المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌انتزاع الملكية للمنفعة العامةإعدادأ. د. يوسف محمود قاسم - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٤

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الرابع

- ‌كلمةمعالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلاميالأستاذ/ سيد شريف الدين بيرزاده

- ‌كلمةمعالي رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلاميالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌كلمةمعالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدوليالدكتور محمد الحبيب بن الخوجة

- ‌كلمةمعالي الأستاذ سيد شريف الدين بيرزاده

- ‌كلمةمعالي رئيس البنك الإسلامي للتنميةالدكتور/ أحمد محمد علي

- ‌كلمةمعالي الأمين العام بالنيابة لرابطة العالم الإسلاميالأستاذ/ أمين عقيل عطّاس

- ‌كلمةمعالي وزير الأوقاف بدولة الكويتالشيخ خالد أحمد الجسار

- ‌كلمةمعالي رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلاميالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌كلمةمعالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدوليالدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌كلمةالوفود المشاركةألقاها بالنيابة سعادة السفير الدكتور عمر جاه

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادمعالي الدكتور محمد علي البار

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًغرس الأعضاء في جسم الإنسانمشاكله الاجتماعية وقضاياه الفقهيةإعدادمعالي الدكتور محمد أيمن صافي

- ‌التشريح الجثماني والنقل والتعويض الإنسانيإعدادفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادفضيلة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

- ‌‌‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًفي الفقه الإسلاميإعدادفضيلة الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًفي الفقه الإسلاميإعدادفضيلة الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادالدكتور عبد السلام داود العبّادي

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادفضيلة الشيخ آدم عبد الله علي

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حيّاً أو ميّتاًإعدادفضيلة الشيخ محمد عبد الرحمن

- ‌صرف الزكاة لصالح صندوقالتضامن الإسلاميإعدادسعادة سيدي محمد يوسف جيري

- ‌صرف الزكاة لصالح صندوقالتضامن الإسلاميإعدادفضيلة الشيخ تيجاني صابون محمد

- ‌صرف الزكاة لصالح صندوقالتضامن الإسلاميإعدادفضيلة الشيخ مولاي مصطفى العلوي

- ‌صرف الزكاة لصالح صندوقالتضامن الإسلاميإعدادسعادة الدكتور عبد الله إبراهيم

- ‌مذكرة تفسيرية بشأن صندوق التضامن الإسلامي ووقفيته

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ عبد الله البسام

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة أ. دكتور وهبه مصطفى الزحيلي

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ محمد عبد اللطيف آل سعد

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ هارون خليف جيلي

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ رجب بيوضي التميمي

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ محمد عبده عمر

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌المثامنة في العقار للمصلحة العامةإعدادالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌انتزاع الملكية للمصلحة العامةإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌انتزاع الملكية للمنفعة العامةإعدادأ. د. يوسف محمود قاسم

- ‌نزع الملكية الخاصة للمنفعة العامةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌انتزاع الملك للمصلحة العامةإعدادالدكتور محمود شمام

- ‌الإسلاموانتزاع الملك للمصلحة العامةإعدادفضيلة الشيخ محمد الحاج ناصر

- ‌سندات المقارضةإعدادالصديق محمد الأمين الضرير

- ‌سندات المقارضةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌سندات المقارضةوسندات الاستثمارإعدادالدكتور حسن عبد الله الأمين

- ‌سندات المقارضةإعدادالقاضي محمد تقي عثماني

- ‌ضمان رأس المال أو الربحفي صكوك المضاربةأو سندات المقارضةإعدادالدكتور حسين حامد حسان

- ‌سندات المقارضةوسندات التنمية والاستثمارإعدادفضيلة الشيخ محمد المختار السلامي

- ‌سندات المقارنة وسندات الاستثمارإعدادفضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌تصوير حقيقة سندات المقارضة والفرق بينها وبينسندات التنمية وشهادات الاستثمار والفرق بينهاوبين السندات الربويةإعدادالدكتور سامي حسن حمود

- ‌سندات المقارضة والاستثمارإعدادفضيلة الدكتور علي أحمد السالوس

- ‌سندات المقارضةإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌البيان الختامي وتوصياتلندوةسندات المقارضة وسندات الاستثمارالتي أقامهامجمع الفقه الإسلامي بجدة

- ‌بدل الخلوإعدادالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌ موضوع (بدل الخلو)

- ‌بدل الخلوإعدادالدكتور محمد سليمان الأشقر

- ‌حكم الشريعة في بدل الخلو (السرقفلية)إعدادفضيلة الأستاذ إبراهيم فاضل الدبو

- ‌بدل الخُلُوِّفي الفقه الإسلاميإعدادفضيلة الشيخ محيي الدين قادي

- ‌بدل الخلو وتصحيحهإعدادفضيلة الشيخ حجة الإسلام محمد علي تسخيري

- ‌كيفية مكافحة المفاسد الأخلاقيةإعدادفضيلة الشيخ/ رجب بيوض التميمي

- ‌كيفية مكافحة المفاسد الأخلاقيةإعدادالشيخ هارون خليف جيلي

- ‌مجالات الوحدة الإسلاميةوسبل الاستفادة منهاإعدادالأستاذ مصطفى الفيلالي

- ‌مجالات الوحدة الإسلاميةوسبل الاستفادة منهاإعدادفضيلة الدكتور عمر سليمان الأشقر

