المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بدل الخلوفي الفقه الإسلاميإعدادفضيلة الشيخ محيي الدين قادي - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٤

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الرابع

- ‌كلمةمعالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلاميالأستاذ/ سيد شريف الدين بيرزاده

- ‌كلمةمعالي رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلاميالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌كلمةمعالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدوليالدكتور محمد الحبيب بن الخوجة

- ‌كلمةمعالي الأستاذ سيد شريف الدين بيرزاده

- ‌كلمةمعالي رئيس البنك الإسلامي للتنميةالدكتور/ أحمد محمد علي

- ‌كلمةمعالي الأمين العام بالنيابة لرابطة العالم الإسلاميالأستاذ/ أمين عقيل عطّاس

- ‌كلمةمعالي وزير الأوقاف بدولة الكويتالشيخ خالد أحمد الجسار

- ‌كلمةمعالي رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلاميالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌كلمةمعالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدوليالدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌كلمةالوفود المشاركةألقاها بالنيابة سعادة السفير الدكتور عمر جاه

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادمعالي الدكتور محمد علي البار

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًغرس الأعضاء في جسم الإنسانمشاكله الاجتماعية وقضاياه الفقهيةإعدادمعالي الدكتور محمد أيمن صافي

- ‌التشريح الجثماني والنقل والتعويض الإنسانيإعدادفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادفضيلة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

- ‌‌‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًفي الفقه الإسلاميإعدادفضيلة الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًفي الفقه الإسلاميإعدادفضيلة الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادالدكتور عبد السلام داود العبّادي

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادفضيلة الشيخ آدم عبد الله علي

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حيّاً أو ميّتاًإعدادفضيلة الشيخ محمد عبد الرحمن

- ‌صرف الزكاة لصالح صندوقالتضامن الإسلاميإعدادسعادة سيدي محمد يوسف جيري

- ‌صرف الزكاة لصالح صندوقالتضامن الإسلاميإعدادفضيلة الشيخ تيجاني صابون محمد

- ‌صرف الزكاة لصالح صندوقالتضامن الإسلاميإعدادفضيلة الشيخ مولاي مصطفى العلوي

- ‌صرف الزكاة لصالح صندوقالتضامن الإسلاميإعدادسعادة الدكتور عبد الله إبراهيم

- ‌مذكرة تفسيرية بشأن صندوق التضامن الإسلامي ووقفيته

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ عبد الله البسام

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة أ. دكتور وهبه مصطفى الزحيلي

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ محمد عبد اللطيف آل سعد

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ هارون خليف جيلي

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ رجب بيوضي التميمي

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ محمد عبده عمر

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌المثامنة في العقار للمصلحة العامةإعدادالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌انتزاع الملكية للمصلحة العامةإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌انتزاع الملكية للمنفعة العامةإعدادأ. د. يوسف محمود قاسم

- ‌نزع الملكية الخاصة للمنفعة العامةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌انتزاع الملك للمصلحة العامةإعدادالدكتور محمود شمام

- ‌الإسلاموانتزاع الملك للمصلحة العامةإعدادفضيلة الشيخ محمد الحاج ناصر

- ‌سندات المقارضةإعدادالصديق محمد الأمين الضرير

- ‌سندات المقارضةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌سندات المقارضةوسندات الاستثمارإعدادالدكتور حسن عبد الله الأمين

- ‌سندات المقارضةإعدادالقاضي محمد تقي عثماني

- ‌ضمان رأس المال أو الربحفي صكوك المضاربةأو سندات المقارضةإعدادالدكتور حسين حامد حسان

- ‌سندات المقارضةوسندات التنمية والاستثمارإعدادفضيلة الشيخ محمد المختار السلامي

- ‌سندات المقارنة وسندات الاستثمارإعدادفضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌تصوير حقيقة سندات المقارضة والفرق بينها وبينسندات التنمية وشهادات الاستثمار والفرق بينهاوبين السندات الربويةإعدادالدكتور سامي حسن حمود

- ‌سندات المقارضة والاستثمارإعدادفضيلة الدكتور علي أحمد السالوس

- ‌سندات المقارضةإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌البيان الختامي وتوصياتلندوةسندات المقارضة وسندات الاستثمارالتي أقامهامجمع الفقه الإسلامي بجدة

- ‌بدل الخلوإعدادالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌ موضوع (بدل الخلو)

- ‌بدل الخلوإعدادالدكتور محمد سليمان الأشقر

- ‌حكم الشريعة في بدل الخلو (السرقفلية)إعدادفضيلة الأستاذ إبراهيم فاضل الدبو

- ‌بدل الخُلُوِّفي الفقه الإسلاميإعدادفضيلة الشيخ محيي الدين قادي

- ‌بدل الخلو وتصحيحهإعدادفضيلة الشيخ حجة الإسلام محمد علي تسخيري

- ‌كيفية مكافحة المفاسد الأخلاقيةإعدادفضيلة الشيخ/ رجب بيوض التميمي

- ‌كيفية مكافحة المفاسد الأخلاقيةإعدادالشيخ هارون خليف جيلي

- ‌مجالات الوحدة الإسلاميةوسبل الاستفادة منهاإعدادالأستاذ مصطفى الفيلالي

- ‌مجالات الوحدة الإسلاميةوسبل الاستفادة منهاإعدادفضيلة الدكتور عمر سليمان الأشقر

- ‌مجالات الوحدة الإسلاميةوسبل الاستفادة منهاإعدادالحاج شيت محمد الثاني

- ‌الوحدة الإسلاميةوالتعامل الدوليإعدادفضيلة الشيخ/ محمد علي التسخيري

الفصل: ‌بدل الخلوفي الفقه الإسلاميإعدادفضيلة الشيخ محيي الدين قادي

‌بدل الخُلُوِّ

في الفقه الإسلامي

إعداد

فضيلة الشيخ محيي الدين قادي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الفتاح العليم، والصلاة والسلام على النور المبين سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

وبعد فقد شرفتني الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي بجدة حين طلبت مني بحث قضية (بدل الخلو في الفقه الإسلامي) ولا يخفى أن هذه القضية استشكلها جهابذة الفقهاء، وكثر منهم استشكالها، وهي في الحقيقة مشكلة ويأتي في مقدمة ذلك نور الملة والدين العلامة على الأجهوري الفقيه المالكي [1066هـ](1) شيخ المالكية في الدنيا بوقته على حد وصف العياشي له في رحلته فإنه يذكر أن معاصريه من الفقهاء كثر منهم استشكال مسألة الخلو، ثم يقفي على ذلك بقوله:(وهي في الحقيقة مشكلة)(2) وناهيك أن المحقق البناني التبس عليه الأمر فعد الجلسة خلو الحوانيت في الفتح الرباني (3) وتردد التماق فيما قاله المحقق البناني في رسالته التي أراد أن يزيل فيها الالتباس الحاصل فيما عند الفقهاء والموسومة بـ (إزالة الدلة عن وجه الجلسة)(4)، ووجدنا هذا الالتباس في فتوى العلامة سيدي إبراهيم الرياحي حيث يقول: الجزاء والإنزال والخلو والجلسة ألفاظ متحدة الذات مختلفة الاعتبار في الاصطلاح فذاتها ومعناها المنفعة التي يملكها دافع الدراهم لمالك الأصل مع بقاء ملكه للرقبة (5) وسيأتي لي في هذا البحث التفريق بين هذه الأنواع وأنها تخلتف اسما ومسمى.

وأمام استشكال من ذكرت ومن لم أذكر من الفقهاء الأثبات بقيت في حيرة من أمري لم تلبث أن تبددت وشرح الله صدري لإنفاذ هذا الأمر فدرست هذه القضية فيما تيسر لي من المصادر والمراجع، وبعد أن تبلورت المعلومات عن هذه القضية في ذهني صممته على النسق التالي:

أ - تمهيد.

ب - مباحث.

(1) محمد الحجوي: الفكر السامي 2/ 279

(2)

أحمد الفيومي: رسالته في تحقيق مسألة الخلو عند المالكية /8

(3)

6/ 128

(4)

محمد المهدي الوزاني الشريف: نوازله 4/ 17

(5)

فتوى منشورة ضمن مجموع مطبوع / 3

ص: 1771

أما التمهيد فيحتوي على نقاط:

1-

نشأة قضية الخلوات:

لم تُعرف هذه القضية في طبقات فقهاء الإسلام المتقدمين، ولا في أوائل المتأخرين منهم ولكنها عرضت للفتوى في القرون الأخيرة، وسأحاول جهدي ضبط تاريخ نشأة قضية الخلوات لأن الخائضين فيها أكثرهم لم يُولِ هذا الأمر عناية، وبعضهم أشار إلى ذلك إشارة عابرة، ولكن أقوال من أشاروا قد التبست هي الأخرى فسماحة الأستاذ الإمام سيدي محمد الطاهر بن عاشور – رحمه الله تعالى – يرى أن الكراء المؤبد جرت به فتوى علماء الأندلس: ابن سراج وابن منظور في أواخر القرن التاسع في أرض الوقف، ثم تبعهما في ذلك أهل مصر في القرن العاشر بفتوى ناصر الدين اللقاني في أحكام الأوقاف (1) لكن يذكر المحقق البناني أن المتأخرين من شيوخ فاس كالشيخ القصار وابن عاشر وأبي زيد الفاسي وسيدي عبد القادر الفاسي وأضرابهم أفتوا في الجلسة وجرى بها العمل الفاسي لما رأوه من المصلحة فيها فهي عندهم كراء على التبقية وقد أشار لها خليل في التوضيح في باب الشفعة (2)، ومحل الاستشهاد بقول البناني هذا هو ما ذكره من إشارة خليل إلى الجلسة في توضيحه في باب الشفعة وخليل توفي على ما صححه السوداني سنة ست وسبعين وسبعمائة (3) ونص خليل على ما أورده محمد المهدي الوزاني الشريف في نوازله المعروفة بالمعيار الجديد هو:(وينبغي أن يتفق في الأحكار التي عندنا بمصر أن تجب الشفعة في البناء القائم بها؛ لأن العادة عندنا أن رب الأرض لا يخرج صاحب البناء أصلا فكان ذلك بمنزلة مالك الأرض) قاله شيخنا رحمه الله تعالى (4) فتكون قضية الخلوات قد تعرض لها الفقهاء منذ القرن الثامن، ويكون ابن سراج وابن منظور مسبوقين بتعرض خليل وشيخه للقضية في نمط من أنماطها وهو الحكر المؤبد، وكذلك لم تقع الإشارة إلى ما قاله خليل في فتوى ناصر الدين اللقاني ولا في فتوى سالم السنهوري المذكورتين في شرح العلامة سيدي عبد الباقي الزرقاني (5) ولا من طرف البدر القرافي في رسالته (الدرة المنيفة في الفراغ عن الوظيفة) .

(1) مقاصد الشريعة الإسلامية 133- 134

(2)

6/ 128

(3)

محمد الحجوي: الفكر السامي 2/ 245

(4)

4/ 19

(5)

6/ 128

ص: 1772

ولكن الأغرب في صنيع هذا الأخير وهو المتوفى سنة ثمان وألف أنه يقول ما نصه: (فائدة انجر الكلام إليها لتعلقها بهذا المقام [بيان حكم الفراغ عن الوظيفة بمقابل] وهي كثيرة الورود وحديثة العهود، ولم يقع في كلام فقهائنا فيما أعلم التعرض إليها ولا التوجه لهم بها وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه – تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور.

فالمسألة الواقعة هي أن حوانيت الأوقاف بمصر جرت عادة سكانها أنه إذا أراد أحدهم الخروج من الحانوت أخذ من آخر مالا على أن ينتفع بالسكنى في ذلك الحانوت ويسمون ذلك القدر المأخوذ من المال خلوا ويتداولون ذلك بينهم واحدا بعد واحد) (1) ثم استدرك في غير وضوح رؤية بما بلغه عمن يوثق من إفتاء ناصر الدين اللقاني باعتماد الخلو وأنه حق يورث ثم قفَّى على ذلك بقوله: (ولم أقف في فروع المذهب على ما يقتضيه)(2) . ثم أورد نص فتوى اللقاني بعد السؤال المرتبة عليه، فظهر لي من كل ما سبق أن المجتمع الإسلامي منذ القرن الثامن الهجري أخذ يتعرض لتغيرات اجتماعية أفرزت فيما أفرزت أنماطا من الأكرية المؤبدة اتفقت في أحكام الكراء، واختلفت في الدواعي والأسباب، وأن أول نمط منها هو الأحكار المؤبدة التي أشار إليها خليل في توضيحه في القرن الثامن الهجري، والأحكار المؤبدة هي المسماة عندنا في تونس بالإنزال، وعند المغاربة بالجزاء وهذا ما غفل عنه بسكال أحد أعضاء البرلمان الفرنسي في رسالته التي كتبها مدة جولاته بتونس وأرسلها إلى رئيس جمعية البحث عن أحوال المستعمرات في 21 مايو سنة 1886م وجعل عنوانها:(طريق الاستعمار في المملكة التونسية) حيث ظن أن أول من قال بجواز الإنزال هو العلامة باش مفتي المالكية بتونس سيدي إبراهيم الرياحي – رحمه الله – حيث يقول ما تعريبه: (لا يوجد نص صريح في جواز الإنزال ولا تكلمت عليه الفتاوى، وقد وجد في العصر الأخير أحد الفقهاء الثقات وهو الشيخ إبراهيم الرياحي قال: إن إخراج العقار من الحبسية جائز إذا وجدت منفعة معتبرة في تغيير كيفية الانتفاع)(3) .

(1) 154

(2)

154

(3)

محمد السنوسي الحفيد: مطلع الداراري: 134

ص: 1773

وليس من مقتضيات المقام مناقشة بسكال في أن الإنزال ليس إخراجا للوقف عن الوقفية، وفي أن فتوى الشيخ إبراهيم الرياحي المشار إليها أشارت إلى وجود جدل فقهي في قضية الإنزال كما سيأتي في معظم نص الفتوى المنقول بحرفه في محله من هذا البحث، ولكن الذي يهمنا محاولة إثبات خطأ بسكال في نشأة الإنزال وبيان أن هذا النوع من أنواع الخلوات نشأ منذ القرن الثامن، وأن توضيح خليل أشار إليه، ثم ظهرت بعده فتاوى ابن سراج وابن منظور في أواخر القرن التاسع بالأندلس في جواز الكراء المؤبد في الأراضي الزراعية الوقفية فيكون الأندلسيون فيما يظهر تابعين لما جاء في التوضيح الذي هو من أشهر شروح جامع الأمهات لابن الحاجب الذي نسخ ما تقدمه من كتب المالكية، وكيف لا وهذا الشرح الخليلي قد احتوى الشروح السابقة وزاد عليها ونقل عن شرح ابن عبد السلام وهو أحسن الشروح (1) ثم جاء القرن العاشر وظهرت في مصر ملابسات جديدة وازدهر الاقتصاد ووصل الأمر أن بعض أسواق القاهرة وزن الناس ثمنا لخلو الحانوت فيها أربعمائة دينار ذهبا جديدا كما ورد بالسؤال الذي ترتبت عليه فتوى ناصر الدين اللقاني (2) الآتية في محلها من هذا البحث – إن شاء الله – مع السؤال المرتبة عليه.

5-

العرف: دعاني إلى إثارة قضية العرف في هذا التمهيد لانبناء مسألة الخلوات عليها: فالعرف أساس لها، وسيكون بحثي لهذه المسألة بإيجاز وبتركيز على ما يخدم المبحث المخصص لحكم الخلوات، وأسارع فأقول: إن بحثي لمسألة العرف ينحصر في النقاط التالية:

(1) محمد الحجوي: الفكر السامي 2/ 231

(2)

أحمد العرفاوي الفيومي: رسالة في تحقيق مسألة الخلو عند المالكية: 4

ص: 1774

العرف لغة واصطلاحا:

العرف في اللغة: المعروف، وهو الخير والرفق والإحسان (1) .

وأما في الاصطلاح فعرفه الجرجاني بقوله: ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول، وتلقته الطبائع بالقبول

وكذا العادة وهي (ما استمر الناس عليه على حكم المعقول وعادوا إليه مرة بعد أخرى)(2) .

وجمع الإمام الأكبر محمد الخضر حسين بين العرف والعادة في تعريف واحد فقال: والعرف والعادة ما يغلب على الناس من قول وفعل وترك (3) .

