الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مجالات الوحدة الإسلامية
وسبل الاستفادة منها
إعداد
الأستاذ مصطفى الفيلالي
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين
تمهيد:
قضت الحكمة الإلهية بأن تكون الدعوة المحمدية كونية الطابع، شمولية التوجه تأليفية المقاصد، موجهة إلى الناس كافة في مشارق الأرض ومغاربها، وأن تأتي في أعقاب الأديان السماوية الإقليمية، تحمل إلى البشرية كلها رسالة التوحيد في ركنيها توحي الإيمان بالله الأحد الصمد الذي لا إله إلا هو، ولا شريك له في الأرض ولا في السماء، وتوحيد الأمة في نبذها الشرك واعتصامها بحبل الإيمان الموحد، وفي سعيها المشترك إنشاء مجتمع رشيد.
{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} . (1) .
فكان من المقاصد السامية للدين أن يعمل على توحيد البشر وتأليف قلوبهم بفضل توحيد الإيمان بالله، واشتراكهم في الإذعان لأوامره ونواهيه بفضل التفافهم حول المفاهيم السامية والقيم الأساسية الواردة في الكتب المنزلة على لسان الأنبياء والرسل، صلوات الله عليهم أجمعين.
ولكن الناس قد تفرقت بهم السبل، وزاغت بهم مقاصد الحياة الدنيا عن جادة الوحدة وتفاوتت بينهم مراتب الإيمان والتقوى، فعادوا غثاء وشتاتا، وشعوبا وقبائل (بغيا بينهم) .
وفي هذا الاختلاف قضاء من المولى سبحانه وتعالى، وسنة من سنن الكون الباقية من أجلها أنزل الوحي وأرسل النبيون، وتفاوتت الشعوب، وتنافست الأمم، وتقاسمت بها السبل.
(1) الانبياء: الآية (92)
(2)
يونس: الآية (19)
(3)
هود: الآية (118-119)
الحلقات الدورية:
وكأن تطور بني الإنسان في أحقاب الزمان تحكي حركة المد والجزر، بين الإيمان والكفر، وبين الهداية والزيغ، وبين مراتب التوحيد والتجزئة، على حلقات زمانية متقاربة في الطول والمدة، وكان عبد الرحمن بن خلدون أحد المفكرين السابقين إلى ملاحظتها وإلى تدبر أمرها فيما ابتكره من سنن العمران البشري، فرأى أن للأمم أعمارا كما للأشخاص، وأن للدول أطوارا متعاقبة على أجيال ثلاثة تدوم مائة وعشرين عاما، ولم يزل فلاسفة التاريخ من بعده يمعنون النظر في الظاهرة الدورية لتطور العمران البشري، قصد تأسيسه على قوانين علمية ثابتة.
من هذا المنطلق العلمي أنشأ ابن خلدون علما يجمع بين التاريخ والسياسة والاجتماع، وبني له قواعده النظرية، وأعطى لظاهرة سقوط الدول وانحلال العمران البشري تحاليل لم يزل العلماء يشهدون بسدادها، يقول المؤرخ الأنقليزي (أرنولد تاينبي A.TOYNBEE)(استنبط ابن خلدون ودون فلسفة للتاريخ تمثل ولا شك أعظم ابتكار فكري وأجل خدمة علمية لا يضاهيها إنتاج أي مفكر آخر في أي حقبة زمانية ولا في أي مصر من أمصار العالم) .
وإذا نحن قصرنا النظر على ما نحن فيه من أزمة مالية كبرى منذ أعوام قليلة، وجدناها متجاوبة مع أزمة 1930، متماثلة معها في السمات الكبرى، وقد لاحظ رجال الاقتصاد علاقة مماثلة بين أزمة 1930 وبين أمة 1870 من قبلها، وبين هذه وسابقتها عام 1820. فاستخلص من ذلك المفكر الروسي (نيكولا دميتروفيتش كندرايتاف Nicolas DIMTROVICH. KOUDRATIEFF.) قانون الحلقات الاقتصادية الدورية على رأس كل خمسين عاما، وتضاربت نظريته مع المذهب الماركسي فيما يترتب عنها من إمكان رجوع السطوة للرأسمالية تارة أخري، فتكون لها دورة جديدة على حساب الاشتراكية العلمية.
من أجل ذلك ألقت السلطات السوفياتية القبض على (كندرايتاف) عام 1930 وقضت عليه بالنفي في سيبيريا حيث مات عام 1941.
ولكن نظرية التطور الدوري للاقتصاد العالمي امتد بقاؤها بعد صاحبها وأخذها عنه عام 1947 عدد من الكتاب الأمريكيين من بينهم (إدوارد دوي Edward DEWEY) مؤلف كتاب (علم الاستشراق) وذكر فيه أن الحلقة الثانية من حلقات (كندرايتاف) سيبدأ انحدارها عام 1997.
ثم جاء من بعده الأمريكي (روبرت بكمان) فوضع عام 1983 كتابا عنوانه (موجة الزجر أو كيف الخلاص من الأزمة الثانية الكبرى) حلل فيه الحلقات الدورية للتطور الاقتصادي بداية من أواخر القرن الثامن عشر واعتمد على نظريات (كندرايتاف) ، فذكر أن حلقة الانحدار الكبرى ستتأكد من عام 1980 وقد تستفحل في العقد التاسع من هذا القرن.
واهتم بظاهرة الحلقات الدورية الكاتب الفرنسي (فرنان برودل F.BRAUDEL.) فأخرج عام 1979 موسوعة اقتصادية كبرى بعنوان: (الحضارة المادية، الاقتصاد والرأسمالية) رجع فيه بالتحليل إلى القرون الوسطي واستنتج أن شؤون المجتمع الإنساني قد خضعت لتوجيهات (TRENDS) دورية على رأس كل مائة سنة، فلاحظ حلقات كبرى إحداها فيما بين 1250 و1350م. وأخرى فيما بين 1507 و1650، وثالثة فيما بين 1733 و1817، ورابعة فيما بين 1896 و1974.