- ‌مجالات الوحدة الإسلاميةوسبل الاستفادة منهاإعدادالحاج شيت محمد الثاني

- ‌الوحدة الإسلاميةوالتعامل الدوليإعدادفضيلة الشيخ/ محمد علي التسخيري

الفصل: ‌انتزاع الملكية للمنفعة العامةإعدادأ. د. يوسف محمود قاسم

‌انتزاع الملكية للمنفعة العامة

إعداد

أ. د. يوسف محمود قاسم

أستاذ ورئيس قسم الشريعة الإسلامية

كلية الحقوق - جامعة القاهرة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، مالك الملك، بيده ملكوت كل شيء، وهو على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد النبي الأمي، الذي بلغ شريعة ربه وبينها لأمته بيانًا شافيًا ، وعلى آله وأصحابه الذين حملوا هذه الشريعة للدنيا كلها، فكانت النور المبين الذي شمل العباد والبلاد على مدى القرون والأجيال.

فإن موضوع انتزاع الملكية للمنفعة العامة هو في غاية الأهمية ، وهو أيضا في غاية الخطورة.

أهمية الموضوع:

تبدو أهمية هذا الموضوع في التوفيق بين حقوق الله تعالى، وحقوق العباد، ومراعاة التوازن بين هذين النوعين من الحقوق.

وهذا التوفيق مهمة صعبة للغاية، لكن في الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يذلل كل صعوبة ويرفع كل عقبة، ففيهما الجواب الكافي والدواء الشافي لكل ما يعن للبشرية من معضلات.

وفيما يتعلق بالملكية العامة التي لها أهميتها، والملكية الخاصة التي يجب احترامها إلى أبعد الحدود، يقول الله جل شأنه:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (1) . ولقد ظهر لي فهم في هذا النص الكريم ، أرجو أن يكون صوابًا ، فقوله عز وجل:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} نهي صريح عن تضييع الأموال ووجوب حفظها وتدبيرها والقيام عليها قيامًا حسنًا حيث جعلها الله قوام المجتمع ، فهي السبب في إصلاح المعاش وانتظام الأمور (2) ولذلك وصفها الله تعالى بقوله:{الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} . أي: التي تقوم بمعاشكم، وصلاح أولادكم (3) فقوام المجتمع ثروته ، وقوة الأمة بقوة اقتصادها.

(1) سورة النساء. الآيتان: 5، 6.

(2)

فضيلة المرحوم الشيخ محمد السايس: تفسير آيات الأحكام ج 2، ص 29 طبعة صبيح.

(3)

تفسير الجلالين مع المصحف الشريف، ص 103 (دار مروان: بيروت) .

ص: 679

وأما قوله تعالى: {أَمْوَالَكُمُ} ، فإن معناها: أموالهم - أي: أموال السفهاء - التي في أيديكم (1) ، وهذا يدل بلا شك - في اعتقادنا - أن المال وإن كان مملوكا لليتيم ومن في حكمه من السفهاء، فإنه عندما يصير معرضًا للضياع يعتبره القرآن مالا للجماعة ، به قوامها، وعليه المدار في منعتها وقوتها ، فيتعين على الأمة في مجموعها أن تحافظ عليه؛ لأنه وإن كان ملكًا خاصا ، إلا أن حق الجماعة فيه ظاهر ، لا ينكر.

أما عندما تزول هذه الظروف التي تعرض المال فيها للضياع ، ويعود السفيه إلى رشده، ويصبح الصغير بالغًا عاقلًا رشيدًا ، يعود ماله الخاص إليه. حيث يصير المال عندئذ في يد عاقلة رشيدة تنفقه في وجوهه المشروعة التي من شأنها تحقيق مصالح الفرد، وهذا بدوره يعود على المجتمع بالخير والرفاهية:{فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} .

فيا لروعة القرآن: حينما عبر عن المال المعرض للضياع بكلمة {أَمْوَالَكُمُ} ، أموال الجماعة التي يجب أن تحافظ على هذا المال؛ لأن الله تعالى جعله قوامها وعمودها الفقري الذي إن فرطت فيه ضاعت هيبتها ، وكانت النتيجة وبالًا على المجتمع بأسره.

بيد أنه عند إيناس الرشد، يعدل القرآن إلى التعبير المناسب لمقتضى الحال؛ لأن كامل الرشد يتصرف في هذا المال، فكان في قوله سبحانه:{فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} أعظم دلالة في المحافظة على الملكية الخاصة، وصيانة حقوق العباد صيانة كاملة غير منقوصة (2)

(1) تفسير الجلالين مع المصحف الشريف، ص 102. ولهذا نظائر عديدة في أسلوب القرآن العظيم. مثل قوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} . وقوله سبحانه: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} .

