

ص: 655

إحداهما: استخلاف فردي يتولاه الفرد في صورة ملكية فردية.

ويظهر ذلك جليا من الآيات التي تثبت ملكية المال إلى آحاد الناس مثل قوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (1) وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (2) وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (3) .

والثانية: استخلاف جماعي تتولاه الأمة ممثلة بولي الأمر ، ويقول الإمام محمد الطاهر بن عاشور: والمال بهذا النظر ينقسم إلى مال خاص بآحاد وجماعات معينة ، وإلى مال مرصود لإقامة مصالح طوائف من الأمة غير معينين ، فالأول من هذا النظر هو الأموال الخاصة المضافة إلى أصحابها.

والثاني هو المسمى في اصطلاح الشريعة بمال المسلمين أو مال بيت المال بمختلف موارده ومصارفه ، وقد كان أصله موجودًا في زمن النبوة؛ مثل أموال الزكاة ، ومثل أدوار الإبل المعدودة لحمل المجاهدين. واللازمة المرصودة للمجاهدين ، وفي الحديث ((: إن خالدًا قد احتبس أدرعه وأعتدته في سبيل الله.)) .

إلى أن يقول: إن مال الأمة هو ثروتها ، والثروة هي ما ينتفع به الناس آحادًا أو جماعات في جلب نافع ، أو دفع ضار في مختلف الأحوال والأزمان والدواعي ، ويبين الصفات التي تجعل من المال ثروة حقيقية للفرد وسلامه ، وهو ما اجتمع فيه خمسة أمور:

1-

أن يكون ممكنًا ادخاره.

2 -

أن يكون مرغوبًا في تحصيله.

3 -

أن يكون قابلًا للتداول.

4 -

أن يكون محدود المقدار.

5 -

أن يكون مكتسبًا.

(1) آل عمران: 186.

(2)

سورة المعارج الآيتان: 24،25

(3)

التوبة: 111

ص: 656

ويذكر رحمه الله مقاصد الشرع في الأموال ، وأنها تدور على خمسة أمور: رواجها، ووضوحها، وحفظها، وثباتها، والعدول فيها (1) . ويذكر وسائل توفيرها ويكون بالتدبير والعمل والمادة (2)

نزع الملكية للمنفعة العامة

تتردد لفظة المنفعة العامة ، ويقصد منها ما ينتفع به جمهور كبير من الناس بدون تخصيص؛ كالطرق العامة ، وسكك الحديد ، والترع ، والمدارس ، ودور القضاء ، ومباني الوزارات والمستشفيات ، والساحات العامة ، والأسواق ، والقلاع ، والحصون والمعسكرات ، ونحوها. ولقد كانت المساجد في الإسلام في بادئ الأمر تقوم بمعظم المصالح التي أفرد لها مبنى خاص. يقول الإمام ابن تيمية: (وكانت مواضع الأئمة ومجامع الأمة هي المساجد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أسس مسجده المبارك على التقوى؛ ففيه الصلاة والقراءة ، والذكر وتعليم العلم والخطب ، وفيه السياسة وعقد الألوية والرايات وتأمير الأمراء وتعريف العرفاء، وفيه يجتمع المسلمون عنده لما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم.

وكذلك عماله في مثل مكة والطائف وبلاد اليمن وغير ذلك من الأمصار والقرى ، وكذلك عماله في البوادي ، فإن لهم مجمعًا ، فيه يصلون ، وفيه يسألون. وكان الخلفاء والأمراء يسكنون في بيوتهم كما يسكن سائر المسلمين في بيوتهم، لكن يجلس الإمام في الجامع، الجامع هو المسجد الجامع. . . إلى أن قال: أحدثت الملوك والأمراء القلاع والحصون ، وإنما كانت تبنى الحصون والمعاقل قديمًا في الثغور ، خشية أن يدهمها العدو ، وليس عندهم من يدفعه عنها ، وكانوا يسمون الثغور الشامية العواصم ، وهي قنسرين، وحلب.

وأحدثت المدارس لأهل العلم ، وأحدثت الربط والخوانق لأهل التعبد ، وأول ما بنيت المدارس والرباطات للمساكين ، ووقفت عليها وقوف تجرى على أهلها) (3)

ولهذا كان من أول ما بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة الاعتناء (4) بالمرافق العامة ، فأنشأ مسجده الشريف الذي كان يطلع بالمهمات التي سلف بيانها.

(1) مقاصد الشريعة الإسلامية: 171، 175 – أصول الاجتماع الإسلامي:190، 191.

(2)

أصول الاجتماع الإسلامي: ص 199.

(3)

مجموع فتاوى ابن تيمية:35، 39، 41.

(4)

فتح الباري:8 / 267. 268 - شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام: 2/ 331

ص: 657

كما أنشأ سوقًا تزاول فيه أعمال التجارة، أزال ما كان فيها من قبور ، وحمى المراعي التي كانت مباحة للجميع على خلاف ما كان عليه الأمر قبل الإسلام من الحيازة القائمة على القوة والغلبة ، وإنما جعل الحمى لمنفعة عامة المسلمين ، روى الصعب بن جثامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((: لا حمى إلا لله ورسوله)) والمعنى الظاهر لهذا الحديث أن الحمى إنما هو لمنفعة عامة ، لا تخص أحدًا ، وإلى هذا المعنى ذهب أبو عبيد في كتاب الأموال ، إذ قال: للإمام أن يحمي ما كان لله؛ مثل حمى النبي صلى الله عليه وسلم وحمى عمر ، فهذا كله داخل في الحمى لله ، وقد روى نافع ، قال: عن ابن عمر ((، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيل المسلمين. والنقيع: موضع معروف بقرب المدينة.)) (1) ، وحمى عمر رضي الله عنه الربذة والشرف لهذا الغرض ، وهما موضعان بين مكة والمدينة ، وقال: لولا النعم التي يحمل عليها في سبيل الله ما حميت على الناس شيئا من بلادهم أبدًا. قال أسلم: فسمعت رجلًا من بني ثعلبة يقول له: يا أمير المؤمنين، حميت بلادنا ، قاتلنا عليها في الجاهلية، وأسلمنا عليها في الإسلام. يرددها عليه مرارًا، وعمر واضع رأسه ، ثم إنه رفع رأسه ، فقال: البلاد بلاد الله وتحمى ، النعم مال الله، يحمل عليها وفي وسبيل الله (2)

ومن ثم فإن لولي الأمر وهو ينوب عن الأمة في رعاية مصالحها ويدبر شؤونها قد يقتضي الأمر إلى أن يتدخل ، وإن أدى ذلك إلى تقييد حرية الفرد تغليبًا لمصلحة الجماعة ، فله عند ذلك أن يباشر من الإجراءات ما تتحقق بها تلك المصالح ، وقد تتعدد صور هذا التدخل ومسوغاته في أوقات معينة وظروف معينة ، ويمكن إرجاع هذه المسوغات إلى الصور التالية:

أولًا: فرض الأموال على القادرين لسد حاجة المحتاجين وأهل الخصاصات منهم إذا لم تف الأموال المرصودة لهذا الغرض.

