المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الإسلاموانتزاع الملك للمصلحة العامةإعدادفضيلة الشيخ محمد الحاج ناصر - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٤

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الرابع

- ‌كلمةمعالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلاميالأستاذ/ سيد شريف الدين بيرزاده

- ‌كلمةمعالي رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلاميالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌كلمةمعالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدوليالدكتور محمد الحبيب بن الخوجة

- ‌كلمةمعالي الأستاذ سيد شريف الدين بيرزاده

- ‌كلمةمعالي رئيس البنك الإسلامي للتنميةالدكتور/ أحمد محمد علي

- ‌كلمةمعالي الأمين العام بالنيابة لرابطة العالم الإسلاميالأستاذ/ أمين عقيل عطّاس

- ‌كلمةمعالي وزير الأوقاف بدولة الكويتالشيخ خالد أحمد الجسار

- ‌كلمةمعالي رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلاميالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌كلمةمعالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدوليالدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌كلمةالوفود المشاركةألقاها بالنيابة سعادة السفير الدكتور عمر جاه

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادمعالي الدكتور محمد علي البار

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًغرس الأعضاء في جسم الإنسانمشاكله الاجتماعية وقضاياه الفقهيةإعدادمعالي الدكتور محمد أيمن صافي

- ‌التشريح الجثماني والنقل والتعويض الإنسانيإعدادفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادفضيلة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

- ‌‌‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًفي الفقه الإسلاميإعدادفضيلة الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًفي الفقه الإسلاميإعدادفضيلة الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادالدكتور عبد السلام داود العبّادي

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادفضيلة الشيخ آدم عبد الله علي

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حيّاً أو ميّتاًإعدادفضيلة الشيخ محمد عبد الرحمن

- ‌صرف الزكاة لصالح صندوقالتضامن الإسلاميإعدادسعادة سيدي محمد يوسف جيري

- ‌صرف الزكاة لصالح صندوقالتضامن الإسلاميإعدادفضيلة الشيخ تيجاني صابون محمد

- ‌صرف الزكاة لصالح صندوقالتضامن الإسلاميإعدادفضيلة الشيخ مولاي مصطفى العلوي

- ‌صرف الزكاة لصالح صندوقالتضامن الإسلاميإعدادسعادة الدكتور عبد الله إبراهيم

- ‌مذكرة تفسيرية بشأن صندوق التضامن الإسلامي ووقفيته

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ عبد الله البسام

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة أ. دكتور وهبه مصطفى الزحيلي

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ محمد عبد اللطيف آل سعد

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ هارون خليف جيلي

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ رجب بيوضي التميمي

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ محمد عبده عمر

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌المثامنة في العقار للمصلحة العامةإعدادالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌انتزاع الملكية للمصلحة العامةإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌انتزاع الملكية للمنفعة العامةإعدادأ. د. يوسف محمود قاسم

- ‌نزع الملكية الخاصة للمنفعة العامةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌انتزاع الملك للمصلحة العامةإعدادالدكتور محمود شمام

- ‌الإسلاموانتزاع الملك للمصلحة العامةإعدادفضيلة الشيخ محمد الحاج ناصر

- ‌سندات المقارضةإعدادالصديق محمد الأمين الضرير

- ‌سندات المقارضةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌سندات المقارضةوسندات الاستثمارإعدادالدكتور حسن عبد الله الأمين

- ‌سندات المقارضةإعدادالقاضي محمد تقي عثماني

- ‌ضمان رأس المال أو الربحفي صكوك المضاربةأو سندات المقارضةإعدادالدكتور حسين حامد حسان

- ‌سندات المقارضةوسندات التنمية والاستثمارإعدادفضيلة الشيخ محمد المختار السلامي

- ‌سندات المقارنة وسندات الاستثمارإعدادفضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌تصوير حقيقة سندات المقارضة والفرق بينها وبينسندات التنمية وشهادات الاستثمار والفرق بينهاوبين السندات الربويةإعدادالدكتور سامي حسن حمود

- ‌سندات المقارضة والاستثمارإعدادفضيلة الدكتور علي أحمد السالوس

- ‌سندات المقارضةإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌البيان الختامي وتوصياتلندوةسندات المقارضة وسندات الاستثمارالتي أقامهامجمع الفقه الإسلامي بجدة

- ‌بدل الخلوإعدادالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌ موضوع (بدل الخلو)

- ‌بدل الخلوإعدادالدكتور محمد سليمان الأشقر

- ‌حكم الشريعة في بدل الخلو (السرقفلية)إعدادفضيلة الأستاذ إبراهيم فاضل الدبو

- ‌بدل الخُلُوِّفي الفقه الإسلاميإعدادفضيلة الشيخ محيي الدين قادي

- ‌بدل الخلو وتصحيحهإعدادفضيلة الشيخ حجة الإسلام محمد علي تسخيري

- ‌كيفية مكافحة المفاسد الأخلاقيةإعدادفضيلة الشيخ/ رجب بيوض التميمي

- ‌كيفية مكافحة المفاسد الأخلاقيةإعدادالشيخ هارون خليف جيلي

- ‌مجالات الوحدة الإسلاميةوسبل الاستفادة منهاإعدادالأستاذ مصطفى الفيلالي

- ‌مجالات الوحدة الإسلاميةوسبل الاستفادة منهاإعدادفضيلة الدكتور عمر سليمان الأشقر

- ‌مجالات الوحدة الإسلاميةوسبل الاستفادة منهاإعدادالحاج شيت محمد الثاني

- ‌الوحدة الإسلاميةوالتعامل الدوليإعدادفضيلة الشيخ/ محمد علي التسخيري

الفصل: ‌الإسلاموانتزاع الملك للمصلحة العامةإعدادفضيلة الشيخ محمد الحاج ناصر

‌الإسلام

وانتزاع الملك للمصلحة العامة

إعداد

فضيلة الشيخ محمد الحاج ناصر

بيانات لا بد منها:

ا) لم نضع مسردًا لمصادر المراجع لضيق الوقت ونأمل أن نضعه عند تقديم البحث "كتابًا للنشر".

2) أحلنا كل كلمة نقلناها عن غيرنا إلى مصدرها في تعليق جعلنا ترقيمه مسلسلًا.

3) كذلك أحلنا كل حديث وكل أثر إلى مصادره.

4) حرصنا على تخريج الأحاديث والآثار التي اعتمدناها مباشرة في هذا البحث تخريجًا يكاد يكون استقرائيا، أما تلك التي اعتمدها غيرنا ممن نقلنا كلامهم من صدور الأئمة والباحثين فقد اكتفينا بتخريجها من مصدر أو أكثر من المصادر المعتمدة حسب أهمية الحديث أو الأثر للبحث في رأينا، وأحلنا أحيانًا على "المزي" وكتابه تحفة الأشراف بيان مصادرها الأخرى وإن كنا غير مستريحين إلى الاقتصار على إحالات المزي؛ لأنه حصر مجاله في السنن الست مضافًا إليها السنن الكبرى للبيهقي، وقد نعود إلى الاعتماد على أنفسنا في تخريج تلك الأحاديث والآثار قبل تقديم الكتاب إلى النشر.

هـ) لم نذكر الطبعات التي اعتمدناها موطنًا أو تاريخًا وتركنا ذلك إلى "المسرد" الذي سنضعه للمصادر والمراجع وهي على أية حال في أغلبها الطبعات المصورة المتداولة بين الناس وأكثرها من بيروت.

6) لم نتخذ من كتب الفقهاء مصادر إلا ما كان من المحلى لابن حزم والتمهيد لابن عبد البر وما شاكلهما من المؤلفات التي تعتمد السنة ولا تخوض مع الخائضين في جدل الفقهاء وتصوراتهم الموغلة كثيرًا في الخيال لأننا لا نرى جدوى لمن يستنبط حكما شرعيًا من أن يوغل مع الفقهاء في معتسفاتهم. ونعتقد أن استنباط الحكم الشرعي لا يجوز أن يصدر إلا من الكتاب والسنة فإن تجاوزهما في حالات اضطرارية خاصة فإلى آثار الصحابة وفي أحيان قليلة إلى آثار كبار التابعين وليس معنى ذلك أننا لم نحاول الاستئناس بآراء الفقهاء وتطورها إنما معناه أننا لم نعتمدها إلا مرة أو مرتين استظهارًا لرأينا أو لموقفنا بقول رأيناه شريفًا جديرًا بالتقدير.

ص: 809

7) بالرغم من أننا رجعنا إلى عدد من كتب المعاصرين وبحوثهم المتصلة ببحثنا هذا ، فإننا لم نر أية جدوى من الإحالة عليها أو على البعض منها إلا ما كان من تفسير التحرير والتنوير لأستاذنا العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله ومن تفسير المنار للشيخ محمد رشيد رضا نقلا عن الشيخ محمد عبده ، فكلا الكتابين مما لا يصنف مع كتب المعاصرين ، وإنما يصنف مع كتب الأئمة الأول ، لا سيما كتاب الشيخ ابن عاشور ، فهو علم حتى بين كتب الأئمة الأول.

على أنا نقلنا مرة أو مرتين من كتاب للشيخ محمد أبو زهرة وهو متميز عن غيره من المعاصرين كما نقلنا مرة كلامًا للدكتور فاروق النبهان إذ وجدناه جديرًا بالتميز عن غيره من كلام المعاصرين.

8) والمنهج الذي التزمناه في هذا البحث وهو منهجنا في كل بحث شرعي لنا هو حصر الاعتماد في الاستدلال والاستنباط على الكتاب والسنة وآثار الصحابة وقليل من آثار كتاب التابعين وتوثيق كل كلمة اعتمدنا عليها ونقلناها ونقل ما ننقله من كلام غيرنا كاملًا بلفظه غير مبتور من أوله أو آخره؛ لأن نقل الجملة أو الفقرة منتزعة من سياقها يفقدها غالبًا دلالتها الكاملة ، ثم إن بتر كلام الغير وإحالة القارئ إلى مصدره قد يحمل القارئ رهقًا من أمره ، فمن المحتمل أن لا يكون المصدر متيسرًا له أو عند متناول يده وهو يقرأ وفي هذه الحال إما أن يعتمد النص المبتور ، فيستعسر عليه اجتلاء الدلالة ، وإما أن لا يعتمده فيستعسر عليه مسايرة النص الذي يقرؤه ، وفي كلتا الحالتين إساءة إلى القارئ والمنقول عنه والنص المستدل به والموضوع المستدل له ، لذلك اضطررنا إلى نقل صفحات كاملة من الوسيط للسنهوري الذي اعتمدناه وحده كمصدر قانوني إلى نقل قريب منها من بعض مصادر التفسير وحتى من بعض الأئمة الأول من الفقهاء؛ لأن نقلنا منها على طوله كان في تقديرنا ضروريًا للإحاطة بالمعاني التي نقلناه من أجلها.

هذه بيانات ارتأينا من الضروري وضعها أمام القارئ بين يدي البحث لنجلو له ما يمكن أن يراه البعض نشازًا أو مأخذًا يأخذنا به ولكل واحد من قبل ومن بعد رأيه وتقديره ، والله الموفق.

ص: 810

بسم الله الرحمن الرحيم

علاقة الإنسان بالأرض

الحمد لله، أحمده وأشكره ، وأستعينه وأستغفره ، وأستهديه وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أتخذ من هديها نبراسًا أسترشد به، ومن نورها سببًا استمد به التوفيق من الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، شهادة من أشرب قلبه بحبه، ووقف عقله عند هديه ، لا تنصرف به الأوجه والآراء إلى مصارفها، ولا تنحرف به النحل والأهواء إلى مساربها.

اللهم صل وسلم على من ختمت برسالته أسباب الاتصال المباشر بين الأرض والسماء، وجعلت شريعتك المنزلة إليه صفوة الشرائع المهيأة لتكون حكمك الباقي في الأرض إلى أن ترثها ومن عليها، وأنزلت عليه تعريفا بها وتمييزًا لها {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} (1) وعلى آله وأصحابه الذين استجابوا لدعوة الحق ، فكانوا جندك في نصرة الحق، وقادت البشرية كافة إلى سبل الحق، وعلى التابعين وتابعيهم وكل من سلك منهاجهم واتبع هديهم بإيمان وصدق، صلاة وسلامًا أتوسل بهما إليك، في دنياي، أن تجنبني مواقع الزلل، وتعصمني من أسباب الخطأ والخطل، وتجنبني الانحراف والتحريف، وتعصمني من نوازع الضلال والزيف. وفي أخراي أن تكون سببًا لي إلى عفوك وغفرانك، ووشيجة بيني وبين المصطفى الحبيب تميلني شفاعته وتبلغني تحت لوائه ما يطمع فيه كل مسلم قانت من رحمتك ورضوانك.

وبعد:

فهذه محاولة معجلة لاجتناء جوانب من موقف الإسلام من الملك، أستجيب بها إلى دعوة كريمة من مجمع الفقه الإسلامي الموقر، شاكرًا أجزل الشكر وأصدقه وأعمقه، أخي رفيق العمر الأستاذ العميد الدكتور الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة أن أحسن بي الظن، فوجهها إلي غير مشفق من قصوري وما قد يجلبه عليه من تبعات.

(1) الآية رقم: (48) من سورة المائدة.

ص: 811

وكنت حريًا أن أعتذر عن المشاركة في دورة "المجمع الموقر" هذه ، تقديرًا لخطر التبعة وضعف الاستعداد، لولا أني أحببت أن أتخذ إسهامي وسيلة إلى أن أستزيد من العلم بالبحث في الموضوع الذي اخترته من موضوعات هذه الدورة، وبالاستماع إلى من سيتاح لي خلالها أن أجلس منهم مجلس التلميذ، يرى مجرد الجلوس إليهم شرفًا عظيمًا، فكيف بما سيفضونه علي من أقباس علومهم، ونوافح عقولهم، ونوافل نقولهم من فيوض عسى الله أن ينفعني بها فيما بقي من عمري وفيما أستقبل من آخرتي.

ولقد آثرت موضوع "انتزاع الملك" على خطره وتشابكه تقديرًا لإلحاحه على حياة المسلمين منذ ما يقرب من نصف قرن وإلى أمد أحسبه سيطول إلى أن يتجلى لأولي الأمر في الأقطار الإسلامية منهاج الاقتصاد الإسلامي الحق، وينجلي عنهم الانبهار بما يتجاذبهم من الفتن الواردة من يمين ويسار، فيما يتحررون من أغلال التحجر والجمود على أوضاع وأعراف ومفاهيم، يزخر بها الفقه الإسلامي القديم، انعكاسًا لأطوار من الحضارة وأنماط من الحياة تجاوزتها البشرية اليوم في أطوار متلاحقة حتى لتكاد تنغمر معالم التواصل بين هذه وتلك من مراحل الحضارة والحياة، وتنطمس الأسباب ويوشك أن يتخذ الوضع الحضاري البشري والنمط الحياتي صبغة تنكر مظاهرها وظواهرها كل علاقة بالمراحل السالفة لحياة الإنسان ، ذلك بأن ما يشهده المسلمون اليوم من حوافز إلى الانبعاث أخذ يتجاوز بسرعة تشاكل أو تكاد سرعة التطور الحضاري البشري نطاق مجرد الشعور الملتهب بضرورة الانبعاث وتجديد الحيوية إلى نطاق البحث عن الأسباب الواقعة والوسائل العملية الكفيلة بتحقيق التجدد والانبعاث، وما كانت الحياة البشرية منذ كانت منعزلة عن التأثير المادي في تكييفها وضبط مسيرتها وتحديد مسارها وتعيين مقاصدها، ولا يمكن أن تكون ، فليس البشر ملائكة، ولا يمكن لحياتهم أن تكون إلا متأثرة متكيفة بالمؤثرات المادية والمقومات الروحية.

والإنسان الذي خلق من الأرض وإليها يعود، حددت مهمته بأنها خلافة الله في الأرض، وحددت مسؤوليته بأنها عمارة الأرض. يقول الله تبارك وتعالى:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (1) ويقول: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} (2) . ويقول: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (3)

(1) الآية رقم: (30) من سورة البقرة.

(2)

الآية رقم: (165) من سورة الأنعام

(3)

الآية رقم: (14) من سورة يونس

ص: 812

كما بينت معالم السداد لسلوكه في الأرض، واطلاعه بما وكل إليه من مهام ومسؤوليات بيانًا دقيقًا صريحًا ضابطًا في قوله سبحانه وتعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1)

وما أحسب أحدًا يماري في أن المسلمين سيظلون يضطربون في شبه متاهة من سراب الأحلام وتهويمات العقول العشواء، والبصائر المضببة، ما لم ينصرفوا عن الانحباس في قمقم اجتهادات الفقهاء الأقدمين الذين تقطعت بيننا وبينهم أو أوشكت أن تتقطع أسباب التشابه بين أنماط الحياة وأطوار الحضارة، أو يتطلعون في لهث الملهاف إلى ما يتجاذبهم من يمين ويسار، من ألوان النحل والشرائع الوضعية، بعضها وضع لغيرهم ممن يختلف عنهم اختلافًا جذريًا، في البيئة المادية والروحية، وبعضها يبهرج ويزخرف ضلة بهم وانصرافًا عن هويتهم الحضارية وكيانهم العقلي والروحي، أملًا ممن يضعه في تخليد عبوديتهم وتأبيد تسخيرهم، إمابإبقائهم على ضلالة لا يكادون يهتدون لا إلى أسباب اللحاق به، ولا إلى سبل الاحتفاظ بهويتهم واستلهامها والاهتداء بها، وإما بالقضاء عليهم حين تتجاوزهم التطورات الحضارية تجاوزًا يقضي فيهم على كل عنصر من العناصر الأهلية للبقاء، ويقضي عليهم بشريعة البقاء للأصلح.

وما أحسب أحدًا يماري أيضًا في أن قاعدة انصراف المسلمين عن هذه وتلك، من المثبطات أساسها أن يتأهلوا لاستئناف مهمتهم في خلافة الله في الأرض واستعادة الاطلاع بمسؤوليتهم في عمارتها عمارة تنهض على أساس من الأخذ بآخر ما انتهى إليه الفكر البشري من الألوان التقنية المختلفة، وعلى ضبط مسار تلك الألوان وتكييف مسيرتها وتحديد مقصدها، بالتصرف بها وفيها، طبقًا لمقتضيات (العمل الصالح) الجامع بين صلاح الدنيا وصلاح الآخرة، والذي هدى إليه الله سبحانه وتعالى ووشج به وعده حين حدد شروط استخلافهم في الأرض في الآية الكريمة التي استلهمناها آنفًا، وفي قوله جل ثناؤه:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (2)

(1) الآية رقم: (55) من سورة النور.

(2)

الآيات رقم: (105) و (106) و (107) من سورة الأنبياء.

ص: 813

2 -

الإنسان خليفة الله في الأرض.

ذلك بأن الانبعاث الإسلامي حضاريا ودعوة، ما كان ليخرج أو يشذ عن السنن الإلهي لنشأة الإنسان كافة وتطوره، وهو أنه خُلِقَ من الأرض واستخلف في الأرض وعهد إليه بعمارة الأرض، وإنما ميزة المسلم عن غيره أنه ينهض بتبعة الخلافة عن الله، ومسؤولية العمارة لأرض الله مهتديًا بما أنزل على أصفيائه منه، من ضوابط السلوك وأحكام التصرف وشرائع التصريف، وفي ما عدا ذلك لا يختلف عن غيره من بني الإنسان، وهذا يعني أن المواءمة بين مقتضيات المواكبة الحضارية مع أبناء البشر كافة، وتصحيح المسار الحضاري وتكييفه طبقًا لمقتضيات الهدي الإلهي وتكليفه هي الفيصل بين ما هو من عمل الإنسان المسلم، لا يريد من أهله النشاز عن المسار العام للتطور البشري، إن يريد إلا أن يتولى ضبط المسيرة، وتحديد المسار وتكييف السير بضوابط العدالة وحدود الإنصاف وصيغة التوازن بين تعاليم السماء وسنن التطور في الأرض.

ولعل مما يرشد إلى ذلك إيحاء أن الأرض مجردة ومضافة ورد ذكرها في القرآن حوالى (461) مرة (1) أغلبها كانت في معرض الاستدلال على عظمة الله وسعة ملكه وتعدد نعمه وتنوعها، وقليل منها كان منسوبًا إلى البشر إلى نسبة تكليف من الله أو نسبة ادعاء يكون في معظمه نمطًا من كفر النعمة وتحدي الرسالات الإلهية، فلم ترد الأرض مضافة إلى البشر إلا في نحو سبعة مواضع (2) على حين وردت مع النهي عن الفساد أو البغي فيها والتنديد بالمفسدين والبغاة حوالي ست عشرة مرة (3) ووردت في تحديد مهمة الإنسان باعتباره خليفة في الأرض وإبراز تبعة هذه الخلافة على عاتقه من حيث جسامتها ومعقباتها في نحو عشرة مواضع (4) منها ما جاء فيه ذكر الأرض صريحًا ، وما جاء في ذكرها فيه بمقتضى السياق.

(1) انظر محمد فؤاد عبد الباقي أو غيره "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم".

(2)

الآية رقم: (110) من سورة الأعراف. الآية رقم: (13) من سورة إبراهيم. الآية رقم: (57) و (63) من سورة طه. الآية رقم: (35) من سورة الشعراء. الآية رقم: (57) من سورة القصص. الآية رقم: (27) من سورة الأحزاب.

(3)

الآية رقم: (60) من سورة البقرة. الآية رقم: (205) من سورة البقرة. الآية رقم: (32) و (64) من سورة المائدة. الآيات رقم: (56) و (74) و (85) من سورة الأعراف. الآيتان رقم: (85) و (116) من سورة هود. الآيتان رقم: (77) و (83) من سورة القصص. الآية رقم: (36) من سورة العنكبوت. الآية رقم: (28) من سورة ص. الآية رقم: (42) من سورة الشورى. الآية رقم: (20) من سورة الأحقاف. الآية رقم: (22) من سورة محمد.

(4)

الآية رقم: (30) من سورة البقرة. الآيتان رقم: (133) و (165) من سورة الأنعام. الآيتان رقم: (129) و (169) من سورة الأعراف. الآية رقم: (14) من سورة يونس. الآية رقم: (55) من سورة النور. الآية رقم: (57) من سورة هود. الآية رقم: (59) من سورة مريم. الآية رقم: (26) من سورة ص.

ص: 814

ولم يرد ذكر الأرض في القرآن الكريم متصلًا بكلمة "ملك" أو غيرها مما يدل على الملكية منسوبة إلى البشر إلا ما كان من ادعاء الكفار وهو ادعاء تدحضه بقية الآيات المتضمنة له (1)

وجاء القرآن الكريم صريحًا في تحديد مهمة الإنسان في الأرض بأوضح وأدق من أنها خلافة الله فيه. فقال الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه صالح عليه السلام مخاطبًا ثمود {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} (2) وهذا التحديد الواضح إلى جانب مهمة "الاستخلاف" الذي ورد بصيغ مختلفة في القرآن الكريم يميز - في تقديرنا - طبيعة علاقة الإنسان بالأرض كما يريد أن تكون، ويبرز أن كل علاقة لا تنضبط بضابط " الخلافة " و"الإعمار" ليست هي العلاقة التي أراد الله أن تكون بين الأرض والإنسان.

وقد يكون مما يبرز هذا المعنى أن نتدبر أن كلمة "ملك" وما تصرف منها – باستثناء ما له علاقة بالملائكة - وردت في القرآن الكريم (117) مرة، أغلبها يتصل بتأكيد ملكية الكون لله سبحانه وتعالى وحده في صيغ مختلفة ، وعشرون منها مما له علاقة بالإنسان تتصل بملك اليمين من العبيد والإماء ، وستة فحسب لها علاقة بالمال غير الأرض، وما من واحدة منها تنص على علاقة ملكية للإنسان بالأرض، ونحسب أن هذه الحقيقة جديرة بالتدبر والاعتبار وإن كانت لا تنهض نصًا على استنباط أي حكم حاسم فيما يتصل بتحديد طبيعة العلاقة بين الإنسان والأرض، وجلي أن تحديد مهمة الإنسان بأنها خلافة الله في الأرض في عشر مواضع من القرآن الكريم كما ذكرنا آنفًا وإنعدام وصف علاقة الإنسان بالأرض بالملك أو الملكية أو بتعبير من هذا القبيل من القرآن الكريم، وتحديد مسؤولية الإنسان في خلافة الله في الأرض بأنها إعمارها، وليس امتلاكها ، له دلالته التي لا ينبغي إغفالها عند تدبر التشريعات الواردة في الكتاب والسنة لضبط تصرفات الإنسان في الأرض طبقًا لمهمته ومسؤولياته.

(1) انظر التعليق رقم: (8) .

(2)

الآية رقم: (61) من سورة هود.

ص: 815

3 -

ملك، خلف، عمر، مال. لغة وشرعًا

ولكي نتبين الفروق المتحتم استحضارها ونحن نتدبر ونستبين طبيعة علاقة الإنسان بالأرض وطبيعة التشريعات والأحكام التي تضبطها وتحدد مسارها وتعين مقصدها، يجب أن نميز بين دلالات كل من كلمة "ملك" و"خلف" وكلمة "عمر"، وكلمة "مال".

- أ - ملك: قال ابن منظور وابن الأثير (1)

وفي حديث أبي سفيان: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر يروى بضم الميم وسكون اللام وبفتحها وكسر اللام.

ويقال: طالت مملكته وساءت مملكته وحسنت مملكته وعظم ملكه، وكثر ملكه.

ابن سيده: الملك والملك والملك احتواء الشيء والقدرة على الاستبداد به، ملكه يملكه ملكا وملكا وملكا وتملكا، الأخيرة عن اللحياني لم يحكها غيره.

وما له ملك وملك وملك وملك أي شيء يملكه، كل ذلك عن اللحياني.

وهذا ملك يميني وملكها وملكها أي: ما أملكه. قال الجوهري: والفتح أفصح.

وفي الحديث: كان آخر كلامه الصلاة والزكاة وما ملكت أيمانهم، يريد الإحسان إلى الرقيق، والتخفيف عنهم، وقيل: أراد حقوق الزكاة وإخراجها من الأموال التي تملكها الأيدي كأنه علم بما يكون من أهل الردة، وإنكارهم وجوب الزكاة وامتناعهم من أدائها إلى القائم بعده ، فقطع حجتهم بأن جعل آخر كلامه الوصية بالصلاة والزكاة، فعقل أبو بكر رضي الله عنه حين قال: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة.

ابن السكيت: الملك وما ملك. يقال: هذا ملك يدي وملك يدي وما لأحد في هذا ملك غيري وملك، وقولهم: ما في ملكه شيء، أي: لا يملك شيئًا.

(1) لسان العرب: ج:10. ص: 491 وما بعدها. وابن الأثير: ج: 4. ص: 359.

ص: 816

وملك الولي المرأة وملكه وملكه: حظره إياها وملكه لها.

وقال فيروز أبادي (1)

ملكه يملكه مثلثة، وملكه محركة ومملكة بضم اللام أو يثلث، احتواه قادرًا على الاستبداد به وما له ملك مثلثة ويحرك وبضمتين شيء يملكه.

ولي في الوادي ملك مثلثا ويحرك مرعى ومشرب ومال ، أو هي البئر يحفرها وينفرد بها وقال الراغب الأصبهاني (2) الملك هو المتصرف في الأمر والنهى في الجمهور، وذلك يختص بسياسة الناطقين، وبهذا يقال: ملك الناس ولا يقال: ملك الأشياء، وقوله تعالى:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (3) تقديره الملك في يوم الدين، وذلك لقوله تعالى:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (4) والملك ضربان: ملك هو التملك والتولي، وملك هو القوة على ذلك تولى أو لم يتول. فمن الأول قوله تعالى:{إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} (5) ومن الثاني قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} (6) فجعل النبوة مخصوصة والملك عامًا، فإن معنى الملك ههنا هو القوة التي يترشح بها للسياسة لأنه جعلهم كلهم متولين للأمر، فذلك مناف للحكمة كما قيل: لا خير في كثرة الرؤساء.

قال بعضهم: الملك اسم لكل من يملك السياسة، إما في نفسه ، وذلك بالتمكين من زمام قواه وصرفها عن هواها، وإما في غيره ، سواء تولى ذلك أو لم يتول، على ما تقدم.

قال تعالى: {فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} (7) والملك الحق الدائم لله ، فلذلك قال:{لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} (8)

(1) القاموس المحيط، ج:3. ص: 320 وما بعدها.

(2)

غريب مفردات القرآن ص: 717 وما بعدها.

(3)

الآية رقم: (4) - سورة الفاتحة.

(4)

الآية رقم: (16) من سورة غافر.

(5)

الآية رقم: (34) من سورة النمل.

(6)

الآية رقم: (20) من سورة المائدة.

(7)

الآية رقم: (54) من سورة النساء.

(8)

الآية رقم: (1) من سورة التغابن

ص: 817

وقال: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} (1)

فالملك ضبط الشيء، التصرف فيه بحكم، والملك بكسر الميم كالجنس للملك بضم الميم، فكل ملك بالضم ملك بالكسر، وليس كل ملك ملكا.

قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} (2) وقال تعالى: {وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} (3) وقال: {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} (4) وقال: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} (5) وفي غيرها من الآيات.

والملكوت مختص بملك الله تعالى وهو مصدر ملك ، أدخلت فيه التاء نحو: رحموت ورهبوت، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (6) وقال: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (7) والمملكة سلطان الملك وبقاعه التي يملكها، والمملوك يختص في التعارف بالرقيق من الأملاك، قال تعالى:{عَبْدًا مَمْلُوكًا} (8)

وقد يقال: فلان جواد بمملوكه أي بما يتملكه. والملكة بكسر الميم تختص بملك العبيد، ويقال: فلان حسن الملكة أي الصنع إلى مماليكه.

(1)(1) و (2) الآية رقم: (26) من سورة آل عمران.

(2)

الآية رقم: (26) من سورة آل عمران.

(3)

الآية رقم: (31) من سورة الفرقان.

(4)

الآية رقم: (31) من سورة يونس.

(5)

الآية رقم: (188) من سورة الأعراف والآية رقم: (49) من سورة يونس.

(6)

الآية رقم: (75) من سورة الأنعام.

(7)

الآية رقم: (185) من سورة الأعراف.

(8)

الآية رقم: (75) من سورة النحل.

ص: 818

وخص ملك العبيد في القرآن باليمين. وقال تعالى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (1)

قال تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (2){أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} (3)

ومملوك مقر بالموكلة والملكة والملك. وملاك الأمر: ما يعتمد عليه منه. وقيل: القلب ملاك العبد. والملاك التزويج. وأملكوه: زوجوه، شبه الزوج بملك عليها في سياستها. وبهذا النظر قيل: كاد العروس أن يكون ملكًا. وملك الإبل والشاء: ما يتقدم ويتبعه سائره تشبيهًا بالملك. ويقال: ما لأحد في هذا ملك وملك غيري. قال تعالى: {مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} (4) وقرئ بكسر الميم.

- ب - خلف: وقال ابن منظور (5) استخلف فلان من فلان: جعله مكانه.

وخلف فلان فلانا إذا كان خليفته، يقال: خلفه في قومه خلافة، وفي التنزيل العزيز:{وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} (6) ويقال: خلفت فلانا أخلفه تخليفًا، واستخلفته أنا جعلته خليفتي، واستخلفه جعله خليفة.

والخليفة الذي يستخلف من قبله، والجمع خلائف.

وقال ابن الأثير (7) وفي حديث أبي بكر: "جاء أعرابي ، فقال له: أنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا. قال: فما أنت؟ قال: أنا الخالفة بعده) .

الخليفة من يقوم مقام الذاهب ويسد مسده، والهاء فيه للمبالغة، وجمعه الخلفاء على معنى التذكير ، لا على اللفظ، مثل ظريف وظرفاء ، ويجمع على اللفظ خلائف، كظريفة وظرائف.

(1) الآية رقم: (58) من سورة النور.

(2)

الآية رقم: (36) من سورة النساء.

(3)

الآية رقم: (31) من سورة النور.

(4)

الآية رقم: (87) من سورة طه.

(5)

لسان العرب: ج: 9. ص: 82 بتصرف يسير.

(6)

الآية رقم: (142) من سورة الأعراف.

(7)

النهاية: ج: 2. ص: 69 بتصرف يسير.

ص: 819

وقال الراغب الأصبهاني (1)

خلف فلان فلانًا قام بالأمر عنه ، إما معه ، وإما بعده. قال تعالى:{وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} (2)

والخلافة النيابة عن الغير، إما لغيبة المنوب عنه ، وإما لموته ، وإما لعجزه ، وإما لتشريف المستخلف، وعلى هذا الوجه الأخير استخلف الله أولياءه في الأرض. قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} (3)

وقال: {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ} (4)

وخلفاء جمع خليف. قال الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} (5){وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ} (6)

- ج - عمر: وقال فيروز أبادي (7)

.... وعمر الله منزلك عمارة وأعمره جعله آهلًا والرجل ماله وبيته عمارة وعمورًا ألزمه، وعمر المال نفسه كنصر وكرم وسمع عمارة صار عامرًا، وأعمره المكان واستعمره فيه جعله يعمره ، والعمر كسكن المنزل الكثير الماء والكلأ، وأعمر الأرض وجدها عامرة، وعليه أغناه، والعمارة ما يعمر به المكان، وبالضم أجرها ، وبالفتح كل شيء على الرأس من عمامة وقلنسوة وتاج وغيره كالعمرة.

وقال الراغب الأصبهاني (8)

عمر: العمارة نقيض الخراب، يقال: عمر أرضه يعمرها عمارة. قال تعالى: {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (9) وقالوا: عمرته فعمر فهو معمور. قال تعالى: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} (10) وقال: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} (11) وأعمرته الأرض واستعمرته إذا فوضت إليه العمارة.

قال تعالى: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (12)

(1) مفردات القرآن. ص: 223 بتصرف يسير.

(2)

الآية رقم: (60) من سورة الزخرف.

(3)

الآية رقم: (165) الأخيرة من سورة الأنعام.

(4)

الآية رقم: (57) في سورة هود.

(5)

الآية رقم: (26) من سورة ص.

(6)

الآية رقم: (73) من سورة يونس.

(7)

القاموس المحيط. ج: 2. ص: 95.

(8)

المفردات في غريب القرآن ص:518.

(9)

الآية رقم: 19) من سورة التوبة.

(10)

الآية رقم: (9) من سورة الروم.

(11)

الآية رقم: (4) من سورة الطور.

(12)

الآية رقم: (61) من سورة هود.

ص: 820

وقال اليزيدي (1){وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (2) جعلكم عمارها. يقال: أعمرته الدار أي: جعلتها له أبدا. وقال أبو عبيدة (3)

استعمركم مجازه: جعلكم عمار الأرض، يقال: أعمرته الدار، أي: جعلتها له أبدًا وهي العمرى، وأرقبته: أسكنته إياها إلى موته.

- د - مال: قال ابن منظور وابن الأثير (4)

قال ابن الأثير: المال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتنى ويملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل لأنها كانت أكثر أموالهم.

ويقال: تمول فلان مالا إذا اتخذ قينة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:((فليأكل منه غير متمول مالا وغير متأثل مالا)) والمعنيان متقاربان.

قال ابن الأثير: وقد تكرر ذكر المال على اختلاف مسمياته في الحديث ويفرق فيها بالقرائن.

ومال أهل البادية النعم.

وقال فيررز أبادي (5)

المال: ما ملكته من كل شيء، جمع أموال.

(1) غريب القرآن. ص: 175.

(2)

الآية رقم: (61) من سورة هود.

(3)

مجاز القرآن: 1. ص: 291.

(4)

لسان العرب. ج: 11. ص: 635 والنهاية ج: 4. ص: 172.

(5)

القاموس - المحيط. ج: 4. ص:52.

ص: 821

وقال عياض (1)

قوله: فلم تغنم ذهبًا ولا فضة إلا الأموال، المتاع والثياب كذا رواية يحيى بن يحيى وكافة رواة الموطأ. وفي رواية ابن القاسم: إلا الأموال والمتاع. بواو العطف، وعند القعنبي نحوه ، قيل: دليل أن العين لا يسمى مالا ، وهي لغة دوس ، وإنما المال عندهم ما عدا العين، وغيرهم يجعل المال العين، قال ابن الأنباري: ما قصر عن الزكاة من العين والماشية فليس بمال. وقال غيره: كل ما تمول فهو مال. وهو مشهور كلام العرب وليس في قوله: إلا الأموال. دليل لغة دوس لأنه قد استثنى الأموال من الذهب والفضة ، فدل أنها منها ، إلا أن يجعله استثناء منقطعًا ، فتكون "إلا" هنا بمعنى "لكن"، كما قال تعالى:{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} (2)

وقوله: فلك في الأموال، يريد الحوائط. وقوله: إضاعة المال ، قيل: يريد الممالك من الرقيق وسائر ما يملك من الحيوان ، ونهى عن تضييعهم كما مر في غير هذا الحديث بالرفق بهم، وقال: وما ملكت أيمانكم. وقيل: إضاعة المال ترك الإصلاح به والقيام عليه، وقيل: وإنفاقه في غير حقه من الباطل والسرف ، وقال مالك وسعيد بن جبير: هو إنفاقه فيما حرم الله، وقيل: إضاعته إبطال فائدته والانتفاع به.

قوله: غير متمول مالا. أي: غير مكتسب منه مالا وغير مستكثر منه ، كما قال: غير متأثل في الرواية الأخرى.

4 -

التطور القانوني والتاريخي لمفهوم الملكية

وعلى ضوء هذه التعريفات اللغوية والشرعية للكلمات الأربع التي عرضنا لها في الفقرة السابقة، نتدرج إلى بيان علاقة الإنسان بالأشياء التي ملكها الشارع له ، أو استخلفه عليها أو استعمره فيها أو جعلها مالا له. وهذه العلاقة هي ما أطلق عليه الفقهاء والقانونيون كلمة "الحق".

(1) مشارق الأنوار. ج:1 ص: 390.

(2)

الآيتان رقم: (25) و (26) من سورة الواقعة.

ص: 822

والحق: كما عرفه السنهوري (1) : "مصلحة ذات قيمة مالية يحميها القانون". ولو بهذا التعريف يخرج منه فيما يتعلق بتحديد علاقة الحق بالشخص الذاتي أو المعنوي من حيث إنها متمثلة في "الملكية" أو "الملك" بمختلف دلالاتها ما يتصل بالحقوق العامة والحقوق المتعلقة بالأحوال الشخصية ، لأنها وإن كانت حقوقًا، ليست بذات قيمة مالية " (2)

وقبل أن ننتقل إلى تقسيم الحق إلى شخصي وعيني، نشير إلى الفرق بين الحق والرخصة، فالحق هو ما عرفناه ، أما الرخصة: فهي مكنة واقعية باستعمال حرية من الحريات العامة أو هي إباحة يسمح بها القانون - أو الشرع أو كلاهما - في شأن حرية من الحريات العامة. ذلك أن الشخص في حدود القانون - أو الشرع أو كليهما - له حرية العمل والتنقل والتعاقد والتملك وغير ذلك من الحريات العامة. فإذا وقفنا عند واحدة من هذه الحريات ، حرية التملك مثلًا، أمكن أن نقول في سبيل المقابلة بين الحق والرخصة: إن حرية التملك رخصة ، أما الملكية فحق.

وما بين الرخصة والحق توجد منزلة وسطى، هي أعلى من الرخصة وأدنى من الحق. ونستبقي مثلنا السابق، وهو حرية التملك. فحق التملك وحق الملك، الأول رخصة ، والثاني حق، وما بينهما منزلة وسطى ، هي حق الشخص في أن يتملك. فلو أن شخصًا رأى دارًا أعجبته ورغب في شرائها، فهو قبل أن يصدر له إيجاب البائع بالبيع، كان له حق التملك عامة في الدار وفي غيرها، فهذه رخصة. وبعد أن يصدر منه قبول بشراء الدار صارت له ملكية الدار، وهذا حق. ولكنه قبل القبول وبعد الإيجاب في منزلة وسطى بين الرخصة والحق بالنسبة إلى الدار، فهو من جهة ليس له فحسب مجرد الرخصة في تملك الدار كغيرها من الأعيان التي لا يملكها، وهو من جهة أخرى لم يبلغ أن يصبح صاحب الملك في الدار، بل هو بين بين ، له أكثر من رخصة التملك ، وأقل من حق الملك ، له الحق في أن يتملك، إذ يستطيع بقبوله البيع، أي: بإرادته وحده أن يصبح مالكًا للدار

(3)

وليس يعنينا في هذا البحث موضوع الحق الشخصي إلا في حالات ثانوية سنلم بها في مواضعها.

(1) مصادر الحق ج: 1. ص: 1 بتصرف يسير.

(2)

مصادر الحقوق. ص: 30/ 34 بتصرف يسير.

(3)

مصادر الحق بتصرف يسير.

ص: 823

الحقوق العينية الأصلية

على رأس هذه الحقوق حق الملك وجميع الحقوق الأصلية الأخرى متفرعة.

فحق الملك هو الحق العيني الكامل، وقد تتجزأ عناصره، فتتفرع عنه حقوق عينية تعتبر بالنسبة إلى حق الملك بمثابة الجزء من الكل.

فالملك التام هو ملك الرقبة ومنفعتها معا. ويتفرع عنه ملك المنفعة وحدها وملك الرقبة وحدها، وحقوق الارتفاق.

حق الملك التام

الملك التام من شأنه أن يتصرف به المالك تصرفا مطلقا فيما يملكه عينا ومنفعة واستغلالا، فينتفع بالعين المملوكة وبغلتها وثمارها ونتاجها، ويتصرف في عينها بجميع التصرفات الجائزة.

ونرى من ذلك أن عناصر حق الملك في الفقه الإسلامي كما هي في الفقه الغربي ثلاثة: 1) الانتفاع بالعين المملوكة 2) الانتفاع بالغلة والثمار والنتاج، وهذا هو الاستغلال. 3) التصرف في العين.

وليس حق الملك مطلقا كما توهم العبارة المذكورة آنفا، بل هو حق مقيد بوجوب عدم الإضرار بالجار.

للمالك أن يتصرف كيف شاء في خالص ملكه الذي ليس للغير حق فيه فيعلي حائطه، ويبني ما يريده ما لم يكن تصرفه مضرا بالجار ضررا فاحشا.

وعرف الضرر الفاحش بأنه ما يكون سببا لوهن البناء أو هدمه أو يمنع الحوائج الأصلية ، أي المنافع المقصودة من البناء، وإما ما يمنع المنافع التي ليست من الحوائج الأصلية ، فليست بضرر فاحش.

ويزال الضرر الفاحش سواء كان قديمًا أو حديثًا.

ص: 824

إذا كان العين مشتركا بين اثنين أو أكثر، فلكل واحد من الشركاء حق الانتفاع بحصته والتصرف فيها تصرفا لا يضر الشريك، وله استغلالها وبيعها مشاعة حيث كانت معلومة القدر بغير إذن الشريك.

حق المنفعة

الانتفاع الجائز هو حق المنتفع في استعمال العين واستغلالها ما دامت قائمة على حالها وإذا لم تكن رقبتها مملوكة، فحق المنفعة يختص بعنصرين من عناصر الملكية الثلاثة، الاستعمال والاستغلال، وقد يقتصر على الاستعمال فتسمى المنفعة بحق الاستعمال ، وقد يقتصر الاستعمال على السكن ، فيسمى ذلك بحق السكنى، ومن ثم يقترن عادة حق المنفعة بحق الاستعمال وحق السكني.

وأسباب ملك المنفعة ثلاثة: العقد والوصية والوقف.

حق الرقبة

ويوجد هذا الحق حيث ينتزع حق المنفعة من الملك التام، فتبقى الرقبة على ملك صاحبها الأصلي، ويملك المنفعة شخص آخر غير مالك الرقبة.

ومالك الرقبة لا يجوز له أن ينتفع بالعين ولا أن يتصرف في منفعتها، إذ المنفعة في ملك غيره كما تقدم. وكذلك لا يجوز له أن يتصرف في الرقبة ذاتها إلا بإذن صاحب المنفعة ، فإن مالك الرقبة يعود له الملك التام على العين.

ص: 825

حق الارتفاق

وتسمى بالحقوق المجردة ، وقد عرف بأنه حق مقرر على عقار لمنفعة عقار شخص آخر. ومن حقوق الارتفاق الشرب والمجرى والمسيل والمرور والتعلي والجوار. فالشرب هو نوبة الانتفاع بالماء سقيًا للأرض أو الشجر أو الزرع. وحق المجرى هو حق مرور مسقى في أرض الجار لتصل إلى أرضه. وحق المسيل هو حق مرور مصرف في أرض الجار لصرف الماء الزائد عن الحاجة أو غير الصالح. وحق المرور هو حق مرور الإنسان إلى ملكه من طريق خاص في ملك غيره ، وحق التعلي هو أن يكون الإنسان محقًا في أن يعلو بناؤه بناء غيره. ويتحقق ذلك في دار لها سفل لمالك الدار وعلو لمالك آخر. وحق الجوار هو أن لا يضر الجار بجاره ضررًا فاحشًا.

وحقوق الارتفاق محصورة عند الحنفية في الحقوق المتقدمة الذكر. وعند المالكية هي غير محصورة: فيجوز إنشاء حقوق ارتفاق اتفاقية بالعقد، ويمكن على هذا النحو الاتفاق على ارتفاق بعدم العلو بالبناء إلى أكثر من بعد معين أو على ارتفاق بالبناء في رقعة محدودة.

وقال في الوسيط (1)

الأساس الذي يقوم عليه حق الملكية ومشروعية هذا الحق:

حق الملكية من أوسع الحقوق العينية نطاقًا، بل هو جماع الحقوق العينية، ومنه تتفرع جميعًا، فمن له حق الملكية على شيء كان له حق استعماله وحق استغلاله وحق التصرف فيه، ولذلك يستجمع كل السلطات التي يعطيها القانون للشخص على الشيء، فإذا اقتصر حق الشخص على استعمال الشيء واستغلاله كان هذا حق انتفاع متفرعًا عن حق الملكية، وإذا اقتصر حقه على استعمال الشيء لحاجته الشخصية وحدها، أو اقتصر حقه على السكنى دون أي وجه آخر من وجوه الاستعمال.

(1) الوسيط. ج: 8. ص: 481 الفقرة: 291 بتصرف يسير.

ص: 826

كان هذا حق استعمال أو حق سكنى وكلا الحقين متفرع من حق الملكية. وإذا اقتصر حقه على استعمال الشيء على وجه معين أو الحصول منه على منافع معينة كان هذا حق ارتفاق، هو أيضًا متفرع من حق الملكية. وإذا اقتصر حق الشخص على التصرف في الشيء جبرًا على المالك لاستيفاء حقه متقدمًا على غيره من الدائنين كان هذا حق رهن أو حق اختصاص أو حق امتياز، وكلها حقوق تبعية إذ هي تكفل

الدين فهي تابعة له، وهي أيضًا متفرعة من حق الملكية. فالمالك إذن يستطيع أن يفعل في ملكه ما يشاء ، إلا ما ينهى عنه القانون، أما صاحب أي حق عيني آخر ، فلا يستطيع أن يفعل في الشيء إلا ما نص عليه القانون، ولا يستطيع أن يفعل أي شيء آخر.

وقد استتبع اتساع نطاق حق الملكية إلى هذا المدى البحث عن مشروعيته والأساس الذي يقوم عليه، فاختلفت المذاهب والأنظار في ذلك. فبعض يذهب إلى أن الملكية الفردية تقوم على القانون الطبيعي، ولكن لو كانت الملكية الفردية تقوم على القانون الطبيعي ، لوجدت في كل الأزمان والعصور، وسنرى أنها إنما كانت ثمرة تطور طويل ، ولم تكن موجودة من قبل. وبعض يذهب إلى أنها تقوم على الاستيلاء، فمن وضع يده على مال ملكه ، وبقي مالكًا له ، وانتقل منه إلى ورثته، ولكن الاستيلاء كسبب من أسباب كسب الملكية الفردية يفترض أن ضرورة الملكية الفردية كانت موجودة قبله، حتى يصح أن يكون الاسيتلاء سببًا في كسبها، وهناك من يذهب إلى أن الملكية الفردية تقوم على النفع الاجتماعي لتفوقها على جميع نظم الملكية الأخرى، إذ المجتمع الذي يمارس الملكية الفردية أرقى بكثير من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية من المجتمع الذي لا يمارسها. ولكن ذلك يفترض أن المجتمع كان بالخيار بين الملكية الفردية والملكية غير الفردية ، فاختار الملكية الفردية لنفعها.

ص: 827

والصحيح أن الملكية الفردية لم تكن نتيجة مقارنة واختيار، بل كانت ثمرة تطور طويل ظل أحقابًا عديدة حتى انتهى إليها. وسنرى فيما يلي كيف تطورت الملكية.

وإذا أريد للملكية الفردية أن تقوم على أساس مشروع، فخير أساس لها هو العمل. فالعامل يكسب أجر عمله، وهذا الكسب الحلال هو بذرة الملكية الفردية. ومتى سلمنا بأن الفرد له حق مشروع في كسب عمله، فقد سلمنا بمشروعية الملكية الفردية. هذا الكسب الذي جناه الفرد ثمرة لعمله هو ملك له ، وينبغي أن يستأثر به دون غيره، فقد كسبه بعرق جبينه وبكده، ولا يوجد كسب حلال لكسب العمل، ولا حافز على العمل أفضل من الكسب الحلال. وإذا قلنا: من حق الفرد أن يستأثر بكسب عمله ، فقد أثبتنا له حق ملكية فردية على هذا الكسب، ومن حقه إذن أن يستمتع بجميع عناصر حقه ، فينتفع به استعمالا واستغلالا. ويتصرف فيه ، وهو لا يزال حيا، وينتقل منه إلى ورثته بعد موته، هذه هي عناصر الملكية الفردية، لا مناص من التسليم بها متى ما سلمنا بمبدأ الملكية الفردية في ذاته. وإذا كان الملك ينتقل في بعض الأحيان إلى ورثة لا يستحقونه ولم يكسبوه بعملهم هم. فهذه ضرورة لا معدى منها، ويعوض عنها ما تؤيده الملكية الفردية من حافز على العمل. على أن المالك إذا انتقل إلى ورثة لا يستحقونه ايلبث أن ينتقل من أيديهم وينتقل إلى أيد أصلح.

فالعمل إذن هو الأساس المشروع الذي تقوم عليه الملكية الفردية، وما الملك إلا الأجر واستحقه الأجير، وينبغي أن يعطى إياه قبل أن يجف عرقه.

وقد نقلنا هذا البحث الدقيق كله لما اشتمل عليه من عناصر وأحكام سنعود إليها أثناء هذا البحث استنادًا أو تحليلًا.

واستقراء للعناصر الضرورية لتعريف حق الملكية في الوقت الراهن، لا مناص من تتبع نشأته ومسايرة تطوره.

ص: 828

فنبقى مع السنهوري إذ يقول (1)

: "ذهب كثيرون من الباحثين إلى أن الملكية بدأت أولًا ملكية جماعية، يشترك فيها جميع أفراد القبيلة ، ولا يستأثر بها أحد منهم، فكانت الأرض والأسلحة والعدد بوجه خاص مملوكة ملكية جماعية للقبيلة في الحضارة البدوية. ولما استقرت الجماعات في الأرض، وتطورت الحضارة من حضارة بدوية تقوم على رعي المواشي إلى حضارة زراعية تقوم على زراعة الأرض، تطورت الملكية مع تطور الحضارة ، فأصبحت ملكية عائلية. وانتهت الملكية بعد تطور طويل إلى

أن تكون ملكية فردية، ولكن مع بقاء بعض آثار الملكية العائلية كالميراث والنصاب الذي يجب أن يستبقى للورثة دون أن تجوز الوصية فيه. وإذا تابعنا التطور التاريخي لحق الملكية في غرب أوروبا منذ عهد

الرومان إلى نشوب الثورة الفرنسية وصدور التقنين المدني الفرنسي، وجدنا أن هذا الحق لم يبق على وتيرة واحدة، بل إنه تطور تطورًا غير مطرد. فتبسطت الملكية ثم تعقدت، ثم عادت إلى التبسط، لتعود بعد ذلك إلى التعقيد، وتنتهي أخيرًا إلى التبسط.

ففي العهود الرومانية القديمة كانت الملكية جماعية وعائلية، وكانت فردية في بعض الأشياء الاستثنائية المحددة كالمنقولات والعبيد، وكان معنى الملكية يختلط بالمعنى الديني وبمعنى سيادة الدولة. ولما قوي سلطان الدولة قامت الملكية العامة وبدأ معنى الملكية الفردية يظهر على الأراضي التي كانت الدولة تقطعها للأفراد في صور مختلفة. وانتهى الأمر في العهد الكلاسيكي إلى ظهور الملكية الفردية ظهورًا كاملًا مع دعمها على أسس قوية. وإلى جانب هذه الملكية الفردية المبسطة ظهرت في الأقاليم ملكية أخرى معقدة وهي الملكية البريطورية أو الملكية غير الرومانية، حيث تقوم ملكية الدولة فوق ملكية الفرد في الأرض الواحدة، وأخذت هذه الملكية الجديدة تتبسط شيئًا فشيئًا، وتختفي فيها ملكية الدولة ويغلب حق الفرد، حتى أصبحت في عهد جيستنيان ملكية فردية تامة على غرار الملكية الرومانية.

(1) مصادر الحق. ص: 481/ 485 الفقرة: 292/293 بتصرف يسير.

ص: 829

ولكن ما لبثت العصور الوسطى والعادات الجرمانية أن عقدت الملكية الفردية من جديد، وكانت الملكية في العادات الجرمانية ملكية فردية في المنقولات وفي منزل السكنى جماعة في الأراضي الزراعية. وفي عهود الإقطاع بعد أن هدأت الحروب وتوطدت السلطات المركزية، سادت الملكية الإقطاعية في الأرض، وقامت الملكية الفعلية إلى جانب الملكية الأصلية. وتجردت الملكية الأصلية شيئًا فشيئًا عن معاني الملكية، وأصبحت الملكية الحقيقية في يد صاحب الملكية الفعلية، وتمثلت الملكية الأصلية في بعض مزايا وخدمات وأعطيات يؤديها التابع أو الحائز وهو صاحب الملكية الفعلية إلى السيد ، وهو صاحب الملكية الأصلية. ولم تعد الملكية في الواقع من الأمر إلا ملكية فردية واحدة، هي ملكية التابع أو الحائز أي الملكية الفعلية، وآلت الملكية الأصلية إلى أن تكون مجرد تكاليف تثقل الأرض ، وأقرب إلى أن تكون حقا من حقوق الارتفاق.

ثم نشبت الثورة الفرنسية، واكتسح الفلاحون في الأقاليم قصور النبلاء، وحرقوا السجلات التي تتضمن ما لهؤلاء النبلاء من حقوق وتكاليف على الأرض، بل وحرقوا معها في بعض الأحيان القصور ذاتها وقتلوا النبلاء أصحاب هذه القصور، ونادوا بتحرير الأرض من كل التكاليف والحقوق الإقطاعية. وفي ليلة 4 أغسطس سنة 1789، بعد هدم الباستيل بأقل من شهر، أقرت الجمعية الوطنية قانونًا يقضي بإلغاء الإقطاع إلغاء تاما، وتخلصت ملكية الأرض من جميع أثقالها الإقطاعية وأصبحت ملكية خالصة لصاحبها، بل "أصبحت" حقا مقدسًا لا يجوز انتهاك حرمته، لا يجوز حرمان صاحبه منه، إلا إذا قضت بذلك في وضوح ضرورة من مصلحة عامة ثبتت قانونًا، وبشرط تعويض عادل يدفع مقدمًا (م: 17 من إعلان حقوق الإنسان) . وفي دستور سنة 1791، في المادة 87 منه، وصف حق الملكية بأنه حق مقدس لا يجوز انتهاك حرمته.

ص: 830

وسرت روح الثورة فيما يتعلق بحق الملكية إلى التقنين المدني الفرنسي، فعرفته المادة: 544 من هذا التقنين بما يأتي: "الملكية هي الحق في الانتفاع بالشيء وفي التصرف فيه على نحو أشد ما يكون إطلاقًا، بشرط ألا يستعمل الشيء على وجه يحرمه القانون أو اللوائح". وقال بورتاليس في صدد هذه المادة: "لقد اعتبر دائما مبدأ من المبادئ الحرة أن الملكية الفردية في التقنين المدني تدخل ضمن النظم الطبيعية، بل النظم الإلهية، وأن حقوق الملاك على أملاكهم هي حقوق مقدسة يجب أن تحترمها الدولة نفسها".

التطور التاريخي لحق الملكية

في البلاد الإسلامية وفي مصر

واستمرارا لقوله ما جاء في هذه الفقرة:

"حق الملكية في المنقول اعترف به اعترافًا كاملًا في جميع البلاد الإسلامية وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية.

أما الأراضي فكانت قسمين: 1) أرضًا عشورية، وهي مملوكة ملكية تامة لأصحابها، وتدفع العشر عينًا مما تغله للإمام (أي الدولة) ، وتشمل جميع الأراضي الواقعة في الجزيرة العربية إذ لا يقبل فيها إلا الإسلام، والأراضي التي أسلم أهلها طوعًا ، فتبقى لهم ويدفعون عنها العشر، والأراضي التي فتحت عنوة وقهرًا وقسمت بين الغانمين المسلمين ، فهؤلاء يملكون الأرض بقسمتها بينهم ويدفعون عنها العشر.

2) أرضا خراجية وهذه تدفع الخراج للإمام ويتراوح بين الخمس والنصف بحسب تقدير الإمام.

ص: 831

وتشمل الأرض الخراجية الأراضي التي فتحت عنوة وقهرًا (في غير الجزيرة العربية) وتركها الإمام في يد أصحابها وضرب عليها الخراج بحسب تقديره، والأراضي التي لم تفتح عنوة وقهرًا ، بل سلم أهلها صلحًا، يضرب عليها الخراج

بحسب عهد الصلح. والأرض الخراجية في الأرض المفتوحة صلحًا تكون ملكيتها بحسب الوارد في عهد الصلح، فقد يرد في هذا العهد أن تترك الملكية لأصحابها ، فتكون لهم عليها ملكية تامة ولا يلتزمون إلا بدفع الخراج للإمام، وقد يرد في عهد الصلح أن الأرض تكون وقفًا ، ولا يكون لأصحابها عليها إلا حق الانتفاع بها في نظير دفع الخراج. أما في البلاد المفتوحة عنوة وقهرًا، فللإمام الخيار بين جعل الأرض وقفًا وترك حق الانتفاع بها لأصحابها في نظير دفع الخراج وبين ترك ملكية الأرض لأصحابها يملكونها تامة ولا يلتزمون إلا بدفع الخراج.

ولما فتح العرب مصر، أقروا المصريين على أراضيهم ، ولم تنزع منهم، وأصبحت أراضي خراجية يلتزم أهلها بدفع خراجها. ولما كان المصريون لا يملكون رقبة الأرض منذ حكم الرومان ومن قبلهم من الفاتحين، بل منذ عهود الفراعنة، فإن العرب اعتبروا أن رقبة الأرض قد انتقلت إلى الدولة الجديدة ، وقد حلت في ذلك محل الدولة البيزنطية، وبقي لأصحاب الأراضي حق الانتفاع بها في نظير دفع الخراج.

ثم عاد فعرف حق الملكية في الوسيط بقوله (1)

"

إن حق ملكية الشيء هو حق الاستئثار لاستعماله واستغلاله والتصرف فيه على وجه دائم، وكل ذلك في حدود القانون ".

ثم قال (2)

"لمالك الشيء، ما دام ملتزمًا حدود القانون أن يستعمله وأن ينتفع به، وأن يتصرف فيه دون أي تدخل من جانب الغير بشرط أن يكون ذلك متفقًا مع ما لحق الملكية من وظيفة اجتماعية".

ثم قال (3)

(1) مصادر الحق. ص: 492/ 494 الفقرة:297 بتصرف يسير.

(2)

مصادر الحق بتصرف يسير.

(3)

مصادر الحق بتصرف يسير.

ص: 832

"

الصفة الاجتماعية لحق الملكية هي المتغلبة في التقنيات الجديدة، وهي التي تمثل النزعة الحديثة في تطور حق الملكية ، فليس هذا الحق مطلقًا لا حد له، بل هو وظيفة اجتماعية يطلب إلى المالك القيام بها، ويحميه القانون ما دام يفعل.

أما إذا خرج على هذه الحدود، فلا يعتبره القانون مستحقا لحمايته. ويترتب على ذلك نتيجتان:(1) حيث يتعارض حق الملكية مع مصلحة عامة ، فالمصلحة العامة هي التي تقدم. (2) حيث يتعارض حق الملكية مع مصلحة خاصة هي أولى بالرعاية من حق الملكية ، فإن هذه المصلحة هي التي تقدم بعد أن يعوض المالك تعويضًا عادلا".

ونواصل مع السنهوري ملاحقته القيمة لما صار إليه حق الملكية من تمايز بين ما هو من خصائصه وما هو من وظيفته ، فننقل من "الوسيط" قوله (1)

"الملكية حق ذاتي في عناصره وخصائصه:

الملكية حق ذاتي كسائر الحقوق، بل هي أكثر الحقوق عناصر، وأشملها خصائص.

فالملكية حق ذاتي في عناصره. وقد قدمنا أن المالك له سلطة ذاتية على الشيء الذي يملكه، وسلطته على الشيء هي أوسع السلطات، فله أن يستعمل الشيء في شؤونه الخاصة، ويستعمله على الوجه الذي يقدر أنه نافع له. وله أن يستغل الشيء إرضاء لمصالحه الشخصية، ووفاء بحاجاته الذاتية. وله أن يتصرف في الشيء بجميع أنواع التصرفات، فله أن ينقل ملكيته إلى غيره بمقابل أو بغير مقابل، وله أن يرتب حقوقًا متنوعة على الشيء، من حق انتفاع إلى حق ارتفاق إلى حق رهن إلى غير ذلك من الحقوق. وله أن يغير من معالم الشيء، وأن يزيد عليه، وأن ينتقص منه، بل له أن يستهلكه وأن يتلفه وأن يعدمه، كل ذلك سعيًا وراء مصالحه الشخصية، ووفاء بحاجاته الخاصة، فالملكية إذن كسائر الحقوق، حق ذاتي من حيث عناصره، بل هو أكثر الحقوق الذاتية عناصر كما سبق القول.

والملكية حق ذاتي في خصائصه. وقد قدمنا أن الملكية حق جامع، فيجمع المالك في يده جميع السلطات على الشيء، على النحو الذي رأيناه. ومن المالك تستمد كل سلطة على الشيء، وما لم يثبت أجنبي أنه استمد سلطة معينة بموجب إرادة المالك أو بموجب حكم القانون، فهذه السلطة للمالك ، لا لأحد غيره. وقدمنا أن الملكية حق مانع، فيستأثر المالك بالشيء وحده ، وليس لأحد أن يشاركه فيه.

(1) مصادر الحق. ص: 550/562 الفقرة: 333/343 بتصرف يسير.

ص: 833

وهذه الذاتية في حق الملكية تعتبر من مقوماته، وخصائصه البارزة. فإذا كان الشيء المملوك أرضًا فضاء، كان للمالك أن يسورها وأن يمنع دخول الغير فيها، حتى لو لم يصبه من دخول الغير ضرر. ولا يجوز لأحد أن يشارك المالك بغير إذنه في استعمال الشيء، أو في استغلاله، أو في التصرف فيه ، والملكية أخيرًا حق دائم. وتتميز الملكية بالدوام عن أي حق ذاتي آخر ، فكل حق - عينيا كان أو شخصيا - هو حق مؤقت ، أو يمكن أن يكون مؤقتًا، وذلك فيما عدا حق الملكية ، فإنه يدوم ما دام الشيء المملوك. وهذا وحده كاف لنطبع الملكية بطابع ذاتي، إذ يستطيع المالك، ومن بعده خلفاؤه، أن يستأثروا بالشيء المملوك. ويبقون مستأثرين به، إلى أن يهلك الشيء أو يتلف. ومن ثم كانت دعوى الاستحقاق غير قابلة للسقوط بالتقادم، وكذلك لا يجوز أن تقترن الملكية بأجل.

الملكية حق ذاتي

ونطاق الملكية يتسع، حتى ليشمل سطح الأرض وما فوقها وما تحتها. وإذا كانت الملكية كما قدمنا أكثر الحقوق الذاتية عناصر وأشملها خصائص، فهي إذن أوسعها نطاقًا. ولا تقتصر على هذا القدر من العلو والعمق، بل هي أيضًا تتناول مع الشيء المملوك كل ما ينتجه هذا الشيء من ثمار ومنتجات. بل إن مالك الأرض يملك بالالتصاق كل ما اتصل بها من مبان وغراس، ويستأثر إلى أوسع مدى بحقه الذاتي في ملكه.

وهكذا يمتد حق المالك، فيتناول الأرض في سطحها طولًا وعرضًا، وفي حيزها علوا وعمقًا، ويشمل كل ما يتصل بالأرض من ملحقات، وما تخرجه من ثمار ومنتجات. وهذا أقصى ما يصل إليه الحق في اتساع نطاقه.

الملكية حق ذاتي في حمايته

ويحمي القانون المالك حماية شاملة، فيمنع الغير من الاعتداء على ملكه، ويضع في يده سلاحًا قويا في دعوى الاستحقاق يسترد بموجبها ملكه من تحت يد أي حائز لها، غاصبًا كان أو غير غاصب.

ولا يجوز نزع الملكية جبرًا على صاحبها إلا بشروط ، أهمها أن يقوم مبرر قانوني لذلك، وأن يعوض المالك مقدمًا عن ملكه.

ص: 834

الملكية الذاتية ثمرة العمل وجزاؤه الحق

وإذا كان المالك يستأثر بما يملكه ويحوزه لمصلحته الخاصة وللوفاء بحاجاته الشخصية، فما ذلك إلا لأنه في الأصل قد بذل جهودًا في العمل، وكانت الملكية هي ثمرة هذه الجهود، والأجر على هذا العمل. ومتى ثبتت لصاحبها، وجب أن تثبت له بجميع عناصرها من استعمال واستغلال وتصرف، وبجميع خصائصها فتكون جامعة مانعة دائمة.

فللمالك أن يتصرف في الشيء حال حياته، وينتقل الشيء إلى ورثته بعد وفاته. وإذا كان يبدو أن الوارث لم يبذل جهدًا في تملكه للشيء الموروث، فإن الميراث ينظر إليه لا على أنه جزاء للوارث، بل جزاء للموروث ذلك أن الموروث إذا كان لم يتصرف في الشيء وهو حي وهذا حقه، فإنه أراد بذلك أن ينتقل الشيء إلى وارثه بعد وفاته ، وهذا حقه أيضًا، بل هذا هو جزاؤه على عمله. ولا ضير من أن ينتقل الشيء إلى وارث قد لا يستحقه، فإن هذا الوارث إذا كان حسن التدبير ، فما ورثه يكون عونًا له ، فلا يكون عالة على المجتمع، وإذا كان سيئ التدبير ، فإنه لا يلبث أن يضيع ما ورثه. وفي بعض الحالات يكون الورثة، وبخاصة الزوجة والأولاد، قد ساهموا في الجهود التي بذلها المورث في الحصول على ملكه.

فالملكية الذاتية إذن هي ثمرة العمل، وهي جزاؤه الحق.

الملكية الذاتية أقوى حافز على العمل

وخير ضمان للاستقلال الشخصي

ولا يجوز الاقتصار في النظر إلى الملكية الذاتية على أنها جزاء، فهي قبل أن تكون جزاء على العمل، أقوى حافز عليه. ذلك أن الإنسان بطبعه قد ركب فيه من حب الذات وما يجعله أقوى ما يكون نشاطًا وإقبالا على العمل عندما يعلم أن لعمله جزاء يستأثر به لنفسه، ولا يشاركه فيه غيره. وليس الأمر هنا أمر سلوك يمدح أو يذم، بل هو أمر الواقع المشاهد، وليس لنا بد من استخلاص نتائجه. فالنشاط الفردي وهو من الأسس القوية التي يقوم عليها المجتمع، لا بد له من حافز، وأقوى حافز له هي المصلحة المادية، وأبرز صور المصلحة المادية هي الملكية الذاتية.

ص: 835

ثم إن الملكية الذاتية لا تقتصر على أن تكون أقوى حافزا على العمل، بل هي أيضًا خير ضمان للاستقلال الشخصي. فمن لا يملك شيئًا يفقد استقلاله، ويكون عبدًا لمن ملك. ومهمة الدولة ليست في أن تلغي الملكية الذاتية وتكون هي المالكة لكل شيء ، فيصبح الناس جميعًا عبيدًا لها، بل مهمتها على العكس من ذلك هي أن تجعل الملكية الذاتية في متناول كل من يعمل. فتكون الملكية الذاتية أفضل جزاء على العمل، وأقوى حافزا عليه وخير ضمان للاستقلال والحرية.

الأساس الذي تقوم عليه الوظيفة الاجتماعية للملكية

وإذا كان حق الملكية حقا ذاتيا على النحو الذي بسطناه فإن لهذا الحق وظيفة اجتماعية يجب أن يقوم بها. وقد وقف التقنين المدني الفرنسي في سنة 1804 عند ذاتية حق الملكية، وأغفل كثيرًا من مظاهر الوظيفة الاجتماعية التي لهذا الحق. ولكن المذاهب الاشتراكية التي بدأت تنتشر طوال القرن التاسع عشر، وأخذت تنفذ إلى صميم النظم الاجتماعية والاقتصادية والقانونية، ووصلت إلى الأوج من انتشارها في القرن العشرين، ما لبثت أن أبرزت جانب الوظيفة الاجتماعية لحق الملكية، وكان ذلك بطبيعة الحال على حساب جانب الذاتية في هذا الحق.

ولا شك في أن الملكية حق ذاتي وحق اجتماعي في وقت واحد. أما أنها حق ذاتي، فقد تقدم القول في ذلك، وأما أنها حق اجتماعي فينهض أساسًا لذلك أمران:

ا) مبدأ التضامن الاجتماعي، فإن هذا المبدأ يقضي بوجوب التعاون في المجتمع. والملكية من أهم الدعائم التي يقوم عليها هذا التعاون، فالمالك يجب أن يعتبر نفسه ، كما هو الواقع، عضوًا في المجتمع الذي يعيش فيه، يأخذ منه ويعطيه.

ص: 836

2) على أن المالك إذا كان قد كسب ملكه بعمله كما سبق القول، مدين أيضًا للمجتمع بما كسب. فليس عمله وحده هو الذي أكسبه الملك، بل إن المجتمع ساهم مساهمة ملحوظة في جهود المالك حتى يحصل هذا على ما أصبح مالكًا له. ومساهمة المجتمع في جهود المالك هي على نفس مستوى مساهمة الأسرة أو لعلها تزيد ، فإذا كانت مساهمة الأسرة هي أحد مبررات الميراث ، فلا شك في أن مساهمة المجتمع تبرر هي الأخرى أن تكون للملكية وظيفة اجتماعية.

ومقتضى أن تكون للملكية وظيفة اجتماعية هو أن يقيد حق الملكية لا للمصلحة العامة فحسب، بل أيضًا للمصلحة الخاصة.

تقييد حق الملكية للمصلحة العامة

"حيث يتعارض حق الملكية مع مصلحة عامة، فالمصلحة العامة هي التي تقدم، فما ينبغي أن تقف الملكية حجر عثرة في سبيل تحقيق المصلحة العامة، ولا يدخل هذا في وظيفتها الاجتماعية" وقد رأينا أن نطاق الملكية يتسع حتى يشمل سطح الأرض وما فوقها وما تحتها. وليس معنى ذلك أن مالك الأرض يسوغ له أن يمنع أي عمل يقام به للمصلحة العامة فوق سطح الأرض أو تحتها، كمرور الأسلاك المعدة للمواصلات التلغرافية أو التلفونية أو المعدة للإضاءة أو لنقل القوى الكهربائية ومواسير المياه والغاز. وبوجه عام ليس للمالك أن يعارض فيما يقام من عمل على مسافة من العلو أو العمق لا تضر بصاحب الأرض.

ص: 837

وقد تصل المصلحة العامة في التعارض مع حق المالك إلى حد أن تلغي هذا الحق. وقد أجاز القانون فعلًا نزع الملكية للمنفعة العامة بشروط وقيود.

كذلك تقتصي المصلحة العامة تأميم الملك ونقله إلى الدولة كما وقع ذلك - حتى في بعض الدول الغربية - في شأن البنوك وشركات التأمين والشركات الصناعية، فلا يجوز أن يقف حق الملكية حائلًا دون ذلك.

ثم إن هناك كثيرًا من القيود ترد على حق الملكية، قررتها القوانين واللوائح لمصلحة عامة اقتضتها، ومن أهم هذه القيود حقوق الارتفاق الإدارية، كحقوق التطرق المتعلقة بالشوارع هي الارتفاقات التي يتحمل بها الملاك الذين توجد أملاكهم على جانبي الطريق العام كتقرير خط التنظيم وعدم البناء من غير رخصة أو هدم الأبنية المختلفة أو الآيلة للسقوط، والحقوق المتعلقة بمجاري المياه كحق الحكومة في قلع الأشجار المغروسة في الجسور وميول الترع العامة إذا كانت هذه الأشجار تعوق سير المياه في الترع أو تعطل الملاحة فيها أو تمنع السير على جسورها. ومن هذه القيود أيضًا ما تقرر لمصلحة الأمن العام أو الصحة العامة ، كالقيود التي تجب مراعاتها في إنشاء العزب أو الزرائب، أو المحال العامة أو المحال المقلقة للراحة والضارة بالصحة والخطرة، أو إقامة الآلات الرافعة أو تركيب الآلات البخارية، أو إحداث الحفر أو البرك. ومن هذه القيود ما تقرر لمصلحة الزراعة كالقيود الخاصة بوقاية القطن والمحاصيل الأخرى، ومنع زراعة القطن في أكثر من مساحة معينة. ومنها ما تقرر للمصلحة الحربية كإنشاء مناطق خطر حول القلاع. ومنها ما وضع لحفظ الثروة القومية وإنمائها كالقيود الخاصة بالمناجم وحماية الآثار التاريخية.

تقييد حق الملكية لمصلحة الخاصة

"

حيث يتعارض حق الملكية، فإن هذه المصلحة الخاصة هي التي تقدم، بعد أن يعوض المالك تعويضًا عادلًا. وهنا نجد القيد الذي يرد على حق الملكية قد تقرر، لا للمصلحة العامة، بل للمصلحة الخاصة" وهذا المظهر من تقييد حق للمصلحة الخاصة وهو أبلغ مظهر لمبدأ التضامن الاجتماعي ولكون الملكية لها وظيفة اجتماعية يجب عليها أن تؤديها.

ص: 838

فالمبدأ الأساسي إذن هو أنه حيث تتعارض مصلحة المالك مع مصلحة خاصة لأجنبي، فليس من الضروري أن تقدم مصلحة المالك وإن كان من الضروري تقديمها ، لو أن الملكية حق ذاتي فحسب. ولكن الملكية لها وظيفة اجتماعية، وهذه الوظيفة تقضي بأنه تجب الموازنة بين مصلحة المالك ومصلحة الأجنبي، فإن كانت مصلحة الأجنبي أولى بالرعاية من مصلحة المالك، وجب تقديم مصلحة الأجنبي مع تعويض المالك التعويض العادل. وبذلك تكون الملكية قد أدت وظيفتها الاجتماعية على خير وجه يقضي به التضامن الاجتماعي.

وإذا رجحت مصلحة الأجنبي على مصلحة المالك، فأقل ما يطلب من المالك أعمال سلبية يمتنع بها عن الإضرار بالجار ، وقد يجاوز الأمر الأعمال السلبية من المالك إلى أعمال إيجابية من الجار ، بل قد يصل الأمر إلى حد يقتضي من المالك نفسه أن يقوم بأعمال إيجابية ، وهذه هي أبلغ مظاهر الوظيفة الاجتماعية لحل الملكية ، وبها يكون التضامن الاجتماعي قد بلغ الذروة في التقييد من سلطان المالك.

أعمال سلبية من المالك

الأمثلة كثيرة على الأعمال السلبية التي تقتضي من المالك حتى يقوم بما للملكية من وظيفة اجتماعية، ونجتزئ هنا بإيراد بعض الأمثلة:

"ا) - يجب على المالك أن يمتنع عن استعمال ملكه بحيث يضر بالجار ضررًا فاحشًا. وإذا جاز للمالك أن يطلب من جاره أن يتحمل مضار الجوار المألوفة، فليس له أن يحمله المضار غير المألوفة للجوار.