(2)

مبادئ الفقه الإسلامي للدكتور يوسف قاسم ص 342 - 344 طبعة سنة 1403 هـ. دار النهضة العربية بالقاهرة.

ص: 680

خطورة البحث في هذا الموضوع:

وأما خطورة البحث في هذا الموضوع، فتتجلى في بعض الأنظمة الأرضية الإلحادية، التي نرى بعض أفرادها {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1)

فقد حاول بعضهم أن يبرر مسلك بعض الظلمة من ذوي السلطات في تأميم بعض الملكيات الخاصة عن طريق أن المال مال الله. وهي كلمة حق أريد بها باطل في هذا الخصوص.

ذلك أنه مما لا شك فيه أن الملك الحقيقي في كل شيء إنما هو لله رب العالمين ، فهو سبحانه مالك الملك بما فيه ومن فيه. ولكنه جل شأنه هو الذي أعطى لعباده حق الملكية ، وأثبته لهم ، فلا يحق - إذن - لأي سلطة مهما كانت أن تمس هذا الحق (2) الذي أثبته الله لعباده بحجة أن المال مال الله.

بل إن الله سبحانه هو الذي تشدد في حقوق عباده تشددًا كبيرًا على الرغم من أنه تعالى هو الذي تسامح في بعض حقوقه لدرجة أن التوبة تمحو كل ذنب يتعلق بحقوق الله، أما بالنسبة لحقوق العباد فالتوبة وحدها قد لا تكفي، إذ لا بد من رد المظالم حتى يمكن القول بأنها توبة صادقة (3)

ومن هنا كانت خطورة البحث في هذا الموضوع، فلا يصح التعلل بأن المال مال الله للافتئات على حقوق العباد وتأميم أموالهم التي يملكونها بحكم الشرع.

(1) آل عمران: 78.

(2)

إلا في الحدود المشروعة.

(3)

على خلاف في الرأي بين العلماء: هل رد المظالم شرط في التوبة أو أنه مظهر للتوبة الصادقة.

ص: 681

فالتأميم بمعناه الاصطلاحي المعاصر محرم شرعًا ، لا شك في ذلك (1) لكن موضوع البحث الهام والخطير هو: مدى سلطة ولي الأمر في انتزاع الملكية الخاصة تحقيقًا لمنفعة عامة. هذا هو محل البحث الذي نرجو من الله تعالى أن يوفقنا إلى الحكم الشرعي وهو سبحانه المستعان.

خطة البحث:

ودراسة هذا الموضوع تحتاج إلى تحديد القواعد العامة التي تحكم الملكية الثابتة شرعًا للأفراد.

ثم بيان الحدود الضيقة التي يمكن لولي الأمر في إطارها تحقيق المصلحة العامة، حتى ولو ترتب على ذلك المساس بحقوق الأفراد وضوابط هذا المساس.

نبحث ذلك في الفصلين الآتيين:

الفصل الأول: القواعد العامة التي تحكم حق الملكية.

الفصل الثاني: ضوابط انتزاع الملكية للمنفعة العامة.

(1) وفي حالة تأكد ولي الأمر من أن هذا المال المملوك قد أخذه مالكه ظلما ، فإنه يجوز شرعًا لولي الأمر التدخل ، لا على أساس التأميم ، بل على أساس رد المظالم لأهلها؛ لأن وظيفة ولي الأمر رفع الظلم.

ص: 682

الفصل الأول

القواعد التي تحكم حق الملكية

القواعد التي تحكم حق الملكية، هي قواعد كثيرة، لا تحتمل هذه السطور دراستها التفصيلية ، ولذلك فإني أرى الاكتفاء بدراسة بعض القواعد التي ترتبط ارتباطًا مباشرًا بموضوع البحث ، ألا وهو: انتزاع الملكية للمنفعة العامة.

وهذه القواعد تتلخص فيما يأتي:

1) المال مال الله.

2) الله سبحانه هو الذي أثبت لعباده حقهم فيما يملكون.

3) تحمل أخف الضررين تجنبًا لأشدهما.

المال مال الله:

مما لا شك فيه أن المالك الحقيقي لكل شيء هو الله رب العالمين الذي بيده ملكوت كل شيء.

قال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} (1) .

وقال سبحانه: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2)

وهذه الآيات المباركات التي تؤكد ملكية الله تعالى لكل شيء وهو الغني عن كل شيء - وما أكثرها في القرآن العظيم - إنما تسوق البراهين العقلية على إثبات هذه الملكية لله رب العالمين (3)

(1) سورة الملك: صدر هذه السورة المباركة.

(2)

سورة المائدة: الآية رقم "120".