(1) كتاب الأموال، ص 417.

(2)

كتاب الأموال، ص 418،419.

ص: 658

ثانيًا: فرض الأموال التي يحتاج إليها لأجل الدفاع والذود عن البلاد الإسلامية إذا خلا بيت المال منه ، أو كان المال الموجود لا يكفي لدرء الأخطار.

ثالثًا: توجيه وإلزام من تحتاج الأمة إلى أعمالهم للقيام بهذه الأعمال.

رابعًا: منع الاحتكار ، وإلزام المحتكرين ببيع السلع التي يحتاجها الناس ، ويكون في احتكارها ضرر بهم ، وتسعيرها عليهم عند الحاجة، ومنع الغش ، ومصادرة المواد المغشوشة ، أو بيعها على أصحابها ، أو التصدق بها على الفقراء.

خامسًا: البيع جبرًا لمصلحة الدائنين.

سادسًا: نزع الملكية لأغراض يعود نفعها على الكافة، هذا عدا ما تأتي الإشارة إليه أثناء البحث.

وسنفرد الكلام على كل واحدة منها باختصار شديد إتمامًا للفائدة:

المسوغ الأول: فرض الأموال على القادرين لسد حاجة المحتاجين وأهل الخصاصة من الضعفاء والمساكين ، وذلك إذا ضاق المال عنهم ، ولم يكف الموجود في بيت المال لسد حاجتهم ، يقول إمام الحرمين أبو المعالي الجويني: وأما سد الحاجات والخصاصات فمن أهم المهمات

إلى أن يقول: فإن اتفق مع بذل المجهود في ذلك فقراء محتاجون ، لم تف الزكوات بحاجاتهم ، فحق على الإمام أن يجعل الاعتناء بهم من أهم أمر في باله، فالدنيا بحذافيرها لا تعدل تضرر فقير من فقراء المسلمين في ضر، فإن انتهى نظر الإمام إليهم رم ما استرم من أحوالهم. . . فإن لم يبلغهم نظر الإمام ، وجب على ذوي اليسار والاقتدار البدار إلى رفع الضرار عنهم، وإن ضاع فقير بين ظهراني موسرين خرجوا من عند آخرهم، وباءوا بأعظم المآثم ، وكان الله طليبهم وحسيبهم (1) .

(1) غياث الأمم في التيات الظلم: ص 172، 173.

ص: 659

ويبين في موضع آخر عندما تحدق الكوارث بالمسلمين وتنزل الشدائد بهم ، فيقول: " فإذا تقرر ما ذكرناه ، فالوجه عندي إذا ظهر الضر وتفاقم الأمر وأنشبت المنية أظفارها وأشقى المضرون ، استشعر الموسرون أن يستظهر كل موص بقوت سنة ، ويصرف الباقي إلى ذوي الضرورات وأصحاب الخصاصات (1) ، وهو إنما جعل قوت السنة في حق الأغنياء فطنة عقلية لانجلاء الكارثة؛ ولأن في انقضاء السنة مدة الغلات وأمد الثمرات ، وفيها تحول الأموال وتزول ، وتعتقب الفصول ، وقد جعل الشارع السنة ضابطًا ينتهى إليه فيما يبذله الموسر، وتأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يضع لنسائه في أوقات الإمكان قوت سنة (2) .

ويعقد الإمام ابن حزم في كتابه المحلى في آخر كتاب الزكاة فصلًا يختم به كتاب الزكاة ، قال فيه: وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم ولا في سائر أموال المسلمين ، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة (3) ويستظهر مراجعه من نصوص الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ويستنبط من قول الرسول صلى الله عليه وسلم ((:المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)) . إن من ترك أخاه المسلم يجوع ويعرى وهو قادر على إطعامه وكسوته ، فقد أسلمه. ويستدل بالحديث الذي رواه مسلم ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((: من كان معه فضل ظهر ، فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد ، فليعد به على من لا زاد له)) . قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر ، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل. ثم عقب على ذلك بقوله: وهذا إجماع الصحابة رضي الله عنهم ، يخبر بذلك أبو سعيد ، وبكل ما في هذا الخبر نقول. ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله:" لو استقبلت من أمري ما استدبرت ، لأخذت فضول أموال الأغنياء ، فقسمتها على فقراء المهاجرين ".

(1) غياث الأمم في التيات الظلم، ص 175، 176.

(2)

غياث الأمم في التيات الظلم 175، 176

(3)

المحلى ج3، ص 452،453.

ص: 660

وقال: صح عن أبي عبيدة بن الجراح وثلثمائة من الصحابة رضي الله عنهم أن زادهم فني ، فأمرهم أبو عبيدة ، فجمعوا أزوادهم في مزودين ، وجعل يقوتهم إياها على السواء.

ثم عقب على ذلك بقوله: فهذا إجماع مقطوع من الصحابة رضي الله عنهم ، لا مخالف له منهم، ونقل عن الشعبي ومجاهد وطاوس وغيرهم ، كلهم يقول: في المال حق سوى الزكاة (1)

ثانيًا: فرض الأموال (الضرائب) على القادرين إذا تعرض كيان الأمة للخطر من قبل الأعداء. وسند هذا التدخل أن الشارع الحكيم قد حث على الإنفاق في سبيل الله، وسبيل الله كلمة جامعة تتسع لكل ما تتطلبه مصلحة الأمة. وأنذر سبحانه وتعالى الأمة إن هي قبضت يدها وأحجمت عن الإنفاق الوقوع في التهلكة، ولما كان الإنفاق في صدر الإسلام كان يجري سماحة وتطوعًا ، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يتسابقون في هذا الميدان ، حتى إن أحدهم كان يعد جيشا كاملًا بماله ، ومنهم من كان يأتي بشطر ماله ، لا يضيق صدره ، ولا يشعرون في أنفسهم حرجًا ، وإنما ينطلق أحدهم عن سماحة نفس وصدق يقين ، فإذا ما أحجم الناس عن الإنفاق وضاق بيت المال عما يكفي لسد النازلة ، فإن ولي الأمر يكون في سعة من أن يتدخل ويفرض على الأفراد ضريبة يقتطع بها جيرانهم شطر أموالهم. وحكى الإمام القرطبي الإجماع على وجوب فك الأسرى ، وأنه إذا خلا بيت المال ، فهو فرض على كافة المسلمين (2) ويذكر الشاطبي في الاعتصام في الباب الذي عقده للفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان: أن الإمام إذا كان مفتقرًا إلى تكثير الجنود لسد الثغور وحماية الملك المتسع الأخطار ، وخلا بيت المال ، وارتفعت حاجة الجند إلى ما لا يكفيهم ، فللإمام أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيًا لهم في الحال ، إلى أن يظهر مال بيت المال (3)

(1) المحلى ج3، ص 455.

