الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ضمان رأس المال أو الربح
في صكوك المضاربة
أو سندات المقارضة
إعداد
الدكتور حسين حامد حسان
رئيس الجامعة الإسلامية – باكستان
بسم الله الرحمن الرحيم
ضمان رأس المال أو الربح في صكوك المضاربة
أو سندات المقارضة
أولا: المقصود بالضمان:
تطلق عبارة الضمان في أقوال الفقهاء والباحثين ويراد بها عدة معان يحسن عرضها بإيجاز قبل بيان حكم الشرع في موضوع ضمان مخاطر الاستثمار في صكوك المضاربة.
1-
الضمان بمعنى ضم ذمة إلى ذمة أخرى في الالتزام بدين ثابت وقت الضمان، أو يحتمل ثبوته في المستقبل. وهذا يقتضي أن يكون هناك طرفان أحدهما دائن والآخر مدين له، ثم يأتي طرف ثالث هو الضامن، فيضم ذمته إلى ذمة المدين ويلتزم بأداء ما ثبت أو ما سيثبت في ذمته من دين في المستقبل.
والضمان بهذا المعنى طريق من طرق التوثيق الشرعية، ففيه يشترط الدائن أو يتبرع المدين بتوثيق الدين الثابت في ذمته، أو الذي يحتمل ثبوته في ذمته في المستقبل، على رأي القائلين بجواز ضمان الدين الاحتمالي المستقبل غير محدد المقدار وقت منح الوثيقة. وقد ذكر المالكية لذلك صورا، منها أن يقول شخص لآخر: داين فلانا، أو بايعه، أو عامله، وأنا ضامن، فداينه أو بايعه أو عامله، فإن هذا القائل يلزمه ضمان ما سيثبت في ذمة فلان هذا من دين نتيجة هذه المعاملة. غير أن للضامن في هذه الحالة الرجوع عن الضمان قبل المعاملة (حاشية الدسوقي 3: 333) .
2-
الضمان بمعنى وجوب المثل أو القيمة على من أتلف مال غيره بفعل ضار غير مشروع. وهنا لا يوجد عقد بين الضامن والمضمون له، بل أساس الضمان هو نص الشارع الذي يوجب على من أتلف مال غيره أو تسبب في إتلافه ضمان مثله أو قيمته. وقد تكلم الفقهاء عن ضمان الأعيان وضمان المنافع المفوتة على المالك في باب الغصب، وهو فعل ضار غير مشروع يوجب الضمان بذاته.
3-
الضمان بمعنى تحمل تبعة الهلاك أو التلف أو الخسارة بناء على قواعد الملك أو العقد وهو نوعان:
(أ) نوع يؤسس على قواعد الملكية التي تقضي بأن المال يتلف أو يهلك على ملك صاحبه، بمعنى أن المالك هو الذي يتحمل تبعة هلاك ملكه، ما لم يوجد سبب شرعي يحمل هذه التبعة على غيره. فإذا كان المال بيد مالكه أو بيد غيره بعقد من عقود الأمانة – كالوديعة والإجارة والمضاربة – فإن تبعة هلاكه أو تلفه تقع على المالك، ما لم يكن هذا الهلاك أو التلف قد حدث بسبب فعل ضار غير مشروع وقع من غير المالك، ويدخل في ذلك تعدى الأمين في المال أو التقصير في حفظه أو استثماره أو مخالفة شرط من شروط عقد الأمانة، وضمان الأمين هنا ليس أساسه عقد الأمانة، بل التعدي أو التقصير أو مخالفة شروط العقد، أي الفعل الضار غير المشروع.