2) - وليس للجار أن يرجع على جاره في مضار الجوار المألوفة التي يمكن تجنبها، وإنما له أن يطلب إزالة هذه المضار إذا تجاوزت الحد المألوف على أن يراعى في ذلك العرف، وطبيعة القارات، وموقع كل منها بالنسبة إلى الآخر، والغرض الذي خصصت له. ولا يحول الترخيص الصادر من الجهات المختصة دون استعمال هذا الحق".

ص: 839

3) - لمالك الحائط أن يتصرف في حائطه كما يشاء، فله أن يرممه إذا احتاج إلى الترميم، وله أن يعدل في طريقة بنائه، وله أن يهدمه ويعيد بناءه، بل له أن يهدمه ثم لا يعيد بناءه. ولا يجبر على النزول عن جزء من حائطه لجاره الملاصق إلا في حالة خاصة، ومع ذلك إذا كان الجار يستتر بالحائط، امتنع على صاحب الحائط هدمه دون عذر قوي إن كان الهدم يضر بالجار.

4) - في ملكية الطبقات حيث يوجد علو وسفل، يجوز لكل من مالك العلو والسفل أن يتصرف في ملكه كما يشاء، فيعدل من بنائه، ويزيد فيه أو ينتقص منه، ويعليه إذا كان يحتمل الإعلاء. ومع ذلك يجب على صاحب العلو أن يمتنع عن إعلاء علوه، إذا كان هذا الإعلاء يحمل السفل ثقلًا جسيما بحيث يضر به.

أعمال إيجابية من الغير

وقد تقتضي الوظيفة الاجتماعية لحق الملكية أن يتدخل الغير تدخلًا إيجابيا في انتفاع المالك بملكه، ليتوقى ضررًا أشد بكثير من الضرر الذي يصيب المالك من التدخل، على أن يعوض المالك التعويض العادل. وقد طبق هذا المبدأ تطبيقات بعيدة المدى، نذكر منها ما يأتي:

1-

لمالك المسقاة أو المصرف أن ينتفع بمسقاته أو مصرفه، وأن يستقل بهذا الانتفاع فلا يشاركه فيه أحد. ومع ذلك يجوز للجار أن يأخذ ماء من المسقاة (حق الشرب) لري أرضه، أو يصرف ماءه في المصرف (حق الصرف) بعد أن يكون المالك قد استوفى حاجته من مسقاته أو مصرفه.

2 -

مالك الأرض حر في التصرف في ملكه كما يشاء، وله أن يمنع غيره من الانتفاع بالأرض، ومع ذلك يجوز للجار أن يجبر المالك على أن تمر بأرضه المياه الكافية لري أرض الجار البعيدة عن مورد المياه (حق المجرى) ، أو أن تمر بأرضه مياه الصرف الآتية من أرض الجار لتصب في أقرب مصرف عام (حق المسيل) بشرط تعويض المالك تعويضًا عادلًا.

ص: 840

3 -

لمالك الأرض أن يمنع جاره من المرور بأرضه. ومع ذلك إذا كانت أرض الجار محبوسة عن الطريق العام، فإن للجار حق المرور في أرض جاره بالقدر اللازم لاستغلال أرضه واستعمالها على الوجه المألوف، وذلك في نظير تعويض

عادل. وهذا ما يسمى بحق المرور.

أعمال إيجابية من المالك

وهنا تصل الوظيفة الاجتماعية لحق الملكية إلى أبعد غاياتها فيجبر المالك على أن يقوم بأعمال إيجابية لمصلحة الغير. ونذكر على سبيل المثال ما يأتي:

1 -

في ملكية الطبقات، يجبر صاحب السفل على أن يقوم بالأعمال والترميمات اللازمة لمنع سقوط العلو.

2 -

في الملكية على الشيوع، تجبر أقلية الشركاء على الموافقة على ما تقرره الأغلبية في شأن إدارة المال الشائع.

وليس الأمر مقصورًا على أعمال الإدارة المعتادة، بل يجاوز ذلك إلى ما يخرج عن حدود الإدارة المعتادة، فتجبر أقلية الشركاء على الموافقة تحت رقابة المحكمة، على ما تقرره الأغلبية من تغييرات أساسية وتعديل في الغرض الذي أعد له المال الشائع.

بل إن الأمر يجاوز حدود الإدارة المعتادة، ويصل إلى حد للتصرف في المال الشائع. فتجبر أقلية الشركاء على الموافقة تحت رقابة المحكمة على ما تقرره الأغلبية من التصرف في المال الشائع، إذا استندت هذه الأغلبية في قرارها إلى أسباب قوية.

3 -

وقد جعلت التشريعات الاستثنائية الخاصة بالإيجار نظرًا لأزمة المساكن، للمستأجر حقوقًا واسعة إزاء المالك، بحيث يكاد المستأجر يصبح شريكًا للمالك في ملكه. وأجبرت المالك على قبول أنواع شتى من تدخل المستأجر، وبخاصة في تعيين حد أقصى للأجرة، وفي ترك المستأجر يبقى بالعين المؤجرة حتى بعد انقضاء مدة الإيجار، المدة التي يراها. ويستوي في ذلك إيجار الأماكن وإيجار الأراضي الزراعية. وقد دعا ذلك الفقهاء في فرنسا، ويشتمل القانون الفرنسي على تشريعات مماثلة، أن يروا أن المالك قد أصبح اليوم إزاء المستأجر غير خالص الملكية، بل هو لا يملك على داره أو أرضه إلا ما كان يسمى في العصور الوسطى بالملكية المشرفة، يتقاضى بموجبها أجرًا زهيدًا، أما الملكية الحقيقية أو الملكية النافعة فهي للمستأجر ".

ص: 841

والتزامًا بالمنهج الذي رسمناه لهذا البحث ومن مقتضياته محاولة الاستنارة بكل ما يتيسر لنا الاطلاع عليه من الآراء الجادة فيما يتصل بكل عنصر من عناصره وإشراك القارئ معنا إشراكًا كاملًا في تمحيص الآراء التي نستنير بها وتقدير مدى جديتها وسدادها ننقل - إلى جانب ما اقتبسنا من آراء السنهوري آنفًا - بعض ما قاله جواد علي في "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"(1) حول تاريخ الملكية عند العرب.

فبالإضافة إلى أن جواد علي من الباحثين الجادين الملتزمين بمقتضيات المنهج العلمي غالبًا، وإن تكن له بعض الأخطاء العجيبة الناتجة عن محاولته إيثار ما يعتبره تجردًا علميا على ما يقتضيه الإيمان الصادق لدى المسلم الحق من اعتبار

النصوص الإسلامية الثابتة وخاصة النصوص القرآنية والسنية المتواترة غير قابلة للخضوع لأي تقييم علمي ، إذ هي في ذاتها توجب علما قطعيا. فإن من المهم الوقوف مليا عند تطور مفهوم الملكية، وخاصة ملكية الأرض عند العرب بالذات، إذ بلغتهم وفي بيئتهم نزل القرآن ، وهم المكلفون الأول بنقله وتبيانه وتبيان السنة المكملة له إلى الأمم الأخرى.

ويتراءى لنا من استقراء تشريعات المعاملات الواردة في القرآن أو السنة، أو ما كان منها من عمل الصحابة مما يبلغ درجة الإجماع، أو يقف عند مستوى الاستفاضة والشهرة أن العادات والتقاليد العربية كانت مرعية - أو على الأقل ملحوظة - فيها ، ومرد ذلك فيما يتراءى لنا أن موطن العرب كان وسطًا، فهو ليس موغلًا في المشرق ولا موغلًا في المغرب، والأمم الضاربة إلى المشرق كثيرًا ما يغلب عليها الانصياع والهيمنة الروحية، وما تقتضيه من الإيغال في السلبيات وعدم التعامل مع الشؤون المادية بتقدير ووعي.

(1) ج: 7. ص: 130 بتصرف يسير.

ص: 842

وآية ذلك أن نزعات التصرف المسرفة وما شاكلها من الفلسفات المثالية تسلل أغلبها إلى الأمة الإسلامية، من الأمم الضاربة إلى الشرق بعد الفتح الإسلامي، وبعد أن أصبحت مؤثرة في الشعوب الإسلامية الأخرى بما نقل إلى العربية من ثقافاتها وفلسفاتها كما أن مواطن العرب ليست ضاربة إلى المغرب، وأعني بالمغرب أوروبا وما وراءها جنوب المحيط الأطلسي، حيث تستوطن أمم خاضعة خضوعًا يكاد يكون تاما للمؤثرات المادية، عازفة عزوفًا يكاد يكون مطلقًا عن المواجد والاعتبارات الروحية، لذلك كانت ثقافاتها وفلسفاتها في أغلبها أشد تجانسًا مع الظواهر الملموسة ومظاهر الأشياء، وأشد نزوعًا إلى إيثار مقتضياتها عن أية مقتضيات أخرى. ولعل مما يؤيد هذا الذي تراءى لنا من وسطية العرب واعتبار الشرع لها، لا سيما في ضبط قواعد المعاملات وجانب من ضوابط الشؤون الاجتماعية أن الثقافات الوافدة - إن لم نقل: المتسللة - إلى الأمة الإسلامية من أعماق المشرق وأعماق المغرب لم تستطع أي منها أن تستحوذ على الجمهرة الغالبة من المدارك والمواجد العربية، وأن الفكر الإسلامي كان أقرب إلى التجاوب مع فلسفة المشائين منه مع فلسفة الإشراق.

وما نريد أن نمضي في هذا الاستطراد ، إن نريد به إلا تبيان الحافز الذي حفزنا على نقل ما ننقله عن جواد علي مما يتصل بتاريخ الملكية عند العرب ، فهو يقول (1)

: "الأرض هي مصدر الثراء والغنى للإنسان، وعلى مقدار ما يملكه الإنسان من أرض، تكون ثروته ويكون غناه، وعلى قدر ما يبذله صاحب الأرض من جهد في استغلالها وفي تطويرها وفي استنباط ما في باطنها من خيرات يتوقف دخله منها. وغلته التي تأتيه من أرضه هذه.

ولا تعرف ملكية الأرض والماء إلا بين الحضر. أما الأعراب فإن هذه الملكية تكون عندها للقبيلة ولسادتها، حيث يحمون بعض الأرضين، أو يستنبطون الماء من أرض موات لا ماء فيها، فتحول الأرض بذلك إلى أرض نافعة ذات ماء، يبسط حافرها حمايته عليه ويجعلها ملكًا له، وقد يزرع عليها فتصير الأرض التي يزرعها ملكًا له، وبهذه الطريقة، تكونت الملكية بين القبائل، ولا يستطيع أن ينال من هذه الملكية بالطبع إلا المتمكن من أبناء القبيلة ومن سادتها، ممن يتمكن بما لديه من مال وإمكانيات من استنباط الماء ومن إحياء الأرض واستغلالها بما عنده من موال وعبيد ويكتسب هذا التملك صفة شرعية، إذ يعتبر ملكًا صرفًا لصاحبه.

(1) "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج: 7. ص: 130 بتصرف يسير.

ص: 843

ليس لأحد حق منازعته عليه، ولمالكه أن يتصرف به كيف يشاء. له أن يبيعه، وله أن يهبه، وإن مات انتقلت ملكيته إلى ورثته.

فالأمر في معظم جزيرة العرب حق عام مشاع ، لا تعود ملكيته لأحد. إلى أن صار الرعي، وأخذت تنتقل من مكان إلى مكان، ففرض سادتها حق الحمى وهو نوع من التملك المتولد من حق الاستيلاء بسبب الزعامة والقوة والاغتصاب، فصار الحمى ملكًا لسادات القبائل، وصارت الأرض المتبقية التي دخلت في حوزة القبيلة بسبب بسطها سلطانها عليها ملكًا لها، ملكًا مشاعًا بين جميع أبناء القبيلة ليس لأحد صد أحد من أبناء قبيلته من ارتياض أرضها، إلا بقانون القوة والعزة والتجبر، أو يفرض سلطانه على الأرض باستنباط مائها. وهو حق لا يعمل به إلا القوي المتمكن.

ومن هذا الإحياء للأرض الموات، تكونت بعض المستوطنات في الوادي، جلب ظهور الماء فيها الناس إليها، فسكنوا حولها وجاؤوا من أطرافها للاستقاء من مائها، وشجع العثور عليه في هذا الموضع التمكين للآخرين على الحفر أيضًا، فكان إذا اظهر ماء عذب، جذب الناس إليه، وسحرهم بسحره، وأناخهم حوله، فوسعت بذلك تلك المستوطنات، وتعددت، وظهرت فيها الملكية الفردية، والحياة الحضرية القائمة على الحيازة والتملك الفردي بصورة أوسع مما نجدها عند البدوي الاعتيادي لا يملك إلا بيته، وهو خيمته وأهله، وما قد يكون معه من الإبل" (1)

وقد فصل القول في هذه الأطوار وذكر أنماطًا من الوثائق والعقود ترسم معالم جلية لكل طور منها، كما توضح التمايز بين أقطار الجزيرة العربية (الجنوب والشمال) فيما يتصل بالملكية وتطورها، ورغم أهمية هذه التفاصيل، رأينا الاكتفاء بالإشارة إليها وإحالة من يريد استيفاءها والاستفادة منها في استجلاء طبيعة الاستمرار التطوري لتاريخ الملكية في الإسلام التي لا تختلف في جوهرها عن الأوضاع المتتالية لتعامل العرب خلال أحقابهم المتوالية مع الأرض بل ومع العقارات أيضًا.

(1) "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج1 ص: 36/31.

ص: 844

5 -

الانعكاسات التشريعية والحضارية للملكية الفردية

على أن ما نطمئن إليه من أصالة التجاوب بين التشريع الإسلامي وطبيعة الحضارة العربية السابقة له، لا يعني أننا نحصر اعتبار التشريع بينه وبين الحضارة العربية وحدها ، وإنما يعنى أننا نرى التجاوب أقوى بينهما، على حين لا سبيل إلى إنكار أن التشريع الإسلامي نظر أيضًا إلى حضارات أخرى غير الحضارة العربية، وعمل على تقويم المنحرف منها، وتنظيم الصالح وتحديد مسار تطوره كما كان شأنه مع الحضارة العربية. لذلك نحاول في هذه الفقرة أن نتتبع معالم نشأة وتطور الملكية لدى بعض الشعوب والأمم المحيطة بشبه الجزيرة العربية، والتي كان لها معها علاقات تجارية وغير تجارية مما ينشأ عنه بالطبع تفاعل حضاري يتفاوت بين قطر وآخر، بتفاوت علاقات أبنائه مع العرب. ونبدأ بما قاله ول ديورانت في قصة الحضارة، وهو يصور تصويرًا بديعًا نشأة الملكية عند الإنسان كافة ملاحقًا لها في قارات مختلفة، قال (1) "كانت التجارة أعظم مثر للعالم البدائي، لأنه لم يكن هناك ملك، وبالتالي لم يكن هناك من نظم الحكم إلا قليل، قبل أن تدخل في حياة الناس وتجر وراءها ذيولها من أموال وأرباح، ففي المراحل الأولى من التطور الاقتصادي كانت الملكية محصورة - في الأعم الأغلب - في حدود الأشياء التي يستخدمها المالك لشخصه، وكان معنى الملكية هذا من القوة بحيث لازمت الأشياء المملوكة مالكها، فغالبًا ما دفنت معه في قبره (وانطبق هذا على الزوجة نفسها) ، وأما الأشياء التي لا تتعلق بشخص المالك فلم تكن الملكية مفهومة بالنسبة إليها مثل هذا الفهم القوي ، فلا يكفي أن تقول: إن فكرة الملكية ليست فطرية في الإنسان، إنما يجب أن تضيف إلى ذلك أنها في مثل هذه الأشياء البعيدة عن شخصية المالك، كانت من الضعف في أذهان الناس بحيث تحتاج إلى تقوية مستمرة وتلقين مستمر.

(1) "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج 2، 27.

ص: 845

فتكاد تجد الأرض في كل الشعوب البدائية ملكًا للمجتمع بأسره، فالهنود في أمريكا الشمالية، وأهل بيرو، وقبائل الهنود التي على تل تشيتاجونج، وأهل بورنيو، وسكان الجزر في البحر الجنوبي، مثل هؤلاء - فيما نرجح - كانوا يملكون الأرض جماعة ويحرثونها جماعة ويقتسمون الثمار جماعة، وفي ذلك قال هنود أوماها:"إن الأرض كالماء والهواء لا يمكن أن تباع"، وكذلك لم يكن بيع الأرض معروفًا في ساموا قبل قدوم الرجل الأبيض، ولقد وجد الأستاذ رفرز شيوعية الأرض لا تزال قائمة في مالينزيا وبولينزيا ويمكنك أن تلحظها اليوم قائمة في داخل ليبريا.

وأما شيوعية القوت فقد كانت أقل من ذلك انتشارًا، فمن المألوف عند "الهمج" أن من يملك طعامًا يقتسمه مع من لا يملك منه شيئًا، كما كان من المألوف كذلك للمسافرين إذا ما أرادوا طعامًا أن يقفوا عند أي دار يشاؤون في طريقهم، بل كان من المألوف أن تستعين الجماعات التي ينزل بها القحط بجيرانها، وكان إذا ما جلس إنسان في الغابة ليأكل وجبته، توقع منه الناس أن يصيح لمن أراد أن يشاطره الطعام قبل أن يبدأ هو في تناوله، وبغير ذلك لا يكون الصواب في جانبه، فلما قص "تيرنر" على رجل من "ساموا"، قصة فقير في لندن، سأله "الهمجي" في دهشة:"وكيف هذا؟ أليس هناك طعام؟ أليس له أصدقاء؟ أليس في المكان بيت للسكنى؟ أين إذن نشأ هذا الفقير؟ أليس لأصدقائه منازل؟ ". والجائع من الهنود ما عليه إلا أن يسأل فيجاب سؤاله بالعطاء، فمهما يكن مورد الطعام ضئيلًا عند المعطي، فإنه لا بد أن يعطي منه هذا السائل ما دام محتاجًا، "فيستحيل أن تجد إنسانًا يعوزه القوت ما دامت الغلال موجودة في مكان بالمدينة ". وكانت العادة عند الهوتنتوت أن يقتسم من يملك أكثر من سواه هذه الزيادة حتى يتساوى الجميع ، وقد لاحظ الرحالة البيض أثناء رحلاتهم في أفريقيا قبل أن تدخلها المدنية، لاحظوا أن "الرجل الأسود" إذا ما قدمت له هدية من طعام أو غيره من الأشياء ذوات القيمة، فإنه يقسمها بين ذويه فورًا، وإذا ما أعطى المسافر بدلة لأحد هؤلاء السود، فسرعان ما يرى الموهوب يلبس من الهبة جزءًا كالقبعة مثلًا، ثم يرى صديقًا له يلبس السراويل وصديقًا آخر يرتدي السترة، وكذلك الأسكيمو لا يرون للصائد حقا شخصيا في امتلاك صيده

ص: 846

بل يلزم توزيعه على أهل القرية جميعًا، وكانت الآلات والمخزون من الطعام ملكًا مشاعًا بين الجميع وقد وصف (كابتن كارفر) هنود أمريكا الشمالية فقال: "إنهم لا يعرفون من فوارق الملكية شيئًا سوى الأدوات المنزلية

وهم أسخياء بعضهم لبعض غاية السخاء، وإذا ما فاض عند أحدهم فيض ، ونقص عند الآخر ما يحتاج إليه، فلا بد أن يسد الأول بفيضه نقص زميله"، وكذلك كتب مبشر ديني يقول: "إن ما يثير الدهشة العميقة أن تراهم يعاملون بعضهم بعضًا برقة ومجاملة قل أن تراهما عند أكثر الأمم تحضرًا، وذلك بغير شك يرجع إلى أن لفظتي "ملكي" و"ملكك" اللتين قال عنهما القديس كريسوستم: إنهما تخدمان في قلوبنا شعلة الإحسان وتشعلان نار الجشع، لا يعرفهما هؤلاء الهمج". ويقول شاهد آخر: "لقد رأيتهم يقتسمون الصيد إذا كان لديهم ما يقتسم، لكني لا أذكر مثلًا واحدًا لتنازعهم أو لتوجيههم النقد لطريقة التقسيم ، كأن يقولوا: إنه غير عادل أو غير ذلك من أوجه الاعتراض، إن الواحد منهم ليؤثر أن يرقد على معدته الخاوية، على أن يتهم بأنه أبى أن يعين المحتاج

إنهم يعدون أنفسهم أبناء أسرة واحدة كبيرة".

لماذا اختفت الشيوعية البدائية حين نهض الإنسان إلى ما نطلق عليه في شيء من التحيز اسم المدنية؟ يعتقد "سمنر" أنها دلت على أنها ليست بيولوجية في اتجاهها لأنها عقبة في سبيل تنازع البقاء، وأنها لم تحفز الناس بما يكفي لتشجيعهم على الاختراع والنشاط والاقتصاد، وأن عدم مكافأتها للأقدر وعقابها لمن هو أقل قدرة سوى بين الكفايات تسوية تعاند النمو وتعارض التنافس الناجح مع سائر الجماعات، وكتب "لوسكيل"، عن بعض القبائل الهندية في الشمال الشرقي يقول:"إنهم من الكسل بحيث لا يزرعون شيئًا بأنفسهم، بل يعتمدون كل الاعتماد على احتمال أن غيرهم لن يرفض أن يقاسموه في إنتاجه، ولما كان النشيط لا يتمتع من ثمار الأرض بأكثر مما يتمتع الخامل، فإن إنتاجهم يقل عامًا بعد عام"، ومن رأي دارون أن المساواة التامة بين الفويجيين تقضي على كل أمل في تحضرهم أو ربما قال الفويجيون في ذلك: إن المدنية إذا ما أتتهم فإنها ستقضي على المساواة القائمة بينهم، نعم إن الشيوعية طمأنت هؤلاء الذين خلصوا بحياتهم من حوادث الفقر والجهل وما يترتب

ص: 847

عليهما من مرض في المجتمع البدائي، لكنها لم تنتشلهم من ذلك الفقر انتشالا، وأما الفردية فقد جاءت بالثراء، لكنها كذلك جرت معها القلق والرق، نعم إن الفردية حركت في الممتازين من الرجال قواهم الكامنة، لكنها كذلك نفخت نار التنافس في الحياة فأشعلتها، وجعلت الناس يحسون الفقر إحساسًا مريرًا، مع أن هذا الفقر لم يكن ليؤذي أحدًا حين استوى فيه الجميع.

تستطيع الشيوعية أن تعيش في سهولة أكثر في مجتمعات دائمة الانتقال، لا يزول عنها الخطر والعوز، فالصائدون والرعاة ليس بهم حاجة إلى ملك يحتفظون به، لكن لما أصبحت الزراعة صورة الحياة المستقرة، لم يلبث الناس أن تبينوا أن العناية بالأرض تبلغ أقصاها من حيث غزارة الثمر إذا ما عاد جزاء تلك العناية إلى الأسرة التي قامت بها، فنتج عن ذلك بحكم الانتخاب الطبيعي الكائن بين النظم الاجتماعية والأفكار، كما هو كائن بين الأفراد والجماعات ينتج عن الانتقال من الصيد إلى الزراعة استتبع تحولًا من الملكية القبلية إلى ملكية الأسرة، وبذلك أصبحت أكثر الوحدات الاجتماعية اقتصادًا في نفقات الإنتاج، هي كذلك وحدة الملكية، فما أن أخذت الأسرة شيئًا فشيئًا تتخذ الصورة الأبوية التي تركز السلطة كلها في أكبر الذكور سنا، أخذت الملكية كذلك يزداد تركزها شيئًا فشيئًا في أيدي أفراد، ثم نشأ التوريث لشخص معين عن شخص معين، ولما كان كثيرًا ما يحدث لفرد مغامر أن يغادر مرفأ الأسرة الآمن، ليضرب بمغامراته خارج الحدود التي وقف عندها ذووه، ثم ينتهي به العمل المتصل الشاق أن يستولي على قطعة أرض من الغابة أو الحرج أو المستنقع، فإنه يحرص عليها حرصًا شديدًا لا يسمح لغيره بانتزاعها لأنها ملكه الخاص، حتى لتضطر الجماعة في النهاية أن تعترف بحقه فيها، وبهذا نشأ ضرب آخر من ضروب الملكية الفردية، ومثل هذا الاستيلاء على الأراضي أخذ يزداد اتساعًا حين ازداد السكان واستنفدت قوة الأرض القديمة، حتى وصل الأمر في المجتمعات الأكثر تعقدًا من سواها إلى أن باتت الملكية الفردية هي النظام السائد، ثم جاء اختراع المال فساعد هذه العوامل بتيسيره لجمع الثروة ونقلها وتحويلها، واتخذت حقوق القبيلة القديمة وتقاليدها صورة الملكية بمعناها الدقيق، وأما المالك عندئذ فهو أهل القرية جماعة أو الملك، ثم خضعت الملكية لإعادة التوزيع حينًا بعد حين، ومضى هنا العصر الذي جعل أمر الملكية يتذبذب فيه على هذا النحو من طرف إلى طرف، بين النظام القديم والنظام الجديد، وبعدئذ استقرت الملكية الفردية الخاصة استقرارًا لا شبهة فيه، وأصبحت هي النظام الاقتصادي الأساسي الذي أخذت به المجتمعات في العصور التي دون أخبارها التاريخ.

ص: 848

ونواصل رحلتنا خلال العصور والأقطار المجاورة لشبه الجزيرة العربية مع ديورانت فنقف عند السومريين الذين يقول عنهم (1)

: وكان نظام الإقطاع وسيلة حفظ النظام الاجتماعي في الإمبراطورية السومرية، فقد كان عقب كل حرب يقطع - أي الملك - للزعماء البواسل مساحات واسعة من الأرض ويعفيها من الضرائب ، وكان من واجب هؤلاء الزعماء أن يحافظوا على النظام في إقطاعاتهم ويقدموا للملك حاجته من الجند والعتاد. وكانت موارد الحكومة تتكون من الضرائب التي تجبى عينًا وتختزن في المخازن الملكية وتؤدى منها مرتبات موظفي الدولة وعمالها.

ثم يقول وهو يلخص مياسم الحضارة السومرية: نجد أول ما أسسه الإنسان من دول وإمبراطوريات وأول نظم الري

إلخ.

فإذا انتقل إلى مصر تحدث في أولى خطاه إليها عن العلاقة الحضارية بينها وبين السومريين، فذكر من بينها ما يتصل بالزراعة ، فقال:

ولقد لفت "شوينفرث" أنظار العلماء إلى تلك الحقيقة الطريفة العظيمة الخطر، وهي أن الشعير والذرة الرفيعة والقمح وتأنيس الماشية والمعز والضأن وإن ظهرت كلها في مصر وبلاد فيما بين النهرين من أقدم العهود المدونة، لا توجد في حالتها البرية الطبيعية في مصر بل في بلاد آسيا الغربية وبخاصة في بلاد اليمن وبلاد العرب القديمة، وهو يستدل من هذا على أن الحضارة، وهي هنا زراعة الحبوب واستخدام الحيوانات المتأنسة، قد ظهرت في العهود القديمة غير المدونة في بلاد العرب، ثم انتشر منها في صورة "مثلث ثقافي" إلى ما بين النهرين (سومر وبابل وأشور) وإلى مصر. ولكن ما وصل إلى علمنا من تاريخ العرب القديم حتى الآن ليبلغ من القلة حدا لا تستطيع معه إلا أن تقول: إن هذا مجرد فرض جائز الوقوع (2)

(1) "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ج: 2. ص: 43.

(2)

المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ص: 82 و83.

ص: 849

ولقد سقنا هذه الفقرة استئناسًا إلى ما ذهبنا إليه من التفاعل الحضاري بين العرب ومن يجاورهم تفاعلًا كان في اعتبار التشريع الإسلامي الذي استهدف تنظيم الحياة البشرية تنظيما قائما على العدل بين الناس وتقويم عاداتهم وتقاليدهم وعدم الالتجاء إلى تغييرها جذريا ما أمكن التوفيق بينها وبين إقرار العدالة والسلم.

ويقول ديورانت في وصف حضارة مصر:

كان من وراء هؤلاء الملوك والمملكات بيادق مجهولون، ومن وراء تلك الهياكل والقصور والأهرام عمال المدن وزراع الحقول ويصفهم "هيرودوت" كما وجدهم حوالى عام 455 ق. م. وصفًا تسوده روح التفاؤل فيقول:

"إنهم يجنون ثمار الأرض بجهد أقل مما يبذله غيرهم من الشعوب، لأنهم يضطرون إلى تحطيم أخاديد الأرض بالمحراث أو إلى عزقها (1) أو القيام بعمل كالذي يضطر غيرهم من الناس إلى القيام به لكي يجنوا من ورائه محصولًا من الحب، ذلك أن النهر إذا فاض من نفسه وأروى حقولهم، ثم انحسر ماؤه عنها بعد إروائها، زرع كل رجل أرضه وأطلق عليها خنازيره، فإذا ما دفنت هذه الخنازير الحب في الأرض بأرجلها انتظر حتى يحين موعد الحصاد، ثم جمع المحصول.

(1) قال ابن منظور في لسان العرب ج:10. ص: 250:

وعزق الأرض يعزقها عزقًا، شقها وكربها ، ولا يقال ذلك في غير الأرض ، والمعزقة والمعزق المر من حديد ونحوه يحفر به، وجمعه المعازق ، وأرض ممعزقة إذا شققتها بفأس أو غيره ويقال لتلك الآلة التي تشق بها الأرض: معزقة ومعزق وهي كالقدوم وأكبر منها، قال ابن بري: المعزقة ما تعزق به الأرض فأسًا كانت أو مسحاة أو سكة. وقال ابن الأثير في - النهاية. ج: 3. ص: 230 -: في حديث سعيد: "وسأله رجل فقال: تكاريت من فلان أرضًا فعزقتها " أي: أخرجت الماء منها. يقال: أعزقت الأرض أعزقها عزقا إذا شققتها، وتلك الأداة التي يشق بها معزقة ومعزق ، وهي كالقدوم والفأس. قيل: ولا يقال ذلك لغير الأرض.

ص: 850

وكما كانت الخنازير تدوس الحب بأرجلها كذلك أنست القردة ودربت على قطف الثمار من الأشجار، وكان النيل الذي يروي الأرض يحمل لها في أثناء فيضانه مقادير كبيرة من السمك يتركها في المناقع الضحلة: وكانت الشبكة التي يصطاد بها السمك هي بعينها التي يحيط بها رأسه أثناء الليل ليتقي بها شر لذع البعوض. على أنه لم يكن هو الذي يفيد من سخاء النهر، ذلك بأن كل فدان من الأرض كان ملكًا لفرعون لا يستطيع غيره من الناس أن ينتفعوا به إلا بإذن منه. وكان على كل زارع أن يؤدي له ضريبة سنوية عينية تتراوح ما بين عشر المحصول وخمسه. وكان أمراء الإقطاع وغيرهم من الأثرياء يملكون مساحات واسعة من الأرض ، وفي وسعنا أن نتصور ما كانت عليه أملاكهم من الاتساع إذا علمنا أن واحدًا منهم كان يملك ألفًا وخمسة مائة بقرة، وكانت الحبوب والسمك واللحوم أهم الأطعمة. وقد عثر على بقية من نقش يحدد ما يسمح للتلميذ أن يأكله ويشربه وقد ذكر فيه ثلاثة وثلاثون نوعًا من لحم الحيوان والطير، وثمانية وأربعون صنفًا من الشواء، وأربعة وعشرون من الشراب. وكان الأغنياء يبلعون طعامهم بالنبيذ والفقراء بشراب الشعير المخمر.

وكانت معيشة الفلاحين معيشة ضنكًا. فأما من كان منهم مزارعًا "حرا" فلم يخضع إلا للوسيط والجابي، وكان هذان الرجلان يعاملانه على أساس المبادئ الاقتصادية التي ثبتت تقاليدها على مدى الأيام، فكانوا يأخذون من محصول الأرض كل ما تحمله وسائل النقل.

قلت: من هذه النصوص التي نقلها ديورانت والتي قد تبدو متناقضة، إذ تنص على أن ملكية الأرض كلها كانت لفرعون فيما تنص على وجود الإقطاع ووجود المزارع الحر، تبين عند تأملها أن ملكية الأرض كانت عند المصريين في ذلك العهد قد تمايزت بين ملكية "الرقبة " وملكية "المنفعة" فلفرعون وحده ملكية "الرقبة"، ولغيره سواء كانوا إقطاعيين أو مزارعين أحرارا ملكية "المنفعة". وبهذا الفهم وحده ينزاح ما يبدو على النص من ظلال التناقض.

ص: 851

وحين يتحدث ديورانت عن الدولة البابلية وهي دولة تجارية أساسًا، مركز الزراعة في اقتصادها مركز ثانوي، يذكر أن قانونها "يعد الملكية الفردية للعقار والمنقولات أمرًا مسلما به ولا جدال فيهًا"(1)

فإذا انتقل ديورانت إلى الدولة الأشورية قال (2)

لم تكن الحياة الاقتصادية عند الأشوريين تختلف كثيرًا عنها عند البابليين، لأن هؤلاء وأولئك لم يكونوا في كثير من الأحوال إلا أبناء الشمال وأبناء الجنوب من حضارة واحدة. وأهم ما كان من البلدين من فروق أن المملكة الجنوبية كانت أكثر اشتغالا بالتجارة، على حين أن الشمالية كانت أكثر اشتغالا بالزراعة، فكان أثرياء البابليين تجارًا في الغالب، أما أثرياء الأشوريين فكانوا عادة من كبار الملاك، يشرفون بأنفسهم على ضياعهم الواسعة، ويزدرون ازدراء الرومان من بعدهم أولئك الذين كانوا يكسبون المال بشراء البضائع رخيصة وبيعها غالية ، بيد أن النهرين نفسيهما كانا يفيضان على أرض المملكتين ويغذيانها ونظام الجسور والقنوات بعينه كان يسيطر فيهما على ما زاد من مياه النهرين والشواديف (3) ذاتها كانت ترفع المياه من المجاري المنخفضة لتروي الحقول التي تزرع نفس القمح والشعير والذرة الرفيعة والسمسم. ويقول ديورانت عن فارس والأرض (4) وكان الرجل العادي - يعني الفارسي - أميا راضيًا عن أميته، يبذل جهده كله في فلاحة الأرض.

(1) ديورانت ص: 209.

(2)

ديورانت. ص: 278.

(3)

"الشدوف" كما جاء في - المعجم الوسيط الذي أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة. ج:1. ص: 479 -: أداة مائية لري الأرض وهي كلمة مصرية قديمة ويقولون: شدف: سقى بها. قلت: يظهر من استعمال المترجم كلمة "الشواديف" إذا كان قد التزم الدقة في الترجمة، أن المصريين استعملوا نفس الآلة التي استعملها الآشوريون لضخ الماء من المجاري المنخفضة لري الحقول والمزارع وهذا مما يثبت تلاقح الحضارتين، وقد يستدل منه مع قرائن أخرى على أن الحضارة البابلية الآشورية أقدم من الحضارة المصرية.

(4)

ديورانت. ص: 412.

ص: 852

ثم يقول:

وكانت بعض الأراضي يزرعها ملاكها المزارعون. وكان هؤلاء الملاك في بعض الأحيان يؤلفون جماعات زراعية تعاونية مكونة من عدة أسر لتزرع مجتمعة مساحات واسعة من الأرض، والبعض يمتلكه الأشراف الإقطاعيون ويزرعه مستأجروه نظير جزء من غلته، وبعضها الآخر يزرعه الأرقاء الأجانب (ولم يكونوا قط فرسا) وكانوا يستخدمون محاريث من الخشب ذات أطراف من الحديد تجرها الثيران، وكانوا يجرون الماء من الجبال إلى الحقول بطرق الري الصناعية. وكان الشعير والقمح أهم محاصيل الأرض وأهم مواد الغذاء، ولكنهم كانوا يأكلون كثيرًا من اللحم ويتجرعون كثيرًا من الخمر.

ثم قال:

وكان يربط معظم أفراد الطبقة الموسرة بالعرش أن الملك هو الذي يهبهم ضياعهم، وكان في مقابل هذا يمدونه بالرجال والعتاد إذا نفر إلى القتال. وكان لهؤلاء الأشراف في إقطاعاتهم سلطان لا يكاد يحده شيء، فكانوا يجبون الضرائب ويسنون القوانين، وينفذون أحكام القضاء، ويحتفظون بقواهم المسلحة.

وحين يعرض ديورانت لليونان والأرض ينقل عن بعض المؤرخين قولهم: "إن "ليقورغ" (1) أعاد تقسيم أراضي "لكونيا" ثلاثين ألف قسم متساوية ووزعها على المواطنين" في حين ينقل عن مؤرخ آخر قوله: "إن تقسيما من هذا النوع لم يحدث قط". ثم يحاول أن يجمع بين الروايتين فيقول: "ولعل الذي حدث فعلًا أن الأملاك القديمة لم تمس ، وإنما وزعت الأرض التي استولوا عليها حديثا توزيعًا متساويًا (2)

(1) الزعيم اليوناني الذي يعتقد اليونانيون أنه واضع شرائع "اسبارطة ".

(2)

ديورانت. ج: 6. ص: 149.

ص: 853

فإذا انتهى به المطاف إلى أثينا في عهدها الألجركي قال وهو يصف مجتمعها عندئذ: "وكان السكان ينقسمون من الوجهة الاقتصادية ثلاثة أقسام ، كذلك فكان على رأسهم الأشراف الكريمو المحتد الذين كانوا يعيشون عيشة مترفة بالنسبة إلى غيرهم من الجماعات ويقيمون في المدن، بينما يقوم العبيد والعمال المأجورون بزراعة أملاكهم في الريف".

ثم يقول: "وكان أفقر الأهلين عمال الأرض وهم الزراع الصغار الذين ينتزعون القوت من التربة الضنينة ومن شره المرابين والأشراف، وليس لهم من عزاء إلا التباهي من أنهم يملكون قطعة من الأرض. وكان بعض هؤلاء الزراع يملكون في أيامهم الخالية أراضي واسعة، ولكن زوجاتهم كن أكثر خصوبة من أرضهم، فتقسمت هذه الأراضي ، ثم تقسمت بين أبنائهم وأحفادهم على مر الأجيال. وكان امتلاك العشائر أو الأسر الأبوية يزول زوالا سريعًا، كما كانت الأسوار والخنادق والحواجز تشير إلى الأملاك الفردية وما يصحبها من غيرة وتحاسد، ولما صغرت مساحة الأرض التي يملكها الأفراد وأضحت الحياة الريفية مزعزعة غير مأمونة باع كثيرون من الفلاحين أرضهم رغم ما كان يوقع على الذين يبيعونها من عقاب وما يحرمون بسببه من حقوق ، ونزحوا إلى أثينا أو غيرها من المدن الصغرى ليشتغلوا فيها تجارًا أو صناعًا أو فعلة. وأصبح غيرهم ممن عجزوا عن تحمل التزامات الملكية، مستأجرين لضياع الأشراف أو عاملين فيها لقاء نصيب من غلتها. وظل غيرهم في أرضهم يكافحون، يقترضون المال بربا فاحش ويرهنون أرضهم ضمانًا لما اقترضوه، ولكنهم عجزوا عن الوفاء بديونهم وألفوا أنفسهم لاصقين بالأرض يلزمهم بذلك دائنوهم، ويعملون فيها عمل الرقيق الإقطاعيين. وكان الدائن المرهونة إليه الأرض يعد مالك الأرض الحقيقي حتى يسترد ماله من دين، وكان يضع عليها لوحًا من الحجر يعلن فيه هذه الملكية. وتضاءلت الملكية الصغيرة على توالي الأيام، وقل عدد الملاك واتسعت الأملاك الكبيرة. ويقول "أرسطاطاليس " في هذا: وأصبحت كل الأراضي ملكا لعدد من الناس، وتعرض الزراع هم وأزواجهم وأبناؤهم لأن يباعوا بيع الرقيق لا داخل البلاد فحسب بل خارجها أيضًا، إذا عجزوا عن أداء إيجار الأرض، أو الوفاء بما عليهم من ديون. وألحقت التجارة الخارجية واستبدال النقود بالمقايضة ضررًا آخر بالأهلين، لأن منافسة مواد الطعام المستوردة من خارج البلاد أبقت أثمان محصولاتهم منخفضة، على حين أن ما كان عليهم أن يؤدوه ثمنًا للسلع المصنوعة التي كانوا مضطرين إلى شرائها كانت تحدده عوامل لا سلطان لهم عليها، وظلت هذه الأثمان تزداد على توالي السنين. وإذا ما أجدبت البلاد عامًا حل الخراب بكثير من الزراع وهلك بعضهم جوعًا. وبلغ الضنك في "أتكا " درجة رحب معها الأهلون بالحرب وعدوها نعمة وبركة، فقد تؤدي إلى كسب أرض جديدة، وستؤدي حتما إلى قلة الأفواه التي تتطلب الطعام) (1)

(1) ديورانت. ص: 207/205.

ص: 854

فإذا انتهى إلى ثورة "صولون" ونتائجها ذكر من بين أعماله الأولى أعمالا بسيطة ولكنها كانت من قبيل الإصلاحات الاقتصادية الشاملة، وقد خيب آمال المتطرفين بإحجامه عن إعادة تقسيم الأرض. ولو أنه فعل هذا لأدى ذلك إلى الحرب الأهلية وإلى الفوضى التي تدوم جيلًا كاملًا، وإلى عودة الفوارق مسرعة ، ولكن "صولون" استطاع بفضل قانونه الشهير قانون "السيسكثيا" أو رفع الأعباء، أن يلغي كما يقول "أرسطاطاليس" جميع الديون القائمة ، سواء أكانت للأفراد أم للدولة". وهكذا حرر أراضي (أتكا) من جميع الرهون بجرة قلم، هذا إلى أنه أطلق سراح جميع من استرقوا أو التصقوا بالأرض وكل من بيعوا رقيقًا خارج البلاد وطلب إليهم أن يعودوا إلى مواطنهم، وحرم مثل هذا الاسترقاق في المستقبل. وخليق بنا أن نذكر من خصائص الخلق في هذا المقال أن بعض أصدقاء "صولون" قد عرفوا ما يعتزمه من إلغاء الديون فاشتروا أراضي واسعة مرتهنة ثم احتفظوا بها فيما بعد من غير أن يؤدوا ما عليها من رهون، ويحدثنا "أرسطاطاليس" بأسلوب تهكمي بأن هذا كان منشأ ثروات طائلة كثيرة العدد "ظن الناس" فيما بعد، أنها ترجع إلى أزمنة لا يذكرها الناس لعدم عهدها. وقال بعض الناس إن "صولون" قد تقاضى ثمن هذا العمل ، وأنه استفاد منه، حتى تبين بعدئذ أنه وهو الدائن الكبير قد خسر بقانونه الشيء الكثير"(1)

ويتطور التشريع في أثينا مع تطورها السياسي والحضاري ولكن حق الملكية يظل ثابتًا بل تزيد القوانين والدساتير ولعل من أسباب ذلك أن التشريع نشأ في أثينا من تجميع العادات التي كانت مقدسة عند الأثينيين لأن الآلهة ارتضتها، ثم تنظيمها وصياغتها في شكل قوانين. وفيما يتصل بالملكية منها يقول ديورانت:"وقانون الملكية صارم لا هوادة فيه ، فالتعاقد واجب التنفيذ، وكان يطلب إلى القضاة أن يقسموا بأنهم "لن يطلبوا إلغاء الديون الخاصة، أو توزيع الأراضي أو المساكن التي يملكها الأثينيون" وكان كبير الأركونين - أي الحكام - حين يتولى منصبه في كل عام يكلف مناديًا بأن يؤذن في الناس أن "كل مالك سيبقى له ما يملك وسيظل صاحبه المطلق التصرف فيه". وكان حق الوصية لا يزال مقيدًا بقيود شديدة، فإن كان للمالك أبناء ذكور، فإن الفكرة الدينية القديمة عن الملك، والتي تربطها بتسلسل الأسرة وبالعناية بأرواح السلف تتطلب أن ينتقل هذا الملك من تلقاء نفسه إلى الأبناء الذكور، ذلك أن الوالد إنما كان يحتفظ بالملك وديعة لديه للأموات من الأسرة والأحياء منها ولمن يولدون من أبنائها.

(1) ديورانت. ص: 211.

ص: 855

وكان الملك في أثينا يقسم بين الورثة الذكور كما هي الحال في فرنسا إلى حد كبير، وكان أكبرهم سنًا ينال نصيبًا أكبر بعض الشيء من سائر الورثة ، ولم يكن الأثينيون كالإسبارطيين القدماء والإنجليز في هذه الأيام يبقون الملك من غير تقسيم ويعطونه أكبر الأبناء الذكور. وترى الزارع من عهد "هزيود " يحدد عدد أبنائه كما يفعل الفرنسيون في هذه الأيام حتى لا تنقسم أملاكه بين أبنائه انقسامًا يقضي عليها آخر الأمر، ولم تكن للأرملة أن ترث ملك زوجها، بل كان كل ما تناله من هذا الملك أن تسترد بائنتها ، وكانت الوصايا معقدة في أيام "بركليز" تعقدها في أيامنا هذه، وكانت تصاغ في لغة شبيهة إلى حد كبير بلغة هذه الأيام والتشريع اليوناني في هذا كما هو في غيره من المسائل أساس التشريع الروماني الذي أصبح فيما بعد الأساس القانوني في المجتمع الغربي" (1)

وعند حديثه عن العمل والثروة في أثينا الديمقراطية يقول: "وعماد المجتمع هو الفلاح أفقر الناس فيه وألزمهم له. وقد كان الفلاح في "أتكا " يستمتع على الأقل بحقوقه السياسية ذلك أن المواطنين وحدهم هم الذين كان يحق لهم أن يمتلكوا الأرض، وكان الفلاحون جميعهم تقريبًا يملكون الأرض التي يفلحونها وكان نظام امتلاك العشيرة كلها للأرض قد اختفى، واستقر نظام الملكية الفردية وتوطدت أركانه. وكانت هذه الطبقة من صغار الملاك في "أتكا"، كما هي الآن في فرنسا وأمريكا، قوة محافظة تعمل على الاستقرار في الديمقراطية، على حين أن سكان المدن الذين لا ملك لهم كانوا يدفعون الدولة على الدوام نحو الإصلاح والتغيير (2)

على أن هذا التقديس للملكية الفردية لا يلبث أن يتداعى أمام الدعوات الأفلاطونية الملحة في ضرورة نمط من الاشتراكية يشبه أن يكون شيوعية هذه الأيام ، إذ وجدت هذه الدعوات تطبيقها في مصر على يد "البطالمة" أي: استطاع "البطالمة" إجراء تجربة واسعة في الاشتراكية الدولية.

(1) ديورانت. ج:7. ص: 29و30.

(2)

ديورانت. ص: 44و45.

ص: 856

ويقول ديورانت في هذا الشأن: "لقد كانت ملكية الأرض من زمن بعيد عادة مقدسة في مصر، وكان لفرعون بوصفه ملكا وإلها حق كامل على الأرض وعلى ما تنتجه. ولم يكن الفلاح عبدًا، ولكنه لم يستطع أن يترك مكانه إلا بإذن من الحكومة، وكان يطلب إليه أن يورد الجزء الأكبر من محصوله إلى الدولة. وأبقى البطالمة على هذا النظام ووسعوا نطاقه باستيلائهم على الأراضي الواسعة التي كانت في عهد الأسرة الحاكمة السابقة ملكًا للأعيان المصريين أو الكهنة، وكانت هيئة بيروقراطية كبيرة من الموظفين المحكومين يؤديها الحراس المسلحون، تدير شؤون أرض مصر كلها كأنها مزرعة حكومية ضخمة. وكان هؤلاء الموظفون يعينون لكل زارع تقريبًا قطعة من الأرض التي ينبغي أن يزرعها والمحصولات التي يجب أن ينتجها (1) وكان في وسع الدولة أن تجنده ودوابه للعمل في المناجم وإقامة المباني العامة، والصيد، وشق قنوات الري، وإنشاء الطرق، وكانت محصولاته تكال بمكايل حكومية، ويدون الكتبة مقدارها وتدرس في أجران الملك، ويحملها الفلاحون أنفسهم إلى خزائن الملك. وكان يستثنى من هذا النظام بعض الحالات. فقد كان البطالمة يجيزون للفلاح أن يمتلك بيته وحديقته، ويجيزون الملكية الخاصة في الحواضر، ويؤجرون قطعًا من الأرض للجنود يكافئونهم بها على ما قدموا للدولة من خدمات. ولكن هذه الأرض المستأجرة كانت مقصورة في العادة على المساحات التي يوافق صاحبها على أن يخصصها للكروم، أو البساتين أو أشجار الزيتون، ولم يكن يسمح له أن يورثها أبناءه أو أن يوصي بها لمن يشاء، وكان للملك أن يلغي حق الإيجار متى أراد. ولما تحسنت حال هذه الأرض التي يشترك في ملكيتها الفرد والدولة بفضل جهود اليونان ومهارتهم بدأ أصحابها يطالبون بأن يكون لهم حق توريثها أبناءهم وكان العرف لا القانون يجيز هذا التوريث في القرن الثاني، ثم اعترف به القانون في القرن الأول قبل الميلاد، وتم بذلك التطور المألوف من الملكية العامة إلى الملكية الخاصة.

وما من شك في أن تطور هذا النظام الاشتراكي الحكومي قد حدث؛ لأن أحوال الزراعة في مصر كانت تتطلب من التعاون ووحدة العمل في الزمان والمكان أكثر مما تستطيع أن تهيئه الملكية الفردية، وأن مقدار ما يزرع من الغلات ونوعها يقفان على مقدار الفيضان السنوي، وكفاية نظام الري والقرف، وهذه كلها مسائل تتطلب أن تشرف عليها هيئة مركزية" (2)

(1) قارن بين هذا وبين ما جرى عليه التشريع والعمل في مصر بأمر من جمال عبد الناصر واستمر من بعده وإن بشكل أخف

والتاريخ يعيد نفسه.

(2)

ديورانت ج: 8. ص: 65 و66.

ص: 857

وعرف الرومان الذين اقتبسوا أصول تشريعهم الأولى من اليونان، فضلًا عن مرورهم مثل غيرهم من الشعوب والأمم بالمراحل البدائية الأولى في تطورهم الحضاري، نظام الملكية الفردية.

يقول ديورانت (1) "ونجد الملكية الفردية قائمة في روما منذ أقدم العصور المعروفة على أن بعض الأراضي تعد من الأملاك العامة التي تستولي عليها الدولة من طريق الفتح وتحتفظ لنفسها بملكيتها. وكانت أسرة الزراع في عهد الجمهورية الباكر تمتلك فدانين أو ثلاثة أفدنة (2) ، يشتغل عليها جميع أفرادها وعبيدها إن كان لها عبيد، وتعيش عيشة متقشفة على ما تنتجه من الغلات.

ومع تطور التشريع الروماني طبقًا لتطورهم الحضاري تدعمت الملكية وتنوعت وتفرعت مقتضياتها وحاجاتها إلى الضبط والتقنين".

يقول ديورانت (3) : "وكان أكبر قسم في القانون الروماني هو الخاص بالملكية والالتزامات، والتبادل والتعاقد، والديون، ذلك أن الممتلكات العينية كانت هي حياة روما، وكان ازدياد الثروة واتساع التجارة يتطلبان طائفة من القوانين أكثر تعقيدًا إلى أبعد حد من قوانين العشرة الساذجة (4) وكانت الملكية تجيء عن طريق الوراثة أو وضع اليد. وإذا كان الوالد يملك بوصفه وكيلًا عن الأسرة أو وليا عليها، فقد كان الأبناء والأحفاد ملاكًا بالإمكانية أو "ورثة أنفسهم"، حسب النص الفذ الوارد في القانون، فإذا مات الوالد من غير أن يترك وصية، ورث أبناؤه أملاك الأسرة من تلقاء أنفسهم، وورث الآباء من هؤلاء الأبناء حق الولاية على الأسرة.

وبعد أن يورد تفاصيل تتصل بالوصية والإرث في القانون الروماني يقول:

(1) ديورانت. ج:9. ص:158.

(2)

الفدان مقدار من الأرض الزراعية، مساحته: 333 قصبة مربعة و4200 متر مربع بتقريب الكسر. انظر مجمع اللغة العربية - المعجم الوسيط. ج: 2. ص: 684

(3)

ديورانت. ج: 10. ص: 374 و375.

(4)

اللجنة التي اقتبست القوانين الرومانية الأولى من التشريعات اليونانية.

ص: 858

"

يضاف إلى هذا أن الهبة كانت سبيلًا آخر إلى الفرار من قانون الوصية، غير أن الهبات التي كانت توهب قرب الوفاة كانت عرضة لأن تبحث بحثًا قانونيًا دقيقًا، وأضحت في عهد "جيستنيان" خاصة لنفس القيود التي كانت مفروضة على الوصايا (1) وكان الاستحواذ يجيء عن طريق الأيلولة أو الانتقال المترتب على قضية حكمت فيها المحاكم، فأما الأيلولة أو التسليم باليد فكانت الوسيلة إليها هي الهبة القانونية أو البيع أمام شهود ووجود كفتي ميزان يوضع فيهما سبيكة نحاسية رمزًا لمبدأ البيع. فإذا لم تسحبها هذه المراسيم القديمة، فإن القانون لا يقر أي انتقال للملك. وكانت هنالك ملكية وسطى أو إمكانية يعترف بها القانون وتسمى حق وضع اليد على الملك أو استخدامه: فكان الذين يفلحون أرض الدولة مثلا من هذا الصنف "الجالسين" لا المالكين،

فإذا ما ظلوا عامين يشغلون هذه الأرض ولا ينازعهم فيها منازع أصبحوا ملاكًا لها لا شك في ملكيتهم، وكانت لهم بحق الانتفاع أو وضع اليد في لغة هذه الأيام (2) ، ولعل الحصول على الملك بعد شغله بهذه الوسيلة السهلة اللينة يرجع في أصله إلى عمل الأشراف الذين حصلوا به على الأراضي العامة، وبهذه الطريقة طريقة الملك بالانتفاع أو وضع اليد كانت المرأة التي تعاشر رجلًا عامًا كاملًا لا تغيب عنه فيه ثلاث ليال تصبح ملكا له.

على أن تدعيم الملكية الفردية بدون قيد في القانون الروماني وفي الحياة الرومانية نتج عنه ما لا بد أن ينتج عن كل تشريع لا يفكر واضعوه تفكيرا محيطًا في جميع معقباته. ذلك بأن الزراعة كانت من أهم أسباب الثورة التي اكتسحت روما وكانت لها معقبات خطيرة حتى قال عنها ديورانت (3)

(1) ينبغي أن يلاحظ التشابه بين هذه الفقرة والبحوث الواردة في الفقه الإسلامي في حالات مماثلة.

(2)

قارن بين هذا وبين التشريع الإسلامي في كل من "إحياء الموات" و"الحيازة".

(3)

ديورانت. ج: 9. ص: 232 و233.

ص: 859

"ولم تنشب قط قبل الحرب أو بعدها إلى أيامنا هذه حرب كان لأهدافها من الخطر مثل ما كان لتلك الحرب ولم تمثل على المسرح العالمي في يوم من الأيام مأساة ما تمثيلا أقوى مما مثلت به مأساة تلك الأيام (1) وكان أول أسباب هذه الثورة تدفق الحبوب الناتجة من عمل الرقيق في صقلية وسردانية وأسبانيا وأفريقيا، وما أحدثه تدفقها من خراب حل بالزراع الإيطاليين، إذ خفض ثمن الحبوب التي تنتجها أراضيهم إلى أقل من تكاليف إنتاجها وكان سببها الثاني تدفق الرقيق الذين حلوا محل الزراع في الريف والعمال الأحرار في المدن، وكان ثالث هذه الأسباب زيادة عدد الضياع الواسعة، وكانت الدولة قد أصدرت في عام 220 ق. م. قانونًا يحرم على أعضاء مجلس الشيوخ أن يتعاقدوا على الأعمال العامة أو يستثمروا أموالهم في التجارة، فما إن زاد ثراؤهم من غرائم الحرب اشتروا بهذه الأموال مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، وكانت الأرض في البلاد المفتوحة تقسم في بعض الأحيان قطعا صغيرة وتباع للرومان المستعمرين، وقلت بذلك حدة الفتن والنزاع القائمين في المدن، وأعطي جزء كبير من هذه الأراضي للممولين وفاء ببعض ما أقرضوه للدولة من أموال في أثناء الحرب، أما الجزء الأكبر فقد ابتلعه أعضاء مجلس الشيوخ ورجال الأعمال أو استأجروه بشروط حددها مجلس الشيوخ نفسه، وكان من أثر انتشار هذه الضياع الواسعة أن اضطر المالك الصغير إلى اقتراض المال بأرباح فاحشة يستحيل عليه الوفاء بها، فلم يلبث أن وقع في هاوية الفقر أو الإفلاس أو فقد أرضه ونزح إلى المدن ليسكن في أحيائها القذرة الحقيرة الوبيئة

إلخ".

6 -

بعض المؤثرات في الفقه العقاري الإسلامي

وإنما قطعنا كل هذه الأشواط في مواكبة تطور أنظمة الملكية عرفًا وتشريعًا لدى أهل الجزيرة العربية والشعوب المتصلة بها، لنستبين ويستبين معنا القارئ الكريم المؤثرات المتوالية والمتناسخة أحيانًا فيما انتهى إليه أمر التشريع العقاري في الفقه الإسلامي. ولقد ألمعنا فيما سلف إلى أن الشريعة الإسلامية لم تأت لتكون بدعا في الشرائع التي عرفها الإنسان ليس لها أصول من أوضاعه، وإنما جاءت تكييفًا وتنظيما لأوضاعه تلك لتقييمها على أساس من العدل والمساواة بين جميع أفراده وأممه.

(1) أحسبه غفل عما حدث في روسيا غداة الحرب العالمية الثانية من ثورة البولشفيك ".

ص: 860

كما ألمعنا إلى رأينا في أن التشريع الإسلامي أعار الأوضاع العربية خاصة وأوضاع الشعوب المتصلة بالجزيرة العربية اعتبارًا خاصا لما يمتاز به العرب من وسطية حفظت لهم التوازن بين مقتضيات الحياة المادية الصرفة ومستلزمات الحياة الروحية الخالصة، وهذه الوسطية في رأينا من بين ما وصف به القرآن الكريم الأمة الإسلامية في قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (1) وهي في رأينا أيضًا من مدلولات قوله تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} ، (2) وقوله عز من قائل:{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (3) والله أعلم.

ومضيا مع هذا الفهم الذي يمثل واحدًا من أسس منهجنا في استشراف تطور التشريع الإسلامي فيما يتصل بالملكية. ألمعنا بالتشريعات البابلية والآشورية والمصرية والرومانية باعتبارها في رأينا مؤثرات في التشريعات العربية قبل الإسلام، ثم في اجتهادات بعض فقهاء المسلمين منذ العصر الأول.

واستكمالا لهذه الأشواط، نقف مليا عند التشريعات العربية السابقة للبعثة النبوية، لكن ليس في تفاصيلها بل في مصادرها، إذ إن تفاصيلها لا تختلف في جوهرها عن مثيلاتها في مصادرها. ونقتبس من جواد علي قوله:

"وإذا أردنا أن نتحدث بلغة هذا العصر عن أصول التشريع الجاهلي، أي عن المنابع التي أمدت فقه الجاهلية بالأحكام فإنا نرى أنها استمدت من العرف ومن الدين، ومن أوامر أولي الأمر، ومن أحكام ذوي الرأي "(4)

وجلي أن العرب قبل الإسلام لم يكونوا جميعًا وثنيين فقد كان منهم بقايا الحنفاء الذين احتفظوا بأثارات من ملة إبراهيم عليه السلام (5) وكان منهم يهود (6) وكان منهم نصارى (7) بل تعددت فيهم المذاهب النصرانية (8) وكان فيهم مجوس (9) وإن كانوا قلة ينحصرون في الجنوب، في اليمن وما جاورها من المناطق التي احتلها الفرس حينًا.

(1) الآية رقم: (143) من سورة البقرة.

(2)

الآية رقم (135) من سورة البقرة

(3)

الآية رقم: (161) من سورة الأنعام.

(4)

المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج: 5. ص: 478.

(5)

المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ج: 6 ص: 347/ 449.

(6)

المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ص: 551.

(7)

المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ص: 582.

(8)

المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ص: 623.

(9)

المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ص: 691.

ص: 861

بيد أن المجوسية لم يكن لها من التأثير في الحياة العربية العامة، وخاصة في حياتها للشمال ما كان لليهودية والنصرانية فضلًا عن الحنفية والحنفاء.

ذلك بأن علاقات العرب بفارس وحتى بالعراق العربية الخاضعة للهيمنة الفارسية في العهد الجاهلي أيام اللخميين ملوك الحيرة، لم تكن على نفس المستوى من الوثوق والسعة الذي كانت عليه العلاقات العربية مع الروم البيزنطيين، وعرب الشام (الغساسنة) الخاضعين لهيمنتهم مع الحبشة ومع الروم. تلك العلاقات التي ورد ذكرها في القرآن الكريم في سورة قريش ، إذ وصفها بما نتج عنها من (رحلة الشتاء والصيف) ومردها تاريخيا على الأرجح إلى عهد قصي بن كلاب الجد الرابع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ ذكر أنه هو الذي وضع أول اتفاق تجاري مع الببزنطيين يكفل بمقتضاه لأهل مكة إباحة الاتجار في الأصقاع الخاضعة لبيزنطة، وحماية قوافلهم في القبائل البدوية الخاضعة أو المتحالفة معها، والضاربة في الطريق بين مكة والشام.

وقد نقل جواد علي (1) عن ابن قتيبة "خبرا مفاده أن (قيصر) أعان (قصيا) على (خزاعة) "

وإذا صح الخبر فإن إجلاء خزاعة من مكة واستخلاص الكعبة وسدانتها لقريش، تم بإعانة من حاكم الشام. ولعل هذه الإعانة كانت مساعدة مالية أو إيعازًا منه "إلى الأعراب المحالفين للروم بمساعدته للتغلب على خزاعة "(2)

بل إن العلاقات بين مكة والشام البيزنطية بلغت من العمق حدا جعلت الطامعين في انتزاع حكم مكة من قصي يحاولون الاستعانة بحاكم الشام البيزنطي، أو ممثل بيزنطية لدى ملوك الشام - وهو في الغالب من يطلق عليه العرب كلمة "قيصر" - على تحقيق أطماعهم. فيقال: إن (عثمان بن الحويرث) سعى لدى البيزنطيين ملتمسًا مساعدته لتنصيب نفسه ملكًا على مكة وهو من (بني أسد بن عبد العزة) .

(1) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ج: 4. ص: 38.

(2)

المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام.

ص: 862

"ويظهر أنه أدرك المرارة التي أصيب بها البيزنطيون من خروج الحبش من اليمن ومن دخول الفرس إليها، وسيطرتهم بذلك على باب المندب، مفتاح البحر الأحمر. فتقرب إلى الروم وتوسل إليهم لمساعدته بكل ما عنده من وسائل لتنصيب نفسه ملكًا على مكة ، علما منه أن هذا الطلب سيجد قبولًا لديهم ، وأن في إمكانهم في حالة عدم رغبتهم بمساعدته مساعدة عسكرية أو مالية، الضغط على سادات مكة ضغطًا اقتصاديًا بعرقلة تجارتهم مع بلاد الشام أو بمنع الاتجار مع مكة، أو برفع مقدار الضرائب التي تؤخذ عن تجارتهم، وبذلك يوافقون على الاعتراف به ملكًا عليهم على نحو ما كان عليه الملوك الغساسنة"

(1)

وواضح أنه لم يلق استجابة من البيزنطيين لتحقيق مطامعه، إذ واجه معارضة صامدة من أشراف مكة وأثريائها؛ لأنهم كانوا تجارًا يتاجرون مع الفرس والروم، وانحيازهم إلى الروم معناه خروج مكة عن سياسة الحياد التي اتبعوها اتجاه

المعسكرين. وذلك من شأنه الإضرار بتجارتهم ووضعهم تحت رحمة الروم واحتكارهم وحدهم ، فضلًا عن أن "بين أهل مكة رجال لهم شأن ومكانة في قومهم وكانوا أرفع منزلة من (عثمان بن الحويرث) ، لذلك لم يكن من الممكن بالنسبة لهم الانصياع له حتى وإن أرسل الروم جيشًا قويا منظما على مكة"(2)

وقد وقفنا هونا عند محاولة (عثمان) هذه لأنها تصور مدى ما وقر في أنفس الحجازيين من عمق العلاقة والتأثر والتأثير بين عرب شمال الجزيرة ومراكز الحكم في الشام، سواء كانت بيزنطية أم عربية خاضعة للبيزنطيين. وآية ذلك أن (عثمان) لم يحاول الاستعانة بالفرس وقد غلبوا على اليمن بعد أن أخفق في تحقيق مطامعه لدى البيزنطيين، إذ كان يدرك أن محاولة مثل هذه ستجلب له عداء أشد وعنادًا أصلب من أشراف مكة وأثريائها.

وما نريد أن نتابع تطور العلاقات التجارية بين الحجازيين والروم، أو بينهم والحبشة، فذلك ليس من شأننا في هذا المجال ، بحسبنا أن نؤكد مدى التفاعل الحضاري المنعكس على العادات والتقاليد والأعراف والتشريعات بين الفريقين تفاعلًا كان له أبلغ الأثر في تكييف مفاهيم الفقهاء للتشريع الإسلامي.

(1) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ص: 39.

(2)

المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ص: 40 بتصرف.

ص: 863

ولم يكن هذا شأن أهل مكة وحدهم، وإنما كان شأن أهل (يثرب) - المدينة المنورة - الذين كانوا "تجارًا يخرجون إلى أسواق الشام فيتجرون بها". كذلك "كان يهود (يثرب) بما يحتاجون إليه من تجارات"، وكما كانت الساقطة تنزل المدينة في الجاهلية والإسلام يقدمون بالبر والشعير والزيت والتين والقماش وما يكون في الشام" (1) ويلاحظ من تتبع التاريخ التجاري لعرب شمال الجزيرة وخاصة الحجازيين، بل ولعرب اليمن أيضًا أن التجارة العربية مع الروم والحبشة كانت أوفر نشاطًا وأدق تنظيما وكانت موسمية على حين أن تجارتهم مع الفرس والعراق الخاضع لهيمنتهم كانت محدودة، ولعلها كانت فردية نتيجة لفرص وظروف لا يضبطها نظام زمني ولا تنظيم جماعي.

يقول جواد علي (2)

"ولم يشر أهل الأخبار إلى رحلة على شكل رحلتي الشتاء والصيف إلى العراق، وإنما أشاروا إلى تجار كانوا يتاجرون مع الحيرة. ومعنى هذا ذهبوا قوافل صغيرة إلى العراق، لم تكن بحجم قوافل قريش إلى بلاد الشام أو اليمن، ولم يشر القرآن الكريم أيضًا إلى رحلة جماعية إلى العراق أو إلى موضع آخر. أو مما يدل على أن قريشًا كانت ترحل رحلتين جماعيتين كبيرتين في السنة إلى بلاد الشام في الصيف وإلى بلاد اليمن في الشتاء. أما رحلاتهم الأخرى فلم تكن ضخمة وجماعية، بل كانت قوافل دون القافلتين في الحجم، وكانت خاصة أصحابها أغنياء، لهم رؤوس أموالهم، يبعثون بقوافلهم على حسابهم، في كل وقت شاؤوا، وتكون أرباحهم لا يشاركهم فيها مشارك، وقد يرأسون بأنفسهم قوافلهم ، فيذهبون بها إلى العراق، ولهم فيه تجار وأصحاب، فإذا باعوا عادوا ببضاعة جديدة وبما كسبوه إلى مكة.

(1) ليس واضحًا ما تعنيه كلمة "الساقطة" التي نقلها جواد علي - المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ج: 4. ص: 141 - عن الواقدي في الفتوح فقد "تكون السواقط وهم الذين يمتارون التمر من اليمامة أو من ساقطة الأخبار كما تدل عليه الفقرة التي بعد هذه ونصها "وكانوا يتسقطون الأخبار وينقلونها إلى الروم عند ظهور الإسلام. فقدم بعض الساقطة المدينة وأبو بكر ينفذ الجيوش، وسمع أبو بكر لعمرو بن العاص وهو يقول: عليك بفلسطين وإيليا، فساروا بالخبر إلى الملك هرقل، وتهيأ لملاقاة المسلمين) نفس المرجع نقلًا عن الواقدي أيضًا".

(2)

المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ج: 7. ص: 294.

ص: 864

ويظهر أن قريشًا ومن على شاكلتها من تجار عرب الشمال لم يكونوا يتجهون وراء العراق فيتصلون بفارس مباشرة، وإنما كانت صلتهم بالفرس بواسطة عرب الحيرة وذلك خلافًا لما كانت عليه صلاتهم مع الروم والحبشة. فبالإضافة إلى انتظام التحرك الجاري بين الحجاز وكل من الروم والحبشة. كانت لأهل مكة أجهزة في الشام وفي الحبشة تشبه أن تكون نمطًا مختلطًا من التمثيل السياسي والتجاري".

يقول جواد علي (1)

"وقد أقام تجارهم وكالات ومتاجر في مواضع متعددة تتولى أمر البيع والشراء. ولعلهم كانوا يمثلون مصالح مكة السياسية في الحبش كذلك ، كأن يتولى هؤلاء التفاوض في عقد عهود سياسية واقتصادية وما شابه ذلك. وقد كان اتصال أهل مكة بالحبشة وثيقًا ودائما. ويظهر أنهم كسبوا منافع مهمة من أعمالهم وانتقالهم إلى تلك البلاد.

وقد عهدت قريش إلى أناس آخرين من رجالها. بقيادة قوافلها إلى بلاد الشام أو إلى اليمن. كما قام رجال منها بتجهيز قوافل لهم لتتاجر بأموالهم".

ومع أن عرب يثرب لم يكونوا على مثل شهرة قريش بالتجارة ، لأن أغلبهم كانوا منصرفين إلى الزراعة وخاصة النخيل، فإن منهم "من كان يتاجر مع بلاد الشام واليمن وله أموال شغلها في التجارة" كما يقول جواد علي (2)

وقد نستطيع أن نستشف "مياسم" من التشابه بين ما تواضع عليه العرب الجاهليون من قوانين أغلبها كان مجرد أعراف تقادم احترامها والالتزام بها وبين القوانين الرومانية. على أننا لا نريد في هذا المجال المحدود أن نتتبع هذه "المياسم" في شتى مجالات التشريع، إن نريد إلا أن نحاول استشفافها في نطاق مجالنا هذا، مجال "الملكية " و"المال" وما يتصل به.

(1) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ص: 297.

(2)

المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ص: 311 و312.

ص: 865

يقول جواد علي (1)

: "الملكية حق محترم عند الجاهليين ولصاحب الملكية حق المحافظة على ما يملك والدفاع عنه. ويدخل في ملكية الإنسان كل ما ملكه أو استولى عليه ولم ينتزعه منه أحد مثل الغنائم والسلب والأسر وما شابه ذلك. وعلى المالك الدفاع عن حقه في ملكه وإثباته. ومن أنواع الملكية: تملك العقار وبقية الأشياء الثابتة والأموال المنقولة". ثم يقول: "والملكية نوعان: ملكية ثابتة وملكية متنقلة، ومن النوع الأول العقار، مثل الدور والأرض. ومن النوع الثاني المال وهو الإبل عند الجاهليين بصورة خاصة، والمواشي بالنسبة للمزارعين والرعاة وأهل المدن، وأثاث البيت، سواء كان البيت مستقرًا مثل بيوت أهل المدر أو متنقلًا مثل بيوت أهل الوبر. وأغلب ملك الأعراب هو ملك مستقل. وذلك لأن الحياة التي يحيونها هي حياة تنقل، أما الملك الثابت، أي الأرض ، فإنه ملك لهم ما داموا فيه ، فإذا ارتحلوا عنه، انتقلت ملكيتهم إلى الأرض الجديدة التي ينزلون بها فيملكونها طوعًا، أي من غير مقاومة أو بحق السيف.

ويدخل في باب الملك كل شيء وضع ليستفاد منه أو ليدل على حماية ملك، أو يفهم من وضعه أنه ذو فائدة وأن له صاحبًا، كجدران الأملاك وحيطان البساتين أو سور القرى أو الرجمات وهي أحجار القبور. وقد عثر المنقبون على رجام في مواضع مختلفة من جزيرة العرب، كتب عليها: أن لعنة الآلهة على من يرفع هذا الحجر عن موضعه وعلى من يغيره أو يأخذه أو يتصرف به. كما سألوا الآلهة بأن تنزل الأمراض ومنها العمى والبرص وأنواع الأذى والشر بكل من يتطاول على هذه الرجام، أو على معالم القبور أو القبور، وذلك لأنها ملك. ولا يجوز لأحد التصرف بملك غيره بأي وجه من الوجوه.

وقد أخذ الجاهليون بحق الشفعة في شراء الملك كالدور والأرض" ، كما عرفوا " الرق " وما يتصل به من العتق والمكاتبة والتدبير. كذلك عرفوا الأموال الثابتة ، وفي ضمنها البيوت، وهي تباع وتشترى وتؤجر وترهن بحسب رغبة صاحبها. ولأجل إثبات حق تملك الأفراد للبيوت، كانوا يثبتون أحجارًا مكتوبة على واجهة البيت في بعض الأحيان يدون عليها اسم مالك البيت والعمار الذي بنى البيت والزمن الذي بني فيه، أو الزمان الذي أجريت فيه ترميمات عليه. والحجر عندهم في مقام سند التملك في أيامنا هذه.

(1) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ج: 5. ص: 569.

ص: 866

وتوضع على حدود الملك، ولا سيما حدود الحقول والبساتين، علامات.

ولا نكاد نجد في الفقه الإسلامي تشريعًا يتصل بشؤون الأموال أو بالجنايات أو بالأحوال الشخصية ليس له مثيل في التشريع العربي الجاهلي وإن اختلفا في كثير من الجزئيات نتيجة الاختلاف بين ما هو من وضع البشر الناتج عن الأعراف وما هو من وضع الله القائم على الحق الهادف إلى إقرار العدل.

وما من أحد يستطيع أن يماري في التفاعل بين الفقه الإسلامي والقانون الروماني، كما أنه ما من أحد يستطيع أن يماري في أوجه الشبه العديدة بين الشرائع المعمول بها عند الجاهليين وخاصة عرب الشمال، والتي كانت أعرافًا فتطورت إلى شرائع، وبين الشرائع الرومانية والبابلية ما كان منها قبل التدوين وما كان بعده. ولقد ألححنا في تأكيد هذا الشبه لأننا سنلمسه في مسارنا ونحن نستتبع ونستقرئ خطوات التشريع الإسلامي نصوصًا واجتهادات فيما يتعلق بالملكية والأموال.

7 -

تطور مدلول الملكية في الفقه الإسلامي:

لم نقف على تعريف دقيق لـ"الملك " أو "الملكية"، عند الفقهاء المسلمين الأول، ومرد ذلك عندنا إلى أنهم لم يكونوا قد تأثروا بالمنطق الصوري "الأرسطي" الذي تأثر به المتأخرون فصرف جانبًا من جهدهم الفكري إلى صياغة "التعريفات" و"الحدود، وإنما كان همهم تمييز الأحكام وتبيين مصادرها وأدلتها تمييزًا وتبيينًا يستمدان من النصوص القرآنية والسنية ومن التطبيقات المأثورة عن العصر الأول، عصر الصحابة وكبار التابعين. وكان الجانب التطبيقي هو المستحوذ على جهودهم الفكرية تتناوله بالتمييز والتمحيص والتحليل والتعليل. وكانوا على قناعة كاملة بأن مهمة الفقيه هي مواجهة كل حدث وكل واقعة في ظروفها وشكلها بالحكم الذي يوائمها طبقًا لظروفها وشكلها وأسباب وقوعها والعواقب المحققة أو المرجحة لوقوعها.

فلما هيمن التقليد على الفقهاء والمتفقهين، واستحوذ المنطق الصوري على جهدهم الفكري بعد عصر التدوين وعصر أئمة الاجتهاد الأول وعصر تمحيص الآثار المدونة بالأحكام والآراء الاجتهادية ، وجدوا "مشغلة" لهم في وضع الحدود والتعريفات ومناقشة ألفاظها ونقدها وتعديلها بالزيادة أو النقص أو إعادة الصياغة مما يرتؤونه ضروريا، إما للمزيد من الضبط أو للمزيد من البيان.