ومثال العرف القولي قول الفقهاء في وقف يقول واقفه (داري حبس على ولدي) بدخول البنات، إذا كان عرف بلد الواقف كذلك أو لم يكن هناك عرف، وأما إذا جرت عادة أهل ذلك البلد بإطلاق لفظ الولد على الذكر دون الأنثى فلا يدخل الإناث في الوقف رعيا لعرف الاستعمال، وإن كانت كلمة ولد تعم في العرف اللغوي الذكر والأنثى لأن العرف القولي مقدم على العرف الشرعي فلو حلف لا يأكل لحما لم يحنث بالسمك وإن سماه الله لحما، أو لا يجلس في ضوء سراج لا يحنث إذا جلس في ضوء الشمس وإن سماها الله سراجا.

ويعتد بالعرف القولي إذا عم بلدا أو قوما من أهل البلد وتحمل عليه ألفاظ المتكلمين بإطلاق في العقود والالتزامات والأيمان والنذور أما إذا خص متكلما دون قومه أو بلده حمل لفظه عند المالكية على عرفه الخاص في الأيمان والنذور والطلاق وألغى سائر العقود والالتزامات ووقع الرجوع إلى العرف العام.

ومثال العرف الفعلي: مسألة الحيازة عند المالكية فمن حاز عقارا عشر سنين ثم ادعاه آخر طولب المدعى بالبينة على سكته تلك المدة كغيبته عن البلد أو عدم علمه بحيازة المدعى عليه للعقار، ولا تنفعه البينة الشاهدة بأصل الملك؛ لأن العرف والعادة عدم سكوت الإنسان عن تصرف آخر في ملكه هذه المدة الطويلة.

وشروط الاعتداد به أن يعم بلدا أو قوما من أهل البلد.

(1) الفيومي: المصباح المنير 2/ 33

(2)

الجرجاني: التعريفات 80

(3)

مجلة نور الإسلام مج1 ع: 7/ 534 سنة 1349هـ

ص: 1775

أما العرف الفعلي الخاص بفرد فقد ذكر شهاب الدين القرافي أن الإجماع منعقد على عدم تأثيره في اللفظ اللغوي تخصيصا وتقييدا وإبطالا. واعتراض ابن عرفة وغيره حكاية الإجماع، وقال الشيخ ابن ناجي في شرح المدونة: الإيمان تُحمل على المقصد العرفي وظاهر مسائل الفقهاء أنه لا فرق بين أن يكون العرف قوليا أو فعليا ولبعض أهل الأصول أنه لا يعتبر إلا العرف القولي (1) . قال الشيخ محمد جعيط – رحمه الله – [ت 1337هـ] ويدخل تحت لفظ البعض المصنف (2) قال الإمام الأكبر محمد الخضر حسين: وأوردوا مسائل في المذهب تدل على التخصيص بالعوائد الفعلية وإن كانت خاصة ومثل بعضهم لذلك الرجل يوكل آخر على شراء ثوب فيشتري له مالا يناسب عادته فقد أفتوا بلزوم المشتري للموكل لا لمن وكَّله (3) .

ومثال العرف الجاري بالترك تسامح الناس في أخذ الثمار الساقطة خارج حدود البساتين دون توقف على إذن ملاكها لجريان العرف بالتسامح في ذلك.

أقسام العرف:

قسم الفقهاء العرف باعتبار الشارع له وعدم اعتباره إلى أقسام ثلاثة:

1-

ما قام البرهان الخاص على اعتبار الشارع له كمراعاة الكفاءة في الزواج.

2-

ما قام البرهان الشرعي الخاص على إلغائه كطواف أهل الجاهلية من العرب بالبيت عراة.

3-

ما لم يقم دليل شرعي خاص على اعتباره أو إلغائه وذلك مراد رحب للمجتهدين، ذهب إلى اعتباره قضاء وفتيا جمهور الفقهاء واعتبروه أصلا من أصول التشريع الإسلامي وأكثر ما نجد ذلك عند الأحناف والمالكية والحنابلة.

(1) محمد جعيط: منهج التحقيق التوضيح لحل غوامض التنقيح 2/ 53 –54

(2)

محمد جعيط: منهج التحقيق التوضيح لحل غوامض التنقيح 2/ 54

(3)

نور الإسلام مج1: ع 7/ 535- 1349هـ.

ص: 1776

هذا والعلاقة بين الشريعة وبين العرف تبدو كالتالي:

إقرار الكثير من أعراف الجاهلية في شبه الجزيرة بعد إضفاء الصبغة الإسلامية على تلك الأعراف كالقسامة والدية على العاقلة والقراض والرهن والإجارة والسلم.

ما ألغته لأنه شر وفساد كالخمر والأنصاب والأزلام والميسر ووأد البنات.

وقد وقف الموقف نفسه فقهاء الفاتحين في عهد الفتوحات الإسلامية.

الأحكام المأخوذة بطريق الأعراف تدور معها وجودا وعدما كالنقود في المعاملات والعيوب في الأعراض في البياعات ونحو ذلك فلو تغيرت العادة في النقد والسكة إلى سكة أخرى لحمل الثمن في البيع عند الإطلاق على السكة التي تجددت العادة بها دون ما قبلها، وكذلك إذا كان الشيء عيبا في الثياب عادة رددنا به المبيع فإذا تغيرت العادة وصار ذلك المكروه محبوبا موجبا لزيادة الثمن لم ترد به، وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام المترتبة على العوائد، وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه بل قد يقع الخلاف في تحقيقه هل وجد أم لا؟ هذا ما قرر معناه شهاب الدين القرافي (1) ولذلك أوصى المفتين قائلا:(إذا جاء رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تُجْرِهِ على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده وأجره عليه وأفته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضيين) . (2) .

لكن هنالك أعراف فاسدة في معاملات الناس فهل تقع مراعاتها أو لا تقع؟

يقول محمد الخضر حسين نقلا عن ابن الفرس (وإذا تنازعا في بيع أو إجارة وادعى أحدهما الصحة والآخر الفساد وكان الفساد الذي ادعاه جاريا بين الناس فالمشهور أن القول قول مدعي الصحة) .

(1) الفروق 1/ 223

(2)

الفروق 1/ 224

ص: 1777

ومن أصحاب مالك من يقول: (القول لمدعي الفساد، وتفسخ المعاملة لأنهم يرون أي الفريق الأول في العرف الفاسد غلبة معنى على الناس يستلزم غلبة الظن بصدق من اقترن هذا المعنى بدعواه)(1) .

وبرغم مراعاة الشريعة للعرف في إطار ما سبق يجب أن يعلم أنه لا يجوز في مجالي القضاء والفتيا اعتماد أعراف تخالف أصلا من أصول الشريعة الإسلامية، قال العلامة أبو عبد الله بن شعيب من علماء أفريقية في القرن الثامن الهجري:(وغلبة الفساد إنما هي من إهمال حملة الشريعة ولو أنهم نقضوا عقود الفساد لم يستمر الناس على الفساد) . وقال عماد الفتوى في عصره الشيخ سيدي إبراهيم الرياحي – رحمه الله – (والعرف المعتبر هو ما يخصص العام ويقيد المطلق، وأما عرف يبطل الواجب ويبيح الحرام فلا يقول به أحد من أهل الإسلام)(2) فإذا اعتمد فقيه في قضاء أو فتوى عرفا مخالفا لأصول شريعة الإسلام فقد جاء أمرا إدًّا إلا أن تدعو لذلك ضرورة.

وقد خرج سماحة الأستاذ الإمام محمد الطاهر بن عاشور – رحمه الله – الفتوى بجواز الخلوات على أنها ضرورة عامة مؤقتة (3) وسيأتي تفصيل ذلك في محله من هذا البحث.

1-

الخلوات ذات البدل هي المدروسة في هذا البحث سواء أدفع البدل المالي إلى المالك أو ناظر الوقف أو مستحقه أو قام المستأجر بالعمارة مقابل امتلاكه للخلو، أو تخلى المستأجر لمستأجر آخر عن الخلو ببدل كما سيأتي بيان ذلك عندما أعرض لفتوى ناصر الدين اللقاني وأحمد السنهوري، أو لما جاء في رسالة البدر القرافي (الدرة المنيفة) من المالكية أو لفتوى العلامة ابن نجيم من الحنفية وغيرهم.

هذا ما يتعلق بالتمهيد.

(1) نور الإسلام مج1 ع 7/ 537- 1349هـ

(2)

نور الإسلام مج1 ع: 7/ 539- 1349هـ

(3)

مقاصد الشريعة الإسلامية 133- 234

ص: 1778

وأما المباحث:

1-

تعريفه لغة واصطلاحا:

أما لغة فالخلو بالمعنى المبحوث هنا كلمة مولدة، ولعلها تكون مأخوذة من قول العرب أخليت المكان جعلته خاليا، ووجدته كذلك. ويجمع على: خلوات بفتحات، وما ذكرته لم أجده في الصحاح والأساس والقاموس واللسان والمصباح وغيرها من المعاجم المشهورة ولا في شفاء الغليل للخفاجي الذي يعني بالكلمات المولدة والدخيلة فحسب، كما لم أجد ضبطا دقيقا للمفرد، وإنما استخلصت هذا المعنى الذي ذكرت من كون صاحب الخلو عندما يدفع النقود لمستحق الرقبة من الملاك، أو مستحق المنفعة من الموقوف عليهم أو من يتولى شؤون الوقف من النظار يفعل ذلك مقابل أن تخلى الرقبة له ليتمكن من امتلاك منفعتها.

وأما في الاصطلاح فقد عرفه أبو الإرشاد على الأجهوري – رحمه الله – بقوله: (اسم لما يملكه دافع الدراهم من المنفعة التي دفع الدراهم في مقابلتها) .

2-

المبحث الثاني: أصل ملك الخلو:

يرجع ملك الخلو إلى أصلين:

أ - ملك الهواء.

ب - إجارة الأرض.

ص: 1779

أما ملك الهواء فجائز قال الشهاب القرافي – رحمه الله –: قد نص أصحابنا على بيع الهواء لمن ينتفع به

لأن الناس شأنهم الاستشراف والنظر إلى المواضع البعيدة من الأنهار ومواضع الفرح والتنزه والاحتجاب عن غيرهم بعلو بنائهم وغير ذلك من المقاصد

وحكم الأهوية تابع لحكم الأبنية، فهواء الملك ملك وهواء الوقف وقف، وهواء المسجد مسجد (1) .

وإلى جواز بيع الأهوية أشار ابن عاصم في تحفة الحكام بقوله:

وجائز أن يشتري الهواء لأن يقام معه البناء (2) .

قال شارحها العلامة التسولي: أي يجوز شراء عشرة أذرع مثلا من هواء فوق سقف بيت موجود لأجل أن يقيم المشتري في ذلك الهواء بناء موصوفا.. وكذا يجوز شراء هواء فوق هواء كشراء عشرة أذرع مثلا فوق عشرة أذرع يبنيها البائع إذا وصف البناء الأسفل والأعلى في هذه لرغبة صاحب الأعلى في وثاقة بناء الأسفل ورغبة صاحب الأسفل في خفة بناء الأعلى، ويملك صاحب الأعلى ما فوقه من الهواء في الصورتين، ولكن لا يبني فيه إلا برضا صاحب الأسفل وهذا يفيد أن من ملك أرضا يملك هواءها إلى ما لا نهاية له، ولهذا جاز بيعه، وكذا يملك باطنها على المعتمد (3) .

(1) الفروق 4/ 19 – 20

(2)

64

(3)

البهجة على شرح التحفة 2/ 14

ص: 1780

ويبدو أن مدار جواز بيع الهواء قائم على انتفاء الغرر والجهالة.

هذا وقد أشار الشهاب القرافي – رحمة الله عليه – إلى جريان الخلاف في هذه المسألة، ولكنه دعم القول بعدم ملكية صاحب الأرض لما في تخومها قائلا:(وسر الفرق بين القاعدتين أن الناس شأنهم توفر دواعيهم على العلو في الأبنية للاستشراف والنظر إلى المواضع البعيدة من الأنهار ومواضع الفرح والتنزه والاحتجاب عن غيرهم يعلو بنائهم وغير ذلك من المقاصد، ولا تتوفر دواعيهم في بطن الأرض على أكثر مما يستمسك به البناء من الأساسات، ولو كان البناء على جبل أو أرض صلبة استغنوا عنه، والشرع له قاعدة وهو أنه إنما يملك لأجل الحاجة وما لا حاجة فيه لا يشرع فيه الملك فلذلك لم يملك ما تحت الأبنية من تخوم الأرض بخلاف الهواء إلى عنان السماء فهذا هو الفرق والمساجد والكعبة لما كانت بيوتا كانت المقاصد فيها لمن يدخلها متعلقة بهوائها دون ما تحت بنائها كالمملوكات)(1) .

لكن ابن الشاط لم يسلم ما قاله القرافي قائلا: (ما قاله من أنه لا تتوفر الدواعي في بطن الأرض على أكثر مما يتمسك به البناء من الأساسات ليس بصحيح، كيف وقد توفرت عليه دواعي كثير من الناس كحفر الأرض للحبوب والمصانع والآبار العميقة، هذه غفلة منه شديدة والذي يقتضيه النظر الصحيح أن حكم ما تحت الأبنية كحكم الأهوية، ومما يدل على ذلك أن من أراد أن يحفر مطمورة تحت ملك غيره يتوصل إليها من ملك نفسه يمنع من ذلك بلا ريب ولا خلاف، فلو كان ما تحت الأبنية ليس له حكم الأبنية، بل هو باق على حكم قبوله للأحياء لما منع من ذلك، والله أعلم.) .

(1) الفروق 4/ 20

ص: 1781

وأما ما قاله: (والشرع له قاعدة وهو أنه إنما يملك لأجل الحاجة وما لا حاجة فيه لا يشرع فيه الملك فلذلك لم يملك ما تحت الأبنية من تخوم الأرض بخلاف الهواء إلى عنان السماء) فقد أجاب عنه بقوله: (إذا كانت القاعدة الشرعية أن لا يملك إلا ما فيه الحاجة وأي حاجة في البلوغ إلى عنان السماء. وإذا كانت القاعدة أنه يملك ما فيه الحاجة فما المانع من ملك ما تحت البناء لحفر بئر يعمقها حافرها ما شاء، فما ذكر من سر الفرق لم يظهر وبقى سرا كما كان، فالصحيح أنه لا فرق بين الأمرين ومن الدليل على ذلك ما هو معلوم لا شك فيه من أن من ملك موضعا له أن يبني فيه ويرفع فيه البناء ما شاء ما لم يضر بغيره وأن له أن يحفر فيه ما شاء ويعمق ما شاء ما لم يضر بغيره)(1) .

وبما قاله الشهاب القرافي وتعقبه محشيه ابن الشاط نستخلص أن صاحب الأرض يملك عمقها وهواءها بلا حدود ما لم يضر بالغير.

وأما إجارة الأرض فلا إشكال في كونها أصلا لملكية الخلوات، وإنما الإشكال قائم على أن الخلوات كراء على التبقية كما جرى بذلك عرف أهل القرون الأخيرة وانعقدت عليه ضمائرهم، والأصل في الكراء أن يكون لمدة محدودة بعوض معين ينتهي الكراء بانتهائها.

(1) إدرار الشروق على أنواء الفروق 4/ 20

ص: 1782

والخلوات هذه لا يخلو حال ملكيتها من أن تكون ناشئة عن وقف أو عن ملك. فإذا كانت ناشئة عن وقف فلا يخلو حال الوقف من أن يكون أرضا أو دورا وما شاكلها.

فإذا كان الوقف أرضا فلا يخلو الحال من أن يكون وقفا على معينين كهذه الأرض حبس على أبناء صالح، أو على غير معينين كهذه الأرض حبس على الفقراء والمساكين أو على مرضى المستشفى كذا.

والأرض الموقوفة على معينين للناظر كراؤها لغير من مرجعها له السنة والسنتين لا أكثر في رواية ابن القاسم (1) . قال خليل: (وأكرى ناظره إن كان على معين كالسنتين)(2) .والكاف في كالسنتين ينبغي إسقاطها، أو اعتبارها استقصائية، وظاهر قول خليل كالسنتين سواء كان الكراء بالنقد، أو بغيره مما لا تخرجه الأرض، لكن إذا كان الكراء بغير النقد كأقمشة أو مواعين فباتفاق، وإذا كان الكراء بالنقد فعلى أحد القولين.

ولو كان الكراء لأكثر من سنتين لا يجوز كراؤه بنقد ولا بغيره لكن به اتفاق وبغيره على أحد القولين؛ لأن ما زاد على السنتين بعيد وشملت قوله خليل الأقسام الأربعة التي ذكرها العلامة ابن رشد.

وأما إذا كانت الأرض أي الزراعية الموقوفة على غير معينين كأرض حبس على الفقراء أو على مستشفى كذا أو على قنطرة، أو مسجد فإنه يجوز كراؤها لمدة طويلة، واستحسن قضاة قرطبة على ما حكى المواق كونه لأربعة أعوام، خوف اندراسه بطول مكثه بيد مكترية ونقل ابن مزين (أن عمل قضاة قرطبة جرى على كرائها خمس سنين، قال العدوي: (ومن المعلوم أن ما يقوله المواق مقدم على غيره) .