(ب) ونوع يؤسس على وضع اليد على المال بعقد من عقود الضمان، أي العقود التي تحمل وضع اليد بعقد معين تبعة هلاك هذا المال، ولو كان الهلاك بسبب لا مبرر له فيه، تطبيقا لقاعدة الخراج بالضمان أو الغنم بالغرم أو قاعدة الاستيفاء، كعقد الرهن فإن يد المرتهن على المال المرهون يد ضمان عند الأحناف، وكعقد العارية عند البعض، وكمن وضع يده على مال سوم الشراء، أو بناء على التعدي أو التقصير المفترض من واضع اليد كالآجير المشترك عند بعض الفقهاء الذين يحكمون بتضمينه ما تلف تحت يده من مال، ما لم يثبت هو أن التلف أو الهلاك كان بسبب أجنبي لا يد له فيه.
4-
الضمان بمعنى الالتزام بالقول من جانب الملتزم، وهو ما يطلق عليه عبارة الوعد الملزم، أو التبرع الملزم، أو الالتزام من جانب واحد. وقد يكون هذا الالتزام في مقابل عمل يقوم به الملتزم له، كالتزام الجاعل الجعل، كمن يعلن عن جائزة لمن يقدم له تصميما هندسيا، أو اكتشافا علميا. وقد يكون في مقابل عمل نافع للمتلزم له دون الملتزم، كمن يقول لآخر: ادرس الطب وعليَّ مصاريف دراستك، أو تزوج ابنة عمك وعلي صداقها، أو ابدأ في هذا المشروع وعلي رأسماله.
وسوف نرى عند دراسة موضوع ضمان سندات المقارضة أو ما ينتج عنها من أرباح المقصود بالضمان في أقوال الباحثين.
ثانيا: الصفة الشرعية لصكوك المضاربة أو سندات المقارضة:
صكوك المضاربة أو سندات المقارضة تطبيق حديث لعقد المضاربة الشرعية، يقوم فيه المضارب – فردا أو شركة أو مؤسسة – بدراسة اقتصادية لنشاط معين، أو مشروع خاص، ثم يوجه إيجابا عاما للجمهور، أو لبعض المؤسسات المالية أو الأفراد لتمويل هذا النشاط، أو ذاك المشروع باعتبارهم رب المال في عقد المضاربة، ويأخذ هذا الإيجاب شكل نشرة إصدار تعرف بالمشروع أو النشاط ورأس المال المطلوب، وطريقة إدارته، وحصة أصحاب رأس المال في أرباحه وغير ذلك من البيانات اللازمة لصحة عقد المضاربة، وتشير هذه النشرة إلى أن دراسة الجدوى قد أعدت وفق الأصول العلمية المرعية، واعتمدت على بيانات صحيحة، ويقسم رأس المال المطلوب للمشروع إلى حصص أو وحدات نقدية، وتطرح شهادات أو صكوك تمثل وحدة أو عددا من هذه الوحدات المالية، وكل من يسهم في رأسمال المضاربة بمبلغ من النقود يحتفظ بصك أو أكثر من هذه الصكوك باعتباره يمثل حصة شائعة في المشروع بعد إنشائه. فالملكية لا تنصب على الصك نفسه بل على ما يمثله الصك من حصة مالية في المشروع، فهو دليل الحق ووثيقة إثباته، يقوم تسليمه مقام قبض الحصة الشائعة في المشروع عند التصرف فيها.
وتحتوي صكوك المضاربة خلاصة لنشرة الإصدار تتضمن أركان عقد المضاربة والشروط اللازمة لصحته، وتحيل في التفصيل لنشرة الإصدار ودراسة الجدوى، وهذه الوثائق كلها تكون عناصر الإيجاب اللازم لعقد المضاربة، ويفترض فيمن يكتتب في تمويل هذا المشروع بشراء هذه الصكوك أنه اطلع على هذا الإيجاب وأنه رضي به.
وتبقى مسؤولية المضاربة قائمة عن صحة ما ورد في نشرة الإصدار وصكوك المضاربة من بيانات، وعن سلامة دراسة الجدوى التي أعدت للمشروع، بحيث يلزمه الضمان إذا تبين عدم صحة البيانات المقدمة أو عدم الالتزام بالأسس العلمية في دراسة الجدوى. وقد يعهد المضارب إلى غيره بإعداد الدراسة المطلوبة وإدارة عملية الإصدار لحسابه في مقابل معين، ولكن هذا لا يعفيه من الضمان.