وقد واكب هذا الاتجاه في جهود الفقهاء والمتفقهين اتجاه آخر فيها أيضًا هو العناية بوضع "المختصرات"، ثم شرحها ثم تهميش وتذييل كل من المختصرات والشروح بالحواشي والتعاليق والتقارير.

وعماد هذه المختصرات والشروح والذيول "اجتهاد" ثري - ثراء يثير الإعجاب بما صرف فيه من جهد مضن بقدر ما يثير الأسى لقلة جدواه، وأحيانًا لعدم جدواه إطلاقًا - في تمييز الألفاظ وتمحيصها ومناقشتها ووضع الحدود والتعريفات لها، حتى لا يكاد القارئ يتساءل في كثير من الأحيان ما جدوى هذا التدقيق المسرف في توجيه وتحليل ألفاظ وضعها البشر، في حين أن المسلم ينحصر تكليفه بالفهم فهما صحيحًا للنصوص المؤصلة للشريعة من قرآنية وسنية.

ص: 867

ونكاد نجزم بأن هذا الاتجاه من مقلدي الفقهاء والمتفقهين جاء نتيجة اتصال مباشر من بعضهم، وغير مباشر من آخرين بالتشريع الروماني الذي كان قائما على "صياغات" وضعية، وكان من الطبيعي أن يخضع استنباط الحكم منها فضلًا عن تطبيق أحكامها للدقة القصوى في فهم ألفاظها وتمييزها وتمحيصها وتعليلها وتحليلها للتأكد من أن تطبيق أحكامها أو استنباط حكم جديد منها، لا يخرج عن مقاصد ومدارك واضعيها الأولين ، إذ إن تلك التشريعات بلغت لدى الملتزمين بها من متدينين وغير متدينين - باعتبار المسيحية دينًا تعبديا - وقبل أن يفتحوا لأنفسهم مجال الاجتهاد ويتحرروا من قيودها جزئيا أو كليا، أقصى ما يمكن أن تتصوره مداركهم ومواجدهم من الاحترام والتقديس.

على أن هذا الذي نرتئيه من تأثر فقهاء ومتفقهي ما بعد عصور الاجتهاد بكل من المنطق الصوري والتشريع الروماني وما تفرع عنه من حواشي وشروح وتعاليق، لا يصرفنا عن الوقوف عند تعريفاتهم وحدودهم التي وضعوها لـ "الملك" و"الملكية" استكمالا لعناصر وأطوار التصور البشري لكل منهما واستئناسًا بها في محاولتنا استشراف الحكم الشرعي الصحيح الدقيق فيما يتداوله الناس من أموال، وفيما يترتب عليهم أو لهم من تداوله من حقوق وواجبات، ذلك بأن اجتهادات فقهية متأخرة اعتمدت بعض تلك التعريفات والحدود، أو استأنست بها نشأت عنها تصورات وأحكام لا سبيل إلى إعقابها، بل ولا إلى عدم اعتمادها في محاولتنا هذه وما على شاكلتها من جهود لتوضيح معالم التشريع الاقتصادي الإسلامي في شكل يتماثل مع صيغ التشريعات الاقتصادية المعاصرة تماثلا يهيئ له قابلية الموازنة والمقارنة والمفاصلة والتنظير.

ويتراءى لنا أن أدق التعريفات والحدود التي اطلعنا عليها في هذا المجال، تعريف شهاب الدين القرافي (1) الذي نورده مع تحليله وتعديله له على طوله ، لما يتضمنه من إشارة إلى أحكام قد نلفت إليها فيما نستقبل من هذا البحث.

يقول رحمه الله في " الفرق الثمانون والمائة بين قاعدة الملك وقاعدة التصرف ":

(1) الفروق. ج: 3. ص: 208 وما بعدها.

ص: 868

"يعلم أن الملك أشكل ضبطه على كثير من الفقهاء فإنه عام يترتب على أسباب مختلفة: البيع، والهبة، والصدقة والإرث وغير ذلك، فهو غيرها ولا يمكن أن يقال: هو التصرف؛ لأن المحجور عليه يملك ولا يتصرف، فهو حينئذ غير التصرف ، فالتصرف والملك كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه، وأخص من وجه، فقد يوجد التصرف بدون الملك، كالوصي والوكيل والحاكم وغيرهم يتصرفون ولا ملك لهم، ويوجد الملك بدون التصرف كالصبيان والمجانين وغيرهم يملكون ولا يتصرفون، ويجمع الملك والتصرف في حق البالغين الراشدين النافذي الكلمة الكاملي الأوصاف. وهذا هو حقيقة الأعم من وجه والأخص من وجه، أن يجتمعا في صورة وينفرد كل واحد منهما بنفسه في صورة كالحيوان والأبيض.

والعبارة الكاشفة عن حقيقة الملك أنه حكم شرعي مقدم في العين أو المنفعة، يقتضي تمكن من يضاف إليه من انتفاعه بالمملوك والعوض عنه من حيث هو كذلك (1)

أما قولنا: حكم شرعي، فبالإجماع لأنه يتبع الأسباب الشرعية. وأما أنه مقدر، فلأنه يرجع إلى تعلق إذن الشرع ، والتعلق عدمي ليس وصفًا حقيقيًا، بل يقدر في العين أو المنفعة عند تحقق الأسباب المفيدة للملك (2)

وقولنا: في العين أو المنفعة تملك كالبيع، والمنافع كالإجارات.

(1) سيأتي فيما ننقل عن ابن الشاط ما يمكن اعتباره "تحريرا" لحقيقة الملكية أو الملك في الشرع الإسلامي بما نقل عن المازري رحمه الله من اعتبار حق الإنسان في التصرف والتصريف فيما لديه وفيما صار أو يصير إليه من الثابت والمنقول إنما هو حق المنفعة والانتفاع وليس ملكًا بمعنى السيادة على الرقبة ، إنما الملك لله وحده بهذا المعنى ، وسنعرض لهذا الأمر بمزيد من التحرير عند ذكر ما يترتب عليه من الأحكام.

(2)

لا ندري كيف يقدر في العين إذا اتخذنا اعتبار الملك المجرد أو ملك الرقبة لله الواحد القهار قاعدة، لأن تقديره في العين يعني إقرار ملك الرقبة ، وهذا لا يتأتي عند التحقيق.

ص: 869

وقولنا يقتضي انتفاعه بالمملوك ليخرج التصرف للوصية والوكالة، وتصرف القضاة في أموال الدائنين والمجانين، فإن هذه الطوائف لهم التصرف بغير الملك.

وقولنا: أو العوض عنه ، ليخرج عنه الإباحات في الضيافات ، فإن الضيافة مأذون فيها ، وليست مملوكة على الصحيح ، ويخرج أيضًا الاختصاصات بالمساجد والربط والخوانق (1) ومواضع المطاف والسكك ومقاعد الأسواق، فإن هذه الأمور لا ملك فيها مع المكنة الشرعية من التصرف في هذه الأمور.

وقولنا: من حيث هو كذلك ، إشارة إلى أنه يقتضي ذلك من حيث هو، وقد يختلف عنه ذلك لمانع يعرض كالمحجور عليهم ، لهم الملك ، وليس لهم المكنة من التصرف في تلك الأعيان المملوكة. لكن تلك الأملاك في تلك الصور لوجود النظر فيها اقتضت مكنة التصرف، وإنما جاء المنع من أمور خارجة، ولا تنافي بين القبول الذاتي والاستحالة لأمر خارجي، ولذلك نقول: أن جميع أجزاء العالم لها القبول للوجود والعدم بالنظر إلى ذواتها، وهي إما واجبة لغيرها إن علم الله تعالى وجودها ، أو مستحيلة لغيرها إن علم الله تعالى عدمها. وكذلك ههنا بالنظر إلى الملك، يجوز التصرف المذكور، وبالنظر لما عرض من الأسباب الخارجة يقتضي المنع من التصرف لسنا ندري لماذا لم ينتبه القرافي رحمه الله إلى ما في عمق كلامه من تناقض ، فإقراره مبدأ امتناع التصرف عن بعض الطوائف التي ينسب إليها "الملك" كالصبيان والمحجورين كان ينبغي أن يلفته إلى حقيقة جوهرية هي مدار الحكم ومدركه في هذا الشأن وهي أن علاقة الإنسان بما لديه من المال الثابت والمنقول علاقة خاضعة لضوابط، فإن اختل ضابط أو أكثر من تلك الضوابط تقلص مجال العلاقة أو زالت زوالا تاما ومعنى هذا أنه ليس للإنسان الحق المطلق أو "السيادة" أو "ملكية الرقبة" فيما لديه أو فيما صار أو يصير إليه من المال الثابت أو المتنقل وإنما الذي له هو حق الاستعمال إذا أحسن الاستعمال؛ لأن ما أشار إليه القرافي من الامتناع الطارئ الذي يقلص ما سماه بالملك ويخول التصرف فيه إلى الغير هو نفسه ما نعتمد عليه من اعتبار العلاقة بين الإنسان وبين المال أو ما يسميه القرافي الملك هي في الحقيقة "وظيفة" تزول عنه أو ينحصر مداها تبعًا لمدى صلاحه وقابليته للاطلاع بمقتضياتها وهذا المعنى العميق هو ما لم ينتبه إليه القرافي فمضى ينقض نفسه بما اعتبره تقريرًا أو توضيحًا لرأيه. فتأمل.

(1) الخوانق: الأزقة والشعاب الضيقة. انظر - ابن منظور لسان العرب. ج: 10. ص: 92.

ص: 870

وكذلك إذا قلنا: الأوقاف على ملك الواقفين، مع أنه لا يجوز لهم البيع وملك العوض عنها بسبب ما عرض من المانع من البيع كالحجر المانع من البيع، فقد انطبق هذا الحد على الملك.

فإن قلت: قد قالت الشافعية: إن الضيافة تملك، وهل بالمضغ أو البلع أو غير ذلك على خلاف عندهم، فهذا ملك مع أن الضيف لا يتمكن من أخذ العوض على ما قدم له، ولا يتمكن من إطعامه لغيره، ولذلك قال المالكية: إن الإنسان قد يملك أن يملك، وهل يعد مالكًا أو لا ، قولان: فمن ملك أن يملك لا يتمكن من التصرف ولا أخذ العوض من ذلك الشيء الذي ملك أن يملكه مع أنهم قد صرحوا بحقيقة الملك من حيث الجملة. وكذلك قال المالكية وغيرهم: إن الإنسان قد يملك المنفعة، وقد يملك الانتفاع فقط، كبيوت المدارس والأوقاف والربط ونحوها. مع أنه في هذه الصور، لا يملك أخذ العوض عن تلك المنافع. قلت: أما السؤال الأول فإن الصحيح في الضيافات أنها إباحات ، لا تمليك هذا نمط من اختلاف الفقهاء الذي لا طائل وراءه ، لأنه عند التحقيق والتحرير لا يتصور عمليا أن ينتج عنه حكم له أثره في المعاملة بين الناس. فالضيافة نمط من الهبة لكنها هبة منضبطة بظرف زمني وبيئوي لا تتجاوزه ، ومجالها إعطاء المضيف ضيوفه حق التصرف بالانتفاع والنفع بما قدمه إليهم من طعام أو شراب أو فيما يسر لهم من سكن خلال فترة الضيافة ونقول: حق الانتفاع والنفع لرفع كل التباس مما يثيره المتفقهة ولا طائل وراءه فيما يحدث عالق بين الضيوف من إيثار بعضهم بعضًا بشيء مما قدم إليهم من مأكل أو مشرب أو سكن إيثارًا مصدره رغبتهم في إكرام بعضهم بعضًا تعبيرًا عن الود أو التوقير وهو أمر جرت العادة بين الناس على التعامل به ولم يحدث عمليا أن تحرج أحد منه بدعوى أن المضيف خول له أو لمن أكرمه حق الانتفاع شخصيا بما أكرمه به ولم يخوله حق النفع. أما موضوع سكنى المدارس فهو مختلف بعض الشيء عن موضوع الضيافة، فالطلبة الذين يسكنون المدارس يسكنونها بالحق الذي خوله لهم الوقف أثناء ممارستهم للدراسة وهم بذلك لا يملكون "المنفعة" وإنما يملكونا "الانتفاع" و"النفع" إذا لم يحظره قانون المدرسة أو نص الوقف. ومعنى "النفع" الذي يملكونه ما لم يحظره قانون أو نص هو أن للطالب أن يسكن معه رفيقًا له طيلة فترة سكناه أو أمدا منها ، لكن بدون أجر؛ لأن إسكانه بأجر إنما تخوله ملكة "المنفعة" وهي غير متاحة له. فتأمل. كما أباح الله السمك في الماء والطير في الهواء والحشيش والصيد في الفلاة لمن أراد تناوله. ولم يقل: إن هذه الأمور مملوكة للناس (1) فكذلك الضيف جعل له أن يأكل إن أراد أو يترك.

(1) هذا المثل يؤكد ما ذهبنا إليه سابقًا من أن قوله سبحانه وتعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وما شاكل هذه الآية من الآيات البينات لا يعنى التمليك إنما يعنى الاختصاص. فارجع إليه.

ص: 871

والقول بأنه يملك مشكل، فإن الملك لا بد فيه من سلطان التصرف من حيث الجملة، وبعد أن بلع الطعام، كيف يبقى سلطان بعد ذلك على الانتفاع بتلك الأعيان لأنها فسدت عادة، ولم تبق مقصودة للتصرف البتة، فالحق أنها إباحات لا تمليكات (1)

وأما السؤال الثاني، فنقول للمالكية: إن من ملك أن يملك هل يعد مالكًا أو لا؟ قولان، وقد تقدم أن هذه العبارة رديئة جدا أنها لا حقيقة لها، فلا يصح إيراد النقض بها على الحد لأنا نمنع الحكم فيها.

وأما السؤال الثالث وهو ملك الانتفاع دون المنفعة فهو يرجع للإذن والإباحة كما في الضيافة، فتلك المساكن مأذون فيها لمن قام بشرط الواقف (2) لا أنها فيها ملك لغير الواقف (3) بخلاف ما يطلق من الجامكيات فإن الملك فيها يحصل لمن حصل له شرط الواقف ، فلا جرم صح أخذ العوض بها أو عنها لم نعثر في مصادر اللغة على كلمة "الجامكيات" ولعل فيها تحريفًا أو أنها من العامية المستعملة في موطن القرافي ويظهر أنه يقصد بها ما يمكن استغلاله أو الانتفاع به من الغلال والخضروات. وإذا فتحرير الأمر في هذه المسألة هو أن حق الانتفاع أو النفع ينضبط بشروط الواقف ، فإذا أباح الواقف الأكل فحسب ، لم يجز للمنتفع البيع أو الهبة إلا في حالة الضرورة مثل أن يكون مضطرا إلى ما يقيه البرد أو الحر أو يستر عورته ولا يجد وسيلة لاقتنائه إلا ببيع شيء مما أبيح له استغلاله عن طريق الوقف وهذه حالة خاصة داخلة في نطاق "الضرورات تبيح المحظورات" أما في الأحوال العادية فشرط الواقف - مادام في نطاق الشرعية غير متجانف لإثم – هو الذي يضبط مدى حق الانتفاع بالوقف لمن توفرت فيه الشروط المؤهلة له أن ينتفع به.

فإن قلت: إذا أتضح حد الملك فهل هو من خطاب الوضع أو من خطاب التكليف الذي هو من الأحكام الخمسة. قلت: الذي يظهر لي أنه من أحد الأحكام الخمسة. وهو إباحة خاصة في تصرفات خاصة، وأخذ العوض عن ذلك المملوك على وجه خاص كما قررت قواعد المعاوضات في الشريعة وشروطها وأركانها وخصوصيات هذه الإباحة هي الموجبة للفرق بين المالك وغيره من جميع الحقائق. لذلك قلنا: إنه معنى شرعي مقدر، نريد أنه متعلق الإباحة ، والتعلق عدمي من باب النسب والإضافات التي لا وجود لها في الأعيان بل في الأذهان، فهو أمر يفرضه العقل كسائر النسب والإضافات كالأبوة والبنوة والتقدم والتأخر وغير ذلك.

(1) انظر التعليق السابق

(2)

هذا المثل يؤكد ما ذهبنا إليه سابقًا من أن قوله سبحانه وتعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وما شاكل هذه الآية من الآيات البينات لا يعنى التمليك إنما يعنى الاختصاص. فارجع إليه.

(3)

هذه عبارة غامضة قد تكون بحاجة إلى تحرير.

ص: 872

ولأجل ذلك لنا أن نغير عبارة الحد فنقول: إن الملك إباحة شرعية في عين أو منفعة تقتضي تمكن صاحبها من الانتفاع بذلك العين أو المنفعة أو أخذ العوض عنها من حيث هي كذلك.

ويستقيم الحد بهذا اللفظ أيضًا ويكون الملك من خطاب التكليف لأن الاصطلاح أن خطاب التكليف هو الأحكام الخمسة المشهورة، وخطاب الوضع هو نسب الأسباب والشروط والموانع والمقادير الشرعية، وليس هذا منها بل هو إباحة خاصة ومنهم من قال: إنه من خطاب الوضع وهو بعيد (1)

فإن قلت: إن الملك سبب الانتفاع، فيكون سببًا، فيكون من باب خطاب الوضع، قلت: وكذلك كل حكم شرعي سبب لمسببات تترتب عليه من عقوبات وتعزيزات ومؤاخذات وكفارات وغيرها (2) وليس المراد بخطاب الوضع مطلق الترتب، بل نقول: الزوال سبب لوجوب الظهر ، ووجوب الظهر سبب لأن يكون فعله سبب الثواب وتركه سبب العقاب، ووجوبه سبب لتقديمه على غيره من المندوبات، وغير ذلك مما يترتب على الوجوب، مع أنه لا يسمى سببًا، ولا يقال: إنه من خطاب الوضع، بل الضابط للبابين أن الخطاب متى كان متعلقًا على وجه الاقتضاء أو التخيير ، فهو من خطاب التكليف. ومتى لم يكن كذلك ، وهو من أحد الأمور المتقدمة ، فهو خطاب الوضع، وقد يجتمع خطاب الوضع وخطاب التكليف ، وقد تقدم بسط ذلك فيما تقدم من الفروق.

(1) الذي نرجحه أنه من خطاب التكليف انطلاقًا من القاعدة التي سبق أن أشرنا إليها في التعليق: من أن حق الإنسان في التصرف فيما لديه أو فيما صار أو يصير إليه إنما هو وظيفة، والوظيفة تكليف وسنوضح ذلك في الفصول الآتية.

(2)

ليس في هذا الاختلاف أو الاعتراض طائل قد يجدي فيما نحن فيه من تحديد طبيعة العلاقة بين الإنسان وبين ما لديه من المال الثابت والمنقول وإنما هو - في أغلب شأنه - من تفريعات الأصوليين الناتجة عن ولوعهم بالمقارنات والمعارضات اللفظية المنعدمة أو القليلة الأثر في تقرير الأحكام أو تكييفها.

ص: 873

فإن قلت: الملك حيث وجد هل يتصور في الجواهر والأجسام أم لا يتصور إلا في المنافع الخاصة؟ قلت: قال المازري رحمه الله في شرح التلقين قول الفقهاء: الملك في البيع كما يحصل في الأعيان وفي الإجارات يحصل في المنافع ليس على ظاهره ، بل الأعيان لا يملكها إلا الله تعالى؛ لأن الملك هو التصرف، ولا يتصرف في الأعيان إلا الله تعالى بالإيجاد والإعدام والإماتة والإحياء ونحو ذلك، وتصرف الخلق إنما هو في المنافع فقط بأفعالهم من الأكل والشرب والمحاولات والحركات والسكنات. قال: وتحقيق الملك أنه إن ورد على المنافع مع رد العين ، فهو الإجارة وفروعها من المساقاة والمجاعلة والقراض ونحو ذلك ، وإن ورد على المنافع مع أنه لا يرد العين ، بل يبدلها لغيره بعوض أو بغير عوض، فهو البيع والهبة ، والعقد في الجميع إنما يتناول المنفعة ، فقد ظهر بهذه المباحث وهذه الأسئلة حقيقة الملك والفرق بينه وبين التصرفات وما يتوهم التباسها.

قال ابن الشاط في حاشيته على الفروق:

(هذا الحد فاسد من وجوه، أحدها: أن الملك من أوصاف المالك لا المملوك، لكنه وصف متعلق والمملوك هو متعلقه.

وثانيها: أنه ليس مقتضيًا للتمكين من الانتفاع، بل المقتضي لذلك كلام الشارع.

ثالثها: أنه لا يقتضي الانتفاع بالمملوك والعوض بل بأحدهما.

رابعها: أن المملوك مشتق من الملك فلا يعرف إلا بعد معرفته فيلزم الدور) (1)

ما قاله أنه حكم شرعي، إن أراد أنه أحد الأحكام الخمسة ففيه نظر، وإن أراد أنه أمر شرعي على الجملة فذلك صحيح.

(1) وما دمنا نقرر أن الملك بالمعنى الذي يقرره ابن الشاط وغيره من عامة المتفقهة لا وجود له إلا مجازًا ، فلا نرى جدوى من هذا البحث اللفظي القائم على منطق أرسطوطاليس والذي لا نجد له وجودًا في تقرير الأحكام وتحريرها وإنما هو لغو من لغو المناطقة الأرسطيين.

ص: 874

قال: (وأما أنه مقدر فلأنه يرجع إلى تعلق إذن الشرع) إلى قوله: (عند تحقق الأسباب المفيدة للملك) . قوله: إنه عدمي ، بناء على أن النسب أمور عددية وفيه نظر (1)(كلامه هذا يشعر بأن التصرف هو موجب الملك وليس الأمر كذلك ، بل موجبه الانتفاع، ثم الانتفاع يكون بوجهين: انتفاع يتولاه المالك بنفسه، وانتفاع يتولاه نائب عنه. ثم النائب قد يكون باستنابة المالك وقد يكون بغير استنابته، فغير المحجور عليه يتوصل إلى الانتفاع بملكه بنفسه ونيابته، والمحجور عليه لا يتوصل إلى الانتفاع بملكه إلا بنيابته ، ونائبه لا يكون إلا باستنابته)(2)

(ما قاله غير صحيح، بل الصحيح أنها تمليك للانتفاع بالأكل خاصة سواء أوقع البناء على الحد الذي ارتضيته أو على الحد الذي ارتضاه هو، أما على الحد الذي ارتضيته فلأن مقدم الضيافة مكنه من الانتفاع بأكملها. وأما على الحد الذي ارتضاه هو فإنه قال: "حكم مقدر في العين أو المنفعة يقتضي تمكين من يضاف إليه من انتفاعه بالمملوك وبالعوض عنها. وقد بينا أنه لا يقتضي الانتفاع بهما فيبقى الانتفاع مطلقا) هذا نمط من اختلاف الفقهاء الذي لا طائل وراءه ، لأنه عند التحقيق والتحرير لا يتصور عمليا أن ينتج عنه حكم له أثره في المعاملة بين الناس. فالضيافة نمط من الهبة لكنها هبة منضبطة بظرف زمني وبيئوي لا تتجاوزه ، ومجالها إعطاء المضيف ضيوفه حق التصرف بالانتفاع والنفع بما قدمه إليهم من طعام أو شراب أو فيما يسر لهم من سكن خلال فترة الضيافة ونقول: حق الانتفاع والنفع لرفع كل التباس مما يثيره المتفقهة ولا طائل وراءه فيما يحدث عالق بين الضيوف من إيثار بعضهم بعضًا بشيء مما قدم إليهم من مأكل أو مشرب أو سكن إيثارًا مصدره رغبتهم في إكرام بعضهم بعضًا تعبيرًا عن الود أو التوقير وهو أمر جرت العادة بين الناس على التعامل به ولم يحدث عمليا أن تحرج أحد منه بدعوى أن المضيف خول له أو لمن أكرمه حق الانتفاع شخصيا بما أكرمه به ولم يخوله حق النفع. أما موضوع سكنى المدارس فهو مختلف بعض الشيء عن موضوع الضيافة، فالطلبة الذين يسكنون المدارس يسكنونها بالحق الذي خوله لهم الوقف أثناء ممارستهم للدراسة وهم بذلك لا يملكون "المنفعة" وإنما يملكونا "الانتفاع" و"النفع" إذا لم يحظره قانون المدرسة أو نص الوقف. ومعنى "النفع" الذي يملكونه ما لم يحظره قانون أو نص هو أن للطالب أن يسكن معه رفيقًا له طيلة فترة سكناه أو أمدا منها ، لكن بدون أجر؛ لأن إسكانه بأجر إنما تخوله ملكة "المنفعة" وهي غير متاحة له. فتأمل. (هذه مملوكة بعد التناول وإباحة التناول سبب ملكها)(3)

(1) هذا أيضًا من لغو المناطقة الذي أشرنا إليه في التعليق أعلاه.

(2)

هذا يقرر القاعدة التي ننطلق منها في تحديد طبيعة العلاقة بين الإنسان وما لديه من الثابت والمنقول وفي أن الملكية كما يعتبرها عامة المتفقهين موجودة ، وإنما هي الانتفاع والمنفعة. أما التصرف بالإنابة أو الاستنابة فلا ينفي حق الإنسان المتصرف نيابة عنه في التصرف ، وإنما ينفي أهليته في التصرف أو ينقل الأهلية إلى الغير باختيار من صاحبها ، وكلا الحالين لا تتنافيان مع ثبوت حق التصرف أساسًا لمن لديه الشيء المتصرف فيه بالنيابة أو الاستنابة.

(3)

ليست الإباحة تمليكًا ، وإنما هي تخويل لأن التمليك يستلزم تحديد الملك أما التخويل فيقتضي إباحة الانتفاع أو التخصيص بالانتفاع إذا اعتبرنا تخويل الانتفاع من المضيف للضيف بما قدم له تخويلًا للمنفعة أيضًا ويشبه على هذا الاعتبار عقد الكراء الذي يترتب عنه تخويل المنفعة والانتفاع عند القول بأنه يجوز للكاري أن يكري لغيره بأجر أعلى أو بأجر ومنفعة وهو ما نميل إليه.

ص: 875

(ما قاله من أن الملك مشكل لا إشكال فيه ، تعليله بأن الملك لا بد فيه من سلطان التصرف ، ليس كما قال، بل لا بد فيه من سلطان الانتفاع لا التصرف، والسلطان هو التمكن بعينه ، وقد بين هو قبل هذا أن المحجور عليهم لا يتصرفون مع أنهم يملكون. فكيف يقول: لا بد في الملك من سلطان التصرف؟ هذا غير صحيح. وما قاله من أنه إذا بلع الطعام كيف يبقى سلطان بعد ذلك، إنما هو استبعاد لقول من يقول: يملك بالبلع وهو بعيد كما قال. بل الصحيح أنه يملك الطعام بالتناول حتى إذا تناول لقمة لا يجوز لغيره انتزاعها من يده ، فإن ابتلعها فقد كان سبق ملكه لها قبل البلع، وإن لم يبتلعها ونبذها من يده فقد عادت إلى ملك صاحبها وجاز لغيره تناولها؛ لأن صاحبها لم يمكنه منها إلا ليأكلها ، فإذا لم يأكلها بقيت على ملك صاحبها، أو إن كان تناولها عادت إلى ملك صاحبها هذا هو الصحيح، والله تعالى أعلم. وما قال من أنها إباحات لا تمليكات ليس بصحيح، بل الإباحات هي التمليكات أو أسباب التمليكات)(1)

(وإذا كانت مأذونًا فيها فمن أذن له فتمكن من الانتفاع فهو مالك الانتفاع)(2)

(أما الانتفاع ففيه الملك لغير الواقف، وهو من توفرت فيه شروط الوقف، وأما عين الوقوف فالصحيح أنه لا ملك عليه، لا للواقف ولا لغيره لأنه لا يتمكن أحد من الانتفاع بملك العين ولا من التصرف فيها ولا من أخذ العوض عنها. وإذا لم يكن شيء من ذلك، فلا ملك ، إذ لا معنى للملك إلا التمكن من الانتفاع ومن أخذ العوض أو من الانتفاع خاصة)(3)

(1) بل الصحيح أن الإباحات تخويلات منضبطة بأسبابها وظروفها وما جرت عليه العادات من كيفيتها مثال ذلك أن تخويل المضيف لضيفه الانتفاع وحده أو المنفعة أيضًا بما قدم إليه أو يسره له لا يعني تخويلًا مطلقًا وإنما تخويل حق محدود في ظرف محدود طبقًا لعادات معينة وهذا الضبط بحدود وأوضاع خاصة يتعارض مع دعوى "التمليك" حتى وإن انحصر في رأينا من أنه الحق في التصرف للانتفاع والمنفعة إذ هنالك فرقًا دقيقًا بين الحق المطلق والحق المقيد بظرف وكيفية وعادة. فتأمل.

(2)

ولكنه حين أذن تخلى عن حق الانتفاع الذي لديه في ظرف معين وطبقًا لكيفية معينة وعادة معينة لمن أذن له. فتأمل.

(3)

وهكذا يتبين حتى من أقوال المتفقهة أن ضابط "الملك" هو حق الانتفاع والمنفعة.

ص: 876

(إنما كان ذلك لأن مقتضى الوقف إن كان سكنى الموضع الموقوف، فلا يتعدى الموقوف عليه السكنى لأنه لم يسوغ له غيره وإن كان الاستغلال فالغلة مسوغة بعينها فيصح أخذ العوض عنها) .

(ما قاله من أنه إباحة ليس عندي بصحيح، فإن الإباحة في حكم الله تعالى، والحكم عند أهل الأصول خطاب الله تعالى وخطابه كلامه، فكيف يكون الملك الذي هو صفة المالك على ما ارتضيته أو صفة المملوك على ما ارتضاه هو كلام الله تعالى؟

هذا ما لا يصح بوجه أصلًا. فالصحيح أن سبب الإباحة هو التمكن ، والإباحة هي التمكين) (1)

(لما فسر الملك بالإباحة سلم أنه سبب الانتفاع وليس الأمر كذلك، بل الملك سبب الإباحة وهو التمكين من الانتفاع، والانتفاع متعلق الملك، ولا يقال في المتعلق: إنه سبب المتعلق إلا على وجه التوسع في العبارات لا على المتقرر في الاصطلاح)(2) ولكن ابن الشاط رحمه الله في حاشيته على الفروق بعد أن انتقد تعريف القرافي وأشمل، فقال: وتعقبهما الشيخ محمد علي بن حسين في تهذيبه للفروق بأن نقل تعريفًا لأحد الفقهاء فقال (3)

(1) ولكن كلام ابن الشاط وما يدعيه من أن الاباحة هي خطاب الله تعالى. فعند التمحيص يتبين أن المباح هو ما لم يرد؛ بشأنه خطاب وما ذهب إليه بعض الأصوليين من أن ما لم يرد بشأنه خطاب يبقى على الوقوف وأن الإباحة إنما تتأتى نتيجة لخطاب من الله تعالى غير واقعي ، فليس كل مباح وارد في شأنه خطاب من الله تعالى. وهو أيضًا يتناقض مع صرف معنى اللام إلى الاختصاص في قوله تعالى:{خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} وما شاكله من الآيات ، ولا سبيل إلى الدعوى من أنه هو الخطاب المبيح لأنهم لو اعتمدوا هذا الخطاب في جميع الإباحات لأراحوا واستراحوا ولما جاءت حكاية الوقوف فيما لم يرد فيه خطاب. فتأمل.

(2)

ليس هذا أكثر من نقاش لفظي لا طائل من ورائه.

(3)

على هامش الفروق. ج: 3. ص: 234 و235.

ص: 877

"والسيد الجرجاني قدس الله سره جعل الملك صفة مشتركة بين المالك والمملوك فقال في تعريفاته:

والملك في اصطلاح الفقهاء اتصال شرعي بين الإنسان وبين شيء يكون مطلقًا لتصرفه فيه وحاجزًا عن تصرف غيره فيه". ولكن هذا الحد لا يكون جامعًا إلا بأمرين: الأول التعميم في قوله: "لتصرفه فيه" بأن يقال: "بالانتفاع إما مع أخذ العوض أو بدونه ، وإما مع رد العين أو بدونه بنفسه أو بنائبه" والثاني التقييد في قوله:

"عن تصرف غيره فيه " بأن يقال: "بدون استنابته" فتأمل. وقال عقب الحد المذكور: "فالشيء يكون مملوكًا ولا يكون مرفوقًا، ولكن لا يكون مرفوقًا وإلا ويكون مملوكًا ، يريد بأن المملوك أعم مطلقًا من المرفوق، وقال قبل ذلك الحد:

"والملك في اصطلاح المتكلمين حالة تعرض للشيء بسبب ما يحيط به وينتقل بانتقاله كالتعميم والتقمص، فإن كلا منهما حالة لشيء بسبب إحاطة العمامة برأسه والقميص ببدنه) والله أعلم. ولعل أقرب التعريفات إلى البساطة التشريعية في الإسلام وإلى الإدراك الفطري السليم البعيد عن التمحل والإيغال في التصورات والاحتمالات والفروض، تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (1) إذ قال: (الملك هو القدرة الشرعية على التصرف في الرقبة بمنزلة القدرة الحسية) ، فيمكن أن تثبت القدرة على تصرف دون تصرف شرعًا كما يثبت ذلك حسيًا، ولهذا جاء الملك في الشرع أنواعًا، كما أن القدرة تتنوع أنواعًا. فالملك التام يملك فيه التصرف في الرقبة بالبيع والهبة ويورث عنه. ويملك التصرف في منافعه بالإعارة والإجارة والانتفاع وغير ذلك. ثم قد يملك الأمة المجوسية أو المحرمة عليه بالرضاع، فلا يملك منهن الاستمتاع. ويملك المعاوضة عليه بالتزويج بأن يزوج المجوسية مثلًا، وقد يملك أم الولد ولا يملك بيعها ولا هبتها ولا تورث عنه عند جماهير المسلمين. ويملك وطأها واستخدامها باتفاقهم. وكذلك يملك المعاوضة على ذلك بالتزويج والإجارة عند أكثرهم، كأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد. ويملك المرهون وتجب عليه مؤونته، ولا يملك فيه من التصرف ما يزيل حق المرتهن، لا بيع ولا هبة، وفي العتق خلاف مشهور".

(1) مجموع الفتاوى. ج: 29. ص: 178.

ص: 878

ثم قال: فالملك الموصوف نوع مخالف لغيره من الملك في البيع والهبة. وكذلك ملك الموهوب له، حيث يجوز للواهب الرجوع كالأب إذا وهب لابنه عند فقهاء الحديث، كالشافعي وأحمد: نوع مخالف لغيره، حيث سلط غير المالك على انتزاعه منه وفسخ عقده. ونظيره سائر الأملاك في عقد يجوز للمتعاقدين فسخه، كالبيع بشرط عند من يقول: انتقل إلى المشتري. كالشافعي وأحمد في أحد قوليهما. وكالبيع إذا أفلس المشتري بالثمن عند فقهاء الحديث وأهل الحجاز. وكالبيع الذي ظهر فيه عيب أو فوات صفة، عند جميع المسلمين، فهنا في المعاوضة والتبرع يملك العاقد انتزاعه، وملك الأب لا يملك انتزاعه وجنس الملك يجمعهما، وكذلك ملك الابن في مذهب أحمد وغيره من فقهاء الحديث الذين اتبعوا فيه معنى الكتاب وصريح السنة. وطوائف من السلف يقولون: هو مباح للأب مملوك للابن بحيث يكون للأب كالمباحات التي تملك بالاستيلاء. وملك الابن كانت عليه، بحيث يتصرف فيه تصرفًا مطلقًا. فإذا كان الملك يتنوع أنواعًا وفيه من الإطلاق والتقييد ما وصفته وما لم أصفه ، لم يمتنع أن يكون ثبوت ذلك مفوضًا إلى الإنسان يثبت منه ما رأى فيه مصلحة له، ويمتنع من إثبات ما لا مصلحة له فيه. والشارع لا يحظر على الإنسان إلا ما فيه فساد راجح أو محض. فإذا لم يكن فيه فساد أو كان فساده مغمورًا بالمصلحة لم يحظره أبدًا.

قلت: وقد نقلنا ما أعقب به شيخ الإسلام رحمه الله تعريفه للملك من هذه التفاصيل كلها لأننا نعتبرها متممة وموضحة بالضرورة لتعريفه.

ونقل الشيخ علي الخفيف رحمه الله في بحث له بعنوان "الملكية الفردية وتحديدها في الإسلام" قدمه إلى "المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية المنعقد في شوال سنة 1384 هـ. 1964 م". عن الحاوي للقدسي قوله - في تعريف الملك -: "بأنه الاختصاص الحاجز". وعقب عليه بقوله: أي الذي يخول صاحبه منع غيره مجلة مجمع البحوث الإسلامية. عدد: ا. ص: 99 و. 100 الحاوي القدسي: محمد محيي الدين الحاوي فقيه أديب أفتى بصيدا ، هكذا ترجم له رضا كحالة في معجم المؤلفين. ج:12. ص: 8 ، ويظهر أن الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله وهم في اسمه - على غير عادته - أو التبس عليه اسم مؤلفه ، فقال في كتابه الملكية ونظرية

العقد. ص: 65 -: "وعرف القدسي في الحاوي الملك"

إلخ ، والعبارة السليمة هي: وعرف الحاوي القدسي في "ألحان الحاوي بين المراجع والمبادئ". هذا إذا كان التعريف قد نقل من هذا الكتاب ونحن لم نطلع عليه والعهدة على كل من الشيخين علي الخفيف وأبي زهرة رحمهما الله.

ص: 879

ونقل أيضًا في نفس البحث تعريفًا للكمال بن الهمام في أول كتاب البيع من كتابه "فتح القدير" من أنه - أي الملك – "القدرة على التصرف ابتداء إلا لمانع". وعقب عنه بقوله: يريد أنه قدرة مبتدأة لا مستمدة من شخص آخر.

ثم نقل شرحًا لصدر الشريعة لشرح الوقاية عرف فيه الملك بأنه: "اتصال شرعي بين الإنسان وبين شيء يكون مطلقًا تصرفه فيه وحاجزًا عن تصرف الغير".

ثم قال: "وقد تضمنت هذه التعريفات - وقد أورد أيضًا تعريف القرافي - جميعها معنى الاختصاص والاستئثار ، فهو مصرح به في بعضها ولازم لما يدل عليه بعضها الآخر".

ونقل الدكتور فاروق النبهان (1) عن الدكتور محمد موسى أنه عرف الملك في كتابه الفقه الإسلامي - ص: 254 - بأنه "حيازة الشيء متى كان الحائز وحده قادرًا على التصرف فيه والانتفاع به عند عدم المانع الشرعي".

ونقل عن الشيخ علي الخفيف (2) أنه عرفه في كتابه مختصر معاملات الأحكام الشرعية -: ص 9 - بأنه "اختصاص يمكن صاحبه من أن يستبد بالتصرف والانتفاع عند عدم المانع الشرعي".

ووضع له الشيخ أبو زهرة رحمه الله (3) تعريفًا حاول أن يجمع فيه بين تعريف ابن الهمام وتعريف القدسي بعد أن أبدى ملاحظات على كلا التعريفين. وانتهى إلى أنهما يكمل الواحد منهما الأخر وقال:

"فالتعريف الذي نكونه من الاثنين يكون هكذا: الملك هو الاختصاص بالأشياء الحاجز للغير عنها شرعًا، الذي به تكون القدرة على التصرف في الأشياء ابتداء إلا لمانع يتعلق بأهلية الشخص".

(1) الاتجاه الجماعي في التشريع الإسلامي ص: 178.

(2)

الاتجاه الجماعي في التشريع الإسلامي ص: 178.

(3)

الملكية ونظرية العقد. ص: 64 و65. الفقرات: 15 و16 و17.

ص: 880

ثم عرض لتعريف المازري الذي سبق أن نقلناه ضمن تعريف الفروق والحاشية عليه وملاحظات كل من القرافي وابن الشاط فقال:

"وقد وجدنا تعريفًا للملك في كتب المالكية نذكره تتميما للمقام، وتوضيحًا للمراد، فقد جاء في كتاب الفروق للقرافي وحاشيته ومهذبه، أن الملك هو تمكن الإنسان شرعًا بنفسه أو بنيابة عنه من الانتفاع بالعين، ومن أخذ العوض، أو تمكنه من الانتفاع خاصة. وهذا تعريف واضح، فهو يبين أن الملك هو التمكن من الانتفاع، ولكن ذلك التمكن لا يكون إلا بسلطان من الشارع، فالشارع في الحقيقة هو الذي أعطى الإنسان الملك بترتيبه على السبب الشرعي، ولذا جاء في بعض التعريفات أن الملك حكم شرعي مقدر في العين أو المنفعة بمقتضى تمكين من يضاف إليه من انتفاعه بالشيء وأخذ العوض عنه. وهذا المعنى، وهو أن الملكية لا تثبت إلا بإثبات الشارع لها وتقريره لأسبابها، فالحق ليس ناشئًا عن طبائع الأشياء ولكنه ناشئ عن إذن الشارع، وجعله السبب منتجًا لمسببه شرعًا. وهذه التعريفات مهما تختلف عباراتها كلها ترمي إلى معنى واحد، هو أن الملك أو الملكية هو العلاقة التي أقرها الشارع بين الإنسان والمالك وجعله مختصًا به بحيث - يتمكن من الانتفاع به بكل الطرق السائغة له شرعًا وفق الحدود التي بينها الشارع الحكيم".

قلت: قد يكون هذا التعريف الأخير الذي وضعه الشيخ أبو زهرة رحمه الله أدق التعريفات المعاصرة للملكية والملك وأجمعها بالضوابط والحدود والأحكام التي يجب أن تجتمع في التعريف.

ثم قال: "ولا نريد أن نترك هذا المقام من غير أن نتصدى لنقطة أثارها بعض فقهاء المالكية في فلسفة الملك. هي: أيرد الملك على الأعيان أم على المنافع فقط؟

ويعنون بذلك: أمن ملك عينًا يملك ماهيتها ذاتها ومنفعتها أم يملك منفعتها فقط؟ أما الذات فليست تحت سلطان الإنسان ولا تقع في مكنته. الظاهر الذي يرى بادئ الرأي أن الملك يقع على الأعيان إذا كانت الأسباب الشرعية تقتضي امتلاك العين. ويقع على المنافع إذا كانت الاسباب الشرعية تقصره عليها. ولكن فقهاء المالكية اختلفوا في ذلك، ففريق منهم قالوا: إن الملك ومعناه: القدرة على التصرف ، لا يتجاوز المنافع ويعدوها إلى جواهر الأشياء وذواتها، لأن التصرف لا يقع على الذوات ولكن يقع على المنافع وعلى أغراض الذات وأحوالها ، فلا يمس جوهرها وماهيتها، لأن التصرف على ماهيتها يكون بالإحياء والإفناء وذلك ليس في قدرة الإنسان.

ص: 881

إنما التصرف الذي في قدرة الإنسان هو ما حصر في ذات المنافع، وانتقال العين من يد إلى يد، وتلك لا تمس الذات في شيء من المساس. ويفرقون بين الأسباب التي تتيح الانتفاع فقط، والأسباب التي تعطي القدرة على التصرفات كلها، بأن هذه، كالبيع والهبة ونحوها تعطي القدرة على منافع العين إلى غير زمن محدود لا تلزم برد العين، وأما الأخرى كالإجارة والإعارة والوصية بالمنافع فإنها تعطي ملك المنافع إلى زمن محدود طال أو قصر، وبعدها ترد الأعيان إلى مالكي المنفعة ملكًا مطلقًا، وكأن المرمى في هذا أن أسباب الملك، إما أن تعطي ملك المنافع مطلقًا غير مقيد، فتكون بيعًا أو هبة أو ميراثًا، وإما أن تعطيه مقيدًا بزمن وترد العين بعده ، ويسمى التصرف إجارة أو إعادة أو وصية بالمنافع. والحنفية (كما تدل على ذلك ظواهر عبارات الكتب والفقهاء) على أن الملك يقع على العين في الملكيات المطلقة ويقع على المنفعة في العقود التي تفيد ملكية المنفعة فقط وليست ثمة حاجة إلى الفلسفة التي أثارها المازري من فقهاء المالكية، لأن ذلك كله أمور فرضية اعتبارية ولا جداء في هذا الخلاف".

وعرفه الدكتور محمد الشرباصي (1) بقوله:

"الملك - بكسر فسكون - اتصال شرعي بين الإنسان وبين شيء يكون مطلقًا لتصرفه فيه، وحاجزا عن تصرف غيره فيه".

وعرفه الدكتور مصطفى الزرقاء - حفظه الله - (2) بقوله:

"الملك هو اختصاص حاجز شرعًا يسوغ صاحبه التصرف إلا لمانع". ووصف تعريفه هذا بقوله: "وهذا أوجز وأجمع تعريف استخلصناه مركبًا من عدة تعاريف ذكرها الفقهاء ، مشيرًا إلى تلك التعريفات التي نقلها الشيخ أبو زهرة رحمه الله ونقلناها عنه آنفًا ، في كل منها مزية ونقص، فجاء جامعًا لمزاياها ومستدركًا لنواقصها".

قلت: من الصعب اعتبار هذا التعريف أجمع وأدق من تعريف الشيخ أبي زهره الذي أدرجناه وعقبنا عليه منذ قليل.

(1) المعجم الاقتصادي الإسلامي. ص: 441.

(2)

المدخل الفقهي العام. ج: 1. ص: 256. الفقرة: 101.

ص: 882

ثم قال موضحًا: "والمراد بكونه حاجزًا أنه يحجز غير المالك عن الانتفاع والتصرف دون إذن المالك. وأما المانع الذي يمنع المالك نفسه عن التصرف فيشمل حالتين: نقص الأهلية، كما في الصغير إذ يتصرف عنه وليه، وحق الغير، كما في المال المشترك والمال المرهون، إذ تتقيد فيهما تصرفات الشركاء والراهن رغم ملكيتهم. فوجود هذا المانع لا ينافي الملك بأنه عارض".

قلت: هذا غير واضح لأن الشركة تعني شيوع الملك وهو وضع لا يعين في الشيء المملوك حصة المالك أو قسطه تعيينًا دقيقًا يمكن معه التصرف في نطاقه، فضلًا عن أن الشركة تعني ارتباط وتشابك جميع متعلقات الشيء أو الأشياء المشترك فيها ارتباطًا وتشابكًا محددين بمدة الشركة، بحيث إن المساس الفردي بشيء أو أكثر من متعلقات الشركة من شأنه إحداث اختلال أو اعتلال بمجموع المنافع الثابتة أو المرجوة من تكوين الشركة ذاتها. أما فيما يتصل بالشيء المرهون فإن ملكيته أصبحت مشكوكًا فيها وغير مقطوع بها لأن الرهن يعني تعليق كل الحقوق المملوكة قبله للراهن في الشيء المرهون ضمانًا للقدر أو الشيء المرهون فيه والذي هو ملك للمرتهن لديه، وهذا يعنى أن ملكية الشيء المرهون لم تعد خالصة للراهن في حقيقتها بل أصبحت على نوع من الشيوع أو المشاركة بينه وبين المرتهن لديه إلى أن ينتهي سبب الرهن.

ثم قال: "وهذا التعريف يتناول جميع أنواع الملكية الآتي بيانها من ملكية الأعيان أو المنافع أو الديون. ومن هذا التعريف يتضح أن الملك هو عبارة عن علاقة الإنسان بالمال وما في حكمه من المنافع، فهو التصوير الشرعي لهذه العلاقة وثمرتها وحدودها. وبذلك يتبين أن الملكية ليست شيئًا ماديا ، وإنما هي حق من الحقوق، والحق نوع من الاعتبار الشرعي، فحيثما أقر الشرع هذه العلاقة الاختصاصية بين الإنسان والمال ثبت الملك، وحيثما نفى الشرع هذه العلاقة انتفى الملك. وذلك بخلاف المال فإنه ذو مفهوم مادي يقع على الموجودات ذات المنافع حتى إن المال في الاجتهاد الحنفي يختص بالأعيان المادية فلا يشمل المنافع في نظر الحنفية".

قلت: هذا كلام شريف، والتعريف الأخير الذي أورده الأستاذ الدكتور مصطفى الزرقاء - حفظه الله - أدق من التعبير الأول وأبرأ من الغموض أو اللبس الذي تراءى لنافيه.

وقال فاروق النبهان فيما يشبه أن يكون تعريفًا منه للملكية بعد أن ذكر تعريفات لغيره من السلف والمعاصرين سبق أن نقلناها (1) : "والملك اعتبار شرعي يقر به الشرع العلاقة الاختصاصية بين الإنسان والمال".

(1) الاتجاه الجماعي في التشريع الاقتصادي الإسلامي. ص: 178.

ص: 883

وتعقبه بقوله موضحًا: "فإذا نفى الشرع هذه العلاقة انتفى الملك بخلاف المال، فهو ذو مفهوم مادي يقع على الموجودات ذات المنافع".

وعلى هامش هذا التوضيح نقل تعريفًا آخر لا ندري لماذا لم يدرجه في الأصل مع غيره من التعريفات، فقال:

"وعرفه الشيخ أحمد إبراهيم بأنه ارتباط شرعي بين الإنسان والشيء المملوك يجعله قادرًا على التصرف فيه بوجه الاختصاص".

ومع أن موقع الإحالة على التعليق الذي أورد فيه المؤلف هذا التعريف يوحي بأنه تعريف للمال لا للملك. فنحن نشعر بأنه تعريف للملك لأن "الشيء المملوك الذي يقع بينه وبين الإنسان ارتباط شرعي يجعل الإنسان قادرًا على التصرف فيه بوجه الاختصاص هو "المال" لا "الملك " ، أما "الارتباط الشرعي" فهو الملك" أو "الملكية ".

ثم عاد فاروق النبهان في بحث له قدمه لمؤتمر الفقه الإسلامي المنعقد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سنة 1396 هـ أي بعد نحو تسعة أعوام من الفراغ من إعداد كتابه المذكور آنفًا وتقديمه للمناقشة، أطروحة لنيل الدكتوراة (1) فعرف الملكية بأنها:"يراد بها حق الفرد في احتواء شيء ما وتمكينه من الانتفاع بكل الطرق الجائزة شرعًا بحيث لا يجوز للغير الانتفاع بهذا الشيء إلا بموافقة المالك الأصلي، وفقًا لصورة من صور التعامل الجائز".

ثم عاد في نفس البحث (2) فعرف الملكية بأنها: "العلاقة التي أقرها الشارع بين الإنسان والمال وجعله مختصًا بحيث يتمكن من الانتفاع به بكل الطرق السائغة له شرعًا وفي الحدود التي بينها الشرع الحكيم".

وعقب على هذا التعريف موضحًا بقوله: "وهذا التعريف يؤكد لنا أن - المال إذا قامت بينه وبين الإنسان علاقة ما فإن هذه العلاقة تنشئ بين كل من المال والإنسان وصفًا جديدًا لم يكن قائما قبل أن يصبح الإنسان مالكًا ويصبح المال مملوكًا وتصبح علاقة المال بالإنسان علاقة ملك

".

قلت: والتعريفات الثلاثة التي نقلناها للدكتور فاروق النبهان تعريفات جليلة قد تكون أدق وأوضح ما وقفنا عليه من تعريفات المعاصرين وقد يكون آخرها أجلها وضوحا وشمولًا.

(1) أثر تطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي في المجتمع. ص: 297.

(2)

أثر تطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي في المجتمع. ص: 300 و301.

ص: 884

وقبل أن نفرغ من هذه الفقرة، فقرة التعريفات المختلفة للملك والملكية ، نورد كلاما جليلا لابن نجيم في هذا المجال جاء فيه:(1)

"وقال في الفتح القدير: الملك قدرة يثبتها الشارع ابتداء على التصرف، فخرج نحو الوكيل (انتهى) . وينبغي أن يقال: إلا لمانع ، كالمحجور عليه، فإنه مالك ولا قدرة له على التصرف، والمبيع المنقول مملوك للمشتري ولا قدرة له على بيعه قبل قبضه".

ثم أورد تعريف القدسي في "الحاوي" ويظهر أن المعاصرين - وخاصة الشيخ علي الخفيف - نقلوا عنه، لكن العبارة التي نقلها ابن نجيم إن كانت كلها للقدسي أوضح وأشمل لذلك نعود فننقلها عنه، قال: وعرفه في "الحاوي القدسي" - وهي نفس العبارة الملتبسة التي سبق أن نقلناها عن الشيخ علي الخفيف وعقبنا عليها في التعليق رقم1 ص 1181. ويظهر أن فيها خطأ كما قلنا في ذلك التعليق - بأنه الاختصاص الحاجز وأنه حكم الاستيلاء، لأنه به يثبت لا غير، إذ المملوك لا يملك، كالمكسور لا ينكسر، لأن اجتماع الملكين في محل واحد محال، فلا بد وأن يكون المحل الذي ثبت الملك فيه خاليًا من الملك، والخالي من الملك هو المباح، والمثبت للملك في المال المباح الاستيلاء لا غير

إلخ.

ومن أسف لم نطلع على كتاب القدسي هذا، إذ يظهر أن فيه مزيدًا من التوضيح لم ينقله ابن نجيم ولعله مصدر "مسائل" فصلها ابن نجيم بعد ذلك وبلغ بها ثلاث عشرة مسألة.

ولقد حرصنا على أن نورد كل هذه التعريفات التي وقفنا عليها بنصوصها، بل وبتعقيبات على بعض منها لنتيح للقارئ عناصر موثقة لتصور كامل لمختلف أطوار نظرية الملك في الفقه الإسلامي سواء ما كان من تلك العناصر من وضع الفقهاء المقلدين المعنيين بوضع الصيغ للتعريفات والحدود وما كان منها من وضع بعض الأساتذة الجامعيين الذين لا نستطيع اعتبارهم "فقهاء متخصصين" في الفقه الإسلامي، وإنما هم في اعتبارنا "منهجيون متخصصون" في دراسة النصوص وتحليلها وإعادة صياغتها بالأسلوب المعاصر.

(1) الأشباه النظائر. ص: 346.

ص: 885

وشتان بين الفقيه المتخصص والأستاذ المنهجي الجامعي، ويتجلى ذلك عند التمييز بين "المتأهل" للاستنباط - ولا أقول للإجهاد فتلك مرتبة أسمى - وبين المنشغل بإعادة الصياغة وتحكيم المنهج اعتمادًا على ما يتيسر له الإطلاع عليه والنقل منه من "مراجع" المتأخرين دون الاعتماد على "المصادر" الأولى للفقه الإسلامي من اجتهادات فقهاء الصحابة إلا ما تيسر لهم - دون قصد إليه مباشرة وبذل الجهد بحثًا عنه في مظانه - من نقل مؤلفي "المراجع" التي "يقنعون" بها من المتأخرين.

ولم نقف عند هذا التمييز استطرادًا إلى نوع من النقد والتقييم إنما قصدنا به لذاته. فنحن لم نورد هذه التعريفات كلها اعتمادًا لها وعليها وحدها وإنما أوردناها - كما ذكرنا آنفًا - لاستكمال عناصر التصور لمدلول الملكية وتطوره، ونحن فيما نستقبل من صميم مقصدنا ونتائج محاولتنا هذه نعتمد أساسًا على المصادر الأولى للفقه الإسلامي ما كان منها نصا تشريعيا من الكتاب والسنة والإجماع، وعمل الصحابة المعتمد، وما كان اجتهادًا ينبغي الاستئناس به من التابعين ومن تبعهم من أئمة الاجتهاد الأول وذلك ما سيتضح في الفقرات المقبلة.

8 -

تحديد طبيعة العلاقة بين الإنسان والمال:

ويبلغ بنا المسار إلى تحديد طبيعة العلاقة بين الإنسان والمال كما أرادها الإسلام أن تكون ورسم لها الحدود والمقاصد والغايات. ويقتضينا المنهج أن نقف هونًا عند ثلاث كلمات وردت في القرآن الكريم، تتصل بالعلاقة بين الإنسان والمال، وتصفها بالملك - بصرف النظر عن فتح الميم أو ضمها أو كسرها، فدلالتها في الأحوال الثلاثة واحدة.

قال الله تعالى في سورة النساء: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} (1) وقال عز من قائل في سورة طه: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} (2)

وقال جل جلاله في سورة يس: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} (3)

(1) الآية رقم: (53) .

(2)

الآية رقم: (87) .

(3)

الآية رقم: (71)

ص: 886

ولا جدال في أن هذه الآيات الكريمة تطلق على علاقة الإنسان بالمال كلمة "ملك"، بيد أنه لا سبيل إلى دعوى أن المال المقصود في كل من الآيات الكريمات أو في إحداها "يعني" أو "يشمل" الأرض. وإنما هو في الآية الثانية والثالثة يتصل اتصالا صريحًا بالمنقول على حين أنه إن لم يكن في الآية الأولى على مثل المستوى من "الصراحة" فهو بقرينته لا يخرج عن المنقول بدليل قوله سبحانه وتعالى في خاتمتها:{فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} وهي أن النقير لا يمكن أن يكون قطعة من الأرض إلا أن يكون "قبصة"(1) من التراب، وبدهي أن هذا النوع من المعنى ليس مما يمكن أن يكون من مقتضى الآية الكريمة.

نقول هذا تأكيدًا لما نلح في تقريره من أن العلاقة التي خولها الله للإنسان بالأرض ليست "الملكية" بمعناها عند أغلب الفقهاء وعامة رجال القانون غير الاشتراكيين وإنما هي الخلافة، وفرق واضح بين أن تكون "مالكًا " لشيء وبين أن تكون خليفة فيه أو عليه ، فالله سبحانه وتعالى جعل الإنسان "خليفة " في الأرض ليقوم بمهمة "الإعمار" وليس بمهمة السيطرة والهيمنة. وبهذا الموقف الذي نقرره نتفق اتفاقًا تاما مع "المازري" رحمه الله في موقفه الذي ذكره القرافي وابن الشاط - رحمهما الله - ونقلناه عنهما آنفًا ، ولسنا وحدنا في تقرير هذه الحقيقة التي لا ينبغي أن يقر في فهم الفقيه المسلم الواعي غيرها، بل سبقنا إلى تقريرها أئمة الاجتهاد الأول وإن لم يعبروا عنها تعبيرًا محددًا بصيغة من صيغ "التعريفات" و" الحدود " كما عرفها فقه المتأخرين ، وإنما عبروا عنها بتصرفاتهم وأحكامهم التي سنورد بعضها في فقرات مختلفة من هذا البحث.

(1) القبصة بالصاد المهملة ما ينقبض بين أصبعين من تراب ونحوه حين تتصلان به، ثم تنضم إحداهما إلى الأخرى، ومنه قراءة في قوله سبحانه وتعالى:{فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا} على قراءة من قرأها بالصاد المهملة. الآية رقم: (96) من سورة طه.

ص: 887

كذلك قررها بعض المعاصرين من الأساتذة والفقهاء وفيما يلي نقول عنهم:

يقول الدكتور أحمد حسين فراج (1)

"تقوم عقيدة المسلمين على أن الملك الحقيقي لهذا الكون بكل ما فيه من جماد وحيوان وإنسان، هو لله تعالى، فهو الذي خلقه وصوره وأبدعه، وهو الحاكم فيه بما يشاء لا معقب لحكمه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (2) " وقد دل على ذلك كثير من آيات القرآن الكريم، ومن هذه الآيات قوله تعالى:{وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} (3) و {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (4) إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في الدلالة على أن لله وحده جميع الكائنات خلقًا وتملكًا وتصرفا.

وقد شاءت حكمته سبحانه وتعالى أن يستخلف الناس في الأرض ويسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض بنعمهما المختلفة ، ويقول عز من قائل:{هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (5) أي: خلقكم من الأرض وجعلكم عمارها وسكانها. ويقول سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (6)

وفي شأن المال يقرر القرآن الكريم ذلك الاستخلاف الآلهي صراحة فيقول: {آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} (7)

(1) الملكية ونظرية العقد. ص: 27.

(2)

الآية رقم: (23) من سورة الأنبياء.

(3)

الآية رقم: (85) من سورة الزخرف.

(4)

الآية رقم: (120) من سورة المائدة.

(5)

الآية رقم: (61) من سورة هود.

(6)

الآية رقم: (165) آخر آية من سورة الأنعام.

(7)

الآية رقم: (7) من سورة الحديد.

ص: 888

فقد أفادت هذه الآية الكريمة أن أصل الملك لله سبحانه ، وأن الإنسان ليس له فيه إلا التصرف الذي يرضي الله، وأن ما بيده من المال لا يتجاوز أن يكون وديعة أو عارية من الله تبارك وتعالى، وهذا يدل على أن الأموال التي هي بأيدي الناس ليست بأموالهم على الحقيقة، وما هم إلا بمنزلة النواب والوكلاء عن الله تعالى، فالعاقل من الناس من يغتنم الفرصة منها بإقامة الحق قبل أن تزول عنه إلى غيره. واستخلاف الناس ليس مطلقًا وملكيتهم ليست أصيلة يتصرفون فيها على مقتضى أهوائهم وأغراضهم الشخصية بل إن هذا الاستخلاف وتلك الملكية مقيدة بقيود تحدد مداها وكيفياتها، وتوضح طريقة الانتفاع والتمتع بها، فإذا تصرف المستخلف عليها تصرفًا مخالفًا لشروط المالك، وقع هذا التصرف باطلًا، وتحتم على المؤمنين رده في الدنيا، أما في الآخرة فهو محاسب على باطله ، ومخالفته لشرط المالك صاحب الملك الأصيل.

التكييف الشرعي لاختصاص الإنسان بالشيء:

رأينا فيما عرضناه من الآيات الكريمة أن المالك الحقيقي لكل ما في الكون من أشياء، إنما هو الله تعالى وأنه بكرمه وفضله قد استخلف الإنسان في الأرض، ويسر له كل ما ينفعه ليقيم حياته، ومن ثم قرر كثير من الفقهاء أن ليس للإنسان إلا الانتفاع بما يكون في حوزته من الأشياء على الوجه الذي أدانت به شريعة الله. وإضافة الملك للإنسان من باب التوسع والتجوز ، وقد وردت آيات تنسب الملك إلى الإنسان صراحة كالآيات التي سبقت الإشارة إليها.

وكما في قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (1){أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} (2)

ونسبة الملك للإنسان في النصوص القرآنية إنما كان على سبيل المجاز والتوسع وعلى معنى الاستخلاف، لا على سبيل الحقيقة والتنزل وكان القصد منه.

أولًا - توجيه المالك إلى الانتفاع بما يملك من مال في الحدود التي رسمها الله تعالى، فهذه الإضافة لم يقصد بها إلا تمليك الانتفاع بكل ما يقتضيه هذا الانتفاع من حق التصرف وحق الاستهلاك وحق الاستثمار".

(1) الآية رقم: (279) من سورة البقرة.

(2)

الآية رقم: (71) من صورة يس.

ص: 889

قلت: كان ينبغي أن يضيف إلى هذا على سبيل الاحتراس القول: " في حدود ما رسمه الشرع بأحكامه المختلفة "، فبذلك وحده يستكمل التحديد معالمه.

ثم قال: "وقصد بها ثانيًا المسؤولية والمحاسبة؛ لأن الإسلام لا يقبل أن تكون مسؤولية البشر عن المال الذي سخره الله لهم وأودعه بين أيديهم مسؤوليته شائعة غير محدودة فكان أن أقر الملكية الفردية ليسأل كل فرد في الجزء الذي بين يديه من مال الجماعة عن حق الجماعة فيه، ثم جعل ولي الأمر مسؤولًا عن حق الجماعة فيما خص الأفراد من هذا المال (1) وقصد بها. ثالثًا - إشباع الفطرة التي فطر الله الناس عليها ومنها غريزة حب التملك".

ويقول الدكتور فاروق النبهان بعد أن عرض لاختلاف رجال القانون في تعيين مصادر الملكية طبقًا لاختلاف نحلهم:

"ونجد في التصور الإسلامي المنطلق من الحقائق القرآنية تفسيرًا لهذا اللبس الذي وقع فيه رجال القانون وينطلق هذا التصور من فكرة (2) الإيمان بالله وأن الإنسان مخلوق ليكون خليفة الله في أرضه. وأن الله قد سخر له كل شيء ليكفل له الاستفادة مما سخره الله له، وأن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي سخر الله له المخلوقات الأخرى ولم يسخره لخدمة تلك المخلوقات، لأنه يمتاز على غيره بالتكليف، والتكليف يرتبط بالعقل. ولما كانت الملكية ضرورية للإنسان فقد استخلفه الله على ملكية ما في الأرض، وأوجب عليه أن يتذكر معنى الاستخلاف ومدلوله، وأن يتقيد في تصرفه في ملكيته بإرادة الله التي يعبر التشريع الإسلامي عنها سواء من حيث أسباب التمليك أو من حيث طرائق الاستفادة من هذه الملكيات.

(1) قد تكون سقطت كلمة "به" من الطابع إذ قوام العبارة أن يقال: "فيما خص به الأفراد من هذا المال ".

(2)

الإيمان بالله ليس فكرة وكل ما في التشريع الإسلامي ليس فكرًا أو نظريات وإنما هو قواعد ومبادئ وشعائر وشرائع، ووصفها بأنها فكر أو نظريات وإن على سبيل التجوز وهو ما جرت عليه أو جرت به أقلام من يكتبون في الشؤون الإسلامية من المعاصرين أقل ما يوصف به أنه إسراف في الانحراف بكلمتي "النظرية""الفكرة" عن دلالاتها فضلًا عن أنه إساءة للأدب مع الله ومع شريعته وإن تكن إساءة غير مقصودة بل جاءت نتيجة ممارسة غير متحررة للمألوف من عوائد التعبير. يغفر الله له.

ص: 890

ولا يعترف الإسلام بأي ملكية لا تنشأ وفقًا لسبب من الأسباب الشرعية المعترف بها ولا يحترم الإسلام أية ملكية لا تنمو وفق الطريق الشرعي الذي حددته الشريعة من حيث عدم الإضرار بالمجتمع، وفضلًا عن هذا فإن المالك مكلف بأن يرعى حق الجماعة في ملكيته، وإلا فإن الإسلام لا يعترف بأية ملكية لا تخضع لهذه الضوابط التشريعية".

على أن هذا الموقف الذي يمثله النموذجان السابقان ليس إجماعيا من المعاصرين، وإنما هو موقف الجمهرة من الأساتذة والاقتصاديين ذوي الثقافة المزدوجة أو الذين تفتحت عقولهم ومداركهم لتفهم التشريع الإسلامي من أصول مباشرة دون التقيد بمرحلة من مراحل الفقه فيه كما هو الشأن عند معاصرين آخرين. ولعل أحسن من يمثل هؤلاء وإن امتاز عن كثير منهم بسعة الاطلاع والاستقلال النسبي في الفهم والاتساع النسبي في الإدراك الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله وفي هذا المجال ننقل قوله من كتابه "الملكية ونظرية العقد"(1)

"ذكرنا أن المال لا يعتبر مالا إلا بتمول الناس له، لذلك كانت علاقة الإنسان هي التي تعطيه خواصه المالية والشرعية ولقد قرر الشرع (2) الإسلامي تلك العلاقة ، ورتب عليها ثمراتها ونتائجها، وتلك العلاقة المقررة في الإسلام ككل الشرائع هي الملك، وهو معنى نسبي يفرض بتعيين النسبة بين المال والإنسان كالأبوة والبنوة والتقدم والتأخر، فكل هذه أمور نسبية لتعيين النسب بين الأشياء والأشخاص، فالأبوة والبنوة لتعيين النسبة والإنسان ومن نشأ منه، كذلك الملك هو معين للنسبة بين الإنسان والمال، الإنسان مالك والمال مملوك".

ولا نريد أن نتقصى "مقولات" ذاك الفريق أو ذاك ، حسبنا ما عرضناه من نماذج لأرائهما إنما نريد أن نقدم صورة لآراء المعاصرين على اختلاف تأثرهم بالنحل والقوانين الحديثة وبالمواقف والآراء الفقهية التي حددها وفرع عنها واستنبط منها ثروة من الأحكام والتصورات والافتراضات الفقه الإسلامي. وذلك قبل أن نمضي في مسارنا الذي رسمناه لأنفسنا في هذا البحث وفي غيره من أبحاثنا المتصلة بالشريعة الإسلامية من اعتبار النصوص التشريعية القطعية والظنية، (من قرآنية أو سنية متواترة ومن سنية آحادية أو آثار لكبار الصحابة ومن اجتهادات لكبار التابعين والأئمة الأول) هي المصدر الوحيد الواجب اعتماده دون غيره لكل فقه يحاول الاهتداء إلى حكم الله في ما يستجد للمسلمين أو للإنسانية كافة من أوضاع وأحداث حضارية فردية كانت أم جماعية أم اجتماعية.

(1) ص: 64. فقرة: 15.

(2)

لعل في العبارة خطأ صوابه "الشرع".

ص: 891

لذلك ننتقل مباشرة إلى النصوص القرآنية المتعلقة لعلاقة الإنسان بالمال وخاصة الأرض وآراء أئمة التفسير في تأويلها ثم إلى النصوص السنية وتحقيقها وتخريجها وأراء أئمة السنة وشرحها في فقهها ثم إلى آثار الصحابة وكبار التابعين والأئمة الأول للاجتهاد، فهذه المصادر هي معتمدنا فيما نستقبل في مسارنا إلى نهايته لا نضيف إليها مرجعًا إلا لمجرد "الاستئناس " عند الاقتضاء.

9 -

التكييف القرآني لعلاقة الإنسان بالأرض:

التبس على البعض ما ورد في القرآن الكريم من أن الله خلق الأرض وسخرها لبني آدم فحسبوا ذلك يعني أنه سبحانه وتعالى ملكها لهم، وبنوا على هذا "اللبس" قواعد أصولية وفقهية من بينها الاستدلال بأن القرآن ينص على ملكية الإنسان لما يحوزه من الأرض.

وهذا "اللبس" الساذج تكشفه الآثار والنصوص التي نوردها فيما يلي تبيانًا للمعنى الذي فهمه السلف من الصحابة والتابعين وأئمة التفسير والتأويل لتلك الآيات الكريمة الملتبس تأويلها على بعض المتفقهة المقلدة الذين لا يتحرجون من محاولة تسخير النصوص القرآنية والسنية لمساندة ودعم آرائهم وآراء أئمتهم وشيوخهم الذين بلغ بهم تقليدهم أنهم يحكمون آراء في النصوص القرآنية السنية فإن استعسر عليهم تسخيرها تمحلوا أسبابًا لادعاء نسخها، وهو ادعاء قد نقف عنده بعد حين.

قال الله تعالى في سورة البقرة: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1)

ويقول الطبري رحمه الله في تفسيره (2)

"فأخبرهم جل ذكره أنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا لأن الأرض وجميع ما فيها لبني آدم منافع - تأمل جيدًا كلمة "منافع" - أما في الدين فدليل على وحدانية ربهم، وأما في الدنيا فمعاش وبلاغ لهم إلى طاعته وأداء فرائضه".

ثم قال:

"وبنحو الذي قلنا في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} كان قتادة (3) يقول: "حدثنا بكر بن معاذ ، قال: حدثنا مرثد بن سعيد ، عن قتادة قوله:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} أنعم ، والله سخر لكم ما في الأرض". وقد أخرج هذا الأثر السيوطي في الدر (4) بأوضح وأسلم تعبير ، فقال: "

أخرج عبد بن حميد وابن جرير - يعني الطبري - عن قتادة في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} قال: سخر لكم ما في الأرض جميعًا كرامة من الله ونعمة لابن آدم متاعًا وبلغة ومنفعة إلى أجل".

(1) الآية رقم: (29) .

(2)

ج:1. ص: 149.

(3)

يعنى ابن دعامة.

(4)

ج: ا. ص: 42.

ص: 892

وقال الزمخشري في الكشاف (1) ". (لكم) لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم ودينكم، أما الانتفاع الدنيوي فظاهر ، وأما الانتفاع الديني فالنظر فيه وما فيه من عجائب الصنع الدالة على الصانع القدير الحكيم، وما فيه من التذكير بالآخرة وثوابها وعقابها لاشتماله على أسباب الأنس واللذة من فنون المطاعم والمشارب والفواكه والمناكح والمواكب والمناظر الحسنة البهية، وعلى أسباب الوحشة والمشقة من أنواع المكاره كالنيران والصواعق والسباع والأحناش والسموم والغموم والمخاوف. وقد استدل بقوله:(خلق لكم) على أن الأشياء التي يصح أن ينتفع بها ولم تجر مجرى المحظورات في العقل خلقت في الأصل مباحة مطلقة لكل أحد أن يتناولها وينتفع بها) .

وقال الرازي رحمه الله في تفسيره (2) "وأما قوله: (لكم) فهو يدل على أن المذكور بعد قوله: (خلق) لأجل انتفاعنا في الدين والدنيا. أما في الدنيا فليصلح أبداننا ولنتقوى به على الطاعات، وأما في الدين فللاستدلال بهذه الأشياء وللاعتبار بها. وجمع بقوله:(ما في الأرض جميعا) جميع المنافع، فمنها ما يتصل بالحيوان والنبات والمعادن والجبال، ومنها ما يتصل بضروب الحرف والأمور التي استنبطها العقلاء، وبين تعالى أن كل ذلك إنما خلقها كي ينتفع بها. كما قال:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (3) وكأنه سبحانه وتعالى قال: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} وكيف تكفرون بالله وقد خلق لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا، أو يقال: كيف تكفرون بالله على الإعادة وقد أحياكم بعد موتكم ولأنه خلق لكم ما في الأرض جميعًا، فكيف يعجز عن إعادتكم. ثم إنه تعالى ذكر تفاصيل هذه المنافع في سور مختلفة كما قال:{أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} (4) وقال في أول سورة النحل {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا} (5) ثم أورد - على عادته - مسائل تتعلق بتأويل الآية وما قد يستنبط منها من معاني وأحكام ومنها قوله:

"المسألة الثانية" احتج أهل الإباحة بقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} على أنه تعالى خلق الكل للكل فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلًا لأنه تعالى قابل الكل بالكل، فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد، والتعيين يستفاد من دليل منفصل، والفقهاء رحمهم الله استدلوا به على أن الأصل في المنافع الإباحة".

وقال ابن عطية في "المحرر الوجيز"(6)

(1) ج:1. ص: 270.

(2)

المجلد الأول. ج: 2. ص: 168.

(3)

الآية رقم: (13) من سورة الجاثية.

(4)

الآية رقم: (25) من سورة عبس.

(5)

الآية رقم: (5) .

(6)

ج: ا. ص:159.

ص: 893

(لكم) معناه الاعتبار، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده من نصب العبر: الإحياء، والإماتة، والخلق، والاستواء إلى السماء وتسويتها. وقال قوم: بل معنى (لكم) إباحة الأشياء وتمليكها، وهذا قول من يقول: إن الأشياء قبل ورود السمع على الإباحة بينته هذه الآية. وخالفهم في هذا التأويل القائلون بالحظر، والقائلون بالوقف، وأكثر القائلين بالحظر استثنوا أشياء اقتضت حالها مع وجود الإنسان الإباحة، كالتنفس والحركة. ويرد على القائلين بالحظر كل حظر في القرآن وعلى القائلين بالإباحة كل تحليل في القرآن. ويترجح في الوقف. إذا قدرنا نازلة لا يوجد فيها سمع ولا تتعلق به.

ومعنى الوقف أنه استنفاد جهد الناظر فيما يحزب من النوازل.

وحكى ابن فورك عن ابن الصائغ أنه قال: "لم يخل العقل قط من السمع ولا نازلة إلا وفيها سمع أو لها به تعلق أو لها مال تستصحبه".

قال: "فينبغي أن يعتمد على هذا، ويغني عن النظر في حظر وإباحة ووقف".

وقال القرطبي في "الجامع لأحكام?القرآن"(1) وهو يستخرج مسائل من هذه الآية الكريمة:

"الثانية - استدل من قال: إن أصل الأشياء التي ينتفع منها الإباحة بهذه الآية وما كان مثلها، كقوله:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} (2)

حتى يقوم الدليل على الحظر. وعضدوا هذا بأن قالوا: إن المآكل الشهية خلقت مع إمكان أن لا تخلق فلم تخلق عبثًا فلا بد لها من منفعة، وتلك المنفعة لا يصح رجوعها إلى الله لاستغنائه بذاته، فهي راجعة إلينا. ومنفعتنا إما في نيل لذاتها، أو في اجتنابها لنختبر بذلك، أو في اعتبارنا بها. ولا يحصل شيء من تلك الأمور إلا بذوقها، فلزم أن تكون مباحة. وهذا فاسد، لأنا لا نسلم لزوم العبث من خلقها إلا لمنفعة، بل خلقها كذلك لأنه لا يجب عليه أصل المنفعة بل هو الموجب. ولا نسلم حصر المنفعة فيما ذكروه ولا حصول بعض تلك المنافع إلا بذوق، بل قد يستدل على الطعوم بأمور أخر كما هو معروف عند الطبائعيين ثم هو معارض بما يخاف أن تكون سمومًا مهلكة ومعارضون بشبهات أهل الحظر. وتوقف آخرون، وقالوا: ما من فعل لا ندرك منه حسنًا ولا قبحًا إلا ويمكن أن يكون حسنًا في نفسه، ولا معين قبل ورود الشرع، فتعين الوقف إلى ورود الشرع. وهذه الأقاويل الثلاثة للمعتزلة. وقد أطلق الشيخ أبو الحسن وأصحابه وأكثر المالكية والصيرفي في هذه المسألة القول بالوقف. ومعناه عندهم أن لا حكم فيها في تلك الحال، وأن للشرع إذا جاء أن يحكم بما شاء وأن العقل لا يحكم بوجوب ولا غيره، وإنما حظه تعرف الأمور على ما هي عليه".