وكلام خليل السالف الذكر يتسنى حمله على الدور الموقوفة أيضا وهو ما يبدو من كلام المواق والخرشي في صغيره (3) . وحمله غيرهما كالدردير على الأرض التي للزراعة وأما الدور فلا يجوز كراؤها أكثر من سنة ونصه: (والعام لا أكثر إن كان دارا)(4) على معينين أو على غير معينين.

(1) انظر حاشية العدوي على صغير الخرشي 7/ 99

(2)

المختصر: 249

(3)

انظر حاشية العدوي على صغير الخرشي 7/ 100

(4)

الشرح الكبير 4/ 96

ص: 1783

وهذا كله – كما أسلفت – إذا كان المكري له ليس مرجعا سواء كان المرجع بتحبيس عليه أو ملك على ما استظهره الزرقاني وسلمه البناني (1) وأما إذا كان مرجعا فيجوز له أن يكري الأرض الزراعية أو الدور من باب لا فرق، عشر سنين. وقال ابن رشد: قال عبد الملك: وقد أكرى مالك منزله عشر سنين وهو صدقة على هذا الحال، وكان المرجع فيها له (2) . وإلى هذه المسألة أشار خليل بقوله:(ولمن مرجعها له كالعشر)(3) . وقيد بعض شيوخ المالكية قول خليل هذا بقيد أن يكون مرجعا بلا واسطة ومثال ذلك حبس على زيد دارا ثم على عمرو فإنه يجوز لعمرو أن يكتري الدار عشرة أعوام، أما إذا كان لا ينتقل إليه إلا بواسطة له فعلَّة المنع موجودة.

ولا بد هنا من بيان أن المراد بالناظر الناظر الموقوف عليه، وهو الذي عناه خليل بقوله:(وأكرى ناظره) إلخ

وأما غير الموقوف عليه من النظار فيجوز له أن يكون لأزيد من ذلك؛ لأن الناظر الموقوف عليه بموته تنفسخ الإجارة وفي ذلك الغرر والجهالة، والناظر غير الموقوف عليه لا تنفسخ الإجارة بموته وبذلك يخف أمر الجهالة والغرر

هذا وما سلف من تفصيل في كراء الوقف مشروط بشرطين:

1-

أن لا يشترط الواقف مدة معينة وإلا عمل بها للقاعدة: إن شرط الواقف كلفظ الشارع إن جاز وأمكن وإليها أشار خليل بقوله: (واتبع شرطه إن جاز) وأشار إليها ابن عاصم بقوله:

وكل ما يشترط المحبس من سائغ شرعا عليه الحبس

(1) شرحه على مختصر خليل مع حاشية البناني: 7 عليه 7/ 92

(2)

حاشية العدوي على صغير الخرشي 7/ 100

(3)

المختصر 249

ص: 1784

2-

أن لا تدعو الضرورة لأكثر من المدد المذكورة لأجل مصلحة الوقف، وأما إذا دعت الضرورة لذلك تجووزت المدد المذكورة كما وقع في زمن القاضي ابن باديس بالقيروان أن دارا حبسا على الفقراء خربت ولم يوجد ما تصلح به فأفتى بأنها تكرى السنين الكثيرة كيف تيسر بشرط إصلاحها من كرائها، وأبى أن يسمح ببيعها وهو المعول عليه (1) ، وجرى ببطليوس اكتراء أرض محبسة خمسين عاما وقام المحبس عليهم بعد سبع سنين على الغارس لفسخ الكراء فامتنع المكتري وهو أبو شاكر أحد فقهاء البلد، وحكي عن المنصور بن أبي عامر أنه اكترى موضعا حبسا إلى سبعين عاما. قال البرزلي: الواقع عندنا اليوم بتونس. مما جرت به العادة في أحباس قرطاجنة بقاء المدة أربعين سنة، ورأيت كذا في قاعة دار خمسين سنة وهذا نحو ما وقع لأبي شاكر ومنصور بن أبي عامر ولعلهم لم يجدوا من يقبلها إلا على هذه الهيئة فاغتفروا ذلك للضرورة كالتزام الجزاء على أرض الجزاء أبدا لضرورة حاجة بيت مال المسلمين وإن كان عن ثمن الأرض لكونه تابعا لأصل جائز للضرورة والله أعلم (2) .

وفي هذه الحالة أي حالة الاضطرار إلى كراء الوقف مدة طويلة يقول الحطاب الابن: (إن الواقف إذا شرط أن لا يؤجر الوقف أكثر من سنة مثلا وخرب الوقف ولم يوجد ما يصلح به وأراد الناظر أو المستحق للوقف إجارته السنين بمقدار ما يعمره به هل يمنع من ذلك ويتبع شرط الواقف ولا يؤجر أكثر مما شرطه أو لا يتبع شرطه ويؤجر من السنين بما يعمر به لأن شرطه يؤدي إلى إبطال أصل الوقف؟ ويكون حكم هذه المسألة حكم ما إذا شرط الواقف أن يبدأ من غلته بمنافع أهله ويترك إصلاح ما ينهدم منه لأنه لا يتبع شرطه كما نصوا على ذلك وعللوا ذلك بأنه يؤدي إلى بطلان أصل الوقف وما كان كذلك من الشروط لا يوفي به. قال ابن الحاجب: ويبدأ بإصلاحه ونفقته ولو شرط خلافه لم يقبل، وقال الشيخ في توضيحه أي ويبدأ الناظر بإصلاحه إن كان عقارا وبنفقته إن كان حيوانا لأن الغرض من الوقف دوام المنفعة)(3) .

هذا كله إذا كان الخلو ناشئا عن وقف.

(1) الخرشي: صغيره على مختصر خليل 7/ 100

(2)

راجع فتح العلي المالك للشيخ عليش 2/ 240

(3)

الحطاب: رسالته في بيع الوقف إذا خرب 27 – 28

ص: 1785

وأما إذا كان ناشئا عن ملك فلقد نقل المواق عند قول خليل: (والنقد فيه إن لم يتغير غالبا) ، عن ابن شاس (له أن يكري الدار إلى حد لا تتغير فيه غالبا وينقد فأما ما لا يؤمن تغيرها فيه لطول المدة أو لضعف البناء وشبه ذلك فيجوز العقد دون النقد ما لم يغلب على الظن أنها لا تبقى إلى المدة المعينة فلا يجوز كراؤها إليها)(1) وقال مالك (لا بأس أن يستأجر مسيلا يجري الماء فيه إلى داره السنة والسنين الكثيرة أو للأبد)، قال ناصر الدين اللقاني: وهو نص على جواز الإجارة أبدا فيما يؤمن فيه التغير وهو الأرض، وقال أبو الإرشاد على الأجهوري: وهذا يقتضي أن هذا يجري في الأرض المحبسة والمملوكة (2) .

بعد هذا العرض لاجتهادات فقهاء المالكية في ركني ملكية الخلوات: ملكية الهواء وإجارة الأرض أو بعبارة أدق مدة إجارة الأرض نلاحظ ما يلي:

1-

ليس هناك نصوص من كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحسم في جواز ملكية الهواء أو في تحديد مدة الإجارة وإنما هي اجتهادات للفقهاء تخضع للأعراف إذا أمن التغير وانتفت الجهالة وكانت في ذلك مصلحة.

2-

أن الخلوات امتداد للقول بجواز الإجارة الأبدية. وهو ما أفاده قول مالك السالف لا بأس أن يستأجر مسيلا يجري الماء فيه إلى داره السنة والسنتين الكثيرة أو للأبد، وهو كما قال ناصر الدين اللقاني نص على جواز الإجارة أبدا فيما يؤمن فيه التغير وهو الأرض، سواء في الأرض المحبسة أو المملوكة كما أفاد ذلك نور الملة والدين على الأجهوري (3) .

(1) التاج والإكليل: 5/ 408- 4

(2)

السنوسي الحفيد: مطلع الدراري 129- 130

(3)

السنوسي الحفيد: مطلع الدراري 130

ص: 1786

3-

نلاحظ أثر العادة والعرف جليا في اجتهادات الفقهاء في مدة إجارة الأرض والدار. وقديما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور) . وقعد الفقهاء قاعدة وهي: العادة مُحَكَّمَةٌ كما سيظهر ذلك جليا في محله من هذا البحث.

3-

المبحث الثالث: أنواع الخلوات:

تعددت الخلوات وتنوعت في المجتمع الإسلامي حصيلة لظروف متقاربة غالبا واختلفت أسماؤها والمسمى واحد غالبا وأهمها على حسب ما في فقه المتأخرين من المالكية ما يلي:

1-

خلو الحوانيت: هو على ما يبدو لي من أوائل الخلوات خلا الأحكار المؤبدة وهو عبارة على أن يتسلم الإنسان من مالك، أو ناظر وقف، أو مستحقه دارا أو حانوتا، أو مستودعا أو ما شاكل ذلك ويضع فيه لوازم صناعته أو تجارته، ولا مفهوم للحوانيت لأن المسألة مبنية على العرف وهو جار في الحوانيت والأرحبة وبيوت الفنادق ونحو ذلك على أن يدفع له عوضا معجلا ويلتزم له بقدر من الكراء سنوي أو شهري وبتصرف بعد ذلك في منفعته بشتى وجوه التصرف من كراء وهبة وإعارة ونحو ذلك فلا يبقى لصاحب الحانوت أو الدار من منفعتهما إلا بمقدار ذلك الكراء السنوي أو الشهري وما زاد على ذلك فهو ملك لدافع العوض أبدا.

ص: 1787

فهذه المنفعة التي تقابلها الزيادة عن الأجرة الأصلية هي المسماة بخلو الحوانيت في مصر أو بالمفتاح في تونس لأن مالك المنفعة استقل بملكية مفتاح التصرف المفتاح عند فقهاء المالكية يعتبر كاعتبار العين، وقد قرر الفقهاء في بابي الوقف والبيع أن تسلم المرء للمفتاح يعتبر تسلما لعين العقار الذي يفتح به وحوزا له ويسمى في المغرب الأقصى بشراء المفتاح قال حافظ المذهب المالكي في زمنه الشيخ سيدي محمد المهدي الوزاني الشريف ناقلا عن الفقيه محمد بن أحمد التماق في تأليفه الذي سماه (إزالة الدلسة عن وجه الجلسة) ما نصه:(سمعنا عن بعض الأسواق المغبوطة في هذه الأزمنة كالقيسارية والعطارين أن من تكون بيده الحانوت يبتغي أن يعطيه الداخل له برضاه ما يتفقان عليه فيما بينهما ليرفع له يده عنها ويسمون ذلك شراء المفتاح من الساكن ولا مدخل في ذلك لذي الأصل الذي عقده أولا للساكن أو ذي المنفعة)(1) .

ومن خلو المفتاح ما عرف عندنا في تونس بخلو الحزقة في الدور التي يعمرها اليهود من أهل الذمة.

وسبب ذلك على ما يذكر الشيخ أحمد بن أبي الضياف في الإتحاف (2) أن أبا محمد حمودة باشا الحسيني – رحمه الله – أوائل دولته (تاريخ ولايته 1196هـ) منع اليهود من شراء الريع والعقار لسياسة ظهرت له وقتئذ حتى غلت أكرية دورهم وتضايقوا بسبب ذلك في السكنى كما حدد لهم حارات خاصة بسكناهم على وجه الكراء فتضايقوا شديد الضيق وتنافسوا في الكراء بما يتجاوز كراء مثل تلك الدور بأضعاف الأضعاف وشكوا الأمر لأحبارهم فخرجوا بقرار جماعي مفاده أن الدار إذا اكتراها أحدهم وأسرج فيها قنديله فقد حزق عليها واختص بسكناها بقدر كرائه ولا يتسنى لأي يهودي آخر أن يزيد عليه ولصاحب الحزقة من اليهود أن يتنازل عن حزقته إلى يهودي آخر مقابل دراهم يدفعها له على حسب قرار أحبارهم وإنما مملك هاته المنفعة التي أطلق عليها اسم الحزقة مقابل التزامه بدفع قدر من الدراهم للمالك بمجرد دخول الدار وإنارة القنديل فيها، وأصبح هذا الأمر شائعا في تونس وتقليدا راسخا (3) وهو لا يختلف عما يعرف بخلو الحوانيت في مصر أو المفتاح في تونس، أو شراء المفتاح في المغرب الأقصى.

(1) النوازل أو المعيار الجديد 4/ 17

(2)

5/ 260

(3)

محمد السنوسي الحفيد مطلب الدراري 161 – 162

ص: 1788

وهناك نوع آخر من خلو الحزقة هو من باب ما عرف عندنا في تونس بخلو النصبة سأعرض إليه عند بحث هذا النوع من الخلوات وكلا الضربين كراء على التبقية وامتلاك للمنفعة والحزقة بضربيها قد زالت من المعاملات التونسية على عهد محمد باشا بأي تونس ومنعت منعا باتا ولم يبق العمل جاريا بها إلا فيما يخص الأملاك القديمة وذلك عند صدور أمر الباي المذكور في 5 صفر 1275هـ الموافق لـ 14سبتمبر 1858م والقاضي تسريح اليهود لشراء ما يملك من الريع والعقار وغير ذلك لأن هذا الباي هو صاحب عهد الأمان الذي تنص مادته الثالثة على التسوية بين المسلم وغيره من سكان المملكة التونسية في استحقاق الإنصاف لأن استحقاقه لذلك بوصف الإنسانية لا بغيره من الأوصاف (1) .

2-

خلو الجلسة: وهو على حد قول العلامة أبي الفداء إسماعيل التميمي رحمه الله عليه – أصله ومبدأه أن يكري المرء حانوتا أو رحى أو ما أشبه ذلك من رباع الغلة مشاهرة أو مساناة أو وجيبة لمدة معينة وينصب فيها مواعين صناعته وما تحتاج إليه حرفته وتجارته ويستمر على ذلك لعدم من يزيد عليه في الكراء أو لعدم احتياج أرباب الحوانيت إليها فلا يخرجونه لكونها معدة للكراء فتعرف تلك الحانوت بإضافتها إلى معمرها وتصير له يد فيها، يقدم بها على غيره فإذا بدا له الخروج منها تخلى عنها لغيره وأخذ منه بدلا على ذلك وقام هذا الغير مقامه وفشا ذلك وأصبح عرفا شائعا فمن أكرى ربعا مقصودا به الغلة كان كراؤه على التبقية فهذه المنفعة التي يستحقها هذا المكتري بالسبق والتقدم هي المسماة عند المغاربة بالجلسة وتسمى أيضا خلوا.

وخلو الجلسة هو المتعارف عند المغاربة وعليه تكلم فقهاؤهم ووردت فيه فتاويهم وهو كراء أبدي وإن حد بمدة فإن ذلك غير مقصود لانعقاد الضمائر على خلافه (2) .

(1) أحمد بن أبي الضياف: الإتحاف 4/ 289

(2)

إسماعيل التميمي: رسالة في الخلو ووجوهه عند المصريين والمغاربة والتونسيين: 3

ص: 1789

3-

خلو النصبة: وينشأ عن وضع المكتري الآته وموازينه مما تقع به عمارة المحل المكتري وتبقى به يد المكترى بالكراء الدائم وقد عرف هذا النمط من الخلوات بتونس.

وتسمى هذه العمارة في مثل حوانيت العطارين بتونس نصبة وفي مثل حوانيت السوقة: باعة الزيت والخبز وديار الصابون (راغلة) وفي مثل الطواحين (عدة) وتعددت الأسماء والمسمى واحد (1) .

وسبب نشوء خلو النصبة يعرض إليه العلامة محمد السنوسي الحفيد من فقهاء جامع الزيتونة الأعظم في كتابه (مطلع الدراراي) فيقول: والأصل فيه أن غرباء الوافدين على البلاد من الترك كانوا إذا اكترى أحدهم حانوتا بغير عمارة وأنفق عليه ما يحتاجه من الخزائن وآلة الصناعة والموازين وأراد المالك أو ناظر الأوقاف إخراجه بعد انقضاء أمد الكراء تشكى من خسارة ما استكمل به عمارة المحل وحيث إن المالكين وناظري الأوقاف لم يجعلوا لحوانيتهم ما يلزم للصناعة المعد لها الحانوت مع كونهم أكروه لتلك الصنائع وتحمل المكترون مصاريف ذلك وقع الحكم بأن المكتري إذا كان على تلك الصفة ووضع ما يلزم من العمارة بإذن المالك فلا يصح إخراجه إلا أن يقبل المالك تلك الموضوعات بدون خسارة وإلا فيبقى المكتري بكرائه متمتعا بخلوه ولما يجحف بالمالكين من تعويض مصاريف الموضوعات اضطروا لإبقائهم فتصرف المكترون بأنفسهم وأكروا لغيرهم وباعوا مكانهم عل أن لا يأخذ المالك إلا مقدار الكراء وما زاد عليه يبقى لصاحب العمارة وبتطاول الأعصار وارتفاع الأسعار جرى عمل البلاد على ذلك وتقررت به أملاك لها بال في سائر أنحاء المملكة التونسية حيث تعتبر فيه التبقية.