(3)

أما ملكية الأفراد فما هي إلا استخلاف لهم في ملك الله تعالى. يراجع في هذا: " كتاب التعامل التجاري في ميزان الشريعة للدكتور يوسف قاسم، طبعة سنة 1406 هـ. دار النهضة العربية بالقاهرة.

ص: 683

لأن الذي خلق الموت والحياة هو خالق للمال ولكل شيء، وكما قال سبحانه:

{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (1)

فهي إذن براهين عقلية يسوقها رب العالمين لقوم يعقلون.

الله منح عباده حق الملكية لأجل مسمى:

وقد خلق الله تعالى كل شيء لعباده. سخره لهم، ووهبه إياهم. قال تعالى:

{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} (2) وقال جل شأنه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} (3)

وقد حرم الله تعالى المساس بهذه الملكية الثابتة شرعًا للأفراد تحريمًا مؤبدًا حتى تقوم الساعة. وذلك بنص الكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب فقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (4) وقوله جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (5)

والخطاب في الآيتين يتضمن جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم. والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق (6) فيدخل في هذا القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق وما لا تطيب به نفس مالكه أو حرمته الشريعة وإن طابت به نفسه (7)

(1) سورة يونس الآية رقم "31".

(2)

سورة الجاثية: رقم "12".

(3)

سورة يس الآية رقم " 71 ".

(4)

سورة البقرة من الآية رقم " 188". وقد نزلت هذه الآية في عبد الله بن الأشوح الحضرمي، أدى مالا على امرئ القيس الكندي، واختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنكر امرؤ القيس، وأراد أن يحلف ، فنزلت ، فكف عن اليمين (تفسير القرطبي ص 713 طبعة الشعب) .

(5)

سورة النساء: الآية رقم " 29 ".

(6)

أحكام القرآن لابن العربي جـ1 ص 97 طبعة دار المعرفة بيروت. ومعنى في قوله تعالى: {بالباطل} أي: بما لا يحل شرعا ، ولا يفيد مقصودًا.

(7)

القرطبي، ص 713، وابن العربي، جـ1، ص 97.

ص: 684

وأما السنة. فقد بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم بيانًا شافيًا، في الحديث الصحيح الذي بلغ حد التواتر وهو قوله عليه الصلاة والسلام:((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم)) .

وقد أجمعت الأمة في كل عصورها على هذا الحكم الشرعي.

تحمل أخف الضررين تجنبًا لأشدهما:

أما قاعدة: تحمل أخف الضررين تجنبًا لأشدهما، فهي قاعدة شرعية مجمع عليها ، إذ لا ريب أنه إذا اجتمع ضرران أحدهما أخف من الآخر، وكان لا بد من تحمل أحدهما ، فإنه يجب تحمل الضرر الأخف دفعًا للضرر الأشد ، وهو مما لا يخفى على عاقل، حتى قبل ورود الشرع، بل إن ذلك مركوز في طبائع العباد (1) بحكم الفطرة. ولذلك يقول علماء القواعد: إذا اجتمعت المفاسد المحضة، فإن أمكن درؤها ، درأنا. وإن تعذر درء الجميع ، درأنا الأفسد فالأفسد، والأرذل فالأرذل (2)

ولهذه القاعدة تطبيقات كثيرة جدا تكلم عنها الفقهاء في كتب الفروع بالتفصيل الوافي.

(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام للإمام عز الدين بن عبد السلام، جـ1، ص 7 طبعة سنة 1388 هـ وأول عبارته في هذا الموضع:"واعلم أن تقديم الصالح فالأصلح ودرء الفاسد فالأفسد مركوز في طبائع العباد، نظرًا لهم من رب الأرباب. فلو خيرت الصبي الصغير بين اللذيذ والألذ لاختار الألذ ، ولو خير بين الحسن والأحسن ، لاختار الأحسن. ولو خير بين فلس ودرهم ، لاختار الدرهم، ولو خير بين درهم ودينار ، لاختار الدينار. ولا يقدم الصالح على الأصلح إلا جاهل بفضل الأصلح، أو متجاهل لا ينظر إلى ما بين المرتبتين من التفاوت ".

(2)

قواعد الأحكام في مصالح الأنام للإمام عز الدين بن عبد السلام، جـ1، ص 93.

ص: 685

من ذلك: بالنسبة للمال المملوك للغير، وهو محرم شرعا - كما أكدنا - لكنه في حالة الضرورة (1) يباح للمضطر أن يتناول من مال غيره القدر الذي ينقذ نفسه من الهلاك؛ لأن حرمة مال الغير أخف من حرمة النفس.