وكان (أوزفالد سبلنجر Oswald splenger) قد وضع في 1948 تأليفا عن (أفول نجم الغرب)(Le Declindet L`occid Ent) ارتأى فيه أن لكل واحدة من حضارات الإنسان عمرا متوسطا لا يزيد عن الألف عام، وأن الحضارة الغربية التي بدأت مع الألفية الثانية من التاريخ الميلادي بالغة أوجها وآخذة في الانحدار مع خاتمة هذه الألفية الثانية.
إنما استطردنا في مثل هذه المقدمات العمومية تمهيدا للنظر في أوضاع العالم الإسلامي لهذا العصر في بدايات القرن الخامس عشر وخواتم القرن العشرين، فأين نحن اليوم من بناء المستقبل المشترك الذي يضمن للأمة الإسلامية النجاة من الغرق مع الحضارة المادية الغربية، أو يحفزها للانضمام إلى تيار النهضة الإنسانية التي يري المفكرون أن بعضها سيقوم على أيدي الأمم الشرقية الآسيوية، وستنشيء الحضارة الصفراء الجديدة بديلة من الحضارة الغربية البيضاء؟
وهل للأمم الإسلامية من مستقبل ضمن هذه النهضة عن طريق التوحد وتراص الصفوف؟
التضامنات الموضوعية:
أول ما يترتب عن هذه المقدمات السابقة هو الترابط المتين في الظروف القائمة وفي المفاهيم الحضارية السائدة بين الأمم الإسلامية وبين المجموعة الإنسانية قاطبة.
فليس للشعوب التي تدين بالإسلام في أفريقيا ولا في آسيا ولا في غيرها من أمصار المعمورة من انفراد وتميز في أنواع البنية السياسية باختياراتها ومؤسساتها، وليس لها من استقلال التصرف في مواردها الاقتصادية، استخراجا وتحويلا وتسويقا وتمويلا، ولا واحدة من الشعوب بمعزل اليوم وغدا عن أمواج الغزو الفكرى، ولا عن عوامل الاستيلاب الثقافي، أو مظاهر التبعية في شتى شؤون الحياة: الفكرية والعلمية والتكنولوجية، بالإضافة إلى التبعيات المادية في ميادين الكفاية الغذائية، وتمويل الاستثمارات، وترويج الإنتاج، وفي عامة أنماط التنمية.
الأمة الإسلامية راكبة على ظهر السفينة الكونية سفينة المعصرة بينها وبين سائر أمم الجنس البشري صنوف من التضامن الموضوعي، أكثرها تضامن قسري لا مندوحة من أخذه في الاعتبار، ولا من اليسير التحلل من روابطه المتينة.
هل أن هذا الترابط القسري الشامل بنسجيه لمختلف ميادين الشأن الحاضر، هو تضامن مستقبلي لا سبيل إلى الفكاك منه أو قد يقول بعضنا لا داعي لطلب هذا الفكاك، اليوم ولا غدا؟
هل أنه محكوم علينا أن يتواصل خضوعنا لنسيج التبعية القسرية، أم أن لنا من خلال هذا النسيج سبيلا فذة من سبل النجاة، وإمكانات عريضة لاختيار المصير الذي نرتضيه لنا ولأبنائنا على آفاق المستقبل القريب؟
هل لمشروع الوحدة الإسلامية من مستقبل ممكن أو من أمل في فجر قريب؟
هل يتأكد السعي في طلب هذا المستقبل وفقا لنمط طريف منفرد، أم يجوز الاكتفاء في ذلك على اتباع الأنماط السائدة المعروفة في أدبيات التنظيمات الجمهورية المعاصرة.
يحسن بنا في هذه المرحلة الأولى من تناول الموضوع أن نتساءل بشأن مفهوم الوحدة عن أمور ثلاثة قد علينا الإجابة عنها استطراد النظر في مرحلة لاحقة.
أولا: ما هي الشروط الواجبة لكي يكون مطلب الوحدة مطلبا ممكنا جائز التحقيق؟
ثانيا: في أي ميادين الحياة وفي أية حقول الممكن يجوز طلب هذه الوحدة؟
ثالثا: من بين الطرائق من حولنا في العالم أي طريقة نتوخى، ووفق أية مرحلية نسلك إلى بناء الوحدة، أم هل لنا من سبيل فذة ننفرد بسلوكها؟
1 -
شروط الإمكان:
يتضح من تجاربنا السابقة في تاريخ الأمة الإسلامية، ومن تجارب الأمم المعاصرة أن بناء مشروع مشترك بين عدد من الشعوب لإقامة حاضرها ومستقبلها على أساس الوحدة هو مطلب صعب، ومقصد بعيد، لا بد من الاحتياط له بمنظومة قيمة من الأسباب المتينة. ونحو نعلم من تاريخنا المعاصر أن الأمة الإسلامية لم تزل تسعى إلى هذه الوحدة، وتتدبر شروطها، ولم يزل مفكرو المسلمين يصنفون في شأنها التصانيف القيمة، من عهد جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي في خاتمة القرن الماضي إلى أعمال عبد العزيز الثعالبي ومصطفى خير الدين وابن باديس في العقود الأولى من هذا القرن. محاولين تجاوز عقدة التناقضات بين الانتماءات الوطنية الجغرافية والقومية وبين الانتساب الملي الديني.