(1) ج:1. ص:251 و252.

(2)

(2) الجاثية: 13.

ص: 894

ثم قال: "الثالثة - الصحيح في معنى قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} الاعتبار يدل عليه ما قبله وما بعده من نصب العبر: الإحياء، والإماتة، والخلق والاستواء إلى السماء وتسويتها، أي الذي قدر على إحيائكم وخلقكم وخلق السماوات والأرض لا تبعد منه القدرة على الإعادة.

فإن قيل: إن معنى (لكم) الانتفاع، أي: لتنتفعوا بجميع ذلك، قلنا: المراد بالانتفاع الاعتبار كما ذكرنا. فإن قيل: وأي اعتبار في العقارب والحيات؟ قلنا: قد يتذكر الإنسان ببعض ما يرى من المؤذيات ما أعد الله للكفار في النار من العقوبات فيكون سببًا للإيمان وترك المعاصي. وذلك أعظم الاعتبار. قال ابن العربي: وليس في الإخبار بهذه القدرة عن هذه الجملة ما يقتضي حظرًا ولا إباحة ولا وقفًا، وإنما جاء ذكر هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه ليستدل به على وحدانيته.

وقال أرباب المعاني في قوله: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} لتتقووا به على طاعته لا لتصرفوه في وجوه معصيته. وقال أبو عثمان: وهب لك الكل وسخره لك لتستدل به على سعة جوده وتسكن إلى ما ضمن لك من جزيل عطائه في المعاد، ولا تستكثر كثير بره على قليل عملك، فقد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وهو التوحيد".

وقال ابن حيان الأندلسى في "البحر المحيط"(1) بعد أن أورد الآية:

"مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، وهو أنه لما ذكر أن من كان منشئا لكم بعد العدم ومفنيًا لكم بعد الوجود وموجدًا لكم ثانية، إما في جنة وإما إلى نار، كان جديرًا أن يعبد ولا يجحد ويشكر ولا يكفر. ثم أخذ يذكرهم عظيم إحسانه وجزيل امتنانه، من خلق جميع ما في الأرض لهم، وعظيم قدرته وتصرفه في العالم العلوي وإن العالم العلوي والعالم السفلي بالنسبة إلى قدرته على السواء وأنه عليم بكل شيء".

ثم قال:

(لكم) متعلق بـ (خلق) واللام فيه للسبب، أي: لأجلكم ولانتفاعكم. وقدر بعضهم لاعتباركم، وقيل: للتمليك والإباحة، فيكون التمليك خاصا، وهو تمليك ما ينتفع الخلق به، وتدعو الضرورة إليه.

وقيل: الاختصاص هو أعم من التمليك.

(1) ج: 1. ص: 132 و133.

ص: 895

والأحسن حملها على السبب ، فيكون مفعولًا من أجله، لأنه بما في الأرض يحصل الانتفاع الديني والدنيوي. فالديني النظر فيه وفيما فيه من عجائب الصنع ولطائف الخلق الدالة على قدرة الصانع وحكمته، ومن التذكير بالآخرة والجزاء. وأما الدنيوي فظاهر ، وهو ما فيه من المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمركب والمناظر البهية وغير ذلك. وقد استدل بقوله:(خلق لكم) من ذهب إلى أن الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة ، فلكل أحد أن ينتفع بها وإن احتمل أن يكون اللام لغير التمليك والإباحة لم يكن في ذلك دليل على ما ذهبوا إليه. وقد ذهب قوم إلى أن الأشياء قبل ورود الشرع على الحظر فلا يقدم على شيء إلا بإذن. وذهب قوم إلى أن الوقف لما تعارض عندهم دليل القائلين بالإباحة ودليل القائلين بالحظر قالوا بالوقف" (1)

ثم قال:

"وإذا جعلنا اللام للسبب، فليس المعنى أن الله فعل شيئًا للسبب، لكنه لما فعل ما لو فعله غيره لفعله لسبب، أطلق عليه لفظ السبب. واندرج تحت قوله: {مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} ما كانت الأرض مستقرا له من الحيوان والنبات والمعدن والجبال، وجميع ما كان بواسطة من الحرف والأمور. المستنبطة".

وقال محمد الطاهر بن عاشور في "التحرير والتنوير"(2)

"

والمقصود من الكلام فيما أراه موافقًا للبلاغة. التذكير بأن الله هو خالق الأرض وما عليها وما في داخلها، وأن ذلك كله خلقه بقدر انتفاعنا بها بما فيها في مختلف الأزمان والأحوال فأوجز الكلام إيجازًا بديعًا بإقحام قوله:(لكم) ، فأغنى عن جملة كاملة، فالكلام مسوق مساق إظهار عظيم القدرة وإظهار عظيم المنة على البشر وإظهار عظيم منزلة الإنسان عند الله تعالى. وكل أولئك يقتضي اقتلاع الكفر من نفوسهم. وفي هذه الآية فائدتان"

الأولى: أن لام التعليل دلت على أن خلق ما في الأرض كان لأجل الناس، وفي هذا تعليل للخلق، وبيان لثمرته وفائدته".

(1) هذه الجملة غير واضحة.

(2)

ج: 1. ص: 379 و380 و382.

ص: 896

وبعد أن أورد مقولات المتكلمين حول تعليل أفعال الله تعالى وناقشها مناقشة بديعة نأسف أن ليس هذا مجالها قال رحمه الله:

"هذا وقد نقل أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات عن جمهور الفقهاء والمتكلمين أن أحكام الله تعالى معللة بالمصالح ودرء المفاسد. وقد جمع الأقوال الشيخ ابن عرفة في تفسيره فقال: هذا هو تعليل أفعال الله تعالى وفيه خلاف، وأما أحكامه فمعللة.

الفائدة الثانية: أخذوا من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} أن أصل استعمال الأشياء فيما يراد له من أنواع الاستعمال هو الإباحة حتى يدل دليل على عدمها، لأنه جعل ما في الأرض مخلوقًا لأجلنا، وامتن بذلك علينا. وبذلك قال الإمام الرازي والبيضاوي وصاحب الكشاف ونسب إلى المعتزلة وجماعة من الشافعية والحنفية منهم الكرخي ونسب إلى الشافعي. وذهب المالكية وجمهور الحنفية والمعتزلة - في نقل ابن عرفة - إلى أن الأصل في الأشياء الوقف ولم يروا الآية دليلًا. قال ابن العربي في أحكامه: إنما ذكر الله تعالى هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه على طريق العلم والقدرة وعلى تصريف المخلوقات بمقتفى التقدير والإتقان بالعمل

إلخ.

والحق أن الآية مجملة، قصد منها التنبيه على قدرة الخالق بخلق ما في الأرض أنه خلق لأجلنا، إلا أن خلقه لأجلنا لا يستلزم إباحة استعماله في كل ما يقصد منه، بل خلق لنا فيه الجملة. على أن الامتنان يصدق إذا كان لكل من الناس بعض مما في العالم، بمعنى أن الآية ذكرت أن المجموع للمجموع ، لا كل واحد لكل واحد، كما أشار إليه البيضاوي، لا سيما وقد خاطب الله بها قومًا كافرين منكرًا عليهم كفرهم، فكيف يعلمون إباحة أو منعا؟ وإنما محل الموعظة هو ما خلقه الله من الأشياء التي لم يزل الناس ينتفعون بها من وجوه متعددة. وذهب جماعة إلى أن أصل الأشياء الحظر، ونقل عن بعض أهل الحديث وبعض المعتزلة، فللمعتزلة الأقوال الثلاثة كما قال القرطبي. قال الحموي في شرح كتاب الأشباه لابن نجيم نقلًا عن الإمام الرازي رحمه الله: وإنما تظهر ثمرة المسألة في حكم الأشياء أيام الفترة قبل النبوة، أي فيما ارتكبه الناس من تناول الشهوات ونحوها. ولذلك كان الأصح أن الأمر موقوف وأنه لا وصف للأشياء يترتب من أجله عليها الثواب والعقاب.

ص: 897

وعندي: أن هذا لا يحتاج العلماء إلى فرضه، لأن أهل الفترة لا شرع لهم، وليس لأفعالهم أحكام إلا في وجوب التوحيد عند قوم. وأما بعد ورود الشرع، فقد أغنى الشرع عن ذلك. فإن وجد فعل لم يدل عليه دليل من نص أو قياس أو استدلال صحيح، فالصحيح أن أصل المضار التحريم والمنافع الحل، وهذا الذي اختاره الإمام في المحصول، فتصير للمسألة ثمرة باعتبار هذا النوع من الحوادث في الإسلام".

وجلي من هذه النقول - وهي الخلاصة الشاملة لآراء أئمة التفسير والتأويل من قدماء ومحدثين - أن الجمهرة تذهب إلى القول بأن اللام في قوله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}

للاختصاص وليست لأي معنى غيره إلا ما ذهب إليه القلة من اعتبارها سببية أو للتمليك أو للاستحقاق.

وقد يكون من تمام الفائدة أن ننقل رأي النحاة أو ما يشبه أن يكون رأيًا لهم في الفرق بين لام الاختصاص ولام الاستحقاق ولام التمليك ولام شبه التمليك ولام التعليل.

يقول ابن هشام رحمه الله في "المغني"(1)

"واللام الجارة اثنان وعشرون معنى:

أحدها الاستحقاق، وهي الواقعة بين معنى وذات، نحو "الحمد لله" و"العزة لله"

و"الملك لله" و"الأمر لله" و"نحو {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} (2) و {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} (3) و"منه للكافرين النار" أي: عذابها.

والثاني: الاختصاص نحو الجنة للمؤمنين، وهذا الحصير للمسجد، والمنبر للخطيب، والسرج للدابة، والقميص للعبد، ونحو {إِنَّ لَهُ أَبًا} (4) {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} (5) وقولك: هذا الشعر لحبيب، وقولك: أدوم لك ما تدوم لي.

والثالث. الملك، نحو:{لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} (6) ووردت في غيرها أيضًا.

(1) ص: 275.

(2)

الآية رقم: (1) من سورة المطففين.

(3)

الآية رقم: (41) من سورة المائدة.

(4)

الآية رقم: (78) من سورة يوسف.

(5)

الآية رقم: (11) من سورة النساء.

(6)

الآية رقم: (255) من سورة البقرة.

ص: 898

وبعضهم يستغني بذكر الاختصاص عن ذكر المعنيين الآخرين ويمثل بالأمثلة المذكورة ونحوها، ويرجحه أن فيه تقليلًا للاشتراك، وأنه إذا قيل "هذا المال لزيد والمسجد" لزم القول بأنها الاختصاص مع كون زيد قابلًا للملك، لئلا يلزم استعمال المشترك في معنييه دفعة، وأكثرهم يمنعه.

الرابع: التمليك، نحو "وهبت لزيد دينارًا ".

الخامس: شبه التمليك، نحو {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} (1)

السادس: التعليل، كقوله:"ويوم عقرت للعذارى مطيتي"(2)

ثم مضى يورد شواهد أخرى لهذا المعنى، ثم يتابع المعاني الأخرى للام الجارة، وهو مما ليس من شأننا في هذا المجال.

ومن هذا الذي ساقه ابن هشام من الفروق بين معاني ودلالات اللام الجارة، يترجح لدينا القول بأن اللام للاختصاص في الآية الكريمة التي نحن بسبيل استجلاء الحكم منها، وحتى لو كانت للملك - وما من أحد قال: إنها للتمليك فيما

نعلم - فإن الملك الذي تعنيه جماعيا وليس فرديا ، ذلك بأنهم أجمعوا أو كادوا يجمعون على أن "الاختصاص" أو "التمليك" الذي تعنيه في الآية لا يتجه بالأساس إلى الفرد وإن وجهه بعضهم ، ومال الرازي رحمه الله إليه بالتبعية.

ونعيد هنا فقرة سبق أن نقلناها عنه للتذكير واستجلاء المعنى. قال رحمه الله:

"المسألة الثانية: احتج أهل الإباحة بقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} على أنه تعالى خلق الكل للكل ، فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلًا وهو ضعيف لأنه تعالى قابل الكل بالكل، فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد والتعيين يستفاد من دليل منفصل، والفقهاء رحمهم الله استدلوا به على أنه الأصل في المنافع الإباحة".

(1) الآية رقم: (1) من سورة الشورى.

(2)

البيت لامرئ القيس من معلقته المشهورة وتمامه: "فيا عجبا عن رحلها المتحمل".

ص: 899

وقد سبق أن لفتنا في معرض نقلناه عن الطبري رحمه الله ما شرح به الآية الكريمة إلى قوله:

"فأخبرهم جل ذكره أنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا لأن الأرض وجميع ما فيها لبني آدم منافع. تأمل جيدًا كلمة "منافع".

وقلنا تعقيبًا على هذا: تأمل جيدًا كلمة "منافع" ، إذ هي صريحة من عبارته كما أن ما يشاكلها من عبارات غيره ممن اعتمدناهم ونقلنا عنهم من أئمة التفسير آراءهم ورواياتهم في تأويل هذه الآية الكريمة صريح في أن علاقة الإنسان بالأرض طبقا لما تعينه الآية الكريمة وتحدده تتكيف بكونها "تسويغ الانتفاع" أو "تسويغ المنفعة"، وهذا ما سنبينه ونبين الفرق فيه بين "تسويغ الانتفاع" وبين "تسويغ المنفعة" في محله من هذا البحث. لكننا الآن نود أن نقف هونا عند رأي الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله إذ إنه يختلف بعض الاختلاف عن رأينا في تحديد معنى "اللام " من (لكم) فهو يراها للتعليل، ولكن ما يبدو بين الموقفين من تغاير لا يعدو أن يكون لفظيا أو بلاغيا صرفًا لا يترتب عنه حكم إلا بانتحال متكلف غير صائغ. وآية ذلك أنه رحمه الله يخلص إلى القول بأن من علة خلق الأرض جعلها لمنفعة الإنسان في مجموعه وأفراده فهو يقول: "والحق أن الآية مجملة قصد منها التنبيه على الخالق بخلق ما في الأرض أنه خلق لأجلنا، إلا أن خلقه لأجلنا لا يستلزم إباحة استعماله في كل ما يقصد منه، بل خلق لنا في الجملة على أن الامتنان يصدق إذا كان لكل من الناس بعض مما في العالم لمعنى أن الآية ذكرت أن المجموع للمجموع، لا كل واحد لكل واحد، كما أشار إليه البيضاوي، لا سيما وقد خاطب الله بها قوما كافرين منكرًا عليهم كفرهم، فكيف يعلمون إباحة أو منعا؟

ومع أنه يستنبط من الآية "تسويغ الانتفاع" أو تسويغ المنفعة للأفراد، كما هو للمجموع على مستوى متماثل حسب ما هو ظاهر عبارته - وإن كنا ننكر أشد الإنكار التوقف عند تحليل عبارات البشر غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجتهدي الصحابة لولا أننا بصدد تحديد مذاهب من يعتمد اجتهاده من المفسرين - وذلك ما قد لا نختلف معه في ما يؤدي إليه من نتائج وإن لم نوافقه في التسوية بين دلالة الآية على حقوق المجموع ودلالتها على حقوق الأفراد. فإننا نجده غير مختلف مع جمهرة أئمة التأويل في أن المنفعة أو الانتفاع هو ما تعنيه - أو بعض ما تعنيه - الآية الكريمة وتدل عليه اللام في (لكم) سواء كانت "للاختصاص" أو "للتعليل" أو حتى "للملك" أو "للتمليك" كما قد يقول بعض النحاة.

ص: 900

والذي نستخلصه مما نقلناه عن أئمة التأويل، ونشعر أنه الحق أن الآية الكريمة نص صريح على أن علاقة الإنسان بالأرض تنحصر فيما يتصل بما خول الله له من انتفاع أو منفعة، مما فيها ولا تتجاوزه طبقًا لما تتضمنه الآية الكريمة من دلالات إلى ملكية "الرقبة " وعلى من يدعي ملكية الإنسان مجموعة أو أفرادًا للأرض ملكية رقبة أن يستظهر بدليل أو أدلة غير هذه الآية، وسنقف عند ما قد يستظهرون به حين يعرض لنا شيء منه خلال مسارنا هذا.

لكن قبل ذلك نقف مع ابن تيمية (1) في رأي له لا يتصل في جوهره بعلاقة الإنسان بالأرض وبالأشياء من حيث تكييفها الشرعي، وإنما يتصل بها من حيث الممارسة والملابسة وهذا الجانب منها ليس من شأننا في هذا المجال، بيد أن ابن تيمية رحمه الله ألمح عرضًا إلى ما نحن بسبيله. ذلك بأنه خلال ما ساق من الأدلة لتأكيد قاعدته التي بنى عليها حكمه في طهارة أو نجاسة "مني الإنسان وغيره من الدواب الطاهرة وفي أرواث البهائم المباحة " وقد ساق في ذلك عشرة أدلة قال:

"الصنف الأول الكتاب، وهو عدة آيات، الآية الأولى قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} والخطاب لجميع الناس لافتتاح الكلام بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ} ووجه الدلالة أنه خلق جميع ما في الأرض للناس مضافًا إليه باللام، واللام حرف الإضافة، وهي توجب اختصاص المضاف بالمضاف إليه، واستحقاقه إياه على الوجه الذي يصلح له. وهذا المعنى يعم موارد استعمالها. لقولهم: المال لزيد، والسرج للدابة، وما أشبه ذلك. فيجب إذن أن يكون الناس مملكين ممكنين لجميع ما في الأرض، فضلًا من الله ونعمة. وخص من ذلك بعض الأشياء وهي الخبائث، لما فيها من الإفساد لهم في معاشهم، أو معادهم، فيبقى الباقي مباحًا بموجب الآية".

(1) مجموع الفتاوى ج:21. ص: 535 و536.

ص: 901

وجلي من كلام ابن تيمية أنه مع القائلين أن في الأصل الإباحة ما لم يقم دليل على غيرها، بيد أنه يعتبر إباحتها للمجموع بدليل استدلاله بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ} . ثم قوله في ثنايا كلامه:

"فيجب أن يكون الناس مملكين ممكنين لجميع ما في الأرض". إذ إن تعبيره بكلمة "الناس" بعد استدلاله بالآية الكريمة المذكورة آنفًا والنداء فيها موجه إلى (الناس) لا يمكن صرفه إلى "الجميع" بمعنى إلى الأفراد منفصلين إلا بقرينة.

وبدونها لا ينصرف إلا إلى "المجموع" باعتباره كيانًا له وجود معنوي متميز.

على أن ابن تيمية جمع بين معنيي الاختصاص والاستحقاق للام في (لكم) ، وهو ما قد يلبس على بعض الناس مراده، لا سيما وقد جاء في كلامه بعد ذلك لفظ "مملكين" فيحسبه صرفًا لمدلول الاختصاص عن عمومه إلى خصوص الدلالة على الملكية وهذا رأي ابن تيمية، ولكنه ليس صريحًا من عبارته هذه. فإن يكن هو رأيه فليس في عبارته ما يصرف "الملكية" التي يعنيها إلى الفرد وإنما هي مصروفة بالأصالة إلى "المجموع " ما لم تقم قرينة على غير ذلك.

وقبل أن نفارق ابن تيمية ننتقل معه إلى دليل آخر استدل به البعض على دعوى ملكية الإنسان للأرض ملكية رقبة.

قال وهو يواصل الاستدلال لموضوعه المذكور آنفًا:

"الآية الثالثة قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} (1)

وإذا كان ما في الأرض مسخرًا لنا جاز استمتاعنا به".

تأمل جيدًا قوله: "جاز استمتاعنا به ، إذ اقتصر على كلمة "الاستمتاع" بدل كلمة "الملك" أو "الملكية" أو ما يدل عليهما مثل "الاستئثار" أو "الاستحواذ".

(1) الجاثية 13.

ص: 902

وقد يقال: إن "الملك" وما في معناه من مشتقاته يدخل في مدلول "الاستمتاع" وهذا صحيح، بيد أن "الاستمتاع" لا ينصرف إلى بعض مدلولاته دون بعض إلا بقرينة، وإذا لم توجد القرينة يظل "عاما" في انتظار ما يخصصه و"مطلقًا" في انتظار ما يقيده إذا أريد له "التخصيص" أو "التقييد". وجميع القرائن تدل على أنه غير مخصص ولا مقيد إلا بما جاء الشرع بإيجابه أو الندب إليه أو تحريمه أو كراهته. وسنتبين أثناء مسارنا هذا ما إذا كان الشرع قد جاء بحكم من هذه الأحكام فيما يتصل بالملك.

ونواصل وقفتنا عند قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} [الجاثية: 13] . وأجمع ما وقفنا عليه وأدقه في تفسير هذه الآية عند أئمة التأويل ما قاله محمد الطاهر ابن عاشور (1) من أن: " {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} عام مخصوص بما تحصل للناس فائدة من وجوده: كالشمس للضياء، والمطر للشراب، أو من بعض أحواله: الكواكب للاهتداء بها في ظلمات البر والبحر، والشجر للاستظلال، والأنعام للركوب والحرث ونحو ذلك. وأما ما في السماوات والأرض مما لا يفيد الناس فغير مراد، مثل الملائكة في السماء والأهوية المنحبسة في باطن الأرض التي يأتي منها الزلزال"(2)

قلت: وهذه الآية دليل حاسم داحض لكل دعوى مخالفة على أن اللام للاختصاص في قوله: (لكم) ، ذلك بأن الآية السابقة لها (3) وبدونها لا يستقيم معنى الآيتين جاء فيها {اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . وما من أحد يستطيع أن يزعم بأن لام (لكم) في هذه الآية تعني الملك أو ما يشتق منه. لأن هذا الزعم يقتضي بالضرورة أن الإنسان يملك البحر وأنه أيضًا يملك السماء وما فيها أو {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} على الأقل. وما من أحد يستطيع أن يدعي ملكية الإنسان للبحر أو للملائكة ولا حتى للطير وهي تطير في طبقات من الهواء تعتبر جغرافيا من طبقات الكوكب الأرضي لأنها خاضعة لجاذبيته، بل إن الخلاف حاد شهير في جواز بيع السمك في البحر قبل أن يكون واقعا في شبكة الصائد بالرغم من أن بيعًا من هذا القبيل إنما يعني في حقيقته "التزام" من البائع للمشتري بتقديم نوع معين من السمك في وقت محدد وهو التزام يقوم على أغلب شروط العقد الصحيح كما يعينها الشرع والقانون، ومدار هذا الاختلاف، هو أن اعتبار ما في البحر ليس ملكًا للإنسان وأن الالتزام الذي يقوم عليه بيع السمك قبل اصطياده يعتمد على تصرف الملتزم في شيء لم يكن قد دخل في ملكه فأصبح قادرًا فعلًا على التصرف فيه.

(1) التحرير والتنوير. ج: 25. ص: 337.

(2)

وانظر أيضًا تفسير الطبري. المجلد: 9. ج: 25. ص: 87. وتفسير الرازي. المجلد: 14. ج: 27. ص: 263. وتفسير ابن كثير. ج: 4. ص:148. والدر المنثور.

(3)

الجاثية: 12.

ص: 903

وإذا كان هذا موقفهم مما يسر الله للإنسان استخراجه من البحر وهو الموقف الذي يرتضيه العقل ويطمئن إليه العدل، فكيف يكون الموقف من دعوى ملكية الأرض ملكية رقبة في حين أن الأرض ليست في حجمها وفي محتواها شيئًا يمكن للإنسان فردًا أو مجموعًا أن يحوزه حيازة كاملة وأن ينتفع به كله وبكل ما فيه انتفاعًا كاملا؟

وما قيل في هذه الآية عن دلالة اللام في (لكم) يقال في غيرها مثل قوله سبحانه وتعالى في سورة إبراهيم: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (1) وما من أحد يستطيع أن يدعي أن الإنسان يملك الأنهار أو يملك الليل والنهار وإن ملكية "انتفاع" أو "منفعة " ، وقصارى ما يمكن استجلاؤه من هاتين الآيتين الكريمتين ومن آيتي سورة الجاثية السابقتين إباحة الانتفاع للإنسان بما يستطيع الانتفاع به من هذه المخلوقات إباحة امتنان من الله سبحانه وتعالى على عباده ودلالته على عظيم قدرته وجليل نعمته. وقد تكون هذه الآيات الأربع صالحة للاستدلال على أن الأصل في الأشياء الإباحة إذا أخذت على ظاهرها، بيد أننا نرى أنها صالحة للاستدلال على أن الله أباح الانتفاع بما في الأرض والبحر والسماوات والأنهار وما شاكلها مما يستطيع الإنسان الانتفاع به من مخلوقاته انتفاعًا لا يخرج عن دائرة الشرع، ودلالة هذه الآيات على الإباحة تقتضي أن المخلوقات قبل إباحة الانتفاع بها للإنسان كانت غير منضبط التصرف فيها بحكم شرعي فهي على الوقوف حتى جاء الشرع الكريم فبين إباحة ما أبيح وعين ما خرج من نطاق الإباحة إلى حكم آخر من أحكامه من الانتفاع بتلك المخلوقات.

10 -

التكييف السني لعلاقة الإنسان بالأرض

وإذا انتقلنا إلى السنة النبوية ابتغاء ما ورد فيها قولًا وفعلًا من بيان للتكييف الشرعي للعلاقة بين الإنسان والأرض، ثم للعلاقة بينه وبين ما يحصل ويكتسبه من منافع مما في الأرض كان أبرز ما يجب الوقوف عنده واستلهامه من النصوص السنية حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض عامة وفي المزارعة والمساقاة خاصة، وفي هذا الشأن وردت نصوص قولية وفعلية اضطرب في تأويل بعضها فقهاء الحديث قبل فقهاء الرأي وخاصة أتباع المذاهب من مجتهدين ومقلدين، لذلك نؤثر أن نقف عند كل حديث من الأحاديث الواردة في الاستدلال في هذا المجال ، فنستقصي روايته ونتقصى رواته ونجتلي ظروفه وظروف رواته ورواياته لنستبين إن كان فيه اضطراب أو بين نصوصه تعارض، كما يذهب جمهور فقهاء الحديث وفقهاء الرأي، ونستعين في استجلاء ذلك بما ورد من آثار كبار الصحابة وفقهائهم من اجتهادات وتصرفات مما يتصل بموضوع هذه الأحاديث مباشرة أو بالاستنباط.

(1) الآيتان رقم: (32) و (33) .

ص: 904

وأول حديث نقف عنده حديث رافع بن خديج:

روى مالك، والشافعي، وأحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، والدارقطني، وابن حبان، بألفاظ متقاربة وأسانيد مختلفة وبعضهم بأكثر من سند واحد عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن حنظلة بن قيس الزرقي

حديث رافع بن خديج. ونورد رواياتهم متوالية فيما يلى:

روى مالك (1)

"عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن حنظلة بن قيس الزرقي عن رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع.

قال حنظلة: فسألت رافع بن خديج: بالذهب والورق؟ قال: أما الذهب والورق فلا بأس".

وقال الشافعي (2)

"أخبرنا مالك ، عن ربيعة بن عبد الرحمن - خطأ صوابه بن أبي عبد الرحمن - ، عن حنظلة بن قيس ، أنه سأل رافع بن خديج عن كراء الأرض فقال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض ، فقال: أبالذهب والورق؟

فقال: أما بالذهب والورق ، فلا بأس به)) .

(1) الموطأ. ص:602.

(2)

ترتيب مسند الشافعي. ج: 2. ص: 136. ج: 448.

ص: 905

وقال أحمد في مسنده (1)

"حدثنا يحيى بن سعيد ، عن مالك بن أنس ، قال: حدثني ربيعة ، عن حنظلة بن قيس ، عن رافع بن خديج قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع. قال: قلت: بالذهب والفضة؟ قال: لا ، إنما نهى عنه ببعض ما يخرج

منها ، أما بالذهب والفضة فلا بأس به)) . وحدثنا أحمد أيضا ورواه ابن حبان في صحيحه (2)

"حدثنا قتيبة بن سعيد ، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن حنظلة الزرقي ، عن رافع بن خديج ((أن الناس كانوا يكرون المزارع في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالماذيانات (3) وما سقى الربيع (4) وشيء من التبن فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم كراء المزارع بهذا ونهى عنها)) وقال رافع: ولا بأس بكراء بالدراهم والدنانير.

(1) الفتح الرباني. ج:15. ص:119. ج: 381 و384.

(2)

الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 315. ح: 5173 و5174.

(3)

قال النووي (شرح صحيح مسلم. ج:10. ص:192) : أما الماذيانات فبذال معجمة مكسورة ثم ياء مثناة تحت ، ثم ألف ، ثم نون ، ثم ألف ، ثم مثناة فوق. هذا هو المشهور وحكم القاضي عن بعض الرواة فتح الذال في غير صحيح مسلم وهي مساييل المياه وقيل على ما ينبت على حافتي مسيل الماء ، وقيل: ما ينبت حول السواقي وهي لفظة معربة ليست عربية.

(4)

وقال النووي (شرح صحيح مسلم. ج:10. ص: 192) : وأما الربيع فهو الساقية الصغيرة وجمعه أربعاء كنبي وأنبياء وربعان كصبي وصبيان.

ص: 906

وحدثنا يونس قال: حدثنا ليث ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن حنظلة بن قيس ، عن رافع بن خديج أنه قال: حدثني عمي اتخذ بعضهم من اختلاف الروايات عن رافع وهو يتحدث عن عمه أو عن عميه سببًا لدعوى الاضطراب

في حديث رافع والغمز في الاحتجاج به وهي دعوى غير سليمة ولا وجيهة ذلك بأن رافعًا لم يحدث بهذا الحديث مرة ولم يروه عنه راو واحد وإنما حدث به حديثًا أكثر من مرة وصدع به فتوى ويظهر أنه اتخذ منه قضية تولى الدعوة إليها وسيأتي بيان ذلك. ونتيجة لهذا الوضع كان رافع يحدث أحيانًا عن عمه ظهير وأحيانًا عن عميه ، وظاهر أنه ظهير ومظهر (انظر ترجمتها في التعليق رقم: 1ص 1234 والراجح عندنا، بل الذي نكاد نجزم به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه كرر النهي لآل خديج ، فتارة كان يشهد ظهير وحده، وتارة كان يشهد ظهير ومعه أخوه مظهر وربما غيره من ذويه ، فقد جاء ذكر خال رافع في بعض الروايات عنه وأن تكرار نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم آل خديج عن كراء الأرض كان لأنهم اتخذوا منه وسيلة من وسائل الكسب الذي يستغلون فيه جهود الآخرين وكان ذلك شائعًا بينهم فتكرر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم نهيا زاجرا ملحا تتبع التصرفات الفردية والجماعية ، يشهد هذا الذي تذهب إليه اختلاف الروايات عن رافع عمن نقل إليه النهي ثم ما حدث لرافع نفسه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مما هو مبين بالأسانيد في الأحاديث المتوالية التي سقناها مدونات السنة وبمختلف أسانيدها في ثنايا هذا الفصل. ((أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ينبت على الأربعاء (1) وشيء من الزرع يستثنيه صاحب الزرع، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقلت لرافع: كيف كراؤها؟ بالدينار والدرهم؟ فقال رافع: ليس بها بأس، بالدينار والدرهم)) .

قال البخاري في صحيحه (2)

"حدثنا عمرو بن خالد وحدثنا الليث عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن حنظلة بن قيس عن رافع بن خديج قال: حدثني عماي: ((أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بما ينبت على الأربعاء (3) أو بشيء يستثنيه صاحب الأرض، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقلت لرافع: فكيف هي بالدينار والدرهم؟ فقال رافع: ليس بها بأس بالدينار والدرهم)) .

(1) راجع هامش (1) أعلاه.

(2)

ج: 3. ص: 73.

(3)

راجع هامش ص (116) .

ص: 907

وقال مسلم في صحيحه (1)

"حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن حنظلة بن قيس قال: إنه سأل رافع بن خديج عن كراء الأرض فقال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض ، قال: فقلت: أبالذهب والورق؟ فقال: أما بالذهب والورق فلا بأس به)) .

حدثنا إسحاق. أخبرنا عيسى بن يونس. حدثنا الأوزاعي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن. حدثني حنظلة بن قيس الأنصاري قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق. فقال: ((لا بأس إنما كان الناس يؤاجرون

على عهد النبي صلى الله عليه وسلم على الماذيانات وأقبال الجداول (2) وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، فلم يكن للناس كراء إلا هذا فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به)) .

قال أبو داود في سننه (3)

"حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي. أخبرنا عيسى. حدثنا الأوزاعي.

وحدثنا قتيبة بن سعيد. حدثنا ليث.

كلاهما عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن واللفظ للأوزاعي. حدثنا حنظلة بن قيس الأنصاري قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق. فقال: لا بأس بها ((إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع ، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا. ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء مضمون معلوم فلا بأس به.))

(1) على هامش شرح النووي. ج:10. ص: 205.

(2)

قال النووي (شرح صحيح مسلم. ج:10. ص: 192) : وأما قوله: أقبال بفتح الهمزة أي: أوائلها ورؤوسها ، والجداول جمع جدول هو النهر الصغير.

(3)

ج: 3. ص: 258. ح: 3392 و3393) .

ص: 908

وتعقبه أبو داود بقوله: وحديث إبراهيم أتم.

وقال قتيبة عن حنظلة عن رافع: قال أبو داود: ورواية يحيى بن سعيد عن حنظلة نحوه.

وحدثنا قتيبة بن سعيد ، عن مالك ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن حنظلة بن قيس ، أنه سأل رافع بن خديج عن كراء الأرض ، فقال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض ، فقلت: بالذهب والورق؟ فقال: أما بالذهب والورق فلا بأس به)) .

وقال النسائي في سننه (1)

"أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك ، قال: حدثنا حجين بن المثنى ، قال: حدثنا الليث ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن حنظلة بن قيس ، عن رافع بن خديج ، قال: حدثني عمي ((أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ينبت على الأربعاء وشيء من الزرع يستثني صاحب الأرض، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فقلت لرافع: فكيف كراؤها، بالدينار والدرهم؟ فقال رافع: ليس بها بأس بالدينار والدرهم)) . أخبرني المغيرة بن عبد الرحمن ، قال: حدثنا عمى - هو ابن يونس - قال: حدثنا الأوزاعي ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن حنظلة بن قيس ، قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالدينار والورق، فقال:((لا بأس بذلك، إنما كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤاجرون على الماذيانات وأقبال الجداول، فيسلم هذا ويهلك هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، فلم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به.))

وأخبرنا عمرو بن علي ، قال: حدثنا يحيى ، قال: حدثنا مالك ، عن ربيعة ، عن حنظلة بن قيس ، قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض، فقال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض، فقلت: بالذهب والورق؟ قال: لا، إنما نهى عنها بما يخرج منها، فأما الذهب والفضة فلا بأس)) .

وقال الدارقطني في سننه (2)

"حدثنا الحسين بن إسماعيل. حدثنا أحمد بن إسماعيل المدني. حدثنا مالك ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن حنظلة بن قيس الزرقي ، أنه سأل رافع بن خديج عن كراء الأرض ، فقال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض، فقال له: أبالذهب والورق؟ قال: أما الذهب والورق فلا بأس به)) .

(1) ج: 7. ص: 42.

(2)

ج: 3. ص: 36. ح: 146.

ص: 909

وقال ابن حبان (1)

"أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ، قال: حدثنا الوليد ، قال: حدثنا الأوزاعي ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن حنظلة بن قيس الزرقي ، عن رافع بن خديج قال:((كنا نكري الأرض فيستثني صاحب الأرض ما على الماذيانات وأقبال الجداول، فيهلك هذا ، ويسلم هذا، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال رافع: أما بشيء مضمون معلوم فلا بأس به.))

وأخبرنا محمد بن الحسن بن خليل ، قال: حدثنا هشام بن عمار ، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد ، قال: حدثنا ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن حنظلة بن قيس ، عن رافع بن خديج قال: ((كانت الأرض تنكري بالماذيانات وشيء من التبن

يستثنى به، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض.

فقال رافع: فأما الذهب والورق فلا بأس به.))

وروى عبد الرازق، والحميدي، والبخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، والطحاوي حديث رافع عن طريق يحيى بن سعيد ، عن حنظلة بن قيس الزرقي بألفاظ وأسانيد نوردها كما يلي:

قال عبد الرزاق في مصنفه (2)

"أخبرنا ابن عيينة ، عن يحيى بن سعيد ، عن حنظلة بن قيس الزرقي ، قال: سمعت رافع بن خديج يقول: كنا أكثر الأنصار حقلًا

(1) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 315. ح: 5173 و5174.

(2)

ج: 8. ص: 93. ح: 1453.

ص: 910

قال ابن الأثير (النهاية ج: 1. ص: 416) : المحاقلة مختلف فيها ، قيل: هي اكتراء الأرض بالحنطة ، هكذا جاء مفسرًا في الحديث ، وهو الذي يسميه الزراعون المحارثة ، وقيل: هي المزارعة على نصيب معلوم كالثلث والربع ونحوهما ، وقيل: هي بيع الطعام في سنبله بالبر ، وقيل: بيع الزرع قبل إدراكه.

ثم قال: وفيه النسيئة ، والمحاقلة مفاعلة من الحقل ، وهي الزرع إذا تشعب قبل أن يغلظ سوقه ، وقيل: هي من الحقل ، وهي الأرض التي تزرع ويسميه أهل العراق القراح. ومنه حديث: كانت فيا امرأة تحقل على أربعاء لها سلقا. هكذا رواه بعض المتأخرين وصوابه: أي تزرع. والرواية: تزرع وتجعل. وقال ابن منظور (لسان العرب. ج:10. ص: 160) : الحقل قراح طيب ، وقيل: قراح طيب يزرع فيه ، وحكى بعضهم الحقلة، أبو عمرو: الحقل الموضع الجادس وهو الموضع البكر الذي لم يزرع فيه قط. وقال أبو عبيد: الحقل القراح من الأرض ومن أمثالهم: لا ينبت البقلة إلا الحقلة ، وليست الحقلة بمعروفة. ثم قال: وهو يضرب مثلًا للكلمة الخسيسة تخرج من الرجل الخسيس. والحقل: الزرع إذا استجمع خروج نباته ، وقيل: هو إذا ظهر ورقه واخضر ، وقيل: إذا كثر ورقه وقيل: هو الزرع ما دام أخضر ، وقد أحقل الزرع ، وقيل: الحقل الزرع إذا تشعب ورقه من قبل أن تغلظ سوقه ، ويقال منها كلها: أحقل الزرع وأحقلت الأرض. ثم قال: وفي الحديث: ما تصنعون بمحاقلكم. أي: مزارعكم؟ واحدتها محقلة من الحقل الزرع ، كالمبقلة من البقل. ثم نقل حديث ابن الأثير المذكور آنفًا ، ولكن قال فيه:"والرواية تزرع وتحقل" بدل "وتجعل". ثم قال: المحاقلة بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه ، وقيل: بيع الزرع في سنبله بالحنطة ، وقيل: المزارعة على نصيب معلوم بالثلث والربع أو أقل من ذلك أو أكثر وهو مثل المخابرة ، وقيل: المحاقلة اكتراء الأرض بالحنطة ، وهو الذي يسميه الزراعرن: المجاربة. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة وهو بيع الزرع في سنبله بالبر ، مأخوذ من الحقل القراح. وروي عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما المحاقلة؟ قال: المحاقلة بيع الزرع بالقمح ، قال الأزهري: فإن كان مأخوذًا من إحقال الزرع إذا تشعب ، فهو بيع الزرع قبل صلاحه ، وهو غرر ، وإن كان مأخوذًا من الحقل وهو القراح وباع زرعًا في سنبله نابتًا في قراح بالبر ، فهو بيع بر مجهول ببر معلوم ، ويدخله الربى؛ لأنه لا يؤمن التفاضل ، ويدخله الغرر لأنه مغيب في أكمامه ، ويروي أبو العباس عن ابن الأعرابي قال: الحقل بالحقل أن يبيع زرعًا في قراح بزرع في قراح.

فكنا نكري الأرض، فربما أخرجت يرة (1) ولم تخرج مرة فنهينا عن ذلك، وأما بالورق فلم ننه عنه".

(1) يرة: وردت الكلمة في نسخة مطبوعة بالياء المثناة قبل الراء ولم نجد لها تأويلًا ، والظاهر أنها مصحفة صوابها:"برة" بالباء الموحدة قبل الراء ، قال ابن الأثير في (النهاية ج:1. ص: 117) : وفيه أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: إن ناضح آل فلان قد أبر عليهم أي: استصعب وغلبهم من قوله: أبر فلان على أصحابه أي علاهم. وفي حديث زمزم أتاه آت ، وقال: احفر برة، سماها برة لكثرة منافعها وسعة مائها.

ص: 911

قال الحميدي في مسنده (1)

"حدثنا سفيان قال: حدثنا يحيى بن سعيد قال: أخبرني حنظلة بن قيس الزرقي ، أنه سمع رافع بن خديج يقول: كنا أكثر الأنصار حقلًا وكنا نقول للذي نخابره قال ابن الأثير (النهاية: ج: 2. ص: 17) : وفيه أنه نهى عن المخابرة قيل: هي المزارعة على نصيب معين كالثلث والربع وغيرهما. والخبرة: النصيب ، وقيل: هي من الخبار الأرض اللينة ، وقيل: أصل المخابرة من خيبر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرها في أيدي أهلها على النصف من محصولها ، فقيل: خابرهم أي: عاملهم في خيبر. وفيه فدفعنا في خبار من الأرض أي سهلة لينة. وفي حديث طهفة: واستخلب الخبير. الخبير: النبات والعشب شبه بخبير الإبل وهو وبرها واستخلابه: احتشاشه بالمخلب ، وهو المنجل. والخبير يقع عل الوبر والزرع والأكار. وقال ابن منظور في (لسان العرب. ج:4. ص: 228) : والخبر من مواقع الماء ما خبر المسيل في الرؤوس فتخوض فيه. وفي الحديث: فدفعنا في خبار من الأرض أي سهلة لينة، والخبار من الأرض ما لان أو استرخى وكانت فيه جحرة ، والخبار الجراثيم وجحرة الجردان واحدته خبارة. وفي المثل: من تجنب الخبار أمن العثار، والخبار أرض رخوة تتعتع فيه الدواب. ثم قال: ابن الأعرابي: والخبار ما استرخى من الأرض وتحدر ، وقال غيره: وهو ما تهور وساخت فيه القوائم ، وخبرت الأرض خبرًا كثر خبارها ، والخبر أن تزرع على النصف أو الثلث من هذا ، وهي المخابرة واشتقت من خيبر؛ لأنها أول ما اقتطعت كذلك، والمخابرة: المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض وهي الخبر أيضًا بالكسر. وفي الحديث: كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسًا حتى أخبر رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي الحديث: أنه نهى عن المخابرة ، قيل: هي المزارعة على نصيب معين كالثلث والربع وغيرهما ، وقيل: هو من الخبار الأرض اللينة. ثم قال: وقال اللحياني: هي المزارعة تعم بها ، والمخابز أيضًا المؤاكرة ، والخبير الأكار قال:

تجز رؤوس الأوس من كل جانب كجز عقاقير الكروم خبيرها.

رفع خبيرها على تكرير الفعل أراد: جزه خبيرها ، أي: أكارها ، والخبر الزرع. قلت: لا أرى أن المخابرة مشتقة من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض خيبر ، إذ لا حاجة إلى ذلك مع وجود علاقة بين وجود علاقة بين أوصاف للأرض وأوصاف لنباتها وللعمل فيها ولأحوال لها مأخوذة من كلمة خبر ومشتقاتها. فتأمل.

(1) ج:1. ص: 198 ح: 406.

ص: 912

لك هذه القطعة ولنا هذه القطعة يزرعها لنا، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما بورق فلم ينهنا، فقيل لسفيان: فإن مالك يرويه ، عن ربيعة ، عن حنظلة وما كان يرجو أنه إذا كان عند يحيى، ويحيى أحفظهما ، لكنا حفظناه عن يحيى".

قلت: في اللفظ التباس ، لعل صوابه:"ما كان يرجو أنه كان عند يحيى ، ويحيى أحفظهما ، فقال سفيان: ولكنا حفظناه من يحيى".

وقد لاحظ المعلق على مسند الحميدي أن كلمة "يرجوانه" كانت في الأصلين اللذين نقل عنهما من غير نقط.

وقال البخاري في صحيحه (1)

"حدثنا محمد بن مقاتل. أخبرنا عبد الله. أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن حنظلة بن قيس الأنصاري ، سمع رافع بن خديج قال:

((كنا أكثر أهل المدينة مزدرعًا كنا نكري الأرض بالناحية منها مسمى لسيد الأرض. وقال: فمما يصاب ذلك وتسلم الأرض ، ومما يصاب الأرض ويسلم ذلك ، فنهينا، وأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ)) .

حدثنا صدقة بن المغفل. أخبرنا ابن عيينة ، عن يحيى ، سمع حنظلة الزرقي ، عن رافع رضي الله عنه قال:((كنا أكثر أهل المدينة حقلًا ، وكان أحدنا يكري أرضه ، فيقال: هذه القطعة لي ، وهذه لك ، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم) .

قال مسلم في صحيحه (2)

"حدثنا عمرو الناقد. حدثنا سفيان بن عيينة ، عن يحيى بن سعيد ، عن حنظلة الزرقي ، أنه سمع رافع بن خديج يقول:((كنا أكثر الأنصار حقلًا، قال: كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه ، فنهانا عن ذلك ، وأما الورق فلم ينهنا)) .

(1) ج: 3. ص: 68 و69.

(2)

على هامش شرح النووي. ج:10. ص: 205.

ص: 913

حدثنا أبو الربيع ، حدثنا حماد. وحدثنا ابن المثنى. حدثنا يزيد بن هارون. جميعًا عن يحيى بن سعيد بهذا الإسناد نحوه".

قال النسائي في سننه (1)

"روى يحيى بن سعيد عن حنظلة بن قيس ورفعه، كما رواه مالك عن ربيعة. أخبرنا يحيى بن حبيب بن عربي في حديثه ، عن حماد بن زيد ، عن يحيى بن سعيد ، عن حنظلة ، عن رافع بن خديج قال: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء أرضنا ، ولم يكن يومئذ ذهب ولا فضة. فكان الرجل يكري أرضه بما على الربيع والأقبال وأشياء معلومة

وساقه)) .

رواه سالم بن عمر عن رافع بن خديج.

(سنسوقه مع رواية سالم عن ابن عمر ". قال ابن ماجه في سننه (2)

"حدثنا محمد بن الصباح. حدثنا سفيان بن عيينة ، عن يحيى بن سعيد ، عن حنظلة بن قيس قال: سألت رافع بن خديج قال: ((كنا نكري الأرض على أن لك ما أخرجت هذه ، ولي ما أخرجت هذه ، فنهينا أن نكريها بما أخرجت ، ولم ننه أن نكري الأرض بالورق)) .

قال الطحاوي (3)

"حدثنا روح بن الفرج ، قال: حدثنا حماد بن يحيى ، قال: حدثنا سفيان ، قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري ، قال: حدثنا حنظلة بن قيس الزرقي ، أنه سمع رافع بن خديج يقول: ((كنا أكثر أهل المدينة حقلا ، وكنا نقول للذي نخابره: لك

هذه القطعة ، ولنا هذه القطعة تزرعها لنا ، فربما أخرجت هذه القطعة ، ولم تخرج هذه شيئًا، وربما أخرجت هذه ، ولم تخرج هذه شيئا، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأما بالورق فلم ينهنا)) .

(1) ج: 7. ص: 42.

(2)

ج: 2. ص: 281. ح: 2458.

(3)

معاني الآثار. ج: 4. ص: 109.

ص: 914

وروى أحمد والنسائي والطحاوي عن طريق مجاهد حديث رافع بأسانيد مختلفة وألفاظ متقاربة كالآتي:

قال أحمد في مسنده (1)

"حدثنا وكيع ، قال: حدثنا شريك ، عن أبي حصين ، عن مجاهد ، عن رافع بن خديج قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تستأجر الأرض بالدراهم المنقودة أو بالثلث والربع. حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن رافع بن خديج قال:((نهى رسول الله في عن الحقل. قال الحكم: والحقل الثلث والربع)) .

حدثنا عفان ، قال: حدثنا شعبة، قال الحكم: أخبرني مجاهد - أي أن شعبة قال: أخبرني الحكم عن مجاهد - عن رافع بن خديج قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحقل ، قلت: وما الحقل؟ قال: الثلث والربع، فلما سمع ذلك إبراهيم ، كره الثلث والربع ، ولم ير بأسًا بالأرض البيضاء يأخذها بالدراهم)) .

حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا شعبة ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن طاوس وعطاء ومجاهد ، عن رافع بن خديج قال:((خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنهانا عن أمر كان لنا نافعًا ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لنا مما نهانا عنه ، قال: من كانت له أرض فليزرعها أو ليذرها أو ليمنحها)) قال: فذكرت ذلك لطاوس ، وكان يرى أن ابن عباس من أعلمهم ، قال: قال ابن عباس: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له أرض أن يمنحها خير له)) . قال شعبة: وكان عبد الملك يجمع هؤلاء طاوسًا وعطاء ومجاهدًا ، وكان الذي يحدث عنه مجاهد، قال شعبة: كأنه صاحب الحديث".

وقال النسائي في سننه (2)

"أخبرنا علي بن حجر ، قال: أنبأنا عبيد الله - يعني ابن عمرو - عن عبد الكريم ، عن مجاهد قال: أخذت بيد طاوس حتى أدخلته على ابن رافع بن خديج ، فحدثه عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أنه نهى عن كراء الأرض)) ، فأبى طاوس ، فقال: سمعت ابن عباس لا يرى بذلك بأسًا.

(1) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 115 إلى 121. ح: 369 إلى 388.

(2)

ج: 7. ص: 34.

ص: 915

أخبرنا قتيبة ، قال: حدثنا أبو عوانة ، عن أبي حصين ، عن مجاهد قال: قال رافع بن خديج: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرأس والعين، نهانا أن نتقبل الأرض

ببعض خراجها)) ..

أخبرنا أحمد بن سليمان ، عن عبد الله قال: حدثنا إسرائيل ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، عن رافع بن خديج قال: ((مر النبي صلى الله عليه وسلم على أرض رجل من الأنصار قد عرف أنه محتاج ، فقال: لمن هذه الأرض؟ قال:

لفلان أعطانيها بالأجر ، فأتى رافع الأنصار ، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم عن أمر كان لكم نافعًا ، وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفع لكم)) .

أخبرنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار ، قالا: حدثنا محمد ، قال: حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن رافع بن خديج قال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحقل)) .

أخبرنا عمرو بن علي ، عن خالد - وهو ابن الحارث - قال: حدثنا شعبة ، عن عبد الملك ، عن مجاهد قال: حدث رافع بن خديج قال: ((خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنهانا عن أمر كان لنا نافعًا ، فقال: من كانت له أرض فليزرعها أو يمنحها أو يذرها)) .

وأخبرنا عبد الرحمن بن خالد ، قال: حدثنا حجاج ، قال: حدثني شعبة ، عن عبد الملك ، عن عطاء وطاوس ومجاهد ، عن رافع بن خديج قال:((خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنهانا عن أمر كان لنا نافعًا ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لنا ، قال: من كان له أرض فليزرعها أو ليذرها أو ليمنحها)) .

وقال الطحاوي (1)

"حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال: حدثنا أبو عامر ، قال: حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن رافع بن خديج ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحقل)) قال شعبة: فقلت للحكم: وما الحقل؟ قال: أن تكري الأرض.

(1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 105 و110.

ص: 916

قال أبو جعفر: أراه إنما قال: بالثلث والربع.

حدثنا أبو بكرة ، قال: حدثنا يحيى بن حماد ، قال: حدثنا أبو عوانة ، عن سليمان عن مجاهد ، عن رافع بن خديج قال:((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا ، وأمر نبي الله أنفع لنا ، قال: من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها)) .

حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال: حدثنا علي بن معبد ، قال: حدثنا عبد الله بن عمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن مجاهد قال: أخذت بيد طاوس حتى أدخلته على رافع بن خديج ، فحدثه عن أبيه ((عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن كري الأرض)) فأبى طاوس ، وقال: سمعت ابن عباس أنه لا يرى به بأسًا.

وحدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال: حدثنا وهب ، قال: حدثنا شعبة ، عن عبد الملك بن مرزوق ، قال: حدثنا وهب ، قال: حدثنا شعبة ، عن عبد الملك بن ميسرة ، قال: سمعت مجاهدًا ، عن رافع بن خديج قال: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه

وسلم عن أمر كان لنا نافعًا ، وأمرنا بخير منه ، فقال: من كانت له أرض فليزرعها أو يمنحها)) . قال: فذكرت ذلك لطاوس ، فقال: قال ابن عباس: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يمنحها أخاه خير له ، أو يمنحها خيرا)) .

وروى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والطحاوي وابن حبان والطبراني حديث رافع عن طريق مجاهد ، عن ابن رافع عن طريق ابنه أو ابن أخيه بألفاظ وأسانيد مختلفة نوردها فيما يلي:

قال ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف (1)

"حدثنا وكيع ، قال: حدثنا عمرو بن ذر ، عن مجاهد ، عن ابن رافع بن خديج ، عن أبيه قال: جاءنا أبو رافع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان يرفق بنا، وطاعة الله وطاعة رسوله أرفق بنا، أن يزرع أحدنا إلا أرضا يملك رقبتها أو منحة يمنحها من رجل)) .

(1) ج: 6. ص: 347 ح: 1303.

ص: 917

وروى عبد الرزاق في مصنفه (1)

"عن الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أسيد بن ظهير يظهر أن آل خديج - إذا صح التعبير - تداول فيه اسم أسيد إما بالضم وإما بالفتح لبعض وبالضم لغيره فقد اضطرب أصحاب تراجم الرجال وبعض رواة الحديث في ضبط اسم أسيد بالفتح أو بالضم لأوله وفي ضبط نسبته لذلك ارتأينا أن ننقل كلام المعتمدين منهم ممن تيسرت لنا مؤلفاتهم. قال البخاري في (التاريخ الكبير المجلد:2. ص: 11 في باب أسيد بفتح الألف الترجمة: 1528) : أسيد بن رافع الأنصاري المديني روى عنه بكير بن الأشج أن أخا رافع أتى عشيرته – قاله لي أحمد بن عيسى عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث ، قلت: يشير إلى حديث المزارعة. وقال في (ص: 47 نفس المرجع في باب أسيد بضم الألف الترجمة 1641) : أسيد بن ظهير الحارثي الأنصاري مدني له صحبة، ثم أورد حديثًا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال:(الترجمة: 1642) : أسيد بن أخي رافع بن خديج الأنصاري. قال لنا موسى عن عبد الرحمن الزبيدي ، عن مجاهد ، عن أسيد بن رافع بن خديج

الزرع.

وقال منصور: عن مجاهد ، عن أسيد بن ظهير ، عن رافع. وقال خصيف - لم نعثر على تعريف بهذا ولعل فيه خطأ مطبعيا - عن مجاهد ، عن ابن رافع ، عن أبيه وقال أبو حصين: عن مجاهد ، قال رافع بن خديج: وقال لنا عبد الله: حدثني الليث حدثني جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز ، سمع أسيد - بفتح الألف - أو أسيد - بضم الألف - بن رافع بن خديج الأنصاري أنهم منعوا المحاقلة. وقال لي أحمد: حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو. سمع بكير أن أسيد بن رافع حدثه ، أن أخا رافع أتى عشيرته ، فقال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحقل. وقال لي قيس بن حفص: حدثنا خالد بن الحارث، سمع عبد الحميد بن جعفر. سمع أباه عن رافع بن أسيد بن ظهير ، عن أبيه: نهانا النبي صلى الله عليه وسلم. وقال لي محمد: أخبرنا عبد الله ، سمع سعيد بن يزيد ، سمع عيسى بن سهل بن رافع ، سمع رافعًا جده

نحوه. وقال الرازي في (الجرح والتعديل. ج: 2. ص: 310 - في باب تسمية من روي عنه ممن اسمه أسيد - الترجمة: 1164) : أسيد بن ظهير الحارثي الأنصاري له صحبة مدني روى عنه أبو الأبرد مولى بني خطمة سمعت أبي يقول ذلك.

(1) ج: 8. ص: 95. ح: 14463.

ص: 918

ثم قال (الترجمة: 1165) : أسيد بن أخي رافع بن خديج الأنصاري روى عنه مجاهد ، واختلفوا عن مجاهد ، فروى ابن الطباع عن أبي عوانة عن أبي حصين عن مجاهد عن ابن رافع بن خديج عن أبيه ، سمعت أبي يقول ذلك. وقال ابن حبان في (الثقات. ج:3. ص: 7) : أسيد بن ظهير بن رافع بن عدي بن زيد بن جشم مدني حارثة بن الحارث بن الخزرج الأنصاري عم رافع بن خديج كنيته أبو ثابت ، قلت: الظاهر أن في العبارة خطأ من الطابع أو الناسخ صوابه: "ابن عم رافع بن خديج، إلا أن يكون ابن حبان استعمل كلمة: "عم رافع بن خديج" على أنها عطف بيان أو بدل من "ظهير". وآية ذلك أنه قال: عن ظهير في (نفس المرجع. ج: 4. ص: 206) عندما ترجم له "عم رافع بن خديج ". ثم قال (نفس المرجع: ج: 4. ص: 42) : أسيد بن أخي رافع بن خديج يروي عن عمه رافع بن خديج روى عنه مجاهد. وقال المزي في (تهذيب الكمال. ج: 3. ص: 254. الترجمة: 518) : أسيد بن رافع بن خديج الأنصاري أن أخا رافع قال لقومه: لقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء كان لهم رافقًا. الحديث. روى عنه بكير بن عبد الله بن الأشج ولم ينسبه إلى جده وعبد الرحمن بن هرمز. قال الدارقطني: أخرجه البخاري في باب أسيد - بفتح الألف - وفي باب أسيد - بضم الألف - في الموضعين جميعًا ، والصواب أسيد - يعني بالضم - والله أعلم. وروى له النسائي هذا الحديث الواحد. ثم قال (نفس المرجع. ص: 255 الترجمة: 519) : أسيد بن ظهير بن رافع الأنصاري الأوسي أخو عباد بن بشر لأمه وابن عم رافع بن خديج ، وقيل: ابن أخيه ، له ولأبيه صحبة. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم عن رافع بن خديج ، وروى عنه ابنه رافع بن أسيد بن ظهير ، وزياد أبو الأبرد مولى بني خطمة وعكرمة بن خالد ومجاهد بن جبر ، واستصغر يوم أحد ، وشهد الخندق ، ومات في خلافة مروان بن الحكم ، روى عنه الأربعة. وقال ابن حجر في (تهذيب التهذيب: ج:1. ص: 348 و349 ترجمة: 634) : أسيد بن رافع بن خديج أن أخا رافع قال لقومه: نهى النبي صلى الله عليه وسلم القوم عن شيء كان لهم رافقًا. الحديث. وعنه الأعرج وبكير بن الأشج. قال الدارقطني: الصواب فيه: أسيد بالضم وقد ذكره البخاري في الوجهين. قلت - القائل ابن حجر -: وقد ذكر فيه البخاري في التاريخ اختلافًا كثيرًا في حديثه وبكير بن الأشج لم ينسبه إلى جده من طريق مجاهد عن أسيد بن أخي رافع بن خديج ، واختلف على مجاهد فيه أيضًا.

ص: 919

والحديث واحد، وذكر ابن حبان في الثقات في التابعين تبعًا للبخاري: أسيد بن أخي رافع بن خديج وفي أتباع التابعين أسيد بن رافع عن الحجازيين وعنه بكير بن الأشج ، ثم قال (الترجمة: 635) : أسيد بن ظهير بن رافع الأنصاري الأوسي أخو عباد بن بشر لأمه ، قيل: إنه ابن أخي رافع بن خديج وقيل: ابن عمه ولأبيه ظهير صحبة. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن رافع بن خديج وعنه ابنه رافع وزياد أبو الأبرد وعكرمة بن خالد ومجاهد، استصغر يوم أحد وشهد الخندق ومات في خلافة مروان بن الحكم. قلت - القائل هو ابن حجر -: وقال ابن عبد البر: توفي في خلافة عبد الملك بن مروان ، وفرق ابن حبان والحاكم بين أسيد بن ظهير الصحابي وبين أسيد بن أخي رافع بن خديج الذي يروي عنه أبو الأبرد ، فقال الحاكم: لا يصح صحبته ، لأن في إسناده أبا الأبرد ، وهو مجهول ، وقال ابن حبان: قيل: له صحبة ، ولا يصح عندي؛ لأن إسناد خبره فيه اضطراب ، وهكذا قال في ثقات التابعين وذكر قبل ذلك أسيد بن ظهير في الصحابة ولم يتردد والذي روى عنه أبو الأبرد ، فقد صحح الترمذي أنه أسيد بن ظهير صاحب الترجمة وصحح حديثه. وقال ابن حجر في (الإصابة. ج:1. ص: 49 الترجمة: 188) : أسيد بن ظهير بن رافع بن عدي بن زيد بن عمرو بن زيد بن جشم بن حارثة الأنصاري الحارثي بن عم رافع بن خديج ، يكنى أبا ثابت ، له ولأبيه صحبة، قال البخاري: مدني يماني له صحبة وأخرج له أصحاب السن. قال الترمذي بعد أن أخرج له حديثًا في الصلاة في مسجد قباء: لا يصح لأسيد بن ظهير غيره. قلت - القائل هو الحافظ ابن حجر-: وقد أخرج له ابن شاهين حديثًا آخر لكن فيه اختلاف على رواته ، قال ابن عبد البر: مات في خلافة عبد الملك بن مروان. وقال المقدسي في (الاستبصار. ص: 239) : أسيد بن

ظهير بن رافع يكنى أبا ثابت ، وهو أخو عباد بن بشر لأمه ، استصغره رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فرده وشهد الخندق وما بعدها. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أتى مسجد قباء وصلى فيه كان كعمرة.

توفي في خلافة عبد الملك بن مروان. بن أخي رافع بن خديج قال: كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه أعطاها بالثلث والربع والنصف ويشترط ثلاث جداول والقصارة.

ص: 920

قال ابن الأثير (النهاية: ج: 4. ص: 70) : وفي حديث المزارعة: إن أحدهم كان يشترط ثلاثة جداول والقصارة، والقصارة بالضم ما يبقى من الحب في السنبل مما لا يتخلص بعدما يداس ، وأهل الشام يسمونه القصري بوزن قبطي ، وقد تكرر في الحديث. وقال ابن منظور (لسان العرب. ج:5. ص: 100 و101) : والقُصَارة والقِصْرِي والقَصَرَة والقِصْرَى والقَصَر، الأخيرة عن اللحياني ما يبقى في المنخل بعد الانتخال، وقيل: هو ما يخرج من الفت ، وما يبقى في السنبل من الحب بعد الدراسة الأولى ، وقيل: القشرتان اللتان على الحبة ، سفلاهما الحشرة ، وعلياهما القصرة. الليث: والقصر كعابير الزرع الذي يخلص من البر وفيه بقية من الحب ، يقال: في القِصْرى على فعلى. الأزهري: وروى أبو عبيد حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم في المزارعة أن أحدهم كان يشترط ثلاثة جداول والقصارة والقصارة بالضم ما سقى الربيع ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قال أبو عبيد: والقصارة ما بقي في السنبل من الحب مما لا يتخلص بعد ما يداس. فقال: وأهل الشام يسمونه القصري بوزن القبطي. قال الأزهري: هكذا أقرأنيه ابن هاجك عن ابن جبلة عن أبي عبيد بكسر القاف وسكون الصاد وكسر الراء وتشديد الياء

قال: وقال عثمان بن سعيد: سمعت أحمد بن صالح يقول: هي القصرى إذا يبس الزرع فغربل فالسنابيل الغليظة هي القصرى على فعلى وما سقى الربيع وكان العيش ، إذ ذاك شديدًا وكنا نعمل فيها بالحديد وما شاء الله ، ونصيب منها منفعة، فأتى رافع بن خديج فقال:((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم عن أمر كان نافعًا ، وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفع لكم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم عن الحقل ويقول: من استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه أو ليدع وينهى عن المزابنة)) (1) والمزابنة أن يكون الرجل له المال العظيم من النخيل فيأتيه الرجل ويقول: قد أخذته بكذا وكذا وسقا من ثمر"

(1) قال ابن الأثير (النهاية ج: 2. ص: 294 و295) : تكرر ذكر المزابنة في الحديث وهي بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر وأصله من الزبن وهو الدفع ، كأن كل واحد من المتابيعين يزبن صاحبه عن حقه بما يزداد منه ، وإنما نهى عنه لما يقع فيه من الغبن والجهالة ، وفي حديث علي رضي الله عنه: كالناب الضروس تزبن برجلها أي: تدفع ، وفي حديث معاوية ربما زبنت فكسرت أنف حالبها. يقال للناقة إذا كان من عادتها أن تدفع حالبها عن حلبها: زبون. ومنه حديث: لا يقبل الله صلاة الزِّبِّين وهو الذي يدفع الأخبثين وهو بوزن السِّجِّيل هكذا رواه بعضهم والمشهور بالنون.

ص: 921

وقال أحمد في مسنده (1)

"حدثنا عبد الرزاق ، قال: أخبرنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أسيد بن ظهير - ابن أخي رافع بن خديج - قال: كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه أعطى بالثلث والربع والنصف ، ويشترط ثلاث جداول والقصارة وما سقى الربيع ، وكان العيش إذ ذاك شديدًا وكان يعمل فيها بالحديد وما شاء الله ، ويصيب منها منفعة، فأتانا رافع ابن خديج ، فقال:((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن أمر كان لكم نافعًا وطاعة الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم أنفع لكم ، إن النبي صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن الحقل ، ويقول: من استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه أو ليدع ، وينهاكم عن المزابنة)) ، والمزابنة: أن يكون الرجل له المال العظيم من النخل ، فيأتيه الرجل ، فيقول: قد أخذته بكذا وكذا وسقا من ثمر.

وحدثنا وكيع. حدثنا عمرو بن ذر ، عن مجاهد ، عن ابن رافع بن خديج ، عن أبيه قال: جاءنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان يرفق بنا، وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أرفق، نهانا أن نزرع أرضًا يملك أحدنا رقبتها أو منحة رجل)) .

وقال أبو داود في سننه (2)

"حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع. حدثنا عمرو بن ذر ، عن مجاهد ، عن ابن رافع بن خديج ، عن أبيه قال: جاءنا أبو رافع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال:((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان يرفق بنا ، وطاعة الله وطاعة رسوله أرفق بنا، نهانا أن يزرع أحدنا إلا أرضًا يملك رقبتها أو منيحة يمنحها رجل)) .

(1) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 116و117 ح: 372 و373.

(2)

ج: 3. ص:260. ح: 3397 و3398.

ص: 922

وحدثنا محمد بن كثير. أخبرنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، أن أسيد بن ظهير ، قال: جاءنا رافع بن خديج وقال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن أمر كان لكم نافعا ، وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفع لكم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن الحقل ، وقال: من استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه أو ليدع)) .

قال أبو داود: وهكذا رواه شعبة ومفضل بن مهلهل ، عن منصور قال شعبة: أسيد بن أخي رافع بن خديج".

قال النسائي في سننه (1)

"أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك ، قال: حدثنا يحيى - وهو ابن آدم - قال: حدثنا مفضل - وهو ابن مهلهل - عن منصور ، عن مجاهد ، عن أسيد بن ظهير قال: جاءنا رافع ابن خديج فقال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم عن

الحقل ، والحقل: الثلث والربع، وعن المزابنة ، والمزابنة: شراء ما في رؤوس النخل بكذا وكذا وسقا من ثمر)) .

وأخبرنا محمد بن إبراهيم ، قال: أخبرنا خالد - هو ابن الحرث - قال: قرأت على عبد الحميد بن جعفر. أخبرني أبي ، عن رافع بن أسيد بن ظهير ، عن أبيه أسيد بن ظهير ، أنه خرج إلى قومه إلى بني حارثة ، فقال: يا بني حارثة قد دخلت عليكم مصيبة ، قالوا: ما هي؟ قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض. قلنا: يا رسول الله، إنا نكريها بشيء من الحب. قال: لا. وكنا نكريها بالتبن. قال: لا. وكنا نكريها بما على الربيع الساقي. قال: لا ، ازرعها أو امنحها أخاك)) .

وأخبرنا محمد بن المثنى ، قال: حدثنا محمد ، قال: حدثنا شعبة ، عن منصور ، سمعت مجاهدًا يحدث ، عن أسيد بن ظهير قال: أتانا رافع بن خديج ، فقال:((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لكم، نهاكم عن الحقل ، وقال: من كانت له أرض فليمنحها أو ليدعها ، ونهى عن المزابنة، والمزابنة: الرجل يكون له المال العظيم من النخل، فيجيء الرجل ، فيأخذها بكذا وكذا وسقا من ثمر))

(1) ج: 7. ص 33

ص: 923

أخبرني محمد بن قدامة ، قال: حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أسيد بن ظهير ، قال: أتى علينا رافع بن خديج ، فقال: ولم أفهم، فقال:((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم عن أمر كان ينفعكم ، وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لكم مما ينفعكم، نهاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحقل ، والحقل: المزارعة بالثلث والربع، فمن كانت له أرض فاستغنى عنها ، فليمنحها أخاه أو ليدع، ونهاكم عن المزابنة، والمزابنة: الرجل يجيء إلى النخل الكبير بالمال العظيم ، فيقول: خذه بكذا وكذا وسقا من ثمر ذلك العام)) .

وأخبرني إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق ، قال: حدثنا عبد الواحد ، قال: حدثنا سعيد بن عبد الرحمن عن مجاهد قال: حدثني أسيد بن رافع بن خديج ، قال: قال رافع بن خديج: ((نَهَاكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا وَطَاعَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْفَعُ لَنَا ، قَالَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا فَلْيُزْرِعْهَا أَخَاهُ)) .

قال ابن ماجه في سننه (1)

"حدثنا محمد بن يحيى ، أنبأنا عبد الرزاق. أنبأنا الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أسيد بن ظهير بن أخي رافع بن خديج ، عن رافع بن خديج قال: كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه أعطاها بالثلث والربع والنصف ، واشترط ثلاث

جداول والقصارة ، وما يسقي الربيع ، وكان العيش إذ ذاك شديدا ، وكان يعمل فيها بالحديد وبما شاء الله ، ويصيب منها منفعة، فأتانا رافع بن خديج فقال:((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم عن أمر كان لكم نافعًا ، وطاعة الله وطاعة رسوله أنفع لكم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن الحقل ويقول: من استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه أو ليدع)) .

ثلاث جداول؛ أي: ثلاث حصص من جداول. والجدول: النهر الصغير أي: ما يخرج عن أطرافه، والقصارة بالضم ما بقي من الحب في السنبل بعدما يداس وما يسقي الربيع هو النهر الصغير".

قال الطحاوي (2)

(1) ج: 2. ص: 822. ح: 2460.

(2)

معاني الآثار. ج: 4. ص: 105.

ص: 924

"حدثنا ابن أبي داود ، قال: حدثنا يحيى بن إبراهيم ، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال: حدثنا سعيد بن عبد الرحمن الزبيدي ، قال: سمعت مجاهدًا يقول: حدثنى أسيد بن أخي رافع بن خديج ، قال: قال رافع بن خديج

فذكر مثله ، غير أنه قال:((فليزرعها ، فإن عجز عنها فليزرعها أخاه)) .

قال ابن حبان (1)

"أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى ، قال: حدثنا أبو خيثمة ، قال: حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أسيد بن ظهير قال: كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه وافتقر إليها غيره زارعها بالثلث والربع والنصف وكان يشترط ثلاث جداول وما سقى الربيع ، وكنا نعالجها علاجًا شديدًا بالبقر والحديد وبأشياء ، وكنا نصيب منها ، فأتانا رافع بن خديج فقال:((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم عن أمر كان ينفعكم ، عن الحقل ، والحقل: الثلث والربع ، فمن كانت له أرض فاستغنى عنها ، فليمنحها أخاه أو ليدع ، ونهاكم عن المزابنة)) .

قال الطبراني (2)

"حدثنا حفص بن عمر بن الصباح الرقي. حدثنا قبيصة بن عقبة. حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أسيد بن ظهير قال: جاءنا رافع بن خديج ((فذكر أن رسول الله في نهى عن المحاقلة ، وقال: من كان له

أرض فاستغنى عنها فليمنحها أخاه ، ونهى عن المزابنة)) .

وروى الطبراني حديث رافع عن طريق مجاهد عن ابن عمر فقال:

قال الطبراني في معجمه الكبير أيضًا:

"حدثنا معاذ بن المثنى ، حدثنا مسدد ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي الخليل ، عن مجاهد قال: قال ابن عمر: لقد منعنا رافع بن خديج نفع أرضنا".

(1) الإحسان بترتيب صحيح بن حبان. ج: 7. ص: 315. ح: 5175.

(2)

المعجم الكبير. ج: 4. ص: 241 و242. ح: 4253 و4256.

ص: 925

وروى حديث رافع عن طريق سليمان بن يسار كل من أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والطحاوي، وفيما يلي رواياتهم بأسانيدها وألفاظها المختلفة:

قال أحمد في مسنده (1)

"حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب ، عن يعلى بن حكيم ، عن سليمان بن يسار ، عن رافع بن خديج قال:((كنا نحاقل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنكريها بالثلث والربع والطعام المسمى، فجاء ذات يوم رجل من عمومتي فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا ، وطاعة الله ورسوله أنفع لنا ، نهانا أن نحاقل فنكريها بالثلث والربع والطعام المسمى ، وأمر رب الأرض أن يزرعها أو يزرعها ، وكره كراءها وما سوى ذلك)) .

وقال أبو داود في سننه (2)

"حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة. حدثنا خالد بن الحارث. حدثنا سعيد ، عن يعلى بن حكيم ، عن سليمان بن يسار ، أن رافع بن خديج قال:((كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر أن بعض عمومته أتاه فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا ، وطواعية الله ورسوله أنفع. قال: قلنا وما ذاك؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو فليزرعها أخاه ، ولا يكاريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى)) .

وحدثنا محمد بن عبيد. حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب قال: كتب إلى يعلى بن حكيم ، أني سمعت سليمان بن يسار بمعنى إسناد عبيد الله وحديثه".

وقال النسائي في سننه (3)

(1) الفتح الرباني ج: 15 ص: 118. ح: 378.

(2)

ج: 3. ص: 259. ح: 3395 و3396.

(3)

ج:7. ص:41.

ص: 926

"أخبرنا زياد بن أيوب ، قال: حدثنا ابن علية ، قال: أنبأنا أيوب ، عن يعلى بن حكيم ، عن سليمان بن يسار ، عن رافع بن خديج قال:((كنا نحاقل بالأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكريها بالثلث والربع والطعام المسمى، فجاء ذات يوم رجل من عمومتي ، فقال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعا ، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا، نهانا أن نحاقل بالأرض ونكريها بالثلث والربع والطعام المسمى ، وأمر رب الأرض أن يزرعها أو يزرعها ، وكره كراءها وما سوى ذلك)) .

أخبرني زكرياء بن يحيى ، قال: حدثنا محمد بن عبيد ، قال: حدثنا حماد ، عن أيوب قال: كتب إلي يعلى بن حكيم أني سمعت سليمان بن يسار يحدث عن رافع بن خديج قال: كنا نحاقل الأرض نكريها بالثلث وبالربع وبالطعام المسمى.