(1) إسماعيل التميمي: رسالة في الخلو ووجوهه عند المصريين والمغاربة والتونسيين: 3

ص: 1790

وقد أبطلت الدولة التونسية خلو النصبة منذ 1295 تقريبا مستقبلا وألزمت المتعاقدين بما يتراضيان عليه عند العقد وبقيت النصبات القديمة على ما هي عليه يتصرف أصحابها في خلوها بسائر وجوه التصرف. مقتصرين على دفع الكراء على أصله ومن هنا يتضح ما قلته في مبحث أصل ملك الخلوات فالمكتري بدفعه الكراء يعترف للمالك الأصلي بملكه وإطلاق عنان التصرف يشهد لصاحب النصبة بتملك الهواء الذي هو الخلو أتم التملك.

ومن خلو النصبة كما أسلفت نمط من نمطي حزقة اليهود بتونس وهو النمط الذي لا يتسلم فيه المالك أو ناظر الوقف أو مستحقه بدلا معجلا في الحزقة وإنما يملك اليهودي الحزقة بسبب أن المالك التونسي المسلم أو ناظر الوقف أو مستحقه لا يجوز له أن يسكن بالحارات المختصة باليهود لتحجير ذلك بمقتضى أمر على من الأمير في ذلك التاريخ الذي أسلفت الكلام عليه، واليهودي الذي اكترى دارا وأسرج فيها مصباحه وشهد له بذلك أحبار اليهود امتلك حزقة الدار وبامتلاكه للحزقة يشهد على تفويتها مهرا لزوجته فلانة أو حبسا على قنديل في البيعة وحين انتهاء أمد الكراء يساوم المالك أو ناظر الوقف أو مستحقه على أن يبقى بذلك الكراء الدائمي أو يترك المحل فيضعهم أمام معضلة لا حل لها لأنهم لا يستطيعون السكنى بالدار الموجودة بحارة اليهود لاختصاص اليهود بها ولا كراءها ليهودي آخر لتحريمها على سائر اليهود بالإجماع من طرف مجلس الأحبار، ولم يبق أمامهم إلا شراء الحزقة من الزوجة أو من أحبار البيعة بما يقع عليه التراضي فيفتكون بذلك قوة صاحب الحزقة فترجع لمالك الرقبة ويتسنى له كراء الدار بأجر المثل ليهودي آخر بعد افتكاك الحزقة وبما أن مالك الرقبة أو ناظر الوقف أو مستحقه يجحف بهم أن يشتروا خلوهم مرة ثانية جنح أكثرهم إلى إبقاء الحزقة دون أخذ عوض فكانت بمنزلة خلو النصبة ولم يبق لهم من وجوه الانتفاع بالملك إلا قدر الكراء.

هذا والحزقة بنمطيها قد زالت بزاول سببها كما ذكرت آنفا (1) .

4-

الإنزال: وهو كما يقول العلامة أبو الفداء الشيخ إسماعيل التميمي: كراء الأرض على التأبيد لمن يبني بها دارا أو غيرها أو يغرس بها أشجارا بكراء شهري أو سنوي كما يذكر أن ما يسمى بالإنزال عندنا يسمى بالجزاء عند المغاربة ويقال له برطانة الأندلس (سينسو) وعند المصريين حكرا.

(1) راجع مطلع الدراراي 159 وما بعدها.

ص: 1791

وما أقيم من بناء من شجر يدعى إنقاخا (1) .

وما ذهب إليه أبو الفداء من أن الإنزال هو الحكر عند المصريين مقيد بما إذا لم يوجد ما يدل على أن ما حددت به مدة الحكر غير مراد فيتحرى الأمور حينئذ على عرف مصر من الاستمرار في الأحكار إلى الأبد. فمن احتكر بمصر أرضا مدة وانقضت تلك المدة فليس لناظر الوقف أو مستحقه إخراجه لانعقاد الضمائر على التبقية في صورة انعدام مخصص للعرف ويكون ذلك من ملك الخلو.

هذا ما نقله السنوسي الحفيد في مطلع الدراري عن كتاب الزهرات الوردية في الفتاوى الأجهورية من مسائل الإجارة لأبي الإرشاد على الأجهوري رحمه الله (2) وإلا فقد جاء في فتاوى علماء المالكية المصريين ما يفيد تحديد المدة في الأحكار ومن ذلك ما أجاب به الشيخ محمد أحمد عليش حين سئل عن أرض محبسة على الجامع الكبير بمدينة إسنا بأقصى صعيد مصر طرح الناس أتربة وأقذارا فيها حتى صارت تلا لا ينتفع في الحال فأجرها نائب القاضي تسعا وتسعون سنة لمن ينقل ما فيها من الأتربة والأقذار ويبنيها خانا كل سنة بأربعة أرطال زيت لا غير وأزال المكتري ما فيها وأصلحها فحصلت الرغبة فيها بزائد عن تلك الأجرة فهل تفسخ تلك الإجارة، ويصير الأنفع للوقف، أفيدوا الجواب.

فأجاب رحمه الله بجواب مطول يستفاد منه أن الحكر ليس دائما على التأبيد وقد أتى على كثير من النقول مما عرضت له عند كلامي على الأصل الثاني من أصلي ملك الخلوات وهو إجارة الأرض (3) .

وليس الإنزال ولا الحكر المؤبد بالأمفتيوز الروماني والذي يعني في لغة الإغريق الغرس والتلقيح، كما يطلق فيها على إقامة الرجل مكان غيره وعلى التمتع بملك الغير مع إمكان الغرس مقابل كراء لمدة أقلها عشرون سنة وأكثرها تسع وتسعون سنة..إلخ ما يتعلق به من الأحكام (4) .

(1) رسالته في الخلو ووجوهه عند المصريين والمغاربة والتونسيين 7

(2)

مطلع الدراري 153.

(3)

راجع فتح العلي المالك له 2/239 وما بعدها

(4)

محمد السنوسي الحفيد: مطلع الدراري 152- 153

ص: 1792

ولكن العالم الفرنسي بسكال يقول عن الإنزال أنه بمثابة أمفتيوز مؤبد (1) والعلامة عبد الرزاق السنهوري يقول عن أحكار مصر أنها عقود تأثرت بأحكام عقد الأمفتيوز الروماني (2) .

ولا يتسنى بحال قبول قول بسكال الذي قاله في الإنزال لقيامه على استمرارية الكراء ودوامها، وأما ما قاله عبد الرزاق السنهوري فإنه يصدق بالأحكار غير المؤبدة وهي التي أقرها القانون المدني المصري فبينها وبين الأمفتيوز شبه قوي.

هذا والأصل في الإنزال جريانه في أرض الوقف بعد شهادة العرفاء المشهود لهم بذلك عرفا أن ذلك أصلح لأرض الوقف التي خربت وانعدم نفعها وأن إنزالها بكراء ثابت انفع لجانب الوقف وأن العمارة الدائمة خير من الزراعة في أرض البور ويقدرون قيمة الكراء لكل مرجع أو هكتار ويشهدون على انتفاء الغبن بعد ضبط حدودها وما يرجع إليها فإذا وقع استيفاء ذلك فالقاضي أو نائبه يبرم عقد الإنزال ويمضيه هذا ما جرى به عمل أهل تونس في الإنزالات وإلى ذلك يشير محمد السنوسي الجد في نظمه لقط الدرر بقوله:

وأن ترد إنزال أرض الوقف فسق إليها عرفاء العرف

ليشهدوا بأن ذاك أحظى وفيه رغبة لوقف ترضى

وإن ثابت الكراء أولى إذ لا يبور أشهرا أو حولا

وإن فيما دام في العمارة خيرا من الزراعة البوارة

وشهدوا بأن قيمة الكرا لكل مرجع كذا مقدرا

والغبن منتف بها والحد وكيلها يضبطها والعد

حتى إذا استكملها فالقاضي يعقد أو من ناب وهو ماضي

ويبدو من كلام صاحب لقط الدرر أن صحة الإنزال تتوقف على إذن القاضي لكن عماد الفتوى في عصره الشيخ سيدي إبراهيم الرياحي – رحمه الله – ينفي ذلك وهذا ما قاله صاحب لقط الدرر.

عقد بيع الخلو والإنزال بإذن قاض ماله إهمال

(3)

.

والذي لا يجوز إهماله بحال هو الواجب أو الشرط.

(1) محمد السنوسي الحفيد: مطلع الدراري 153

(2)

الوسيط في شرح القانون المدني 6/1438

(3)

مختارات من لفظ الدرر ضمن مجموع: 5

ص: 1793

وجاء في فتوى للشيخ سيدي إبراهيم الرياحي ما يلي: وأما اشتراط إذن القاضي فلم أر من ذكره على أنه شرط في صحة الإنزال لا في الحبس ولا في غيره وإنما ذكروه في رفع الغبن عن الإنزال في الأحباس خاصة لا في أصل عقده (1) .

ومجال جريان الإنزال في الأراضي الفارغة من الأشجار أي البيضاء وأما الأراضي المشتملة على أشجار فلا يتسنى تنزيلها إلا إذا توفرت الشروط الآتية:

1-

أن يكون الكراء وجيبة.

2-

أن يكون الشجر طيب الثمرة أثناء مدة الكراء.

3-

أن تكون قيمة الثمر الثلث فأقل.

4-

أن يكون اشتراط دخولها لأجل دفع الضرر،

وهذه الشروط هي التي تشترط في دخول الأشجار في الأرض المكتراة بصورة عامة قال خليل: (واغتفر ما في الأرض ما لم يزد على الثلث بالتقويم) قال الزرقاني في شرحه عليه (واغتفر اشتراط ما في الأرض المكتراة وجيبة من شجر فيه ثمر وكذا دار ما لم يزد على الثلث ويعتبر الثلث بالتقويم بأن يقال: ما قيمة كراء الأرض أو الدار بلا ثمر مثمر؟ فيقال: عشرة مثلا وما قيمة الثمرة منفردة بلا أرض بعد إسقاط الكلفة؟ فيقال: خمسة أو أقل. فإنما ينظر لذلك بالتقويم أي لا بما استؤجرت العين به لأنه قد يزيد على القيمة ولا بد أن يكون طيب الثمرة في مدة الكراء وأن يكون اشتراطها لدفع ضرر فإن زاد على الثلث بعد إسقاط الكلفة لم يغتفر اشتراطه ولو شرط منه قدر الثلث أو أقل على المشهور، وقدرنا اشتراطه لأنه لا يدخل الثلث فما دونه إلا به كما في المدونة)(2) .

(1) مختارات من لفظ الدرر ضمن مجموع: 3

(2)

7/23

ص: 1794

واعتبر الثلث قليلا لما ذكره ابن رشد في المقدمات من كتاب الحوائج فقال: مذهب مالك أن كل ما يجب به اعتبار القليل من الكثير فالثلث في حد اليسير إلا ثلاثة، الجوائح، ومعاقلة المرأة الرجل، وما تحمله العاقلة من الدية. قال ابن غازي في التكميل ويجمع الثلاثة للحفظ أن تقول:

الثلث نزر في سوى المعاقلة ثم الجوائح وحمل العاقلة

(1)

.

هذا وبعد عرضي لأهم أنواع الخلوات التي عرض لها فقهاء مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس – رضي الله عنه – رأيت من المفيد ذكر الفروق بينها لما يحصل من معرفة الفروق بين الفروع من الفقه لها أتم من الفقه فأقول. ومن الله استمد بلوغ المأمول:

(1) البناني: حاشيته على شرح الزرقاني 7/23

ص: 1795

إن أهم ما وقع التعرض له في المبحث السابق من أنواع الخلوات أربعة على اختلاف الاصطلاح:

1-

خلو الحوانيت كما هي التسمية المصرية، والمفتاح أو أحد نمطي الحزقة في الدور التي يعمرها اليهود كما هي التسمية التونسية، أو شراء المفتاح كما تعارف ذلك في المغرب الأقصى.

2-

خلو النصبة كما هي التسمية في تونس ومنه أيضا أحد نمطي الحزقة في تونس ولعله المقصود بكلمة زينة الحوانيت في المغرب الأقصى.

3-

خلو الجلسة المعروف بفاس.

4-

الإنزال كما هو الاصطلاح التونسي أو الجزاء كما هو الاصطلاح المغربي، أو أحد أنواع الحكر المؤبد كما هي التسمية المصرية.

وبعد ضبط تسميات أنواع الخلوات نشرع في ذكر الفروق بينها وهي:

1-

الفرق بين خلو الحوانيت وبين خلو الجلسة: إن صاحب خلو الحوانيت شريك، وصاحب خلو الجلسة كار على التبقية فهما مختلفان شكلا ونتائج، فصاحب خلو الحوانيت يلزمه إصلاح الريع عل نسبة ما يساويه خلوه، فلو كانت الرقبة قبل العمارة تكرى مساومة بدينار مثلا، وصارت بعد العمارة تكرى بثلاثة دنانير لكان مالك خلو الحوانيت شريكا بالثلثين إذا احتاجت تلك الأماكن إلى العمارة مرة ثانية، وصاحب الرقبة بالثلث ومالك خلو الجلسة يكون مجرد كار فإصلاح الريع على مالكه أو ناظر وقفه أو مستحقه وله كراء المثل فإذا بذل مالك خلو الجلسة الكراء فليس للآخر إخراجه.

ويتفق خلو الحوانيت وخلو الجلسة في استمرارية الكراء ودوامه وعدم إمكانية الزيادة على الكراء المدخول عليه ولو ارتفعت الأسعار وتبدلت الأزمان.

وبهذا البيان يظهر الفرق بين خلو الحوانيت وبين خلو الجلسة ويندفع ما يساور بعض الأذهان من اتحاد مورد فتاوى الفريقين وينزاح ما عسى أن يرد على توهم ذلك من الإشكال ويتيقن اختلاف المورد بين فتاوى المصريين وبين فتاوى المغاربة، وأن الأولى واردة على ما يزامل مورد الثانية.

ص: 1796

وهذا وجه أول من وجوه الفرق بينهما وهناك وجه ثان وهو أن خلو الجلسة المتعارف لدى المغاربة وخلو الحوانيت كما هي التسمية المصرية كلاهما الكراء فيه على التأبيد لكن التأبيد في خلو الجلسة مستفاد من العرف المنزل منزلة الشرط، وفي خلو الحوانيت مستفاد من دفع الدراهم في مقابلته ومن هنا نعلم أنه لا مانع من إلزام أجر المثل في خلو الجلسة عند تغير الأعصار وتبدل الأسعار بعد العقد وأن خلو الحوانيت لا يجوز فيه ذلك ويمنع منه إعطاء الدراهم فإنها معدودة من الكراء (1) .

ولفت نظري تردد التماق في رسالته الموسومة بـ (إزالة الدلسة عن أحكام الجلسة) إن خلو الجلسة بفاس هو خلو الحوانيت بمصر (2) وجزم المحقق البناني في حاشيته على شرح الزرقاني بذلك حيث يقول ما نصه: (وقول الزرقاني: وقد أفتى الشيخ شمس الدين إلخ بمثل ما ذكره من الفتاوى: وقعت الفتوى من شيوخ فاس المتأخرين كالشيخ القصار وابن عاشر وأبي زيد الفاسي وسيدي عبد القادر الفاسي وأضرابهم ويعبرون عن الخلو المذكور بالجلسة جرى بها العرف) الخ (3) والفرق كما ذكرت واضح وقد رد أيضا ما تردد فيه التماق وجزم به المحقق البناني العلامة محمد المهدي الوزاني – رحمه الله – حيث قال: وفيما تردد فيه التماق وجزم به بناني من أن الخلو عند أهل مصر هو الجلسة بفاس نظر، لأن الجلسة بفاس هي الكراء على التبقية، والخلو بمصر هو ما يقبضه مالك منفعة الحانوت مثلا على رفع يده عنها ولا يبقى له تصرف فيها بل يمكن مفتاحها لدافع الخلو ويصير له التصرف دونه فالخلو بمصر هو شراء المفتاح بفاس (4) .