ونعلم جميعا المجهودات التنظيمية إلى جانب الاجتهاد الفكري، التي بذلتها الدول الإسلامية لإنشاء مؤسسات سياسية وعلمية واقتصادية مشتركة تيسيرا لبلوغ مقصد الوحدة الإسلامية وجعلت منها –مثل هذا المجمع المبارك للفقه- منابر للحوار والتشاور بغية تذليل المصاعب وتضافر الجهود في هذه السبيل.
يتأكد من ذلك كله أن الوحدة مطلب بالغ الشأن في تاريخ الأمة وفي حاضرها، حقيق بالتمحيص والاجتهاد، خليق بأن يحاط بالتدبر اليقظ المستمر، أملا في أن يوفق الله مسعى الأمة الإسلامية في هذه السبيل المستقبلية الضيقة.
أ- التواصل الجغرافي:
يرى بعض المفكرين أن التواصل الجغرافي هو من بين الشروط المادية عامل ميسر لتمتين العلاقة بين الشعوب ولمد قنوات التشاور والتناصر، ولإنشاء أسباب التعاون والائتلاف. وأن القربى في المستوي الأنفسي والاجتماعي مشتقة من القرب المكاني، ومبنية عليه.
ولكن هذا التواصل الجغرافي ليس غاية في ذاته، ولا شرطا كافيا بمفرده، بل أنه شرط تيسير وتمهيد لأنواع أخرى من التقارب ومن التعاون.
من أجل ذلك كانت مشاريع الترابط بالمواصلات البرية والبحرية في مقدمة ما تقدم على إنشائه الشعوب التي تعتزم إقامة أواصر التعاون والتوحيد بينها. وما من شك في أن المواصلات بأنواعها أيسر كلفة وأقرب تحقيقا بين الشعوب المتجاورة مما يكون بين الشعوب المتباعدة في الحيز الجغرافي، المنفصلة حدودها الترابية.
ثم أن هذا الجوار والتواصل الجغرافي أدعى إلى إنشاء مشاريع التعاون الزراعي مثلا، كما تشهد بذلك مشاريع الأنهار المشتركة مثل نهر النيل بين مصر والسودان، ونهر السينغال بين موريتانيا والسينغال
…
أو هو أدعى إلى إقامة سوق مشتركة مثلما تم ذلك بين دول أوروبا الغربية، أو إلى إنشاء رابطة جهوية مثل التي توفقت إلى إنشائها دول الخليج العربي، أو تأسيس منظمة جهوية بين الدول العربية كالجامعة القائمة اليوم، أو كالتي أقامها الاتحاد السوفياتي بينه وبين تسعة من أجواره في الرابطة المعروفة باسم (COMECON)(كومكن) .
التواصل الجغرافي إذا هو عامل ميسر، وشرط مادي يحسن اعتماده ولكن التعويل عليه وحده لا يجدي إذا لم تنشأ عن هذا التقارب المكاني أنواع أخرى من الروابط تقوم على التشارك في عدد من المؤشرات الأساسية.
ب - التشارك في الثوابت الحضارية:
لا يكون التجاور بين المجتمعات البشرية خاليا من المقاصد الفكرية، بريئا من النتائج الحضارية، بل كثيرا ما يقوم إنشاء الحضارات البشرية وامتدادها مقترنا بالتشارك في الحيز الجغرافي وفي المضمون التاريخي، وإن الناظر للخارطة الكونية ليلحظ ظاهرة التركيز الجغرافي بين المجموعات الحضارية الكبرى المتطابقة في الجملة مع مجموعات جغرافية تمتد على رقعة مخصوصة من الأرض.
فهي مجموعات حضارية بالدرجة الأولى تقوم على التشارك بين عدد من الشعوب أو من الأجناس في المراجع الحضارية الأساسية كاللغة والدين، والتاريخ بل وحتى في الملامح والطباع، وعلى هذا التشارك الحضاري ومن منطلق هذه المراجع الثابتة تروم شعوب تلك المنطقة إقامة مشروع سياسي يرمي إلى الوحدة، أو مشروع اقتصادي يعمل على بناء اقتصاد متناسق، وحينئذ فإن طلب المصالح والمنافع على أساس التشارك في الأموال والقدرات ودفع المخاوف والمخاطر، والتناصر على مصاعب قائمة أو على عدد مشترك، كل ذلك يندرج في نطاق الثوابت الحضارية ويستمد منها ويترجم عنها، ويتركز في حيز التواصل الجغرافي والتلاقي في التاريخ.
2-
ميادين الوحدة أو مضمونها:
في أي ميادين الحياة وفي أي من حقول الممكن يجوز طلب هذه الوحدة؟
يمكن التعبير عن هذا السؤال بصيغة أخرى: فنتساءل عن هذه الوحدة: ما هو مضمونها بعد أن تساءلنا عن دواعيها وحوافزها؟.
نلاحظ بداهة أن الإجابة عن المضمون تتجه بنا إلى وجهتين اثنتين:
فإما أن نروم بناء وحدة شاملة، لا تستثني واحدا من ميادين الممكن، وإما أن نقتصر في إقامتها على ميادين محدودة وعلى مضامين معينة، ومعني هذا أن الخيار واقع بين أمرين: بين وحدة سياسية اندماجية كاملة تقضي على الخصوصيات، وتدمج الوطنيات وتذيب السيادات القطرية في نظام سياسي فوقي واحد، يعمل في إطار مؤسسات جديدة بديلة عن المؤسسات القطرية، وتحت طائل سيادة كبرى، مبنية على أنقاض السيادات الفرعية الصغرى.