(2)

تفسير القرطبي 2 – 22،23.

(3)

الاعتصام، ج/ 2، ص 121.

ص: 661

وذكر الغزالي في مبحث الاستصلاح: أن توظيف الخراج من المصالح فإذا خلت الأيدي من الأموال ، ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر ، ولو تفرق العسكر واشتغلوا بالكسب؛ لخيف دخول الكفار بلاد الإسلام ، أو خيف ثوران الفتنة ، فيجوز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند. . . لأنا نعلم أنه إذا تعارض شران أو ضرران ، قصد الشرع دفع أشد الضررين وأعظم الشرين. وما يؤديه كل واحد منهم قليل بالإضافة إلى ما يخاطر به من نفسه وماله لو خلت خطة الإسلام عن ذي شوكة يحفظ نظام الأمور ويقطع مادة الشرور ، وكان هذا لا عن شهادة أصول معينة (1)

ولإمام الحرمين كلام نفيس لا يتسع له المقام ، فهو يبسط القول ويقلبه على مختلف الوجوه وشتى الاحتمالات ، ويعد لكل حالة فصلًا مطولًا ، ويستطرد في ذكر الفروض والأمثلة ، نقتصر منه على موضع الاستشهاد ، فيقول: فأما الفصل الثالث منها ، وهو أهمها ، فالغرض ذكر ما تقتضيه الإيالة الشرعية والسياسة الدينية فيه ، فإذا اصفرت يد راعي الرعية عن الأموال والحاجات ماسة ، فليت شعري كيف الحكم ، وما وجه القضية ، فإن ارتقب الإمام حصول أموال في الاستقبال ، ضاع رجال القتال ، وجر ضياعهم أسوأ الأحوال ، وإن استرسل في مد اليد إلى ما يصادفه من مال من غير ضبط الشرع في الأقوال والأفعال ، وقد قدمنا حيثما سبق ألا نحدث لتربية الممالك في معرض الاستصواب مسالك لا نرى لها من شرعة المصطفى مدارك، فإن بلي الإمام بذلك ، فليتئد ، وليمعن النظر هناك ، فقد دفع إلى خطتين عظيمتين:

إحداهما: تعريض الخطة للضياع.

والثانية: أخذ مال في غير استناد استحقاقه إلى مستند معروف مألوف ، فإذا خلا بيت المال ، انقسمت الأحوال ونحن نرتبها على ثلاثة أقسام ، ونأتي في كل قسم منها بما هو مأخذ للأحكام ، ونمزج القضايا السياسية بالموجبات الشرعية ، فلا تخلو الحال ، وقد اصفر بيت المال من ثلاثة أنحاء:

(1) المستصفى: 2 - 303،305.

ص: 662

أحدها: أن يطأ الكفار - والعياذ بالله - ديار الإسلام.

والثاني: لا يطؤوها ، ولكنا نستشعر من جنود الإسلام اختلالا، ونتوقع انحلالا وانفلاتا، لو لم نصادف مالا، ثم يترتب على ذلك استجراء الكفار في الأقطار، وتشوفهم إلى وطء أطراف الديار.

والثالث: أن يكون جنود الإسلام في الثغور والمراصد على أهب وعتاد وشوكة واستعداد، لو وقفوا ولو ندبوا للغزو والجهاد ، لاحتاجوا إلى ازدياد في الاستعداد، وفضل استمداد، ولو لم يمدوا ، لانقطعوا عن الجهاد (1)

وينتهي إلى القول في الاحتمالات الثلاثة إلى أنه يتسبب في اقتراض الأموال من الموسرين (2) ولا يتفق مع من يقول: إن الإمام يقترض على بيت المال ، ويقول في هذا: والمرتضى عندي ، فإن للإمام أن يأخذ من الجهات التي ذكرناها ما يراه سادا للحاجة ، ولا يلزمه الاستقراض ، سواء فرض أخذه من معينين أو من الموسرين أجمعين (3) ومن الفتاوى في هذا الشأن ما أفتى به القاضي أبو عمر بن منظور في جواز فرض الخراج على الرعية ، بأن الأصل أن لا يطالب المسلمون بمغارم غير واجبة بالشرع. . . فإذا عجز بيت المال عن أرزاق الجند وما يحتاج إليه من آلة حرب وعدة فيوزع على الناس ما يحتاج إليه من ذلك بشروط: أن تتعين الحاجة ، وأن يتصرف فيه بالعدل ، وأن يصرف مصرفه بحسب المصلحة ، وأن يكون على القادر من غير ضرر ولا إجحاف ، وأن يتفقد في كل وقت ، فربما جاء وقت لا يفتقر فيه لزيادة على ما في بيت المال (4)

ثالثًا: من مسوغات تدخل ولي الأمر إذا اقتضت الظروف ذلك وإلزام من يتعين عليهم القيام بأمر يحتاجه المجتمع ولا يتم إلا عن طريق إلزامهم القيام به ، ويضرب الإمام ابن تيمية لذلك أمثلة كثيرة ، منها: إذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم ، صار هذا العمل واجبًا ، يجبرهم ولي الأمر عليه إذا امتنعوا عنه بعوض المثل، وكما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم ، ألزم من صناعته الفلاحة بأن يضيفها لهم (5)

(1) غياث الأمم: ص 189، 190.

(2)

غياث الأمم 191 - 200.

(3)

غياث الأمم: ص 202.

(4)

المعيار: 11 - 128.

(5)

الحسبة في الإسلام. ص 28.

ص: 663

وكذلك إذا احتاج الناس إلى من يصنع لهم آلات الجهاد من سلاح وجسر للحروب وغير ذلك ، فيستعمل بأجرة المثل ، ويستطرد الإمام ابن تيمية في ذلك ويخصص لهذا المبحث صفحات يركز فيها على هذا الجانب مما يحتاجه المجتمع، ولا أرى مانعًا من متابعة الإمام وذكر بعض الأمثلة التي تبين مدى سعة أفق الأئمة والفقهاء وأخذ مصالح الناس بعين الاعتبار وإعطاء الاهتمام اللائق به ، فيقول: فإذا كان الناس محتاجين إلى من يطحن لهم ومن يخبز لهم لعجزهم عن الطحن والخبز في البيوت ، كما كان أهل المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن لم يكن عندهم من يطحن ويخبز بكراء ولا حتى يبيع طحينًا ولا خبزًا ، فإن ولي الأمر يتدخل هنا لإلزامهم بالعمل من ناحية ، ولتحديد أجورهم أو السعر الذي ينبغي أن يلتزموا بمقتضاه (1) وهذه قاعدة تطرد في مسألة الواجب الكفائي وأنه قد ينقلب إلى فرض عين إذا تعين للمطالبة بالكفائي فرد أو أفراد معينون ، وأنهم إذا لم يقوموا به طواعية ، أجبروا عليه وألزموا به.