2-

الفرق بين الجلسة بفاس وبين النصبة بتونس: أن المغاربة في خلو الجلسة داخلون على التأبيد وإن لم يشترطوه للعرف الجاري بذلك المنزل منزلة الشرط، وأن التونسيين في خلو النصبة غير داخلين على ذلك وأن الريع يكون بيد مكتريه إلى أن يزيد عليه غيره ويدل على ذلك إنهم إذا أرادوا التأبيد جعلوه خلوا (أي خلو مفتاح) وسكوتهم لمانع أو عذر، هذا ما استظهره العلامة أبو الفداء إسماعيل التميمي الذي ادعى الاجتهاد ولم ينكره عليه معاصروه بل جزم بعدم صحة خلافه (5) .

(1) إسماعيل التميمي: رسالته في الخلو ووجوهه عند المصريين والمغاربة والتونسيين ص3- 4 –5-6

(2)

محمد المهدي الزواني: نوازله 4/18

(3)

6/128

(4)

محمد المهدي الوزاني: نوازله 4/18

(5)

رسالته في الخلو ووجوهه عند المصريين والمغاربة والتونسيين: 6

ص: 1797

وقد حاول محمد بأي تونس سالفا إبطال النصبات بعاصمة تونس استنادا لكلام قاضيه أبي الفداء فلم يتيسر ذلك له لما يطرأ على ذلك من ضرر كبير على مالكي النصبات وهم جم غفير وقد قال أحمد الغرقاوي الفيومي في رسالته: تحقيق مسألة الخلو عند المالكية (باعتماد صحة القول بعدم جواز تحبيس الخلو المتأتي عن الوقف لأنه وقف ووقف الوقف لا يجوز، ولكنه مال عما اعتمده إلى القول بجواز تحبيسه لجريان العمل به كثيرا في سائر الممالك سيما في الديار المصرية فينبغي اعتماد صحته ارتكابا لأخف الضررين لما يلزم على بطلانه من ضياع أموال الناس وتفاقم الأمر بينهم وكثرة الخصام المؤدي إلى التقاطع والتدابر المنافيين لأخوة الإسلام فهذا مما عمت به البلوى فيبغي أن لا فتى به أي فيه بالبطلان)(1) .

وذلك هو سر التراجع من طرف محمد بأي فيما أبداه قاضية المذكور.

3-

الفرق بين الإنزال وخلو الحوانيت من وجوه:

أ -أن مالك خلو الحوانيت اشترى الخلو بما دفعه من الدراهم الخاصة، وبقي يدفع كراء ما زاد عليه للأرض أو البناء.

ب -أن مالك الخلو صار شريكا لمالك الأرض أو الرقبة ويصلحان معا البناء بموجب الاشتراك.

جـ- أن مالك الخلو ممنوع من تغيير هيئة الرقبة.

أما الإنزال فهو عند متأخري المالكية كراء بحت ليس فيه شراء أصلا، ومع ذلك يطلق به عنان التصرف للمستنزل وليس فيه شركة بين مالك الأرض أو الرقبة وبين المستنزل (2) .

(1) 12

(2)

محمد السنوسي الحفيد: مطلع الدراري ص158 –159 بتصرف

ص: 1798

4-

المبحث الرابع: حكم الخلوات ودليله:

من المعلوم أن مسألة الخلوات اشتهرت نسبتها إلى مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه والحال أنه ليس فيها نص عنه ولا عن أحد من تلامذته ولم يتعرض لها الأوائل من المالكية وإنما خاض فيها المتأخرون وصدرت عنهم فتاوى في أنواع الخلوات أصلها ومبناها العرف الذي هو أصل من أصول التشريع الإسلامي توسع المالكية في الاستدلال به كما عرضت لذلك في النقطة الثانية من نقاط التمهيد.

وأشهر هذه الفتاوى ما يلي:

1-

فتوى ناصر الدين اللقاني (ت935هـ) حين سئل: (ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في خلوات الحوانيت التي صارت عرفا بين الناس في هاته البلدة (القاهرة) وغيرها ووزن الناس في ذلك مالا كثيرا حتى وصل الحانوت في بعض الأسواق أربعمائة دينار ذهبا جديدا فهل إذا مات شخص وله وارث شرعي يستحق خلو حانوت مورثه عملا بعرف ما عليه الناس أم لا؟ وهل إذا مات من لا وارث له يستحق ذلك بيت المال أم لا؟ وهل إذا مات شخص وعليه دين ولم يخلف ما يفي بدينه يوفى ذلك من خلو حانوته؟ أفتونا مأجورين) .

فأجاب رحمه الله تعالى – بما نصه: (الحمد لله رب العالمين نعم إذا مات شخص وله وارث شرعي يستحق خلو حانوت مورثه عملا بعرف ما عليه الناس وإذا مات من لا وارث له يستحق ذلك بيت المال وإذا مات شخص وعليه دين ولم يخلف ما يفي بدينه فإنه يوفي من خلو حانوته. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. كتبه الفقير ناصر الدين اللقاني المالكي حامدا ومصليا)(1) .

وقد وجه أحمد الغرقاوي الفيومي المالكي فتوى العلامة مجتهد التخريج ناصر الدين اللقاني فقال: وفتواه مخرجة على النصوص وقد أجمع على العمل بها واشتهرت في المشارق والمغارب وانحط الأمر على المصير إليها وتلقيها بالقبول وهو وإن لم يستند فيها إلى نص صريح لكن العمل عليها

ولا يضر عندنا عدم استناد المفتي للنص فيما أفتى به لأنه يجوز للمفتي إذا لم يجد نصا في النازلة تخريجها على المنصوص في إطار ما اشترطه الشهاب القرافي.

(1) أحمد الغرقاوي الفيومي: رسالة في تحقيق مسألة الخلو عند المالكية: 4

ص: 1799

وقد سئل أبو الإرشاد على الأجهوري – رحمه الله – عن جواب المفتي إذا لم يكن له مستند ولا مرجع فيما أفتى به كفتوى الناصر اللقاني في مسألة صحة الخلوات وجوازها هل يكون من أحد الأدلة الشرعية حتى أنه يجوز للمفتي المالكي أن يفتي بقوله ويتخذه حجة ودليلا على جواز الخلوات وصحتها مع عدم وقوفه على نقل في ذلك من أئمة المذهب المتقدمين أم لا؟.

فأجاب رحمه الله – بما لفظه: قال الشيخ شهاب الدين القرافي: يجوز إذا لم يجد نصا في النازلة أن يخرجها على النصوص إذا كان شديد الاستحضار لقواعد مذهبه وقواعد الإجماع ونص أيضا على أنه يجوز لمن حفظ روايات المذهب وعلم مطلقها ومقيدها وعامها وخاصها وعلم أصول الفقه وكتاب القياس وأحكامه وترجيحاته وموانعه وشرائطه أن يفتي بما يخرجه على ما هو محفوظ له منها، والشيخ الإمام شيخ شيوخ عصره الشيخ ناصر الدين اللقاني ممن اتصف بالصفة التي يسوغ لمن تلبس بها الإفتاء فيما لم يكن فيه نص بالمخرج على النصوص على ما بلغنا من ثقات الشيوخ واشتهر ذلك اشتهارا لاخفاء فيه وقد أطبق من وجد بعده من العلماء فيما أعلم على متابعته فيما يفتي به مما لا يوجد فيه نص في المذهب وإن لم يظهر لهم المدرك بل ربما كان مشكلا عندهم كمسألة الخلو هذه التي بناها على العرف فإنه كثر منهم استشكالها وهي في الحقيقة مشكلة، ومع ذلك يتبعونه فيها للثقة به واعتقاد اطلاعه على ما لم يطلعوا عليه وإنه لا يقدم على ذلك من غير شيء يعتمد عليه لاسيما وقد وافقه على ذلك من هو مقدم عليه في الفقه وهو أخوه الشيخ محمد اللقاني وكان لسان حالهم يقول:

وإذا لم تر الهلال فسلم لأناس رأوه بالأبصار

وقد وقع لعلماء مذهبنا المعتمدين المعول عليهم في المذهب كالإمام ابن عرفة والبرزلي وابن ناجي وغيرهم العمل بما جرى عليه شيوخهم مما ليس بمنصوص وإن لم يتعين له مدرك كما تقدم فهذا ونحوه يفيد أنه يجوز للمفتي أن يفتي بما خرجه غيره على نصوص المذهب ممن فيه أهلية التخريج كالشيخ ناصر الدين، هذا إن لم يعرف المدرك حيث لا يخالف النص ومما يستأنس به في هذا المقام قوله عليه الصلاة والسلام ((ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن)) (1) .

(1) قال العلائي: لم أجده مرفوعا في شيء من كتب الحديث أصلا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال، وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه موقوفا عليه أخرجه الإمام أحمد في مسنده. ابن نجيم: الأشباه والنظائر: القاعدة السادسة: العادة محكمة 101

ص: 1800

وقد قال شيخ شيوخنا القرافي: (إن لشيوخ المذهب المتأخرين كأبي عبد الله بن عتاب وأبي الوليد بن رشد وأبي الأصبغ بن سهل والقاضي أبي بكر بن زرب والقاضي أبي بكر ابن العربي ونظرائهم اختيارات وتصحيحات لبعض الروايات والأقوال عدلوا فيها عن المشهور وجرى باختيارهم عمل الحكام والفتيا فيما اقتضته المصلحة وجرى به العرف والأحكام تجري مع العرف كما قاله القرافي في قواعده وابن رشيد في رحلته وغيرهما من الشيوخ)(1) .

وقد اعتمد فتوى الشيخ ناصر الدين أبو الإرشاد علي الأجهوري ومدرسته المصرية في الفقه المالكي ومن أبرز أولئك العلامة عبد الباقي الزرقاني في شرحه على المختصر الخليلي ووالده على ما ذكر هو في شرحه المذكور والشيخ سالم السنهوري في شرحه على المختصر أيضا ومحمد الأمير في شرحه وحاشيته على مجموعه والشيخ سيدي محمد أحمد عليش في فتاويه وغيرهم كما اعتمدها جهابذة من فقهاء جامع الزيتونة بتونس كالعالم مجتهد المذهب أبي الفداء سيدي إسماعيل التميمي في رسالته في وجوه الخلوات عند المصريين والتونسيين والمغاربة وصاحب نظم لقط الدرر محمد السنوسي الجد الذي أقام على خطة القضاء ما يناهز الثلاثين سنة حيث يقول مشيرا إلى عدم وجود نص في المذهب في مسألة الخلو وإنما العمدة في ذلك فتوى ناصر الدين:

(1) رسالته في تحقيق مسألة الخلو عند المالكية 7- 8 – 9

ص: 1801

وليس في المذهب فيها نص مصرح بحكمها يختص

وإنما خرجها اللقاني الناصر المحقق الرباني

وأصدر الفتوى بها للناس وأجريت في الملك والأحباس

وأعملتها العلماء بفاس فما على تابعهم من بأس

كما اعتمدها عماد الفتوى بتونس في عصره الشيخ سيدي إبراهيم الرياحي – رحمه الله – وغيرهم ممن لم أذكر واعتمدها من فقهاء المالكية المتأخرين بالمغرب الأقصى حافظ المذهب المالكي في وقته الشيخ محمد المهدي الوزاني الشريف في فتوى له فيما يسميه المغاربة شراء المفتاح ويسميه المصريون خلو الحوانيت، ونقل فتوى ناصر الدين عن شرح الزرقاني على المختصر الخليلي كما نقل غيرها ثم قال:(فظهر بهذه النقول أن صاحب المفتاح اليوم له التصرف التام فيه بالبيع وغيره لثبوت ملكه الكون العرف ذلك اليوم شائعا بفاس وغيرها)(1) .

هذا ولعلماء تونس فتاوى في أنواع أخرى غير خلو الحوانيت كالنصبة والحزقة التي هي من نمط النصبة والإنزال وقد عرض لجميعها العالم المجتهد أبو الفداء إسماعيل التميمي – رحمه الله – في رسالته في الخلو ووجوهه عند المصريين والتونسيين والمغاربة وهي مصدر هام من مصادر هذا البحث بالرغم عن كونها مؤلفها لم يتمها، كما أفتى في أنواع من الخلوات الإنزال وخلو الحوانيت والجلسة عماد الفتوى في عصره الشيخ سيدي إبراهيم الرياحي – رحمه الله – وهذا نص فتواه إجابة عن سؤال أحد أبنائه: الجزاء والإنزال والخلو والجلسة ألفاظ متعددة الذات مختلفة بالاعتبار في الاصطلاح فذاتها ومعناها المنفعة التي يملكها دافع الدراهم لمالك الأصل مع بقاء ملكه للرقبة فإن كانت الرقبة التي هي الأصل أرضا عبر عن تلك المنفعة بالإنزال وإن كانت في حوانيت أودور عبر عنها بالخلو في غير اصطلاح أهل فاس وفي اصطلاحهم يعبر عنها في الحوانيت بالجلسة وإن كانت في دور يسكنها اليهود عبر عنها بالحزقة في تونس.

فإذا تقرر معناها فقد اضطربت الفتاوى في حكمها جوازا ومنعا، وأكثر كلامهم المنع كما قاله بعض الأئمة نظما.

الجلسة التي جرت بفاس لدى الحوانيت بلا التباس

ليس لها في الشرع أصل بعلم ولا قياس قاله من يفهم

(1) نوازله 4/ 17

ص: 1802

ولكن الذي جرى به عمل المصريين كشمس الدين اللقاني وناصر الدين اللقاني وغيرهما جواز ذلك وصحته، ووافقهم على ذلك شيوخ فاس المتأخرون كالشيخ القصار وابن عاشر وأبي زيد الفاسي وسيدي عبد القادر الفامي وأضرابهم. وقد ختم فتواه بقوله:(هذا ما ظهر لمزجي البضاعة)(1) وبمثل فتوى سيدي إبراهيم الرياحي أفتى تلميذه الشيخ الشاذلي بن صالح باش مفتي المالكية بتونس في فتوى له اعتمد فيها على فتوى شيخه وأضاف إليها قوله: (ولا يقال: إن هذا العمل لا مستند له في الفقه كما صرح بذلك بعضهم لأنا نقول: ما جرى به العمل من مثل الأئمة المذكورين المقتدى بهم في أمور الدين لا بد له في الواقع من مستند غير أننا لم نطلع عليه كما قال الشيخ العقباني: إن عدم الاطلاع على المستند لا يبيح لنا الخروج عن العمل وقرر صاحب الموافقات أن اختلاف قول المجتهد بالنسبة للمقلد كاختلاف الأدلة على المجتهد)(2) هذا وإلى جانب الفتاوى تكلم في صحة الخلو وجوازه ثلة من الفقهاء المالكية المتأخرين كنور الملة والدين سيدي علي الأجهوري في شرحه لعواري المختصر الخليلي وأحمد الغرقاوي الفيومي في رسالته: (تحقيق مسألة الخلو عند المالكية) وهو مصدر هام من مصادر هذا البحث وسيدي عبد الباقي الزرقاني في باب العارية والأمير في حواشيه وشرحه على مجموعه في باب الوقف وعلى الصعيدي في حاشيته على صغير الخرشي وغيرهم كما تكلم من متأخري المغاربة على صحة الجلسة جمع منهم العلامة الدسولي في شرحه على تحفة ابن عاصم قال: يجوز شراء الملاحة وإن كان ما يخرج منها مجهول القدر والصفة لأن ذلك في مقابلة رفع اليد عنها وكذا يجوز أخذ شيء من الدراهم ونحوها في مقابلة إباحة صيد من بركة ماء أو واد أو نحوهما قاله الزرقاني عند قول المتن في السلم. لا فيما يمكن وصفه كتراب المعدن الخ.

قلت: وفي المواق عند قول المصنف: وجائز سؤال البعض ليكف عن الزيادة: أنه يجوز للإنسان أن يقول لآخر: كف عني ولك دينار ويلزمه الدينار اشترى أم لا.

ومن هذا المعنى بيع الجلسة والجزاء الذي جرى به عمل المتأخرين المشار له بقول ناظم العمل. [أبو زيد عبد الرحمن الفاسي] :

وهكذا الجلسة والجزاء..إلخ. انظر شرحه.