وواضح في هذا التطبيق الجديد لعقد المضاربة أن أطراف عقد المضاربة لا يجتمعون في مكان واحد أو في مجلس عقد واحد، بحيث يمارسون المساومة في شروط عقد المضاربة ونوع النشاط وطبيعة المشروع وسلطات المضارب، وحصته من الربح وغير ذلك مما يتضمن عقد المضاربة، بل وقد لا يعرف بعضهم بعضا، كما أن حملة صكوك المضاربة باعتبارهم أرباب المال قد يتغيرون من وقت لآخر نتيجة تداول هذه الصكوك في سوق الأوراق المالية. ويمكن تشبيه عقد المضاربة في صورته الحديثة التي تقوم على صدور الإيجاب بشروطه وحدوده من المضارب، بحيث لا يتاح لأرباب المال فرصة مناقشة بنود العقد وشروطه، عقود الإذعان في القانون؛ إذ إن رب المال في هذه الصورة لا يملك إلا القبول أو الرفض، وهو إن قبل فإنما يقبل بناء على معلومات وبيانات لا يتيسر له التحقق من صحتها في الكثير الغالب من الحالات، ولذلك قلنا إن المضارب مسؤول عن صحة هذه البيانات والمعلومات.
وحصيلة صكوك المضاربة بعد بيعها تمثل رأس مال المضاربة، وهو مملوك لحملة هذه الصكوك، ويد صاحب المشروع (المضارب) عليها يد أمانة، وعند بدء التشغيل وتحويل النقود إلى سلع ومعدات ومبان تنتقل ملكية حملة الصكوك إلى هذه السلع والمعدات باعتبارها مكونات المشروع.
ثالثا: ضمان المضارب لصكوك المضاربة:
عرفنا أن المضارب في هذه الحالة هو من تم الاكتتاب لصالحه، سواء قام به بنفسه أو قام به غيره نيابة عنه، فهو صاحب فكرة المشروع، وهو الذي يتلقى حصيلة الاكتتاب ويوجهها للاستثمار في المشروع، وفق دراسة الجدوى وشروط نشرة الاكتتاب وصكوك المضاربة، وذلك باعتباره مضاربا، فهو لا يملك المشروع إلا بقدر ما يكتتب فيه لنفسه، ولكنه يديره لحساب مالكيه، وهو يديره وفق أحكام المضاربة الشرعية، وعلى أساس الشروط التي تضمنها الوثائق التي قلنا إنها تمثل الإيجاب، أي نشرة الإصدار ودراسة الجدوى وصكوك المضاربة، والتي على أساسها تم القبول بشراء هذه الصكوك التي تمثل حصته في ملكية المشروع بعد إنشائه.
والمضارب في هذه الحالة قد يكون فردا وقد يكون شركة، وقد يكون مؤسسة مالية كالبنوك وشركات الاستثمار، وهو في جميع الأحوال صاحب قرار الاستثمار لا يشاركه فيه حملة الصكوك باعتبارهم أرباب المال، ولا يقيده في إصداره إلا أحكام المضاربة الشرعية والشروط التي تضمنتها نشرة الإصدار ودراسة الجدوى، وصكوك المضاربة، وهذا هو مقتضى عقد المضاربة وحكمها الأساسي الذي يفرق بين المضارب والأجير ولا يجوز الاتفاق على عكسه بأن يقيد المضارب في اتخاذ القرار الاستثماري باستشارة رب المال، أو العمل بتوجيهاته في هذا القرار.