رابعًا: من المسوغات التي تعطي لولي الأمر الحق في التدخل ، وذلك عند حلول الأزمات الاقتصادية التي يتضرر بها الناس ، فلولي الأمر أن يمنع المحتكرين ويضرب على أيديهم ويلزمهم بالبيع وبالسعر المعقول الذي لا يدخل على الناس ضررًا (2) كذلك مع الغش في الأسواق وجواز مصادرة المواد المغشوشة والتصدق بها على الفقراء جبرًا عنهم ، وهو موضوع تكفلت كتب الحسبة ببيانه (3)

(1) الحسبة في الإسلام، ص 33، 35، 37.

(2)

الحسبة في الإسلام، ص 37، 44.

(3)

تحفة الناظر وغنية الذاكر لأبي العقباني التلمساني، 118، 121.

ص: 664

خامسًا: من المسوغات أيضًا التي تعطي لولي الأمر حق التدخل حالة المدين المماطل ، فيبيع ماله جبرًا عليه لمصلحة دائنيه. وهذا في قول جماهير العلماء ، ولم يخالف في ذلك إلا أبو حنيفة رضي الله عنهم ، وذلك رفعًا للظلم الذي ركب الناس من جراء هذه المماطلة؛ لأن المطل ظلم ، والظلم يجب رفعه ، فإذا امتنع عن أداء الحق مختارًا ، قام ولي الأمر أو من ينوب عنه في رد الحقوق إلى ذويها (1) أما أبو حنيفة فإنه قصر جواز البيع على الدراهم والدنانير ، ومنع في العروض والعقار.

سادسًا: نزع الملكية للمنفعة العامة وهو عمدة الموضوع ، وما سبق إنما هو بمثابة التوطئة له ، ولم تستوعب جميع الحالات التي تبرر تدخل ولي الأمر ، فذلك بحث قد يطول ، والمقصود هنا الإجمال ، ويقاس ما ترك على ما ذكر، وقد جمع المغفور له الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في سطور قليلة أمهات تلك المسائل ، فقال رحمه الله: " فحق على ولاة أمور الأمة ومتصرفي مصالحها العامة النظر في حفظ الأموال العامة ، سواء تبادلها مع الأمم الأخرى أو بقاؤها بيد الأمة الإسلامية فمن الأول: سن أساليب تجارة الأمة الإسلامية مع الأمم الأخرى ودخول السلع وأموال الفريقين إلى بلاد الأخرى ، كما في أحكام التجارة إلى أرض الحرب وأحكام ما يؤخذ من تجار أهل الذمة والحربيين على ما يدخلونه إلى بلاد الإسلام ، وأحكام الجزية والخراج. ومن الثاني: نظام الأسواق والاحتكار وضبط مصارف الزكاة والمغانم ونظام الأوقاف العامة (2) فكل هذه الأمور مما ينبغي ألا تغيب عن نظر ولي الأمر ، ولا يمنع من أن يبسط يده فيها حسب مقتضيات الأحوال ، وهذا مما لا يختلف فيه نظر فقيه ، وإلا وقعوا في حرج شديد ، والله سبحانه يقول:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الحج:78. أما نزع الملكية بالمعنى المقصود ، فهو نزع الملك الخاص جبرًا عن صاحبه لتحقيق نفع عام لقاء تعويض عادل ، ويعبر عنه بالاستملاك.

(1) النتف في الفتاوى 2 - 752، المحلى 5 - 196، البهجة شرح التحفة 2 - 330، 331، فتح العزيز شرح الوجيز مع المجموع 10 - 216، الملكية لأبي زهرة 149.

(2)

مقاصد الشريعة الإسلامية:181.

ص: 665

وقد نص الفقهاء على جواز ذلك تطبيقًا لقاعدة تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة إذا تعارضت المصلحتان ، ولم يمكن التوفيق بينهما، وقاعدة إذا اجتمع ضرران أسقط الأكبر الأصغر وعلى هذا نص الفقهاء على استملاك الأملاك الخاصة المجاورة للمسجد جبرًا عن صاحبها إذا ضاق بالناس، واستملاك العقار الخاص المجاور للطرق العامة جبرًا عن أصحابها إذا احتاج الناس إليها (1) ونقل الأتاسي في شرحه على المجلة أن للسلطان أن يجعل ملك الرجل طريقًا عند الحاجة (2) .

ويخرج عن التعريف الذي ذكرناه نوعان من الاستملاك ، فلا تطبق في شأنهما ذات القواعد التي تطبق على نزع الملك الخاص من حيث الاستحقاق للتعويض أو البدل ، ولا يرد فيهما الإكراه والإجبار ، وهما:

أحدهما: الأراضي التي يقطعها الإمام آحاد الناس ، وهي الصوافي، وهي كل أرض كان لها ساكن في آباد الدهر ، فانقرضوا ، فلم يبق منهم أنيس، وكذلك كل أرض موات لم يحيها أحد ، ولم يملكها مسلم ولا معاهد (3) . وقد أصفى عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أرض السواد أصنافًا منها: كل أرض قتل صاحبها في الحرب أو هرب، وكل أرض لكسرى، وكل أرض كانت لأحد من أهله، وكل مغيض ماء ، وكل دير بريد (4) .

(1) البهجة شرح التحفة: ج/2، ص 76.

(2)

شرح مجلة الأحكام العدلية للأتاسي: ج/ 4، ص 158

(3)

كتاب الأموال: 392، 393.

(4)

الرتاج المرصد على خزانة كتاب الخراج. 1- 396، 397.

ص: 666

فإن هذه الصوافي مردها إلى رأي الإمام يقطع فيها لمن أراد إقطاعه ، ويطلق عليها صوافي الأسفار أو صوافي الأشبار ، وعلى الإطلاق الأول معناه: الأراضي المستخلصة في الأسفار ، وعلى الثاني: الأراضي المستخلصة للإعطاء (1) فإن لولي الأمر أن يجيز من هذه الأراضي ويعطي من كان له غناء في الإسلام ، ويضع ذلك مواضعه ، ولا يحابي به ، فإن هذه الإقطاعات إنما يقطعها الإمام لأجل العمل بها واستثمارها قال أبو يوسف في كتاب الخراج: "والأرض عندي بمنزلة المال ، فللإمام أن يجيز من بيت المال من كان له غناء في الإسلام ومن يقوى به على العدو ، ويعمل في ذلك بالذي يرى أنه خير للمسلمين وأصلح لأمرهم، وكذلك الأرضون يقطع الإمام منها من أحب من الأصناف التي سميت ، ولا أرى أن يترك أرضًا لا ملك لأحد فيها ولا عمارة حتى يقطعها الإمام ، فإن ذلك أعمر للبلاد وأكثر للخراج (2)

فإن كل أرض أقطعها الإمام فأهملها ولم يستثمرها حتى مضى على ذلك ثلاث سنين ، فإن للإمام أن يأخذها منه أو يقطعها غيره بدون تعويض (3) وكذلك إذا عجز عن استغلالها واستثمارها لكبر مساحتها، فإن للإمام أن يسترد ما زاد على مقدرته ويقطعها غيره. وقد أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم بلال بن الحارث المزني ما بين البحر والصخر ، فلما كان زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال له: إنك لا تستطيع أن تعمل هذا ، فطيب له أن يقطعها للناس ما خلا المعادن ، فإنه استثناها (4)

(1) الرتاج المرصد على خزانة كتاب الخراج: 1 / ص 395.