ويلاحظ أن العلامة الدسولي جعل خلو الجلسة مخرجا على فروع المذهب كشراء الملاحة في مقابلة رفع اليد عنها وأخذ شيء من الدراهم في مقابلة إباحة صيد من بركة ماء

(1) نشرت بمجموع طبع بتونس: 3

(2)

نشرت بمجموع طبع بتونس: 6

ص: 1803

وممن أفتى بجواز أخذ مقابل الخلو من الحنفية ابن نجيم حيث قال: (والحاصل أن المذهب عدم اعتبار العرف الخاص، ولكن أفتى كثير من المشائخ باعتباره فأقول على اعتباره: ينبغي أن يفتي بأن ما يقع ببعض أسواق القاهرة من خلو الحوانيت لازم، ويصير الخلو في الحانوت حقا له فلا يملك صاحب الحانوت إخراجه منها ولا إجارتها لغيره ولو كانت وقفا، وقد وقعت في حوانيت الجملون بالغورية أن السلطان الغوري لما بناها أسكنها للتجار بالخلو وجعل لكل حانوت قدرا أخذه منهم وكتب ذلك بمكتوب الوقف)(1) وقد استنبط الفقيه الشيخ الدكتور وهبة الزحيلي من قول البجيرمي: (لا يبعد اشتراط الصيغة في نقل اليد في الاختصاص أي عند التنازل عن حيازة النجاسات لتسميد الأرض – كأن يقول: رفعت يدي عن هذا الاختصاص ولا يبعد جواز أخذ العوض عن نقل اليد كما في النزول عن الوظائف) مشترطا أن يكون ذلك ضمن مدة الإجارة المتفق عليها، وبذلك يكون مقابل الخلو يجوز أخذه على مذهب الشافعي) (2) . ومدار الفتاوى السابقة العرف والعادة والعادة محكمة كما هي القاعدة الفقهية، والتخريج على فروع فقهية لما رُوعي من المصلحة في ذلك. والمصلحة على ما يظهر أن داعيا هاما من دواعي وجود الخلوات نظام الوقف في مجتمعنا الإسلامي والأعيان الموقوفة لا تخضع للتداول العادي، إذ الوقف مصدرا:(إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازما بقاؤه في ملك معطية ولو تقديرا واسما: ما أعطيت منفعة)(3) إلخ التعريف السالف. وإذا كان الأمر كما ذكر فيؤول أمر الوقف إلى قلة نفع أو خراب وتنعدم مهمة ما وقف عليه والغرض من الوقف كما قال خليل في توضيحه: (دوام المنفعة) إذ الدور بطول المدة تنهدم، والأراضي الزراعية تصبح بورا ولا تكفي المدة المحددة لإيجار الوقف بالتفصيل المذكور في النقطة الثانية من مبحث أصل ملك الخلوات أن يؤجره مستأجر وينفق نفقات كبيرة ويستطيع في المدة المحددة أن يستفيد منها، ويندر أن يكون للوقف مال يصلح به، وحتى على القول بجواز بيع الوقف العقار إذا قل نفعه أو خرب من باب أولى وهو ما ذهب إليه طائفة من متأخري المالكية أو معاوضته وقد ذهب إليها جمع من فقهاء المذهب المالكي من المتأخرين أيضا إذا توفرت شروطها وإليها الإشارة في العمليات الفاسية بقوله:

(1) الأشباه والنظائر 113- 114

(2)

الفقه الإسلامي في أسلوبه الجديد: 1/ 566

(3)

محمد الرصاع: كتاب الهداية الكافية الشافية لبيان حقائق الإمام ابن عرفة: الوافية: 411

ص: 1804

كذا معاوضة ربع الحبس على شروط أسست للمؤتسي

وفي العمليات العامة بقوله:

وبالمعاوضة فيها اعملوا على شروط عرفت لا تهمل

والشروط وجود الخراب أو قلة المنفعة في الوقف وكون الربع المعاوض به الحبس أكثر قيمة من ربع الحبس قلت: وحتى على القول بجواز بيع الوقف إذا قل نفعه أو خرب أو معاوضته فلا يوجد له مشتر إلا بأقل الأثمان، أو معاوض إلا بما هو قليل النفع وخرب عادة، ومن أجل ذلك شعر الفقهاء منذ زمن بعيد بأن مدة كراء الوقف القصيرة والتي فصلت القول فيها في النقطة الثانية من مبحث أصل ملك الخلوات غير كافية فأفتوا بجواز كراء الوقف السنين الكثيرة كيف تيسر بشرط إصلاحه من كرائه لأن بيعه غير مسموح به على المشهور وهو المروي عن مالك – رضي الله عنه – في المدونة. وقد جرت فتاوى تلك العصور على هذا الاعتبار فجرى ببطليوس كراء أرض محبسة خمسين عاما كما حكي عن اكتراء المنصور بن أبي عامر موضعا حبسا سبعين عاما وذكر البرزلي أن العادة في أحباس قرطاجنة كراؤها لمدة أربعين سنة كما ذكر أن قاعة دار حبس على عهده اكتريت لخمسين عاما وعلل إطالة مدة كراء هذه الأحباس بقوله:

لعلهم لم يجدوا من يتقبلها إلا على هذه الهيئة فاغتفروا ذلك للضرورة كالتزام الجزاء على أرض الجزاء أبدا لضرورة حاجة بيت مال المسلمين وإن كان عن ثمن الأرض لكونه تابعا لأصل جائز للضرورة والله أعلم. كما تنبه الفقهاء إلى القول بتجاوز شرط الواقف الذي هو كلفظ الشارع إذا أدى إلى بطلان أصل الوقف فقال ابن الحاجب: (ويبدأ بإصلاحه ونفقته، ولو شرط خلافه لم يقبل) . وعلل شارحه خليل ذلك بقوله: (لأن الغرض من الوقف دوام المنفعة) .

ص: 1805

وبمجموع ذلك وجدت الخلوات التي تقوم على التبقية في الكراء. وأما في الأملاك فيذكر العلامة الأمير جواز الخلوات من باب أحرى (1) لحرية تصرف المالك في ملكه من غير تعسف في استعمال هذا الحق ولما يبدو في ذلك من المصلحة أيضا، إذ كثير من الملاك للرباع والعقارات يقومون بمهمات أخرى في حياتهم تملأ عليهم أوقاتهم ولا يستطيعون القيام بمتطلبات دورهم أو أراضيهم الزراعية أو نحو ذلك فتتعرض هذه الأملاك إلى قلة النفع أو الخراب، وملاك آخرون تركيبهم النفسي أو الجسدي لا ينسجم مع متطلبات أملاكهم ((وكل ميسر لما خلق له)) كما في السنة الشريفة وملاك آخرون يمنعهم تشتت الملكية وصغرها عند القسمة من القيام بشؤونها وكلهم يريد الإبقاء على هذه الأملاك شعورا منهم بأنها استمرار لخلود الأسرة وتبقية لاسمها فلاذوا بالكراء الدائم حتى يخرجوا من ترك واجب شرعي وهو إهمال أملاكهم يقول أحمد غنيم النفراوي:(لم يتكلم [ابن أبي زيد القيرواني] على ما إذا كان له كرم أو زرع يحتاج إلى سقي بحيث يتلف بتركه والحكم فيه أنه يجب عليه القيام به إما بنفسه أو بدفعه لمن يعمل فيه ولو بجميع الثمرة فإن لم يفعل أثم لما في تركه من إضاعة المال ولم يثبت نص ببيعه) ولعل مما يدعم صحة كراء الأملاك إذا أمن التغير على التبقية ما روي عن مالك – رضي الله عنه – أنه قال: (ولا بأس أن يستأجر مسيلا يجري الماء فيه إلى داره السنة والسنين الكثيرة أو للأبد قال ناصر الدين اللقاني في شرحه على المختصر الخليلي (وهو نص على جواز الإجارة أبدا فيما يؤمن فيه التغير وهو الأرض) . قال الأجهوري في شرحه عليه أيضا: (وهذا يقتضي أن هذا يجري في الأرض المحبسة والمملوكة)(2) . هذا بالنسبة إلى المؤجرين مستحقي منفعة وقف أو نظاره أو ملاك.

(1) الفواكه الدواني 2/ 238

(2)

محمد السنوسي الحفيد: مطلع الدراري 129

ص: 1806

وأما المستأجرون فَقَلَّ أن يوجد مستأجر يقبل أن يغامر بصرف أموال طائلة في تجديد بناء وقف قَلَّ نفعه أو خرب أو في إحداث بناء في أرض حبس أو غراستها لمدة قصيرة إذ طبيعة أهل عصرنا هي ما عبر عنه الحديث الشريف: ((ولو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب)) (1) . ولم يبق المجتمع الإسلامي مجتمع مواساة أو تكافل، وقديما قال الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور، وهي من الكلمات المباركة التي فاضت على لسان هذا الإمام الفقيه فأصبحت قاعدة فقهية قطعية تلهم الفقيه التساؤل عن الأحكام المرتبة على العوائد والأعراف الحاصلة في فقه الأئمة إذا تغيرت تلك العوائد والأعراف وصارت تدل على ضد ما كانت تدل عليه هل تبطل هذه الفتاوى المسطورة في الكتب ويفتي بما تقتضيه العوائد المتجددة؟ أو يقال: نحن مقلدون وما لنا إحداث شرع لعدم أهليتنا للاجتهاد فيفتى بما في الكتب المنقولة عن المجتهدين؟

أجاب القرافي رحمه الله عليه في كتابه (الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام) في السؤال التاسع والثلاثين عن هذا السؤال فقال: إن جري هذه الأحكام التي مدركها العوائد مع تغيير تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة وليس ذلك تجديدا للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد، بل هي قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد. وبناء على كل ما تقدم أصبح العوذ بالخلوات من باب الضرورة العامة المؤقتة وهي على ما عرفها الأستاذ الإمام سيدي محمد الطاهر بن عاشور – رحمه الله تعالى – أن يعرض الاضطرار للأمة أو طائفة عظيمة منها تستدعي الإقدام على الفعل الممنوع لتحقيق مقصد شرعي من سلامة الأمة وإبقاء قوتها أو نحو ذلك.

(1) الحافظ السخاوي: المقاصد الحسنة 349. وقد قفَّى على نص الحديث بقوله: الشيخان والترمذي وأبو عوانة وغيرهم بألفاظ متقاربة من حديث ابن شهاب، ومسلم وأبو عوانة من حديث قتادة كلاهما عن أنس مرفوعا واتفق عليه أيضا من حديث عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس وانفرد به البخاري عن ابن الزبير ومسلم عن أبي موسى. وفي حديث بعضهم أنه كان يقرأ في القرآن. المقاصد الحسنة 349 – 350

ص: 1807

وهذا التوقيت وهذا العموم مقول على كليهما بالتفاوت ولا شك أن اعتبار هذه الضرورة عند حلولها أولى وأجدر من اعتبار الضرورة الخاصة، وأنها تقتضي تغييرا للأحكام الشرعية المقررة للأحوال التي طرأت عليها تلك الضرورة. وليست أمثلة هذا النوع من الرخصة بكثيرة. فمنها الكراء المؤبد الذي جرت به فتوى علماء الأندلس ابن سراج وابن منظور في أواخر القرن التاسع في أرض الوقف حين زهد الناس في كرائها لزرع الأرض من وفرة الخدمة ووفرة المصاريف لطول تبويرها، وزهدوا في كرائها للغرس والبناء لقصر المدة التي تكتري أرض الوقف لها ولا بنية الباني أو الغارس أن يبني أو يغرس ثم يقلع ما أحدثه في الأرض فأفتى ابن سراج وابن منظور بكرائها على التأبيد، ورأيا أن التأبيد لا غرر فيه لأنها باقية غير زائلة ثم تبعهما على ذلك أهل مصر في القرن العاشر بفتوى ناصر الدين اللقاني في أحكار الأوقاف وجرى العمل بذلك في المغرب في فاس وتونس في العقد المسماة عندنا في تونس بالنصبة والخلو [المفتاح] وفي فاس بالجلسة والجزاء (1) .

وأصبح ذلك تقليدا فاشيا وعرفا شائعا وعم الأملاك أيضا – لما ذكرته سالفا – علاوة على الأوقاف.

(1) مقاصد الشريعة الإسلامية 133 – 134

ص: 1808

المبحث الخامس: التصرف في الخلوات:

قد سبق في المبحث الأول من هذا البحث أن أبا الإرشاد عليها الأجهوري عرف الخلو بقوله: (اسم لما يملكه دافع الدراهم من المنفعة التي دفع الدراهم في مقابلتها) .

ومن خلال التعريف يتضح أن الخلو من باب ملك المنفعة، لا من باب ملك الانتفاع، وذلك ما أيده علم من أعلام المدرسة الأجهورية في الفقه المالكي سيدي عبد الباقي الزرقاني في شرحه على المختصر الخليلي في باب العارية (1) .

وقد فرق العلامة شهاب الدين القرافي – رحمه الله – بين قاعدة تمليك الانتفاع وبين قاعدة تمليك المنفعة في كتابه الفروق في الفرق الثلاثين فقال ما نصه: تمليك الانتفاع نريد به أن يباشر هو نفسه فقط، وتمليك المنفعة هو أعم وأشمل فيباشر بنفسه ويمكن غيره من الانتفاع بعوض كالإجارة وبغير عوض كالعارية.

مثال الأول: سكنى المدارس والرباط والمجالس في الجوامع والمساجد والأسواق ومواضع النسك كالمطاف والمسعى ونحو ذلك، فله أن ينتفع بنفسه فقط، ولو حاول أن يؤاجر بيت المدرسة أو يسكن غيره، أو يعارض عليه بطريق من طريق المعاوضات امتنع ذلك وكذلك بقية النظائر المذكورة معه.

وأما مالك المنفعة فكمَنْ استأجر دارا أو استعارها فله أن يؤاجرها من غيره، أو يسكنه بغير عوض، ويتصرف في هذه المنفعة تصرف الملاك في أملاكهم على جري العادة على الوجه الذي ملكه، فهو تمليك مطلق في زمن خاص حسبما تناوله عقد الإجارة أو شهدت به العادة في العارية، فمن شهدت له العادة في العارية بمدة كانت له تلك المدة ملكا على الإطلاق يتصرف كما يشاء بجميع الأنواع السالفة في التصرف في المنفعة في تلك المدة ويكون تمليك هذه المنفعة كتمليك الرقاب (2) .

(1) 6/ 127

(2)

1/ 232

ص: 1809

هذا وقد فرع الفقهاء عن كون الخلو ملك منفعة أنه يورث من طرف الورثة، وعند انعدام الوارث يستحقه بيت المال وتوفى منه الديون كما جاء بفتوى ناصر الدين اللقاني السالفة الذكر، ويرهن ويوهب ويؤجر ويعار: وقد سئل عن هذا كله الشيخ أحمد السنهوري – رحمه الله – فأجاب بما نصه: (الخلوات الشرعية يصح وقفها ويكون لازما منبرما مع شرط اللزوم كالحوز وانتفاء المانع كالدين كوقف صحيح الأملاك ويجب العمل بذلك ورهنه وإجارته وعاريته والمعاوضة عليه، كل ذلك صحيح ولواقفه أن يجعله مؤبدا، أو مؤقتا بوقت على معين فقط أو عليه وعلى ذريته أو على جهة من جهات الخير كوقود مصباح وتفرقة خبز وتسبيل ماء ونحو ذلك مما ينص عليه الواقف ويراه ويشترطه فيه مما يجوز له اشتراطه من الأمور الجائزة كل ذلك عملا بما أفتى خاتمة المحققين أعلم علماء الإسلام الشيخ ناصر الدين اللقاني في جواب سئل عنه)(1) .

وإلى كل وجوه التصرف أشار السنوسي الجد في نظمه لقط الدرر بقوله:

وملكه عنه أمورا فرعوا وفي الطروس ما أفادوا استودعوا

والشيخ أحمد الرضا السنهوري صرح في فتواه بالأمور

قال:

كمثل إرثه في الهلك ورهنه ووقفه كالملك

وهبة عطية إجارة وغيرها مما اقتفى آثاره

وما ذكرته سابقا من جواز وقف الخلو كنمط من أنماط التصرف في ملكيته لا خلاف فيه بالنسبة إلى الخلوات الناشئة عن ملك، وأما الخلوات الناشئة عن وقف فظاهر فتوى ناصر الدين اللقاني أنها توقف، وفتوى الشيخ أحمد السنهوري نص في ذلك كما سلف، وقد خالف في ذلك أبو الإرشاد علي الأجهوري وحاصل ما قاله في ذلك: أن منفعة الوقف وقف، فلو صح وقف الخلو لزم وقف الوقف واللازم باطل، وأيضا فشرط الشيء المحبس أن لا يتعلق به حق للغير ولا يلزم من ملك منفعة الخلو وقفها، فإن المالك قد يمنع من فعل بعض التصرفات لمانع كمنع وقف من ملك عبدا على مرضى لقصد الضرر، ومنع مالك آلة الحرب من بيعها لحربي وقاطع طريق، ومنع مالك عبد مسلم من بيعه لكافر، ولا شك أن تعلق الوقف بمنفعته يمنع وقفها لما بيناه من تعلق الحق به.