انتزاع الملكية للمنفعة العامة لا يباح إلا في هذه الحدود

ومن هذا القبيل انتزاع الملكية للمنفعة العامة. حيث لا يجوز مثل هذا الإجراء شرعًا إلا في هذه الحدود، أي: الحدود الضرورية اللازمة لتحقيق النفع العام، الذي لا يمكن تحقيقه إلا عن هذا الطريق. فلو أمكن الوصول إلى هذه المنفعة العامة دون المساس بحقوق الأفراد ، فلا يجوز ذلك مطلقًا؛ لأن الشريعة تحرم المساس بحقوق العباد تحريمًا قاطعًا مؤبدًا. وكما جاء في الحديث الصحيح ((إلى أن تلقوا ربكم))

لكن ماذا نقول إن تعطلت مصالح العباد، وأصبح من المستحيل تحقيق هذه المصلحة أو المصالح إلا عن طريق التضحية بملكية بعض الأفراد تحملًا للضرر الأخف في سبيل تجنب الضرر الأشد المتمثل في تفويت المصلحة العامة للمجتمع في حين أن حق الفرد في ملكيته مضمون بالتعويض المناسب كما سيأتي تفصيله. وأيضًا فإن المبدأ الأول الذي سبق شرحه يأتي دوره هنا. فما دام المال مال الله، فلا يصح أن تعطل المصالح العامة لعباد الله مع مراعاة تعويض الأفراد عما يلحقهم من ضرر. وبهذا يتم التوفيق بين النوعين من الحقوق؛ حقوق الله وحقوق العباد.

هذا ما أردت بيانه في هذا الفصل: تأكيد حق الملكية الثابت شرعا للأفراد ، وبيان الصلة بين هذه الملكية وبين المبدأ الثابت شرعًا وعقلًا ، وهو أن المال مال الله، وبيان الحدود الضيقة التي يمكن فيها المساس بحق الملكية عملًا بقاعدة تحمل أخف الضررين، ومن هنا كانت إباحة انتزاع الملكية للمنفعة العامة. لكن ما هو المصدر الشرعي لهذا الحكم ، أو ما هي ضوابط انتزاع الملكية للمنفعة العامة؟ هذا هو موضوع الفصل الثاني ، وبالله تعالى التوفيق.

(1) للتوسع في هذا الموضوع، يراجع: نظرية الضرورة في الفقه الجنائي الإسلامي والقانون الجنائي الوضعي للدكتور يوسف قاسم. طبعة سنة 1401/ 1981 دار النهضة العربية بالقاهرة.

ص: 686

الفصل الثاني

ضوابط انتزاع الملكية للمنفعة العامة

البحث في ضوابط انتزاع الملكية للمنفعة العامة يتطلب أن نبحث أولا عن المصدر الشرعي لهذا الحكم ، ثم عن تفصيل الضوابط التنفيذية لهذا الإجراء من الناحية العملية ، حتى يكون في دائرة المشروعية.

نتناول ذلك في مبحثين متواليين:

المبحث الأول: المصدر الشرعي لإباحة انتزاع الملكية للمنفعة العامة.

المبحث الثاني: الضوابط التنفيذية لهذا الإجراء.

ص: 687

المبحث الأول

المصدر الشرعي لانتزاع الملكية للمنفعة العامة

الأصل في إباحة انتزاع الملكية للمنفعة العامة بضوابطها الشرعية هو عمل الصحابة رضوان الله عليهم. وبيان ذلك أنه: " لما استخلف عمر رضي الله عنه ، وكثر الناس ، وسع المسجد، واشترى دورًا هدمها وزادها فيه ، وهدم على قوم من جيران المسجد أبوا أن يبيعوا، ووضع لهم الأثمان حتى أخذوها بعد ذلك ، واتخذ للمسجد جدارًا قصيرًا دون القامة ، وكانت المصابيح توضع عليه ، فلما استخلف عثمان رضي الله عنه ، ابتاع منازل ، فوسع بها المسجد ، وأخذ منازل أقوام ، ووضع لهم أثمانها ، فضجوا منه عند البيت ، فقال: إنما جرأكم علي حلمي عنكم ، فقد فعل بكم عمر رضي الله عنه هذا ، فأقررتم ورضيتم. وبنى للمسجد الأروقة حين وسعه "(1)

وقد استشهد فقهاء الشريعة على هذا الحكم السابق بعمل، الصحابة رضوان الله عليهم. والاستدلال بعمل الصحابة إنما هو استدلال بالسنة والإجماع اللذين أوجب الله العمل بهما بنص كتابه العزيز. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)) .

وهذا الحكم قام به خليفتان جليلان؛ عمر وعثمان رضي الله عنهما، وهذا العمل من كل منهما على فترات متباعدة بمرأى ومسمع من الصحابة الكرام ، هو إجماع منهم رضوان الله عليهم واجب الاتباع دون شك.

(1) الأحكام السلطانية للماوردي، ص 162 طبعة دار الكتب العلمية ببيروت.