(2)

الرتاج 1 -418.

(3)

الرتاج 1- 418.

(4)

الرتاج، 425، وانظر أيضًا في هذا المعنى مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها لعلال الفاسي، ص 259.

ص: 667

الثاني: الأخذ مما هو مخصص للمنفعة العامة وتحويله إلى شيء آخر يعود أيضًا نفعه إلى العام ، كالأخذ من الشارع للمسجد أو العكس ، ومما جاء في هذا ما ذكره الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية: "النوع الثاني أن يبنى في الطريق الواسع ما لا يضر بالمارة لمصلحة المسلمين؛ مثل بناء مسجد يحتاج إليه الناس أو توسيع مسجد ضيق بإدخال بعض الطريق الواسع فيه ، أو أخذ بعض الطريق لمصلحة المسجد ، مثل حانوت ينتفع به المسجد ، فهذا النوع يجوز في مذهب أحمد المعروف ، وكذلك ذكره أصحاب أبي حنيفة ، ولكن يفتقر إلى إذن ولي الأمر على روايتين عن أحمد ، ومن أصحاب أحمد من لم يحك نزاعًا في جواز هذا النوع ، ورواية ثالثة بالمنع مطلقًا.

وقال إسماعيل بن سعيد الشالنجي: سألت أحمد عن طريق واسع وللمسلمين منه غنى ، وبهم إلى أن يكون مسجدًا حاجة ، هل يجوز أن يبنى هناك مسجد؟ قال: لا بأس ، إذا لم يضر بالطريق.

إلى أن قال: فإذا جاز ، جعل البقعة المحترمة المشتركة بين المسلمين بقعة غير محترمة للمصلحة ، فلأن يجوز جعل المشتركة التي ليست محترمة كالطريق الواسع بقعة محترمة ، وتابعة للبقعة المحترمة بطريق الأولى والأحرى، فإنه لا ريب أن حرمة المساجد أعظم من حرمة الطرقات ، وكلاهما منفعة مشتركة (1) .

ومن ذلك ما جاء بالفتوى الصادرة عن لجنة الفتوى بالأزهر الشريف ردا على السؤال الموجه لها من مدير بلدية الكويت (2)، وما جاء بهذه الفتوى: " أما بعد ، فقد اطلعت اللجنة على هذا السؤال ، وتفيد بأنه قد جاء في الجزء الثالث من حاشية ابن عابدين على الدر المختار من كتب الحنفية ، أنه إذا كان الطريق ضيقًا والمسجد واسعًا لا يحتاج إلى بعضه ، جازت الزيادة في الطريق من المسجد؛ لأن كلا منهما للمصلحة العامة ، وهذا هو المعتمد عليه متون المذهب.

(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 30، 402، 406.

(2)

مجلة الأزهر عدد جمادى الآخرة سنة 1372 هـ، ص 715، 716.

ص: 668

وجاء في كتب المالكية أن ما كان لله ، فلا بأس فيه أن يستعان ببعضه في بعض. ومعنى هذا: أنه يجوز توسيع الطريق من المسجد والمقبرة كما يجوز توسيع المسجد من الطريق والمقبرة وتوسيع المقبرة من الطريق والمسجد، تراجع حاشية العدوي على الخرشي على متن خليل في باب الوقف.

إلى أن قال: "ومن هذه النصوص يتبين أنه متى كانت الحاجة ماسة إلى أخذ جزء من المسجد لتوسعة الطريق واستقامته تيسيرًا على المارة والسيارات ، فإنه يجوز أن يؤخذ ذلك الجزء من المسجد للطريق العام ".

" هذا وكما يجوز ذلك في المسجد أخذًا من هذه النصوص ، يجوز أن يؤخذ من المقابر ما يوسع به الطريق ، ولكنه بعد أن ينقل رفات الموتى إلى المكان الذي يجعل مقبرة ، كما نص على ذلك الفقهاء ".

التقنيات التي صدرت لتنظيم نزع الملكية:

أصدرت الدولة العثمانية عدة قوانين وقرارات لتنظيم عملية الاستملاك ، من ذلك قرار الاستملاك الصادر في رجب سنة 1272 هـ. وقانون الاستملاك الصادر في 21 جمادى الأولى سنة 1296 هـ ، وقانون الاستملاك الجديد الصادر في 7 ربيع الأول سنة 1332 هـ. ونصت المادة 1216 من مجلة الأحكام العدلية على حكم ذلك ، ونصها: لدى الحاجة يؤخذ ملك كائن من كان بالقيمة بأمر السلطان ، ويلحق بالطريق ، لكن لا يؤخذ من يده ما لم يؤد له الثمن (راجع مادتي 251، 262) . وقال شارح المجلة محمد سعيد المحاسني عند شرحه لهذه المادة: "ويشترط في الاستملاك على الإطلاق وجود المنفعة العامة والضرورة ، وهذا الفرع معروف بين الفقهاء في الأخذ من المسجد ، بقيد (إذا ضاق) .

وشرح المرحوم علي حيدر هذه المادة ، فقال: (يستملك ملك أي أحد بقيمته الحقيقية للمنافع العمومية ، كالطريق والمسجد وسيل الماء ، ولو لم يرض صاحبه ببيعه. فلذلك يؤخذ لدى الحاجة؛ أي: إذا كان الطريق ضيقًا ومست الحاجة إلى توسيعه ملك؛ أي: أخذ بقيمته بأمر السلطان ، ولو لم يرض صاحبه ، ويلحق بالطريق.

ص: 669

فلذلك لو كان مسجد ضيق وغير كاف لاستيعاب المصلين ، وكان لأحد ملك متصل بذلك المسجد ، ووجدت حاجة لإلحاق قسم من تلك الدار للجامع، وتعنت صاحب الدار عن بيع ذلك المقدار من ملكه ، فلا ينظر لرضائه ، ويؤخذ المقدار اللازم للجامع وحريم الجامع بقيمته جبرًا وكرهًا ، ويوسع الجامع. وقد وسع عمر والصحابة رضوان الله عليهم المسجد النبوي على هذا الوجه (جامع الإجارتين والتنقيح والخانية) .