(1) أحمد الفيومي الغرقاوي: رسالته: تحقيق مسألة الخلو عند المالكية 11- 12

ص: 1810

وجوابه: أن الوقف والحق في المنفعة الأصلية، والوقف الثاني للخلو الذي حصل بالتعمير مثلا فقد اختلف المحل لكن يظهر كلام الإرشاد على الأجهوري في وقف منفعة كانت موجودة العين حين وقفية أصلها كحانوت موقوف على مسجد لإنارته وتحصيره، وبحوالة الأسواق أصبح كراؤه لا يفي بذلك فاضطر ناظره إلى بيع منفعته مقابل نقود صرفها على المسجد وجعل كراه بخمسة عشر دينارا بعد أن كان بثلاثين فصارت منفعة الحانوت الوقف بعينها مشتركة بين صاحب الخلو والناظر فكيف يوقفها ثانية؟ (1) .

وقد جمع أحمد الغرقاوي الفيومي بين القولين فقال: (فتوى السنهوري محمولة على وقف منفعته تجددت بعد وقف العين، وكلام شيخنا الأجهوري محمول على وقف منفعة كانت موجودة حين وقفية أصلها لدخولها تحت الوقف الأول) . (2) وبذلك يكون الحلاق لفظيا.

هذا ويمتاز خلو الحوانيت - كما هي التسمية المصرية - بأن صاحبه يصير شريكا لصاحب الرقبة في المنفعة ونسبة الشركة بينهما لا يخلو حالها من أمرين:

أ- أن تكون الرقبة وقفا.

ب- أن تكون الرقبة ملكا.

فإذا كانت الرقبة وقفا توقفت معرفة نسبة الاشتراك بينهما على معرفة الداعي إلى بيع الخلو الوقف، والداعي لذلك على ما ذكره العلامة أبو الفداء إسماعيل التميمي - رحمه الله تعالى - أحد أمرين:

1 -

خراب محل الخلو نفسه.

2 -

خراب المحل الموقوف محل الخلو عليه.

ومثال الأول: أن يكون الوقف قد خرب، أو آل إلى الخراب يعطيه الناظر لمن يعمره ويكون ما صرفه خلوا له.

ونسبة الشركة في هذه الصورة بقدر ما تزيده عمارة صاحب الخلو في كراء الوقف كما لو كان الوقف يكرى قبل العمارة بدينار مياومة، وبعدها بثلاثة دنانير فيكون صاحب الخلو شريكا بالثلثين، وتظهر الشركة في صورة احتياج الوقف إلى عمارة ثانية فعلى الوقف الثلث وعلى صاحب الخلو الثلثان.

(1) الأمير: حواشيه على شرح مجموعه 2/ 181 – 182

(2)

رسالته: تحقيق الخلو عند المالكية 13

ص: 1811

ومثال الثاني إذا كان هناك وقف على مصرف وتعطل بقلة نفع الوقف كحانوت وقف على حاجيات مسجد من إنارة وتحصير وتنظيف وأجرة إمام ونحو ذلك ولا تقوم غلته بذلك فيباع خلوه ليعان بثمنه أو ليشترى به ربع آخر يصرف ريعه في ذلك.

ونسبة الشركة في هذه الصورة بنسبة ما ينقص بيع خلوه من أجرة مثله غير مبيع خلوه كما إذا كانت أجرة ذلك الحانوت في كل شهر ثلاثين دينارا غير مبيع خلوه وعلى أنه مبيع خلوه بخمسة وعشرين فيكون لصاحب الخلو سدس المنفعة إذ هو القدر الذي نقص بسبب دفعه ثمن الخلو وذلك لأن لدفع عوض الخلو تأثيرا في النقص إذ لا يرغب فيه ولا يقدم على شرائه إلا بنقص من أجره الذي يبذله من لا يدفع فيه شيئا وذلك واضح.

وعلى هذا فما به الاشتراك هو ما تزيده عمارة صاحب الخلو في أجرة الوقف وما ينقص من أجر مثله بسبب دفع ثمن الخلو (1) .

وزاد الأمير داعيا ثالثا لبيع الخلو وهي: أن تكون أرض محبسة يستأجرها من الناظر ويبني فيها دارا مثلا على أن عليه كل شهر لجهة الوقف مائة دينار ولكن الدار تكرى بمائتين فالمنفعة التي تقابل المائة الأخرى يقال لها خلو. والذي يبدو أن هذه الصورة ملحقة بالداعي الأول الذي ذكره أبو الفداء في نسبة الشركة فهي بقدر ما تزيده عمارة صاحب الخلو في أجرة الوقف، لكن في صورة عمارة ثانية يكون الإصلاح على صاحب الخلو وحده.

كما ذكر الأمير أيضا أن الخلو يتسنى أن يكون مشتركا بين عدة أفراد فإذا باع أحدهم حصته فلبقية الشركاء الأخذ بحق الشفعة (2) .

فاتضح من كل ما سلف أن مالك الخلو يتصرف في خلوه تصرف الملاك في أملاكهم بيد أنه لا يجوز له أن يغير حالة العقار وهيأته فضلا عن أن يدخله في عقار آخر إلا برضى متولي الوقف أو المالك ذلك ما قاله صاحب مطلع الدراري. (3)(4)

هذا كله إذا كانت الرقبة وقفا.

وأما إذا كانت الرقبة ملكا: فيجري فيه ما جرى في الوقف من باب أحرى إذ المالك يتصرف في ملكه كما يشاء وكما يريد في الإطار الذي حددته شريعة الإسلام، وبغير تعسف في استعمال حق الملكية.

(1) رسالته في الخلو ووجوهه عند المصريين والمغاربة والتونسيين 7 – 8

(2)

حواشيه على شرح مجموعه 2/ 281

(3)

161

(4)

فيه نظر فليتأمل

ص: 1812

وبيان ذلك أن المالك إذا أذن في العمارة على أن تكون خلوا شاركه بقدر ما تزيده العمارة، وإذا قبض منه شيئا على أن يكون له خلو في ريعه شاركه بقدر ما ينقص ذلك من أجره. هذا ما قرره العلامة أبو الفداء إسماعيل التميمي - رحمة الله عليه – ولكنه أورد بعده أن الشيخ عبد الباقي الزرقاني سمع من شيخه الأجهوري يقول: معظم شيوخنا أفتوا بأن منفعة ما فيه الخلو شركة بين صاحب الخلو والوقف بحسب ما يتفق عليه صاحب الخلو والناظر على وجه المصلحة كما يؤخذ مما أفتى به الناصر وعقب عليه بقوله: وهو صريح في أن ما به الاشتراك هو ما وقع عليه اتفاق المتعاقدين وهذا هو الحق، إذ الخلو بمعنى المنفعة مبيع فلا بد من تعيين قدره عند انعقاد البيع فيه ليدخلا على معلوم فتعيينه موكول لاختيارهما فإذا عينه البائع ورضي المشتري باشتراء ذلك المقدار من المنفعة، فذلك، وإلا فلا بيع. وقد أشكل على كلام أبي الفداء من وجوه:

1-

أن ما قرره سابقا نسبة للشركة في منفعة الوقف بين الوقف وبين صاحب الخلو يبدو منه الإلزام، وذلك ما يظهر جليا فيما نقله عن بعض فضلاء المالكية

(1)

مما أورده السيد الحموي في غمز عيون البصائر في شرط صحة الخلو حيث يقول: إن الخلو إذا كان لخراب المحل فلا بد أن يكون بقدر ما يصلح ذلك الخراب، فما يفعل الآن [في عصر بعض الفضلاء من المالكية] من أخذ دراهم لا يصح في ذلك القدر الزائد، وإنما تعتبر الشركة في المنفعة بقدر ما تزيده العمارة فيها لا غيره. وما قرره هنا فيما نقله عن العلامة الزرقاني عن شيخه علي الأجهوري أنه قال: إن معظم شيوخنا أفتى إلخ ما سبق يفيد أن نسبة الشركة بين الوقف وبين صاحب الخلو في منفعة الوقف تكون على حسب ما يقع عليه الاتفاق بين صاحب الخلو والناظر مثلا (2) . وبين الأمرين فرق كبير.

(1) بعض الفضلاء المالكية الغرقاوي والنص مأخوذ من رسالة في تحقق مسألة الخلو 11 بتوسع وتصرف

(2)

رسالته: تحقيق الخلو عند المالكية 7

ص: 1813

2-

قد تضمن ما أفتى به معظم شيوخ الأجهوري أن منفعة ما فيه الخلو شركة بين صاحب الخلو وبين الوقف بحسب ما يتفق عليه صاحب الخلو، والناظر على وجه المصلحة اعتماد فتوى ناصر الدين اللقاني.

ونص فتوى ناصر الدين لم يتعرض للشركة بين صاحب الخلو وبين الوقف في منفعة الوقف لا نصا ولا مفهوما، ولو سلمنا بأخذ نسبة الشركة بينهما من فتوى الناصر اللقاني فقد حذر فقهاء المالكية من أخذ الفقه بالمفهوم من غير كلام المعصوم..

3 -

أن المنقول عن شيوخ الأجهوري متعلق بالشركة في الوقف بين الوقف وصاحب الخلو، وللوقف قيوده وقد دعم به الشيخ نسبة الشركة في الملك بين المالك وصاحب الخلو في منفعة الملك، وبين الأمرين بون شاسع إذ المالك يتصرف في ملكه كما يشاء ويريد في حدود الشرع.

وبعد هذه النظرة في وجوه التصرف في الخلو يتضح لنا أن القول بجوازه حل وسط يبطل الادعاء بأن الوقف خرم لنظام الاقتصاد العام ويثبت أن الوقف لا يحول دون استثمار الموقوف حتى في أطوار الركود للمجتمعات الإسلامية وقد عد الأستاذ الإمام محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله الفتوى بجواز الخلوات وصحة التصرف فيها وسيلة وافية لنظام الوقف من أن يكون معول هدم للنظام الاقتصادي العام في فتوى له نشرت في كتيب بعنوان: الوقف وآثاره في الإسلام فقال: ومنها أي [الوسائل التي تجعل مستحق الوقف فاقد القدرة على القيام به ينتفع به] عقود الاستنزال في الأوقاف لا سيما الرباع على حسب فتوى ناصر الدين اللقاني والغرقاوي ومن جاء بعدهم، وهو أن تكرى كراء مؤبدا بقدر معين لا يتغير فيصير المستنزل متصرفا فيها تصرف المالك في ملكه. (1)

وقبل إنهاء الكلام في هذا المبحث لا بد من بيان أن جواز الخلو وصحة التصرف فيه بوجوه التصرفات السابقة مشروط بشروط سيأتي تفصيلها في المبحث الموالي المبحث السادس: شروط صحة التصرف في الخلوات:

حري بنا قبل بيان الشروط المشترطة لصحة التصرف في الخلوات أن نوطئ بتوطئة نبين فيها النقاط الآتية:

1-

أن صاحب خلو الحوانيت، كما هي التسمية المصرية، أو المفتاح كما هو الاصطلاح التونسي، أو أحد نمطي الحزقة كما تعورف إطلاق ذلك في تونس على خلو الدور التي يسكنها اليهود شريك وأن غيره من أصحاب الخلوات الأخرى ليسوا بشركاء وقد سبق بيان ذلك.

(1) 27

ص: 1814

2-

أن ما سنعرض إليه في هذا المبحث من الشروط منه ما يختص بخلو الحوانيت الناشئ عن وقف والمبيع من طرف مستحق الوقف أو ناظره، أو مالك أو ناظر ملك يتيم، ومنها ما يشترط فيه وفي غيره من أنواع الخلوات الأخرى التي هي أكرية على التبقية والمبيعة من طرف الساكن الذي أخذ الخلو بملك منفعة الحانوت حسب البيان الآتي قريبا -إن شاء الله.

3-

لا خصوصية للبيع فيما سأعرض إليه من الشروط، بل هي مشروطة في جميع التصرفات السالفة في المبحث السابق ولكن لفظ البيع هو الذي غلب على من تكلم في هذا الموضوع.

وبعد هذه الإضاءات الموطئة فما هي الشروط المشترطة في صحة بيع الخلو المعروف مصريا بخلو الحوانيت الوقف الواقع بيعه من طرف مستحق الوقف أو ناظره؟ وما هي شروط صحة بيع خلو الحوانيت من طرق المالك أو ناظر ملك اليتيم؟ وما هي شروط صحة بيع الخلوات جميعا من طرف الساكن الذي أخذ الخلو بملك منفعة الوقف؟

وإجابة عن السؤال الأول أقول: تنوعت شروط بيع خلو الحوانيت الوقف من طرف مستحق الوقف أو ناظره إلى نوعين:

1-

شروط عامة.

2-

شروط خاصة.

أما الشروط العامة بعد الاستقراء فسبعة:

1-

أن يكون الداعي المحوج إلى بيع الخلو الوقف المشار إليه سالفا أحد أمرين: خرابة، أو تقوية النفع باشتراء ربع يصرف ريعه بجانب الوقف، فإذا انعدم هذا الداعي لا يصح بيع الخلو في الوقف لأن ناظره معزول عما لا مصلحة فيه (1) .

2 -

أن يكون ثمن الخلو المبيع عائدا بالمنفعة على الوقف بأن ينتفع به في جهة الوقف، فإذا أخذ الناظر الثمن وصرفه في مصالحه، وجعل لدافع الثمن خلوا في الوقف فبيع هذا الخلو غير صحيح، ويرجع دافع الثمن على الناظر بالثمن الذي دفع (2) .

(1) إسماعيل التميمي: رسالته في الخلو ووجوهه عند المصريين. والمغاربة والتونسيين 8

(2)

أحمد الغرقاوي الفيومي: رسالة في تحقيق مسألة الخلو عند المالكية: 11

ص: 1815

ويجب أن يعلم أن الخلو إذا كان داعية خراب المحل فلا بد أن يكون ثمن الخلو بقدر العمارة، فإن أخذ الناظر قدرا زائدا على العمارة فلا يصح الخلو في ذلك المقدار الزائد عن العمارة لأن الشركة في المنفعة بين مالك الخلو والوقف إنما تعتبر بقدر ما تزيده العمارة فيها فقط، ويرجع عن الناظر بالزائد عن العمارة من ثمن الخلو، ولا يصح أن يشارك بقدر ما تنقصه بأن يكون في هذه الصورة الفرضية مشاركا بما زادته العمارة وما نقضته الدراهم الزائدة عليها لعدم توفر الشرط وهو عود المنفعة على الوقف بالنسبة للزائد (1) .

3 -

أن لا يكون للوقف ريع يعمر منه، فإن كان ويفي بعمارته وحاجياته كأوقاف الملوك الكثيرة الريع، صرف من ذلك الريع على ما يحتاج إليه الوقف ولا يصح بيع خلوه، فإن وقع كان باطلا، ورجع دافع الدراهم على قابضها.

4 -

إذا كان السبب المحوج لبيع خلو الوقف عمارته اشترط في ثبوتها أن يكون بالبينة لا بالتصادق إذا كان للوقف شاهد وذلك بأن يثبت صرف ما دفع ثمنا للخلو على منافع الوقف بالوجه الشرعي، فلو صدق الناظر على الوقف صاحب الخلو فيما ادعى صرفه من غير ثبوت عمارة ولا ظهورها فلا عبرة بهذا التصديق لأن الناظر غير مصدق في مصرف الوقف عند وجود شاهد للوقف (2) .

فإذا ثبت أنه بنى وأنفق في العمارة عدا أن البينة لم تقف على القدر المنفق على العمارة وإنما شهدت بأن هذا الأساس وضعه مشتري الخلو وهذا الجدار بناه، وهذا السقف أوجده وما شاكل ذلك فالذي استظهره أبو الفداء إسماعيل التميمي تصديقه في القدر المنفق على العمارة بعد يمينه إذا كان البناء يشبه ما ادعاه من الإنفاق عادة وعرفا، فمجموع شهادة العرف والاستظهار باليمين في المقدار المنفق يتنزل منزلة الشهادة بتعيين القدر وحصول العمارة.

أما إذا ثبت القدر المنفق من أجل العمارة ولم تثبت العمارة كما إذا دفع أثمان الحديد والأسمنت والحجارة إلخ مقومات البناء وأجرة المقاول بشهادة الشهود، ولكن هؤلاء الشهود لم يقفوا على البناء ولا عاينوه، فقد أجاب عنها الشيخ الإمام أبو القاسم الغبريني في سؤال رفع إليه في ناظر حبس سور مشترط عليه أن لا يتولى دخلا أو خرجا إلا بالعدالة وفي السؤال فصول أخر فكان جوابه عن هذا الفصل أن قال: فإن حكم الحبس عندي في ذلك كحكم ربع الأيتام وإصلاح الوصي له، فانظر ذلك في الوصايا من كتاب الوثائق وأعمالها للمتيطي فإن قدر المقدم على إثبات أن ما أصلحه محتاج للإصلاح فيقوم له ما ظهر جديدا ويحاسب به والله سبحانه وتعالى أعلم.