وقد تكفلت قواعد الشريعة بحماية رب المال بصورة جمعت بين المصالح المتعارضة، فالمضارب أولا يلتزم في إدارة المشروع بأحكام الشريعة التي تمنعه من كل صور التعدي: أي تعمد الإضرار بمصالح رب المال، وهو مسؤول إذا ارتكب فعلا من أفعال التعدي باتفاق الفقهاء، كما أنه مكلف في إدارته للمشروع وفي إصدار القرارات الاستثمارية باتباع السلوك العادي، وتحري الحيطة والحذر المتوقع من أمثاله من أهل الخبرة في هذا المجال. وهو إن أخطأ أو قصر بدون قصد في هذه الإدارة أو في اتخاذ قرار استثماري معين ترتب عليه لحوق الضرر بالمشروع كان مسؤولا أي ضامنا لكل خسارة تلحق المشروع أو ربح يفوت عليه، ولو لم يكن قاصدا لوقوع هذا الضرر، وهذا هو الفرق بين التعدي والتقصير.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن للمضاربة أحكاما شرعية فصلتها كتب الفقه، وهي قيود والتزامات فرضها الشارع على المضارب في عقوده وتصرفاته وإدارته للمشروع، فهناك نشاط لا يملك المضارب الدخول فيه، وعقود لا يستطيع إبرامها، وتصرفات لا يحل له القيام بها، وهي في مجموعها حماية كافية لرب المال.
ولكن الشريعة الإسلامية لم تكتف بذلك، بل أجازت لرب المال أن يضع قيودا، وأن يفرض واجبات على المضارب في عمله، وأن يمنعه من أنشطة معينة، وأن يضمن عقد المضاربة توجيهات ملزمة للمضارب، كل ذلك بشرط واحد هو ألا تصل هذه القيود والشروط والتوجيهات إلى الحد الذي يضيق على المضارب ويكبله في اختيار القرار الاستثماري المناسب، ويمنع الاستفادة منه كخبير استثمار.
ومن الملاحظ في عقود المضاربة في البنوك الإسلامية أن هذه البنوك باعتبارها رب مال لا تولي هذا الأمر العناية اللازمة، مما سبب لها أضرارا بالغة، فبعض هذه البنوك ليس لديها خبراء استثمار على المستوى المطلوب لدراسة المشروعات المطلوب تمويلها، كما أنه ليس لديها خبراء في صياغة عقود المضاربة في كل نشاط أو مشروع على حدة، بحيث تتضمن هذه العقود الشروط التي توجه المضارب وتحمي مصالح البنك.
ولا خلاف بين الفقهاء في أن المضارب يضمن رأس مال المضاربة، والربح الناتج عنه في الحالات السابقة، أي في حالة الخروج على حكم من أحكام عقد المضاربة، التي فصلتها الشريعة، بأن أتي تصرفا أو أبرم عقد أو اتفاقا لا يجيزه الشرع، أو وقع منه تعد، بأن صدر عنه فعل متعمد ترتب عليه هلاك رأس المال أو تلفه أو نتجت عنه خسارة أو ضاع بسببه ربح، أو سلك في إدارته للمشروع سلوكا يتسم بالتقصير ويوصف بالخطأ الذي لا يتوقع من خبراء الاستثمار أمثاله، نتيجة إهمال وعدم اكتراث، ولو لم يقصد أو يتوقع ترتب الضرر عليه، أو خالف في إدارته للمشروع شرطا أو قيدا أو توجيها تضمنه عقد المضاربة، أي تضمنته دراسة الجدوى ونشرة الإصدار وصكوك المضاربة.
ويمكن لحملة الصكوك أن يختاروا من بينهم مجلسا لمراقبة المشروع ومتابعة إدارته والتأكد من التزام المضارب لأحكام الشريعة وشروط المضاربة، واتخاذ الإجراءت المناسبة لحماية حقوق حملة صكوك المضاربة، فهذا المجلس يمثل أرباب المال وينوب عنهم فيما لهم من حقوق، ومهمته هي التأكد من تنفيذ إدارة المشروع للعقد وليس إدارة المشروع أو المشاركة في إدارته، إذ إن ذلك ينافي مقتضى العقد كما سبق بيانه، كما أن لحملة صكوك المضاربة أن يعهدوا بهذه المهمة لجهة أو هيئة معينة تقوم بهذه المهمة في مقابل أجر كمكاتب المحاسبة، والمكاتب الاستشارية، وذلك كله زيادة على قيام أجهزة الدولة بالرقابة على جدية المشروع ونزاهة القائمين عليه، وجدواه الاقتصادية، وسلامة إجراءات الاكتتاب فيه، وحسن إدارته، حماية لمصالح الجمهور، وحفاظا على المصالح الاقتصادية للمجتمع.