وكذلك يؤخذ محل مرور المياه بقيمته ولو لم يرض صاحبه ، انظر مادة (26)(فتاوى أبي السعود) ، ولكن لا يؤخذ الملك من يده ما لم يؤد له الثمن معجلًا ، هذا إذا كان سيؤخذ الملك بدون رضاء صاحبه أو أخذ الملك برضاء صاحبه بالبيع المطلق بثمن معجل. انظر المواد (251، 262، 278) ، أما إذا أخذ الملك برضاء صاحبه بالبيع المطلق بثمن مؤجل ، فتجري المعاملة وفقًا للمادة (283) .

إن المقصود في هذه المادة هو المال الذي يؤخذ الملك به بدون رضاء صاحبه ، كما وضح ذلك أثناء الشرح ، ولكن لا يجوز أخذ ملك أحد بدون رضائه ما لم يثبت لزومه للمنافع العامة.

ومن هذا العرض لنص المجلة وشروحها يتبين أن الاستيلاء على الملك الخاص للمنفعة العامة لا بد فيه من تحقق الأمور التالية:

أولًا: تسري عليها الأحكام المتعلقة بالبيوع كأصل عام.

ثانيًا: الأصل أن يتم الانتفاع بالملك الخاص للمنفعة العامة باتفاق بين السلطة والأفراد الذين تحتاج إلى أملاكهم الخاصة طبقًا لأحكام عقد البيع وبذات الشروط التي ينبغي تحقيقها في العقود التي تجري بين الأفراد وسلامة الرضاء ، وهو ما يعبر عنه فريق من الفقهاء بالطوع؛ أي: بالاختيار وعدم الإكراه.

ثالثًا: في حالة امتناع الأفراد من البيع طواعية لا بد من تحقق الشروط التالية للاستيلاء على الملك الخاص.

ص: 670

أولًا: أن تشتد الحاجة إلى الملك الخاص.

ثانيًا: أن يكون الغرض من الاستيلاء على الملك الخاص لأمر يعود نفعه على العام ، كتوسيع الطرق ، وتنظيم المدن وسكك الحديد ، وتوسعة المساجد وإنشائها ونحوها.

ثالثًا: أن يصدر قرار من السلطة المختصة في الدولة بالاستملاك طبقًا للقوانين والقرارات التي تسنها الدولة في هذا الشأن.

رابعًا: أن يدفع له قيمة المال المنزوع للمنفعة العامة.

خامسًا: أن لا يستولي على العقار الذي تقرر نزعه للمنفعة العامة إلا بعد سداد الثمن كاملًا لصاحبه في حالة ما إذا لم يتم اتفاق بين الطرفين. أما إذا تم اتفاق على طريقة دفع الثمن ، فيكون هو الذي يتعين المصير إليه.

وقد بسط شيخ الإسلام ابن تيمية القول على ضرورة بذل ما يحتاج إليه وجواز تدخل ولي الأمر في أكثر من موضع من مجموع فتاويه ومصنفاته ، من ذلك ما جاء في معرض كلامه على الولايات والتدخل لمنع الاحتكار وغلاء الأسعار ، قال: وهذا واجب في مواضع كثيرة من الشريعة، فإنه كما أن الإكراه على البيع لا يجوز إلا بحق ، يجوز الإكراه على البيع بحق في مواضع ، مثل بيع المال لقضاء الدين الواجب والنفقة الواجبة والإكراه على أن لا يبيع إلا بثمن المثل لا يجوز إلا بحق ، ويجوز في مواضع مثل المضطر إلى طعام الغير ، ومثل الغراس والبناء الذي في ملك الغير ، فإن لرب الأرض أن يأخذ بقيمة المثل ، لا بأكثر ، ونظائر كثيرة (1) ويبسط القول أكثر في موضع آخر من مجموع فتاويه (2) ، نقتصر من ذلك على فقرات من كلامه رحمه الله ، قال:" ففي الجملة ما يجب إيتاؤه من المال أو منفعته أو منفعة البدن بلا عوض ، له تفصيل في موضع آخر ، ولو كان كثير من المتفقهة مقصرين في عامه بحيث ينفون وجوب ما صرحت الشريعة بوجوبه ، ويعتقد الغالط منهم: " أن لا حق في المال سوى الزكاة " ، إن هذا عام ، ولم يعلم أن الحديث المروي في الترمذي عن فاطمة ((: إن في المال حقا سوى الزكاة)) .

(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج 28/ 77، 78

(2)

ج/29، ص 185، 196.

ص: 671

من قال بالأول ، أراد الحق المالي الذي يجب بسبب المال ، فيكون راتبًا ، وإلا فنحن نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله قد أوجب إيتاء المال في غير الزكاة المفروضة في مواضع ، مثل الجهاد بالمال عند الحاجة، والحج بالمال، ونفقة الزوجة والأقارب والممالك من الآدميين والبهائم ، ومثل ما يجب من الكفارات من عتق وصدقة. . . إلخ.

وإنما الغرض هنا ما يجب من المعاوضات ، مثل المبايعة والمؤاجرة وما يشبه ذلك، ومثل المشاركات كالمساقات والمزارعة ونحو ذلك ، فإن هذا كثيرًا ما يغلط فيه الغالطون ، لما استقر في الشريعة أن الظلم حرام ، وأن الأصل في هذه العقود لا تجوز إلا بالتراضي ، إلا مواضع استثناها الشارع ، وهو الإكراه عليها بحق ، صار يغلط فريقان:

قوم يجعلون الإكراه على بعضها بحق، وهو إكراه بباطل. وقوم يجعلونه إكراهًا بباطل ، وهو بحق، وفيها ما يكون إكراهًا بتأويل حق ، فيدخل في قسم المجتهدات، أما الاجتهادات المحضة أو المشوبة بهوى وكذلك المعاوضات.

ونحن نعلم قطعًا أنه إذا كان إيتاء المال أو المنفعة بلا عوض واجبًا بالشريعة في مواضع كثيرة جدا لأسباب اقتضت الإيجاب الشرعي، وليس ذلك من الظلم الذي هو أخذ لحق الغير بغير حق ، فلأن يكون إيتاء المال والمنفعة بعوض واجبًا في مواضع أولى وأحرى ، بل إيجاب المعاوضات أكثر من إيجاب التبرعات وأكبر ، فهو أوسع منه قدرًا أو صفة.