وإما أن نروم التوحيد في ميادين معينة: مثل إقامة حلف عسكري واحد، أو إنشاء سوق تجاري مشترك، أو الاستغلال الأمثل مياه نهر مشترك على ما يكتنفه من مساحات زراعية متاحة، أو مثل الاستغلال المشترك لحوض مناجم الفحم يقع مثل جهة (RHUR) على حدود أربع دول متجاورة، أو الاستفادة من موارد سمكية على امتداد السواحل المتلاصقة.. والأمثلة على ذلك في التجارب المعاصرة كثيرة ومتنوعة.
3 -
جدلية الطرائق والآجال:
تدل التجارب المعاصرة بما شاهدناه من محاولات ناجحة وأخرى فاشلة أن الخيار في هذا الشأن هو بين طريقين: الطريقة الرأسية والطريقة التأليفية.
فأما الطريقة الأولى فهي نازلة من فوق، بقرار سياسي، وفقا لإرادة النخبة وطبقا لبرنامج مسبق، يعمل على إنشاء آليات التوحيد في ميادين معينة، كالميدان الإداري أو العسكري أو الاقتصادي، وكثيرا ما يقصد بهذه الطريقة إلى بناء الوحدة في الأجل القريب، يتعجل الأحداث ويقفز فوق المراحل، ويتعامل مع المصاعب الاجتماعية، ومع العراقيل الأنفسية بمنطق التقليل من شأنها والتنقيص من قدراتها الاعتراضية.
ولا حاجة لنا أن نعيد إلى الأذهان ذكر العديد من التجارب الوحدوية الفورية التي جرت المحاولة بإنجازها منذ الحرب العالمية الثانية في الشرق العربي، فكانت هذه المحاولات الارتجالية قصيرة العمر، تركت في بعض الحالات مشاعر قوية من الإحباط يحسن أخذها في الاعتبار حتى نتوخى مزيدا من الحذر في التعامل مع مشروعية الوحدة. على أن الحذر لا يعني الاستكانة لواقع التجزئة والشتات، ولا ينبغي أن يؤدي إلى التسويف والإرجاء في الإقدام على اقتحام المشروع.
وسواء كنا راضين عن أمر الوطنيات القطرية كظاهرة عصرية لتأسيس الدولة ولتركيز القوميات أم كنا منكرين لقيامها على حساب رابطة الأمة، فليس من السداد التغاضي عما أصبح لهذه الظاهرة من شأن في تنظيم المجتمعات المعاصرة، ولا أرى أن مجاوزتها وإنكارها لإنشاء التنظيمات الرأسية من فوق وبمجرد قرار سياسي، هو سبيل قويمة في طلب الوحدة.
ولعل الطريقة التأليفية أنسب ملاءمة مع الواقع السياسي المعاصر، وأضمن من العثرات وأدعى إلى الاطمئنان، وتقتضي هذه الطريقة طلب الوحدة من خلال الواقع القائم على أساس التعامل معه تعديلا وتصحيحا، لا على أساس الإدبار عن هذا الواقع والاستخفاف بشأنه الاجتماعي ولا بكفاءته المعرقلة.
وخلافا للطريقة الرأسية فإن الطريقة التأليفية لا تري في القضاء على الخصوصيات الوطنية شرطا واجبا لبناء الوحدة، ولا في محو السيادات القطرية أو توهين المؤسسات الدستورية المميزة. بل تعتمد جميع هذه الخصوصيات وتعمل على توظيفها لفائدة هدف الوحدة، وحدة تأليفية تركيبية، لا وحدة تسطيح وتقليم.
لو جاز أن نستعير من لغة رجال الحديث الشريف لقلنا إن الطريقة التأليفية تتوخى منطق التعديل ولا تتوخى منطق الجرح، وتقصد إلى إنشاء وحدة متعددة الجوانب، مؤلفة بين الخصوصيات، ولا تروم وحدة أحادية النظام والصيغة، على نمط واحد فريد لا بديل له.
ولو أمعنا النظر فيما أقامته طائفة من المجتمعات العصرية من تنظيمات جهوية وحدوية المقصد، لوجدناها قائمة على احترام الخصوصيات، رغبة أو رهبة، وعلى توظيف هذه الخصوصيات لفائدة المشروع المشترك.
ولنا تجارب الاتحاد السوفياتي في تعامله مع الأقليات الإسلامية خير شاهد على المشاريع الوحدوية القائمة على محو الخصائص، وتقليم مقومات الذاتية، وإنكار وجود الواقع العريق، وقد أذعنت سلطات الشيوعية الماركسية في موسكو للواقع الإسلامي في الجمهوريات الإسلامية، وأيقنت أن للإسلام في هذه الجمهوريات جذورا لا تقوى على اقتلاعها معاول الاشتراكية العلمية، وأن محاولة اقتلاع هذه الجذور، كما رام ذلك الطاغية ستالين هي محاولة فاشلة، لا طمع في بلوغها ولا رجاء في جدواها السياسية.
ومن البدهي أن تتوخي الطريقة التأليفية منطق المرحلية الزمانية، وتسعى في طلب الوحدة حسب جدول من الآمال العريضة، إيمانا بأن القرارات السياسية لا تغير من مسار الشعوب إلا إذا غير الناس ما بالأنفس وفقا للحكمة الربانية الخالدة المنصوص عليها في الآية الكريمة:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} . (1)
وقد لا يتيسر حصول هذا التغيير الأنفسي بصورة عميقة باقية على استعجال وارتجال في الأجل القريب.
(1) الرعد: الآية (11)
ولا يشك أحد أن الناس لا يغيروا ما بأنفسهم إلا بدافع التحفز والإيمان، ولا ينشأ هذا التحفز إلا إذا كان الناس على يقين بأن المشروع المقصود هو أفضل من الوضع الراهن، وأن السعي إلى هذا الأفضل أمر ممكن الإدراك، وأن القدرة عليه قائمة، والمخاطر في سبيله زهيدة هينة، ذلك: يعني ألا يكون المشروع مقصورا على نخبة من الناس، وأن يظل السواد الأكبر من عامة الناس بمعزل من المشاركة في طلبه مشاركة واعية مسؤولة.