وهناك قضية هامة ينبغي الإشارة إليها، وهي إثبات التعدي أو التقصير أو مخالفة شروط المضاربة – من جانب المضارب – وقد سلك فيها المالكية مسلكا خاصا يحمي مصالح أرباب المال، فدعوى الهلاك أو التلف لمال المضاربة لا تقبل من المضارب إذا كانت هناك قرائن تكذبها، ويحكم بضمانه لما ادعى هلاكه أو تلفه. أما في دعوى الخسارة فإنهم يتشددون مع المضارب حماية لرب المال؛ فدعواه الخسارة لا تقبل إلا بشرطين: أحدهما أن يحلف اليمين على أنه قد خسر، وثانيهما: ألا توجد قرائن تكذب هذه الدعوى، وهذا الحكم يطبق على المضارب ولو كان حسن السمعة، غير متهم.
ولا شك أن دراسة الجدوى المقدمة من المضارب، والبيانات التي بنيت عليها هذه الدراسة، وهي تتضمن الربح المتوقع من المشروع، والتي أشار إليها في نشرة الإصدار تعد قرينة قوية على بطلان دعوى الخسارة المجردة عن الدليل، وهنا يحكم عليه بضمان الربح المعلن في دراسة الجدوى حتى يقدم هو الدليل على الخسارة التي يدعيها، ويثبت أن ما ورد في الدراسة لم يتحقق لسبب لا يد له فيه، ولظروف طارئة لم يكن من الممكن توقعها أو قياس نتائجها. وقد مثل المالكية للقرينة بقولهم (بأن سأل رب المال تجار بلد تلك السلع هل خسرت في زمان كذا أولا، فأجابوا بعدم الخسارة)[الشرح الكبير للدردير 3: 536] .
جاء في الشرح الكبير للدردير: والقول للعامل في دعوى تلفه كله أو بعضه، لأن ربه رضيه أمينا، وإن لم يكن أمينا في الواقع، وهذا إذا لم تقم قرينة على كذبه وإلا ضمن، وفي دعوى خسره بيمين ولو غير متهم على المشهور إلا لقرينة تكذبه.. فيغرم بمجرد نكوله لأنها دعوى اتهام (الشرح الكبير للدردير 3: 536) .
هذه هي حدود مسؤولية المضارب أو القائم على إدارة المشروع الذي صدرت صكوك المضاربة لتمويله، وتلك هي أسباب ضمانه لهلاك رأسمال المشروع أو خسارته. وفي خارج هذه الحدود لا يحكم على المضارب بالضمان باتفاق الفقهاء، وهذا هو العدل الذي جاءت به الشريعة، فالمضارب قد دخل في شركة مع رب المال، وكانت حصته في هذه الشركة عمله وعلمه وخبرته، وكانت حصة رب المال هي رأسماله، وقد اتفقا على توزيع الربح الناتج عن المضاربة على أساس مساهمة كل حصة في إنتاج هذا الربح، أي العمل ورأس المال على نحو استقلا بتقديره دون قيود من الشارع ثم قررت الشريعة أن كلا من المضارب ورب المال مسؤول في حدود حصته دون زيادة، فرب المال يسأل في حدود حصته، فلا يخسر أزيد من رأسماله، والمضارب يسأل في حدود حصته، فلا يخسر إلا جهده وخبرته. فإذا حدث هلاك أو خسارة لا يد للمضارب فيها فليس من العدل أن يتحمل وحده تبعة هذا الهلاك، أو تلك الخسارة. أما إذا تعدى أو فرط أو خالف حكما من أحكام العقد أو شرطا من شروطه فإنه يسأل عن ذلك، ويضمن رأس المال والربح، باعتبار ذلك جزاء عمله غير المشروع الذي أدى إلى الهلاك أو الخسارة. وقد رأينا أن المالكية يقدمون القرائن على دعوى المضارب ويحكمون بتضمينه إذا قامت قرائن تكذب دعواه.