ص: 688

وفيما يلي أسوق عبارة ابن عابدين الفقيه الحنفي في هذا الموضوع ، حيث يقول: "ولو ضاق المسجد وبجنبه أرض وقف أو حانوت جاز أن يؤخذ ويدخل فيه. زاد في البحر عن الخانية: بأمر القاضي (1) بالقيمة كرها لما روي عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنه لما ضاق المسجد الحرام أخذوا أرضين بكره من أصحابها بالقيمة وزادوا في المسجد الحرام. ولعل الأخذ كرهًا ليس في كل مسجد ضاق، بل الظاهر أن يختص إذا لم يكن في البلد مسجد آخر، إذ لو كان فيه مسجد آخر يمكن دفع الضرورة بالذهاب إليه. نعم فيه حرج ، لكن الأخذ كرها أشد حرجًا منه. ويؤيد ذكرنا فعل الصحابة ، إذ لا مسجد في مكة سوى المسجد الحرام (2)

وبنفس الحكم قال المالكية (3) والشافعية (4) والحنابلة (5) .

(1) وإني لأسجد لله تعالى شاكرًا. حيث وجدت هذه الجملة القصيرة التي أراحت ضميري ، فقد سبق لي أن تعرضت بإيجاز لهذا الموضوع في كتابي (مبادئ الفقه الإسلامي) . وظهر لي حينذاك ضرورة اشتراط عرض الأمر على القضاء لما رأيته من الافتئات على بعض حقوق العباد من غير ضمان ، فرأيت أن هذا الشرط يحد من التجاوزات ، فلما قرأت هذه العبارة ، حمدت الله على واسع فضله.

(2)

حاشية ابن عابدين المسماة رد المحتار على الدر المختار جـ4، ص 379 طبعة سنة 1386 هـ.

(3)

فقد جاء في مواهب الجليل شرح مختصر خليل للعلامة الحطاب رحمه الله: "يجبر ذو أرض طريقا هدمها نهر، لا ممر للناس إلا فيها، على بيع طريق لهم فيها بثمن يدفعه الإمام من بيت المال "(جـ4، ص 253 طبعة سنة 1329 هـ مطبعة السعادة) .

(4)

مختصر المزني هامش كتاب الأم للإمام الشافعي، جـ2، ص 209 طبعة سنة 1386 هـ، حيث جاء في هذا الموضع:"إن الناس مسلطون على أموالهم ، ليس لأحد أن يأخذها أو شيئًا منها بغير طيب أنفسهم ، إلا في المواضع التي تلزمهم ".

(5)

فقد أورد العلامة ابن القيم رحمه الله عبارة مفادها أن الناس مسلطون على أموالهم ، ليس لأحد أن يأخذها أو شيئًا منها بغير طيب من أنفسهم ، إلا في المواضع التي تلزمهم، الطرق الحكمية، ص 238 - 243.

ص: 689

المبحث الثاني

الضوابط التنفيذية لانتزاع الملكية للمنفعة العامة

نقصد بالضوابط التنفيذية الضوابط أو الشروط التي يجب مراعاتها عند اتخاذ هذا الإجراء ضمانًا لحق المالك.

وبناء على القواعد السابقة التي تكلمنا عنها في الفصل السابق ، يمكن القول كما أشرنا بأنه يباح شرعًا انتزاع الملكية للمنفعة العامة إذا كانت هذه المنفعة أمرًا ضروريا محتما لا بد منه، وليس هنالك مجال لتحقيقها إلا بالمساس بحق ثابت للأفراد؛ لأن إطلاق مثل هذا الحكم يفتح بابًا كبيرًا من أبواب الشر (1) أمام سلطات الفساد والظلم. ولذلك فإن هذه الإباحة ليست على إطلاقها ، وإنما لها ضوابطها وشروطها التي تجعلها في دائرة المشروعية، بحيث تحقق المصلحة العامة للناس، وتحقق في نفس الوقت المصلحة الخاصة أيضًا للفرد الذي انتزعت ملكيته.

وليس هذا جمعًا بين النقيضين ، وإنما هو العمل بحكم الشرع الذي أوجب تحقيق المصالح العامة والخاصة، وحتى عند التعارض لا بد من مراعاة هذا الجمع بقدر الإمكان.

وهذا يتمثل - على ما نفهمه من نصوص الشريعة والله أعلم - في الضوابط التالية:

الضابط الأول:

التأكد فعلًا من أن هذا المال المملوك للغير لازم بالضرورة لتحقيق مصالح العباد، وهو الوحيد المتعين لذلك.

(1) نسأل الله السلامة والعافية.

ص: 690

وهذا الضابط أو هذا الشرط جوهري إلى أبعد الحدود، فانتزاع الملكية رغما عن إرادة المالك غير جائز أبدًا ، اللهم إلا في حالة واحدة. وهي ما إذا تأكد ولي الأمر من ضرورة تحقيق النفع العام عن طريق المساس بملك أحد الأشخاص. وإذن فلابد من توفر هذا الشرط حتى لا تنطلق يد السلطة في أموال العباد بحجة المنفعة العامة ، بحيث تنعدم كل الوسائل الأخرى لتحقيق النفع العام إلا عن هذا الطريق.