الواقع الإسلامي الحاضر:
يتوزع 3 المجتمع الإسلامي المعاصر بين ثلاث مجموعات إقليمية تميز بينها طائفة من الخصوصيات السياسية والاقتصادية والعرقية والاجتماعية، وتشارك في عدد من السمات الثقافية والحضارية، يحسن بنا أن نأخذها في الاعتبار بصورة موجزة.
1 -
ميدان الخصوصيات:
فالمجموعة الآسيوية أهم هذه المجموعات عددا وأوفرها كثافة، وأكثرها تميزا، تليها المجموعة العربية في العدد، ثم تأتي المجموعة الأفريقية من بعدها. وإلى جانب هذه الشعوب الإسلامية بتنظيماتها داخل دول إسلامية، تقوم مجموعات أخرى تتمثل في الأقليات الإسلامية، داخل دول غير إسلامية. وأهم هذه الأقليات تعيش في الدول الآسيوية الكبرى مثل الصين والاتحاد السوفياتي، وتليها في الأهمية العددية الأقليات الإسلامية بالدول الأوربية الغربية ثم الشرقية.
وتتوزع هذه الشعوب من وراء الانتماءات الوطنية إلى أجناس بشرية مختلفة في اللون وفي الألسن واللغات بما يعنيه اختلاف اللغات من فروق في المضامين الثقافية وفي مراجع الذاتية، كما تتوزع بحسب نوعية الارتباطات الاقتصادية والمالية، وبحسب ما بينها من مراتب التفاوت في الموارد الطبيعية وما بلغته من درجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ولسنا في حاجة إلى تتويج هذه الخصوصيات بما هو مشهود بين الدول الإسلامية من فروق بين الأنظمة الدستورية، ما بين ملكية دستورية وملكية قبلية، وما بين جمهوريات مدنية وأخرى عسكرية، وما بين أنظمة للحكم المطلق وأخرى للحكم الديمقراطي.
2-
ميدان السمات المشتركة:
وإن بين الشعوب الإسلامية داخل هذه المجموعات الإقليمية عددا من السمات المشتركة نراها تتمثل بالخصوص، وعلى مستوي علاقة المجتمع بالدولة في ضعف كفاءة الرأي العام الوطني على المشاركة في صنع القرارات السياسية الكبرى، وهو مؤشر بارز من مؤشرات الحياة الديمقراطية، يجعل الشؤون العامة تدور في دائرة ضيقة من التداول تكاد تكون مقصورة على النخبة من ذوي الجاه أو المال أو من خاصة صاحب السلطان –وفي ذلك تأويل مقتضب ضيق لقوله تعالى:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} . (1) وهو لا يعين ولا شك على ترشيد الحياة السياسية المقصودة في هذه الآية الكريمة.
ومن أبرز هذه السمات المشتركة ارتفاع نسبة الأمية في الشعوب الإسلامية: أدناها 27 % وأقصاها 93 % ويزيد معدلها العام على 60 %، وهو نتيجة مرتقبة لضعف نسبة الإنفاق على التربية والتعليم من الناتج الإجمالي الوطني، إذ لا يرتفع معدل هذا الإنفاق فوق نسبة 2.5 %، في حين نراه يزيد على 8 % في بعض الدول القليلة. وعلى6 % في عامة الدول المصنعة، وأن في هذا الوضع الردييء إخلالا بإحدى تعاليم الإسلام الذي جعل من طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة وساوى في المنزلة بين مداد الأقلام وبين دماء الشهداء.
ولو اعتمدنا عدد ما ينشر من الكتب في العالم الإسلامي بأسره لوجدناه ينحط دون عدد ما يصدر في دولة واحدة من دول العالم المتصنع كاليابان لا يزيد عدد سكانها على العشر من عدد المجموعات الإسلامية.
وإن لنا في الميدان الاجتماعي سمات أخرى مستفحلة نخص منها بالذكر عدد البطالة من بين طبقات القوى العاملة، إذ قد يزيد المعدل الإسلامي للبطالة، على ثلث المترشحين للعمل من الذكور وعلى الثلثين من الإناث المترشحات.
أما أعداد الأطباء ونسبتها، بالقياس إلى كل ألف ساكن، فهي تتراوح بين 0.020.00 أي (2) في العشرة آلاف أو طبيب واحد على كل خمسة آلاف، وأقصاها 1.230.00 أي لكل عشرة آلاف أو 6 لكل خمسة آلاف.
وبالمقارنة نعلم أن نسبة التغطية العلاجية في المجتمعات المعاصرة تزيد على 6 أطباء بالنسبة لكل ألف ساكن أي بمعدل طبيب واحد في خدمة أقل من مائتي شخص، وعلى ذمة أربعين عائلة.
(1) الشورى: الآية (38)
ومعلوم أن المجتمعات الإسلامية متشاركة في وصمة التخلف الاقتصادي لا من جراء نقص في الموارد الطبيعية، ولا في المدخرات المالية، ولا حتى في الكفاءات البشرية، وإنما يعزى هذا التخلف إلى نقص فادح في توظيف هذه الامكانات المتاحة، وإلى سوء استغلال للموارد، ولا حاجة للتذكير بما هو معلوم بالأرقام المضبوطة وبالبيانات الضافية في هذا الشأن، وقد تصنفت فيه التآلف العديدة ولا تزال تصدر عن دور التأليف والنشر بمختلف الحواضر الإسلامية، العديد من التصانيف القيمة، نذكر منها على سبيل المثال منشورات مركز دراسات الوحدة العربية الذي تزيد عناوينه اليوم على مائة وعشرون، من وضع نخبة من خير المفكرين العرب، كما نذكر أيضا التقارير القيمة الصادرة عن مشروع المستقبلات العربية البديلة والتي تناولت فيما تناولت محور الصحوة الدينية الإسلامية وآفاق تطورها في تعاملها مع الأنظمة الحاكمة ومع المجتمعات الإسلامية.