وأخبرنا إسماعيل بن مسعود قال: حدثنا خالد بن الحارث ، عن سعيد ، عن يعلى بن حكيم ، عن سليمان بن يسار ، أن رافع بن خديج قال:((كنا نحاقل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فزعم أن بعض عمومته أتاه ، فقال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا ، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا. قلنا: وما ذاك؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ، ولا يكاريها بثلث ولا ربع ولا طعام مسمى)) . وقال ابن ماجه في سننه (1)

"حدثنا حميد بن مسعدة. حدثنا خالد بن الحارث ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن يعلى بن حكيم ، عن سليمان بن يسار ، عن رافع بن خديج قال:((كنا نحاقل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فزعم أن بعض قومه أتاهم ، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فلا يكريها بطعام مسمى)) .

وقال الطحاوي (2)

"حدثنا يونس ، قال: حدثنا ابن وهب قال: أخبرني جرير بن حازم ، عن يعلى بن حكيم ، عن سليمان بن يسار ، عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكريها بالثلث ولا بالربع ولا بطعام مسمى)) .

(1) ج: 2. ص: 823. ح: 2465.

(2)

معاني الآثار. ج: 4. ص: 106 و109.

ص: 927

وحدثنا ابن أبي داود ، قال: حدثنا محمد بن المنهال ، قال: حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا ابن أبي عروبة ، عن يعلى بن حكيم ، عن سليمان بن يسار ، عن رافع بن خديج قال:((كنا نحاقل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمحاقلة أن يكري الرجل أرضه بالثلث أو الربع أو طعام مسمى ، فبينا أنا ذات يوم ، إذ أتاني بعض عمومتى ، فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا ، فطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفع ، قال: من كانت له أرض فليمنحها أخاه ، ولا يكريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى)) .

وروى حديث رافع عن طريق أبي النجاشي مولاه كل من أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه وابن حبان والطحاوي.

قال أحمد في مسنده (1)

"حدثنا هاشم بن القاسم ، قال: حدثنا عكرمة ، عن أبي النجاشي مولى رافع بن خديج ، قال: سألت رافعًا في كراء الأرض، فقلت: إن لي أرضًا أكريها، فقال رافع: لا تكريها بشيء ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كانت له أرض فليزرعها ، فإن لم يزرعها فليزرعها أخاه ، فإن لم يفعل فليدعها)) . فقلت له: أرأيت إن تركته وأرضي فإن زرعها ثم بعث إلي من التبن ، قال: لا تأخذ منها شيئًا ولا تبنًا. قلت: إني لم أشارطه ، إنما أهدى إلي شيئًا ، قال: لا تأخذ منه شيئًا".

قال البخاري في صحيحه (2)

(1) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 116. ح: 370.

(2)

ج:3. ص:71.

ص: 928

"حدثنا محمد بن مقاتل. أخبرنا عبد الله. أخبرنا الأوزاعي ، عن أبي النجاشي (تابعي ثقة اسمه عطاء بن مصيب) مولى رافع بن خديج. سمعت رافع بن خديج بن رافع ، عن عمه ظهير بن رافع قال: قال ظهير ذكره ابن حبان في (الثقات. ج: 3. ص: 206) فقال: ظهير بن رافع بن عدي بن زيد بن جشم الأنصاري من بني حارثة بن الحارث بن الخزرج عم رافع بن خديج ، له صحبة. ثم أورد حديثه في المزارعة عن طريق أبي النجاشي وقد نقلناه هنالك. وقال المقدسي في (الاستبصار. ص: 239) : مظهر وظهير ابنا رافع بن عدي بن زيد بن جشم عما رافع بن خديج بن رافع ، شهدا أحدًا ، وشهد ظهير العقبة الثانية ، ولم يشهد بدرا ، وشهد أحدًا مع أخيه مظهر بن رافع ، وقتل مظهر بن رافع بخيبر ، وقتله غلمان له في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأجلى أهل خيبر من أجل ذلك؛ لأنه كان يأمرهم. وقال ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج:5. ص: 37. الترجمة: 64) : ظهير بن رافع بن عدي بن زيد بن جشم بن حارثة بن الحارث بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي المدني شهد العقبة الثانية ، واختلف في شهوده بدرًا ، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في المخابرة ، وعنه ابن أخيه رافع بن خديج وفي الحديث اختلاف. والله أعلم. وذكره في (الإصابة. ج:2. ص: 741. الترجمة: 4328) فقال: ظهير - بالتصغير - بن رافع بن عدي بن زيد بن جشم بن حارثة الأنصاري الأوسي الحارثي شهد بدرًا ، وذكره موسى بن عقبة وابن إسحاق فيمن شهد العقبة. وذكر ابن عبد البر في (الاستيعاب - نفس المرجع - على الهامش) فقال: ظهير بن رافع بن عدي بن زيد بن جشم بن حارثة بن الحرث بن الخزرج بن عمرو ، وهو النبيت بن مالك بن الأوس شهد العقبة الثانية وبايع النبي صلى الله عليه وسلم بها ، ولم يشهد بدرًا ، وشهد أحدًا وما بعدها من المشاهد هو وأخوه مظهر بن رافع فيما قال ابن إسحاق وغيره ، وهو عم رافع بن خديج ، ووالد أسيد بن ظهير ، روى عنه رافع بن خديج. وقال ابن حجر في (الإصابة ج:3. ص: 426. الترجمة: 8035) : مظهر بن رافع بن عدي بن زيد بن جشم بن حارثة الأنصاري الحارثي عم رافع بن خديج ضبطه ابن ماكولا - بضم الميم وفتح الظاء وتشديد الهاء المكسورة - قال: له ولأخيه ظهير بالتصغير صحبة ورواية ، روى عنهما ابن أخيهما رافع. قلت - القائل هو ابن حجر -: ورواية رافع عن عميه في الصحيح بالإيهام وسمي ظهيرًا في رواية ، ويقال: اسم آخر مهير بالميم مصغرا أيضًا ومظهر. وذكره الواقدي فيمن شهد أحدًا وعاش في خلافة عمر ، فقتله أعلاج من عبيده بخيبر ، وكان أقامهم يعملون له في أرضه ، فحملهم اليهود على ذلك. وقال ابن عبد البر في (الاستيعاب على هامش المرجع السابق. ص: 6519) : مظهر بن رافع أخو ظهير بن رافع لأبيه وأمه وهما عما رافع بن خديج لهما جميعًا صحبة ، روى عنهما ابن أخيهما رافع بن خديج ، شهد مظهر أحدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأدرك خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال الواقدي:

حدثني محمود بن يحيى بن أبي حثمة ، عن أبيه قال: أقبل مظهر بن الحارث بأعلاج من الشام ليعملوا له في أرضه ، فلما نزل خيبر أقام بها ثلاثًا ، فحرضت يهود الأعلاج على قتل مظهر ودسوا بسكينين أو ثلاث فلما خرجوا من خيبر وثبوا عليه فبعجوا بطنه ، فقتلوه ثم انصرفوا إلى خيبر فزودهم يهود قوتهم حتى لحقوا بالشام ، وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخبر بذلك ، فقال: إني خارج إلى خيبر وقاسم ما كان لها من الأموال وحاد لها حدودها ومجلي اليهود عنها ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: أقركم ما أقركم الله ، وقد أذن الله في إجلائهم ، ففعل ذلك بهم.

ص: 929

((لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا رافقًا. قلت: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق. قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما تصنعون بمحاقلكم؟ قلت: نؤاجرها على الربع وعلى الأوسق من الثمر والشعير ، قال: لا تفعلوا ازرعها أو أزرعوها أو أمسكوها)) . قال رافع: قلت: سمعًا وطاعة".

وقال مسلم في صحيحه (1)

"حدثني إسحاق بن منصور. أخبرنا أبو مسهر. حدثني يحيى بن حمزة أبو عمرو الأوزاعي ، عن أبي النجاشي مولى رافع بن خديج ، عن رافع ، أن ظهير بن رافع وهو عمه قال: أتاني ظهير ، فقال:((لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان بنا رافقًا ، فقلت: وما ذاك؟ ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق. قال: سألني كيف تصنعون بمحاقلكم؟ قلت: نؤاجرها يا رسول الله على الربيع أو الأوسق من الثمر أو الشعير ، قال: فلا تفعلوا، ازرعوها أو أزرعوها أو أمسكوها)) .

وحدثنا محمد بن حاتم. حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن عكرمة ، عن عمار ، عن أبي النجاشي ، عن رافع ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا ، ولم يذكر عن عمه ظهير.

ورواه - يعني حديث ابن عمر - أبو النجاشي عطاء بن صهيب ، واختلف فيه.

(1) على هامش شرح النووي. ج:10. ص: 205.

ص: 930

أخبرنا أبو بكر بن إسماعيل الطبراني ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن يحيى ، قال: حدثنا مبارك بن سعيد ، قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير ، قال: حدثني أبو النجاشي ، قال: حدثني رافع بن خديج ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرافع: أتؤاجرون محاقلكم على الربع وعلى الأوساق من الشعير؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تفعلوا ازرعوها أو أعيروها أو أمسكوها)) .

خالفه الأوزاعي فقال: عن رافع ، عن ظهير بن رافع. أخبرنا هشام بن عمار ، قال: حدثنا يحيى بن حمزة ، قال: حدثني الأوزاعي ، عن أبي النجاشي ، عن رافع قال: أتانا ظهير بن رافع ، فقال:((نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا رافقًا ، قلت: وما ذاك؟ قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حق، سألني: كيف تصنعون في محاقلكم؟ قلت: نؤاجرها على الربع والأوساق من الثمر أو الشعير، فقال: لا تفعلوا ازرعوها أو أزرعوها أو أمسكوها)) رواه بكير بن عبد الله بن الأشج عن أسيد بن رافع".

وقال النسائي في سننه (1)

"أخبرنا أبو بكر محمد بن إسماعيل الطبراني ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن يحيى ، قال: حدثنا مبارك بن سعيد ، قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير ، قال: حدثني أبو النجاشي ، قال: حدثني رافع بن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرافع: أتؤاجرون محاقلكم؟ قلت: نعم يا رسول الله، نؤاجرها على الربع وعلى الأوساق من الشعير. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا ، ازرعوها أو أزرعوها أو أمسكوها)) .

خالفه الأوزاعي ، فقال: عن رافع عن ظهير بن رافع.

وأخبرنا هشام بن عمار ، قال: حدثنا يحيى بن حمزة ، قال: حدثني الأوزاعي ، عن أبي النجاشي ، عن رافع قال: أتانا ظهير بن رافع ، فقال:((نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا رافقًا ، قلت: وما ذاك؟ قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حق، سألني: كيف تصنعون في محاقلكم؟ قلت: نؤاجرها على الربع والأوساق من الثمر أو الشعير ، قال: فلا تفعلوا ، ازرعوها أو أزرعوها أو أمسكوها)) .

رواه بكير بن عبد الله بن الأشج ، عن أسيد بن رافع ، فجعل الرواية لأخي رافع.

(1) ج: 7. ص: 49.

ص: 931

وقال ابن ماجه في سننه (1)

"حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي. حدثنا الوليد بن مسلم. حدثنا الأوزاعي. حدثنا أبو النجاشي ، أنه سمع رافع بن خديج يحدث ، عن عمه ظهير قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا رافقًا، فقلت: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق ، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تصنعون بمحاقلكم؟ قلنا: نؤاجرها على الثلث والربع والأوسق من البر والشعير وقال: لا تفعلوا ، ازرعوها أو أزرعوها)) .

وقال ابن حبان (2)

"أخبرنا ابن مسلم ، قال: حدثنا عبد الرحمن. حدثنا الوليد ، قال: حدثنا الأوزاعي ، قال: حدثنا أبو النجاشي ، أنه سمع رافع بن خديج يحدث ، عن عمه ظهير بن رافع قال:((نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا موافقًا، فقلت: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق. فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تصنعون بمحاقلكم؟ قلنا: نؤاجرها على الثلث والربع والأوسق من البر والشعير ، قال: فلا تفعلوا ، ازرعوها أو أزرعوها)) .

وقال أيضًا في "كتاب الثقات" عند ترجمته لظهير:

حدثنا عمرو بن محمد الهمذاني ، قال: حدثنا عمرو بن عثمان ، قال: حدثنا الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي قال: حدثنا أبو النجاشي ، قال: سمعت رافع بن خديج يحدث ، عن عمه ظهير بن رافع قال:((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان بنا رافقًا ، قلت: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تصنعون بمحاقلكم؟ قلنا: نؤاجرها على الربع أو على الأوسق من التين - لعل فيه خطأ مطبعيًا صوابه: "من التبن " بالموحدة لا بالمثناة، كما ورد في الروايات الأخرى - والشعير ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تفعلوا ، ازرعوها أو أزرعوها)) .

وقال الطحاوي (3)

(1) ج: 2. ص: 821. ح: 2459.

(2)

الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 313. ح: 5168 الثقات. ج: 3. ص:206.

(3)

معاني الآثار ج: 4. ص: 106.

ص: 932

"حدثنا أبو بكرة ، قال: حدثنا عمر بن يونس ، قال: حدثنا عكرمة بن عمار ، قال: حدثني أبو النجاشي مولى رافع بن خديج ، قال: قلت لرافع: إن لي أرضًا أكريها ، فنهاني رافع ، وأراه قال لي:((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض ، قال: إذا كانت لأحدكم أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ، فإن لم يفعل فليدعها ولا يكريها بشيء. فقلت: أرأيت إن تركتها فلم أزرعها ولم أكرها بشيء فزرعها قوم فوهبوا لي من نباتها شيئًا آخذه؟ قال: لا)) .

وروى أبو داود حديث رافع عن طريق عمران بن سهل فقال (1)

"قرأت على سعيد بن يعقوب الطالقاني قلت له: حدثك ابن المبارك ، عن سعيد بن أبي شجاع ، حدثني عثمان بن سهل بن رافع بن خديج ، قال:((إني يتيم في حجر رافع بن خديج وحججت معه ، فجاءه أخي عمران بن سهل ، فقال: أكرينا أرضنا فلانًا بمائتي درهم ، فقال: دعه فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) .

وروى النسائي حديث رافع عن طريق أسيد بن رافع ، فقال (2)

"أخبرنا محمد بن حاتم ، قال: حدثنا حبان ، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن الليث ، قال: حدثني بكير بن عبد الله بن الأشج ، عن أسيد بن رافع بن خديج ، أن أخا لرافع بن خديج قال لقومه:((قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم عن شيء كان لكم رافقًا وأمره طاعة وخير نهى عن الحقل)) .

وروى عبد الرزاق حديث رافع عن طريق أيوب عن الزرقي فقال (3)

(1) سنن أبي داود ج: 3. ص: 261.

(2)

سنن النسائي ج: 7. ص: 49.

(3)

المصنف. ج:8. ص: 96. ح: 14464.

ص: 933

"أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن الزرقي ، عن رافع بن خديج قال:((دخل علي خالي يومًا ، فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم عن أمر كان لكم نافعًا ، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا وأنفع لكم ، ومر على زرع ، فقال: لمن هذا؟ فقالوا: لفلان. فقال: لمن الأرض؟ فقالوا: لفلان. قال: فما شأن هذا؟ قالوا: أعطاه إياه على كذا وكذا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها خراجًا معلومًا. ونهى عن الثلث والربع وكراء الأرض. قال أيوب: فقيل لطاوس: إن ههنا ابنا لرافع بن خديج يحدث بهذا الحديث ، فدخل ثم خرج ، فقال: قد حدثني من هو أعلم من هذا ، إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على زرع فأعجبه ، فقال: لمن هذا؟ قالوا: لفلان ، قال: لمن الأرض؟ قالوا: لفلان ، قال: وكيف؟ قالوا: أعطاه إياها على كذا وكذا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأن يمنح أحدكم أخاه خير له. ولم ينه عنه)) .

وروى النسائي حديث رافع عن طريق أبي سلمة والقاسم فقال: (1)

"أخبرنا زكريا بن يحيى ، قال: حدثنا محمد بن يزيد بن إبراهيم ، قال: حدثنا عبيد الله بن حمران ، قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر ، عن الأسود بن العلاء ، عن أبي سلمة ، عن رافع بن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة)) .

رواه القاسم بن محمد عن رافع بن خديج.

وأخبرنا عمرو بن علي ، قال: حدثنا أبو عاصم ، قال: حدثنا عثمان بن مرة ، قال: سألت القاسم عن المزارعة ، وحدث عن رافع بن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزارعة)) .

قال أبو عبد الرحمن مرة أخرى:

(1) سنن النسائي. ج: 7. ص: 39.

ص: 934

أخبرنا عمرو بن علي ، قال: قال أبو عاصم ، عن عثمان بن مرة قال: سألت القاسم عن كراء الأرض ، فقال: قال رافع بن خديج ((: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) .

وروى النسائي حديث رافع عن ابن شهاب وسعيد بن المسيب مرسلًا ، فقال (1)

"أخبرنا أحمد بن سليمان ، قال: حدثنا عبد الله بن موسى ، قال: أنبأنا إسرائيل ، عن طارق ، عن سعيد قال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة)) قال سعيد: فذكر نحوه. وروى الزهري الكلام الأول عن سعيد فأرسله.

قال الحارث بن مسكين - قراءة عليه وأنا أسمع - عن ابن القاسم ، قال: حدثنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة)) .

رواه محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة ، عن سعيد بن المسيب ، فقال: عن سعد بن أبي وقاص.

وأخبرنا محمد بن خالد بن خلي ، قال: حدثنا بشر بن شعيب ، عن أبيه ، عن الزهري ، قال: بلغنا أن رافع بن خديج كان يحدث أن عميه - وكان يزعم شهدا بدرًا - ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) .

رواه عثمان بن سعيد عن شعيب ، ولم يذكر عميه.

وقال الحارث بن مسكين - قراءة عليه وأنا اسمع - عن ابن وهب ، قال: أخبرني أبو خزيمة عبد الله بن طريف ، عن عبد الكريم بن الحارث عن ابن شهاب ، أن رافع بن خديج قال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض)) ، قال ابن شهاب: فسئل رافع بعد ذلك: كيف كانوا يكرون الأرض؟ قال: بشيء من الطعام مسمى ويشترط أن لنا ما تبنت ماذيانات وأقبال الجداول.

(1) سنن النسائي. ج: 7. ص: 40 و44 و 45.

ص: 935

رواه نافع عن رافع بن خديج، اختلف عليه فيه".

ورواه عن طريق سعيد بن المسيب كل من ابن أبي شيبة وأبي داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني والطحاوي وابن عدي بألفاظ وأسانيد مختلفة نوردها فيما يلي:

قال ابن أبي شيبة (1) حدثنا أبو الأحوص ، عن طارق طارق بن عبد الرحمن البجلي أحمسي كوفي هكذا نسبه ابن عدي في - الكامل. ج:4. ص: 1434 - وقال عنه - بعد أن أورد بسنده قولين ليحيى فيه. وأورد حديثه له عن سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج - وطارق بن عبد الرحمن له أحاديث وليس بالكثير ، وأرجو أنه لا بأس به. وقال عنه ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج:5. ص:5) "ورمز له بأنه روى عنه الجماعة" بعد أن ذكر نسبه ومن روى عنهم ومن رووا عنه. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ليس بذاك ، هو دون مخارق. وقال علي بن مديني عن يحيى عن سعيد: طارق بن عبد الرحمن ليس عندي بأقوى من أبي حرملة ، وطارق وإبراهيم بن مهاجر يجريان مجرى واحدًا. وقال ابن معين العجلي: ثقة، وقال أبو حاتم: لا بأس به ، يكتب حديثه ، يشبه حديثه حديث مخارق. وقال النسائي: ليس به بأس (انظر الضعفاء. ص: 43. الترجمة: 133) وقال ابن عدي: لا بأس به ، وذكره ابن حبان في كتاب الثقات، ثم أورد له حديثًا عند الترمذي ، ثم قال: قلت: وقال النسائي في الضعفاء: طارق بن عبد الرحمن ليس بالقوي ، فلا أدري عنى هذا أو الذي قبله. وذكره ابن البرقي في باب من احتمل حديثه ، فقال فيه: وأهالي الحديث يخالفون يحيى في سعيه فيه ويلقونه ، وحكى الساجي عن أحمد: في حديثه بعض الضعف ، وقال الدارقطني ويعقوب بن سفيان: ثقة ، ونقل ابن خلفون توثيقه عن ابن نمير. وقلت: ذكره العقيلي في (كتاب الضعفاء الكبير. ج: 2. ص:227. الترجمة: 774) حدثنا عبد الله قال: سمعت أبي قال: موسى الجهني أحب إلي من طارق - يعني ابن عبد الرحمن - وطارق في حديثه بعض الضعف. حدثنا عبد الله قال: سمعت أبي يقول: طارق بن عبد الرحمن ليس حديثه بذاك.

(1) الكتاب المصنف. ج: 7. ص: 85. ح: 2473

ص: 936

لكن قال الذهبي في (الميزان. ج: 2. ص: 332. الترجمة: 3965) : طارق بن عبد الرحمن (ع) - أي: روى عنه الجماعة - البجلي ، عن سعيد بن المسيب ثقة مشهور، ثم أورد قول أحمد ويحيى ، ثم أورد حديث أبي الأحوص عن طارق في

المزارعة. ثم قال: قلت: قد روى عنه شعبة وأبو عوانة ووكيع ووثقه ابن معين والعجلي ، وقال أبو حاتم: لا بأس به يكتب حديثه، ثم ذكر قول ابن عدي. وترجم له الرازي في (الجرح والتعديل. ج:4. ص: 485. الترجمة: 2130)

وورد في شأنه الأقوال السابقة كما ترجم له البخاري في (التاريخ الكبير. ج:4. ص: 353. الترجمة: 3115) ولم يعقب في شأنه بشيء ، ثم أورد في الصفحة:354. الترجمة: 3121) ذكرًا لطارق بن أبي الحسناء ، ورجح المعلق أنه هو طارق بن عبد الرحمن وكما أن ابن حبان قال في (الثقات. ج: 6. ص: 490) ما نصه: طارق بن أبي الحسناء يروي عن الحسن، روى عنه الأعمش ، أحسب أن اسم أبيه عبد الرحمن ، بأن الأعمش روى عن طارق بن عبد الرحمن عن سعيد

بن جبير أحرفًا يسيرة. وقال العجلي في (معرفة الثقات. ج: 1. ص: 476. الترجمة: 788) : طارق بن عبد الرحمن كوفي ثقة. قلت: تمييز البخاري بين طارق بن عبد الرحمن البجلي وطارق بن أبي الحسناء بترجمتين منفصلتين يمكن أن يفهم منه أن البخاري يراهما شخصين مختلفين وأن اعتبار ابن حبان لهما شخصًا واحدًا يدعو إلى التأمل. عن سعيد بن المسيب ، عن رافع بن خديج ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ((إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو يزرعها ، ورجل منح أرضًا فهو يزرع ما منح ، ورجل استكرى أيضًا بذهب أو فضة)) قال أبو داود في سننه (1)

"حدثنا مسدد. حدثنا أبو الأحوص. حدثنا طارق بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن المسيب ، عن رافع بن خديج قال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة ، وقال: إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو يزرعها، ورجل منح أرضًا فهو يزرع ما منح ، ورجل استكرى أرضًا بذهب أو فضة)) .

قال النسائي في سننه (2)

"أخبرنا قتيبة ، قال: حدثنا أبو الأحوص ، عن طارق ، عن سعيد بن المسيب ، عن رافع ابن خديج قال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة ، وقال: إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو يزرعها ، أو رجل منح أرضًا فهو يزرع ما منح ، ورجل استكرى أرضًا بذهب أو فضة)) .

(1) ج: 3. ص:260. ح: 3400.

(2)

ج:7. ص:40 و45.

ص: 937

ميزه إسرائيل عن طارق فأرسل الكلام الأول ، وجعل الأخير من كلام سعيد.

وأخبرنا أحمد بن محمد بن المغيرة ، قال: حدثنا أحمد بن سعيد ، عن شعيب ، قال الزهري: كان ابن المسيب يقول: ليس باستكراء الأرض بالذهب والورق بأس ، وكان رافع بن خديج يحدث ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك)) .

وقال ابن ماجه في سننه (1)

"حدثنا معاذ بن السري. حدثنا أبو الأحوص ، عن طارق بن عبد الرحمن ، عن عبد الرحمن ، عن سعيد بن المسيب ، عن رافع بن خديج قال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة ، وقال: إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو يزرعها ، ورجل منح أرض فهو يزرع ما منح ، ورجل استكرى أرضًا بذهب أو فضة)) .

وقال الدارقطني في سننه (2)

"حدثنا أبو القاسم بن منيع. حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، أخبرنا أبو الأحوص ، عن طارق ، عن سعيد بن المسيب ، عن رافع بن خديج قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة ، وقال: إنما يزرع ثلاثة: رجل كانت

له أرض فهو يزرعها ، أو رجل منح أرضًا فهو يزرعها ، أو رجل اكترى أرضًا بذهب أو فضة)) .

(1) ج: 2. ص: 762 و819. ح: 2267 و2449.

(2)

ج: 3. ص: 36. ح: 145.

ص: 938

---------------------------

مجلة مجمع الفقه الإسلامي

---------------------------

معذرة، لا يمكن نسخ اكثر من 10 صفحات فى اليوم

---------------------------

موافق

---------------------------

ص: 939

قال الطحاوي (1)

"حدثنا صالح بن عبد الرحمن ، قال: حدثنا سعيد بن منصور ، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن الأحوص ، عن طارق بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن المسيب ، عن رافع بن خديج قال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمحاقلة ، وقال: إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو يزرعها ، ورجل منح أخاه أرضًا فهو يزرع ما منح منها ، ورجل اكترى بذهب أو فضة)) .

حدثنا أبو أمية ، قال: حدثنا أبو نعيم والمعلى بن منصور ، قالا: حدثنا أبو الأحوص ثم ذكر بإسناده".

وقال ابن عدي في الكامل (2)

"حدثنا ابن ذريح. حدثنا هناد. حدثنا أبو الأحوص ، عن طارق بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن المسيب ، عن رافع بن خديج قال: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة ، وقال: إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو

يزرعها ، ورجل منح أرضًا فهو يزرع ما منح ، ورجل استكرى أرضًا بذهب أو فضة)) .

وروى حديث رافع عن طريق سعيد بن المسيب عن ابن عمر كل من أبي داود والنسائي.

قال أبو داود في سننه (3)

"حدثنا محمد بن بشار. حدثنا يحيى. حدثنا أبو جعفر الخطمي ، قال: بعثني عمي أنا وغلامًا له إلى سعيد بن المسيب ، قال: فقلنا له: شيء بلغنا عنك في المزارعة قال: كان ابن عمر لا يرى بها بأسًا حتى بلغه عن رافع بن خديج حديث فأتاه ، فأخبره رافع ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني حارثة ، فرأى زرعًا في أرض ظهير ، فقال: ما أحسن زرع ظهير!! قالوا: ليس لظهير. قال: أليس أرض ظهير؟ قالوا: بلى، ولكنه زرع فلان. قال: فخذوا زرعكم وردوا عليه النفقة)) . قال رافع: فأخذنا زرعنا ورددنا إليه النفقة.

(1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 106.

(2)

ج: 4. ص: 1434.

(3)

ج: 3. ص:260. ح: 3399.

ص: 940

قال سعيد: أفْقِر أخاك - أي: أعره أرضك للزراعة - أو أكر بالدراهم".

وقال النسائي في سننه (1)

"أخبرنا محمد بن المثنى ، قال: حدثنا يحيى ، عن أبي جعفر الخطمي - اسمه عمير بن يزيد - قال: أرسلني عمي وغلامًا له إلى سعيد بن المسيب أسأله عن المزارعة ، فقال: كان ابن عمر لا يرى بها بأسًا حتى بلغه عن رافع بن خديج حديث ، فلقيه فقال رافع:((أتى النبي صلى الله عليه وسلم بني حارثة ، فرأى زرعا ، فقال: ما أحسن زرع ظهير. فقالوا: ليس لظهير ، فقال: أليس أرض ظهير؟ قالوا: بلى، ولكنه أزرعها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوا زرعكم وردوا إليه نفقته، فأخذنا زرعنا ورددنا إليه نفقته)) .

ورواه طارق بن عبد الرحمن عن سعيد ، واختلف عليه فيه".

وروى حديث رافع عن طريق عمرو بن دينار عن ابن عمر كل من الشافعي وأحمد والحميدي والنسائي وابن ماجه والطيالسي والطحاوي والطبراني. وفيما يلي رواياتهم بأسانيدها وألفاظها المتقاربة.

قال الشافعي في مسنده (2)

"أخبرنا سفيان ، عن عمرو ، عن ابن عمر قال: كنا نخابر ، فلا نرى بذلك بأسا حتى زعم رافع ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها ، فتركناها من أجل ذلك)) .

وقال أحمد في مسنده (3)

"حدثنا سفيان ، قال: سمع عمرو ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسًا حتى زعم رافع بن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه فتركناه)) .

(1) ج:7. ص:40.

(2)

ترتيب مسند الشافعي. ج: 2. ص: 136. ح: 447.

(3)

الفتح الرباني. ج: 15. ص: 119. ح: 380 و386.

ص: 941

وحدثنا وكيع. حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، قال: سمعت ابن عمر يقول: كنا نخابر ، ولا نرى بذلك بأسًا حتى زعم رافع بن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه)) قال عمرو: فذكرته لطاوس فقال طاوس: قال ابن عباس: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يمنح أحدكم أخاه الأرض خير له من أن يأخذ لها خراجًا معلوما)) .

وقال الحميدي في مسنده (1)

"حدثنا سفيان ، قال: حدثنا عمرو بن دينار ، قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: ((كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسًا ، حتى زعم رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه ، فتركنا ذلك من أجل قوله)) .

وقال النسائي في سننه (2)

"أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك ، قال: أنبأنا وكيع ، قال: حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، قال: سمعت ابن عمر يقول: ((كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسًا ، حتى زعم رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة)) .

وأخبرنا عبد الرحمن بن خالد ، قال: حدثنا حجاج ، قال: قال ابن خديج: سمعت عمرو بن دينار يقول: أشهد لسمعت ابن عمر وهو يسأل عن الخبر ، فيقول:((ما كنا نرى بذلك بأسًا حتى أخبرنا عام الأول ابن خديج أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخبر)) .

وأخبرنا يحيى بن حبيب بن عربي ، عن حماد بن زيد ، عن عمرو بن دينار ، قال: سمعت ابن عمر يقول: ((كنا لا نرى بالخبر بأسًا ، حتى كان عام الأول ، فزعم رافع أن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه)) .

خالفه عارم ، فقال: عن حماد ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر ".

(1) ج: 1. ص: 198 ح: 405.

(2)

ج: 7. ص: 48.

ص: 942

وقال ابن ماجه في سننه (1)

"حدثنا هشام بن عمار ومحمد بن الصباح ، قالا: حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، قال: سمعت ابن عمر يقول: كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسًا حتى سمعنا رافع ابن خديج يقول: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه)) فتركناه لقوله".

وقال أبو داود الطيالسي في مسنده (2)

"حدثنا حماد بن زيد ، عن عمرو بن دينار ، قال: سمعت ابن عمر يقول: كنا لا نرى بالخبر بأسًا ، حتى زعم ابن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحقل)) قال شعبة: قلت للحكم: ما الحقل؟ قال: الثلث والربع، قال شعبة: قال الحكم: لما سمع إبراهيم هذا الحديث كره الثلث والربع ، ولم ير بأسًا لكراء الأرض بالذهب والفضة".

وقال الطحاوي (3)

"حدثنا علي بن شيبة وفهد بن سليمان قالا: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين ، قال: حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، قال: سمعت ابن عمر يقول: سمعت رافع بن خديج يقول: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزارعة)) .

وحدثنا أبو بكرة بكار بن قتيبة ، قال: حدثنا إبراهيم بن بشار ، قال: حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، قال: سمعت ابن عمر يقول: كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسا حتى زعم رافع بن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة فتركناها.))

وحدثنا روح بن الفرج ، قال: حدثنا حامد ، قال: حدثنا سفيان قال: سمعت عمرو بن دينار يقول: سمعت ابن عمر يقول: كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسًا حتى زعم رافع بن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها فتركناها من أجل قوله)) .

(1) ج: 2. ص: 819. ج: 2450.

(2)

ص: 130. ح: 365.

(3)

معاني الآثار. ج: 4. ص: 105 و111.

ص: 943

وقال الطبراني (1)

"حدثنا علي بن عبد العزيز. حدثنا أبو نعيم. حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، قال: سمعت ابن عمر يقول: ما كنا نكري المزارعة حتى سمعت رافع بن خديج يقول: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزارعة)) .

وحدثنا عبيد بن غنام. حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة.

وحدثنا أبو يزيد القراطيسي. حدثنا حجاج بن إبراهيم الأزرق قال: حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، قال: كنا نخابر ولا نرى بأسًا ، حتى زعم رافع بن خديج ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه)) وتركناه من أجل قوله.

وحدثنا يوسف بن يعقوب القاضي. حدثنا سليمان بن حرب.

وحدثنا معاذ بن المثنى. حدثنا مسدد قالا: حدثنا حماد بن زيد ، عن عمرو بن دينار ، قال: سمعت ابن عمر يقول: كنا لا نرى بالخبر بأسًا حتى كان عام أول ، فزعم رافع ابن خديج ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه. وتركناه من أجل قوله: نهى عنه)) .

حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي.

وحدثنا معاذ بن المثنى. حدثنا مسدد قالا: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم. حدثنا أيوب ، عن عمرو بن دينار ، قال:((سمعت ابن عمر يقول: ما كنا نرى بالخبر بأسًا حتى زعم رافع بن خديج عام أول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه وتركناه.))

وحدثنا محمد بن أحمد بن أبي خيثمة. حدثنا عمر بن يحيى الأبلي. حدثنا عبد الوارث. حدثنا أيوب ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عمر قال: كنا لا نرى بالخبر بأسًا ، فقال رافع بن خديج:((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم) .

وروى: الطبراني حديث ابن عمر عن طريق عبد الله بن دينار فقال (2)

"حدثنا عبد الله بن ناجية. حدثنا أحمد بن منصور ، حدثنا أبو عاصم. حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، عن رافع بن خديج ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) .

وروى حديث رافع عن طريق ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر كل من أحمد وأبو داود والنسائي والطحاوي وفيما يلي رواياتهم بأسانيدها المختلفة وألفاظها المتقاربة: قال أحمد في مسنده (3)

(1) المعجم الكبير. ج: 4. ص: 240 ح: 4248.

(2)

المعجم الكبير. ج: 4. ص: 241. ح: 4254.

(3)

الفتح الرباني. ج: 15. ص: 118. ح: 377.

ص: 944

"حدثنا حجاج. حدثنا ليث بن سعد ، عن عقيل ، عن ابن شهاب أنه قال: أخبرني سالم بن عبد الله ، أن عبد الله بن عمر قال: يابن خديج، ماذا تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض؟ قال رافع: سمعت عمي - وكان قد شهدا بدرًا - يحدثان أهل الدار ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) .

وقال أبو داود في سننه (1)

"حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث. حدثني أبي ، عن جدي الليث. حدثني عقيل ، عن ابن شهاب. أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر ، ((أن ابن عمر كان يكري الأرض ، حتى بلغه أن رافع بن خديج الأنصاري حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن كراء الأرض. فلقيه عبد الله ، فقال: يابن خديج ، ماذا تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض؟ قال رافع لعبد الله ابن عمر: سمعت عمي - وكانا قد شهدا بدرًا - يحدثان أهل الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) . قال عبد الله: والله لقد كنت أعلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن الأرض تكرى ، ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله أحدث في ذلك شيئا لم يكن علمه ، فترك كراء الأرض.

قال أبو داود: رواه أيوب وعبيد الله وكثير بن فرقد ، وذلك عن نافع ، عن رافع ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه الأوزاعي ، عن حفص بن عنان ، عن نافع ، عن رافع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك رواه زيد بن أبي أنيسة ، عن الحكم ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه أتى رافعًا ، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم. وكذا قال عكرمة بن عمار ، عن أبي النجاشي ، عن رافع بن خديج ، قال: سمعت النبي عليه السلام. ورواه الأوزاعي ، عن أبي النجاشي ، عن رافع بن خديج ، عن عمه ظهير بن رافع ، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال النسائي في سننه (2)

"أخبرنا محمد بن يحيى بن عبد الله، قال: حدثنا عبد الله بن حمد بن أسماء، عن جويرية، عن مالك، عن الزهري، أن سالم بن عبد الله، وذكره نحوه - يعني نحو حديث حماد بن يزيد، ويحيى بن سعيد، عن حنظلة بن قيس -.

(1) ج: 3. ص: 259. ح: 3394.

(2)

ج: 7. ص: 44.

ص: 945

أخبرنا عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد، قال: حدث أبي، عن جدي، قال: أخبرني عقيل بن خالد ، عن ابن شهاب ، قال: أخبرني سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر كان يكري أرضه ، وبلغه أن رافع بن خديج كان ينهى عن كراء

الأرض، فلقيه عبد الله فقال: يا ابن خديج ، ماذا تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض؟ فقال رافع لعبد الله: سمعت عمّي - وكانا قد شهدا بدرًا - يحدثان أهل الدار ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن

كراء الأرض)) . قال عبد الله: فلقد كنت أعلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأرض تكرى. ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث في ذلك شيئًا لم يكن يعلمه ، فترك كراء الأرض".

وقال الطحاوي (1)

"حدثنا نصر بن مرزوق ، وابن أبي داود ، قالا: حدثنا أبو صالح قال: حدثنا الليث قال: حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، قال: أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر ، أن أباه - يعني عبد الله بن عمر - كان يكري أرضه حتى بلغه أن رافع بن خديج كان ينهى عن كراء الأرض فلقيه وقال: يا ابن خديج ، ماذا تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض؟ فقال: سمعت عمي - وكان قد شهد بدرًا - يحدث أهل الدار ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء

الأرض)) . قال عبد الله: لقد كنت أعلم أن الأرض كانت تكرى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث في ذلك شيئًا لم يكن علمه فترك كراء الأرض".

وروى حديث رافع ، عن طريق أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر كل من أحمد ، والبخاري ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن حبان ، والطحاوي ، وابن عدي، وفيما يلي رواياتهم على اختلاف أسانيدها بألفاظها المتقاربة:

(1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 105.

ص: 946

قال أحمد في مسنده (1)

"حدثنا إسماعيل ، أنبأنا أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال:((قد علمت أن الأرض كانت تكرى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الأربعاء وشيء من التبن ، لا أدري كم هو ، وأن ابن عمر كان يكري أرضه في عهد أبي بكر وعهد عثمان وصدر إمارة معاوية ، حتى إذا كان في آخرها بلغه أن رافعًا يحدث في ذلك بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاه وأنا معه ، فسأله فقال: نعم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع)) فتركها ابن عمر فكان لا يكريها، فكان إذا سُئل يقول: زعم ابن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((نهى عن كراء المزارع)) .

وقال البخاري في صحيحه (2)

"حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد ، عن أيوب ، عن نافع ، أن ابن عمر رضي الله عنه كان يكري مزارعه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وصدرًا من إمارة معاوية ، ثم حدث عن رافع بن خديج ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع)) فذهب ابن عمر إلى رافع ، فذهبت معه فسأله فقال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع، فقال ابن عمر: قد علمت أنَّا كنا نكري مزارعنا على

عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الأربعاء وشيء من التبن".

وقال النسائي في سننه (3)

"أخبرنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال: حدثنا فضيل ، قال: حدثنا موسى بن عقبة ، قال: أخبرني نافع ، أن رافع بن خديج أخبر عبد الله بن عمر أن عمومته جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم رجعوا فأخبروا ((أن رسول الله

صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع)) ، فقال عبد الله: قد علمنا أنه كان صاحب مزرعة يكريها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن له ما على الربيع الساقي الذي يتفجر منه الماء وطائفة من التبن لا أدري كم هي.

(1)(1) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 118. ح: 376.

(2)

(2) ج: 3. ص: 72.

(3)

(3) ج:7. ص: 45.

ص: 947

أخبرني محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ، قال: حدثنا يزيد ، قال: أنبأنا ابن عون ، عن نافع ، قال: كان ابن عمر يأخذ كراء الأرض ، فبلغه عن رافع بن خديج شيء، فأخذ بيدي فمشى إلى رافع وأنا معه ، فحدثه رافع عن بعض عمومته ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) فترك عبد الله بعد.

أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك ، قال: حدثنا إسحاق الأزرق ، قال: حدثنا ابن عون ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كان يأخذ كراء الأرض حتى حدثه رافع عن بعض عمومته ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض فترك بعد)) .

وأخبر محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال: حدثنا يزيد ، وهو ابن زريع ، قال: حدثنا أيوب ، عن نافع ، ((أن ابن عمر كان يكري مزارعه ، حتى بلغه في آخر خلافة معاوية أن رافع بن خديج يُخبر فيه بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاه وأنا معه فسأله فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كراء المزارع، تركها ابن عمر بعد، فكان إذا سُئل عنها قال: زعم رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها)) .

وأخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم بن أعين ، قال: حدثنا شعيب بن الليث ، عن أبيه ، عن كثير بن فرقد ، عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يكري المزارع، فحدث أن رافع بن خديج ((يأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذلك. قال نافع: فخرج إليه على البلاط (1) وأنا معه فسأله فقال: نعم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع، فترك عبد الله كراءها)) .

وأخبرنا إسماعيل بن مسعود ، قال: حدثنا خالد - وهو ابن الحارث - قال: حدثنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، ((أن رجلًا أخبر ابن عمر أن رافع بن خديج يأثر في كراء الأرض حديثًا، فانطلقت معه أنا والرجل الذي أخبره ، حتى أتى رافعًا فأخبره رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض فترك عبد الله كراء الأرض)) .

(1) البلاط: بفتح الباء، وقيل: بكسرها، اسم موضع بالمدينة بين المسجد والسوق.

ص: 948

وأخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا أبي ، قال: حدثنا جويرية ، عن نافع ، ((أن رافع بن خديج حدث عبد الله ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع)) . أخبرنا هشام بن عمار قال: حدثنا يحيى بن حمزة ، قال: حدثنا الأوزاعي ، قال: حدثني حفص بن غياث ، عن نافع ، أنه حدثه ، قال: كان ابن عمر يكري أرضه ببعض ما يخرج منها ، فبلغه أن رافع بن خديج يزجر عن ذلك ، وقال: قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قال: كنا نكري الأرض قبل أن نعرف رافعًا ، ثم وجد في نفسه ، فوضع يده على منكبي حتى دفعنا إلى رافع ، فقال له عبد الله: أسمعت النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض؟ فقال رافع: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تكروا الأرض بشيء)) .

أخبرنا حميد بن مسعدة ، عن عبد الوهاب ، قال: حدثنا هشام ، عن محمد ونافع أخبراه عن رافع بن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) . رواه ابن عمر ، عن رافع بن خديج ، واختلف على عمرو بن دينار".

وقال ابن ماجه في سننه (1)

"حدثنا أبو كريب، حدثنا عبدة بن سليمان ، وأبو أسامة ، ومحمد بن عبيد ، عن عبيد الله - أو قال: عبد الله بن عمر - عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كان يكري أرضًا له مزارعًا ، فأتاه إنسان فأخبره عن رافع بن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع، فذهب ابن عمر وذهبت معه حتى أتاه بالبلاط ، فسأله عن ذلك ، فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع ، فترك عبد الله كراءها)) .

وقال ابن حبان في الإحسان (2)

"أورده ابن حبان تحت ترجمة (ذكر الخبر المصجد قول من زعم أن نافعًا لم يسمع هذا الخبر عن رافع بن خديج) .

(1) ج: 2. ص: 820. ح: 2453.

(2)

الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 314. ح: 5171.

ص: 949

أخبرنا الفضل بن الحباب ، قال: حدثنا مسدد ، عن مسرهد ، عن يزيد بن زريع ، قال: حدثنا أيوب ، عن نافع ، قال:((انطلق ابن عمر وانطلقنا معه حتى دخلنا على رافع بن خديج ، وقال له ابن عمر: إني نبئت أنك تحدث عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن كراء المزارع، قال: نعم، فكان ابن عمر إذا سُئل بعد ذلك يقول: حدثنا رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع)) .

وقال الطحاوي (1)

"حدثنا ربيع الجيزي ، قال: حدثنا حسان بن غالب ، قال: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن نافع ، أن رافع بن خديج أخبر ((أن عبد الله بن عمر وهو متكئ على بدني ، أن عمومته جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجعوا فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع ، فقال ابن عمر: قد علمنا أنه كان صاحب مزرعة يكريها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على أن له ما في الربيع الساقي الذي تفجر منه الماء وطائفة من التبن لا أدري ما التبن ما هو؟)) ".

وقال ابن عدي (2)

"حدثنا يحيى بن عيسى بن محمد الجيلاني بحمص ، حدثنا سعيد بن عمرو الكوفي وعطية بن بقية ، قالا: حدثنا بقية ، عن لوذان بن سليمان

وقدم لهذا الحديث بقوله: لوذان بن سليمان، حدث عنه بقية ، وهو مجهول ، وما رواه مناكير لا يتابع عليه ، وبعد أن روى حديثين آخرين عنه ، قال: وهذه ثلاثة أحاديث عن هشام بن عروة ، عن نافع ، لا يرويها عن هشام غير لوذان هذا ، وهو مجهول، وعن لوذان بقية ، ولا أعلم غير هذه الأحاديث ، وهشام بن عروة ، عن نافع عزيز جدًا ، وهذه الثلاثة أحاديث يرويها لوذان بن سليمان. وقال ابن حبان في (الثقات. ج:7. ص: 462) : لوذان بن سليمان يروي عن هشام بن عروة ، ويروي عنه بقية بن الوليد ، وقال محقق الثقات: زاد في "ظ" - إحدى نسخ الكتاب المخطوطة التي قابل بينها رضي الله عنهم أجمعين -. وقال الذهبي في (الميزان. ج: 3. ص: 319. الترجمة:6991) : لوذان بن سليمان شيخ لبقية. قال ابن عدي: مجهول ، وما رواه لا يتابع عليه ، وأسند له ثلاثة أحاديث.

(1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 111.

(2)

الكامل. ج: 6. ص: 2109.

ص: 950

وبقية الذي يروي عن لوذان هو بقية بن الوليد ، روى عنه البخاري في التاريخ ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، بذلك رمز ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج:1. ص:473) ، وساق اختلافًا بينهم فيه ما بين موثق بعامة وموثق في بعض مروياته ومتردد في توثيقه وغامز فيه. ولم أجد للوذان بن سليمان ذكرًا عند غير عدي وابن حبان، إلا ما كان من رواية ساقها الطبري في (تاريخه. ج:5. ص:399) وابن كثير في (البداية والنهاية. ج: 8. ص: 171) عن أبي مخنف حول خروج الحسين ، عليه السلام ، إلى العراق ، ورحبه مع جيش يزيد ، واستشهاده وكلاهما قال: "قال أبو مخنف" وعند الطبري: (فحدثني لوذان - أحد بنى عكرمة - أن أحد عمومته سأل الحسين عليه السلام: أين تريد" إلى آخر الخبر. وعند ابن كثير: "حدثني - بدون فاء - لوذان قال: حدثنى عكرمة - بدلًا من "أحد بنى عكرمة " عند الطبري - أنه أحد عمومته ، سأل الحسين: أين تريد" إلى آخر الخبر. وبقية عبارتهما تشبه أن يكون ابن كثير نقل عن الطبري،

ويتراءى لي أن عبارة ابن كثير هي الصحيحة ، وأن ما جاء في الطبري أو منسوبًا إليه من وصف لوذان من أنه من "أحد بني عكرمة" خطًا من الناسخ أو الطابع ، فلم أقف في (المظان) على جماعة أو عشيرة أو قبيلة ممن عرفوا في ذلك العصر تدعى "بني عكرمة" ، ولم يذكر كلاهما اسم والد لوذان ، وأميل إلى أنه هو لوذان بن سليمان ، وأنه كان شيعيًا ، ولعله أسهم في الدعوة إلى نحلته أو - على الأقل - في رواية أخبار الشيعة الأول. ذلك بأن أبا مخنف لوط بن يحيى

وصفوه بالضعف ، وقال عنه ابن عدي في (الكامل. ج:6. ص: 2610) : حدثنا محمد بن أحمد بن حماد ، حدثنا عباس ، عن يحيى ، قال: أبو مخنف ليس بشيء ، وهذا الذي قاله ابن معين يوافقه عليه الأئمة ، فإن لوط بن يحيى معروف بكنيته

وباسمه ، حدث بأخبار مَن تقدم مِن الصالحين ، ولا يبعد منه أن يتناولهم وهو شيعي محترق ، صاحب أخبارهم ، وإنما وصفته لأستغني عن ذكر حديثه ، فإني لا أعلم له من الأحاديث المسندة ما أذكره ، وإنما له من الأخبار المكروه الذي لا أستحب ذكره. قلت: يغفر الله لابن عدي ، فإن من أخبار أبي مخنف ما ينبغي لا أن يذكره فحسب، بل أن يستذكره المسلم المحب لآل البيت ، مثل ما يتصل بالحسين ، عليه السلام ، وما من مسلم صادق إلا وهو محب لآل البيت.

وقال الذهبي في (الميزان. ج: 3. ص: 419. الترجمة: 6992) : لوط بن يحيى أبو مخنف ، إخباري تالف لا يوثق به، تركه أبو حاتم وغيره. وقال الدارقطني: ضعيف.

ص: 951

وقال ابن معين: ليس بثقة، وقال مرة: ليس بشيء. وقال ابن عدي: شيعي محترق صاحب أخبارهم. قلت - القائل الذهبي -: روى عن الصعق بن زهير ، وجابر الجعفي ، ومجالد ، روى عنه المدائني وعبد الرحمن بن المغراء ، مات قبل السبعين ومائة. وقال ابن معين في (تاريخه. ج:2. ص: 500. الترجمة: 1358) : أبو مخنف ليس بشيء، أبو مخنف ليس بثقة، أبو مخنف وأبو مريم وعمرو بن شمر ليسوا هم بشيء، قلت ليحيى: هم مثل عمرو بن شمر؟ قال: هم شر من عمرو بن شمر. وقال الدارقطني في كتاب الضعفاء والمتروكين. ص: 146. الترجمة: 449: لوط بن يحيى الكوفي أبو مخنف ، إخباري ضعيف. ونقل العقيلي في كتاب الضعفاء والمتروكين. ج: 4. ص: 18 الترجمة: 1572: كلام يحيى بن معين ، ولم يعقب عليه بشيء ، لكن محقق الكتاب قال في التعليق عن الترجمة بعد أن نقل كلام الذهبي في الميزان: ولكن المستشرقين اهتموا به واحتضنوا مؤلفاته ، فحققوها ، ونشروها؛ ليجدوا ثغرة لإفراغ جهدهم في اتهام تراثنا التاريخي اتفاقًا إلى هز الثقة فيما نقل إلينا من نصوص السنة ، وهي المصدر الثاني للتشريع وأغلب هذه المؤلفات نشرت في ألمانيا وهولندا. ولم يرد له ذكر في كتب البخاري والنسائي وابن حبان عن الضعفاء. وذكر الذهبي في (المغني. ج: 2. ص: 535. الترجمتان: 5120 و5121) : كلا من لوذان ولوط ، ونقل كلام ابن عدي في لوذان ، ووصف لوطًا بأنه "ساقط ، تركه أبو حاتم ، وقال الدارقطني: ضعيف". ونعود إلى قول ابن عدي في ترجمة لوذان "وما رواه مناكير "

إلخ. فنشير إلى أن الظاهر من كلامه هو أنه يعتبر المنكر والشاذ والمنفرد واحدًا. وإلى ذلك ذهب بعض علماء الحديث، لكن الحافظ ابن حجر يقول في (النكت على كتاب ابن الصلاح. ج:2. ص: 675) بعد أن ذكر أقوالاً مختلفة في تحديد معنى "المنكر" من الحديث وأقسامه، وقد ذكر مسلم في مقدمة صحيحه ما نصه: وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت رواية للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضى خالفت روايته روايتهم ، لم تكد توافقها ، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك ، كان مهجور الحديث غير مقبولة ولا مستعملة.

ص: 952

قلت - القائل هو ابن حجر -: فالرواة الموصفون بهذا هم المتروكون، فعلى هذا رواية المتروك عند مسلم تسمى منكرة ، وهذا هو المختار. والله أعلم. وانظر في هذا الشأن مقدمة صحيح مسلم ، وتعليق النووي (شرح النووي لصحيح مسلم. ج:1. ص: 56 وما بعدها) . وحول وصف لوذان بأنه "مجهول نسوق ما ذكره الخطيب رحمه الله في (كتاب الكفاية في علم الرواية. ص: 142) إذ قال: المجهول عند أصحاب الحديث هو كل من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه ، ولا عرفه العلماء به ، ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد. قلت: يبدو لي مما تيسر من استقراء أمر لوذان ولوط بن يحيى أن المحدثين انصرفوا عنهما لتشيعهما ، وقد يكونان من دعاة الشيعة اعتمادًا على مبدأ عدم قبول حديث أهل الأهواء الذي أخذ به كثير من المحدثين لكن رفضه غيرهم ، وليس هذا مجال تفصيل أقوالهم ، بيد أننا ننقل عن الخطيب رحمه الله ما قاله في (المرجع السابق. ص: 201) من أن الذي يعتمد عليه في تجويز الاحتجاج بأخبارهم اشتهر من قبول الصحابة أخبار الخوارج وشهادتهم ومن جرى مجراهم من الفساق بالتأويل ، ثم استمرار عمل التابعين والخالفين بعدهم على ذلك ، لما رأوا من تحريهم الصدق ، وتعظيمهم الكذب ، وحفظهم أنفسهم عن المحظورات من الأعمال ، وإنكارهم على الريب والطرائق المذمومة روايتهم الأحاديث التي تخالف آراءهم ، ويتعلق بها مخالفوهم في الاحتجاج عليهم ، فاحتجوا برواية عمر بن حطان ، وهو من الخوارج ، وعمرو بن دينار ، وكان ممن يذهب إلى القدر والتشيع ، وكان عكرمة إباضيا ، وابن أبي نجيح وكان معتزليًا ، وعبد الوارث بن سعيد ، وشبل بن عباد ، وسيف بن سليمان ، وهشام الدستوائي ، وسعيد بن أبي عروبة ، وسلام بن مسكين ، وكانوا قدرية. وعلقمة بن مرثد ، وعمرو بن مرة ، ومسعر بن كدام ، وكانوا مرجئة ، وعبيد الله بن موسى ، وخالد بن مخلد ، وعبد الرزاق بن همام ، وكانوا يذهبون إلى التشيع ، في خلق كثير يتسع ذكرهم، دون أهل العلم - قديمًا وحديثًا - رواياتهم واحتجوا بأخبارهم ، فصار ذلك كالإجماع منهم ، وهو أكبر الحجج في هذا الباب ، وبه يقوى الظن في مقاربة الصواب.

قلت: وما الذي يميز لوذان عمن ذكر الخطيب ممن يذهب مذهب التشيع ، ولئن نقل بعض أخبار الشيعة فهو لم يشتهر في الدعوة لهم، ولئن اشتهر في الدعوة لهم فما الذي يمنع من قبول حديثه في غير ما له صلة بالتشيع؟ لقد آن الأوان لأن نعيد النظر في بعض قواعد الجرح والتعديل ذات العلاقة بالاعتبارات السياسية والجدلية والبعيدة عن التمحيص العلمي المجرد، فقد مضى بعيدًا ذلك الزمن الذي لم يستطع فيه نقاد الحديث

ص: 953

وضباط الأسانيد أن يتخلصوا من مؤثرات ما كانوا يعايشونه من أحداث من أن الحاجة إلى تجميع مواجد المسلمين توجب مراجعة ما من شأنه تعويض ذلك مما لا علاقة له بتحري الدقة في تحقيق نصوص الشريعة ، بل إن تخريج كثير من الأحكام الشرعية واستنباط الأحكام لما يستجد من الأحداث يقتضيان التعامل مع كل نص ، لا تحوم حوله شبهة إذا استبعدت الاعتبارات السياسية والجدلية. على أن حديث لوذان الذي أورده ابن عدي وعقب عليه ذلك التعقيب العجيب ليس غريبًا ، بل رواه بنفس اللفظ وبما يشاكله أو يقاربه عدد كبير من الرواة الموفقين أثبتنا رواياتهم بما يشبه الاستقراء في هذا البحث، ومن شأن هذا أن ينفي أية شبهة عن رواية لوذان ، وهذا شأن الحديثين الآخرين اللذين ساقهما ابن عدي عند الاستقراء والتمحيص. والله الموفق.

عن هشام بن عروة ، عن نافع ، أنه أخبرهم أن رافع بن خديج أخبر عبد الله ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع)) . والحديث الثاني الذي نقف عنده حديث جابر بن عبد الله الذي روي عنه من طرق متعددة مثل حديث رافع بن خديج. فمنها ما رواه كل من أحمد ، والحميدي ، والبخاري ، ومسلم ، والنسائي ، وابن ماجه ، والدارقطني ، وابن حبان ، والطحاوي ، وابن عدي ، عن طريق عطاء بن أبي رباح، وفيما يلي رواياتهم بأسانيدها المختلفة وعباراتها التي تكاد تكون متفقة.

قال أحمد في مسنده (1)

"حدثنا إسحاق بن يوسف، أنبأنا عبد الملك ، عن عطاء ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((من كانت له أرض فليزرعها، وإن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها فليمنحها أخاه المسلم ولا يؤاجرها)) .

وحدثنا أبو المغيرة ، ومحمد بن مصعب ، قالا: حدثنا الأوزاعي ، حدثني عطاء ، وقال ابن مصعب: عن عطاء بن أبي رباح ، عن جابر بن عبد الله ، قال:((كانت لرجال فضول أرضين ، فكانوا يؤجرونها على الثلث والربع والنصف ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه ، فإن أبى فليمسك أرضه....)) .

(1) الفتح الرباني. ج: 15 ص:117. ح: 375.

ص: 954

وقال الحميدي في مسنده (1)

"وحدثنا سفيان ، قال: حدثنا ابن جريج ، عن عطاء ، عن جابر بن عبد الله ، قال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمحاقلة والمخابرة ، وأن لا يباع الثمر حتى يبدو صلاحه ، وأن لا يباع إلا بالدينار والدرهم ، إلا أنه رخص في العرايا والمخابرة وكري الأرض على الثلث والربع ، والمحاقلة: بيع السنبل بالحنطة ، والمزابنة: بيع الثمر بالتمر)) .

وقال البخاري في صحيحه (2)

"حدثنا عبيد الله بن موسى ، أخبرنا الأوزاعي ، عن عطاء ، عن جابر رضي الله عنه قال:((كانوا يزرعون بالثلث والربع والنصف ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه، فإن لم يفعل فليمسك أرضه)) .

وقال مسلم في صحيحه (3)

"حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، ومحمد بن عبد الله بن نمير ، وزهير بن حرب ، قالوا جميعًا: حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن جابر بن عبد الله ، قال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة ، والمزابنة ، والمخابرة ، وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه ، ولا يباع إلا بالدينار والدرهم إلا العرايا)) .

وحدثنا عبد بن حميد، أخبرنا أبو عاصم ، أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء ، وأبي الزبير ، أنهما سمعا جابر بن عبد الله يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم

فذكر مثله.

وحدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ، أخبرني مخلد بن يزيد الجزري ، حدثنا ابن جريج ، أخبرنا عطاء ، عن جابر بن عبد الله ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة ، والمحاقلة ، والمزابنة ، وعن بيع الثمرة حتى تطعم ، ولا تباع إلا بالدراهم والدنانير إلا العرايا)) .

(1) ج: 2. ص: 540. ح: 1292.

(2)

ج: 3. ص: 72.

(3)

على هامش شرح النووي. ج:10. ص: 192 وما بعدها.

ص: 955

قال عطاء: فسر لنا جابر قال: أما المخابرة فالأرض البيضاء يدفعها الرجل إلى الرجل لينفق فيها ، ثم يأخذ من الثمر ، وزعم أن المزابنة بيع الرطب في النخل بالثمر كيلًا ، والمحاقلة في الزرع على نحو ذلك بيع الزرع القائم بالحب كيلًا.

وحدثنا إسحاق بن إبراهيم ، ومحمد بن أحمد بن أبي خلف، كلاهما عن زكرياء، قال ابن أبي خلف: حدثنا زكرياء بن عدي ، أخبرنا ابن عبيد الله ، عن زيد بن أبي أنيسة ، حدثنا أبو الوليد المكي ، وهو جالس عند عطاء بن أبي رباح ، عن جابر بن عبد الله ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة ، والمزابنة ، والمخابرة ، وأن تشترى النخل حتى تشقه ، والإشقاه أن يحمر أو يصفر أو يأكل منه شيء)) والمحاقلة: أن يباع الحقل بكيل من الطعام معلوم ، والمزابنة: أن يباع النخل بأوساق من التمر ، والمخابرة: الثلث والربع وأشباه ذلك. قال زيد: قلت لعطاء بن أبي رباح: أسمعت جابر بن عبد الله يذكر هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.

وحدثني إسحاق بن منصور ، حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد ، حدثنا رباح بن أبي معروف ، قال: سمعت عطاء ، عن جابر بن عبد الله ، قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض ، وعن بيعها السنين ، وعن بيع الثمر حتى

يطيب)) .

ص: 956

وحدثني أبو كامل الجحدري ، حدثنا حماد، يعني ابن زيد، عن مطر الوراق قال ابن حبان في (كتاب الثقات. ج:5. ص: 435) : مطر بن طهمان الوراق ، مولى علياء السلمي ، كنيته أبو رجاء ، أصله من خراسان ، سكن البصرة ، يروي عن أنس بن مالك ، وربما أخطأ، روى عنه حماد بن زيد ، وهشام الدستوائي ، مات قبل الطاعون سنة خمس وعشرين ومائة ، وأوصى إلى فرقد السبخي ، وكان قتادة قد أوصى إلى مطر ، ويقال: إنه مات سنة تسع وعشرين ومائة ، وكان معجبًا بروايته ، وقد حدثنا محمد بن أحمد ، قال: حدثنا محمد بن نصر الفراء ، قال: حدثنا أحمد بن حنبل ، قال: حدثنا حجاج ، قال: سمعت شعبة يقول: مطر الوراق هؤلاء لا يحسنون يحدثون. وذكر الرازي (الجرح والتعديل. ج: 8. ص: 287 و288. الترجمة: 1319) : أن أبا زرعة قال: روايته من أنس مرسل لم يسمع مطر عن أنس شيئًا ، ونقل روايات عن أحمد ، أن يحيى بن القطان يضعف حديثه عن عطاء ، ويشبهه بابن أبي ليلى في سوء الحفظ ، وكان ذلك أيضًا رأي أحمد فيه حسب ما يروي عنه ابنه.

وروى ابنه أيضًا عن يحيى بن معين أنه قال: إنه ضعيف فى حديث عطاء ، لكن روى الرازي عن أبيه ، عن إسحاق بن منصور ، عن يحيى بن معين ، أنه قال: مطر الوراق صالح الحديث. قلت: لم أجد في تاريخ يحيى بن معين ما نقل عنه الرازي ، عن أبيه ، أو عن أحمد ، والترجمة الواردة له فيه (تاريخ ابن معين. ج:2. ص: 568) : مطر بن طهمان السلمي أبو رجاء. مطر بن طهمان أبو رجاء. مطر الوراق هو مطر بن طهمان. ثم نقل عنه أثرًا فقال: حدثنا العباس ، قال: حدثنا أبو إسحاق الطالقاني ، قال: حدثنا ضمرة ، عن ابن شوذب ، عن مطر ، قال: مثل الذي يروي عن عالم واحد مثل رجل له امرأة واحدة إذا حاضت بقي. وذكره العجلي (معرفة الثقات. ج: 2. ص: 181. الترجمة: 1736) فقال: مطر الوراق بصري صدوق ، وقال مرة: لا بأس به. وترجم البخاري في (التاريخ الكبير. ج: 7. ص:400. الترجمة: 1752) فقال: مات قبل الطاعون. وترجم له ابن القيسراني (الجمع بين كتابي أبي نصر الكلاباذي وأبي بكر الأصبهاني. ج:2. ص:526. ترجمة:2050) ونقل عن عمرو بن علي قوله: مات سنة تسع عشرة ومائة. وترجم له ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج:10. ص: 167. ترجمة: 316) فذكر أن البخاري روى عنه في الصحيح مرتين تعليقًا ، وأورد روايات في تاريخ وفاته، ثم قال في آخر الترجمة:"وقرأت في تذكرة ابن حمدون أن المنصور قتله". فعلى هذا يكون تأخرت وفاته إلى قرب الأربعين ومائة. لكن الذهبي (سير أعلام النبلاء. ج:5. ص:452. ترجمة:202) وصفه في صدر ترجمته له بقوله: "الإمام الزاهد الصادق ، أبو رجاء بن طهمان الخراساني ، نزيل البصرة ، مولى علياء بن أحمد اليشكري، كان من العلماء العاملين ، وكان يكتب المصاحف ويتقن ذلك. وروى عن أنس بن مالك ، والحسن ، وابن بريدة ، وعكرمة ، وشهر بن حوشب ، وبكر بن عبد الله ، وطائفة. حدث عنه شعبة ، والحسين بن واقد ، وإبراهيم بن طهمان ، وحماد بن زيد ، وعبد العزيز بن عد الصمد العمي ، وآخرون، وغيره أتقن للرواية منه ، لا ينحط حديثه عن رتبة الحسن ، وقد احتج به مسلم. وبعد أن أورد أقاويل الناس فيه ما بين مضعف وموثق ، قال: يقال: توفي مطر الوراق سنة تسع وعشرين ومائة. قلت: يتضح من قوله: "الإمام الصادق" وقوله: "لا ينحط حديثه عن رتبة الحسن" وقد احتج به مسلم أنه يوثقه وليس بعد قول الذهبي قول.

ص: 957

عن عطاء ، عن جابر بن عبد الله ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) .

وحدثنا عبد بن حميد ، حدثنا محمد بن الفضل، لقبه عارم ، وهو أبو النعمان السدوسي ، حدثنا مهدي بن ميمون ، حدثنا مطر الوراق ، عن عطاء ، عن جابر بن عبد الله ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له أرض فليزرعها ، فإن لم يزرعها فليزرعها أخاه)) .

حدثنا الحكم بن موسى ، حدثنا هقل، يعني ابن زياد، عن الأوزاعي ، عن عطاء ، عن جابر بن عبد الله ، قال:((كان لرجل فضول أرضين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له فضل أرض فليزرعها ، أو ليمنحها أخاه ، فإن أبى فليمسك أرضه)) .

وحدثني محمد بن حاتم ، حدثنا معلى بن منصور الرازي ، حدثنا خالد ، أخبرنا الشيباني ، عن بكير بن الأخنس ، عن عطاء ، عن جابر بن عبد الله ، قال:((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ للأرض أجر)) .

حدثنا ابن نمير ، حدثنا ابن أًُبي ، حدثنا عبد الملك ، عن عطاء ، عن جابر ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له أرض فليزرعها ، فإن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها فليمنحها أخاه المسلم ، ولا يؤاجرها إياه)) .

وحدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا همام ، قال: سأل سليمان بن موسى عطاء ، فقال:((أحدثك جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكريها؟ قال: نعم)) .

وقال النسائي في سننه (1)

"حدثنا إسماعيل بن مسعود ، قال: حدثنا خالد بن الحارث قال: حدثنا عبد الملك ، عن عطاء ، عن جابر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((من كان له أرض فليزرعها ، فإن عجز أن يزرعها فليمنحها أخاه المسلم ولا يزرعها إياه)) .

أخبرنا عمرو بن علي ، قال: حدثنا يحيى ، حدثنا عبد الملك ، عن عطاء ، عن جابر ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه ولا يكريها)) .

وأخبرنا هشام بن عمار ، عن يحيى بن حمزة ، قال: حدثنا الأوزاعي ، عن عطاء ، عن جابر ، قال:((كان لأناس فضول أرضين يكرونها بالنصف والثلث والربع. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أو يمسكها)) .

(1) ج: 7. ص: 36.

ص: 958

أخبرنا عيسى بن محمد ، وهو أبو عمير بن نحاس ، وعيسى بن يونس ، هو الفاخوري ، قال: حدثنا ضمرة بن شوذب ، عن مطر ، عن عطاء ، عن جابر بن عبد الله ، قال: ((خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من كانت له أرض

فليزرعها أو ليزرعها ولا يؤاجرها)) .

وافقه عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج على النهى عن كراء الأرض. أخبرنا قتيبة قال: حدثنا المفضل ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، وأبي الزبير ، عن جابر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة ، والمزابنة ، والمحاقلة ، وبيع الثمر حتى يطعم إلا العرايا)) .

أخبرني زياد بن أيوب ، قال: حدثنا عباد بن العوام ، قال: حدثنا سفيان بن حسين ، قال: حدثنا يونس بن عبيد ، عن عطاء ، عن جابر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة ، والمزابنة ، والمخابرة ، وعن الثنيا إلا أن تعلم)) . وفي رواية همام بن يحيى كالدليل على أن عطاء لم يسمع من جابر

ترجم له يحيى بن معين (التاريخ. ج:2. ص: 402) . فقال: كان عطاء بن أبي رباح معلم كتاب. اسم أبي رباح: أسلم، كان عطاء أسود. حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، قال: لم يسمع عطاء عن ابن عمر ، رآه رؤية. وقال الرازي (الجرح والتعديل. ج:6. ص:330. الترجمة: 1839) : اسم أبي رباح أسلم ، مولى أبي خثيم القرشي الفهري ، أبو محمد المكي ، رأى عقيل بن أبي طالب ، وروى عن أبي هريرة ، وابن عباس ، وجابر بن عبد الله ، ورافع بن خديج ، وجابر بن عمير ، وعائشة ، ومعاوية بن أبي سفيان. ونقل الرازي عن أبي زرعة سماع عطاء عن عائشة. كما نقل عنه ما يشبه إثبات سماعه عن ابن عمر ، وترجم له ابن حبان (الثقات. ج:5. ص: 198) فقال: مولده بالجند من اليمن بمكة ، وكان أسود أعور أشل أعرج ، ثم عُمي في آخر عمره ، وكان من سادات التابعين فقهًا وعلمًا وورعًا وفضلاً، لم يكن له فراش، إلا المسجد الحرام ، إلى أن مات سنة أربع عشرة ومائة ، وقد قيل: إنه مات سنة خمس عشرة ومائة، كان مولده سنة سبع وعشرين.

ص: 959

وقال عنه العجلي (معرفة الثقات. ج: 2. ص: 135 الترجمة: 236) : مكي تابعي ثقة ، وكان مفتى أهل مكة في زمنه. ونقل ابن سعد في (الطبقات الكبرى. ج:5. ص: 467 وما بعدها) وصفه أنه أعلم الناس بالمناسك والبيوع ، وأنه كان لا يفتر عن ذكر الله والناس يخوضون ، فإن تكلم أو سُئل عن شيء أحسن الجواب ، وحدث في مجلسه رجل بحديث ، فاعترضه رجل آخر ، فغضب عطاء ، فقال: ما هذه الأخلاق؟! ما هذه الطباع؟! والله إن الرجل ليحدث بالحديث لأنا أعلم به منه ، ولعسى أن يكون سمعه مني ، فأنصت إليه وأريه كأني لم أسمعه قبل ذلك. قال: وقال سفيان بن عيينة ، والفضل بن دكين ، ومحمد بن عمر: مات عطاء بمكة سنة خمس عشرة ومائة. وقال محمد بن عمر: وكان له يوم مات ثمان وثمانون سنة ، ثم قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي ، قال: حدثنا أبو المليح ، قال: مات عطاء سنة أربع عشر ومائة. وذكره خليفة (الطبقات. ص: 280) لكنه قال: إن أباه مولى لبني جمح ، ويقال: لبني فهر، مات سنة سبع عشرة. وترجم له البخاري (التاريخ الكبير. ج:6. ص: 463. الترجمة: 2969) فقال: أبو محمد مولى آل أبي خثيم القرشي الفهري الملكي.

ثم قال: قال حيوة بن شريح ، عن عباس بن الفضل ، عن حماد بن سلمة: قدمت مكة سنة مات عطاء سنة أربع عشرة ومائة. وقال أبو نعيم: مات سنة خمس عشرة ومائة ، سمع أبا هريرة ، وابن عباس ، وأبا سعيد ، وجابرًا وابن عمر، رضي الله عنهم. وقال الذهبي (سير أعلام النبلاء. ج:5. ص: 78 وما بعدها. ترجمة: 29) : يقال: ولاؤه لبني جمح ، كان من مولدي الجند ، ونشأ في مكة ، ولد في خلافة عثمان، حدث عن عائشة ، وأم سلمة ، وأم هانئ ، وابن عباس ، وحكيم بن حزام ، ورافع بن خديج ، وزيد بن أرقم ، وزيد بن خالد الجهني ، وصفوان بن أمية ، وأبي الزبير ، وعبد الله بن عمرو ، وابن عمر ، وجابر ، ومعاوية ، وأبي سعيد ، وعدة من الصحابة ، وأرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وعتاب بن أسيد ، وعثمان بن عفان ، والفضل بن عباس ، وطائفة. ثم قال بعد أن ذكر لطائفة من مشايخه التابعين وتلاميذه، قال أبو داود: أبو نوبي ، وكان يعمل المكاتل ، وكان عطاء أعور أشل أفطس أعرج أسود ، قال: وقطعت يده مع ابن الزبير.

ص: 960

ثم قال: وقال أبو عاصم الثقفي: سمعت أبا جعفر الباقر يقول للناس وقد اجتمعوا: عليكم بعطاء ، هو والله خير مني. وعن أبي جعفر قال: خذوا من عطاء ما استطعتم. وبعد أن ذكر طرفًا مما روي عن شدة إيمانه وغزارة علمه ، قال: قال الأصمعي: دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك وهو جالس على السرير وحوله الأشراف ، وذلك في وقت حجه في خلافته ، فلما بصر به عبد الملك قام إليه فسلم عليه وأجلسه معه على السرير ، وقعد بين يديه ، وقال: يا أبا محمد ، حاجتك؟ قال: أمير المؤمنين ، اتق الله في حرم الله وحرم رسوله ، فتعاهده بالعمارة ، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار ، فإنك بهم جلست هذا المجلس ، واتق الله في أهل الثغور ، فإنهم حصن المسلمين ، وتفقد أمور المسلمين ، فإنك وحدك المسؤول عنهم ، واتق الله فيمن على بابك ، فلا تغفل عنهم ولا تغلق دونهم بابك ، فقال له: أفعل. ثم نهض وقال: فقبض عليه عبد الملك وقال: يا أبا محمد ، إنما سألتنا حوائج غيرك وقد قضيناها ، فما حاجتك؟ قال: ما لي إلى مخلوق حاجة، ثم خرج فقال عبد الملك: هذا وأبيك الشرف، هذا وأبيك السؤدد. في آثار وأخبار غريبة وكثيرة عنه.

وترجم له في (تذكرة الحفاظ. ج:1. ص: 91. الترجمة:90) وفي (ميزان الاعتدال. ج:3. ص:70. الترجمة: 5640) وفيه نقل عن يحيى القطان قوله: مرسلات مجاهد أحب إلينا من مرسلات عطاء ، يأخذ كل من ضرب. وقال أحمد: ليس في المرسل أخف من مرسل الحسن وعطاء ، كانا يأخذان من كل أحد. وأسند إلى علي بن المديني القول بأن ابن جريج وقيس بن سعد تخليا عن عطاء لآخرة. قلت: رحم الله القطان وأحمد ، ليس بعد مقالهما مقال لقائل، لكن في النفس شيء من حديثهما عن عطاء والحسن ، فإن يكن أبو محمد والحسن لا يتخيران من يأخذان عنه ، فما من شك في أنهما كانا يتخيران ما يأخذان ينخلانه ويمحصانه ، ومثلهما في علمهما وتقواهما من ينتهي إليه في التوثيق ، فإن لم يكن في توثيق الرجال ، ففي توثيق نقله ، أما نحن فنتقرب إلى الله - ونرجو أن يتقبل - بالأخذ بكل ما رواه عطاء والحسن ، إلا أن يثبت لدينا ما يخالف روايتهما ، ولا نحسب إلا أنه لم يبلغهما رحمهما الله رحمة واسعة. وانظر ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج:7. ص: 199. الترجمة: 384) .