ولعل من استقرأ الشريعة تبين له أن المعاوضة إذا احتاج المسلمون إليها بلا ضرر يزيد على حاجة المسلمين ، وجبت، فأما عند عدم الحاجة ومع حاجة رب المال المكانية لحاجة المعتاض ، فرب المال أولى. فإن الضرر لا يزال بالضرر، والرجل أحق بماله من ولده ووالده والناس أجمعين ((وابدأ بنفسك ثم بمن تعول)) وهذه قاعدة حسنة مناسبة ، ولها شواهد كثيرة في الشريعة ، وجماع المعاوضات أربعة أنواع:

ص: 672

معاوضة مال بمال كالبيع، وبذل مال بنفع كالجعالة، وبذل منفعة بمال كالإجارة، وبذل نفع بنفع كالمشاركات من المضاربة ونحوها ، فإن هذا بذل نفع بدنه، وهذا بذل نفع ماله، وكالتعاون والتناصر ونحو ذلك.

وبالجملة فوجوب المعاوضات من ضرورة الدنيا والدين ، إذ الإنسان لا ينفرد بمصلحة نفسه ، بل لا بد له من الاستعانة ببني جنسه ، فلو لم يجب على بني آدم أن يبذل هذا لهذا ما يحتاج إليه ، وهذا لهذا ما يحتاج إليه ، لفسد الناس ، وفسد أمر دنياهم ودينهم ، فلا تتم مصالحهم إلا بالمعاوضة.

ولا ريب أن النفوس مجبولة على بذل المعاوضة لحاجتها إليها ، فالشارع إذا بذل ما يحتاج إليه بلا إكراه ، لم يشرع الإكراه ، ورد الأمر إلى التراخي في أصل المعاوضة وفي مقدار العوض، وأما إذا لم يبذل ، فقد يوجب المعاوضة تارة ، وقد يوجب عوضًا مقدرًا تارة ، وقد يوجبهما جميعًا.

مثال الأول: من عليه دين فطولب به ، وليس له إلا عرض ، فعليه أن يبيعه ليوفيه الدين، فإن وفاء الدين واجب ، ولا يتم إلا بالبيع ، وما لا يتم الواجب إلا به ، فهو واجب ، وللحاكم أن يكرهه على بيع العرض في وفاء دينه ، وله أن يبيع عليه إذا امتنع؛ لأنه وجب عليه ، فقبل النيابة ، فقام ذو السلطان فيهم مقامه ، كما يقوم في توفية الدين وتزويج الأيم من كفئها إذا طلبته وغير ذلك. إلى أن يقول: وهكذا بيع أحد الشريكين من الآخر في ما لا ينقسم ، فإن الشريك محتاج إلى البيع ليأخذ نصيبه ، ولا ضرر على الآخر فيه، وكذلك تقويمه ملك الشريك إذا أعتق الشريك نصيبه ، فإن العتق يحتاج إلى تكميل ، لما في تبعيض العتق من الضرر على البائع في بيع نصيبه ، وهكذا فيمن تعلق حق الغير بماله ، كمن له في ذلك الغير عرض محترم من غراس أو بناء أو بئر ، كالمشتري إذا أخذ الشقص بالشفعة ، والبائع إذا رد عليه المبيع بعيب ، وكان الثمن عقارًا، وكالمستعير والمستأجر إذا انقضت المدة ، فإن لرب الأرض أن يبتاع ذلك بقيمته إذا لم يقلعه صاحبه أو يبقيه بأجرة المثل ، وكلاهما معاوضة ، إما على العين ، أو على منفعة أرضه.

ص: 673

كما نستشهد بآراء جماعة من الفقهاء المعاصرين ممن ذهبوا إلى جواز نزع الملكية للمنفعة العامة ، وممن قال بذلك:

أولًا: أحمد إبراهيم (1) قال رحمه الله:

الأصل عدم انتزاع الإنسان مال غيره إلا برضاه ، ولكن استثنى من ذلك نزع الملك

في ثلاث حالات:

الأولى: الأخذ بالشفعة.

الثانية: نزع الملك لقضاء الدين.

الثالثة: نزع الملك للمنافع العمومية؛ كتوسيع الطرق وإنشاء ترع أو سكك ينتفع بها الناس انتفاعًا عاما ، ولكن لا يؤخذ الملك من يد المالك إلا إذا أدي إليه ثمنه مقدرًا بمعرفة من يوثق بعدالته من أهل الخبرة؛ وذلك لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة ولا ينبغي أن يظلم المالك. وقد نقل في حاشية أبي السعود على ملا مسكين عن الزيلعي: أنه إذا ضاق المسجد على الناس وبجنبه أرض الرجل ، تؤخذ بالقيمة كرهًا؛ لأنه لما ضاق المسجد الحرام أخذ الصحابة بعض ما حوله من الأراضي بكره ، وأدخلوها في المسجد. وهذا من الإكراه الجائز.

ثانيًا: الشيخ الإمام محمد أبو زهرة رحمه الله قال: (2)

"ذكرنا فيما مضى أن أسباب انتقال الملكية هي العقود الناقلة للملكية ، والعنصر الفعال في هذه العقود هو الرضا ، كما يستثنى. فالرضا هو القاعدة العامة لنقل الأموال في الشريعة الإسلامية؛ لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (3) ، بيد أنه قد ينتزع الملك من صاحبه بغير رضاه في سبيل النفع العام أو لدفع الأذى عن غيره ، بحيث تكون المنفعة التي ينالها المالك من بقاء العين في ملكه أقل من الضرر الذي ينال غيره بهذا البقاء.

(1) المعاملات الشرعية المالية ص 72، 73.

(2)

الملكية ونظرية العقد في الشريعة الإسلامية: 148، 149.

(3)

النساء: 29

ص: 674

والأحوال التي ينتزع فيها الملك من غير رضا صاحبه ترجع إلى ثلاث:

نزع الملك لمنافع الكافة ، كنزع الملك للطرق العامة ، أو شق الترع، وقد اعتبر بعض الفقهاء من المنافع العامة توسيع المساجد ، حتى لا تضيق بالناس. ثم نقل ما سبق عن حاشية أبي السعود على ملا مسكين عن الزيلعي ، وأحال إلى كتاب الشيخ أحمد إبراهيم ، ثم قال: والأصل في هذا ترجيح منفعة الكافة على منفعة الآحاد ، ولأنه لا يترتب على الأخذ من المالك كبير ضرر به؛ لأنه يعوض بالقيمة ، والقيمة تقدر بمعرفة أهل الخبرة العدول.