ولعل أكبر السمات المشتركة بين دول العالم الإسلامي في الميدان الاقتصادي هي سمة التبعية. تبعية مركبة مصنفة بين ميادين تمويل الاستثمارات وفداحة درجات المديونية المحملة على عاتق الشعوب الإسلامية، وأخطر هذه التبعات هي التبعية الغذائية التي تهم معظم الدول الإسلامية وتجعل أمنها الغذائي واستقرارها السياسي حكرا بأيدي مجموعة من القوى الأجنبية، تتصرف بما تشاء وحينما تشاء في مستقبلات هذه الشعوب، وقد تزيد نسبة هذه التبعة على نصف الاحتياجات الضرورية من الغذاء في بعض الحالات، وأن من الدول الإسلامية من تنفق اليوم أكثر من 60 % من مواردها بالعملة الصعبة لتوريد الحاجيات الغذائية الأساسية لشعبها.
ومن البدهيات المقررة اليوم في أدبيات التنمية أن الأمن الغذائي هو حجر الزاوية في الأمن العام وأنه الشرط الواجب المؤسس للسيادة الوطنية، الضامن لاستقرار الأنظمة السياسية.
كذلك الشأن بالقياس إلى التبعية التكنولوجية فهي اليوم من أثقل أنواع التبعيات الجاثمة بوزرها على نهضة الأمة الإسلامية في شتى الميادين المصرفية والاقتصادية والاجتماعية تجعل زمام أمورها بأيدي الشركات الكبرى متعددة الأجناس، وتعوقها عن المبادرة في تصريف شؤونها، وأن في ضعف درجات التصنيع بعامة الأوطان الإسلامية وتدني مساهمة الصناعة في الناتج الإجمالي الوطني إلى أقل من العشر، وضعف القيمة المضافة في حصيلة الإنتاج لمؤشرات كبرى على هذه التبعية التكنولوجية التي غدت من أهم السمات المشتركة بين شعوب المجتمع الإسلامي.
وإن الأمر بمثل هذه الخطورة في ميدان الإعلام، وقد كثرت بشأنه التقارير والدراسات على مستوي العالم الثالث، وتعالت أصوات الاستنكار ضد الاحتكار الواقعي الذي تتميز به ست وكالات عالمية للأنباء وتتصرف بذلك في حظوظ العالم الثالث بسبب ما لديها من الوسائل الفعالة لصناعة الإعلام ولتوجيه الرأي العام وفق المصالح الاقتصادية والأغراض السياسية التي ترتبط بها بروابط الولاء والتحالف.
والعالم الإسلامي خاضع لهذه الوكالات العالمية، كخضوع سائر مجتمعات العالم الثالث، بل نرى الوكالات الغربية للأنباء قد صرفت جهودها بصورة مركزة إلى إخراج صورة خاصة للإنسان المسلم وللرجل العربي المسلم بصورة أخص، وإلى العمل على نشرها في الرأي العام العالمي.
كان من نتيجة هذا العمل الإعلامي الموجه أن انقشعت في أذهان الرأي العام الغربي جملة من الملامح المشوهة عن الإنسان المسلم وعن الرجل العربي تقترن بمعان العجز والتبذير والكسل والشهوانية والجبن، ونحن نلمس آثار هذه الحملات الدعائية في الصحافة والوسائل الإعلامية الغربية، ونقف على مفعولها السلبي في المحافل الدولية وبصورة واضحة عند مناقشة القضية الفلسطينية، ولا حاجة لنا أن نذكر بما قد قيل أكثر من مرة في عواصمنا الإسلامية عن دور الدعاية الصهيونية في هذه الحملات، وعما توظفه في حقها من وسائل مالية وبشرية بالغة الشأن.
أدركت الدول الإسلامية هذه الأوضاع المتردية في مختلف الميادين وبصورة خاصة في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والمالية والإعلامية، وقد أخذت على نفسها منذ أواخر القرن أن تعالجها لا على الصعيد الوطني المنفرد فقط بل وأيضا على صعيد المجتمع الإسلامي ككل، إقرارا بأن هذه الأوضاع السلبية هي حصيلة لطائفتين من العوامل تضافرت مفعولاتها على مر الزمان: عوامل ذاتية تمثلت أولا وبالذات في تباعد الشعوب الإسلامية عن بعضها وفي توزع جهودها وتفرق كلمتها، اعتزاز خاطئا بما لكل شعب من خصوصيات، ظنا ووهما بأن النجاة ممكنة على سبيل منفردة وبإنشاء ما يتيسر إنشاؤه من الروابط مع بعض الدول الخارجية، وإقامة الأحلاف الخارجية بديلة من الترابط على الصعيد الإسلامي.
أما العوامل الخارجية التي أسفرت عن الأوضاع الرديئة، فهي تضافر الدول الأجنبية داخل مجموعات إقليمية لأغراض اقتصادية وتكنولوجية ومالية وعسكرية وإعلامية وغيرها. بحيث إن المجتمع الإسلامي في مفاوضاته مع العالم المصنع، يأتي هذه المفاوضات متفرق الصف موزع الكلمة، فيلقي مخاطبا متوحد الصف، متفق الكلمة، ينطلق من استراتيجية مدروسة مشتركة.