ص: 961

حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان له أرض فليزرعها".

أخبرني أحمد بن يحيى ، قال: حدثنا أبو نعيم ، قال: حدثنا همام بن يحيى ، قال: سأل عطاء سليمان بن موسى ، قال: حدث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكريها أخاه)) .

وقال ابن ماجه في سننه (1)

"حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني عطاء قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: ((كان لرجال منا فضول أرضين يؤاجرونها على الثلث والربع ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من كانت له فضول أرضين فليزرعها أو ليزرعها أخاه ، فإن أبى فليمسك أرضه)) .

وحدثنا عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار الحمصي ، حدثنا ضمرة بن ربيعة ، عن ابن شوذب ، عن مطرف ، عن عطاء ، عن جابر بن عبد الله ، قال:((خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها ولا يؤاجرها)) .

وقال الدارقطني في سننه (2)

"حدثنا ابن صاعد ، ومحمد بن هارون الحضرمي ، وأحمد بن علي بن العلاء ، والقاضي الحسين بن إسماعيل ، وأحمد بن الحسين بن الجنيد ، قالوا: أخبرنا زياد بن أيوب ، أخبرنا عباد بن العوام، أخبرني سفيان بن حسين ، عن يونس بن عبيد ، عن جابر ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة ، والمزابنة ، والمخابرة ، وعن الثنيا ، إلا أن يعلم)) .

وقال ابن حبان (3)

"أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم ، قال: حدثنا محمد بن إبراهيم ، قال: حدثنا الوليد ، قال: حدثنا الأوزاعي ، قال: حدثني عطاء ، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: ((كانت لرجال منا فضول أرضين يؤاجرونها على الثلث والربع والنصف وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له فضول أرضين فليزرعها أو ليزرعها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه)) .

قال أبو حاتم رضي الله عنه: قوله: ((ليزرعها أخاه)) يريد به: فليمنحها أخاه ، ولو كان ذلك للزراعة نفسها لم يكن لقوله:((أو ليزرعها)) معنى؛ لأنهم كانوا يزارعون على الثلث والربع والنصف على ما في الخبر.

وأخبرنا الحسن بن سفيان ، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء ، قال: حدثني مهدي بن ميمون ، قال: حدثنا مطر الوراق ، عن عطاء ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((من كانت له أرض فليزرعها ، فإن عجز عنها فليمنحها أخاه)) .

(1) ج: 2. ص: 819 و 820. ح: 2451 و2454.

(2)

ج: 3. ص: 48. ح: 200.

(3)

الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 312 و313. ح: 5166 و5167.

ص: 962

وقال الطحاوي (1)

"حدثنا ربيع المؤذن ، قال: حدثنا بشر بن بكير ، قال: حدثني عطاء بن أبي رباح ، عن جابر بن عبد الله ، قال:((كان لرجال منا فضول أرضين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانوا يؤاجرونها على النصف والثلث والربع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنح أخاه ، فإن أبي فليمسك)) .

وحدثنا ابن مرزوق ، قال: حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج ، قال: حدثنا عطاء ، عن جابر

مثله.

وحدثنا سليمان بن شعيب ، قال: حدثنا الخصيب ، قال: حدثنا همام ، قال: قيل لعطاء: هل حدثك جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يؤاجرها؟)) قال عطاء: نعم.

وحدثنا محمد بن خزيمة ، قال: حدثنا عبد الله بن رجاء ، قال: قال: حدثنا همام ، قال: سأل سليمان بن موسى عطاء وأنا شاهد، ثم ذكر بإسناده مثله.

وحدثنا إبراهيم بن أبي داود ، قال: حدثنا خطاب بن عثمان الفوزي ، قال: حدثنا ضمرة ، عن ابن شوذب ، عن مطر ، عن عطاء ، عن جابر بن عبد الله ، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

وذكر مثله.

وحدثنا ربيع المؤذن ، قال: حدثنا سعيد بن عفير ، قال: حدثنا يحيى بن أيوب ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، وأبي الزبير ، عن جابر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

مثله.

(1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 107.

ص: 963

وقال ابن عدي (1)

"أخبرنا ابن أبي سويد، حدثنا عبد الله بن رجاء، أنبأنا همام ، أن عطاء سأله سليمان بن موسى سليمان بن موسى: في أحاديث شتى أوردها بعد أن ترجم له أعقبها في نهاية الترجمة بقوله: ولسليمان بن موسى أورد له ابن عدي أحاديث شتى منها هذا الحديث، ثم أعقبها بقوله كذا: غير ما ذكرته من الحديث ، وهو فقيه راوٍ، حدث عنه الثقات من الناس ، وهو أحد علماء الشام ، وقد روى أحاديث ينفرد بها لا يرويها غيره ، وهو عندي ثبت صدوق. وذكر ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج: 4. ص: 226. ترجمة: 377) ، فأشار إلى أنه أخرج له البيهقي والأربعة ، وأورد توثيقه ، ووصفه بالعلم عن جماعة ، وعن ابن معين أنه وصف حديثه عن مالك بن مخامر وعن جابر بأنه مرسل ، وأورد عن آخرين وصفه بالإرسال ، وبأنه لم يدرك بعض من أسند إليهم ، ونقل عن ابن حاتم: محله الصدق ، وفي حديثه بعض الاضطراب ، ولا أعلم أحدًا من أصحاب مكحول أفقه ولا أثبت منه. قلت: قال البخاري (في الضعفاء الصغير. ص: 109. ترجمة: 146) سليمان بن موسى الدمشقي، ويقال: كنيته أبو أيوب ، سمع عطاء ، وعمرو بن شعيب. ثم أشار إلى حديث له عن الزهري: "لا نكاح إلا بولي" ثم نقل عن ابن جريج قوله: سألت الزهري فلم يعرفه. قال ابن جريج: وكان سليمان بن موسى يثني عليه. ثم قال البخاري: عنده مناكير. وقال النسائي في (كتاب الضعفاء والمتروكين. ص: 122 الترجمة: 867) : سليمان بن موسى الدمشقي أحد الفقهاء ليس بالقوي في الحديث. وذكره الذهبي في (الميزان. ج: 2. ص: 225 و226. الترجمة: 318) وبعد أن أورد أقوالهم فيه وأحاديث ممن انتقدوه بشأنها ، قال: قلت: سليمان فقيه أهل الشام في وقته قبل الأوزاعي ، وهذه الغرائب التي تستنكر له يجوز أن يكون حفظها. وأنا شاهد ، حدثك جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكريها؟)) قال عطاء: نعم.

وحدثك جابر ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن ينبذ البسر والثمر جميعًا والزبيب والثمر جميعا)) ؟ قال: نعم.".

وعن طريق سعيد بن ميناء روى حديث جابر كل من أحمد ، ومسلم ، وابن حبان ، والطحاوي ، وابن الجارود.

(1) الكامل. ج: 3. ص: 118.

ص: 964

قال أحمد (1)

"حدثنا عفان ، حدثنا سليم بن حيان ، حدثنا سعيد بن ميناء ، عن جابر بن عبد الله قال:((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان له فضل أرض أو ماء فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا تبيعوها، فسألت سعيدًا: ما (لا تبيعوها؟) الكراء؟ قال: نعم)) .

وقال مسلم في صحيحه (2)

"حدثنا عبد الله بن هاشم ، حدثنا بهز ، حدثنا سليم بن حيان، حدثنا سعيد بن ميناء ، عن جابر بن عبد الله:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة ، والمحاقلة ، والمخابرة ، وعن بيع الثمرة حتى تشقح)) قال: قلت لسعيد: ما تشقح؟ قال: تحمار وتصفار ويؤكل منها.

وحدثنا عبيد الله القواريري ، ومحمد بن عبيد الغبري ، واللفظ لعبيد الله ، قالا: حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا أيوب ، عن أبي الزبير ، وسعيد بن ميناء ، عن جابر بن عبد الله قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة ، والمزابنة

، والمعاومة ، والمخابرة - قال أحدهما: بيع السنين هي المعاومة - وعن الثنيا ورخص في العرايا)) .

وحدثني حجاج بن الشاعر ، حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد ، حدثنا سليم بن حيان ، حدثنا سعيد بن ميناء ، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان له فضل أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا تبيعوها)) . فقلت لسعيد: ما قوله: لا تبيعوها؟ يعني الكراء؟ قال: نعم.

وقال ابن حبان (3)

"أخبرنا الحسين بن عبد الله القطان بالرقة ، قال: حدثنا حكيم بن سيف الرقي قال: حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن أبي الوليد المكي ، عن جابر بن عبد الله ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة ، والمزابنة ، والمخابرة ، وأن يباع النخل حتى يشقح ، والإقشاح أن تحمر أو تصفر ، ويطعم منه شيء. قال زيد: فقلت لعطاء: أسمعت هذا من جابر بن عبد الله ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم)) . قال أبو حاتم: أبو الوليد اسمه سعيد بن ميناء المكي".

(1) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 117. ح: 375.

(2)

على هامش شرح النووي. ج:10. ص: 192 وما بعدها.

(3)

الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 313. ح: 5169.

ص: 965

وقال الطحاوي (1)

"وحدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال: حدثنا أبو داود ، عن سليم بن حيان ، عن سعيد بن ميناء ، عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((من كان له فضل ماء أو فضل أرض فليزرعها أو يزرعها ولا تبيعوها)) قال

سليم: فقلت لهم: يعني الكراء؟ قال: نعم.

وقال ابن الجارود (2)

"حدثنا محمد بن يحيى ، قال: حدثنا أبو النعمان ومسدد ، قالا: حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي الزبير ، وسعيد بن ميناء ، عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة ، والمزابنة ، والمخابرة ، والمعاومة - وقال: الآخر بيع السنين - وعن الثنيا ورخص في العرايا)) .

وروى حديث جابر عن طريق عمرو بن دينار كل من مسلم ، والحميدي ، والنسائي ، والطحاوي.

قال مسلم في صحيحه (3)

" حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن جابر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة)) .

وقال الحميدي في مسنده (4)

"وحدثنا سفيان ، قال: حدثنا عمرو بن دينار ، قال: قال جابر بن عبد الله: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة)) قال سفيان: وكل شيء سمعته من عمرو بن دينار قال لنا فيه: سمعت جابرًا، إلا هذين الحديثين، يعني: لحوم الخيل، والمخابرة، فلا أدري بينه وبين جابر فيهما أحد أم لا".

(1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 107.

(2)

المنتقى. ص: 205. ح: 598.

(3)

على هامش شرح النووي. ج:10. ص: 192 وما بعدها.

(4)

ج:2. ص: 529. ح: 1255.

ص: 966

وقال النسائي في سننه (1)

"حدثنا حرمي بن يونس، قال: حدثنا عارم ، قال: حدثنا حماد بن زيد ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن عبد الله ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) .

أخبرني محمد بن عامر ، قال: حدثنا شريح ، قال: حدثنا محمد بن مسلم ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر ، قال:((نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة ، والمحاقلة ، والمزابنة)) .

جمع سفيان بن عيينة حديثين فقال عن ابن عمر وجابر:

أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن ، قال: حدثنا ابن المسور ، قال: حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عمر وجابر:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع التمر حتى يبدو صلاحه ، ونهى عن المخابرة كراء الأرض بالثلث أو الربع)) . رواه أبو النجاشي واخلتف عليه فيه"

وقال الطحاوي (2)

"حدثنا فهد ، قال: حدثنا ابن أبي مريم ، قال: أخبرنا ابن مسلم الطائفي ، قال: أخبرني إبراهيم بن ميسرة ، قال: أخبرني عمرو بن دينار ، عن جابر بن عبد الله قال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة ، والمحاقلة، والمخابرة على الثلث والربع والنصف من بياض الأرض، والمزابنة: بيع الرطب في رؤوس النخل بالثمر، وبيع العنب في الشجر بالزبيب ، والمحاقلة: بيع الزرع قائمًا هو على أصوله بالطعام)) .

وروى حديث جابر عن طريق أبي الزبير المكي كل من أحمد ، وأبو حنيفة ، ومسلم ، والترمذي ، وابن ماجه ، وابن حبان ، والرامهرمزي ، والطحاوي.

قال أحمد في مسنده (3)

"حدثنا حسن ، حدثنا زهير ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال:((كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنصيب من القصري ، ومن كذا ، فقال: من كانت له أرض فليزرعها أو ليحرثها أخاه وإلا فليدعها)) .

(1) ج: 7. ص: 48.

(2)

معاني الآثار. ج: 4. ص: 111

(3)

الفتح الرباني. ج: 15. ص: 116. ح: 371.

ص: 967

وقال أبو حنيفة في إسناده عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي (1)

عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ((نهى عن المزابنة والمحاقلة)) .

وقال مسلم في صحيحه (2)

"حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وعلي بن حجر ، قالا: حدثنا إسماعيل - وهو ابن علية - عن أيوب ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم

بمثله، غير أنه لا يذكر بيع السنين هي المعاومة.

وحدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا زهير ، حدثنا أبو الزبير ، عن جابر قال:((كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنصيب من القصري ومن كذا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو فليحرثها أخاه وإلا فليدعها)) .

وحدثني أبو الطاهر ، وأحمد بن عيسى ، جميعًا عن ابن وهب، قال ابن عيسى: حدثني عبد الله بن وهب ، حدثني هشام بن سعد ، أن أبا الزبير المكي حدثه ، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم

نأخذ الأرض بالثلث والربع بالماذيانات ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال:((من كانت له أرض فليزرعها ، فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه، فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها)) .

وقال أبو عيسى (3)

"حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الوهاب الثقفي ، حدثنا أيوب ، عن أبي الزبير ، عن جابر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومة، ورخص في العرايا)) . وتعقبه بقوله: حديث

حسن صحيح".

وقال ابن ماجه في سننه (4)

"حدثنا أزهر بن مروان ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي الزبير ، وسعيد بن ميناء ، عن جابر بن عبد الله ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة)) .

(1) مسند أبي حنيفة. ص: 171.

(2)

على هامش شرح النووي. ج: 10 ص: 192 وما بعدها.

(3)

الجامع الصحيح. ج: 3. ص: 605. ح: 1313.

(4)

ج: 2. ص: 762. ح: 2265.

ص: 968

وقال ابن حبان (1)

"أخبرنا أبو يعلى ، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم المروزي ، قال: أخبرنا يحيى بن سليم ، عن ابن خثيم ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لم يذر المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله)) . هو إسحاق بن أبي إسرائيل".

وقال الرامهرمزي (2)

"حدثني أبي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا يحيى بن معين ، حدثنا عبد الله بن رجاء، قال: ابن خثيم حدثنا، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله)) .

وقال الطحاوي (3)

"حدثنا ابن أبي داود ، قال: حدثنا يحيى بن معين ، قال: حدثنا عبد الله بن رجاء ، قال: ابن خثيم حدثني، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله عز وجل) .

حدثنا فهد ، قال: حدثنا محمد بن السعيد ، قال: أخبرنا يحيى بن سليم الطائفي ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، فذكر بإسناده مثله، وزاد:((من الله ورسوله)) .

وحدثنا يونس ، قال: أخبرنا ابن وهب ، قال: أخبرني هشام بن سعد ، أن أبا الزبير المكي حدثه قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: ((كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نأخذ الأرض بالثلث والربع وبالماذيانات ، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك)) .

(1) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 317. ح: 5177.

(2)

المحدث الفاضل. ص: 486. ح: 594.

(3)

معاني الآثار. ج: 4. ص: 107 و108.

ص: 969

وحدثنا يونس ، قال: حدثنا عبد الله بن نافع المدني ، عن هشام بن سعد ، عن أبي الزبير المكي ، عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن رجالاً يكرون مزارعهم بنصف ما يخرج منها وبثلثه وبالماذيانات، فقال في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم:((من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه فإن لم يفعل فليمسكها)) .

وحدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني هشام بن سعد ، أن أبا الزبير المكي حدثه ، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: ((كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نأخذ الأرض أو الربع "بالماذيانات" فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك)) .

وحدثنا سليمان بن شعيب ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زياد ، قال: حدثنا زهير بن معاوية ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال:((كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنصيب كذا وكذا ، فقال: من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه وإلا فليزرعها)) .

وروى الطحاوي حديث جابر عن طريق واسع بن حبان فقال (1)

"حدثنا ابن أبي داود ، قال: حدثنا الوهبي ، قال: حدثنا ابن إسحاق ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عمه واسع بن حبان (2)

عن جابر بن عبد الله قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة)) .

(1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 112.

(2)

واسع بن حبان المازني المدني روى عن رافع بن خديج وعبد الله بن عمر وأبي سعيد وجابر وآخرين روى عنهم ابن حبان وابن أخيه محمد بن يحيى. قال عنه أبو زرعة: مدني ثقة. (الجرح والتعديل. ج: 9. ص: 48. الترجمة:204) . قال ابن حبان (الثقات. ج: 5. ص: 498 و499) : أمه هند بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. وقال ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج: 11. ص: 102. ترجمة: 125) : بعد أن أورد كلام أبي زرعة وابن حبان ذكره البغوي في الصحابة وقال: في صحبته مقال. وقال العجلي: مدني ثقة. انظر العجلي (معرفة الثقات. ج: 2. ص: 338. الترجمة: 1925) وزعم العبدوي أنه شهد بيعة الرضوان - زاد في (الإصابة ج: 3. ص: 627 الترجمة: 9093) نقلًا عن العبدوي - والمشاهد بعدها ، وقتل يوم الحرة. وتعقبه بقوله: قلت: وهذا غير الراوي فيما أظن لأنه مشهور في التابعين وحديثه في صحيح مسلم. وقد فرق بينهما ابن قنصون في ذيل الاستيعاب.

ص: 970

وروى النسائي حديث جابر عن طريق أبي سلمة ، فقال (1)

"أخبرنا الثقة ، قال: حدثنا حماد بن مسعدة ، عن هشام بن عبد الله ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن جابر بن عبد الله ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة والمخاضرة (2) -والمخاضرة: بيع الثمر قبل أن يزهو - والمخابرة وبيع الكرم بكذا وكذا صاع.)) خالفه عمرو بن أبي سلمة ، فقال: عن أبي هريرة ".

وروى الدارقطني حديث جابر عن طريق ابن المنكدر ، فقال (3)

"حدثنا محمد بن نوح. أخبرنا جعفر بن محمد بن حبيب ، أخبرنا عبد الله بن رشيد. أخبرنا عبيد الله بن عبيد الله ، عن ذر ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض إلا بذهب أو فضة)) .

وروى مسلم حديث جابر عن طريق أبو سفيان ، فقال (4)

(1) ج: 7. ص: 36.

(2)

قال ابن الأثير (النهاية. ج: 2. ص: 41) : وفيه أنه نهى عن المخاضرة وهي بيع الثمار خضرًا لم يبد صلاحها. والكلمة مدارها الطراوة التي يتسم بها النبات في عنفوان خروجه ويتسم بها الزهر عند انبثاق الأكمام عنه ثم استعملت في وصف الطري من كل شيء

(3)

سنن الدارقطني. ج: 3. ص: 36. ح: 147.

(4)

على هامش شرح النووي. ج:10. ص: 192 وما بعدها.

ص: 971

"حدثنا أحمد بن المثنى. حدثنا يحيى بن حماد. حدثنا أبو عوانة ، عن سليمان، حدثنا أبو سفيان ، عن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كانت له أرض فليهبها أو ليعرها)) .وروى حديث جابر عن طريق ابن أبي عياش كل من مسلم وابن حبان.

قال مسلم في صحيحه (1)

"حدثني هارون بن سعيد الأبلي. حدثنا وهب. أخبرني عمرو - وهو ابن الحارث - أن بكيرًا حدثه ، أن عبد الله بن أبي سلمة حدثه ، عن النعمان بن أبي عياش ، عن جابر بن عبد الله ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) .

وحدثنيه حجاج بن الشاعر. حدثنا أبو الجواب. حدثنا عمار بن زريق ، عن الأعمش بهذا الإسناد ، غير أنه قال:((فليزرعها أو فليزرعها رجلا)) .

وقال ابن حبان (2)

"أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم ، قال: حدثنا حرملة بن يحيى ، قال: حدثنا ابن وهب ، قال: أخبرني عمرو بن الحارث ، أن بكيرًا حدثهم ، أن عبد الله بن أبي سلمة حدثه ، عن النعمان بن أبي عياش ، عن جابر بن عبد الله ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) .

قال بكير: وحدثني نافع ، أنه سمع ابن عمر يقول:((كنا نكرى أرضنا ، ثم تركنا ذلك حين سمعنا حديث رافع بن خديج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) .

وروى النسائي حديث جابر عن طريق يزيد بن نعيم (3) ومطر ، فقال (4) : "وقد روى النهي عن المحاقلة يزيد بن نعيم عن جابر بن عبد الله.

(1) على هامش شرح النووي. ج:10. ص: 192 وما بعدها.

(2)

الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 314. ح: 5170.

(3)

يزيد بن نعيم بن هزال الأسلمي حجازي ، كذا قال ابن حجر (تهذيب التهذيب ج:11. ص:365. الترجمة: 708) روى عن أبيه وجده. يقال: مرسل - يعنى أنه يرسل عن جده ولم يسمع منه - وجابر ، ويقال: لم يسمع منه ، وسعيد بن المسيب وعنه زيد بن أسلم ، وهو من أقرانه ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وهو أكبر منه ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، ويحيى بن عبد الرحمن ، وهو أكبر منه ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، ويحيى بن كثير ، وهشام بن سعد ، وعكرمة بن عمار ، ذكره ابن حبان في الثقات. قلت - القائل ابن حجر -: حديثه عن جابر متصل ، ووقع التصريح به عند مسلم. وقال البخاري: سمع جابر.

(4)

ج: 7. ص: 36.

ص: 972

أخبرنا محمد بن إدريس ، قال: حدثنا أبو توبة ، قال: حدثنا معاوية بن سلام ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن يزيد بن نعيم ، عن جابر بن عبد الله ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحقل وهي المزابنة)) .

أخبرني محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ، عن يونس ، قال: حدثنا حماد ، عن مطر ، عن جابر رفعه ((نهى عن كراء الأرض)) .

أما الحديث الثالث الذي نقف عنده فهو حديث سعد بن أبي وقاص الذي رواه كل من أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والطحاوي، وقد رأينا أن نثبته هنا ونقدمه على غيره اعتبارًا لمقام سعد رضي الله عنه – فهو أحد العشرة وآخرهم لحاقًا بالرفيق الأعلى ، وأحد السبعة الذين عهد لهم الفاروق رضي الله عنه بأمر الخلافة من بعده ، وإن كنا نشك في صحة هذا الحديث ، إذ مداره عبد الرحمن بن لبيبة ، أو ابن أبي لبيبة عبد الرحمن بن عطاء القرشي مولاهم أبو محمد ابن بنت أبي لبيبة ويقال أحيانًا: ابن لبيبة المدني ، روى عن عبد الملك بن جابر بن عتيك ومحمد بن جابر بن عبد الله وسليمان بن يسار وسعيد بن المسيب وأبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر ، وعنه ابن أبي ذئب وسليمان بن بلال والدراوردي وهشام بن سعد وحاتم بن إسماعيل وغيرهم ، نقل ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: ص: 230. الترجمة: 467) عن أبي حاتم قوله: شيخ يحول من كتاب الضعفاء ، ولفظ أبي حاتم الرازي. (الجرح والتعديل. ج: 5 ص: 299. الترجمة:1269) رواه ابنه ، فقال: وسألته عنه ، فقال: شيخ. قلت: أدخله البخاري في كتاب الضعفاء ، قال: يحول من هناك. ولفظ البخاري (التاريخ الكبير. ج:5. ص: 336.الترجمة: 1070. والضعفاء الصغير ص: 142. الترجمة: 206)"فيه نظر". ونقل ابن حجر ، عن النسائي أنه قال: ثقة. قال: وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن سعد: توفي سنة ثلاث وأربع ومائة ، وكان ثقة ، قليل الحديث. ثم قال: قلت: وقال ابن حبان: بصري ، أصله من أهل المدينة ، يعتبر حديثه إذا روى عن غير عبد الكريم أبي أمية. وقال الأزدي: لا يصح حديثه.

ص: 973

وقال ابن وضاح: كان رفيقًا لمالك في الطلب. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالقوي عندهم. وقال ابن عبد البر: ليس عندهم بذاك، وترك مالك الرواية عنه هو وجاره.

قلت: لم أقف على ترجمة له في النسخة المطبوعة التي بين يدي من كتاب الثقات لابن حبان ، ولعله ذكره في معرض ترجمة أخرى ، ولعل ابن حبان مثل عدد غيره من نقدة الحديث ، ومنهم يحيى بن معين ممن يضعف حديث عبد الكريم أبي

أمية؛ لأنهم يتهمونه بالقول بالإرجاء ، ولذلك ضعفوا ابن أبي لبيبة ، وحصر ابن حبان تضعيفه فيما نقل عنه ابن حجر في روايته عن عبد الكريم ، وانظر ترجمة عبد الكريم وأقوالهم فيه في (تهذيب التهذيب. ج:6. ص: 376. الترجمة:716) . ونقل الذهبي في (الميزان. ج:2. ص: 579. ترجمة: 4919) تلخيصًا لما نقله ابن حجر، ثم قال: قيل: مات سنة ثلاث وأربع ومائة. وفيه كلام. كما أن الحديث نفسه يختلف في الحكم الذي يشرعه عن حديثي رافع بن خديج وجابر بن عبد الله اللذين سبق أن أدرجناهما بأسانيدهما المختلفة وغالبيتها صحيحة لا مجال للكلام فيها. وعن أحاديث كل من أبي سعيد الخدري ، وأبي هريرة ، وأنس بن مالك ، وثابت بن الضحاك ، التي سندرجها على التوالي عقب هذا الحديث المنسوب إلى سعد بن أبي وقاص ، وهي كما سيتضح من أسانيدها أقوى من حديث ابن لبيبة أو ابن لبيبة عن سعد ، فمعظم أسانيدها لا مجال للتقول فيها.

قال أحمد في مسنده (1)

"حدثنا يعقوب ، قال: سمعت أبي يحدث ، عن محمد بن عكرمة ، عن محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة ، عن سعيد بن المسيب ، عن سعد بن أبي وقاص ((أن أصحاب المزارع في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكرون مزارعهم بما يكون على السواقي بالزرع ، وما سعد بالماء مما حول النبت، فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاختصموا في بعض ذلك ، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكروا بذلك ، وقال: أكروا بالذهب والفضة)) .

(1) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 120. ح: 385.

ص: 974

وقال أبو داود في سننه (1)

"حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا إبراهيم بن سعد ، عن محمد بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، عن محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة (2) عن سعيد بن المسيب عن سعد قال:((كنا نكري الأرض بما على السواقي من الزرع وما سعد بالماء منها ، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، وأمرنا أن نكريها بذهب أو فضة)) .

وقال النسائي في سننه (3)

"أخبرنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم ، قال: حدثني عمي ، قال: حدثنا أبي ، عن محمد بن عكرمة ، عن محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة ، عن سعيد بن المسيب ، عن سعد بن أبي وقاص ، قال:((كان أصحاب المزارع يكرون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم مزارعهم بما يكون علي المساقي من الزرع ، فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاختصموا في بعض ذلك ، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكروا بذلك ، وقال: أكروا بالذهب والفضة)) .

وقال ابن حبان (4) : "أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، قال: أخبرنا يزيد بن هارون ، قال: أخبرنا إبراهيم بن سعد ، عن محمد بن عكرمة ، عن عبد الرحمن بن الحارث ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة ، عن بن المسيب ، عن سعد بن أبي وقاص ، قال:((كنا نكري الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على السواقي من الزرع ، وبما سقي بالماء منها ، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، ورخص لنا أن نكريها بالذهب والورق)) .

(1) ج: 3. ص 258. ج: 3391.

(2)

ج: 3. ص 258. ج: 3391.

(3)

ج:7. ص:41.

(4)

الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص:317 و318. ح: 5178.

ص: 975

وقال الطحاوي (1)

"حدثنا أحمد بن داود ، قال: أخبرنا إبراهيم بن سعد ، قال: حدثني محمد بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن لبيبة - في السند وهم أكبر الظن أنه من الطابع، فمحمد بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي ، وجده عبد الرحمن ليس هو عبد الرحمن بن لبيبة، وهذا الأخير له ابن يسمى محمد بن عبد الرحمن أيضًا، وقد روى عنه ابن عكرمة كما روى هو نفسه مباشرة - عن سعيد بن المسيب ، عن سعد بن أبي وقاص ، قال:((كان الناس يكرون المزارع بما يكون على السواقي وما يسقى بالماء مما حول البير ، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، وقال: أكروها بالذهب والورق)) .

وأما الحديث الرابع الذي نقف عنده ، فهو حديث أبي سعيد الخدري ، الذي رواه كل من أحمد ، ومالك ، والنسائي ، وابن ماجه.

قال أحمد في مسنده (2)

"حدثنا محمد بن إدريس، يعني الشافعي ، قال: أنبأنا مالك ، عن داود بن الحصين ، عن أبي سفيان مولى أبي أحمد ، عن أبي سعيد الخدري ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة والمحاقلة)) . والمزابنة: اشتراء الثمر بالتمر في رؤوس النخل ، والمحاقلة: استكراء الأرض بالحنطة. وفي لفظ: والمزابنة: اشتراء الثمرة في رؤوس النخل كيلاً".

وقال مالك (3)

"عن داود بن الحصين ، عن أبي سفيان مولى ابن أحمد ، عن أبي سعيد الخدري ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة ، والمحاقلة)) ، والمزابنة: اشتراء الثمر بالثمر في روض النخل، والمحاقلة: كراء الأرض بالحنطة ".

(1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 111.

(2)

الفتح الرباني ج: 5. ص: 36. ح: 113.

(3)

الموطأ. ص:521. ح:21.

ص: 976

وقال النسائي في سننه (1)

"أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك ، قال: حدثنا يحيى ، هو ابن آدم ، قال: حدثنا عبد الرحيم ، عن محمد بن عمر ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد الخدري قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة)) . خالفهم الأسود بن العلاء فقال: عن أبي سلمة ، عن رافع بن خديج ".

وقال ابن ماجه في سننه (2)

"حدثنًا محمد بن يحيى ، حدثنا مطرف بن عبد الله ، حدثنا مالك ، عن داود بن الحصين ، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد ، أنه أخبره أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة)) . والمحاقلة استكراء الأرض.

أما الحديث الخامس الذي نقف عنده ، فهو حديث أبي هريرة الذي رواه كل من البخاري ، وابن ماجه ، والطحاوي.

قال البخاري في صحيحه (3)

"وقال الربيع بن نافع أبو توبة: حدثنا معاوية بن يحيى ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه ، فإن أبى فليمسك أرضه)) .

(1)(3) ج: 7. ص: 39.

(2)

ج: 2. ص: 820. ح: 2455.

(3)

ج: 3. ص: 72.

ص: 977

وقال ابن ماجه في سننه (1)

"حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع بن معاوية بن سلام ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه)) .

وقال الطحاوي: "حدثنا أبو بكرة ، حدثنا حسين بن حفص الأصبهاني ، حدثنا سفيان ، قال: حدثني سعد بن إبراهيم ، قال: حدثني عمرو بن أبي سلمة ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله - يعني مثل حديث واسع بن حيان عن جابر وقد تقدم –".

على أن حديث أبي هريرة هذا قد روي من طرق ثلاث فيها كلام، وبلفظ يختلف عن الروايات السابقة اختلافًا يدعو إلى التأمل!؟.

فروى أحمد في مسنده (2)

"حدثنا أسود ، حدثنا شريك ، عن سهيل سهيل بن أبي صالح ، واسمه ذكوان السمان بن يزيد المدني ، روى عن أبيه ، وسعيد بن المسيب ، والحارث بن مخلد الأنصاري ، وآخرين ، وفيهم أقرانه ، وروى عنه الأربعة ، والأعمش ، ويحيى بن سعيد ، ومالك ، وشعبة ، وإسحاق الفزاري ، وابن جريج ، والسفيانان ، وخلق غيرهم. قال ابن عيينة: كنا نعد سهيلًا ثبتًا في الحديث. وقال حرب عن أحمد: ما أصلح حديثه. وقال أبو طالب عن أحمد: قال يحيى بن سعيد: محمد - يعني ابن عمرو - أحب إلينا ، وما صنع شيئًا سهيل أثبت عندهم. وقال الدوري ، عن يحيى بن معين (انظر تاريخ ابن معين ج:2. ص:243) : سهيل بن أبي صالح والعلاء بن عبد الرحمن حديثهما قريب من السواء ، وليس حديثهما بحجة.

(1) ج: 2. ص: 820. ح: 2452.

(2)

الفتح الرباني ج: 15. ص: 36 ح: 112.

ص: 978

وقال ابن أبي حاتم (انظر الرازي الجرح والتعديل. ج: 4. ص: 246. ترجمة:1063) عن أبي زرعة: سهيل أشبه وأشهر ، يعني من العلاء، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به ، وهو أحب إليَّ من العلاء، وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عدي (انظر الكامل. ج:3. ص: 1285) - بعد أن أسند إليه عدة أحاديث - ولسهيل أحاديث كثيرة غير ما ذكرت وله نسخ، روى عنه الأئمة مثل النووي ، وشعبة ، ومالك ، وغيرهم من الأئمة ، وحدث سهيل عن جماعة عن أبيه ، وهذا يدل على ثقة الرجل. حدث سهيل عن سمي ، عن أبي صالح. وحدث سهيل ، عن الأعمش ، عن أبي صالح. وحدث سهيل ، عن عبد الله بن مقسم ، عن أبي صالح ، وهذا يدلك على تمييز الرجل وتمييز بين ما سَمع من أبيه ليس بينه وبين أبيه أحد ، وبين ما سمع من سمي الأعمش وغيرهما من الأئمة ، وسهيل عندي مقبول الأخبار ثبت لا بأس به ، وقد نقل عنه الذهبي (الميزان. ج:2. ص 243. ترجمة: 3604) هذا القول مع بعض التغيير لعل سببه التلخيص وأحسب ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج: 4. ص: 263. ترجمة: 453) نقل ما أثبته عن الذهبي وكلاهما فيما نقله تقديم وتأخير. وترجم له البخاري في (التاريخ الكبير ج: 4. ص: 104، 105. ترجمة: 2120) ولم ينقل فيه تجريحا ، بل أسند إليه حديثًا ، وكأنه يريد بذلك الإشارة إلى أنه غير ملتفت إلى تجريحه. عن أبيه عن أبي هريرة قال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة: وهو اشتراء الزرع وهو في سنبله بالحنطة ، وعن المزابنة: وهو شراء الثمار بالثمر)) .

وقال الترمذي (1)

"حدثنا قتيبة. حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن الإسكندراني ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة)) .

وتعقبه بقبوله: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح.

وشرحه بقوله: والمحاقلة: بيع الزرع بالحنطة ، والمزابنة: بيع الثمر على رؤوس النخل بالثمر".

وقال النسائي في سننه (2)

(1) الجامع الصحيح ج: 3 ص: 527. ج: 1224.

(2)

ج: 7. ص: 37.

ص: 979

"أخبرنا عمرو بن علي ، قال: حدثنا ابن عبد الرحمن ، قال: حدثنا سفيان ، عن سعيد بن إبراهيم ، عن عمرو بن أبي سلمة عمرو بن أبي مسلمة التنيمي - بمثناة فنون ثقيلة بعدها تحتانية ثم مهملة - أبو حفص الدمشقي مولى بني هاشم روى عن الأوزاعي وصدقة بن عبد الله وحفص بن ميسرة ومالك والليث وطائفة وعنه ابنه سعيد والشافعي وآخرون وصفه أحمد بن صالح المصري بأنه حسن المذهب وأوضح ذلك بقوله: وكان عنده شيء سمعه من الأوزاعي وشيء أجازه له ، فكان يقول فيما سمع: حدثنا الأوزاعي ، ويقول في الباقي: عن الأوزاعي. ويظهر أنه يحدث إجازة أكثر مما يحدث سماعًا ، فقد روى ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج:8. ص: 43. ترجمة: 70) - وعنه ننقل هذه الترجمة بشيء من الإيجاز - عن حامد بن زنجويه ، قوله: لما رجعنا من مصر قال لنا أحمد: مررتم بأبي حفص ، قلنا: وأي شيء عنده ، إنما عنده خمسون حديثًا ، والباقي المناولة. قال: المناولة كنتم تأخذون منها وتنظرون فيها ومع أنه روى عنه الجماعة ، فقد روي عن ابن معين تضعيفه ، وعن أبي حاتم يكتب حديثه ولا يحتج به ، ووصفه العقيلي بأن في حديثه وهما ، ووثقه ابن حبان ، واختلفوا في وفاته ما بين سنة اثنتي عشرة وسنة أربع عشرة ، وذكروا أنه أخطأ في إسناد بعض الأحاديث عن أبيه عن أبي هريرة قال:((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة)) .

خالفهما محمد بن عمرو ، فقال: عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد.

أما الحديث السادس الذي نقف عنده ، فهو حديث أنس بن مالك الذي رواه كل من الحاكم والدارقطني والطحاوي.

ص: 980

قال الحاكم في مستدركه (1)

"حدثنا أبو الوليد الفقيه. حدثنا أبو نعيم الجرجاني ، حدثنا حماد بن الحسن بن عبسة. حدثنا عمر بن يونس بن القاسم. حدثنا أبي ، عن إسحاق بن عبد الله بن طلحة ، عن أنس رضي الله عنه قال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمخاضرة والمنابذة)) قال ابن الأثير (النهاية. ج:5. ص: 6) : فيه أنه نهى عن المنابذة في البيع ، هو أن يقول الرجل لصاحبه: انبذ إلي الثوب أو أنبذه إليك ليجب البيع، وقيل: هو أن يقول: إذا نبذت إليك الحصاة فقد يجب البيع ، فيكون البيع معطاة من غير عقد ، ولا يصح. يقال: نبذت الشيء أنبذه نبذًا فهو منبوذ ، إذا رميته وأبعدته ، ومنه حديث: فنبذ خاتمه ، فنبذ الناس خواتمهم؛ أي: ألقاه من يده. وفي حديث علي بن حاتم أمر له لما أتاه بمنبذة أو وسادة ، سميت بها؛ لأنها تنبذ؛ أي: تطرح ، ومنه الحديث: فأمر بالستر أن يقطع ويجعل له منه وسادتان منبوذتان ، وفيه: أنه مر بقبر منتبذ عن القبور؛ أي: منفرد بعيد عنها. وقال ابن منظور (لسان العرب. ج: 3. ص: 512) :

والنبذ يكون بالفعل والقول في الأجسام والمعاني ، ومنه نبذ العهد ونقضه وألقاه إلى من كان بينه وبينه ، والمنابذة في التجر أن يقول الرجل لصاحبه: انبذ إلي الثوب أو غيره من المتاع ، أو أنبذه إليك فقد وجب البيع بكذا وكذا. وقال اللحياني: المنابذة أن ترمي إليه بالثوب ، ويرمي إليك بمثله ، والمنابذة أيضًا أن يرمي إليك بحصاة عنه أيضًا ، وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المنابذة في البيع والملامسة ، قال أبو عبيد: المنابذة أن يقول الرجل لصاحبه: انبذ إلي الثوب أو غيره من المتاع ، أو أنبذه إليك ، وقد وجب البيع بكذا وكذا. قال: ويقال: إنما هي أن تقول: إذا نبذت الحصى إليك فقد وجب البيع. ومما يحققه الحديث الآخر أنه نهى عن بيع الحصاة ، فيكون البيع معاطاة من غير عقد ولا يصح ، ونذر بقية الحديث. وتعقبه بقوله: هذا حديث صحيح الإسناد ، وقد تفرد بإخراجه البخاري وأقره الذهبي ".

وقال الدارقطني في سننه (2)

"حدثنا أبو طالب علي بن محمد بن أحمد بن الجهم الكاتب. أخبرنا حماد بن الحسن. أخبر عمر بن يونس. أخبرنا أبي ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك قال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمخاضرة والملامسة والمنابذة والمزابنة)) .

قال عمر: فسره أبي: المخاضرة: لا يشتري شيئًا من الحرث والنخل حتى يونع يحمر أو يصفر، وأما المنابذة: فيرمي بالثوب ويرمى إليكم بمثله ، فيقول: هذا لك بهذا. والملامسة: يشتري المبيع فيلمسه لا ينظر إليه. والمحاقلة: كراء الأرض ".

(1) ج:2. ص:57.

(2)

ج: 3. ص: 75. ح: 285

ص: 981

وقال الطحاوي (1)

"حدثنا إبراهيم بن مرزوق. حدثنا عمر بن يونس بن القاسم ، قال: حدثنا أبي ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك مثله، يعني حديث واسع بن حيان عن جابر ".

أما الحديث السابع والأخير ، فهو حديث ثابت بن الضحاك الذي رواه كل من ابن حبان والطحاوي.

قال ابن حبان (2)

أخبرنا بكر بن محمد بن عبد الوهاب أبو عمر القزاز بالبصرة، قال: حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال: حدثنا سليمان الشيباني ، قال: حدثنا عبد الله بن السائب ، قال: سألت عبد الله بن مغفل عن المزارعة ، فقال: أخبرني ثابت بن الضحاك ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة)) .

وقال الطحاوي (3)

حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال: حدثنا حبان بن هلال. وحدثنا محمد بن داود ، قال: حدثنا هارون بن مسلم ، قالا: وحدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال: حدثنا سليمان الشيباني ، قال: حدثني عبد الله بن السائب ، قال: سألت عبد الله بن مغفل عن المزارعة ، فقال: أخبرني ثابت بن الضحاك ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة)) .

حدثنا فهد ، قال: حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني ، قال: حدثنا علي بن مهر ، عن الشيباني ، قال: أخبرنا عبد الله بن السائب

فذكر بإسناده مثله.

ويظهر أن نفرًا من الصحابة وخاصة من شبابهم ، لم تبلغهم بادئ الأمر الأحاديث التي سقناها آنفًا وما شاكلها، أو بلغهم بعض منها بالمعنى وعلى صور غير محددة ، أو اختلفت عليهم أسباب ورودها، فكانت لهم فتاوى ناتجة عن اجتهادات شخصية في موضوع التصرف بالكراء وفي تأويل ما بلغهم عن تلك الأحاديث بشأنه ، وبتتبع نصوص فتاويهم واجتهاداتهم التي بين أيدينا ، يتضح أن حديث جابر بن عبد الله وحديث أبي هريرة وحديث سعد بن أبي وقاص وحديث أبي سعيد الخدري وحديث ثابت بن الضحاك، كل ذلك لم يبلغهم، إنما بلغهم حديث رافع بن خديج ، وهو منقول عنه في نصوص بعضها ينقص من بعض ، لما سنذكره بعد حين، ويظهر أنهم بعد أن أعلنوا اجتهاداتهم في تأويل حديث رافع وفتاواهم في شأن التصرف في الأرض بالكراء ، بلغهم من حديث رافع أو غيره ما حملهم على تعديل مواقفهم.

(1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 12.

(2)

الإحسان بترتب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 312. ح: 5165.

(3)

معاني الآثار. ج: 4. ص: 106.

ص: 982

ومن أبرز هؤلاء النفر من الصحابة الذين كانت لهم فتاوى يمكن أن تصفها من أنها متناسخة في هذا الشأن كل من ابن عباس وزيد بن ثابت، وفيما يلي ما نقل عنهما على الترتيب الذي التزمناه في نقل الأحاديث النبوية السالفة: أما ما أُثِر عن ابن عباس، فقد رواه كل من أحمد وعبد الرزاق وابن أبي شيبة والحميدي والبخاري ومسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجه وابن حبان والطحاوي.

قال أحمد في مسنده (1) حدثنا عبد الرزاق. أنبأنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال: لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها كذا وكذا لشيء معلوم. قال ابن عباس: وهو الحقل ، بلسان الأنصار: المحاقلة.

وقال عبد الرزاق في مصنفه (2) أخبرنا معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، قال: قلت لسعيد بن جبير: إن عكرمة يزعم أن كراء الأرض لا يصلح فقال: كذب عكرمة ، سمعت ابن عباس يقول: إن خير ما أنتم صانعون في الأرض أن تكروا الأرض البيضاء بالذهب والفضة.

وعن الثوري ، عن عبد الكريم الجزري ، عن سعيد ، أن ابن عباس قال: إن أمثل ما أنتم صانعون أن تستأجروا الأرض البيضاء.

وأخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، قال: قلت لطاوس: ((لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها. فقال: أي عمرو ، أخبرني أعلمهم - يعني ابن عباس – أنه لم ينهه عنها)) .

أخبرنا معمر وابن جريج ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال: لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها كذا وكذا - لشيء معلوم - قال: وقال ابن عباس: هو الحقل وهو بلسان الأنصار المحاقلة.

(1) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 119. ح: 383.

(2)

ج: 8. ص: 91 و97. ح: 4447 و4466 و4467) .

ص: 983

وقال الحميدي في مسنده (1) حدثنا سفيان ، قال: حدثنا عمرو ، قال: قلت لطاوس: يا أبا عبد الرحمن ، ((لو تركت المخابرة ، فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها ، فقال: أي عمرو، أخبرني أعلمهم بذلك - يعني ابن عباس - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها ، ولكن قال: لأن يمح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليه خراجًا معلومًا)) . وأن معاذًا حين قدم اليمن أقرهم عليها ، وأني - أي عمر - أعينهم وأعطيهم ، فإن ربحوا ، فلي ولهم ، وإن نقصوا فعلي وعليهم ، وأن (الحيقلة) في الأنصار ، فسل عنها. فسألت علي بن رفاعة ، فقال: هي المخابرة.

قلت: قال المعلق في الأصل؛ أي الذي نقل عنه: (وإن ألحقت)، وفي (ع) :(وإن الحيقلة)، والصواب عندي:(الحقلة)، والحقيلة: قراح طيب يزرع فيه وفي (ظ) : (الحقلة) .

وقال البخاري في صحيحه (2) حدثنا علي بن عبد الله. حدثنا سفيان ، قال عمرو: قلت لطاوس: ((لو تركت المخابرة ، فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم نهى عنها، قال: أي عمرو، إني أعطيهم وأغنيهم ، وإن أعلمهم أخبرني - يعني ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه ، ولكن قال: لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليه خراجًا معلومًا.))

وحدثنا قبيصة. حدثنا سفيان ، عن عمرو قال: ذكرته لطاوس ، فقال: يزرع، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه ، ولكن قال:((لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ شيئًا معلومًا)) .

وتعليقًا تحت ترجمة (باب كراء الأرض بالذهب والفضة) .

وقال ابن عباس: إن أمثل ما أنتم صانعون أن تستأجروا الأرض البيضاء من السنة إلى السنة.

وقال مسلم في صحيحه (3)

حدثنا يحيى بن يحيى. أخبرنا حماد بن زيد ، عن عمرو ، أن مجاهدًا قال لطاوس: انطلق بنا إلى رافع بن خديج فاسمع منه الحديث ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: فانتهره ، قال: والله لو أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

نهى عنه ما فعلته ، ولكن حدثني من هو أعلم به منهم - يعني ابن عباس - أن رسول الله قال:((لأن يمنح الرجل أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها خراجًا معلومًا)) .

(1) ج: ا. ص: 236. ح 509.

(2)

ج: 3. ص: 69، 72، 73.

(3)

على هامش شرح النووي ج: 10. ص: 207.

ص: 984

وحدثنا ابن أبي عمر. حدثنا سفيان ، عن عمرو وابن طاوس ، عن طاوس أنه كان يخابر ، قال عمرو: فقلت له: ((يا أبا عبد الرحمن ، لو تركت هذه المخابرة، فإنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة. فقال: أي عمرو، أخبرني أعلمهم في ذلك، أي ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها ، إنما قال: لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها خراجًا معلومًا)) .

حدثنا ابن أبي عمر. حدثنا الثقفي عن أيوب. حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم. جميعًا ، عن وكيع ، عن سفيان.

وحدثنا محمد بن رمح. أخبرنا الليث ، عن ابن جريج.

وحدثني علي بن حجر. حدثنا الفضل بن موسى عن شريك عن شعبة. كلهم عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديثهم.

وحدثني عبد بن حميد ومحمد بن رافع - قال عبد: أخبرنا ، وقال ابن رافع: حدثنا عبد الرزاق - أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها كذا وكذا)) لشيء معلوم ، قال: وقال ابن عباس: هو الحقل ، وهو بلسان الأنصار المحاقلة.

وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي. أخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي. حدثنا عبد الله بن عمر ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن عبد الملك بن زيد ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((من كانت له أرض فإنه أن يمنحها أخاه خير)) .

ص: 985

وقال الترمذي في صحيحه (1) حدثنا محمود بن غيلان ، أخبرنا الفضل بن موسى الشيباني. أخبرنا شريك ، عن شعبة ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرم المزارعة ، ولكن أمر أن يوفق بعضهم ببعض)) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

وقال أبو داود في سننه (2) حدثنا محمد بن كثير. أخبرنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، قال: سمعت ابن عمر يقول: ما كنا نرى بالمزارعة بأسًا ، حتى سمعت رافع بن خديج يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها ، فذكرته لطاوس ، فقال: قال لي ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها ، ولكن قال:((لأن يمنح أحدكم أرضه خير له من أن يأخذ عليها خراجًا معلومًا)) .

وقال ابن ماجه في سننه (3) حدثنا محمد بن رمح. أنبأنا الليث بن سعد ، عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن ابن عباس أنه لما سمع إكثار الناس في كراء الأرض ، قال: سبحان الله ، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ألا منحها أحدكم أخاه)) ولم ينه عن كرائها.

حدثنا العباس بن عبد العظيم العنبري. حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها كذا وكذا)) لشيء معلوم. قال ابن عباس: هو الحقل ، وهو بلسان الأنصار المحاقلة.

حدثنا محمد بن الصباح ، أنبأنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، قال: قلت لطاوس: يا أبا عبد الرحمن، لو تركت هذه المخابرة ، فإنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها فقال: أي عمرو، إني أعينهم وأعطيهم ، وأن معاذ بن جبل أخذ الناس عليها عندنا ، وإن أعلمهم - يعني ابن عباس - أخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها ، ولكن قال:((لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها أجرًا معلومًا)) .

(1) ج: 3. ص: 668. ح: 1385.

(2)

ج: 3. ص: 257. ح: 3389.

(3)

ج: 2. ص: 821 و823. ح: 2456 و2457 و2462 و2464.

ص: 986

وحدثنا أبو بكر بن خلاد الباهلي ومحمد بن إسماعيل قالا: حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس قال: قال ابن عباس: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن يمنح أحدكم الأرض خير له من أن يأخذ خراجًا معلومًا)) .

وقال ابن حبان (1) أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل بـ (بست) . حدثنا علي ابن حجر السعدي. حدثنا الفضل بن موسى ، عن شريك ، عن شعبة ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال:((لم يحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المزارعة ولكن أمر الناس أن يرفق بعضهم بعضًا)) .

وقال الطحاوي (2)

حدثنا ربيع المؤذن ، قال: حدثنا أسد ، قال: حدثنا سفيان وحماد بن سلمة وحماد بن زيد ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس قال: قلت له: يا أبا عبد الرحمن ، لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها. فقال: أخبرني أعلمهم - يعني ابن عباس - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها ، ولكنه قال:((لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها خراجًا معلومًا)) .

(1) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 314. ح: 5172.

(2)

معاني الآثار. ج: 4. ص: 110.

ص: 987

حدثنا أبو بكرة. حدثنا إبراهيم بن بشار ، قال: حدثنا سفيان ، عن عمرو

فذكر بإسناده مثله.

لكن روي عن ابن عباس ما يختلف عن الأقوال المنسوبة إليه ، والتي أوردناها آنفًا ، ويظهر أنه بعد أن أنكر على رافع ما أنكر ، تأكد لديه خلاف ما كان ينسب إليه قول رافع، وأن ما رواه رافع ليس نقلًا غير دقيق لحادثة الرجلين اللذين اختصما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حول المزارعة - ويأتي لفظه قريبًا في حديث زيد بن ثابت - فحكم بينهما بما كان بلغ ابن عباس، ولا توجيهًا خلقيًا، كما نقل عنه بعض الرواة، وإنما هو حكم صريح صدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم لآل رافع وفي ظرف مختلف عن ظرف الرجلين صاحبي الخصومة التي كان ابن عباس قد اعتمدها في فتواه، وهذا هو التعليل الوجيه للأثرين اللذين سنوردهما فيما يلي منسوبين إلى ابن عباس ، وهما يختلفان جوهريًا عن فتواه التي اعتمدها طاوس ورواها عنه غيره أيضًا.

ص: 988

وروى ابن أبي شيبة حديث ابن عباس عن طريق حبيب بن أبي ثابت ، فقال (1) حدثنا أبو بكر ، قال: حدثنا علي بن مسهر ، عن الشيباني ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال: كنت جالسًا مع ابن عباس في المسجد الحرام ، إذ أتاه رجل ، فقال: إنا نأخذ الأرض من الدهاقين، فأعتملها ببذري وبقري، فآخذ حقي وأعطيه حقه، فقال له: خذ رأس مالك ، ولا تردد عليه عينا، فأعادها عليه ثلاث مرات، كل ذلك يقول له هذا.

وروى أحمد حديث ابن عباس عن طريق عكرمة ، فقال (2) حدثنا أبو معاوية. حدثنا الشيباني ، عن ابن عباس قال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة)) وكان عكرمة يكره بيع الفصيل. قال ابن منظور (لسان العرب. ج: 11. ص: 558) : والقصيل ما قصل من الزرع أخضر ، والجمع قصلان ، ويظهر أن القصيل بالقاف هو الرواية الصحيحة؛ لأن الفصيل بالفاء لم يستعمل في النبات ، وإنما استعمل في الحيوان. قال ابن منظور (لسان العرب. ج:11. ص: 558) : والفصال: الفطام قال الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} . المعنى: ومدى حمل المرأة إلى منتهى الوقت الذي يفصل فيه الولد من رضاعها ثلاثون شهرًا ، وفصلت المرأة ولدها أي: فطمته ، وفصل المولود عن الرضاع يفصله فصلًا وفصالًا ، وأفصله: قطعه والاسم الفصال. وقال اللحياني: فصلته أمه ، ولم يخص نوعًا. وفي الحديث: لا رضاع بعد فصال. قال ابن الأثير: أي بعد أن يفصل الولد من أمه وبه سمي الفصيل من أولاد الإبل ، فعيل بمعنى مفعول ، وأكثر ما يطلق في الإبل ، قال: وقد يقال في البقر ، ومنه حديث أصحاب الغار فاشتريت به فصيلًا من البقر وفي رواية: فصيلة ، وهو ما فصل عن اللبن من أولاد البقر، والفصيل: ولد الناقة إذا فصل عن أمه والجمع فصلان وفصال.

وروى الهيثمي حديث ابن عباس قال (3) عن ابن عباس قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة)) وكان عكرمة يكره بيع الفصيل ، وتعقبه بقوله: رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح) .

(1) الكتاب المصنف. ج: 6. ص: 346. ح: 1297.

(2)

الفتح الرباني. ج:15، 36. ح:114.

(3)

مجمع الزوائد. ج: 4. ص: 103.

ص: 989

يشهد بهذا التوجيه ما سبق أن نقلناه عن عبد الرزاق من طريق معمر ، عن عبد الكريم الجزري (أن عكرمة يزعم أن كراء الأرض لا يصلح) . وعكرمة كان من ألزم الناس لابن عباس وأكثرهم رواية عنه ، وقد اعتمده جمهور المحدثين، وإن غمز فيه بعض أقرانه من التابعين ، ومعلوم أن تقولات الأقران في بعضهم بعضًا لا تعتمد في تجريح الراوي. وقد نقل ابن حزم في المحلى (1) عن عبد الرزاق أثر عكرمة هذا ، ولكن بلفظ مختلف قليلًا عن ذلك الذي نقلناه من مصنف عبد الرزاق ، قال ابن حزم:(وعن طريق عبد الرزاق ، عن معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، أن عكرمة مولى ابن عباس قال: لا يصلح كراء الأرض) .

أما أثر زيد بن ثابت ، فرواه كل من أحمد وعبد الرزاق وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وفيما يلي رواياتهم بألفاظها التي توشك أن تكون واحدة وبأسانيدها.

(1) ج:8. ص:313.

ص: 990

قال أحمد في مسنده (1) حدثنا إسماعيل. حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق ، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار ، عن الوليد بن أبي الوليد ، عن عروة بن الزبير قال: قال زيد بن ثابت: يغفر الله لرافع، أنا والله أعلم بالحديث منه ، إنما أتى رجلان قد اقتتلا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع)) ، قال: فسمع رافع قوله: ((فلا تكروا المزارع)) .

وقال عبد الرزاق في مصنفه (2) قال الثوري عن نصر بن جزي ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن الوليد ، عن عروة بن الزبير ، عن زيد بن ثابت أنه قال:((يغفر الله لرافع بن خديج، والله ما كان هذا الحديث هكذا، إنما كان ذلك لرجل أكرى لرجل أرضًا فاقتتلا واستبا بأمر تداريا فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن كان هذا شأنكم فلا تكروا الأرض)) )) . فسمع رافع آخر الحديث ولم يسمع أوله.

قال أبو داود في سننه (3) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. حدثنا ابن علية.

(1) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 121. ح: 389.

(2)

ج: 8. ص: 97. ح: 14465.

(3)

ج: 3. ص: 275. ح: 3390.

ص: 991

وحدثنا مسدد. حدثنا بشر العمي ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن الوليد بن أبي الوليد ، عن عروة بن الزبير ، قال: قال زيد بن ثابت: يغفر الله لرافع بن خديج، أنا والله أعلم بالحديث منه، إنما أتاه رجلان - قال مسدد: من الأنصار ثم اتفقا - قد اقتتلا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع)) . زاد مسدد فسمع قوله: ((لا تكروا المزارع)) .

قال النسائي في سننه (1) أخبرنا الحسين بن محمد قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال: حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق ، عن أبي عبيدة بن محمد ، عن الوليد بن أبي الوليد ، عن عروة بن الزبير قال: قال زيد بن ثابت: يغفر الله لرافع بن خديج ، أنا والله أعلم بالحديث منه، إنما كان رجلان اقتتلا ، فقال رسول الله:((إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع)) ، فسمع قوله:((لا تكروا المزارع)) .

قال ابن ماجه في سننه (2) حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي. حدثنا إسماعيل بن علية. حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق. حدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر ، عن الوليد بن أبي الوليد ، عن عروة بن الزبير قال: قال زيد بن ثابت: يغفر الله لرافع بن خديج أنا والله أعلم بالحديث منه، إنما أتى رجلان النبي صلى الله عليه وسلم وقد اقتتلا فقال:((إن هذا شأنكم فلا تكروا المزارع)) ، فسمع رافع بن خديج قوله:((فلا تكروا المزارع)) .

(1) ج:7. ص: 50.

(2)

ج: 2. ص: 822. ح: 2461.

ص: 992

قلت: مدار طرق هذا الحديث جميعها أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، وقد اختلفوا إن كان هو سلمة بن محمد بن عمار أو أخًا له. ونقل ابن حجر في تهذيب التهذيب (1) عن ابن أبي حاتم عن أبيه أنه منكر الحديث ، ولا يسمى. قال ابن حجر: وقال في موضع آخر: صحيح الحديث. ومن قبل ذلك نقل عن ابن معين أنه ثقة، ونقل عن الحاكم أبو أحمد أنه ذكر أبا عبيدة هذا فيمن لا يعرف اسمه. ومع توثيق ابن معين وغيره له فانفراده بهذا الحديث عن زيد بن ثابت يدعو إلى التساؤل وخاصة ما رواه من أن زيدًا أقسم بالله أن رافعًا روى الحديث على غير وجهه ، وإن كان زيد قد أقسم فعلًا فهذا أمر مستغرب لأن زيدًا ليس بمن يخفى عنه مورد حديث آل خديج، وقد استفاض استفاضة تبلغ حد التواتر كما سننقل عن ابن حزم وحتى لو اشتبه عليه أمر حديث رافع ، فما نحسبه يخفى عليه حديث كل من جابر وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص وأبي سعيد الخدري وثابت بن الضحاك وإنما الذي نرجحه هو أن يكون لزيد اجتهاد في تأويل هذه الأحاديث ولكن نقل عنه بصيغة فيها بعض المبالغة، غفر الله للراوي.

(1) ج: 12. ص: 160. ترجمة: 765.

ص: 993

ثم إن أبا عبيدة روى هذا الأثر عن الوليد بن أبي الوليد عثمان القرشي الذي اختلفوا في ولائه كما اختلفوا في اسم أبيه ، ولبعضهم فيه كلام (1)

وكما هو الشأن في ابن عباس وما نقل عنه، تغايرت الرواية عن زيد بن ثابت فقد روى ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود عن طريق جعفر بن برقان ، عن ثابت بن الحجاج ، عن زيد بن ثابت ما يخالف ما سبق أن نسب إليه.

قال ابن أبي شيبة (2)

حدثنا عمر بن أيوب ، عن جعفر بن برقان ، عن ثابت بن الحجاج ، عن زيد بن ثابت قال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة، قلت: وما المخابرة؟ قال: أن تأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع)) وقال أحمد في مسنده (3) حدثنا كثير (4) بن جعفر، حدثنا ثابت بن الحجاج قال: قال زيد بن ثابت: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة)) . قلت: وما المخابرة؟ قال: يؤجر الأرض بنصف أو بثلث أو بربع (زاد في رواية) وبأشباه هذا.

(1) ج: 11. ص: 157. ترجمة: 262.

(2)

الكتاب المصنف. ج: 6. ص: 346 الآثر: 2296.

(3)

الفتح الرباني ج: 15. ص: 119. ح: 379.

(4)

صوابه ، عن كثير ، عن جعفر ، وكثير هذا هو ابن هشام الكلابي أبو سهلة الرقي ، وهو ممن روى عن جعفر بن برقان الكلابي ، والحديث كما أوردناه رواه كل من ابن أبي شيبة ، وعنه أبو داود ، عن جعفر بن برقان ، وانظر في ترجمة كثير وجعفر ، ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج:2. ص:84. الترجمة: 131. وج: 8. ص: 429. الترجمة: 709) .

ص: 994

وقال أبو داود في سننه (1) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. حدثنا عمر بن أيوب ، عن جعفر بن برقان ، عن ثابت بن الحجاج ، عن زيد بن ثابت قال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة)) . قلت: وما المخابرة؟ قال: أن تأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع.

على أنه قد روي عن رافع بن خديج واقعة تثبت عمليا صحة ما فهمه من نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض ، وذلك بطرق يقوي بعضها بعضًا ، وإن يكن مدارها بُكير بن عامر وفيه كلام. وفي بعض أسانيدها إليه أيضًا من ينبغي التحري في أمره.

قال أبو داود في سننه (2) حدثنا هارون بن عبد الله. حدثنا الفضل بن دكين ، حدثنا بكير (3) - يعني ابن عامر - عن ابن أبي نعم. حدثني رافع بن خديج أنه زرع أرضًا ، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسقيها، فسأله:((لمن الزرع ولمن الأرض؟)) فقال: زرعي ببذري وعملي ، لي الشطر ولبني فلان الشطر ، فقال:((أربيتما فرد الأرض على أهلها وخذ نفقتك)) .

(1) ج3. ص: 261. ح: 3402.

(2)

ساقطة من الأصل.

(3)

بكير بن عامر البجلي بن إسماعيل الكوفي ، تكلموا فيه فوثقه بعضهم ، وضعفه آخرون ، حتى قال فيه يحيى بن سعيد - سُئل عنه -: حفص بن غياث تركه ، وحسبه إذا تركه حفص كان حفص يروي عن كل أحد ، وقال عنه يحيى بن معين: ليس بشيء ، ويظهر أن أحدًا من الستة لم يرو عنه غير أبي داود، انظر ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج:1. ص: 491 الترجمة: 907.

ص: 995

وقال الدارقطني في سننه (1) حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز. أخبرنا محمد بن حميد. أخبرنا عبد الرحمن بن مغراء ، عن عبيدة الضبي (2)

عن عبد الحميد بن عبد الرحمن ، عن سالم بن عبد الله بن عمر عن عبد الله عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في مسير له ، فإذا هو بزرع تهتز فقال:((لمن هذا الزرع؟)) قالوا: لرافع بن خديج، فأرسل إليه، وكان أخذ الأرض بالنصف وبالثلث فقال:((انظر نفقتك في هذه الأرض فخذها من صاحب الأرض وادفع إليه زرعه وأرضه)) .

(1) ج: 3. ص: 37. ح: 148.

(2)

عبيدة بن متعب الضبي - بميم مضمومة وعين مفتوحة ومثناة فوق مكسورة مشددة فباء موحدة - تكلموا فيه كثيرًا ، وإن روى عنه بعض الكبار مثل شعبة ، والثوري ، ووكيع ، وهشيم ، وغيرهم ، وقد اجتنبه نقاد كبار مثل يحيى بن معين ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وكان يحيى بن سعيد ينهى عن كتابة حديثه ، ووصفوه أنه سييء الحفظ ، ضرير متروك الحديث ، وممن تركه عبد الله بن المبارك ، وأحمد. بل وصفه بعضهم بما يشبه نسبة الآثار إلى غير أهلها من التابعين ، فزعموا أنهم ينسبوا إلى إبراهيم النخعي ما لم يقله قياسًا على ما قاله، وقد ذكره البخاري في التاريخ ، وروى عنه الترمذي ، وابن ماجه. انظر ابن حجر (تهذيب التهذيب: ج: 7. ص: 86. الترجمة: 189) .

ص: 996

وقال الطحاوي (1) حدثنا فهد قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا بكير بن عامر ، عن ابن أبي نعم قال: حدثني رافع بن خديج أنه زرع أرضًا ، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسقيها فسأله:((لمن الزرع ولمن الأرض؟)) فقال: زرعي ببذري وعملي ، لي الشطر ولبني فلان الشطر فقال:((أربيت فرد الأرض إلى أهلها وخذ نفقتك)) .

ويظهر أن هذه الواقعة تكررت في بني حارثة فكما حدثت لرافع حدثت لظهير عمه.

فقد روى الطحاوي (2)

وحدثنا محمد بن سليمان الباغندي (3) وفهد قالا: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا بكير بن عامر ، عن ابن أبي نعم قال: حدثني رافع بن خديج أنه زرع أرضًا فمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسقيها، فسأله:((لمن الزرع ولمن الأرض؟)) فقال: زرعي ببذري وعملي ، لي الشطر ولبني فلان الشطر ، فقال:((أربيت، فرد الأرض على أهلها وخذ نفقتك)) .

(1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 106.

(2)

مشكل الآثار. ج: 3. ص: 282.

(3)

لم نقف على ترجمة إلا ما نقله محقق معاني الآثار محمد زهري النجار في مقدمة معاني الآثار من كتاب الأماني ونصه (مقدمة معاني الآثار. ج: 1. ص: 15) : محمد بن سليمان بن الحارث الأزدي الباغندي أبو بكر الواسطي ، سكن بغداد ، ولا بأس به. روايته مستقيمة ، توفي سنة 283.

ص: 997

وقال الطحاوي أيضًا (1)

حدثنا إبراهيم بن أبي داود (2) قال: حدثنا يحيى - يعني القطان - قال: حدثنا أبو جعفر الخطمي قال: أتيت سعيد بن المسيب فقلت: بلغنا عنك شيء في المزارعة فقال: كان ابن عمر لا يرى بها بأسًا حتى ذكر رافع بن خديج حديثًا فأعطى رافعًا، فأخبره رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني حارثة رأى زرعًا في أرض ظهير قال:((ما أحسن زرع ظهير)) فقالوا: ليس لظهير، فقال:((أليست أرض ظهير؟)) فقالوا: بلى ، ولكنه أزرع فلانًا ، قال:((فردوا عليه نفقته وخذوا زرعكم)) فقال رافع: فرددنا عليه نفقته وأخذنا زرعنا، قال سعيد: أفقر أخاك أو أكرها بالدراهم.

وحدثنا أحمد بن شعيب قال: أخبرنا أحمد بن المثنى قال: أخبرنا يحيى ، عن أبي جعفر الخطمي

ثم ذكر بإسناده مثله.

وقد تغايرت فتاوى بعض الصحابة في هذا الشأن ، وكنا قد أوردنا بعضًا منها كما تعارضت فتاوى كبار التابعين، وليس من شأننا هنا أن نمضي في استقصاء كل ما ورد في هذا المجال ، إنما شأننا أن نتقصى طبيعة ملكية العقار في الإسلام على ضوء النصوص القرآنية والسنية مع الاستئناس باجتهادات أهل الفتيا من الصحابة وكبار التابعين لنخلص إلى ما نحن بسبيله من بيان ما يترتب عن طبيعة الملكية في الإسلام من دلالات على حكم الله في انتزاع الملك للمصلحة العامة.

(1) مشكل الآثار. ج: 3. ص: 281.

(2)

إبراهيم بن أبي داود: لم أجد من ترجم له ممن يعتمد في الجرح والتعديل، وذكره محقق معاني الآثار في مقدمته (ج:1. ص: 12. ترجمة: 11) فقال عنه نقلًا عن الأماني: حافظ ثقة من الحفاظ المكثرين. توفي بمصر سنة: 272. قلت: وهذا يعنى أن عمره حين توفي يحيى بن سعيد القطان كان ستة عشر عامًا ، على أساس أن يكون عمّر تسعين عامًا ، لكن إبراهيم بن أبي داود توفي بمصر. أما يحيى فلحق بالرفيق الأعلى في العراق ، فهل رحل إبراهيم بن داود إلى العراق في طلب الحديث وهو دون السادسة عشرة من عمره؟! نظن أن في هذا الإسناد ما ينبغي تحريره.

ص: 998

ويلوح لنا أن ابن حزم رحمه الله، قد أحسن - كدأبه غالبًا - استقصاء ما يمكن اعتماده من روايات الصحابة واجتهاداتهم واجتهادات التابعين ، وهو يبحث حكم كراء الأرض في المحلى (1)

وقد لا نتفق معه في ما يراه من أنه لا يجوز كراء الأرض بشيء أصلًا، لا بدنانير ولا بدراهم ولا بعرض ولا بطعام مسمى ولا بشيء أصلًا، ولا يحل زرع الأرض إلا لأحد ثلاثة أوجه، إما أن يزرعها المرء بآلته وأعوانه وبذره وحيوانه، وإما أن يبيح لغيره زرعها ولا يأخذ منه شيئًا، فإن اشتركا في الآلة والحيوان والبذر والأعوان دون أن يأخذ منه للأرض كراء فحسن، وأما أن يعطي أرضه لمن يزرعها ببذره وحيوانه وأعوانه وآلته بجزء ويكون لصاحب الأرض مما يخرج الله تعالى منها مسمى، إما نصف أو ثلث أو ربع أو نحو ذلك، أكثر أو أقل، ولا يشترط على صاحب الأرض البتة شيء من ذلك ، ويكون الباقي للزارع ، قلّ ما أصاب أو كثر، فإن لم يصب شيئًا فلا شيء له ولا شيء عليه، فهذه الوجوه جائزة فمن أبى فليمسك أرضه.

وإنما أوردناه لئلا نعود إليه حين نورد صفايا آراء أئمة الفقه الملتزمين بالمذاهب.

غير أننا نطمئن إلى الاقتصار على نقل ما انتهى إليه من استقصائه لروايات كبار الصحابة واجتهاداتهم واجتهادات كبار التابعين.

فبعد أن أورد ما أسنده أو اطمأن إلى صحة سنده من طرق حديث رافع بن خديج وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري أسند إلى ابن عمر حديثًا تحسبه مرويًا بالمعنى ومختصرًا لحديث أطول رواه غيره من طرق مختلفة ، ولكنا ننقله عنه ، إذ قد يكون ثبت لديه بهذا المتن والسند بأنه بنى عليه حكمًا حاسمًا.

قال: ومن طريق حماد بن سلمة حدثنا عمرو بن دينار قال: سمعت عبد الله بن عمر بن الخطاب يقول: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض)) .

(1) ج: 8. ص: 221 المسألة: 1300 وما بعدها.

ص: 999

ولم نقف عند غير ابن حزم على هذا المتن ولا على لفظ يدل دلالته مسندًا إلى ابن عمر غير مروي من طريقه عن رافع بن خديج فإن ثبت فمعناه أن ابن عمر اطمأن آخر الأمر إلى حديث رافع ، أو ثبت لديه حديث جابر وأبي سعيد الخدري أو سعد بن أبي وقاص أو أبي هريرة أو ثابت بن الضحاك فجزم بالنهي عن كراء الأرض بعد أن كان مترددًا في شأنه. ونميل إلى ترجيح هذا الاحتمال لما سنفصله بعد حين.

ثم عقب ابن حزم على حديث ابن عمر وما سبقه من حديث رافع وجابر وأبي سعيد وأبي هريرة بقوله: فهؤلاء شيخان بدريان رافع بن خديج وجابر

قال ابن حجر في (الإصابة. ج: 2. ص: 213. ترجمة: 1026) عند ترجمته لجابر بن عبد الله: وفي الصحيح عنه أنه كان مع من شهد العقبة وروى البخاري في تاريخه (ج: 2. ص: 207. ترجمة: 2208) بإسناد صحيح عن أبي سفيان عن جابر قال: كنت أمنع أصحابي الماء يوم بدر. قلت: وإذا صح هذا الأثر فمعناه أن جابرًا شهد بدرًا، لكن ابن حجر يروي في الإصابة من طريق حجاج بن الصواف. حدثني أبو الزبير أن جابرًا حدثهم قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين غزوة بنفسه شهدت منها تسع عشرة غزوة. ونقل ابن حجر عن الواقدي أنه أنكر رواية أبي سفيان عن جابر التي أوردها البخاري في تاريخه.

ص: 1000

قلت: لكن البخاري أسندها ولفظه: قال لنا مسدد عن أبي عوانة عن الأعمش عن أبي سفيان. الحديث. ورجاله موثقون ، وليس من عادة البخاري أن يسند إلا عن الثقات ومن عجب أن ينكر الواقدي هذا الأثر. قال ابن حجر: وروى مسلم عن طريق زكريا بن إسحاق. حدثنا أبو الزبير أنه سمع جابرًا يقول: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة قال جابر: لم أشهد بدرًا ولا أُحُدًا منعني أبي، فلما قتل لم أتخلف. قلت: الجامع بين حديث أبي سفيان الذي رواه البخاري وحديث أبي الزبير الذي رواه مسلم هو أن جابرًا لم يشهد، أي لم يسهم فيها كمحارب ، وهذا لا يمنع من أن يكون نفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يخدم المحاربين بأن يسقيهم أو يحضر لهم الماء من بعيد ويظهر أن جابرًا لم يعتبرهذا كافيًا لأن يسلكه فيمن شهد بدرًا.

وقال ابن عبد البر في الاستيعاب على هامش الإصابة (ج: ا. ص: 221) : شهد العقبة الثانية مع أبيه وهو صغير ولم يشهد الأولى ذكره بعضهم في البدريين ولا يصح لأنه قد روي عنه أنه قال: لم أشهد بدرًا ولا أُحُدًا؛ منعني أبي. وذكر الخاري أنه شهد بدرًا وكان

ينقل لأصحابه الماء يومئذ. ثم شهد بعدها مع النبي صلى الله عليه وسلم ثمان عشرة غزوة. ذكر ذلك الحاكم أبو أحمد.

وقال ابن الكلبي: شهد أُحُدًا وشهد صفين مع علي. ثم ساق حديث أبي الزبير عنه. وقال ابن حجر في (الإصابة. ج496. ترجمة: 2526) في ترجمة رافع بن خديج: عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فاستصغره وأجازه يوم أحد فخرج وشهد ما بعدها، وقد لحق كل من رافع وجابر - في أرجح الروايات - بالرفيق الأعلى سنة أربعين للهجرة وكان جابر قد أضر في آخر عمره أما رافع فاستشهد من إصابته يوم أحد إذ أصيب بسهم وقال له رسول الله:((إن شئت نزعت السهم وتركت القطيفة وشهدت يوم القيامة أنك شهيد)) .