فإذا كانت هنالك وسيلة أخرى تحقق مصلحة المجتمع بدون المساس بحقوق العباد ، فهنا لا يصح أبدًا التعرض لما يملك الناس، حيث يكون هذا التعرض خروجًا على أحكام الله تعالى ومخالفة وعصيانًا لبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بين لنا أن الأموال محرمة إلى أن تقوم الساعة (1)

الضابط الثاني: التعويض العادل:

إذا توفر الضابط الأول وبات من المؤكد أن مصلحة المجتمع لا يمكن أن توجد إلا عن طريق المساس بملك أحد الأفراد ، فهنا يتعين على الدولة أن تدفع للمالك قيمة ملكه كاملًا بالتقدير المرضي لصاحب الشأن. الذي ينبغي عليه أن يقبل هذا التعويض نظير التنازل عن ملكه بنفس راضية تحقيقًا لمصلحة المجتمع؛ لأن المال في المبدأ والانتهاء هو مال الله تعالى، وينبغي أن يسخر لخدمة عباد الله. ولذلك فلا يصح لصاحب المال أن يرفض التعويض (2) المعروض عليه من الدولة ما دام كافيًا ومرضيا إذ الرفض في هذه الحالة يعتبر تعنتًا يبيح لولي الأمر انتزاع الملكية رغم إرادة المالك في إطار التعويض الوافي كما قلنا.

(1) مبادئ الفقه الإسلامي: للدكتور يوسف قاسم، ص 299.

(2)

والمقصود هنا: الرفض لعدم كفاية التعويض. أما لو تبرع بأرضه لله تعالى دون مقابل ورفض أخذ التعويض ابتغاء وجه الله تعالى ، فهذا لا كلام فيه هو الذي ينبغي أن يكون

ص: 691

أما إن عرضت الدولة تعويضًا أقل من القيمة الأصلية للشيء المملوك، ورفض المالك التنازل عن ملكه بأن رفضه ، هنا يكون مبررًا على أساس ما قد يلحقه من ضرر أو ظلم في تقدير ملكه ، فإن انتزعت الدولة الملكية على هذه الصورة يكون عملها ظلما حرمه الله على نفسه ، وجعله بين عباده محرمًا. وكفى بالظلم إثما مبينًا يستوجب العذاب في الدنيا والآخرة.

وأبسط صور عذاب الدنيا نزع البركة من المشروع الذي يقوم على الظلم وأكل أموال الناس بالباطل (1)

على أن رحمة الله قريب من المحسنين حيث يرتفع الإثم برفع التعويض إلى حدود القيمة الحقيقية التي ترضي صاحب الشأن (2)

وقد سبق أن تكلمنا في المبحث السابق عن المصدر الشرعي لهذا الحكم وهو عمل الصحابة رضوان الله عليهم بل وإجماعهم على توسعة المسجد الحرام مرتين، الأولى في عهد عمر، والثانية في عهد عثمان رضي الله عنهما.

ملحوظة هامة:

وهنا ينبغي التنبيه إلى بعض العبارات التي وردت على إطلاقها في عبارات الفقهاء ، حيث قالوا: مثل المسجد والمقبرة.

وهنا نقول: إن الإطلاق غير مقصود أبدًا، فليس المراد كل مسجد أو كل مقبرة ونحوهما، بل المسجد الذي لا يمكن أن يوجد له بديل أو مكان في منطقة مماثلة. إذ لا نتصور أن تنشأ في قرية أو مدينة عادية ضرورة ملحة في ضم أرض مجاورة إلى مسجد، حيث يمكن إنشاء مسجد آخر في مكان آخر من البلدة دون اعتداء على حقوق العباد. وما هكذا المسجد الحرام في مكة المكرمة ولا المسجد النبوي في المدينة المنورة.

(1) مبادئ الفقه، ص 300.

(2)

والخاضعة لتقدير القضاء كما سيأتي.

ص: 692

ولهذا فقد كان التعليق من بعض الفقهاء تعليقًا في غاية التوفيق حين قال رحمه الله: "ولعل الأخذ كرهًا ليس في كل مسجد ضاق، بل الظاهر أن يختص بما إذا لم يكن في البلد مسجد آخر، إذ لو كان فيه مسجد آخر لأمكن دفع الضرورة بالذهاب إليه. نعم فيه حرج ، لكن الأخذ كرهًا أشد حرجًا منه ، ويؤيد ما ذكرنا فعل الصحابة ، إذ لا مسجد في مكة سوى المسجد الحرام (1)

والحكم واحد في نظري، والله أعلم، فيما لو تمكن إنشاء مسجد آخر في مكان آخر من البلدة أو القرية وهو يدفع ضرورة التوسع دون حاجة إلى ظلم بعض الأفراد ، فالله غني عن العالمين، ولا يتصور أن تتقرب السلطة إلى الله رب العالمين بتوسعة مسجد عادي على حساب عباد الله.