(1) إسماعيل التميمي: رسالته في الخلو ووجوهه عند المصريين والمغاربة والتونسيين /9

(2)

أحمد الغرقاوي الفيومي: رسالة في تحقيق مسألة الخلو عند المالكية /11

ص: 1816

وأما إذا لم يكن للوقف شاهد أصلا فإن قول ناظر الوقف مقبول كقبول قول: ولي اليتيم، وقد نقل ابن فرحون عن شرح الجلاب للقرافي وعن غيره أن الوصي وكذا ولي السفيه مصدق فيما ذكر من نفقة اليتيم على نفسه وعلى عمارة ربعه إذا أتى بما يثبته لأن النفقة لا بد منها، وإقامة البينة تشق على الأولياء وقد يتعذر ذلك فيؤدي إلى عدم النفقة وخراب الربع. اهـ.

والمشهور أنه لا يقبل قوله في النفقة إلا إذا كانوا في حضانته ولم يأت بسرف ولا بد من حلفه على ذلك.

فإن أراد أن يحسب أقل ما يمكن فقال أبو عمر: أن لا يمين. وقال عياض: لا بد منها إذ قد يمكن أقل منه، وظاهر كلام المتأخرين ترجيحه، وأما عمارة الربع فهي جارية على ذلك فلا بد من أشباه قوله واليمين على القدر الذي دعاه، فإذا ادعى نفقة عظيمة مثلها يكون لها أثر في الربع ولم يوجد أثر فلا تسمع دعواه لأن العادة تكذبها، وكذا إذا وجد أثر لا يحتمل ما ادعاه.

أما إذا ادعى نفقة في الدار مثلها لا تكون للإقامة كحل خندقها وإصلاح بئرها وماجلها وما أشبه ذلك وجرت العادة بأن تلك الدار لا تخلو عما ذكره فههنا يقبل قوله بيمينه.

وعلى هذا يجري الحكم في صرف الناظر ثمن الخلو إن لم يكن للوقف شاهد، والاحتياط أن لا يطلق القاضي يده على ذلك فيشترط عليه أن لا يفعل شيئا إلا بإشهاد لتسارع الناس في هذا الزمن للأوقاف وتهالكهم على أموالها وتحيلهم على ذلك بأنواع الحيل حسبما رأيناهم (1) .

5 -

أن يكون القدر المملوك من المنفعة معلوما لدى المتعاقدين ساعة العقد فإن ذلك القدر مثمون فلا بد من تعيينه ومعرفة المتعاقدين بقدره.

وهذا الشرط يشترط في الملك أيضا (2) .

6 -

أن يكون بائع الخلو مالكا له بملكية صحيحة احترازا من ملكية حكام السوء لأوقاف المسلمين بطريق العسف، فإنها ليست بملكية. ولعل ذلك ما يشير إليه قول أبي البركات أحمد الدردير رحمه الله فيما بناه الملوك والأمراء بقرافة مصر ونبشوا مقابر المسلمين وضيقوا عليهم: وهذه يجب هدمها قطعا، ونقضها محله بيت مال المسلمين تباع لمصالح المسلمين أو يبنى بها مساجد في محل جائز أو قنطرة لنفع العامة ولا تكون لوارثه إن علم إذ هم لا يملكون منها شيئا، وأين لهم ملكها وهم السماعون للكذب الأكالون للسحت يكون الواحد منهم عبدا مملوكا لا يقدر على شيء وهو كَلٌّ على مولاه فإذا استولى بظلمه على المسلمين سلبهم أموالهم وصرفها فيما يغضب الله ورسوله ويحسبون أنهم مهتدون؟ (3) .

(1) إسماعيل التميمي: رسالته في الخلو ووجوهه عند المصريين والمغاربة والتونسيين9- 10

(2)

إسماعيل التميمي: رسالته في الخلو ووجوهه عند المصريين والمغاربة والتونسيين 11 –12

(3)

الشرح الكبير5/ 91

ص: 1817

7 -

أن يتوجه عرفاء عدول لتحقيق السبب المحوج إلى بيعه من الأسباب السالفة الذكر، وبعد عمل تلك الشهادة يقع البيع بتقويم العرفاء العدول أيضا حتى يسلم من الغبن وإلى هذا الشرط أشار السنوسي الجد في لقط الدرر بقوله:

وبيع خلو الوقف بالتقويم بالعرفا في المنهج القويم

حتى يزول الغبن في الأوقاف ولا يرى لنفيه منافي (1)

هذه هي الشروط العامة، وهي شروط على الجمع متى اختل منها شرط لم يصح بيع الخلو.

وأما الشروط الخاصة فتتمثل في شرط واحد هو: إذا كان لذمي خلو في وقف لمسجد فإنه يمنع من وقفه على كنيسة مثلا قطعا بالعقل والنقل.

أما العقل فلأن الوقف الأصلي حامل لمنفعة الخلو، لا يصح أن يحمل المسجد للكنيسة.

وأما النفل فالنصوص الدالة على أن من مقاصد شريعة الإسلام إذلال الكفر وأهله وهذا ينافيه (2) .

ولعل خلو الحزقة الذي عرضت له سابقا هو أحوج ما يكون إلى هذا الشرط.

هذا ما يتعلق ببيع الخلو إذا كان ناشئا عن وقف وما اشترط فيه من الشروط العامة والخاصة.

وأما إذا كان ناشئا عن كراء أَبَدِيٍّ فقد اشترط البدر القرافي لذلك الشروط الآتية:

1-

أن يكون إكراء محل الخلو من مستحق للوقف أو ناظره أي من مالك ملكية صحيحة لمنفعة الوقف أو من ينوب عنه.

2-

أن يكون الساكن الذي أخذ الخلو يملك منفعة الحانوت مده (3) . ويبدو لي أن البدر القرافي أراد بهذا الشرط أن تحصل للساكن المذكور شهرة في ذلك المحل ويضيف إلى المنفعة زيادة وهو ما يسمى اليوم بـ (الاسم التجاري) فإذا أراد بيعه اشترى من عنده يكون الدافع لثمن شرائه مقابل انتفاعه بتلك الشهرة وبتلك المنفعة المضافة في تلك المدة من طرف الساكن قبله في ذلك المحل المالك لخلوه.

(1) مختارات من لقط الدرر ضمن المجموع السابق /3

(2)

حاشية الأمير على شرح مجموعه 2/ 281

(3)

رسالة الدرة المنيفة. تقديم وتحقيق أحمد الشتيوي. مجلة الحياة الثقافية س 6- 1981 ع 14 – 15/ 154

ص: 1818

3-

أن يكون بيد الساكن الذي يريد بيع الخلو عقد إجارة بمقتضاه يملك الخلو وأما إن لم يكن مالكا للمنفعة بإجارة وهو الكثير الوقوع فلا عبرة بذلك الخلو، ويؤجره الناظر لمن شاء بأجرة المثل وبذلك أفتى بعض مشائخي وبناء على قول ابن رشد ولا يجوز بيع أصل العطاء لأنه يبطل بموته (1) .

4 -

وأن تكون الإجارة بأجرة المثل.

ويبدو لي أن المثلية في فروع الفقه يقررها العرف وتخضع للتغير ولذلك تكون مشروطة فيما يظهر حين العقد.

ورد الغرقاوي في رسالته تحقيق مسألة الخلو عند المالكية اشتراط البدر القرافي أن يكون بيد الساكن في محل يريد بيع خلوه عقد إجارة وقال: قضيته بل صريحه أن لا بد في صحة الخلو من الإجارة وليس كذلك إذ ليست ركنا ولا شرطا له لوجود حقيقته وصحته بدونها إذ هي كما تقدم عن شيخنا الأجهوري: اسم لما يملكه دافع الدراهم من المنفعة الخ. نعم ليس للناظر إجارته إذا أراد ذلك لغير رب الخلو (2) .

والذي يبدو أن جملة البدر القرافي وما تضمنته من شروط تعم جميع أنواع الخلوات ولا تختص بما يسمى مصريا خلو الحوانيت.

هذا ما تيسر لي الوصول إليه من شروط بيع الخلو الناشئ عن كراء أبدي. وأما بيع الخلو الناشيء عن ملك فلا يخلو حال المالك من أن يكون مالكا رشيدا، أو مالكا يتيما، فإن كان رشيدا فله حرية التصرف في ملكه في الحدود المشروعة ولا يشترط فيه على ما يبدو خلا شرطا واحدا وهو أن يكون القدر المملوك من منفعة الرقبة الملك خلوا معلوما لدى المتعاقدين ساعة العقد فإن ذلك القدر مثمون فلا بد من تعيينه ومعرفة المتعاقدين بقدره.

وهذا الشرط كما أسلفت يعم الوقف والملك.

وأما إن كان يتيما فيشترط لبيع خلو ملكه أن يكون السبب المحوج لبيعه ثبوت خراب المحل وليس لليتيم مال يعمر به أو قلة نفعه وليشتري بثمن خلوه ربع آخر يدر على اليتيم مالا وربحا. واستظهر العلامة إسماعيل التميمي أنه يلحق بذلك احتياج دار اليتيم إلى العمارة أو احتياج اليتيم إلى النفقة أو إلى أمر ضروري لا تفي به الغلة ويكون بيع الخلو في كل ذلك من صلح من بيع الرقبة.

(1) رسالة الدرة المنيفة. تقديم وتحقيق أحمد الشتيوي. مجلة الحياة الثقافية س 6- 1981 ع 14 – 15/ 154

(2)

ص: 1819

وعند انعدام هذا السبب المحوج مما ذكر لا يصح البيع وإن وقع من ناظر اليتيم فسخ لأنه معزول عن كل تصرف لا يعود بالنفع عن اليتيم.

المبحث الثامن: وجهة نظر المانعين لصحة:

من الأمانة العلمية أن نقرر أن الغرقاوي وهو من أشهر القائلين بصحة الخلو وجوازه - يعرض إلى أن بعض فقهاء المالكية اعترض ذلك متعمدا ما يلي:

1-

أن صاحب الخلو كأنه أسلف الواقف ما دفعه إليه من الدراهم وجعل له الواقف السكنى في مقابلة ذلك وهو سلف جر نفعا. والقاعدة: أن كل سلف جر نفعا فهو ربا.

2-

ما دام الخلو عائدا إلى التصرفات الربوية فلا يعول على العرف كما قال اللقاني لأنه مبني على فاسد والمبني على الفاسد فاسد.

3-

أن القول بجواز الخلو يؤدي إلى تصرف فيه غرر وجهالة لأن تلك المنفعة التي يملكها دافع الدراهم -والخلو اسم لها - غير محدودة بل هي له لموته فتبطل ويدفع الناظر له دراهمه التي قبضها منه الواقف ويتصرف هو في حانوت الوقف بالإجارة له أو لغيره ولكن هذا لا يصح أن يفتى به الآن لأن فيه ضياع أموال الناس وتجرى الحكام على ذلك فيصير من العلم الذي يجب كتمه. وهذا كله إذا وقع من الواقف. وأما إن وقع من الناظر فلبعض الفقهاء اعتراضان على ذلك:

1-

أن الناظر لا يجوز له بيع الوقف لقول خليل في مختصره: (لا عقار وإن خرب) .

2-

إن وقع الخلو منه يكون فيه الإجارة بدون أجرة المثل وهو وكيل والوكيل لا يجوز له أن يبيع إلا بالقيمة بل بأكثر منها.

وبعد أن عرض الغرقاوي لاعتراضات بعض فقهاء المالكية على صحة الخلو وجوازه نقضها واحدا واحدا وقال:

1-

نمنع مدعاكم بأنه سلف جر نفعا ونقرر أنه بيع من الواقف لتلك الحصة لا المنفعة وإن كانت هي المقصودة من العين فهو عقد معاوضة وليس سلفا حتى يوصف بأنه جر نفعا.

2-

بتقرير الإجابة الأولى فالعرف ليس مبنيا على فاسد إذ ليس الخلو سلفا جر نفعا، والعرف أصل من أصول التشريع الإسلامي يجب العمل به وقد جعلوه كالشرط قاله القرافي في قواعده وابن رشيد في رحلته وغيرهما ومن أفتى بما في الكتب حيث تغيرت العادة فقد خالف الإجماع.

وبهذا يتبين بطلان هذا الاعتراض

ص: 1820

3 -

وأما قول هذا المعترض: إن بيع الخلو فيه غرر وجهالة فمردود بأن الدراهم التي دفعها صاحب الخلو واشترى بها تلك الحصة التي أصبح بشرائها شريكا، وهي وإن لم تكن حاضرة حالة العقد فالعقد صحيح إذا وصفت إذ بيع الغائب الموصوف صحيح عند المالكية وله الخيار إذا رآه، لا في مقابلة منفعة حتى يبني عليها كونها غير محدودة، وإذا كانت في مقابلة عين وكان الواقف قد باعهم تلك العين كما هو فرض المسألة عنده فلا يبطل استحقاقه لها لموته بل تنتقل لوارثه. وقول يبطل: فيه نظر.

وقوله: ويدفع الناظر له دراهمه مبني على البطلان الذي ذكره المبني على فرض المسألة في المنفعة لا العين وقد علم ما فيه.

4 -

وقوله: وأما إن وقع من الناظر فلا يصح، مردود لأنه -كما ذكر وكيل عن الواقف فله أن يفعل في الوقف كل ما جاز أن يفعله ويرضاه إن لو كان حيا ورآه لأنه قد يراعي قصد المحبس في بعض الأمور دون لفظه كما يؤخذ ذلك من كلام القابسي في جواب سؤال رفع له ونقله الحطاب عن البرزلي وبنى عليه حكما أشار إليه بقوله: وكزيادة رواتب الطلبة لما أن كثروا وتفضل شيء من خراجها بحيث لو كان المحبس حاضرا لارتضاه، وكان ذلك كله برضى الناظر في الحبس للنظر التام. انتهى نص الحطاب فانظره، وقوله: لأن الناظر لا يجوز له بيع الوقف: نقول بهذا الموجب: بل ولا للواقف نفسه حيث لم يشترطه لنفسه فضلا عن الناظر، وكأنه حمل فعل الناظر للخلو على البيع كما فرضها في الوقف والأمر بخلاف ذلك إذ ما يقع من الناظر من الخلو ليس بيعا للوقف وإنما هو يصير ما عاد على الوقف مستحقا لمريد الخلو.

5 -

وقوله: إن وقع يكون فيه الإجارة بدون أجر المثل. غير مسلم لأنه إن كانت المنفعة العائدة على الوقف عمارة فهي خلو له ويستأجر الأرض بأجرة مثلها قبل العمارة فليس فيها الإجارة بدون أجرة المثل وكذا لو كانت المنفعة غير عمارة بل دراهم دفعت للناظر وعادت لجهة الوقف فتكون الإجارة على حسبها مثلا: أو كان المحل قبل عود الدراهم عليه يكري بعشرة وبعدها بخمسة عشر فالإجارة تكون بعشرة تدفع لجهة الوقف والخمسة خلو له فليس فيه أيضا بدون أجرة المثل.

ص: 1821

وقوله: والوكيل لا يجوز له أن يبيع إلا بالقيمة: تأمل كيف جعله من قبيل الإجارة ثم جعله من قبيل البيع وإن كانت الإجارة بيع المنافع لكن ليس مراد المعترض وإنما مراده البيع الاصطلاحي بدليل مقابلته بالإجارة وهل هذا إلا تناقض! ثم إن كون الوكيل لا يبيع إلا بالقيمة مسلم في حد ذاته ولكن ليس ثم ما يباع إذا الكلام في الوقف وهو لا يباع والله أعلم (1) .

هذا ما أورده الغرقاوي في رسالته المذكورة سابقا أوردته على طوله حتى أبين أن مشكلة الخلو ليس متفقا على حكم فيها وخاصة في الوقف لكثرة قيوده في الظروف العاديه وحيث لم تكن هنالك ضرورة عامة مؤقتة، أما إذا وجدت هذه الضرورة العامة المؤقتة جاز وصح وهو ما وجه به الأستاذ الإمام محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله فتوى ابن سراج وفتوى ابن منظور الأندلسيين وغيرهما، وقد عرضت لذلك سالفا، وما جاء صريحا في فتوى المحقق عبد الرحمن أفندي العمادي مفتي دمشق من الحنفية جوابا لسؤال عن الخلو المتعارف بما حاصله: أنه يجوز ذلك قياسا على بيع الوفا الذي تعارفه المتأخرون احتيالا عن الربا حتى قال في مجموع النوازل: اتفق مشائخنا في هذا الزمان على صحته بيعا لاضطرار الناس إلى ذلك ومن القواعد الكلية: إذا ضاق الأمر اتسع حكمه فيندرج تحتها أمثال ذلك مما دعت إليه الضرورة، وبهذا نأتي إلى تمام هذا البحث والله ولي التوفيق.

محي الدين قادي

(1) بتصرف 5/ 6/ 7

ص: 1822