وفي تاريخ وفاة رافع أقوال أخرى وهو ليس بدريًا بالإجماع.

ص: 1001

وأبو سعيد وأبو هريرة وابن عمر كلهم يروي عن النبي عليه السلام النهي عن كراء الأرض جملة ، وأنه ليس إلا أن يزرعها صاحبها أو يمنحها غيره ، أو يمسك أرضه فقط، فهو نقل تواتر موجب للعلم المتيقن فأخذ بهذا طائفة من السلف. ثم ذكرهم مسندًا إليهم ما نقل من آرائهم.

ثم قال: فهؤلاء عطاء ومجاهد ومسروق والشعبي وطاوس والحسن وابن سيرين والقاسم بن محمد كلهم لا يرى كراء الأرض أصلًا لا بدنانير ولا بدراهم ولا بغير ذلك، فصح النهي عن كراء الأرض جملة.

ثم عرض لحديث معاملة أهل خيبر بشرط ما يخرج من أرضها من زرع أو ثمر ، وهو ما سنعرض له بعد حين. فخلص من ذلك - إن اعتبره من قبيل المزارعة أو كراء الأرض - إلى قوله: ففي هذا أن آخر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن مات كان إعطاء الأرض بنصف ما يخرج منها من الزرع ومن الثمر ومن الشجر، وعلى هذا مضى أبو بكر ، وعمر ، وجميع الصحابة رضي الله عنهم معهما، فوجب استثناء الأرض ببعض ما يخرج من جملة ما صح النهي عنه من أن تكرى الأرض أو يؤخذ لها أجر أو حظ ، وكان هذا العمل المتأخر ناسخًا للنهى المتقدم عن إعطاء الأرض ببعض ما يخرج منها، لأن النهي عن ذلك قد صح.

ص: 1002

فلولا أنه قد صح لقلنا ليس نسخًا ولكنه استثناء من جملة النهي، ولولا أنه قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات على هذا العمل لما قطعنا بالنسخ، لكنه ثبت آخر عمله عليه السلام فصح أنه نسخ صحيح متيقن لا شك فيه وبقي النهي عن الإجارة جملة بحسبه ، إذ لم يأت شيء ينسخه ولا يخصه الستة.

ثم مضى يناقش فقهاء المذاهب ويستظهر لمذهبه لما تيسر له من الحجج مما ليس هذا مجاله ، على أننا سنعرض بإيجاز لآراء أئمة المذاهب في كراء الأرض بعد قليل.

بيد أننا نريد أن نقف مع ابن حزم عند وهم وقع فيه ، إذ زعم أن رافعًا وجابرًا بدريان وليسا بدريين ، وإن حضر جابر العقبة مع بعض ذويه، إذ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استصغر رافعًا حين عرض عليه وهو يتجهز لغزوة بدر. أما جابر فقد منعه أبوه عبد الله بن عمر رضي الله عنه من شهود بدر وأُحد فلما استشهد يوم أحد تحرر جابر من منع أبيه فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع غزواته بعد ذلك، كما أن رافعًا شهد أُحدًا وكاد يحرم منها في قصة طويلة ، ولسنا ندري كيف وهم ابن حزم رحمه الله وهو المطلع الثبت فزعم أن رافعًا وجابرًا بدريان، والظاهر أنه علق في ذهنه قول رافع في بعض ما روي عنه عن عميه أنهما بدريان، ولعل في عبارة ابن حزم سبق القلم ، فلسنا نتصور أن يغيب عن ابن حزم أن جابرًا ورافعًا لم يحضرا بدرًا، على أن ذلك لا يغمز في حديثهما ولا في فتياهما فقد تصدرا للإفتاء منذ عهد عثمان رضي الله عنه وكانا من مراجع الفتيا وخاصة في عهد معاوية إلى أن لحقا بالرفيق الأعلى - رضى الله عنهما -.

أما ما وهم فيه ابن حزم أيضًا من دعوى أن معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر ناسخة لنهيه عن كراء الأرض ففيها تناقض إلا أن يكون النسخ عنده تخصيصًا. وقد نفى ذلك وبقي ما ارتضاه من أنه استثناء لنوع من المعاملة من مجموع النهى. والواقع أننا لم نستطع أن ندرك بوضوح الخط الفاصل بين التخصيص والاستثناء في تصور ابن حزم، بيد أننا لن نمضي في مناقشته في هذه الدعوى لأن موضوع معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر في جوهره نختلف فيه مع ابن حزم وغيره ممن اعتبره من المزارعة اختلافًا جوهريًا نوضحه فيما يأتي:

ص: 1003

حديث معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر قال عنه ابن حجر في التلخيص (1) حديث ابن عمر ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع)) . متفق عليه بألفاظ متعددة منها:

لما فتحت خيبر سألت يهود النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرهم فيها على أن يعملوا على نصف ما يخرج منها

الحديث.

حديث أنه عامل أهل خيبر بالشطر مما يخرج من النخل والشجر، الدارقطني من حديث ابن عمر ، وحكى عن شيخه ابن صاعد أنه صاحب وهم في ذكر الشجر ولم يقله غيره.

ثم أشار إلى حديث أنه صلى الله عليه وسلم خرص على أهل خيبر وأحال عليه في كتاب الزكاة وقد أورده فيه (2) فقال: حديث عائشة: ((كان صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة غارسًا أول ما تطيب الثمرة)) . أبو داود من حديث حجاج عن ابن جريج أخبر عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت وهي تذكر شأن خيبر: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود فيخرص النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه)) وهذا فيه جهالة الواسطة. وقد رواه عبد الرزاق والدارقطني من طريقه عن الزهري ولم يذكر واسطة وهو مدلس. وذكر الدارقطني الاختلاف فيه فقال: رواه صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة وأرسله معمر ومالك وعقيل، لم يذكروا أبا هريرة. وأخرج أبو داود عن طريق ابن جريج. أخبرني أبو الزبير أنه سمع ابن جريج يقول: خرص أربعين وسقا.

وقال عبد الرزاق في مصنفه (3) أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب قال: ((دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر إلى يهود يعملونها ولهم شطرها، فمضى على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وسنتين من خلافة عمر حتى أجلاهم عمر عنها)) .

(1) تلخيص الحبير. ج: 3. ص: 59. ح: 1279 و1280.

(2)

تلخيص الحبير ج: 2. ص:71. ح: 848.

(3)

ج: 8. ص:98. ح: 14468 و14469 و14485 وص: 102.

ص: 1004

أخبرنا معمر عن عبيد الله بن عمر عن نافع أن خيبر شركها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان فيها زرع ونخل ، فكان يقسم لنسائه كل سنة منها مائة وسق، ثمانين وسقًا ثمرًا وعشرون وسقًا شعيرًا لامرأة.

وأخبرنا ابن جريج قال: أخبرني عامر بن عبد الله بن نسطاس لم نقف على من عرف به، لكن وقفنا على ترجمة راو واسمه عبد الله بن نسطاس في بعض مصادر تراجم الرواة، وننقل ما قال عنه ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج:6. ص: 55. ترجمة: 104) . رمز إلى أنه روى عنه أبو داود والنسائي وابن ماجه ثم قال: عبد الله بن نسطاس – بكسر النون ومهملة ساكنة – المدني مولى كندة روى عن جابر بن عبد الله حديث الحلف على المنبر وعنه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص. قلت – القائل ابن حجر -: قال أبو عمر الصدفي: حدثنا محمد بن القاسم هو ابن يسار. سمعت النسائي يقول: عبد الله بن نسطاس ثقة. وقال مسلم: هو مولى آل كثير بن الصلت. وقال: هو أخو عبد الله بن بسطام شيخ الزهري. وقال ابن الحذاء: كان نسطاس جاهليًا وهو مولى أُبي بن خلف كذا قال في رجال الموطأ والذي يظهر أن نسطاسًا والد عبد الله غير مولى أُبي بن خلف كما في أول الترجمة. قلت: لم يذكروا له ولدًا ولكن لا يبعد أن يكون عامر هذا ولده من خيبر قال: فتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت جمعًا له حرثها ونخلها قال: فلم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رقيق، فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود على أنكم تكفون العمل ولكم شطر الثمر على أن أقركم ما بدى لله ورسوله، فذلك حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم ابن رواحة يخرص بينهم، فلما خيرهم أخذت اليهود الثمر، فلم تزل خيبر بأرض اليهود على صلح النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان عمر فأخرجهم فقالت اليهود: أليس قد صالحنا النبي صلى الله عليه وسلم على كذا وكذا؟ فقال: بلى، على أنه يقركم فيها ما بدا لله ورسوله، فهذا حين بدا لي أن أخرجكم، فأخرجهم ثم قسمها بين المسلمين الذين افتتحوها مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعط منها أحدًا لم يحضر افتتاحها وأهلها الآن مسلمون ليس فيها اليهود.

قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن عبيد بن عمير ، عن مقاضاة النبي صلى الله عليه وسلم يهود أهل خيبر على أن لنا نصف الثمر ولكم نصفه وتكفون العمل.

ص: 1005

وقال ابن أبي شيبة (1) حدثنا شريك عن جابر عن أبي جعفر قال الذهبي (سير أعلام النبلاء. ج:4. ص401 وما بعدها. ترجمة: (158) ما موجزه: هو السيد الإمام أبو جعفر محمد بن علي الحسين بن علي العلوي الفاطمي المدني وَلَدُ زين العابدين ، ولد سنة ست وخمسين في حياة عائشة وأبي هريرة. أرخ ذلك أحمد بن برقي روى عن جديه – النبي صلى الله عليه وسلم وعلي – رضي الله عنه – مرسلًا وعن جديه – الحسن والحسين – عليهما السلام – مرسلًا أيضًا وعن ابن عباس وأم سلمة وعائشة مرسلًا وعن ابن عمر وجابر وأبي سعيد وعبد الله بن جعفر وسعيد بن المسيب وأبيه زين العابدين ومحمد بن الحنفية - عم أبيه - وطائفة. وعن أبي هريرة وسمرة بن جندب مرسلًا أيضًا. وليس هو بالمكثر، هو في الرواية كأبيه - زين العابدين - وابنه جعفر ثلاثتهم لا يبلغ حديث كل منهم جزءًا ضخمًا ولكن لهم مسائل وفتاوى حدث عنه ابنه ، وعطاء بن أبي رباح ، والأعرج ، مع تقدمهما ، وعمرو بن دينار ، وأبو إسحاق السبيعي ، والزهري ، ويحيى بن أبي كثير ، وربيعة الرأي وليث بن أبي سليم ، وابن جريج ، وقرة بن خالد ، وحجاج بن أرطاة والأعمش ومخول بن راشد وحرب بن سريج والقاسم بن الفضل الحداني والأوزاعي وآخرون وكان أحد من جمع بين العلم والعمل والسؤدد والشرف والثقة والرزانة، وكان أهلًا للخلافة وهو أحد الأئمة الاثني عشر الذين تبجلهم الشيعة الإمامية وتقوم بعصمتهم ومعرفتهم بجميع الدين فلا عصمة إلا للملائكة والنبيين وكل أحد يصيب ويخطئ ويؤخذ منه قوله ويترك سوى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه معصوم مؤيد بالوحي.

قلت: هكذا قال الذهبي وهو الحق. لكن أرجو أن لا يخزي نبيه في أسباطه الأقربين الذين يجب حبهم على مسلم وأحسبهم قد توارثوا منه صلى الله عليه وسلم ميزة الاصطفاء وإن على درجات ولست أقول بعصمتهم لكن أزعم - ولا أزكي على الله أحدًا - أن الله يكرمهم - إكرامًا لجدهم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم _ من أن يقعوا في مثل ما يقع فيه غيرهم من الخطأ الفاحش فإن وهم أحد منهم أو لم يصب صميم الحق فما أحسبه سيبلغ بوهمه درك الانحراف وحاشاهم جميعًا عليهم السلام أن يظن فيهم درك التحريف. ثم قال الذهبي: وشهر أبو جعفر بالباقر من بقر العلم أي شقه فعرى فصله وخفيه ، ولقد كان أبو جعفر إمامًا مجتهدًا تاليًا لكتاب الله ، كبير الشأن ، ولكن لا يبلغ في القرآن درجة ابن كثير ونحوه ولا في الفقه درجة أبي الزناد وربيعة ولا في الحفظ ومعرفة السنن درجة

(1) الكتاب المصنف. ج: 6. ص:337 و338. ح:1268 و1272.

ص: 1006

قتادة وابن شهاب فلا نحابيه ولا نحيف عليه ونحبه في الله لما يجمع فيه من صفات الكمال. قلت: وبعض من ذكرهم الذهبي أنه لا يبلغهم لن يبلغوه ورعًا وزهدًا وتقوى وحتى في الخصائص التي ذكرها لهم لم يبرأوا من القول فيهم قولًا

بعضه وجيه لما يدعمه من وقائع لا سبيل إلى نكرانها وإن كنا نجلهم جميعًا ونرجو لهم من الله الرحمة والرضوان فهل برئ من الخطأ غير الأنبياء؟ ثم قال الذهبي: قال ابن فضيل عن سالم بن أبي حفصة سألت أبا جعفر وابنه جعفرًا عن أبي بكر وعمر ، فقالا لي: يا سالم ، تولهما وابرأ من عدوهما ، فإنهما كانا إمامي هدى، كان سالم فيه تشيع ظاهر فيبث هذا القول الحق وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذو الفضل وكذلك ناقلها أبو فضيل شيعي ثقة فعثر الله شيعة زماننا ما أغرقهم في الجهل والكذب ، فينالون من الشيخين وزيري المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ويحملون هذا القول من الباقر والصادق على التقية. وروى إسحاق الأزرق عن بسام الصيرفي قال: سألت أبا جعفر عن أبي بكر وعمر فقال: إني والله لأتولاهما وأستغفر لهما ، وما أدركت أحدًا من أهل بيتي إلا ويتولاهما. ثم قال: وبلغنا أن أبا جعفر كان يصلي في اليوم والليلة مائة وخمسين ركعة وقد عده النسائي وغيره في فقهاء التابعين بالمدينة واتفق الحفاظ على الاحتجاج بأبي جعفر. ثم قال: قال الزبير بن بكار: كان يقال لمحمد علي باقر العلم وأمه هي أم عبد الله بنت الحسن بن علي. ثم قال ابن عقدة: حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي نجيح. حدثنا علي بن حسان القرشي عن عمه عبد الرحمن بن كثير عن جعفر بن محمد قال: قال أبي: أجلسني جدي الحسن في حجره وقال لي: رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤك السلام. عن أبان بن تغلب عن محمد بن علي قال: أتاني جابر بن عبد الله وأنا في الكتاب فقال لي: اكشف عن بطنك، فكشفت فألصق بطنه ببطني ثم قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرئك السلام ثم قال: قال المطلب بن زياد: حدثنا ليث بن أبي سليم قال: دخلت على أبي جعفر محمد بن علي وهو يذكر ذنوبه وما يقول الناس فيه فبكى. وعن أبي جعفر قال: من دخل قلبه ما في خالص دين الله شغله عما سواه ما الدنيا؟ وما عسى أن تكون؟! هل هو إلا مركب ركبته وثوب لبسته أو امرأة أصبتها؟! ثم قال: محمد بن طلحة بن مصرف عن خلف بن حوشب عن سالم بن أبي حفصة وكان يترفض ، قال: دخلت على أبي جعفر وهو مريض فقال - وأظن قال ذلك من أجلي -: اللهم إني أتولى وأحب أبا بكر وعمر ، اللهم إن كان في نفسي غير هذا فلا نالتني شفاعة محمد يوم القيامة. ثم قال شبابة: أنبأنا بسام سمعت أبا جعفر يقول: كان الحسن والحسين يصليان خلف مروان يبتدران الصف ، وكان الحسين يسب مروان وهو على المنبر حتى ينزل أفتقية هذه؟! ثم قال: سفيان الثوري: اشتكى بعض أولاد محمد بن علي ، فجزع عليه ، ثم أخبر عن موته ، فسري عنه ، فقيل له في ذلك، فقال: فندعو الله فيما نحب ، فإذا وقع ما نكره لا نخالف الله فيما أحب. وروى الذهبي عن ابن عيينة: حدثنا جعفر بن محمد ، سمعت أبي يقول لعمته فاطمة بنت الحسين: هذي توفي لي ثمانيًا وخمسين سنة ، فمات فيها.

ص: 1007

ونقل ابن حجر في (تهذيب التهذيب: 9. ص: 350. ترجمة: 580) هذه الرواية وتعقبها بقوله: وهذا السند في غاية الصحة ومقتضاها أن يكون ولد سنة ستين ، وهذا هو الذي يتجه؛ لأن أباه علي بن الحسين شهد مع أبيه يوم كربلاء وهو ابن عشرين سنة ، وكان يوم كربلاء في المحرم سنة إحدى وستين ، ومقتضاه أن مولد علي كان سنة إحدى وأربعين ، فمن يولد سنة أربعين أو سنة إحدى وأربعين كيف يولد له سنة خمس وأربعين؟ والأصح أنه مات سنة أربع عشرة لأن البخاري قال: حدثنا عبد الله بن محمد ، عن ابن عيينة ، عن جعفر بن محمد قال: مات أبي سنة أربع عشرة ، فيكون مولده على هذا سنة ست وخمسين وهو يتجه أيضًا. قلت: ولعل ما نقلناه عن الذهبي فيه بعض الغناء لترجمة سريعة لهذا الإمام عليه السلام ، ولمن شاء الاستزادة ، أن يرجع إلى كتب الجرح والتعديل وتراجم الرجال ، وخاصة طبقات ابن سعد (ج:5. ص: 320) ، وطبقات خليفة (ص: 255) ، وتاريخ البخاري (ج: 1. ص: 183. ترجمة: 564) . والجرح والتعديل (ج: 8. ص: 26. ترجمة: 147)، وطبقات الفقهاء للشيرازي (ص: 64) ، وطبقات المفسرين (ج:2. ص: 200. ترجمة: 537) ، وتذكرة الحفاظ (ج: ا، ص:124. ترجمة: 119) ، ووفيات الأعيان (ج: 4. ص: 174. ترجمة: 560) . وصفة الصفوة (ج: 2. ص: 108. الترجمة: 171) . قال: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أرضه بخيبر يعنى بنصف.

ثم قال: حدثنا ابن أبي زائدة ، عن حجاج ، عن أبي جعفر قال:((عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على الشطر)) .

وقال البخاري في صحيحه (1) في باب: المزارعة بالشطر ونحوه.

حدثنا إبراهيم ابن المنذر. حدثنا أنس بن عياض ، عن عبيد الله بن نافع ، أن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما أخبره ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ((عامل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع ، وكان يعطي أزواجه مائة وسق، ثمانون وسقا ثمرا ، وعشرون وسقا شعيرا، فقسم عمر خيبر ، فخير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع لهن من الماء والأرض أو يمضي لهن)) .

(1) ج: 3. ص: 67 و68 و71.

ص: 1008

فمنهن من اختار الأرض ، ومنهن من اختار الوسق، وكانت عائشة اختارت الأرض.

ثم قال:

في باب: إذا لم يشترط السنين في المزارعة.

حدثنا مسدد. حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله. حدثنا نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:((عامل النبي صلى الله عليه وسلم خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع)) .

ثم قال في باب المزارعة مع اليهود: حدثنا ابن مقاتل. أخبرنا عبد الله. أخبرنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما – ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر اليهود على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرخ منها)) .

ثم قال في باب: إذا قال رب الأرض: أقركما أقرك الله ، ولم يذكر أجلًا معلومًا ، فهما على تراضيهما: حدثنا أحمد بن مقدام. حدثنا فضيل بن سليمان. حدثنا موسى. أخبرنا نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج ، قال: حدثني موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجلى اليهود والنصارى عن أرض الحجاز وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها ، وكانت الأرض حين ظهر عليها لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين ، وأراد إخراج اليهود منها، فسألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرهم بها أن يكفوا عملها ، ولهم نصف الثمر، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:((نقركم بها على ذلك ما شئنا)) ، فقروا بها حتى أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء قال ياقوت الحموي (معجم البلدان ج: ا. ص: 165) : أريحاء: بالفتح ثم الكسر وياء ساكنة والحاء مهملة والقصر ، وقد رواه بعضهم بالخاء المعجمة لغة عبرانية وهي مدينة الجبارين في الغور من أرض الأردن بالشام ، بينها وبين بيت المقدس يوم للفارس في جبال صعبة المسلك ، سميت فيما قيل بأريحاء بن مالك أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام.

ص: 1009

قلت: لا تزال هذه المدينة معروفة باسمها حتى الآن وهي من أشهر مدن الضفة الغربية لنهر الأردن ، وكانت إلى أن حدثت مأساة الاحتلال الصهيوني لفلسطين جزءًا من ولاية فلسطين. وقال ياقوت (معجم البلدان ج:2. ص: 67) :

تيماء بالفتح والمد بليد في أطراف الشام، بين الشام ووادي القرى على طريق حاج الشام ودمشق. والأبلق الفرد حصن السموأل بن عادياء اليهودي مشرف عليها ، فلذلك كان يقال لها: تيماء اليهودي. قلت: عرفها اليهود قبل السموأل ، وكانت مهجرًا لهم حين طردهم الجبارون من القدس بأن الآشوريين أسكنوهم فيها ، وكانت من أول ما استعمره الأشوريون عندما غزوا أرض العرب ، وفيها يقول أحد الشعراء وقد نقله ياقوت نفسه:

إلى الله أشكو لا إلى الناس أنني بتيماء تيماء اليهودي غريب

وأني بتهباب الرياح موكل طروب إذا هبت علي جنوب

وإن هب علوي الرياح وجدتني كأني لعلوّ الرياح نسيب.

وفي تيماء يقول المجنون:

ونبأتماني أن تيماء منزل لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا

وهذه شهور الصيف عنا قد انقضت فما للنوى ترمي ليلى المراميا.

ص: 1010

وقال مسلم في صحيحه (1) حدثنا أحمد بن حنبل وزهير بن حرب واللفظ لزهير ، قالا: حدثنا يحيى - وهو القطان - عن عبيد الله. أخبرني نافع ، عن ابن عمر ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع)) .

وحدثنا علي بن حجر السعدي. حدثنا علي - وهو ابن مسهر - أخبرنا عبيد الله ، ، عن نافع ، عن ابن عمر قال:((أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع ، فكان يعطي أزواجه كل سنة مائة وسق، ثمانين وسقًا من ثمر ، وعشرين وسقًا من شعير، فلما ولي عمر قسم ، وخير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع لهن الأرض والماء ، أو يضمن لهن كل عام، فاختلفن ، فمنهن من اختار الأرض ، ومنهن من اختار الأوساق كل عام، فكانت عائشة وحفصة ممن اختار الأرض والماء)) .

وحدثنا ابن نمير، حدثنا عبيد الله. حدثني نافع ، عن عبد الله بن عمر ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر)) ، واقتص الحديث بنحو حديث علي بن مسهر ، ولم يذكر: فكانت عائشة وحفصة ممن اختارتا الأرض والماء. وقال: خير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع لهن الأرض ولم يذكر الماء.

وحدثنى أبو الطاهر. حدثنا عبد الله بن وهب. أخبرني أسامة بن زيد الليثي ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر قال: لما افتتحت خيبر سألت يهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم فيها على أن يعملوا على نصف ما خرج منها من الثمر والزرع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقركم فيها على ذلك ما شئنا)) .

ثم ساق الحديث بنحو حديث ابن نمير وابن مسهر عن عبيد الله ، وزاد فيه: وكان الثمر يقسم على السهمين من نصف خيبر ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس.

(1) على هامش شرح النووي. ج: 10. ص: 208.

ص: 1011

وحدثنا ابن رمح ، أخبرنا الليث ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوا من أموالهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر

ثمرها.

وحدثني محمد بن رافع ، وإسحاق بن منصور - واللفظ لابن رافع - قالا: حدثنا عبد الرزاق. أخبرنا ابن جريج. حدثني موسى بن عقبة عن نافع ، عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب أجلى اليهود والنصارى عن أرض الحجاز ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر أراد إجلاء اليهود ، وكانت الأرض حين ظهر عليها لله ولرسوله وللمسلمين، فأراد إخراج اليهود منها، فسألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يقرهم بها على أن يكفوا عملها ، ولهم نصف الثمر. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:((نقركم على ذلك ما شئنا)) ، فقروا بها حتى أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء.

وروى أبو يوسف (1) حدثنا محمد بن السائب الكلبي ، عن أبي صالح ، عن عبد الله بن العباس قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ، قالوا: يا محمد ، إنا أرباب الأموال ، ونحن أعلم بها منكم ، فعاملونا بها. فعاملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصف ، على أنا إذ شئنا أن نخرجكم أخرجناكم. فلما فعل ذلك أهل خيبر ، سمع بذلك أهل فدك ، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم محيصة بن مسعود، فنزلوا على ما نزل عليه أهل خيبر على أن يصونهم ويحقن دماءهم، فأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على مثل معاملة أهل خيبر ، فكانت فدك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه لم يوجف عليها المسلمون بخيل ولا ركاب.

وحدثني محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الحكم بن عتيبة ، عن مقسم ، عن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر ، فقال له أهلها: نحن أعلم بعملها منكم. فأعطاهم إياها بالنصف، ثم بعث عبد الله بن رواحة يقسم بينه وبينهم ، فأهدوا إليه ، فرد هديتهم ، فقال: لم يبعثني النبي صلى الله عليه وسلم لآكل أموالكم ، وإنما بعثني لأقسم بينكم وبينه، ثم قال: إن شئتم عاملت وعالجت ، وكلت لكم النصف ، وإن شئتم عاملتم وعالجتم ، وكلتم النصف. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.

(1) كتاب الخراج. ص: 50.

ص: 1012

وقال يحيى بن آدم (1) أخبرنا إسماعيل ، قال: حدثنا الحسن ، قال: حدثنا يحيى ، قال: حدثنا زياد بن عبد الله بن الطفيل ، عن محمد بن إسحاق قال: سألت ابن شهاب عن خيبر ، فأخبرني أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال ، وكانت خيبر مما أفاء الله على رسوله، فخمسها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقسمها بين المسلمين ، ونزل من نزل من أهل خيبر على الجلاء، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاملة الأرض.

وقال أبو عبيدة (2) ، فأما الحكم في الأرض العنوة ، فإن عبد الله بن صالح قال: حدثنا الليث عن سعد ، عن يونس بن يزيد الأيلي ، عن ابن شهاب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال وكانت مما أفاء الله على رسوله، فخمسها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسمها بين المسلمين، ونزل من نزل من أهلها على الجلاء بعد القتال، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:((إن شئتم دفعت إليكم هذه الأموال على أن تعملوها ، ويكون ثمرها بيننا وبينكم ، وأقركم ما أقركم الله)) قال: فقبلوا الأموال على ذلك.

(1) كتاب الخراج. ص: 20. فقرة: 18.

(2)

الأموال. ص: 78 و79. فقرة: 141 و142.

ص: 1013

وحدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا يحيى بن سعيد ، أن بشير بن يسار أخبره ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أفاء الله عليه خيبر ، قسمها على ستة وثلاثين سهمًا ، جمع كل سهم منها مائة سهم، وعزل نصفها لنوائبه وما ينزل به ، وقسم النصف الباقي بين المسلمين ، وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قسم، الشق والنطاة وما حيز معهما ، وكان فيهما وقف الكتيبة والوطيحة وسلالم. فلما صارت الأموال في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له من العمال ما يكفون عمل الأرض ، فدفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود يعملونها على نصف ما خرج منها. فلم تزل على ذلك حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياة أبي بكر حتى كان عمر ، فكثر العمال في أيدي المسلمين ، وقووا على عمل الأرض، فأجلى عمر اليهود إلى الشام ، وقسم الأموال بين المسلمين إلى اليوم.

وقال ابن زنجويه (1) فإن عبد الله بن صالح أنبأنا ، عن ليث ، عن يونس بن زيد ، عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال، وكانت مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقسمها بين المسلمين ، ونزل من نزل من أهلها على الجلاء بعد القتال ، فدعاهم رسول الله ، فقال:((إن شئتم دفعت إليكم هذه الأموال على أن تعملوها ، ويكون ثمرها بيننا وبينكم ، وأقركم ما أقركم الله)) قال: فقبلوا الأموال على ذلك.

وأنبأنا يزيد بن هارون ، عن يحيى بن سعيد ، أن بشير بن يسار أخبره ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أفاء الله عليه بخيبر ، قسمها على ستة وثلاثين سهمًا، جمع كل سهم مائة سهم، وعزل نصفها لنوائبه وما ينزل به، وقسم النصف الباقي بين المسلمين وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومما قسم الشق ونطاة وما حِيز معهما، وكان فيما وقف الكتيبة والوطيحة وسلالم.

(1) الأموال. ج: 1. ص: 188. فقرة: 218 و219.

ص: 1014

فلما صارت الأموال في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن له من العمال ما يكفون عمل الأرض، فدفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود يعملونها على نصف ما خرج منها ، فلم يزل على ذلك حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياة أبي بكر حتى كان عمر ، فكثر العمال في أيدي المسلمين ، وقووا على عمل الأرض، فأجلى عمر اليهود إلى الشام ، وقسم الأموال بين المسلمين إلى اليوم.

ثم قال (1) أنبأنا محمد بن يوسف. أنبأنا عمر بن ذر ، قال: جلسنا إلى أبي جعفر محمد بن علي ، فسأله رجل من القوم عن قبالة الأرضين والنخل ، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل خيبر من أهلها بالنصف، فيقومون على النخل ، فيسقونه ويحفظونه ويلقحونه، حتى إذا أينع ودنا صرامه ، بعث عبد الله بن رواحة ، فخرص ما في النخل ، فيتولونه ويردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصته النصف. فأتوه في بعض تلك الأعوام ، فقالوا: إن عبد الله بن رواحة قد جار علينا في الخرص. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فنحن نأخذ بخرص عبد الله بن رواحة ونرد عليكم الثمن بحصتكم النصف)) فقالوا: هكذا بأيديهم وعقدوا ثلاثين، هذا الحق وبهذا قامت السماوات والأرض. بل نأخذ النخل ، فقوموا النخل وردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم الثمن بحصته النصف.

ثم قال (2) أخبرنا محمد بن يوسف. أخبرنا عمر بن ذر ، قال: جلسنا إلى أبي جعفر محمد بن علي ، فسأله رجل من القوم عن قبالة الأرضين والنخل، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل خيبر من أهلها بالنصف، فيقومون على النخل، فيسقونه ويحفظونه ويلقحونه ، فإذا أينع ودنا صرامه ، بعث عبد الله بن رواحة ، فخرص ما في النخل ، فيتولونه ، ويردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصته النصف. فأتوه في بعض تلك الأعوام ، فقالوا: إن عبد الله بن رواحة قد جار علينا في الخرص. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فنحن نأخذ بخرص عبد الله بن رواحة ونرد عليكم الشيء بحصتكم النصف)) . فقالوا: هكذا بأيديهم وعقد ثلاثين، هذا الحق وبهذا قامت السماوات والأرض، بل نأخذ النخل ، فقوم النخل ، وردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم الثمن بحصته النصف.

(1) الأموال. ص: 288. فقرة: 299.

(2)

الأموال. ج: 3. ص: 1067. فقرة: 1979.

ص: 1015

وقال ابن سعد (1) أخبرنا يزيد بن هارون. أخبرنا يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أفاء الله عليه خيبر قسمها على ستة وثلاثين سهمًا، جمع كل سهم مائة سهم ، وجعل نصفها لنوائبه وما ينزل به، وعزل النصف الآخر ، وقسمه بين المسلمين ، وسهم النبي صلى الله عليه وسلم فيما قسم بين المسلمين الشق ونطاة وما حيز معهما، وكان فيما وقف الوطيحة والكتيبة وسلالم وما حيز معهما، وكان فيما وقف الوطيحة والكتيبة وسلالم وما حيز معهن، فلما صارت الأموال في يد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكن لهم من العمال ما يكفون عمل الأرض ، فدفعها النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليهود يعملونها على نصف ما يخرج منها، فلم يزالوا على ذلك حتى كان عمر بن الخطاب وكثر في يدي المسلمين العمال وقووا على عمل الأرض، فأجلى عمر اليهود إلى الشام وقسم الأموال بين المسلمين إلى اليوم.

وقال أحمد في مسنده (2) حدثنا محمد بن فضيل ، قال: حدثنا يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار - بضم أوله وفتح الشين - عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أدركهم يذكرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ظهر على خيبر وصارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ضعف عن عملها ، فدفعوها إلى اليهود ، ويقومون عليها ، وينفقون عليها ، على أن لهم ما يخرج منها. فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ستة وثلاثين سهما، جمع كل سهم مائة سهم، فجعل نصف ذلك كله للمسلمين، وكان في ذلك النصف سهام المسلمين وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معها، وجعل النصف الآخر لمن ينزل عليه من الوفود والأمور ونوائب الناس.

عن سفيان بن وهب الخولاني ، قال: لما افتتحنا مصر بغير عهد ، قام الزيبر بن العوام رضي الله عنه ، فقال: يا عمرو بن العاص اقسمها. فقال عمرو: لا أقسمها ، فقال الزبير: والله لتقسمنها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، قال عمرو: والله لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين. فكتب إلى عمر رضي الله عنه فكتب إليه عمر ، أن أقرها حتى يغزو منها حبل الحبلة.

(1) الطبقات الكبرى. ج: 2. ص: 113.

(2)

الساعاتي الفتح الرباني. ج: 14. ص: 114. ح: 316.

ص: 1016

وقال ابن حبان في صحيحه (1) أخبرنا خالد بن النضر بن عمر القرشي أبو يزيد المعدل بالبصرة قال: حدثنا عبد الواحد بن غياث ، قال: حدثنا حماد بن سلمة ، قال: أخبرنا عبيد الله بن عمر - فيما يحسب أبو سلمة - عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم، فغلب على الأرض والزرع والنخل ، فصالحوه على أن يخلوا منها ، ولهم ما حملت ركابهم ، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء ، ويخرجون منها، فاشترط عليهم ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئًا ، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عصمة. فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب ، كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي: ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير؟ فقال: أذهبته النفقات والحروب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((العهد قريب والمال أكثر من ذلك)) ، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير بن العوام فمسه بعذاب، وقد كان حيي قبل ذلك قد دخل خربة ، فقال: قد رأيت حييا يطوف في خربة ههنا ، فذهبوا فطافوا ، فوجدوا المسك في خربة ، فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني أبي حقيق ، وأحدهما

زوج صفية بنت حيي بن أخطب ، وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم وذراريهم ، وقسم أموالهم للنكث الذي نكثوا ، وأراد أن يجليهم منها ، فقالوا: يا محمد ، دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها ، وكانوا لا يتفرعون (2) أن يقوموا فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع ونخل وشيء ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان عبد الله بن رواحة يأتيهم كل عام يخرصها عليهم ثم يضمنهم الشطر، قال: فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة خرصه ، وأرادوا أن يرشوه، فقال: يا أعداء الله ، أتطعموني السحت، والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إليَّ ، ولأنتم أبغض إليَّ من عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.

(1) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 316. ح: 5176.

(2)

لعل صوابه: لا يتفرغون أو لا يفرغون بالغين المعجمة كما في رواية البيهقي في سننه وابن كثير نقلًا عنه في البداية والنهاية.

ص: 1017

وقال أبو داود في سننه (1) حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء. حدثنا أبي. حدثنا حماد بن سلمة ، عن عبيد الله بن عمر قال- أحسبه عن نافع ، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر ، فغلب على النخل والأرض، وألجأهم إلى قصرهم، فصالحوه على أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء والحلقة ، ولهم ما حملت ركابهم، على أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئًا ، فإن فعلوا فلا ذمة ولا عهد، فغيبوا مسكا لحيي بن أخطب ، وقد كان قتل قبل خيبر ، كان قد احتمله معه يوم بني النضير حين أجليت النضير ، فيه حليهم، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعية: ((أين مسك حيي بن أخطب؟)) قال: أذهبته الحروب والنفقات فوجدوا المسك، فقتل ابن الحقيق ، وسبى نساءهم وذراريهم ، وأراد أن يجليهم ، فقالوا: يا محمد ، دعنا نعمل في هذه الأرض ، ولنا الشطر ما بدا لك ، ولكم الشطر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي كل امرأة من نسائه ثمانين وسقا من ثمر ، وعشرين وسقا من شعير.

وحدثنا الربيع بن سليمان المؤذن ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا يحيى بن زكرياء. حدثني سفيان، عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة قال ((: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر نصفين، نصفا لنوائبه وحاجته ، ونصفا بين المسلمين ، قسمها بينهم على ثمانية عشر سهما)) .

وحدثنا حسين بن علي بن الأسود ، أن يحيى بن آدم حدثهم ، عن أبي شهاب ، عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار ، أنه سمع نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا

فذكر هذا الحديث ، قال: فكان النصف سهام المسلمين ، وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعزل النصف للمسلمين لما ينوبه من الأمور والنوائب.

حدثنا حسين بن علي. حدثنا محمد بن فضيل ، عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار مولى الأنصار، عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر ، قسمها على ستة وثلاثين سهما، جمع كل سهم مائة سهم، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين النصف من ذلك، وعزل النصف الباقي لمن نزل به من الوفود والأمور ونوائب الناس)) .

(1) ج: 3. ص: 157 و159. ح: 3006 و3010 و3011 و3012 و3013 و3014.

ص: 1018

وحدثنا عبد الله بن سعيد الكندي. حدثنا أبو خالد - يعني سليمان - عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار قال: لما أفاء الله على نبيه صلى الله عليه وسلم خيبر ، قسمها على ستة وثلاثين سهما، جمع كل سهم مائة سهم، فعزل نصفها لنوائبه وما ينزل به الوطيحة والكتيبة وما أحيز معهما، وكان سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أحيز معهما.

وحدثنا محمد بن مسكين اليمامي. حدثنا يحيى بن حسان. حدثنا سليمان - يعني ابن بلال - عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أفاء الله عليه خيبر ، قسمها على ستة وثلاثين سهمًا جمع، فعزل للمسلمين الشطر ثمانية عشر سهما ، يجمع كل سهم مائة، النبي صلى الله عليه وسلم معهم، له سهم كسهم أحدهم ، وعزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سهما ، وهو الشطر لنوائبه وما ينزل به من أمر المسلمين، فكان ذلك الوطيح والكتيبة والسلالم وتوابعها. فلما صارت الأموال بيد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، لم يكن لهم عمال يكفونهم عملها ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود فعاملهم)) .

وقال الطبري في تاريخه (1) في آخر حديث طويل من غزوة خيبر إسناده إلى ابن إسحاق: فلما نزل أهل خيبر على ذلك - أي على الجلاء - سألوا رسول الله أن يعاملهم بالأموال على النصف ، وقالوا: نحن أعلم بها منكم ، وأعمر لها، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصف على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم ، وصالحه أهل فدك على مثل ذلك، فكانت خيبر فيئًا للمسلمين ، وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب.

(1) ج: 3. ص: 15.

ص: 1019

وقال البيهقي (1) أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المقري. أنبأ الحسن بن محمد بن إسحاق. حدثنا يعقوب بن يوسف القاضي، حدثنا عبد الواحد بن غياث. حدثنا حماد بن سلمة. أنبأنا عبيد الله بن عمر - فيما يحسب أبو سلمة - عن نافع ، عن ابن عمر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم ، فغلب على الأرض والزرع والنخل ، فقالوا: يا محمد ، دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها ، ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها ، فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع ونخل وشيء ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يأتيهم كل عام فيخرصها عليهم ثم يضمنهم الشطر، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام شدة خرصه ، وأرادوا أن يرشوه فقال: يا أعداء الله تطعموني السحت وقد جئتكم من عند أحب الناس ، ولأنتم أبغض إليَّ من عدتكم من القردة والخنازير ، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن أعدل عليكم ، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض)) .

(1) السنن الكبرى. ج: 6. ص: 114 و115.

ص: 1020

وأخبرنا الحسين بن الفضل القطان ببغداد. أنبأنا أبو سهل بن زياد القطان. حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا محمد بن المثنى. حدثنا سعيد بن سفيان. أنبأنا صالح - وهو ابن أبي الأخضر - عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال:((لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر دعا يهود ، فقال: عليكم نصف الثمر على أن تعملوا ما أقركم الله عز وجل) قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله يخرصها ثم يُخيِّرُهم أن يأخذوها أو يتركوها، وأن اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض ذلك ، فشكوا إليه ، فدعا عبد الله بن رواحة ، فذكر له ما ذكروا ، وقال عبد الله: يا رسول الله وهم بالخيار، إن شاؤوا أخذوها وإن تركوها أخذناها، فرضيت اليهود ، وقالت: بهذا قامت السماوات والأرض، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي توفي فيه:((لا يجتمع في جزيرة دينان)) . قال: فلما انتهى ذلك

إلى عمر رضي الله عنه أرسل إلى يهود خيبر ، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاملكم على هذه الأموال وشرط لكم أن يقركم ، يعني ما أقركم الله ورسوله ، وقد أذن الله عز وجل في الجلاء لكم حين عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عهد، فأجلاهم عمر رضي الله عنه كل يهودي ونصراني في أرض الحجاز ثم قسمها بين أهل الحديبية.

ص: 1021

وذكر ابن هشام قصة صلح خيبر نقلًا عن ابن إسحاق كعادته ، وما كنا لنعرض له ، لولا نكتة هامة وردت أثناء عرضه ، إذ قال: وكان فيمن مشى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني يهود فدك الذين جاؤوا يطلبون صلحًا كصلح خيبر - في ذلك محيصة بن مسعود أخو بني حارثة.

قلت: ومحيصة هذا حارثي أنصاري أوسي من رهط رافع بن خديج له بلاء في الإسلام وذكر ، امتاز به في واقعة مع اليهود ، حفظها له التاريخ. ذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعد قتل كعب بن الأشرف:((من ظفرتم به من يهود فاقتلوه)) . فوثب محيصة على تاجر يهودي فقتله ، فجعل أخوه حويصة يضربه ، وكان أسن منه ، وذلك قبل أن يسلم حويصة (1)

ولهذه النكتة أثر بعيد عميق في تكييف العلاقة بين قصة صلح خيبر وبين حديث رافع بن خديج والأحاديث المشاكلة له ولجابر بن عبد الله وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص وأبي سعيد الخدري وثابت بن الضحاك وغيرهم. ذلك بأن مجموع النصوص المروية لهذه الأحاديث التي وردت فيها كلمة (المخابرة) أو ما يشبهها من مشتقات (خبر) بلغ أربعين نصًا (2)

(1) ابن حجر الإصابة. ج: 1. ص: 363. ترجمة حويصة: 1881. وج: 3. ص: 388. ترجمة محيصة: 7825.

(2)

انظر فيما سبق حديث كل من حنظلة بن قيس، سليمان بن يسار، أبي النجاشي، سعيد بن المسيب، سعد بن أبي وقاص، عبد الله بن دينار، عطاء ومجاهد بن شهاب، طاوس، عبد الله بن دينار، ابن عمر، نافع، أسيد بن ظهير، كلهم عن رافع بن خديج.

ص: 1022

وكون محيصة الحارثي أحد البارزين من رهط رافع من الذين سعوا بين فدك وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يكون ليهود فدك ما ليهود خيبر من الصلح، وكان لهم ذلك فعلًا، لا ينبغي عدم اعتباره في محاولة تقدير الزمن الذي وقع فيه صلح خيبر ، وذلك الذي وقع فيه نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم بني حارثة بالذات عن كراء الأرض.

ونعود إلى موضوع النسخ الذي ادعاه بعضهم ، فاعتمدوا عليه - صراحة أو ضمنًا - في إبطال النهي عن المزارعة أو كراء الأرض. ونبدأ بما قاله ابن حزم الذي سبق أن نقلنا عنه القول بتواتر النهي عن كراء الأرض معنويًا إن لم يكن لفظيًا.

قال في الأحكام (1) والنسخ تخصيص بعض (2) الأزمان بحكم الوارد دون سائر الأزمان ، وهم يجيزون بالسنة تخصيص بعض الأعيان مثل قوله عليه السلام:((لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدًا)) أو ما أشبه ذلك. فما الفرق بين جواز تخصيص بعض الأعيان بالسنة وبين تخصيص بعض الأزمان بها؟ وما الذي أوجب أن يكون هذا ممنوعا وذلك موجودًا؟ فإن قالوا: ليس التخصيص كالنسخ؛ لأن التخصيص لا يرفع النص كله، قيل لهم: إذا جاز رفع بعض النص بالسنة - وبعض النص نص - فلا فرق بين رفع بعض نص آخر بها. وكل ذلك سواء ، ولا فرق في شيء منها.

وقال الآمدي (3) أما المتفق عليه - أي من شروط النسخ - بأن يكون الحكم المنسوخ شرعيا ، وأن يكون الدليل الدال على ارتفاع الحكم شرعيا متراخيًا عن الخطاب المنسوخ حكمه ، وأن لا يكون الخطاب المرفوع حكمه مقيدًا بوقت معين.

(1) المجلد: ا. ص: 482.

(2)

في النسخة المطبوعة بعد وهي خطأ بدليل ما بعدها.

(3)

الإحكام في أصول الأحكام. ج: 3. ص: 164.

ص: 1023

ثم قال (1) النصان إذا تعارضا وتنافيا ، إما أن يتعارضا من كل وجه ، أو من وجه دون وجه، فإن تنافيا من كل وجه، فإما أن يكونا معلومين أو مظنونين ، أو أحدهما معلومًا ، والآخر مظنونًا. فإن كانا معلومين أو مظنونين، فإما أن يعلم تأخر أحدهما عن الآخر ، أو اقترانهما ، أو لا يُعلم شيء من ذلك، فإن عُلِمَ تأخر أحدهما عن الآخر ، فهو ناسخ ، والمتقدم منسوخ، وذلك يُعرف إما بلفظ النسخ والمنسوخ ، كما لو قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا ناسخ وهذا منسوخ ، أو أجمعت الأمة على ذلك. وإما بالتاريخ ، وذلك قد يعلم إما بأن يكون في اللفظ ما يدل على التقدم والتأخر لقوله صلى الله عليه وسلم:((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)) . وإما بإسناد الراوي أحدهما إلى شيء متقدم ، كقوله: كان هذا في السنة الفلانية، وإحداهما معلومة التقدم على الأخرى ، هذا كله إذا كان سند الناسخ والمنسوخ مستويًا.

ثم قال: وإما إن علم اقترانهما مع تعذر الجمع بينهما ، فعندي أن ذلك غير متصور الوقوع ، وإن جوزه قوم وبتقدير وقوعه، فالواجب إما الوقف عن العمل بأحدهما أو التخيير بينهما إن أمكن، وكذلك الحكم فيما إذا لم يُعلم شيء من ذلك، وأما إن كان أحدهما معلومًا والآخر مظنونًا ، فالعمل بالمعلوم واجب ، سواء تقدم أو تأخر ، أو جهل الحال في ذلك، لكنه إن كان متأخرًا عن المظنون ، كان ناسخًا ، وإلا كان مع وجوب العمل به غير ناسخ. هذ كله إذا تنافيا من وجه دون وجه ، بأن يكون كل واحد منهما أعم من وجه دون وجه ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:((من بدل دينه فاقتلوه)) . فإنه خاص بالمبدل ، وعام في النساء والرجال، وقوله:((نهيت عن قتل النسوان)) . فإنه خاص بالنساء ، وعام بالنسبة إلى المبدل، فالحكم فيهما كما لو تنافيا من كل وجه.

وقال الشيرازي (2)

فصل: وكذلك يجوز نسخ السنة بالسنة ، كما يجوز نسخ الكتاب بالكتاب، الآحاد بالآحاد ، والمتواتر بالمتواتر ، والآحاد بالمتواتر ، فأما المتواتر بالآحاد ، فلا يجوز، لأن التواتر يوجب العلم ، فلا يجوز نسخه بما يوجب الظن.

(1) الإحكام في أصول الأحكام. ص: 258 إلى 261.

(2)

اللمع في أصول الفقه. ص: 173. فقرة: 113.

ص: 1024

ثم قال (1) : واعلم أن النسخ قد يعلم بصريح النطق ، كقوله عز وجل:{الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} (2) وقد يعلم بالإجماع ، وهو أن تجمع الأمة على خلاف ما ورد من الخبر ، فيستدل بذلك على أنه منسوخ؛ لأن الأمة لا تجتمع على الخطأ ، وقد يعلم بتأخير أحد اللفظين عن الآخر مع التعارض، وذلك مثل ما روي أنه قال: الثيب بالثيب جلد مائة والرجم. ثم روي أنه رجم ماعزًا ولم يجلده، فدل على أن الجلد منسوخ.

ثم قال (3) ويعلم المتأخر في الأخبار بالنطق ، كقوله صلى الله عليه وسلم:((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)) . ويعلم بأخبار الصحابة أن هذا نزل بعد هذا وورد بعد هذا، كما روي أنه كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار.

وذكر ابن قدامة (4) من بين ما يعرف به النسخ أن يذكر الراوي تاريخ سماعه ، فيقول: سمعت عام الفتح. ويكون المنسوخ معلومًا بقدمه.

وقال الرازي (5) قد يعلم ذلك - أي كون الناسخ ناسخًا - باللفظ تارة وبغيره أخرى. أما اللفظ فهو أن يوجد لفظ النسخ، إما بأن يكون هذا منسوخًا، أو يقول: ذلك ينسخ هذا، وإما غير اللفظ ، فهو أن يأتي بنقيض الحكم الأول أو بضده مع العلم بالتاريخ.

ثم قال: وأما التاريخ ، فقد يعلم باللفظ أو بغيره. أما اللفظ فكما إذا قال أحد الخبرين قبل الآخر، وأما بغير اللفظ فعلى وجوه ، أحدها: أن يقول: هذا الخبر ورد سنة كذا ، وهذا في سنة كذا، وثانيهما: أن يعلق أحدهما على زمان معلوم التقدم والآخر بالعكس ، كما لو قال: كان هذا في غزاة بدر والآخر في غزاة أحد، وهذه الآية نزلت قبل الهجرة والأخرى بعدها.

(1) اللمع في أصول الفقه ص: 176 و178.

(2)

الآية رقم (66) من سورة الأنفال.

(3)

الفقرة: 121 من اللمع في أصول الفقهه.

(4)

روضة الناظر. ص: 81.

(5)

المحصول. القسم: 3. ص: 561 و562.

ص: 1025

وثالثها: أن يروي أحدهما رجل متقدم الصحبة لرسول صلى الله عليه وسلم ، ويروي الآخر رجل متأخر الصحبة ، وانقطعت صحبة الأول للرسول عليه السلام عند ابتداء الآخرين بصحبته لهذا يقتضي أن يكون خبر الأول متقدمًا. أما لو دامت صحبة المتقدم مع الرسول عليه السلام لم يصح هذا الاحتمال.

وقال الشاطبي (1) بعد أن بين أن النسخ لا يكون إلا في الكليات: ويدل على أن ذلك الاستقراء التام ، وأن الشريعة مبنية على حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينات، وجميع ذلك لم ينسخ منه شيء، بل إنما أتى بالمدينة (ص1335) ما يقويها ويحكمها ويحسنها.

ثم قال: ووجه آخر، وهو أن الأحكام ثبتت على المكلف، فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق؛ لأن ثبوتها على المكلف أولًا محقق ، فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق. ولذلك أجمع المحققون على أن خبر الواحد لا

ينسخ القرآن ، ولا الخبر المتواتر؛ لأنه رفع لمقطوع به بالمظنون ، فاقتضى هذا أن ما كان من الأحكام الكلية يدعى نسخه لا ينبغي قبول تلك الدعوة فيه إلا مع قاطع بالنسخ ، بحيث لا يمكن الجمع بين الدليلين بدعوى للأحكام فيهما.

وعقب عليه محقق الكتاب الشيخ عبد الله دراز بقوله: نعم، هو قول الأكثرين - يعني أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن ولا الخبر المتواتر - وحجتهم واضحة. وإنما قبلوا تخصيص المتواتر بالآحاد ولم يقبلوا نسخه به؛ لأن الأول بيان وجمع بين الدليلين بخلاف النسخ فإنه إبطال.

وقال ابن حزم الهمذاني (2) في معرض ذكره لشروط النسخ: ومنها أن يكون الخطاب الناسخ متراخيًا عن المنسوخ، فعلى هذا يعتبر الحكم الثاني، فإنه لا يعدو أحد القسمين إما أن يكون متصلًا بالأول لا يسمى نسخًا ، إذ من شرط النسخ التراخي وقد فقد هاهنا لأن قوله عليه الصلاة والسلام:((لا تلبسوا القمص ولا السراويلات ولا الخفاف إلا أن يكون رجل ليس له نعلان فليلبس الخفين)) . وإن كان صدر الحديث يدل على منع لبس الخفاف ، وعجزه يدل على جوازه ، وهما حكمان متنافيان ، غير أنه لا يسمى نسخًا لانعدام التراخي فيه، ولكن هذا النوع لا يسمى بيانًا.

(1) الموافقات. ج: 3. ص: 105.

(2)

الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار. ص: من 9 إلى 21.

ص: 1026

وإن كان منفصلًا نظرت هل يمكن الجمع بينهما أم لا، فإن أمكن الجَمع جُمع ، إذ لا عبرة بالانفصال الزماني مع قطع النظر عن التنافي ، ومهما أمكن حمل كلام الشارع على وجه يكون أعم للفائدة كان أولى صونًا لكلامه - بأبي هو وأمي - من سمات النقص، ولأن في ادعاء النسخ إخراج الحديث عن المعنى المفيد وهو على خلاف الأصل ، ألا ترى أن قوله عليه السلام:((شر الشهود من شهد قبل أن يستشهد)) . وفي حديث آخر: ((خير الشهود من شهد قبل أن يستشهد)) ، وهما حديثان قد تعارضا على ما ترى، وقد يشكل على غير الفقيه أن يجمع بينهما لما يتوهم فيه من ظاهر المنافاة مع حصول الانفصال فيهما، وربما يراه بعض من له معرفة بالإسناد فيرى إسناد الحديث الأول أمثل ، فيحكم بنسخ الثاني ، وليس الأمر على ما يتوهمه؛ لفقدان شرائط النسخ، لكن طريق الجمع بين هذين الحديثين أن يحمل الأول على ما إذا شهد قبل أن يستشهد من غير مسيس الحاجة إليه. وهذا التفسير ظاهر في حديث عمران بن الحصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((خير هذه الأمة القرن الذي بعثت فيهم ، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم ينشأ قوم يشهدون ولا يستشهدون)) . ويحمل الحديث الثاني على ما إذا شهد عنه مسيس الحاجة ، فهو خير الشهود، وعلى هذا ينبغي أن يحتال في طريق الجمع رفعًا للتضاد عن الأخبار.

وإن لم يكن الجمع وهما حكمان منفصلان، نظرت هل يمكن التمييز بين السابق والتالي، فإن تميزا وجب السير إلى الآخر منهما.

ويعرف ذلك بأمارات عدة، منها أن يكون لفظ النبي صلى الله عليه وسلم مصرحًا به ، نحو قوله عليه الصلاة والسلام:((كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها)) . أو يكون لفظ الصحابي ناطقًا به نحو حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس)) .

ومنها أن يكون التاريخ معلومًا نحو ما رواه أُبي بن كعب، رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله ، إذا جامع أحدنا فأكسل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((يغسل ما مس المرأة منه وليتوضأ ثم يصل)) . هذا حديث يدل على أن لا غسل مع الإكسال ، وأن لا موجب الغسل الإنزال.

ص: 1027

ثم لما استقرينا طرق هذا الحديث ، أفادنا بعض الطرق أن شرعية هذا كان في مبدأ الإسلام ، واستمر ذلك إلى ما بعد الهجرة بزمان، ثم وجدنا الزهري قد سأل عروة عن ذلك ، فأجابه عروة أن عائشة رضي الله عنها قالت:((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ولا يغتسل وذلك قبل فتح مكة، ثم اغتسل بعد ذلك وأمر الناس بالغسل)) .

ثم قال: وإن لم يكن التمييز بينهما بأن أبهم التاريخ وليس في اللفظ ما يدل عليه تعذر الجمع بينهما، فحينئذ يتعين المسير إلى الترجيح ، ووجوه الترجيحات كثيرة إنما أذكر معظهما، فمما يرجح به أحد الحديثين على الآخر:

الوجه الأول: كثرة العدد في أحد الجانبين ، وهي مؤثرة في باب الرواية؛ لأنها تقرب مما يوجب العلم وهو التواتر.

ثم قال: وقال بعض الكوفيين: كثرة الرواة لا تأثير لها في الترجيحات لأن طريق كل واحد منهما غلبة الظن ، فصار كشهادة الشاهدين مع شهادة الأربعة.

يقال على هذا: إن إلحاق الرواية بالشهادة غير ممكن ، وإن شاركت الشهادة في بعض الوجوه فقد فارقتها في أكثر الوجوه ، ألا ترى أنه لو شهد خمسون امرأة لرجل بمال لا تقبل شهادتهن ، ولو شهد به رجلان قبلت شهادتهما، ومعلوم أن شهادة الخمسين أقوى في النفس من شهادة رجلين، لأن غلبة الظن إنما هي معتبرة في باب الرواية دون الشهادة. وكذا سوى الشارع بين شهادة إمامين عالمين وشهادة رجلين لم يكونا في منزلتهما. وأما في باب الرواية فرجح رواية الأعلم الأدين علمه غيره (ص1338) من غير خلاف يعرف في ذلك فَلاحَ الفرق بينهما.

ثم مضى يذكر أوجها في هذا الباب.

ثم قال: الوجه السابع: أن يكون أحد الراويين مباشرًا لما رواه الثاني حاكيًا، فالمباشر أعرف بالحال، مثاله حديث ميمونة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نكحها وهو حلال)) ، وبعضهم رواه:((نكحها وهو حرام)) ، فمن رواه: نكحها وهو حلال أبو رافع، ومن رواه: نكحها وهو حرام ابن عباس وحديث أبي رافع أولاه بالتقديم؛ لأن أبا رافع كان سفيرًا بينهما ، وكان مباشرًا للحال، وابن عباس كان حاكيًا، ولذلك أحالت عائشة رضي الله عنها – إلى علي رضي الله عنه لما سألوها عن المسح على الخفين وقالت: سلوا عليًّا فإنه كان يسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 1028

والوجه الثامن: أن يكون أحد الراويين صاحب القصة ، فيرجح حديثه

؛ لأن صاحب القصة أعرف بحاله من غيره وأكثر اهتمامًا ، ولذلك رجع نفر من الصحابة ممن كان يرى الماء من الماء إلى حديث عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين.

الوجه التاسع: أن يكون أحد الراويين أحسن سياقًا لحديثه من الآخر وأبلغ استقصاء فيه؛ لأنه قد يحتمل أن يكون الراوي الآخر سمع بعض القصة فاعتقد أن ما سمعه مستقل بالإفادة، ويكون الحديث مرتبطًا بحديث آخر لا يكون هذا قد تنبه له. ولهذا من ذهب إلى الإفراد قدم حديث جابر، لأنه وصف خروج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة مرحلة مرحلة ودخوله مكة، وحكى مناسكه على ترتيبه وانصرافه إلى المدينة وغيره لم يضبط ما ضبطه.

ثم قال: الوجه السابع والثلاثون: أن يكون أحد الحديثين قولًا والآخر فعلًا، فالقول أبلغ في البيان ولأن الناس لم يختلفوا في كون قوله حجة ، واختلفوا في اتباع فعله، ولأن الفعل لا يدل بنفسه على شيء بخلاف القول فإنه أقوى.

الوجه الثامن والثلاثون: أن يكون أحد الحديثين مخصصًا والثاني لم يدخله التخصيص أولى؛ لأن التخصيص يضعف اللفظ ويمنعه من جريانه على مقتضاه ويصير مجازًا عند جماعة من الأئمة ، بخلاف ما لم يدخله التخصيص فيكون أقوى.

ثم قال: الوجه الأربعون: أن يكون أحد الحديثين مطلقًا والآخر واردًا على سبب، فيقدم المطلق لظهور أمارات التخصيص على الوارد على سبب ، فيكون أولى بإلحاق التخصيص به.

ص: 1029

ثم ذكر التمييز بين التخصيص والنسخ وجوهًا خمسة فقال:

أحدها: أن الناسخ لا يكون إلا متأخرًا عن المنسوخ والتخصيص يصح اتصاله به. والثاني: أن الدليل في النسخ لا يكون إلا خطابًا والتخصيص قد يقع بقول وفعل وقياس وغير ذلك. والثالث: أن نسخ الشيء لا يجوز إلا بما هو مثله في القوة أو بما هو أقوى منه في الرتبة ، والتخصيص جائز بما هو دون المخصوص منه في الرتبة. والرابع: أن التخصيص لا يدخل في الأمر بمأمور واحد، والنسخ جائز في مثله سيما على أصل من يرى نسخ الشيء قبل وقته. والخامس: أن التخصيص يخرج من الخطاب ما لم يرد به ، والنسخ رافع ما أريد إثبات حكمه.

ولعل أجود تلخيص وأشمله لأقوال السلف الأول من التابعين وأئمة المذاهب في موضوع كراء الأرض ، وتأويل الأحاديث الواردة بشأنه ، والتي تراءى للبعض تعارض بينهما ما قاله ابن حازم الهمذاني ونصه (1)

وقد اختلف أهل العلم في هذا الباب، فذهب بعضهم إلى أن من استأجر أرضًا على جزء معين مما يخرج منها كالنصف والثلث والربع ، أن ذلك جائز والعقد صحيح. روي ذلك عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وسعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى وابن شهاب الزهري. ومن أهل الرأي: أبو يوسف القاضي ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة وقال ابن حنبل: يجوز ذلك إذا كان البذر من رب الأرض، وتمسكوا في ذلك بظاهر حديث ابن عمر - يعني ما روي عن طريق نافع ابنه من قوله: قد علمت أن الأرض كانت تكرى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحديث، وقد تقدم - قالوا: ويؤكده حديث ابن عباس - وقد تقدم - لأن قوله عليه السلام: لأن يمنحها أخاه خير. ليس فيه دلالة على اللزوم ، وإنما اللفظ صدر مصدر التخيير ومنهم من تمسك بما روى ابن عمر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل خيبر على الشطر مما يخرج من ثمر)) - وقد تقدم من طرق مختلفة، وخالفهم في ذلك آخرون، وقالوا: العقد فاسد.

(1) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار. ص: 171 وما بعدها.

ص: 1030

وروي ذلك عن عبد الله بن عمر وابن عباس وعبد الله بن خديج وأسيد بن حضير وأبي هريرة ونافع وإليه ذهب مالك والشافعي. ومن الكوفيين أبو حنيفة، وتمسكوا في ذلك بأحاديث.

ثم أورد بعضًا من طرق حديث رافع بن خديج - وقد تقدمت - ثم قال: قرئ على أبي المحاسن محمد بن عبد الخالق الجوهري. أخبرك عبد الواحد بن إسماعيل الإمام في كتابه. أخبرنا أحمد بن محمد البلخي. حدثنا أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي قال: خبر رافع بن خديج من هذا الطريق - يعني الخبر الذي رواه مسلم عن طريق نافع أن ابن عمر كان يكري مزارعه.. الحديث - وقد تقدم خبر مجمل تفسره الأخبار التي رويت عن رافع بن خديج وعن غيره من طرق أخر، وقد عقل ابن عباس المعنى من الخبر وأنه ليس المراد به تحريم المزارعة بشطر ما تخرجه الأرض، وإنما أريد بذلك أن يتمانحوا أرضهم وأن يرفق بعضهم بعضًا. وقد ذكر رافع بن خديج في رواية أخرى عنه النوع الذي حرم منها ، والعلة التي من أجلها نهى عنها.

ثم بين الرواية الأخرى التي أشار إليها الخطابي بأن أورد ما رواه مسلم من حديث ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن حنظلة بن قيس وقد تقدم.

قلت: وأحسب الخطاب واهمًا فيما نسبه إلى ابن عباس ، فإنما عمدة ابن عباس الخصومة التي رفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجلين زارع أحدهما الآخر ثم اختصما، وقد سبق أن أوردناها في حديث ابن عباس في هذا الباب.

ثم قال: قلت: وإنما صدر هذا الكلام عن الخطابي ظنًا منه أن المنهى عنه في خبر رافع إنما هو القدر المجهول.

قلت: ولم يقع الخطابي وحده في هذا الظن، فقد وقع فيه جمهور من الفقهاء وخاصة المقلدة من المتأخرين.

ص: 1031

ثم قال: ولو استقرأ طرق هذ االحديث لبان له أن النهي تناول المجهول والمعلوم وذلك بين في رواية سليمان بن يسار.

ثم ساقها بسنده إلى مسلم في روايته عن طريق يعلى بن حكيم، كما ساق حديث جابر عن طريق الأوزاعي عن عطاء من رواية مسلم.

ثم أورد حديث زيد بن ثابت وجميعها قد تقدمت، وتعقبه بقوله: وهذا يدل على أن الذي صدر من النبي صلى الله عليه وسلم كان على وجه المشورة والإرشاد دون الإلزام والإيجاب. والجواب أن هذا غير قادح فيما ذكرناه من دلالة النهي، فإن الاعتبار بلفظ النهي وعمومه دون السبب.

قلت: هذا بناء على القاعدة الأصولية المعروفة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فضلًا عن أن حديث زيد بن ثابت يعتمد أيضًا على توهيم رافع بن خديج في فهم حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضية الخصومة المشار إليها آنفًا وهو أساس غير سليم، وقد ألمعنا إلى ضعفه فيما عقبنا به عن حديث زيد بن ثابت.

ثم قال: فإن قيل قول ابن عمر: إن الأرض كانت تكرى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه دلالة على أن هذا الحكم كان مأذونًا فيه من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذا من قبيل الأمور الدنيوية، فليس من شرطه إحاطة النبي صلى الله عليه وسلم وما لم تثبتوا ذلك. لا يستقيم لكم ادعاء النسخ؛ لأن المنسوخ لابد وأن يكون حكمًا شرعيًا. يقال: على هذا الكلام إن أكثر المحققين ذهبوا إلى أن قول الصحابي: كنا نفعل كذا ، أو كانوا يفعلون كذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ظاهر في الدلالة على جواز الفعل، وأن ذكر الصحابي نحو ذلك في معرض الحجة يدل على أنه أراد ما علمه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وسكت عنه دون ما لم يبلغه ، وذلك يدل على الجواز.

ص: 1032

ثم في حديث ابن عمر ما يدل عليه، حيث قال: قد كنت أعلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأرض

قال: ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث في ذلك شيئًا ، ولو لم يعلم أن ما كان يذهب إليه من الجواز كان مستندًا إلى إذن النبي صلى الله عليه وسلم ، لما كان يتوقف في ذلك.

ثم أورد مستدلًا على أن النهي جاء بعد الإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا عن رافع ابن خديج ، فقال: أخبرنا الفضل بن القاسم. أخبرنا الحسن بن محمد. أخبرنا أحمد بن عبد الله. أخبرنا أبو إسحاق المزكي. حدثنا مكي بن عبد الله. حدثنا مسلم بن الحجاج. حدثنا قتيبة بن سعيد وإسحاق. قال قتيبة: حدثنا جرير ، عن عبد العزيز - هو ابن رافع - عن رفاعة بن رافع بن خديج ، أن رجلًا كانت له أرض ، فعجز عنها أن يزرعها ، فجاءه رجل ، فقال له: هل لك أن أزرع أرضك، فما خرج منها من شيء كان بيني وبينك؟ فقال: نعم، حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله فلم يرجع إليه شيئًا، قال: فأتيت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فقلت لهما، فقالا: ارجع إليه، فرجعت إليه الثانية ، فسألته ، فلم يرد علي شيئًا ، فرجعت إليهما ، فقالا: انطلق فازرعها، فإنه لو كان حرامًا نهاك عنه. قال: فزرعها الرجل حتى إذا اهتز زرعه واخضر ، وكانت الأرض على طريق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر بها يومًا ، فأبصر الزرع فقال:((لمن هذه الأرض؟)) فقالوا: لفلان زارع بها فلانا، فقال:((ادعوهما لي جميعًا)) قال: فأتياه ، فقال لصاحب الأرض:((ما أنفق هذا في أرضك ، فرده إليه ، ولك ما أخرجت أرضك)) .

قلت: ويشبه هذا ويقوي ما رواه كل من أبي داود والدارقطني والطحاوي من حديث رافع بن خديج الذي أوردناه آنفًا.

ص: 1033

مهما يكن، فإن ملاك الأمر في تقديرنا ليس هو النسخ أو تأويل النهي بمجرد الإرشاد والتوجيه، وإنما هو أمر أعمق من ذلك وأجدر بأن يكون الفيصل ذلك ، بأن بني حارثة رهط رافع كانوا أهل زرع ومزارعة قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وربما بأجيال، ويصرح رافع في بعض طرق حديثه ما يفيد أنهم كانوا يمارسون نمطًا من الاستحواذ على الأرض الزراعية واستغلالها بما لهم من خبرة في الزراعة، وربما من طاقة مالية أيضًا.

وحين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من قبله ومن بعده مهاجرون من مكة وغيرها ، ولم يكونوا يملكون شيئًا ، كان أول حل اقتصادي واجتماعي لمشكلة المهاجرين شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤاخاة بينهم وبين الأنصار ، وبلغ من كرم الأنصار في الفترة الأولى من الهجرة أنهم لم يكتفوا بمقاسمة إخوانهم المهاجرين - إلا من استغنى منهم بخبرته وآثر أن يعتمد عليها في إقامة وضع اقتصادي له مثل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ما يملكون من عقار وأموال، بل عرض بعض الأنصار على إخوته المهاجرين أن يختاروا من شاؤوا من زوجات أولئك الأنصار ممن كانت له أكثر من واحدة ليطلقها، فإذا استكملت عدتها تزوجها المهاجر.

ثم ذهب بعضهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحسب هذا في فترة لاحقة وقد تكاثر المهاجرون وارتفع حكم المؤاخاة - يسألونه أن يقسم بينهم وبين إخوانهم المهاجرين ما يملكون من نخل، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ذلك، فاتفق الأنصار والمهاجرون على أن يعملوا في نخيلهم ، ويكون لهم الشطر من نتاجها كل عام.

لكن الهجرة استمرت ثماني سنوات، كما اتسعت الأرض التي أصبحت ملكًا للمسلمين بعد إجلاء يهود القرى المحيطة بالمدينة مثل بني النضير وبني قريظة، فنشأ وضع اقتصادي أدنى إلى الاستقرار واتساع النماء تطورت معه مواجد الناس ورغباتهم كما وجدت طبقة المهاجرين لم يشملها شرع المؤاخاة الذي انتهى العمل به بانتهاء ظرفه، ولم تصب من مغانم الحرب ما يلحقها بالطبقة المستقرة اقتصاديا، فقد كانت الهجرة في تلك السنوات الثمانية أوسع نطاقًا بأوفر عدد يمكن أن يوازيه التطور الاقتصادي الناشئ عن مغانم الحرب، إذ لم يكن آنئذ عامل تطور اقتصادي غيرها ، فهي قد استأثرت بجهود المسلمين واهتمامهم لما تثيره قريش وحلفاؤها والأعراب من نواحي الجزيرة ويهود من حول المدينة من ألوان الاستفزازات والمحالفات والغدر وما إلى ذلك مما ليس من شأنه أن يهيئ فرصة استقرار ينتج عنه تطور اقتصادي سلمي، إلا ما كان من استمرار الظروف المستقرة السابقة للإسلام لدى بعض قبائل الأنصار مثل بني حارثة الذي كانت الزراعة وامتلاك الأرض أساسًا لوضع استقراري مكين يتمتعون به ويركنون إليه، فكان لا مناص من تشريع خليق بأن يحدث نمطًا من تكافؤ الفرص، ينشأ عنه الوضع الضروري للحفاظ على التكافل الاجتماعي في المدينة القائم على أساس من ضمان العيش الكريم بجميع أفراد المجتمع.

ص: 1034

وبما أن الأساس الطبيعي للنمو الاقتصادي في المدينة المنورة هو استغلال الأرض سواء بالزراعة أو بالتشجير، ومنه غراسة النخل واستثمارها، فقد كان من الطبيعي أن يتجه التشريع إلى تلبية مقتضيات هذا الظرف الجديد لاجتناب استغلال ملاك الأرض لحاجة المهاجرين الذين لم تشملهم فوائد المآخاة المشروعة خاصة في الفترة الأولى من الهجرة، على أن لا يصطدم اصطدامًا حادا مع غريزة التملك التي فطر عليها الإنسان، وغالبًا ما تتحكم في مواجد وتصرفات أرباب الأملاك تحكما يطغى أحيانًا حتى على مقتضيات العقيدة نفسها. ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كما وصفه القرآن:{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1) يشفق من أن ينصف أحدًا على حساب الآخر ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، ويحرص على أن يقيم الإنصاف على قاعدة من التجاوب الأخوي بين المشاعر والمواجد.

فكان التشريع الذي ارتآه صلى الله عليه وسلم اجتهادًا أو هدي إليه وحيا هو منع أرباب الأراضي من استغلال ما يفيض على طاقتهم الاستثمارية مما يملكون من الأرض بجهود المحرومين من ملكية الأرض، وذلك ما يفيده ، ولا يمكن أن يفيد غيره حديث رافع بن خديج بطرقه المختلفة، فهو حديث متكامل وليس بمضطرب كما بدا للترمذي وأحمد.

ذلك بأننا إذا اقتصرنا منه على الطرق التي أوردته كاملًا أو أوردت أغلب فقراته وجاءت بأسانيد ثلاثية أو رباعية لم يدخلها أناس ممن تكلموا فيهم كلامًا لا مناص من اعتباره نجده متسقًا يكمل بعضه بعضًا ليس فيه التباس ولا اضطراب، والذين وصفوه بالاضطراب إنما انصب وصفهم على أسانيده ، وليس على متنه.

وبيان ذلك أن رافعًا رضي الله عنه لم يكن في حديثه راويًا فحسب ، وإنما كان - وبالأساس - مفتيًا داعيًا، وآية ذلك أنه لم يشع حديثه إلا في عهد معاوية وربما في أواخر ذلك العهد ، ويومئذ كانت الفتوحات قد كثرت واتسع ما تداولته أيدي المسلمين من الأراضي ، فتجاوز الجزيرة العربية إلى الشام وإلى ما بين النهرين ، وإلى ما وراءهما نتيجة لامتداد الفتوح امتدادًا كاد يكون بلا نهاية.

(1) الآية رقم: (128) من سورة التوبة.

ص: 1035

على حين أن ضعف وازع العقيدة في النفوس وخاصة في مسلمة الفتح ومن بعدهم. وهيمن عامل التهافت على الدنيا والاستكثار منها، بل ضعفت هيمنة الحكم الإسلامي الحازم على تصرفات أولي الأمر، وأخذت تحل محله عوامل السياسة غير الدينية ، وهي عوامل لا تلتزم بضوابط الشريعة الإسلامية بقدر ما تتوخى حاجات السياسة الداخلية من استمالة ضعاف النفويس وشراء الذمم واستعباد الضمائر.

وكان عمل عمر رضي الله عنه في الامتناع من توزيع أراضي السواد والاحتفاظ بملكيتها بيت مال المسلمين تحسبًا لحاجات سلائل المسلمين المتعاقبة قد أوقف منذ أواسط عهد عثمان رضي الله عنه حتى إذا كان عهد معاوية وهو من هو لولا صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لتمكنت الاعتبارات الدنيوية من الهيمنة على تصريف الأمور على تصورات النفوس ومواجدها.

ومن ذلك كله نشأ ظرف اضطر رافع بن خديج وهو أحد مراجع الفتوى في ذلك العهد إلى أن يجهر ويلح في الجهد بما ظل يجمعه في نفسه سنين طوالا من شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الأرض واستغلالها.

وكان جهره بذلك على أنماط وأساليب كان يجيب به فتوى لمن يسأله ، فيقتصر على ذكر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم دون الإفاضة في شرح ظروف ذلك النهي وأسبابه ، وكان يرويه حديثًا مختصرًا لبعض طلبة الحديث الذين لا يرى جدوى في أن يذكر لهم جميع تفاصيل الواقعة أو الوقائع التي لابست النهي أو أعقبته ، وكان يرويه كاملًا بجميع تفاصيله وملابساته حين يكون حديثه إلى رفيق له من الصحابة أو من كبار التابعين الذين يرى أن من واجبه أن يحيطهم بجميع ما لديه من العلم في هذا الأمر.