هذا ما أدركه العالم الإسلامي في العقود القليلة الماضية غداة الحرب العالمية الثانية، وهذا ما رام ويروم علاجه بتوحيد الكلمة، وتضافر الجهود، عبر المؤسسات المشتركة التي توفقت الدول الإسلامية إلى إنشائها منابر قارة للتشاور والتناصح فيما بينها ومحافل قائمة لتلاقي العزائم ولانعقاد الإرادة، ولاتباع السبيل المشتركة القويمة في إنقاذ الأمة من سلبيات الحاضر ولبناء المستقبل المشترك.
3-
القاعدة الحضارية المتينة:
ونحن نعلم جميعا ما وفق الله إليه قادة الأمة الإسلامية إذ يسر لها إنشاء مؤسسة المؤتمر الإسلامي، وأمانتها العامة، ثم أعان على انبثاق العديد من الهيئات المتفرعة عنها المختصة في شتى مجالات الاقتصاد والبحث العلمي والتكنولوجيا والإعلام والاستثمار المالي والأمن. يزيد اليوم عددها على خمس عشرة هيئة موزعة مقراتها بين حواضر العالم الإسلامي.
وقد انعقدت المؤتمرات الدورية بين رؤساء الدول الإسلامية وبين وزراء الخارجية وصدرت عن هذه المؤتمرات مواثيق مباركة، لتحديد الأهداف المشتركة للعمل الإسلامي، ولاختيار السبل القويمة في طلب هذه الأهداف، انطلاقا من الثوابت الحضارية المشتركة أو كما جاء في إعلان (لاهور) لملوك ورؤساء الدول في فبراير 1974 الذين أكدوا:
(إيمانهم بأن دينهم المشترك إنما يمثل رابطة لا انفصام لها بين شعوبهم وأن تضامن الشعوب الإسلامية لا يقوم على معاداة أية جماعة إنسانية أخرى ولا على تفرقة بسبب العنصر أو الثقافة ولكن على المبادئ الإيجابية الخالدة، مبادئ المساواة والأخوة وكرامة الإنسان
…
) .
وإن مبدأ التوحيد على أساس رابطة الدين قد تكرر التأكيد عليه في ميثاق مكة المكرمة الصادر عن قادة الدول الإسلامية عام 1981. إذ يقرون:
(إيمانا منا بأن المسلمون أمة واحدة يعتصمون برابطة الإسلام ويستلهمون في الحياة منهجا لا اختلاف فيه ويستمدون معينهم الفكري من تراث حضاري مشترك، ويضطلعون في العالم برسالة واحدة، فنحن عاقدون العزم على أن نمضي قدما لتوثيق أواصر التضامن بين شعوبنا ودولنا وعلى أن نتجاوز كل ما يؤدي إلى الشقاق أو يجر إلى الفرقة
…
) .
وهكذا يتلاقى توحيد الإيمان مع توحيد المجتمع، لا على الصعيد العقائدي فحسب بل وأيضا على صعيد المصالح المرسلة التي أفسدها القعود الفكري وأوهنتها الخلافات السياسية، وأضاعتها النزاعات الخصوصية المفرقة.
واضطرت الأمة الإسلامية أن تعمل مرة أخرى على اعتماد وحدتها الدينية، سلاحا قويا، لتمتين اللحمة الاجتماعية ولتعزيز الجهود في بناء المستقبل الحضاري المشترك، مثلما كانت مضطرة في خواتم القرن الماضي وفي النصف الأول من هذا القرن إلى الاعتصام بالدين ضد الاستعمار الغربي، فبات الدين يمثل حارس الليل، لا ينام ولا يغفل، حتى وإن غفلت الأعين وخفتت في الضمائر أصوات اليقظة، وتراخت العزائم. وغير خاف في هذه الفترة من تاريخنا المعاصر (أن طلائع حركات اليقظة العربية كانت طلائع إسلامية سلكت سبيل الإصلاح الديني لبعث روح المقاومة في كيان الأمة ضد الغرب الاستعماري الزاحف على ديار الإسلام) . وهل قامت الوهابية من منتصف القرن الثامن عشر، والسنوسية في ليبيا والجزائر ومصر، والحركة المهدية في السودان، في خواتم القرن التاسع عشر إلا لتحمل مشعل اليقظة العربية الإسلامية الحديثة؟
وهل كان تيار هذه اليقظة الذي قاده جمال الدين الأفغاني في إطار مشروع الجامعة الإسلامية يرمي إلى هدف غير مجابهة المد الاستعماري الغربي على واجهة الشرق العربي الإسلامي بأكمله، ويعمل على إنشاء يقظة إسلامية وتضامن إسلامي، ووحدة فكرية ونضالية للملة الإسلامية قاطبة. وقد دعا هذا التيار إلى الوحدة الإسلامية بل وإلى إقامة (الجنسية الإسلامية) . فالوحدة عند الأفغاني إنما تنبع أساسا من رابطة الملة والدين وهي عنوان على تضامن الملة الإسلامية ضد أعدائها، واستلهامها القرآن لتجديد حياتها الدينية والدنيوية، وقد أقامت نخبة الجامعة الإسلامية مفهوم الوحدة الإسلامية على القاعدة الراسخة لرابطة الدين، ولم نجعل هذه الوحدة متجسدة في الدول الوطنية بالمدلول السياسي، فلا تعارض بين الوحدة الإسلامية بهذا المعني، وبين القومية ودولتها. وقد كتب جمال الدين الأفغاني في هذا الخصوص:
(لا ألتمس بقولي هذا أن يكون مالك الأمر في الجميع شخصا واحدا. فإن هذا ربما كان عسيرا، ولكني أرجو أن يكون سلطان جميعهم القرآن الكريم ووجهة وحدتهم الدين. وكل ذي ملك على ملكه. يسعي بجهده لحفظ الآخر ما استطاع، فإن حياته بحياته، وبقاءه ببقائه، إلا أن هذا بعد كونه أساسا لدينهم، تقضي به الضرورة وتحكم به الحاجة في هذه الأوقات) . (1)
(1) محمد عمارة: الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني. ص345. القاهرة 1968.