رابعا: احتياطي مواجهة مخاطر الاستثمار:
ليس هناك ما يمنع شرعا من أن تتضمن نشرة الإصدار وصكوك المضاربة أن حملة صكوك المضاربة يوافقون على اقتطاع جزء من أرباحهم كل سنة كاحتياطي خاص لمواجهة مخاطر الاستثمار، بحيث يعوض من هذا الجزء ما ينقص من رأس المال، أو ما يقلل من الأرباح عن حد معين – في سنة معينة – باعتبار ذلك تبرعا ممن يملك رأس المال وعائده، والتبرع يلزم بالقول عند المالكية. على أنه يجوز أن ينصب التبرع على ما يكفي لجبر الخسارة أو نقصان الربح عن الحد المعين من ذلك الاحتياطي، بحيث يبقى ما يفيض عن ذلك ملك حملة صكوك المضاربة؛ أي أنهم يتبرعون من هذا الاحتياطي بما يكفي فقط لجبر الخسارة أو نقصان الربح في إحدى السنوات، كما أنه يمكن أن يكون التبرع بكل ما يقتطع من الربح ويوضع في الاحتياطي الخاص وفي هذه الحالة فإن ما يزيد عن جبر الخسران، أو نقصان الربح يصرف في نهاية المشروع في وجوه الخير، وتتضمن نشرة الإصدار والصكوك ما يحدد محل التبرع ونسبته، وصفته الشرعية، وكيفية التصرف فيه.
وإذا تم تداول هذه الصكوك فإن المالك الجديد للصك بقبوله لشراء صك المضاربة يوافق على هذا التبرع؛ لأن الصك يحمل في ظهره ما يفيد اقتطاع نسبة من الأرباح لتكوين احتياطي لمواجهة مخاطر الاستثمار.
وهذا الترتيب يدخل تحت الضمان بمعنى الالتزام بالقول، أو الوعد الملزم، ولا صلة له بالضمان بمعانيه الأخرى التي سبقت الإشارة إليها في مقدمة هذه الورقة، وهذا النظام الذي يهدف إلى تأمين مخاطر الاستثمار في صكوك المضاربة يفضل غيره من الوسائل، ذلك أنه لا يعتمد على طرف ثالث خارجي، فحملة صكوك المضاربة وهم أصحاب المشروع يقومون بالتبرع لتكوين احتياطي يؤمن مشروعهم ضد مخاطر الاستثمار وذلك من أرباح المشروع نفسه، ثم إن الجزء الذي يفيض عن تغطية المخاطر الفعلية المطلوب تغطيتها يبقى حقا من حقوق الملكية، ولا يذهب سدى، كالشأن في التأمين ضد هذه المخاطر لدى إحدى شركات التأمين.
خامسا: تبرع طرف ثالث بضمان رأس المال أو الربح في صكوك المضاربة:
يقصد بالضمان هنا الالتزام على سبيل التطوع، وهو ما يطلق عليه المالكية الوعد الملزم، وذلك بأن تتضمن نشرة الإصدار وصكوك المضاربة موافقة طرف ثالث خارج عن أطراف عقد المضاربة على ضمان رأس المال أو نسبة معينة من الربح. وهذا الطرف الثالث قد يكون فردا أو شركة لها مصلحة في تشجيع نوع معين من النشاط، أو مؤسسة خاصة تهدف إلى تشجيع المدخرات على المساهمة في مشروع معين ضمن خطة التنمية، وتجمع لذلك بعض الأموال على سبيل التبرع لمواجهة هذا الضمان.