نعم يمكننا أن نضرب مثلًا بالكلية التي تضيق بطلابها فتحتاج إلى مدرج أو إلى معمل آخر بجانب المعمل الأصلي نزولًا على ضرورات التقدم العلمي وليس هنالك مجال إلا إلى الأرض المجاورة المملوكة لأحد الأفراد، حيث لا يمكن نقل الكلية، كما لا يتصور أن تكون الكلية في طرف المدينة وأحد مدرجاتها أو معاملها في الطرف الآخر، في مثل هذه الظروف تكون الإدارة مضطرة إلى توسعة الكلية ولو على حساب مالك الأرض المجاورة الذي له حقه الكامل في التعويض العادل، الذي ينبغي أن يتولى القضاء تقديره على نحو ما نبينه في الفقرة التالية:

(1) من عبارة ابن عابدين المشار إليها في هامش (1) ص 11 من هذا البحث.

ص: 693

الضابط الثالث: عرض الأمر على القضاء

ذكرنا تحت الضابط الأول أنه لا بد من التأكد من أن هذا المال المملوك للغير لازم بالضرورة لتحقيق مصالح العباد ، وأنه الوحيد المتعين لذلك.

كما ذكرنا الضابط الثاني وهو لزوم التعويض العادل لصاحب الحق وتقدير هذين الأمرين ينبغي أن تقوم به سلطة محايدة حتى تتحقق العدالة الكاملة من هذين الوجهين. والسلطة المحايدة هي من غير شك السلطة القضائية.

لكل ما تقدم أرى - والله أعلم - أنه يجب على ولي الأمر قبل أن يقدم على هذا الإجراء - انتزاع الملكية للمنفعة العامة - أن يعرض الأمر على القضاء لينظر في الأمر من جميع جوانبه وعلى الأخص من الجوانب الثلاثة الآتية.

الأول: مدى أهمية المنفعة العامة المراد تحقيقها للمجتمع. فإذا ثبت أمام القضاء أنها غير ضرورية ، فلا يصح التضحية بملك الأفراد، أو انتهاك حقوق العباد من أجل منفعة غير ضرورية.

وقد تكون المنفعة ضرورية ، وتثبت أهميتها القصوى ، ويثبت لزومها للعباد ، ويتأكد القضاء من ذلك. غير أنه لا بد من التأكد من جانب آخر وهو الجانب الثاني.

الجانب الثاني: مدى لزوم ملك الغير لتحقيق المنفعة العامة.

لا يجوز اتخاذ مثل هذا الإجراء حتى عندما يتأكد القضاء من لزوم هذه المنفعة وضرورتها للعباد، إذ قد يثبت ذلك فعلا. ولكن قد تكون هنالك وسائل أخرى لتحقيق هذه المنفعة العامة بدون المساس بحقوق العباد، وهنا يكون انتزاع الملكية محرمًا؛ لأنه غير لازم حيث وجد البديل الذي لا مساس فيه بحق الغير ، فيكون هذا الانتزاع ظلما.

ص: 694

ولذلك كانت أهمية عرض الأمر على القضاء للتأكد من انتفاء كل البدائل أو كل الوسائل الأخرى، وصار من المتعين تحقيق هذه المنفعة عن طريق هذا المال المملوك لفرد من الأفراد.

فإذا ما ثبت لزوم المنفعة ولزوم ملك الغير لتحقيقها - وهذا كله لا يكون إلا أمام السلطة القضائية - وعند ذلك يجب النظر القضائي في الجانب الثالث.

الجانب الثالث: مدى عدالة التعويض:

ولا شك أن هذا الجانب هو المرحلة النهائية لإحقاق الحق والبعد عن الظلم. وليس هنالك أقدر من السلطة القضائية على تحقيق هذا الجانب الهام؛ لأن ولي الأمر من أعضاء السلطة التنفيذية مهما كان تدينهم وورعهم ، إلا أنهم في الحقيقة إنما يحكمون أو يقدرون التعويض على أنفسهم لغيرهم. وهذا مما قد يتنافى مع الحياد الكامل، فكان من الواجب أن تقوم السلطة القضائية بتقدير هذا التعويض من حيث عدالته وجبر كل الأضرار التي قد تمس صاحب الحق من اتخاذ هذا الإجراء ، وهو انتزاع الملكية للمنفعة العامة.

وقد سعدت كثيرًا عندما قرأت عبارة ابن عابدين رحمه الله: "زاد في البحر عن الخانية: بأمر القاضي، (1)

وبناء عليه فلم يكن إذن اقتراح أن يعرض الأمر على القضاء مجرد فكر معاصر يخشى من ظلم بعض الجهات واستبدادها بحقوق العباد ، وإنما لهذا الشرط أصل فقهي ثبت عن علماء الشريعة رحمهم الله تعالى. مما يدعو إلى زيادة الاطمئنان.

والحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات، صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أ. د: يوسف محمود قاسم

(1) حاشية ابن عابدين،ج4، ص 379.

ص: 695