وقد دعا أعلام الجامعة الإسلامية إلى سلفية دينية تعتمد المنابع النقية للإسلام ولكنها لا تتضارب مع عقلانية إسلامية تستخدم العقل وبراهينه في فهم الدين ووعي مقاصده. كما دعوا إلى تجدد ذاتي في مواجهة المعاصرة ومجابهة التحديات وإلى النظر في الحضارة الغربية (من موقع مستقل ومتميز) لمعرفة أسباب تفوق الخصم وللاستعانة بذلك في الصراع معه.
هذا المنهج القويم هو الذي ظل معتمدا في بناء التضامن الإسلامي بعيدا عن الخلافات السياسية وتجاوزا للخصوصيات القطرية واجتنابا لمنازعات السيادة، وهو منهج نراه ضامنا لإقامة صرح الوحدة الإسلامية على صعيدين اثنين:
صعيد المصالح المرسلة فيما يهم شؤون الاقتصاد، والإعلام والمالية والتكنولوجيا، والدفاع عن حرمة الأوطان والتعاون الخارجي، وسائر ميادين الحياة المدنية التي تقتضي المصلحة أن ننطق في معالجتها من منظور مشترك وأن نقوم في حلها على التعاون المستمر بين شعوبنا ودولنا، وأن نستفيد من الأجهزة والتنظيمات المشتركة التي هدانا الله إلى إنشائها لتكون منابر للتشاور وإطارا لاستنباط الخطط الاستراتيجية وتحديد الإجراءات العملية في خدمة الأهداف المرسومة.
أما الصعيد الثاني وهو صعيد المراجع الحضارية المشتركة فنستطيع أن نمضي فيه بحزم إلى أبعد من المشاريع الدنيوية وإلى أعمق وأنفس من المنجزات المادية أو الظرفية.
أود أن أقتبس من تصانيف الدكتور محمد عابد الجابري وخاصة من كتاباته الأخيرة عن (تكوين الفكر العربي) معني التأسي الفكري، يرى الجابري أن الفكر يتأسس فيما يرومه من مقاصد تأسيسا سلبيا بمنطق الضدية والمقاومة، مثلما تأسست مشاريعنا الوحدوية في الماضي القريب بديار المغرب العربي مثلا تأسيسا ضديا لمقاومة الاستعمار، ومثلما تأسس مشروع الجامعة الإسلامية ضد أنواع الاستعمارات الغربية بالمشرق.. ثم إذا ما زالت دواعي الضدية بزوال الاستعمار وحصول الدول على استقلالها أصبح الفكر الوحدوي بحاجة إلى تجديد في التأسيس، يطلب له أسسا أخرى، غير الأسس السلبية التي قام عليها في فترات الكفاح. تلك هي الظاهرة الإيجابية التي نطمع أن يتأسس عليها مفهوم الوحدة الإسلامية في مضمونها الحضاري، فليست الوحدة سلاحا ضد قوة معارضة،
ولا يقتصر وجودها على منطق الوسيلة ولا تنحصر في سجل السببية، بل الوحدة غاية في حد ذاتها يتأسس وجودها على منطق الإسهام في الحضارة الإنسانية، إعانة المجتمع الإسلامي أولا، والمجتمع البشري بصورة أعم على إنشاء حضارة جديدة لا تقوم على طمس القيم الدينية ولا على مسخ مقومات الذات البشرية التي كرمها الله، ولا على تجنيس المفاهيم الثقافية والأخلاقية في الاستكانة للمادة، وإنما تقوم على تعزيز أزكى ما في الذات الإنسانية من كفاءة التسامي والتجاوز، وعلى تفتق أصفى ما في سجية الإنسان من ملكات الجود والتطوع والمروءة، وتستمد من منطق الخير والفضيلة بما له من جذور مكينة في النفس السوية. عندئذ لا يكون في الخصوصيات الفطرية عائق عن السعي لمثل هذه المقاصد الحضارية، وقد قضيت حكمة المولى، جلت قدرته أن نكون شعوبا وقبائل لنتعارف فيما بيننا، وأن تكون التقوى مقياس التفاضل والتمايز على مراتب الكرم، التقوى لا الجاه ولا المال ولا مراتب السلطان.
ولعل مجمع الفقه الإسلامي الذي نتلاقى اليوم في رحابه أنسب المؤسسات المشتركة بمثل هذا الاجتهاد الفكري (الأصيل الفاعل) الرامي إلى تقديم الحلول النابعة من التراث الإسلامي والمتفتحة على تطور الفكر الإسلامي بغية الوصول إلى الإجابة الإسلامية عن كل التحديات التي تطرحها الحياة المعاصرة.
ونحن نأمل أن يصبح للمفكرين المسلمين في هذا المجمع منبر مفتوح للتشاور العلمي المستمر ولإشاعة حصيلة الأبحاث العلمية حول مختلف قضايا المعاصرة التي تعرض للمجتمع الإسلامي، حتى يتوفر زاد من الحلول الاجتهادية تكون ثمرة للعمل العلمي المشترك، وعاملا من عوامل توحيد المعالجة لمشاكلنا المشتركة، وهل تزيد الوحدة بين المجتمعات على توحيد في مناهج التفكير وفي مراجع التدبر، يفضي إلى ضروب من التناسق والمماثلة في التعامل الحي من مشاكل الإنسان.
مصطفى الفيلالي