وليس في مقاصد الشريعة العامة وقواعدها الكلية، وأحكامها الجزئية ما يمنع من صحة تبرع شخص بمبلغ من المال، إذا كان تبرعه هذا معلقا على شرط معين، فغاية الأمر في هذه الحالة أن المتبرع يعلق التزامه على شرط هو تلف رأس المال أو بعضه، أو نقصان الربح عن حد معين، وقد قرر بعض المالكية أنه لو قال شخص لآخر: تزوج هذه المرأة وعلي صداقها، فإنه يلزمه الصداق إذا تزوجها، وأنه إذا قال لآخر: داين فلانا أو بايعه أو عامله أو خدمه عندك، أو قال لأهل السوق اجعلوا فلانا سمسارا عندكم وعلي ضمانه، أنه يلزمه مما يثبت في ذمته، نتيجة هذه المعاملة (الشرح الكبير للدردير 3: 333) بل سلم الحنابلة وغيرهم أنه لو قال لآخر: ألق متاعك في البحر وأنا ضامن، فإنه يلزمه الضمان (المغني لابن قدامة 4: 592) وكذلك ذكر بعض الحنفية أنه لو قال لغيره: اسلك هذا الطريق، فإنه آمن، فإن ضاع متاعك فأنا ضامن، إن الضمان يلزمه إذ المعنى: إن داينت فلانا أو بايعته وثبت في ذمته دين فأنا ضامن، وأن ألقيت مالك في البحر فهلك فأنا ضامن، وإن سلكت هذا الطريق فضاع المتاع فأنا ضامن، وأن ألقيت مالك في البحر فهلك فأنا ضامن، وإن سلكت هذا الطريق فضاع المتاع فأنا ضامن، وقياس ذلك في الحالة المعروضة: اشتر هذه الصكوك، أو استثمر مالك في هذا المشروع، فإن هلك رأسمالك أو نقص الربح عن حد معين، فأنا ضامن، أي ملتزم بأدائه، ولا خلاف عند المالكية في أن التعليق في المعنى في عقود التبرع لا يبطل العقد، فإذا قال شخص لآخر: وهبت لك ثمار هذا البستان العام القادم فإن الهبة تصح، وهي التزام معلق على شرط في المعنى، فكأنه قال: إن أثمر هذا البستان في العام القادم فثماره لك، لأن الجهالة والغرر الناتجين عن التعليق لا تؤثر في عقود التبرع، بل تؤثر في عقود المعاوضات؛ لأن المتبرع إليه لا يتضرر بعدم وقوع المعلق عليه، لأنه لم يغرم شيئا في مقابلة ما وعد به من عوض، في حين أن الطرف الذي علق العوض الذي يستحقه في عقود المعاوضة، يتضرر بعدم وقوع المعلق عليه؛ لأنه قد دفع عوضا مقابلا لما وعد به.
سادسا: تبرع الدولة بضمان رأس المال أو الربح في صكوك المضاربة:
إذا قامت الدولة بالإعلان عن التزامها بضمان رأس المال أو نسبة معينة من الربح لحملة صكوك المضاربة في مشروع معين، وتضمنت نشرة الإصدار هذا الالتزام كان هذا الإعلان ملزما لها باعتباره تبرعا يلزم بالقول على رأي المالكية وبعض الفقهاء.