ثالثًا: وممن قال بذلك أيضًا الشيخ علي الخفيف في بحث له منشور في مجلة الأزهر الشريف (1) والشيخ محمد عرفة عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر (2) ومما قاله الشيخ الخفيف في بحثه المنشور في مجلة الأزهر عدد صفر سنة 1384 هـ: "ويجب أن يلاحظ مع هذا أن عدوان إحدى الملكيتين على الأخرى محظور ، فلا يجوز أن يتملك الفرد ما كان ملكًا للجماعة مخصصا للمنافع العامة ، إلا إذا خرج عن ذلك بالاستغناء عنه ، فعند ذلك يجوز تملكه بعوضه ، على أن يقوم بهذه المبادلة ولي الأمر متحريا ألا يكون فيه غبن ، كما لا يجوز لولي الأمر أن يعتدي على ملك فرد من الأفراد ، فليس له أن يجعله في منفعة عامة مملوكًا لجماعة المسلمين ، إلا إذا تطلبت مصلحة المسلمين ذلك ، فيأخذه الإمام عن رضا أو عن قهر ببدله دون غنى على صاحبه؛ وذلك لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة. وذلك ما حدث في توسعة المسجد الحرام حين ضاق على الناس في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقد كانت دور الناس محدقة به من كل جانب ، عدا فتحات يدخل منها الناس إليه ، فاشترى عمر دورًا منها ، وأبى عليه أصحاب الدور الأخرى ، فأخذها منهم قسرًا ، ووضع قيمتها بخزانة الكعبة ، وأدخل الجميع المسجد.

(1) مجلة الأزهر عدد صفر 1384 هـ.

(2)

مجلة الأزهر عدد صفر سنة 1372 هـ.

ص: 675

وظلت القيمة بالخزانة إلى أن أخذها أصحابها ، ثم كثر الناس في عهد عثمان وضاق عليهم المسجد مرة أخرى ، فأراد توسعته ، فاشترى من قوم ، وأبى عليه آخرون ، فأخذ دورهم جبرًا ، وعزرهم؛ لأنه ليس للمالك أن يأبى حين يدعوه إلى بيع ملكه داعي المصلحة العامة ، فإذا أبى ، كان إباؤه ظلما ، فيدفع. وليس يجوز أن يؤخذ ملك إنسان بلا عوض لمصلحة عامة ، بل يجب تعويضه من بيت مال المسلمين ، فإن لم يكن فيه ما يقوم بذلك ، كان لولي الأمر أن يفرض على القادرين من الوظائف المالية ما يقوم بحاجة الدولة ، ويدفع ما أنزل بها بالقسطاس المستقيم ، فيعم بذلك جميع القادرين كلا بقسطه ، ولا يقصره على بعضهم ، وبذلك يشترك كل قادر في دفع ما ألم بالأمة مما يجب دفعه".

وذكر الأزرقي وغيره من المؤرخين للمسجد الحرام وما كان عليه المسجد وعمارته وتوسعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه له ، وأنه لما ضاق على الناس ، اشترى عمر بن الخطاب رضي الله عنه دورًا ، فهدمها وهدم على من قرب من المسجد ، وأبى بعضهم أن يأخذ الثمن ، وتمنع من البيع ، فوضعت أثمانها في خزانة الكعبة حتى أخذوها بعد، ثم أحاط عليه جدارًا قصيرًا ، وقال لهم عمر: إنما نزلتم على الكعبة فهو فناؤها ، ولم تنزل الكعبة عليكم. ثم كثر الناس في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فوسع المسجد ، واشترى من قوم ، وأبى آخرون أن يبيعوا ، فهدم عليهم ، فصيحوا به ، فدعاهم فقال: إنما جرأكم علي حلمي عنكم ، فقد فعل بكم عمر هذا ، فلم يصح به أحد ، فاحتذيت على قباله ، فصيحتم بي ، ثم أمر بهم إلى الحبس ، حتى كلمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد ، فتركهم. (1)

(1) تاريخ مكة للأزرقي، ج2/ 68، 69. القرى في قاصد أم القرى ص 657 تاريخ الطبري 4 - 68.

ص: 676

ومن صور العقود التي تمت والاتفاق على بدل العقار الذي احتيج إليه للمنفعة العامة ما ذكره الحافظ أبو الطيب تقي الدين محمد بن أحمد بن علي الفاسي المكي المالكي في (شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام) عن توسعة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة الوليد بن عبد الملك. وذلك أنه لما استعمل عمر بن عبد العزيز على المدينة ، أمره بالزيادة في المسجد وبنيانه ، فاشترى ما حوله من المشرق والمغرب والشام من أبي سبرة الذي كان أبى أن يبيع عليه ، ووضع الثمن له ، فلما صار إلى القبلة ، قال له عبد الله بن عمر: لسنا نبيع هذا ، هو من حق حفصة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكنها ، فقال له عمر: ما أنا بتارككم، أنا أدخلها المسجد. فلما كثر الكلام بينهما ، قال له عمر: أجعل لكم في المسجد بابًا تدخلون منه ، وأعطيكم دار الرقيق مكان هذا الطريق ، وما بقي من الدار فهو لكم. ففعلوا ، فأخرج بابهم في المسجد ، وهي الخوخة التي في المسجد تخرج في دار حفصة ، وأعطاهم دار الرقيق (1) وهذا يدل على أنه لا يتعين النقد بدل العين المنزوع ملكيتها للمنفعة العامة ، بل يجوز أن يكون شيئًا آخر كالتعويض العيني وهو ما يعرف في البيوع بالمقايضة ، أو بهما معًا ، ونظير ذلك ما جاء في معجم البلدان في مادة (بصرة) : وكان جانب الجامع الشمالي - أي: جامع البصرة - منزويًا؛ لأنه كان دارًا لنافع بن الحارث أخي زياد ، فأبى أن يبيعها ، فلم يزل على تلك الحال حتى ولى معاوية عبيد بن زياد على البصرة ، فقال عبيد الله بن زياد: إذا شخص عبد الله بن نافع إلى أقصى ضيعة ، فأعلمني، فشخص إلى قصر الأبيض، فبعث فهدم الدار ، وأخذ في بناء الحائط الذي يستوي به تربيع المسجد، وقدم عبد الله بن نافع فضج. فقال له: إني أثمن لك ، وأعطيك مكان ذراع خمسة أذرع ، وأدع لك خوخة في حائطك إلى المسجد ، وأخرى في غرفتك، فرضي ، فلم تزل الخوختان في حائطه حتى زاد المهدي فيه ما زاد ، فدخلت الدار كلها في المسجد (2)

(1) شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام: ج/2، ص 372.

(2)

معجم البلدان: ج1/ 434 مادة بصرة.

ص: 677

ويستدل من كل ذلك على جواز نزع الملك الخاص إذا اقتضت المصلحة والضرورة ذلك ببدل يعطى لصاحبه ، ولا ضير إذا كان هذا البدل قد بولغ فيه وأعطي أكثر من قيمته الحقيقية تطييبًا لخاطره وترضية لما عسى أن يكون قد لحقه من جراء حرمانه من ملكه الخاص من ضيق ، كما فعل السلف الصالح.

وبعد:

فإن هذا ما انتهى إليه النظر في هذا الموضوع ، وهو رأي تتبعت فيه آثار السلف وأقوال الأئمة رضوان الله عليهم أجمعين ، الذين هم لنا الأسوة والقدوة.

أرجو أن أكون قد أصبت فيه الحق أو قاربته.

الكويت في 17 شعبان سنة 1407هـ

الدكتور عبد الله محمد عبد الله

ص: 678