والدولة في هذه الحالة لا تضمن المضارب، بمعنى ضم ذمتها إلى ذمته فيما يلزمه، لأن الغرض أنه لم يأت بسبب يلزمه به شيء، بل إنها تتبرع لحملة صكوك مشروع معين، إذا هلكت رؤوس أموالهم، أو نقصت أرباحهم الناتجة عن هذا المشروع عن حد معين، وكأنهم يقومون بالاستثمار بأنفسهم، وهذا لا يمنع من جواز ضمان الدولة للمضارب شرعا بمعنى ضم ذمة الدولة إلى ذمته فيما يلزمه من ضمان، نتيجة التعدي أو التقصير، أو مخالفة أحكام المضاربة أو الشروط التي اشترطها رب المال عليه، فهنا تقوم الدولة بتعويض حملة الصكوك عما يلحقهم من ضرر بسبب يترتب عليه الضمان على المضارب، ذلك أن الدولة تشرف على النشاط الاقتصادي، وتقوم المشروعات، ولديها من الوسائل ما تحافظ به على مصالح حملة الصكوك، ولها في سبيل ذلك أن تطمئن أرباب المال على استثمارهم في مشروع معين، يدخل ضمن خطة التنمية للدولة.
ويستحسن أن تخصص الدولة ميزانية خاصة، تقوم على أساس التبرع لضمان مخاطر الاستثمار في المشروعات الهامة، أو ذات النفع العام، أو أن تفرض وظيفة خاصة لهذا الغرض تحدد بنسبة معينة من أرباح المشروعات والشركات العامة في الدولة، ويمكن أن يحقق هذا الصندوق أهداف التوازن بين النشاطات المختلفة في داخل الدولة.
سابعا: تأمين مخاطر الاستثمار لدى شركة تأمين إسلامية:
إن شركة التأمين الإسلامية هي الشركة التي تقوم على إدارة عمليات التأمين واستثمار أمواله لحساب حملة وثائق التأمين الذين يمثلون المؤمن عليهم في نفس الوقت، فشركة التأمين لا تملك أموال التأمين الناتجة عن الأقساط وعائد استثمارها، لأن هذه الأموال ملك لحملة وثائق التأمين، وقد اتفقوا على التبرع منها بما يلزم لدفع التعويضات عن الأضرار الحادثة في عام معين، وفقا للنظام المتفق عليه بينهم في تحديد الأقساط ومبالغ التأمين عند وقوع الأخطار المؤمن منها، وشركة التأمين تقوم بعمليات التأمين وفق الأصول الفنية السائدة، كقانون الكثرة، ونظرية الاحتمالات وغيرهما مما تستخدمه شركات التأمين التجارية، غاية الأمر أن ما يجمع من أقساط يكون على ملك حملة وثائق التأمين أنفسهم، وعائد استثماره يكون حقا لهم، وهم يدفعون من هذه الأقساط وعائدها التعويضات اللازمة لجبر الأضرار نتيجة وقوع الأخطار المؤمن منها، وذلك على سبيل التبرع، وما يبقى من هذه الأقساط فهو ملك لهم. على عكس الحال بالنسبة لشركات التأمين التجارية، فإن الفرق بين ما يجمع من أقساط، وما يدفع من تعويضات في سنة معينة يذهب للشركة ويعد ربحا للمساهمين فيها، وشركة التأمين الإسلامية تأخذ أجرة على قيامها بإدارة عمليات التأمين تغطي مصاريفها، وتحقق هامشا مناسبا من ربح لأصحابها، ويمكن تحديد هذا الأجر بطريق من طريق تحديد الأجر الشرعية، كأن يكون مبلغا مقطوعا أو نسبة من الأقساط، ويمكن أن تعطي هذه الشركة نسبة من عوائد استثمار أموال التأمين باعتبارها مضاربا يقوم باستثمار هذه الأموال.
وليس هناك ما يمنع في نظري من التأمين لدى هذه الشركات ضد مخاطر الاستثمار، أي هلاك رأس المال أو الخسارة أو نقص الربح عن حد معين على أن يحدد قسط التأمين على هذا الأساس، فإذا ما حدثت خسارة أو نقص الربح عن حد معين جبرت هذه الخسارة أو النقص في الربح من أموال التأمين، على أنه يجب أن يراعي أن يكون حملة وثائق التأمين أي المؤمنين هم المؤمن لهم، وأن يكون دور شركة التأمين هو دور المدير لعمليات التأمين مقابل أجر، والمستثمر لأمواله مقابل حصة معينة من الربح.
د. حسين حامد حسان