واشتد الجدل بين الناس، فلم يكن جميع الصحابة الذين لم يزالوا أحياء محيطين بأمر النهي كما علمه من أهمه بالأساس بنو حارثة ، ومن أهمه منهم بالأصالة رافع بن خديج وأعمامه وأخواله وأخوته وبنوه، فأغلب الصحابة كانوا في عهد

رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفين إلى الحرب نصرة للإسلام أو إلى التلقي عنه حفظًا للشريعة وحملًا للرسالة، وقليل منهم كان مصروفًا إلى شؤون الفلاحة وامتلاك الأرض ومنهم جابر بن عبد الله الذي كان هو أيضًا من رهط يقوم كيانهم الاقتصادي على غراسة الأرض واستثمار النخيل، فكان طبيعيًا أن يلم بما يتصل بعمله وعمل ذويه من أحكام، وهو الراوي المكثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله فيما يتصل بحرفته وحرفة ذويه أحاديث وأخبار، كما كان منهم أبو هريرة وأبو سعيد الخدري وسعد بن أبي وقاص وأنس بن مالك المنصرفون إلى التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرافًا متفاوتًا تبعًا لظروف كل واحد منهم ، وكان حريصًا أشد ما يكون الحرص.

ص: 1036

وكانت حروب الردة ثم الفتوح لعهد أبي بكر وعمر ولصدر من عهد عثمان قد أتت على عدد كبير من كبار الصحابة، فلما كان عهد معاوية تصدر للفتوى الحفظة والفقهاء من صغارهم ومنهم رافع بن خديج.

وكان الملتزمون بالسنة في ذلك العهد وفي طليعتهم فقهاء الصحابة وصدور الإفتاء منهم، يجهرون بإنكار ما يشهدونه من تغير وتبدل في تصرفات أولي الأمر والعامة، وكانوا على أولي الأمر منهم أشد على العامة، فهم يدركون أن صلاح العامة بصلاح أولياء الأمر منهم، بل إن الإنكار على معاوية ابتداء من عهد عمر رضي الله عنه ومع أن عمر كان يكله إلى ربه في بعض ما ينكر من مظاهره ويعتذر عنه معاوية بأعذار تتصل بالسياسة، فإن مآخذ بعض الصحابة عنه كانت من يومئذ تستعلن ، بيد أنها اشتدت وبلغت حد المجابهة في عهد عثمان رضي الله عنه ثم ارتفعت إلى أن أصبحت نمطًا من التحدي لما صار إليه الأمر.

وكان لرافع بن خديج موقف من عثمان نفسه بادئ الأمر، ويظهر أنهما بلغا إلى تفاهم بعد ذلك، أو أن رافعًا فضل أن يسالمه اجتنابًا إلى مصير أبي ذر ، ولأن ما ينكر عليه لم يكن في تقديره مما ينبغي أن يدفعه إلى مناهضته. ويظهر أن رافعا كان في عهد عثمان قد اعتزل الزراعة فالطبري يقول (1) إن عثمان فرض له ولأبي ذر عظما لكل واحد منهما كل يوم وما كان عثمان ليقبل هذا الفرض لو أنه لبث مواصلًا لعمله الفلاحي.

(1) ج: 4. ص: 285. لم أقف في المصادر المعتمدة لتاريخ فترة الخلفاء الراشدين على بيان لما كان بين رافع وعثمان إلا ما كان من تلميحات أبرزها ما نقلناه عن الطبري. ثم ما كان من موقفه من رفع لواء الدعوة إلى مقاومة ما شاع منذ أواخر عهد عثمان ، واستشرى لعهد معاوية من كراء الأرض ، ونحسب أن رافعًا كان في نفسه شيء من بعض تصرفات عثمان ، بيد أنه أشفق من أن يصدع به إجلالًا لذي النورين وحفظًا لوحدة الخلافة واجتنابًا لما أخذ يتململ بين الدهماء منذ أواخر عهد عثمان مما استفحل أمره حتى أسفر عن الفتنة الكبرى التي كانت شرارتها الأولى استشهاد الخليفة الثالث رضي الله عنه ثم أعقبت ما قدر الله على الأمة الإسلامية من معقباتها ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

ص: 1037

ومهما يكن فقد رفع لواء المعارضة ليس لمعاوية فحسب ، ولكن لعامة المنصرفين إلى الاستكثار من المال ، سواء كانوا من الصحابة أو من غيرهم ، يتجلى ذلك في الحملة الصاخبة التي قادها على ملاك الأرض ومع أنه لم يكن وحده فيها، فقد ظاهره عدد من الصحابة من أترابه مثل جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وثابت بن الضحاك ، فإن رافعًا كاد يكون ميسم تلك الحملة على ملاك الأرض.

وواضح أن لدى رافع ما يجعله أعمق وعيًا بالقضية التي قادها من غيره، فهو يعلم جميع الملابسات التي ميزت نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض، إذ كان هو وعمومته هم الذين وجه إليهم النهي بالأصالة وإلى غيرهم ممن كانوا على مثل وضعهم.

وبتتبع حديث رافع على اختلاف ألفاظه وتباين صيغه ، يتبين أن النهي كان في أواخر العهد النبوي، ذلك بأن رافعًا كان يوم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى في حوالى الخامسة والعشرين من عمره ، وقد يزيد قليلًا.

وبتأمل مجموع أحاديث رافع يمكن القول بأن النهي كان على مرحلتين: المرحلة الأولى: ما ورد من طريق بكير بن عامر ، ومن طريق عبيدة الضبي ، من رواية رافع عن مزارعته غيره، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم له أن يأخذ نفقته ، ويدع الزرع لصاحب الأرض ، ومع أن كلا من بكير بن عامر وعبيدة الضبي تكلموا فيهما، فإن الحديث الذي رواه ابن حزم الهمذاني عن طريق مسلم ، لا يختلف في جوهره عن حديثهما ، وإن اختلف في بعض تفاصيله، فهو لم يذكر أن المزارع رافع ، ولكن راوي الحديث رفاعة بن رافع، وقد يكون معقولًا أن لا يذكر الراوي أن أباه هو صاحب القصة ، وذلك ما يؤكده حديث عائشة الذي نقلناه عن طريق عبيدة الضبي، والحديثان معًا لم يذكرا أن علة النهي هي الإرباء ، كما جاء في حديث بكير بن عامر:(أربيتما) وأخذ منه بعض الفقهاء اعتبار علة النهي أن المزارعة نوع من الربا. ونحسب أن الحديث إذا ثبت بهذا اللفظ يمكن تأويله بأن وصف الإرباء ليس تعليلًا للنهي ، وإنما هو وصف للزرع. فرسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه قد اخضر واهتز ، وصفه بالنماء. والزيادة والنماء هما أصل معنى كلمة:(ربا) يربو.

يقول ابن منظور (1) ربا الشيء يربو ربوا ورباية: زاد ونمى، وأربيته: نميته. وفي التنزيل العزيز: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (2)

(1) ج:4. ص:304

(2)

الآية رقم: (276) من سورة البقرة.

ص: 1038

وقال ابن الأثير (1) الأصل فيه - أي: في (الربا) – الزيادة. وربا المال يربو ربوا: زاد وارتفع.

ثم قال: ومنه الحديث: من أجبى فقد أربى. ومنه حديث الصدقة: فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل.

ثم قال: وفي حديث الأنصار يوم أحد: لئن أصبنا يومًا منهم مثل هذا ، لنربين عليهم في التمثيل - أي: لنزيدن ولنضاعفن.

ويدل على أن (الربا) ليس هو علة النهي ما كان من المرحلة الثانية له من نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض عامة، وقد ورد ذكر الكراء وما اشتق منه وما شاكله مثل الإيجار والمؤاجرة في أحاديث رافع وجابر وأبي هريرة وسعد وأبي سعيد وثابت بن الضحاك، وجلها نقلناه فيما سبق تسعًا وعشرين ومائة ، فثبت بالقطع أن الكراء وما في معناه هو لذاته علة النهي.

وبصرف النظر عن تأويلات الفقهاء الذين أباحوا الكراء بالذهب والفضة والذين أباحوا حتى بالجزء من نتاج الأرض وتقولاتهم في بعض هذه الأحاديث ، وليس من شأننا في هذا المجال أن نناقشها ، ولو قد اتسع لمناقشتهم لكان لنا موقف ولدينا ما نقول، فإن وقوع النهي لا سبيل إلى إنكاره ، وهو في حد ذاته ينتج أمرًا ، هو ما نحاول استجلاءه في هذا البحث.

ثم إن تتبع أحاديث رافع وغيره، يفضي إلى حقيقة أن النهي كان في تقدير ابن عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة وكبار التابعين بعد قصة خيبر، فقد استظهر في محاولة تأويله بما تردد في بعض طرقه من إيراد كلمة المخابرة وبعض مشتقاتها بدلًا من كلمة الكراء وما شاكلها، أو كلمة المحاقلة ومشتقاتها. وقد سبق أن ذكرنا أنها وردت في هذه الأحاديث نحو أربعين مرة، ومع أننا لا نسلم بأنها مشتقة من خيبر بالضرورة ، فإن الذي يعنينا هو أن من الصحابة ومن كبار التابعين من اعتبرها مشتقة من خيبر ، وهذا كاف في تقرير أنهم اعتبروا أحاديث النهي كانت بعد قصة خيبر.

(1) النهاية ج: 2. ص: 191 و192.

ص: 1039

ومع ذلك فقد حاول بعضهم أن يزعم أن هذه الأحاديث نسختها قصة خيبر، ولسنا ندري كيف يستقيم هذا الزعم إذا كانت كلمة المخابرة مشتقة من خيبر ، إلا أن تكون في الأربعين موضعًا التي وردت فيها إنما رويت بالمعنى. ونجد حرجًا عميقًا في تقبل مثل هذا الاحتمال، ويعضد تحرجنا هذا ، أن غزوة خيبر كانت في السنة السابعة أي: بعد أربع سنوات من الإذن لرافع بالاشتراك في غزوة أحد وهو يومئذ لم يؤذن له إلا بعد أن أثبت كفاءته في الرمي ، وكاد أن يُرَدَّ أيضًا، وهذا يعني أن رافعًا كان يوم خيبر في حوالى التاسعة عشرة من عمره أو يزيد قليلًا، وفي هذه السن ومع ثراء قومه وانشغالهم بالزراعة يبعد الاحتمال أن يكون قد استقل بنفسه ، ولم يكتف بنصيبه من أرض قومه ، فراح يلتمس أرضًا عند غيره ليزرعها ، وإن كانت المزارعة وما يشبهها نوعًا من الاستحواذ على استغلال الأرض سمة اتسم بها قومه بنو حارثة على كثرة ما لديهم من الأرض كثرة جعلتهم يزارعون غيرهم بأرضهم ، وكانت من أسباب نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض منعًا لاستحواذ أولي الخبرة والمال على استثمار الأرض مستعينين بطاقة الآخرين وحاجتهم ، وهو التعليل الذي لا نجد غيره متسقًا مع الوقائع التي ذكرها رافع لظروفها في أوضاع مختلفة وذكرها غيره دون بيان لظروفها أو ببيان ينقصه اجتلاء المعالم.

والذي يمكن أن تسكن إليه النفس من تدبر النهي ومراحله وظروفه ومختلف النصوص الواردة في شأنه والاستئناس بالحد الذي يمكن أن يكون قد بلغه عُمُر رافع العنصر الأول البارز في قصة النهي هو ما سبق أن أشرنا إليه من أن الفتوحات الآخذة في الاتساع حوالي المدينة المنورة عقب إجلاء اليهود من القرى المحيطة بها ، ثم إلى ما وراءها من الأرض التي أسلم أهلها أو أصبحت آمنة بعد إسلام الأعراب المختلفين إليها انتجاعًا للكلأ ، قد أخذ ينشئ طبقة من المنصرفين إلى استثمار الأرض وابتغاء الثراء من نتاجها مستعينين على تحقيق مطامحهم بالاستفادة من جهود المعوزين الذين يلتمسون العمل لكفاية أنفسهم وذويهم. ونحسب أغلب هؤلاء من المهاجرين من غير قريش، فلم تكن الهجرة بعد خيبر قد انقطعت حتى كان فتح مكة وبعد فتحها لم تنقطع الهجرة باعتبارها وسيلة من الاقتراب من مركز الدولة وموطن الرسول عليه الصلاة والسلام ، وإنما انقطعت باعتبارها واجبًا دينيًا ولتيسير الفرص المتكافئة للجميع ولتعميق مبدأ التعاون القائم على الأخوة والإسماح ولقطع السبيل على استغلال القادر للضعيف ، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم نهيًا قاطعًا عن كراء الأرض ، واتجه نهيه اتجاهًا تطبيقيًا إلى من كانت سمتهم استئمار أموالهم وخبرتهم في الأرض ليس بطاقتهم فحسب، ولكن أيضًا بطاقات الآخرين من الضعفاء.

ص: 1040

وبهذا الاعتبار يستقيم تعليل الدعوة الملحة وربما الصاخبة التي جهر بها وتصدرها رافع في أواخر عهد معاوية إلى الإقلاع عن كراء الأرض مع سكوته طيلة عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وصدرًا من خلافة معاوية.

ذلك بأن الفتوحات كانت في عهد الخلفاء الراشدين الأربعة قد استغرقت معظم جهود المسلمين، وكان إقبالهم على ابتغاء المال واستثماره محدودًا وكان عمر رضي الله عنه يكبح من جماح الطامحين إلى التمول بالزراعة حتى قيل: إنه أحرق زرع بعض من اشتغلوا بالزراعة من المسلمين بالشام بعد فتحها، وإن يكن لبعضهم كلام في صحة هذه القصة أشفق بعض المتفقهين والنقلة والنقدة من أن يكون عمر قد أحرق زراعة بعض الجند الذين كانوا في جيش أبي عبيدة عامر بن الجراح ومن قبله في جيش خالد الذي تولى غزو الروم وفتح الشام ، فقالوا ما مفاده: إن عمر لا يقدم على إحراق ما للغير من المسلمين وحرمانهم منه ، واعتمد البعض على مثل هذه المقولات وعلى غمز قيل في بعض رواة هذه القصة في إنكاره صحتها: ولسنا بسبيل تحقيق النصوص الواردة في تصرفات عمر والمسجلة لسيرته ، وإنما نحن بسبيل النظر في جوانب مما يتصل بهذا البحث منها ، لذلك لا ندخل مع هؤلاء وأولئك في جدل حول صحة القصة أو عدم صحتها سنده ما تواضعوا عليه من قواعد الجرح والتعديل ، حسبنا أن نبرز حقيقة لا مناص لأي باحث من اعتبارها ، وهي أن عمر رضي الله عنه كان يراجح بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة في جميع تصرفاته وأحكامه وإلى عماله وقواده، وما من أحد يماري في أن المصلحة العامة يومئذ كانت تقتضي أن يصرف الجند همهم وجهدهم لما هم بسبيله من الفتوح ونشر الأسلام وحماية ثغوره وملاحقة أعدائه أو الترصد لهم على الأقل، وبدهي أن الجند إذا صرفوا بعض جهدهم وهمهم إلى الزراعة وما شاكلها من الكسب ، توزعت هممهم وبلبلت فكرهم بين واجبهم الحربي كجند ودواعيهم الدنيوية كمحترفين للفلاحة أو التجارة أو غيرهما وذلك من شأنه أن يحدث على الأقل عدم تركيز للقوى المادية والفكرية إلى الوجهة التي من أجلها نفروا أو استنفروا ، فطبيعي إذن أن يحذر الخليفة هذه العاقبة وما ينتج عنها وأن يدرأها بما يحسمها ويمنع من أن تتكرر منعًا لا يقبل التأويل أو الاعتذار. فتأمل. فلما تقدم العهد بخلافة معاوية وتغيرت السياسات وسيطرت الاعتبارات الدنيوية عليها وكثر المسلمون، فلم تعد تستغرقهم الفتوحات، بل إن الفتوحات نفسها هدأ نشاطها نسبيا، واتجه الناس إلى استثمار الأرض بجهودهم وأموالهم ، ولعل فيهم من لم تكن لديه خبرة في الفلاحة، فهو لا يشتري بماله جهود الآخرين فحسب ، وإنما يشتري خبرتهم أيضًا ، ولعل فيهم الخبير الذي أكسته النعمة ، فأمسك عن العمل بنفسه ، واعتمد على خبرة الآخرين وجهودهم العضلية، وبذلك أخذت تنشأ طبقة المترفين وطبقة العمال مما أفزع رافعًا، فقام بدعوته منكرًا لهذا الوضع الذي رآه قد أنشأ ظروفًا أين منها تلك الظروف التي أفرزت نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض؟

ص: 1041

ومن استكناه دلالات التوقيت الذي اختاره رافع ليعلن نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض أو بالأحرى ليذكر الناس به ، يتجلى بما لا مجال معه للمراء أن رافعا كان يرى للظروف تحكمًا في تعيين موجب تطبيق التشريع الخاص بالمعاملات أو المتصل بها اتصالًا وثيقًا.

ومع أننا لا نجد في حديث جابر ولا غيره من الصحابة الذين رووا النهي أيضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على الظرفية، فإن الملابسات التي أحاطت بإشاعة حديث رافع ومناقشته والجدل حوله تحمل على الاطمئنان إلى أن جابرًا وغيره من الصحابة أسهموا في تلك المناقشات وفي ذلك الجدل مظاهرين لرافع بما أعلنوه مما وعوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحسبهم كانوا على مثل إنكار رافع لما صار إليه الأمر في أواخر عهد معاوية من تهافت علاقات الأخوة بين المسلمين واندفاع المحظوظين منهم إلى الاستزادة لنصيبهم من الدنيا والاستفادة من حرمان المحرومين باستغلال جهودهم وربما خبراتهم ، وذلك أمر لا مناص من أن يحدث تركيبات طبقية لا سبيل إلى أن تتعايش - بل لا سبيل إلا إلى أن تتنافى - مع طبيعة الوحدة التي تنهض على التكافل الأخوي بين طوائف المسلمين كافة أيا كانت أنصبتهم من الرزق ومراكزهم الاقتصادية ومواقعهم الاجتماعية.

وقد لا يحسن أن ننصرف إلى تبيان الطبيعة الفقهية والأصولية للعلاقة بين الظرف وبين التشريع قبل أن نقف هنا عند قصة خيبر ، ثم عند ما كان من حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عمر رضي الله عنه لمساحات من الأرض استجابة لحاجة المسلمين الناشئة عن تطور أوضاعهم الاقتصادية نتيجة لعاملي استقرار هيكل الدولة وأخذ كيانها في الامتداد والاتساع بعامل انتشار الإسلام بدخول الناس فيه أفواجًا واتساع آماد سيادته بتعاظم هيبته واشتداد قوة المسلمين. اختلفت آراء الفقهاء في تأويل قصة خيبر ، فرآها بعضهم نمطًا من المزارعة ، واستدل بها على أنها ناسخة للنهي الوارد في حديث رافع وغيره عنها ، إذ إن معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر استمرت إلى عهد عمر وحين أبطلها عمر لم يبطلها لذاتها ، وإنما أبطلها لتصرفات صدرت عن يهود خيبر أو اعتمادًا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم حين عاملهم:((نقركم ما أقركم الله)) أو ((ما شئنا)) . ومن هذا الاعتبار حمل البعض من هؤلاء كلمة المخابرة على أنها مشتقة من معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر، ومع ذلك اعتبروا النهي عن المخابرة منسوخًا بقصة خيبر اعتبارًا لاستمرارها، إلى عهد عمر.

ص: 1042

ولم يفكروا في الجمع بين هذين المتناقضين أن يكون النهي صدر بعد قصة خيبر ، واستعملت فيه كلمة مخابرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من بعض رواة الحديث، إذ رووه بالمعنى على أساس أن المخابرة مشتقة من خيبر، وأن تكون قصة خيبر - مع ذلك - ناسخة لهذا النهي الذي صدر بعدها واشتق منها بعض ألفاظه لمجرد أن قصة خيبر استمرت إلى ما بعد لحاق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، فهي إذا ناسخة باستمرارها لحكم صدر بعد وقوعها، ومن عجب أنهم لم يفكروا في أن يكون الحكم مخصصًا لها ، أو أن يكون استمرارها مخصصًا له ، فضلًا عن أن يفكروا في أن يكون هنالك اختلاف بين أساس الحكم أو مناطه في كل من القضيتين؛ النهي عن المزارعة وقصة خيبر.

وآخرون يظهر أنهم انتبهوا إلى التغاير بين القضيتين ، فاعتبروا قصة خيبر أساسًا لحكم يتصل بالمساقاة ويختص بالأرض المغروسة نخلًا ، أو نخلًا وكرومًا ، أو نخلًا وشجرًا على اختلاف بينهم، وقد يباح في ظله ما يكون من المزارعة لما بين الأشجار أو النخيل من أرض ، الاعتبارات ذهبوا في تعيينها وتحديدها والاختلاف حولها ما شاءت لهم التصورات من مذاهب وآراء ، وليس من شأننا أن نناقشها؛ لأنها قائمة على أساس لا نقره ، ولأن شأننا في هذا البحث ليس هو بيان ما هو حلال وما هو حرام من التعامل على الأرض ، إنما هو شيء غير ذلك.

بحسبنا أن نقف مع هؤلاء وأولئك عند حقيقة لم تتضح لهم الاتضاح الكافي ، وإن كانت قد استبانت لهم معالمها بعض الشيء وأبصرهم لها شمس الدين السرخسي (1) إذ قال بعد أن أشار إلى حديث معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على الشطر:

وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل الجواز ، وتأويل ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله من وجهين: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر استرقهم وتملك أراضيهم ونخيلهم وجعلها في أيديهم يعملون فيها للمسلمين بمنزلة العبيد في نخيل مواليهم ، وكان في ذلك منفعة للمسلمين ليتفرغوا للجهاد بأنفسهم ، ولأنهم كانوا أبصر بذلك العمل من المسلمين، وما جعل لهم من الشرط بطريق النفقة لهم ، فإنهم مماليك للمسلمين ، يعملون لهم في نخيلهم ، فيستوجبون النفقة عليهم، فجعل نفقتهم فيما يحصل بعملهم ، وجعل عليهم نصف ما يحصل بعملهم ليكون ذلك ضريبة عليهم بمنزلة المولى يشارط عبده الضريبة إذا كان مكتسبًا، وقد نقل بعض هذا عن الحسين بن علي رضي الله عنهما.

(1) المبسوط. ج: 23. ص: 201.

ص: 1043

والثاني: أنه مَنَّ عليهم برقابهم وأراضيهم ونخيلهم وجعل شطر الخارج عليهم بمنزلة خراج المقاسمة ، وللإمام رأي في الأرض الممنون بها على أهلها ، إن شاء جعل عليها خراج الوظيفة، وإن شاء جعل عليها خراج المقاسمة، وهذا أصح

التأويلين؛ لأنه لم ينقل عن أحد من الولاة أنه تصرف في رقابهم أو رقاب أولادهم كالتصرف في المماليك، وكذلك عمر رضي الله عنه أجلاهم ، ولو كانوا عبيدًا للمسلمين ، لما أجلاهم ، فالمسلم إذا كان له مملوك في أرض العرب

تمكن من إمساكه واستدامة الملك فيه ، فعرفنا أن الثاني أصح ، ثم بين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ما فعله من المن عليهم بنخيلهم وأراضيهم ، ليس غير مؤيد بقوله عليه الصلاة والسلام:((أقركم ما أقركم الله)) . وهذا منه شبه الاستثناء ، وإشارة إلى أنه ليس لهم حق المقام في نخيلهم على التأبيد؛ لأنه علم من طريق الوحي أنه يؤمر بإجلائهم ، فتحرز بهذه الكلمة عن نقض العهد؛ لأنه كان أبعد الناس عن نقض العهد والغدر ، وفيه دليل على أن المن المؤقت صحيح سواء كان لمدة معلومة أو مجهولة.

قلت: كان الأولى أن أغفل الوجه الأول ، لكن نسبة جانب من دلالاته إلى سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيد الشهداء بعد حمزة الحسين بن علي رضي الله عنهم جميعًا - يجعل لذلك الوجه وزنًا، فليس لرأي - مهما تعضده الحجج والبراهين العقلية أو النقلية – أن يقف إلا منحنيًا إجلالًا أمام رأي يصدر عن سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ونحسب أن السرخسي في الوجه الثاني الذي صححه لتأويل أو توجيه معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر ونظاهره في تصحيحه كان ينظر إلى قول أبي عبيد (1) وهو يسوق اختلاف الآثار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الخلفاء من بعده في حكم الأراضي المفتتحة عنوة.

(1) الأموال. ص: 77.

ص: 1044

وقال بعضهم: بل حكمها والنظر فيها إلى الإمام إن رأى يجعلها غنيمة فيخمسها ويقسمها كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فذلك له ، وإن رأى أن يجعلها فيئا ، فلا يخمسها ولا يقسمها، ولكن تكون موقوفة على المسلمين عامة ما بقوا، كما فعل عمر بالسواد ذلك.

ثم قال بعد أن ذكر القائلين بهذه الأحكام وأدلة كل فريق: وكلا الحكمين - يعني القسمة والوقف - فيه قدوة ومتبع من الغنيمة والفيئ، إلا أن الذي اختاره من ذلك يكون النظر فيه إلى الإمام كما قال سفيان - يعني قول سفيان الثوري: الخيار في أرض العنوة إلى الإمام ، إن شاء جعلها غنيمة ، فخمس وقسم ، وإن شاء جعلها عامة على المسلمين ، ولم يخمس ولم يقسم - وذلك أن الوجهين جميعًا داخلان فيه ، وليس فعل النبي صلى الله عليه وسلم بِرَادٍّ لفعل عمر - يعني من عدم قسمته أرض السواد وجعله إياها وقفًا على المسلمين عامة كما سيأتي مفصلًا - ولكنه صلى الله عليه وسلم اتبع آية من كتاب الله تعالى ، فعمل بها ، واتبع عمر آية أخرى ، فعمل بها ، وهما آيتان محكمتان فيما ينال المسلمون من أموال المشركين ، فيصير غنيمة أو فيئًا. وسنورد الآيتين عندما نعرض لفعل عمر.

ونقل ابن زنجويه (1) كلام أبي عبيد كلام من يأخذ به ، وما أحسب السرخسي إلا قد اطلع على ما نقلناه أو على ما نقله أحدهما.

ومع أن موضوع الاختلاف حول اعتبار الأرض المفتتحة عنوة غنيمة أو فيئًا ليست له علاقة مباشرة بالموضوع الذي نحن بصدده من تحديد طبيعة العلاقة مشاكلة أو مغايرة - بين المزارعة ومعاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر، فإن كلا من الموضوعين يشبه الآخر في إقرار حقيقة أن تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض خيبر معاملة وقسمة كان متأثرًا بالظرفية التي لابست فتح خيبر. فالمسلمون يومئذ ، وخاصة المهاجرين ، لم يكونوا على سعة من الرزق يقوم معها الحذر من أن تخويلهم المزيد من الأرض قد ينقلهم من حالة الكفاف إلى حالة الترف على حساب أجيال مقبلة. والفتوحات ما فتئت في أول عهدها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم بالوحي والمكاشفة كيف ستتسع وستتمادى، لذلك أخذ بقسمة الأرض ولم يأخذ بمبدأ وقفها اعتبارًا للظرف الذي كان يحيط بالمسلمين آنئذ، وهو الذي تكيفه الحاجة إلى مزيد من موارد المال ومصادر الكسب لتحقيق الكفاف وللحصول على موارد ضرورية للاستعداد لما يستقبلون من فتوحات تستوجب المزيد من السلاح والعتاد.

(1) الأموال. ج: ا. ص: 187. فقرة: 217.

ص: 1045

على حين أنهم لم يكونوا يملكون الخبرة الكافية في رعاية حقول النخل والمزيد من غراستها والعمل من أجل توفير ثمارها ولم يكونوا يملكون أيضًا وفرة من اليد العاملة حتى ولو كان منهم من يملك الخبرة لذلك ، وذلك ما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيد الأرض إلى أهل خيبر بعد أن أجلاهم عنها بطلب منهم أو بدعوة منهم على اختلاف الروايات ويقرهم فيها على حين على الشرط الذي اشترطه، وهو أن قرارهم فيها ليس مؤبدًا بل هو معلق بمشيئة المسلمين في بعض الروايات أو بمشيئة الله في روايات أخرى، ولا تنافي بين هذه وتلك، وقد سبق أن أوردنا مختلف هذه الروايات فيما نقلنا من الأحاديث والروايات المختلفة والمتصلة بمعاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر ، وننقل هنا جزءًا من أثر طويل رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري تذكرة بمجمل ما ورد في الآثار التي نقلناها سابقًا، وترجيحًا منا لهذا الذي رواه الزهري عن غيره من تلك الآثار قال (1) ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم عمال يعملون خيبر ولا يزرعونها ، قال الزهري: فأخبرني سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعى يهود خيبر ، وكانوا خرجوا على أن يسيروا منها ، فدفع إليهم خيبر على أن يعملوها على النصف ، فيؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه. وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أقركم على ذلك ما أقركم الله))

إلخ.

وإنما رجحنا هذا الأثر وما شاكله؛ لأن الحادثة كما نتصورها أن يهود خيبر عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن نزلوا على حكمه بالجلاء - أن يبقيهم في خيبر يعملونها بخبرتهم وأيديهم المتفرغة للعمل فيها وغير المنشغلة بشيء آخر انشغال المسلمين بالفتوح ، وأن ينفقوا في عملها وصيانتها من أموالهم. فأظهر الإباء عليهم حتى إذا استكمل إخضاعهم بأن اتخذوا طريقهم منفذين للجلاء صاغرين أذلة، دعاهم ليعيدهم إلى الأرض التي أجلاهم عنها على شرطه ومنة منه ليظهر لهم أنه لم يكن بحاجة إلى عملهم ولا إلى خبرتهم ولا إلى أموالهم وإنما هو المن عليهم والرحمة بهم إبرازًا لما أراد أن يقر في أنفسهم من صورة المعاملة الإسلامية المتسمة بالرحمة والإكرام والإسماح.

مهما يكن، فإن خيبر الغنية قصتها بألوان من التشريع كانت من أبرز مصادر الاعتبار الشرعي لتأثير مقتضيات الظروف والملابسات في تكييف أحكامه تعليلًا وتطبيقًا ومناطًا.

(1) المصنف. ج: 5. ص: 372 و373. ح: 9738.

ص: 1046

وقد حاول البعض من الفقهاء والمتفقهة أن يجد في قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم جانبًا من أرض خيبر مصدرًا للحديث عن ملكية المحارب لقسطه من الغنيمة متى تتحقق؟ أو بتعبيرأدق: متى يستحق المحارب قسطه من الغنيمة؟

ومضى هؤلاء وأولئك في جدل ملأوا به الصفحات حول تحديد وقت هذا الاستحقاق، أهو يتعين عند الحصول على الغنائم أم لا يتعين إلا عند قسمتها؟ وطبيعي أن هذا الجدل ليس من شأننا الآن، بيد أننا نعرض له؛ لأنه قائم على قاعدة لا نسلمها لهم ، وهي أن الإمام أو ولي الأمر مجرد منفذ في شؤون الغنائم ، ليس له إلا تطبيق نصوص أمامه تطبيقًا حرفيًا لا تتحكم فيه ظروف ولا أوضاع ولا اعتبارات غير ما ينطبق به النص الحرفي الواجب تطبيقه عليه، في حين أن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل عمر رضي الله عنه الذي سنعرض له من بعد في الأراضي المفتوحة ينهض- ولا أقول ينهضان ، لأنهما في تقديري عمل واحد اختلفت مظاهره - على قاعدة أغفلوها أو غفلوا عنها في جدلهم هذا، وهي أن أمر الأراضي المفتوحة مرجعه إلى الإمام أو ولي الأمر أيا كان الاعتبار النظري للوقت الذي تتعين فيه ملكية المحارب لقسمه من الغنائم، فحتى لو ذهبنا مع القائلين بأن ملكية المحارب تتعين عند الحصول على الغنيمة فإن هذا لا يعني أن الإمام أو ولي الأمر لا يملك أن يتصرف في هذه الملكية إذا أبان له اجتهاده أسبابًا وملابسات يترجح اعتبارها على اعتبار الحق الفردي للمحارب في قسطه من الغنيمة، وهذه الأسباب على تنوعها تشكل ما نسميه بالظرفية التي لا سبيل إلى إغفالها؛ لأن إغفالها يحصر مهمة الإمام أو ولي الأمر مسؤوليته في مجرد التنفيذ التلقائي بدلًا من أن يدع له الاجتهاد بحثًا عن ما من شأنه أن يتجاوز المصلحة الفردية أو ما يظنه غير المسؤول مصلحة فردية إلى ما تقتضيه ، وقد تضطر إليه المصلحة العامة لجماعة من المسلمين أو لجميع المسلمين، ومثل هذا التقييد لتصرف الإمام أو ولي الأمر من شأنه أن يجعل اعتبار المصلحة الفردية متحكما في سياسة الجماعة الإسلامية ، وهو ما يتنافى مع أبسط مقتضيات النصوص التشريعية من قرآنية وسنية ، كما سيتضح لنا بعد حين.

ص: 1047

11 -

أطوار حماية الحمى ودلالاتها

قال عبد الرزاق (1) أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عباس ، عن الصعب بن جثامة قال ابن حجر (تهذيب التهذيب: ج: 2. ص: 184. ترجمة: 4065) : الصعب بن جثامة بن قيس بن ربيعة بن عبد الله بن يعمر الليثي حليف قريش أمه أخت أبي سفيان بن حرب ، واسمها فاختة ، وقيل: زينب ، ويقال: هو أخو محلم بن جثامة ، وكان السعد ينزل ودان - بالفتح كأنه فعلان من الود كالمحبة - كما قال ياقوت في (معجم البلدان. ج:5. ص: 365) : قرية بين مكة والمدينة بينهما وبين هرشى وبينها وبين الأبواء نحو ثمانية أميال قريبة من الجحفة ويقال: ما بينها وبين الجحفة مرحلة ، وبينها وبين الأبواء على طريق الحاج في غربيتها ستة أميال. وينسب إليها الصعب هذا قبل أن يهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقال: مات في خلافة أبي بكر ويقال: في آخر خلافة عمر ، قاله ابن حبان ، ويقال: مات في خلافة عثمان ، وشهد فتح اصطخر ، فقد روى ابن السكن عن طريق صفوان بن عمر. حدثني راشد بن سعد ، قال: لما فتحت اصطخر نادى مناد: ألا إن الدجال قد خرج ، فليقيهم الصعب بن جثامة فقال: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يخرج دجال حتى يذهل الناس عن ذكره. الحديث. قال ابن السكن: إسناده صالح. قلت - القائل ابن حجر -: فيه إرسال ، وهو يرد على من قال: إنه مات في خلافة أبي بكر. وقال ابن منده: كان الصعب ممن شهد فتح فارس. وقال يعقوب بن سفيان: أخطأ من قال: الصعب بن جثامة مات في خلافة أبي بكر. خطأ بينًا ، فقد روى ابن إسحاق عن عمر بن عبد الله ، أنه حدثه عن عروة قال: لما ركب أهل العراق في الوليد بن عقبة ، كانوا خمسة ، منهم الصعب بن جثامة ، وللصعب أحاديث في الصحيح من رواية ابن عباس عنه ، وذكر ابن الكلبي في الجمهرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في يوم حنين: لولا الصعب بن جثامة لفضحت الخيل. وأخرج أبو بكر بن لال في كتاب المصابين من طريق جعفر بن سليمان عن ثابت قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عوف بن مالك والصعب بن جثامة ، فقال كل منهما للآخر: إن مت قبلي فتراءى لي ، فمات الصعب قبل عوف فتراءى ، فذكر قصة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا حمى إلا لله ولرسوله)) ، قال الزهري: وقد كان لعمر بن الخطاب حمى ، بلغني أنه كان يحميه لإبل الصدقة.

(1) المصنف. ج: 11. ص: 8. ح: 19750 و19751.

ص: 1048

عن معمر ، عن الزهري ، عن عمر قال لهانئ بن هني (1) مولى له كان يبعثه على الحمى: أدخل صاحب الغنيمة (2) والصريمة (3) وإياي ، ونعم بن عوف ونعم بن عفان فإنهما إن تهلك نعمهما يرجعان إلى أهل ومال، وأن تهلك نعم هؤلاء يقولون: يا أمير المؤمنين، الماء والكلأ أيسر علي من الدينار والدرهم.

(1) لعل في هذه الرواية وهما ، صوابه:(قال لهني) ، فالمعروف أن عمر استعمل مولى له اسمه هني على الحمى ، قال ابن حجر (تهذيب التهذيب: ج: 11. ص: 73. ترجمة: 114) : هني مولى عمر ، وعامله على الحمى ، روى عن أبي بكر وعمر ومعاوية وعمرو بن العاص ، وعنه ابنه عمير وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين. قلت: سيأتي هذا الحديث مسندًا بأسانيد أخرى إلى (هني) ، لا إلى (هانئ بن هني) ، وذلك ما يثبت تصويبنا لهذا الإسناد.

(2)

قال ابن الأثير: (النهاية. ج: 3. ص: 27) : الصريمة تصغير الصرمة وهي القطيع من الإبل والغنم ، قيل: من العشرين إلى الثلاثين والأربعين ، كأنها إذا بلعت هذا القدر تستقل بنفسها ، فيقطعها صاحبها من معظم إبله وغنمه ، والمراد بها في الحديث من مائة وإحدى وعشرين شاة إلى المائتين ، إذا اجتمعت ففيهما شاتان ، وإن كانت لرجلين وفرق بينهما ، فعلى كل واحد منهما شاة. قلت: يريد بالحديث ما ذكره قبل هذا من كتاب عمر إلى عمرو ابن مرة: في الغنيمة والصريمة شاتان إن اجتمعتا ، وإن تفرقتا فشاة شاة. ثم قال ابن الأثير: وفي حديث عمر قال لمولاه: أدخل رب الصريمة والغنيمة في الحمى والمرعى ، يريد صاحب الإبل القليلة والغنم القليلة.

(3)

قال ابن الأثير: (النهاية. ج: 3. ص: 27) : الصريمة تصغير الصرمة وهي القطيع من الإبل والغنم ، قيل: من العشرين إلى الثلاثين والأربعين ، كأنها إذا بلعت هذا القدر تستقل بنفسها ، فيقطعها صاحبها من معظم إبله وغنمه ، والمراد بها في الحديث من مائة وإحدى وعشرين شاة إلى المائتين ، إذا اجتمعت ففيهما شاتان ، وإن كانت لرجلين وفرق بينهما ، فعلى كل واحد منهما شاة. قلت: يريد بالحديث ما ذكره قبل هذا من كتاب عمر إلى عمرو ابن مرة: في الغنيمة والصريمة شاتان إن اجتمعتا ، وإن تفرقتا فشاة شاة. ثم قال ابن الأثير: وفي حديث عمر قال لمولاه: أدخل رب الصريمة والغنيمة في الحمى والمرعى ، يريد صاحب الإبل القليلة والغنم القليلة.

ص: 1049

وقال البخاري (1) حدثنا يحيى بن بكير. حدثنا الليث الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي ، قال عنه ابن حجر (تهذيب التهذيب: ج: 8. ص: 459 ترجمة: 132) : أبو الحارث الإمام البصرى يقال: إنه مولى قريش ، ولكن أسرته انقرضت في فهم ، فنسب إليهم. وأسرته تنسب إلى الفرس وأصبهان ، ولكن أنكر عليهما البعض هذا الانتساب، ولد بقرشندة على نحو أربعة فراسخ من فسطاط ، وروى عن الكثير من شيوخه وأقرانه ومن هم أصغر منه ، ومن أبرزهم نافع وابن أبي مليكة ويحيى بن سعيد والزهري وهشام بن عروة وعطاء بن أبي رباح وبكير الأشج وسعيد المقبري وأبو الزناد وقتادة وأبو الزبير المكي وعبد الله بن أبي جعفر وعبد العزيز الماجشون ، وروى عنه خلق منهم شيوخ له مثل محمد بن عجلان وهشام بن سعد. وأقران مثل ابن لهيعة وهشام بن بشير وقيس بن الربيع وعطاف بن خالد ، وكانت بينه وبين مالك بن أنس الإمام مودة ومراسلات ، بل إن الشافعي كان فيما روي عنه يراه أفقه من مالك وأجمعوا على توثيقه ، وإن تكلم بعضهم في رواياته عن بعض شيوخه ، فقالوا: إنها مناولة وليست سماعًا ونفى ذلك آخرون والروايات متوافرة عن أحمد في توثيقه والثناء عليه ، وكذلك عن يحيى بن معين وإن كان أقل إشادة به من أحمد ، وكان غنيًا سخيا كريمًا على أقرانه وتلامذته وضيوفه ، ويقال: إن دخله كان كل سنة ثمانين ألف دينار ، ومع ذلك لم تجب عليه الزكاة قط.

ويروى عن عبد الله بن صالح أنه قال: صحبت الليث عشرين سنة لا يتغدى ولا يتعشى إلا مع الناس، روي عنه أنه كان يقول: أنا أكبر من ابن لهيعة بثلاث سنين ومع ذلك عاش بعده نحوًا من ثلاث سنين وكانت وفاة ابن لهيعة سنة أربع وسبعين ومائة. وروي أن الليث ولد سنة أربع وتسعين ومات يوم الجمعة نصف شعبان سنة سبع وخمسين ومائة، رحمه الله رحمة واسعة. ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عنبسة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الصعب بن جثامة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا حمى إلا لله ولرسوله))

(1) صحيح البخاري. ج: 3. ص: 78.

ص: 1050

وقال - يعني الزهري -: بلغنا ((أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع)) قال ياقوت (معجم البلدان. ج: 5. ص: 310) : في (نقيع) بعد أن ذكر اشتقاقه ، وهو نقيع الخضمات ، موضع حماه عمر بن الخطاب رضي الله عنه لخيل المسلمين ، وهو من أودية الحجاز ، يدفع سيله إلى المدينة ، يسلكه العرب إلى مكة منه ، وحمى نقيع على عشرين فرسخًا أو نحو ذلك من المدينة ، وفي كتاب: نصر النقيع: موضع قرب المدينة ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حماه لخيله ، وله هنالك مسجد ، يقال له: مقمل ، وهو من ديار مزينة ، وبين النقيع والمدينة عشرون فرسخًا ، وهو غير نقيع الخضمات ، وكلاهما بالنون والباء فيهما خطأ.

وعن الخطابي وغيره ، قال القاضي عياض: النقيع الذي حماه النبي صلى الله عليه وسلم ثم عمر ، هو الذي يضاف إليه في الحديث: غرز النقيع ، وفي حديث آخر: يقدح لهن من النقيع. وحمى النقيع على عشرين فرسخًا ، كذا في كتاب عياض ، ومساحته ميل في بريد ، وفيه شجر يستجم حتى يغيب الراكب فيه. واختلف الرواة في ضبطه ، فمنهم من قيده بالنون ، منهم النسفي وأبو ذر القابسي ، وكذا قيد في مسلم عن الصدفي وغيره ، وكذلك لابن ماهان ، وكذا ذكره الهاوي الخطابي. قال الخطابي: وقد صحفه بعض أصحاب الحديث بالباء ، وأما الذي بالباء مدفن أهل المدينة ، قال: ووقع في كتاب الأصيلي بالقاف مع النون ، وهو تصحيف ، وإنما هو بالنون والقاف ، وقال أبو عبيد البكري: هو بالباء والقاف ، مثل بقيع الغرقد ، قال المؤلف ياقوت - يعنى نفسه -: وحكى السهيلي ، عن أبي عبيد البكري خلاف ما حكاه عنه عياض. قال السهيلي في حديث النبي صلى الله عليه وسلم:((أنه حمى غرز النقيع))

. قال الخطابي: النقيع: القاع، والغرز: نبت شبه التمام ، وفي رواية أبي إسحاق مرفوعًا إلى أبي أمامة ، أن أول جماعة جمعت بالمدينة في هزم بني بياضة في بقيع يقال له: بقيع الخضمات. قال المؤلف: هكذا المشهور في جميع الروايات ، وقد ذكر ابن هشام: هزم بني التبيت ، وسأذكره في هزم إن شاء الله مستوفى، قال السهيلي: وجدته في نسخة أبي بحر بالباء ، وكذلك وجدته في رواية يونس عن أبي إسحاق ، وذكر أبو عبيد البكري في كتاب معجم ما استعجم من أسماء البقيع أنه نقيع بالنون ، وذكر ذلك بالنون والقاف ، وأما النفيع بالفاء ، فهو أقرب إلى المدينة منه بكثير ، وقد ذكرته أنا في موضعه. هكذا نقل هذان الإمامان عن أبي عبيد البكري ، إلا أن يكون أبو عبيد جعل الموضع الذي حماه النبي صلى الله عليه وسلم وهو حمى غرز البقيع بالباء فقط والله أعلم به ، على أن القاضي عياضًا والسهيلي لم أرهما فرقا بينهما ولا جعلاهما موضعين ، وهما موضعان لا شك فيهما إن شاء الله. وروي عن أبي مراوح:((نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالنقيع على مقمل ، فصلى فصليت ، وقال: حمى النقيع نعم مرتع الأفراس ، يُحمى لهن ، ويجاهد بهن في سبيل الله)) . ثم استشهد بأبيات وكلام لبعض العرب.

ص: 1051

وأن عمر حمى السرف قال ياقوت (معجم البلدان. ج: 4. ص: 212 وما بعدها) : بعد أن ذكر اشتقاق كلمة سرف ، وهو موضع على ستة أميال من مكة وقيل: سبعة وتسعة واثني عشر ، تزوج به رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث ، وهناك بنى بها ، وهناك توفيت. ثم قال القاضي عياض: وأما الذي حمى فيه عمر رضي الله عنه فجاء فيه أنه حمى السرف والربذة كما عند البخاري بالسين المهملة ، وفي موطأ ابن وهب: الشرف ، بالشين المعجمة وفتح الراء ، وكذا رواه بعض رواة البخاري ، وأصلحه ، وهذا الصواب. وأما سرف ، فلا يدخله الألف واللام. ثم قال (معجم البلدان. ص: 336) : في كلمة (شرف) بالتحريك ، هو المكان العالي. قال الأصمعي: الشرف كبد نجد ، وكانت منازل بنى آكل المرار من كندة الملوك ، وفيها اليوم حمى ضربة ، وفي الشرف الربذة ، وهي الحمى الأيمن ، والشريف إلى جنبها ، يفصل بينهما التسرير ، فما كان شرقًا فهو الشريف ، وما كان غربا فهو الشرف. ثم قال: وقال غيره: الشرف الحمى الذي حماه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. والربذة (1) وقال (2) حدثنا إسماعيل ، قال: حدثني مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل مولى له يدعى هنيًّا على الحمى ، فقال: يا هني، اضمم جناحك عن المسلمين ، واتق دعوة المظلوم ، فإن دعوة المظلوم مستجابة ، وأدخل رب الصريمة، ورب الغنيمة، وإياي ونعم بن عوف ونعم بن عفان، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يأتيني ببنيه ، فيقول: يا أمير المؤمنين، يا أمير المؤمنين ، أفتاركم أنا لا أبا لك؟ فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق ، وأيم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتهم، إنها لبلادهم ، فقاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده ، لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ، ما حميت عليهم من بلادهم شبرًا.

(1) وقال ياقوت (معجم البلدان. ص: 23) : الربذة بفتح الراء وثالثه ذال معجمة مفتوحة أيضًا. قال أبو عمر: وسألت ثعلبًا عن الربذة اسم القرية ، قال ثعلب: سألت عنها ابن الأعرابي ، فقال: الربذة الشدة ، يقال: كنا في ربذة ، فانجلت عنا. ثم قال: والربذة من قرى المدينة على ثلاثة أيام ، قريبة من ذات عرق على طريق الحجاز إذا رحلت من فيد تريد مكة ، وبهذا الموضع قبر أبي ذر الغفاري رضي الله عنه ثم قال: وكانت من أحسن منزل في طريق مكة. وقال الأصمعي يذكر نجدا: والشرف كبد نجد ، وفي الشرف الربذة ، وهي الحمى الأيمن ، وفي كتاب نصر: الربذة من منازل الحاج بين السليلة والعمق.

(2)

البخارى. ج: 4. ص: 33.

ص: 1052

وقال أبو عبيد (1) حدثنا عبد الله بن صالح عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم ، قال عنه الذهبي في (سيرأعلام النبلاء. ج:10. ص: 405 وما بعدها. ترجمة: 115) : الإمام المحدث شيخ المصريين أبو صالح الجهني مولاهم المصري كاتب الليث ابن سعد ، قد شرحت حاله في ميزان الاعتدال (ج:2. ص: 440) وما بعدها. ترجمة: 4383) ، وليناه ، وبكل حال فكان صدوقًا في نفسه من أوعية العلم ، أصابه داء شيخه ابن لهيعة ، وتهاون بنفسه حتى ضعف حديثه ، ولم يترك بحمد الله. والأحاديث التي نقموها عليه معدودة في سعة ما روى. ثم أفاض في سرد شيوخه وتلامذته ، وذكر أن مولده سنة سبع وثلاثين ومائة ، وكانت وفاته كما ذكر هو وغيره سنة اثنتين وعشرين ومائتين ، فيكون قد عُمِّر خمسا وثمانين سنة. قلت: وقد وثقه عدد من النقدة ، منهم يحيى بن معين على شدته على الرجال ، بل إنه طلب إلى سعيد بن منصور وكان شديدًا عليه أن يمسك عنه ، فأبى ، وضعفه أحمد وطائفة غيره من النقدة ، لكن روى عنه البخاري حديثًا في صحيحه ، وعلق له في أكثر من موضع ، وروى عنه أبو داود والترمذي وابن ماجه ، ودافع ابن حجر (مقدمة فتح الباري. ص: 411 وما بعدها) عن رواية البخاري عنه ، وساق جل ما أنكروا من حديثه ، وترجم له البخاري في (التاريخ الكبير. ج:5. ص: 121. ترجمة: 357) ، ولم يقل فيه شيئًا مما قاله غيره من النقدة ، كما ترجم له الرازي في الجرح والتعديل (ج:5. ص: 121. ترجمة: 357) ، ولم يقل فيه شيئا مما قاله غيره من النقدة ، كما ترجم له الرازي في الجرح والتعديل (ج:5. ص: 85 وما بعدها. ترجمة: 397) ، وساق طائفة من أقوالهم فيه ، ولكنه كان أميل إلى توثيقه ، ومن عجب أن الذهبي ذكره بعبارة تكاد تكون واحدة في كل من الكاشف (ص:84. ترجمة: 2811) ، وهو خاص بمن يوثقهم ، والمغني (ج: ا. ص: 342. ترجمة: 3213) ، وترجم له الخطيب في تاريخ بغداد. (ج: 9. ص: 478. ترجمة: 5110)، وساق طائفة تكاد تكون وافية مما قال فيه النقدة ونقلوا عنه وفقدوا من حديثه. وذكره ابن حبان في المجروحين (ج:2. ص: 40) ، وكان شديدًا عليه جدا ، إذ قال بصفة الجزم: منكر الحديث جدا ، يروي عن الأثبات ما لا يشبه حديث الثقات ، وعنده المناكير الكثيرة عن أقوام مشاهير أئمة. ثم عاد فخفف من لهجته ، فقال: (وكان في نفسه صدوقًا يكتب لليث بن سعد الحساب ، وكان كاتبه على الفلات ، وإنما وقعت المناكير في حديثه من قبل جار له رجل سوء. سمعت ابن خزيمة يقول: كان له جار بينه وبينه عداوة ، فكان يضع الحديث على شيخ عبد الله بن صالح ، ويكتب في قرطاس بخط يشبه خط عبد الله بن صالح ، ويطرح في داره في وسط كتبه ، فيجده عبد الله ، فيحدث به ، فيتوهم أنه خطه وسمعه. فمن ناحيته وقعت المناكير في أخباره.

(1) الأموال ص: 413. ج: 727.

ص: 1053

ثم ساق ما ساقه غيره مما أنكروا عنه أو نقدوه من حديثه ، وأشده نكرًا عندهم حديث رواه عن الليث بن سعد ، عن خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن ربيعة بن سيف قال: كنا عند شقتي الأصبحي ، فقال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يكون خلفي اثنا عشر خليفة)) الحديث. وترجم له ابن عدي في الكامل (ج: 4. ص: 1522) وبعد أن ساق ما ساقه غيره من كلام النقدة فيه ومناكيرهم عنه ، قال: ولعبد الله بن صالح روايات كثيرة عن صاحبه الليث بن سعد ، وعنده عن معاوية بن صالح نسخة كبيرة. ويروى عن يحيى بن أيوب صدرًا صالحًا ، ويروى عن ابن لهيعة أخبارًا كثيرة ، ومن نزول رجاله عبد الله بن وهب ، وهو عندي مستقيم الحديث ، إلا أنه يقع في حديثه في أسانيده ومتونه غلط ، ولا يتعمد الكذب ، وقد روى عنه يحيى بن معين ، كما ذكرت ، وذكره في الضعفاء كل من النسائي (ص:149. ترجمة: 351) والعقيلي (ج: 2. ص: 267. ترجمة: 826) وترجم له ابن حجر في تهذيب التهذيب (ج: 5. ص: 256. الترجمة: 448) وساق ما تحدث به عنه وأنكروه. عن الليث بن سعد ، عن يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عنبسة ، عن ابن عباس ، عن الصعب بن جثامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حمى إلا لله ولرسوله)) .

ثم قال (1) حدثنا ابن أبي مريم ، عن عبد الله بن عمر العمري عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب أبو عبد الرحمن العمري ، روى عن عدد من صدور الحديث ، منهم نافع وزيد بن أسلم وسعيد المقبري وسهيل بن أبي صالح وحامد الطويل ، وروى عنه عدد منهم ، وفيهم عبد الرحمن بن مهدي والليث بن سعد بن وهب وعبد الرزاق وأبو قتيبة وآخرون ، وثقه بعضهم ، منهم يحيى بن معين ، واختلفت الرواية فيه عن أحمد ، واتفقت بتضعيفه عن يحيى بن سعيد ، وأجمعوا على فضله ، وأحسب أن ممن تكلم فيه من تحرج منه ، لأنه خرج مع محمد بن عبد الله بن حسن فحبسه المنصور ، ثم خلاه ، ولعلهم رأوا فيه لوثة شيعية على أن هذا مجرد ظن مني. توفي رحمه الله ما بين سنة إحدى وسبعين وثلاث وسبعين ومائة على اختلافهم في ذلك ، وقد روى عنه مسلم والأربعة انظر ترجمته (ابن حجر، تهذيب التهذيب. ج: 5. ص: 326. ترجمة: 564) وسائر مصادر الجرح والتعديل. عن نافع ، عن ابن عمر قال:((حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقيع وهو موضع معروف بالمدينة لخيل المسلمين)) .

(1) البخاري ص: 417 إلى 420 وما بعدها. ح: 739 إلى 744.

ص: 1054

وحدثنا عبد الله بن صالح ، عن الليث ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه أنه قال: سمعت عمر وهو يقول لهني حين استعمل على حمى الربذة: يا هني ، اضمم جناحك عن الناس ، واتق دعوة المظلوم ، فإنها مجابة ، وأدخل رب الصريمة والغنيمة ، ودعني من نعم بن عفان ونعم بن عوف ، فإنهما إن هلكت ماشيتهما رجعا إلى نخل وزرع ، وإن هذا المسكين إن هلكت ماشيته جاء يصرخ: يا أمير

المؤمنين، أفالكلاء أهون علي أم غرم الذهب والورق؟ وإنها لأرضهم ، قاتلوا عليها في الجاهلية ، وأسلموا عليها في الإسلام، إنهم ليرون أنا نظلمهم ، ولولا النعم التي يحمل عليها في سبيل الله ما حميت على الناس شيئًا من بلادهم أبدًا. قال أسلم: فسمعت رجلًا من بني ثعلبة يقول له: يا أمير المؤمنين ، حميت بلادنا ، قاتلنا عليها في الجاهلية ، وأسلمنا عليها في الإسلام. يرددها عليه مرارًا ، وعمر واضع رأسه إليه ، ثم إنه رفع رأسه إليه ، ثم قال: البلاد بلاد الله ، ويحمي النعم مال الله ، يحمل عليها في سبيل الله.

حدثنا إسحاق بن عيسى ، عن مالك بن أنس ، عن زياد بن أسلم ، عن عامر بن عبد الله بن الزبير - قال أبو عبيد: أحسبه عن أبيه – قال: أتى أعرابي عمر فقال: يا أمير المؤمنين، بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية ، وأسلمنا عليها في الإسلام على ما تحميها، قال: فأطرق عمر ، وجعل ينفخ ويفتل شاربه - وكان إذا كربه أمر فتل شاربه ونفخ - فلما رأى الأعرابي ما به ، جعل يردد ذلك عليه ، فقال عمر: المال مال الله ، والعباد عباد الله ، والله لولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت من الأرض شبرًا في شبر.

قال مالك: بلغني أنه كان يحمل في كل عام على أربعين ألفًا من الظهر.

وكان مالك بن أنس يأخذ بالحديث المرفوع الذي في النقيع قال: السنة أن يحمى النقيع لخيل المسلمين إذا احتاجوا إلى ذلك ، ولا يحمى إلى غيرها. قيل له: فلإبل الصدقة؟ قال: لا، ولو جاز ذلك لحجرت الأحماء.

ص: 1055

وأما سفيان بن سعيد فيروى عنه أنه قال: قد أبيحت الأحماء. وقال ابن زنجويه (1) : أخبرنا عبد الله بن صالح ، حدثني الليث ، حدثني يونس ، عن ابن شهاب قال:((بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع ، وأن عمر حمى الشرف والربذة)) .

أخبر ابن أبي أويس إسماعيل بن عبد الله بن عبد الله بن أبي أويس الأصبحي بن أبي أويس ابن أخت مالك ونسيبه ، كما يقول ابن حجر (تهذيب التهذيب ج:1. ص: 310. ترجمة: 562) ، روى عن عدد ، منهم خاله مالك ، وأكثر عنه ، ومنهم سلمة بن وردان وابن أبي الزناد وعبد العزيز الماجشون وسليمان بن بلال ، وأخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه ، وتكلم فيه النسائي فاشتد عليه ، وزعم البعض أنه قرأ من كتابه اعترافًا له بأنه ربما وضع الحديث لبعض أهل المدينة فيما اختلفوا فيه ، لكن ذكرت بعض الروايات عن أحمد أنه قال: لا بأس به. وكذلك عن ابن معين ، ووصفه بعضهم بأنه مغفل ضعيف العقل ، وزعم آخرون أنه ارتشى من تاجر عشرين دينارًا حتى باع على الأمير ثوبًا يساوي خمسين بمائة ، وإن صح هذا ، فلعله تأوله جعلا ، وليس ارتشاء ، وقد أبدوا وأعادوا بالقول فيه ، بيد أن روايتي الشيخين والترمذي وأبي داود وابن ماجه عنه وتوثيق أبي حاتم له وبعض ما روى عن أحمد وابن معين فيه ، كل ذلك يدعو إلى الارتياب في أقاويلهم وما أكثر ما تقول بعضهم في بعض ، يغفر الله لهم. حدثني مالك ، عن عمه أبي سهل بن مالك (2) عن أبيه ، (3)

(1) سقط الهامش من الأصل (المجلة)

(2)

نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي أبو سهل التميمي المدني حليف بني تميم ، كما يقول ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج:10. ص: 409. ترجمة: 737) روى عن أبيه وابن عمر وسهل بن سعد وأنس وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وغيرهم ، روى عنه الزهري ، وهو من أقرانه ، وابن أخيه مالك بن أنس وغيرهما ، وأخرج له الجماعة ووثقوه ، وذكر الواقدي أنه كان يأخذ عنه القراءة بالمدينة توفي رحمه الله في إمارة بني العباس.

(3)

مالك بن أبي عامر الأصبحي أبو أنس ، ويقال: أبو محمد ، جد مالك بن أنس الفقيه ، هكذا ترجم له ابن حجر في تهذيب التهذيب (ج:10. ص. 19. ترجمة: 25) ، روى عن عمر وطلحة وعقيل بن أبي طالب وأبي هريرة وعائشة وربيعة بن محرز كاتب عمر وكعب الأحبار ، وروى عنه أنس والربعي ونافع ، وكذلك سليمان بن يسار وسالم بن أبي النضر ومحمد بن إبراهيم التيمي ، أخرج له الجماعة ، ولم يتكلم فيه أحد ، وتوفي حين اجتمع الناس على عبد الملك سنة أربع وسبعين ، واضطربوا في تحديد تاريخ مولده ، لكن ابن حجر يقول: قد صح سماعه عن عمر ، فإنه قال: شهدت عمر عند الجمرة. قلت: وهذا يعني أنه على الأرجح ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رحمه الله رحمة واسعة.

ص: 1056

أن عمر بن الخطاب قال ليرفأ (1) كم تعلفون هذا الفرس؟ قال: ثلاثة أمداد أو صاعًا، شك أيُّ ذلك أو يقول، فقال له عمر: إن هذا لكاف أهل بيت من العرب ، فقال يرفأ: يا أمير المؤمنين ، أما ترد عليه إبل الصدقة؟ فقال عمر: أنت تقول ذلك ، والذي نفسي بيده لتعالجن من ذا النقيع.

أخبرنا ابن أبي أويس ، حدثني مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، أن عمر استعمل مولى له يدعى هنيا على الحمى ، فقال له: يا هني ، اضمم جناحك عن المسلمين ، واتق دعوة المظلوم ، فإن دعوة المظلوم مستجابة ، وأدخل رب الصريمة والغنيمة، وإياي ونعم بن عفان ونعم بن عوف ، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى زرع ونخل ، وأن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتني ببنيه ، فيقول: يا أمير المؤمنين ، فتاركهم أنا لا أبا لك؟ فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب ، وأيم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتهم ، إنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية ، وأسلموا عليها في الإسلام ، والذي نفسي بيده ، لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرًا.

أخبرنا عبد الله بن صالح ، عن الليث بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه قال: سمعت عمر وهو يقول لهني حين استعمله على حمى الربذة

فذكر نحوه ، وزاد فيه قال: قال أسلم: فسمعت رجلًا من بني ثعلبة يقول له: يا أمير المؤمنين ، حميت بلادنا، قاتلنا عليها في الجاهلية ، وأسلمنا عليها في الإسلام. يرددها عليه مرارًا ، وعمر رافع رأسه ، ثم إنه رفع إليه رأسه ، فقال: البلاد لله ، ونحمي النعم مال الله يحمل عليه في سبيل الله.

قال أبو داود (2) حدثنا بن سرح. أخبرنا وهب. أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن الصعب بن جثامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا حمى إلا لله ولرسوله)) . قال ابن شهاب: ((وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع.)) .

(1) ترجم له ابن حجر في الإصابة (ج: 3. ص: 672. ترجمة: 9387) فيمن ترجم لهم في القسم الثالث ، فقال: حاجب عمر ، أدرك الجاهلية وحج مع عمر في خلافة أبي بكر.

(2)

ساقطة من الأصل.

ص: 1057

حدثنا سعيد بن منصور. حدثنا عبد العزيز بن محمد وعبد الرحمن بن الحرث ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن عبد الله بن عباس ، عن الصعب بن جثامة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع ، وقال:((لا حمى إلا لله عز وجل) .

وقال ابن حبان (1) : أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى ، قال: حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي ، قال: حدثنا عبد الله بن نافع ، قال: حدثنا عاصم بن عمر ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيل المسلمين)) .

أخبرنا حامد بن محمد بن شعيب ، قال: حدثنا منصور بن أبي مزاحم ، قال: حدثنا يحيى بن حمزة ، عن الزبيدي ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن الصعب بن جثامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا حمى إلا لله ولرسوله)) .

أخبرنا الحسن بن عبد الجبار. حدثنا يحيى بن معين ، حدثنا علي بن عياش. حدثنا شعيب بن أبي حمزة ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حمى إلا لله عز وجل) .

وقال البيهقي (2) أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان. أنبأ أحمد بن عبيد الصفار. حدثنا ابن ملحان وعبيد بن شريك ، قالا: حدثنا يحيى ، حدثنا الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس ، عن الصعب بن جثامة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا حمى إلا لله ولرسوله)) . قال: وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع ، وأن عمر بن الخطاب حمى الشرف والربذة.

أخبرنا أبو الحسن بن بشران العدل ببغداد. أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار. أنبأ أحمد بن منصور الرمادي. حدثنا عبد الرزاق. أنبأ معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس ، أن الصعب بن جثامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا حمى إلا لله ولرسوله)) . قال الزهري رحمه الله: فكان لعمر بن الخطاب حمى ، بلغني أنه كان يحميه لإبل الصدقة.

(1) ساقطة من الأصل.

(2)

ساقطة من الأصل.

ص: 1058

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ. حدثنا أبو عوانة محمد بن أحمد بن مهان الحراني بمكة. حدثنا محمد بن علي بن زيد. حدثنا سعيد بن منصور. حدثنا عبد العزيز بن محمد. حدثنا عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن الصعب بن جثامة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع ، وقال:((لا حمى إلا لله ولرسوله)) .

أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو. أنبأ أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار. حدثنا محمد البرتي. حدثنا القعنبي ، حدثنا عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب ، عن نافع ، عن ابن عمر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيل المسلمين ترعى فيه)) .

أخبرنا أبو أحمد عبد الله بن محمد بن الحسن العدل. أنبأ أبو بكر محمد بن جعفر المزكي. حدثنا محمد بن إبراهيم العبدي ، حدثنا ابن بكير ، حدثنا مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل مولى له يدعى هنيا على الحمى ، وقال له: يا هني ، اضمم جناحك عن المسلمين ، واتق دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة، وإيإي ونعم بن عفان ونعم بن عوف ، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع ، وإن رب الصريمة والغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتني ببنيه ، فيقول: يا أمير المؤمنين، يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أنا لا أبا لك؟ فالماء والكلأ أيسر عليك (1) من الذهب والورق، وايم الله، إنهم ليروني أني قد ظلمتهم أنها لبلادهم ، قاتلوا عليها

في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده ، لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ، ما حميت على الناس في بلادهم شبرًا.

(1) لعل فيه تصحيفًا صوابه: (أيسر علي) كما في الحديث الذي نقلناه آنفًا عن البخاري بسنده من طريق إسماعيل بن أسلم إلى عمر بن الخطاب.

ص: 1059

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ. حدثنا علي بن عيسى الحيري. حدثنا محمد بن عمرو الحرشي. حدثنا يحيى بن يحيى ، أنبأ المعتمر بن سليمان التيمي. حدثنا أبي. حدثنا أبو نضرة ، عن أبي سعيد مولى أبي أسيد الأنصاري ، قال: سمع عثمان بن عفان رضي الله عنه أن وفد أهل مصر قد أقبلوا ، فاستقبلهم ، ، فلما سمعوا به ، أقبلوا نحوه ، قال: وكره أن يقدموا عليه المدينة ، فأتوه ، فقالوا له: ادع بالمصحف ، وافتح السابعة ، وكانوا يسمون سورة يونس السابعة ، فقرأها ، حتى أتى على هذه الآية:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (1) قالوا له: قف ، أرأيت ما حميت من الحمى ، الله أذن لك أم على الله تفتري؟ فقال: امضه ، نزلت في كذا وكذا ، فأما الحمى فإن عمر حمى الحمى قبلي لإبل الصدقة ، فلما رأيت زادت إبل الصدقة ، فزدت في الحمى لما زاد في الصدقة.

أخبرنا أبو الحسين بن بشران. أنبأ أبو محمد الدعلج بن أحمد بن دعلج. حدثنا محمد بن علي بن زياد. حدثنا سعيد بن منصور. حدثنا يونس بن أبي يعفور ، عن أبيه قال: قال عبد الله بن عمر: اشتريت إبلًا ، وأنجعتها إلى الحمى ، فلما سمنت ، قدمت بها، قال: فدخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه السوق ، فرأى إبلًا سمانًا ، فقال: لمن هذه الإبل؟ قيل: لعبد الله بن عمر، قال: فجعل يقول: يا عبد الله بن عمر بخ بخ ابن أمير المؤمنين، قال: فجئته أسعى ، فقلت: مالك يا أمير المؤمنين؟ قال: ما هذه الإبل؟ قال: قلت: إبل إنضاء اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى ، أبتغي ما يبتغي المسلمون. قال: فقال: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، يا عبد الله بن عمر اغد على رأس مالك ، واجعل باقيه في بيت مال المسلمين.

(1) الآية رقم: (59) من سورة يونس.

ص: 1060

وقال الحاكم (1) حدثنا علي بن عيسى. حدثنا محمد بن عمرو الحرشي. حدثنا يحيى بن يحيى. أنبأنا المعتمر بن سليمان التيمي. حدثنا أبي. حدثنا أبو نضرة ، عن أبي سعد مولى أبي أسيد الأنصاري ، قال: سمع عثمان بن عفان رضي الله عنه أن وفد أهل مصر قد أقبلوا نحوه ، قال: وكره أن يقدموا عليه المدينة ، قال: فأتوه ، فقالوا له: ادع بالمصحف ، وافتتح السابعة، وكانوا يسمون سورة يونس السابعة ، فقرأها ، حتى أتى على هذه الآية:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} فقالوا له: قف أرأيت ما حميت من الحمى ، الله أذن لك أم على الله تفتري؟ فقال: امضه ، نزلت في كذا وكذا، فأما الحمى فإن عمر قد حمى الحمى قبلي لإبل الصدقة، فلما وليت وزادت إبل الصدقة ، فزدت في الحمى لما زاد في الصدقة.

وقال الطبري (2) في مساق الحديث عن المتحزبين على عثمان رضي الله عنه وقد اجتمع منهم نفر وأحاطوا بالمنبر ، وأحاط بهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان عثمان على المنبر يناظرهم، فكان مما جرى بين الفريقين:

قالوا: وحميت الحمى ، وإني والله ما حميت، حُمي قبلي ، والله ما حموا شيئًا لأحد ، ما حموا إلا غلب عليه أهل المدينة ، ثم لم يمنعوا من رعيه أحدًا، واقتصروا لصدقات المسلمين يحمونها ، لئلا يكون بين من يليها وبين أحد تنازع، ثم ما منعوا ولا نحو منها أحدًا إلا من ساق درهمًا وما لي من بعير غير راحلتين ، وما لي ثاغية ولا راغية ، وإني قد وليت، وإني أكثر العرب بعيرًا وشاء ، فما لي اليوم شاة ولا بعير غير بعيرين لحجي، أكذلك؟ قالوا: اللهم نعم.

ثم قال (3) في رواية أخرى وكلتاهما عن سيف سيف بن عمر التيمي البرجمي - بضم الباء والجيم نسبة إلى البراجم قبيلة من تميم - ويقال: السعدي ، ويقال: الضبعي ، ويقال:

الأسدي ، هكذا قال ابن حجر في تهذيب التهذيب (ج:4. ص: 295. ترجمة: 5:6) ، وقال غيره: الأسيدي الكوفي صاحب كتاب الردة والفتوح ، روى عن عبد الله بن عبد الله العمري وأبي الزبير وابن جريج وإسماعيل بن أبي خالد وهشام بن عروة ويحيى بن سعيد ومحمد بن إسحاق والكلبي وآخرين ، وعنه النضر بن حماد العتكي ويعقوب بن إبراهيم ، ويظهر أنه هو أيضًا روى عن يعقوب كما في هذه الرواية المنقولة عن الطبري ، وسعد أخيه - ويظهر أنه هو وشعيب الذي ورد في النسخة المطبوعة بدار المعارف من تاريخ الطبري خطأ - والمحاربي وجماعة.

(1) المستدرك. ج: 2. ص: 339. تاريخ الرسل والملوك. ج: 4. ص: 347.

(2)

تاريخ الرسل والملوك ج 4 ص 347.

(3)

تاريخ الرسل والملوك. ص: 354.

ص: 1061

قال ابن معين (التاريخ. ج: 2. ص: 245. ترجمة: 2262) : سيف بن عمر يحدث عنه المحاربي ، وهو ضعيف. ونقل عنه ابن حجر – ولم نجد في التاريخ – قوله: فليس خير منه. وقال الرازي في (الجرح والتعديل. ج: 4. ص: 278.

ترجمة: 1198) : سئل أبي عن سيف بن عمر الضبي ، فقال: متروك الحديث لشبه حديثه حديث الواقدي ، ونقل ابن حجر عن أبي داود قوله: ليس بشيء ، وعن النسائي والدارقطنى ضعيف متروك. قلت: الذي في الضعفاء للنسائي كلمة

ضعيف وحدها ، كما أنها ليست عند الدارقطنى ، والذي في كتابه (الضعفاء والمتركين. ص:104. ترجمة: 283) سيف بن عمر الأسيدي كوفي عن العالم الكوفيين والبصريين والحجازيين، ومع غموض العبارة لا نجد فيها كلمة الترك وإن كان اسم الكتاب الضعفاء والمتروكين. ونقل ابن عدي في (الكامل. جـ 3. ص: 1271) عن يحيى بن معين ما نقله ابن حجر - ولعله نقله عنه - قوله في سيف: فليس خير منه. وأسند إليه حديثًا عن المعلمين ، وتعقبه بقوله: هذا حديث منكر الموضوع ، وقد اتفق في هذا البحث ثلاثة من الضعفاء ، فرووه: عبيد بن إسحاق الكوفي العطار ، يلقب عطار المطلقات ، ضعيف ، وسيف بن عمر الضبي كوفي - لاحظ جيدا قوله: كوفي - وسعد الإسكاف كوفي ضعيف ، وهو أضعف الجماعة ، فأرى والله أعلم أن البلاء من جهته ، ثم أسند إليه أربع أحاديث ، ثم قال: ولسيف بن عمر أحاديث غيرها ذكرت ، وبعض أحاديثه مشهورة ، وعامتها منكرة ، لم يتابع عليها ، وهو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق. قلت: مما أنكر عليه ابن عدي أو ضعفه حديث يبرئه من تهمة التشيع - فقد قال ابن عدي: حدثنا صدقة ، حدثنا عبد الله. حدثنا عمي. حدثنا سيف بن عمر ، عن عطية بن الحارث ، عن أبي أيوب. وعن علي وعن الضحاك ، عن ابن عباس. وعمرو بن محمد ، عن الشعبي وسعيد بن جبير ، عن أبي عباس قالوا: والله إن إمارة أبي بكر وعمر لفي الكتاب: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} - الآية رقم: (3) من سورة التحريم – وقال أبو نعيم الأصبهاني في كتابه (الضعفاء. ص: 91. ترجمة: 95) : سيف بن عمر الضبي - الكوفي متهم في دينه مرمي بالزندقة ساقط الحديث ، لا شيء. قلت: يظهر أنه تأثر بابن حبان الذي قال في كتابه (المجروحين. ج: 1. ص: 245 و246) : من أهل البصرة - لاحظ قوله من

أهل البصرة واتفاق غيره على أنه كوفي - واتهم بالزندقة ، يروي عن عبد الله بن عمر - يعني العمري - روى عنه المحاربي والبصريون ، كان أصله من الكوفة يروي الموضوعات عن الأثبات.

ص: 1062

حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد السلام ببيروت. سمعت الجعفر بن أبان ، يقول: سمعت ابن نمير ، يقول: سيف الضبي تميمي ، كان جمع يقول: حدثني رجل من بني تميم ، وكان سيف يضع الحديث ، وكان قد اتهم بالزندقة. ونقل ابن حجر عن الحاكم قوله: اتهم بالزندقة ، وهو في الرواية ساقط ، وذكره الذهبي في (الكشاف. ج:1. ص: 333. ترجمة: 2245) ، ضعفه ابن معين وغيره ، ولكنه قال في المغني (ج:1. ص: 292. ترجمة: 276) : متروك باتفاق ، ونقل عن ابن حبان اتهامه بالزندقة وبرواية الموضوعات ، ثم قال: أدرك التابعين ، وقد اتهم. قلت: لا أدري من أين جاءه زعم الاتفاق على تركه، فإن صح الاتفاق فعلى ضعفه ، وليس على تركه ، وقد ذكروا جميعًا أن الترمذي روى عنه. وقال في الميزان (ج:2. ص: 255. ترجمة: 3637) : هو كالواقدي يروي عن هشام بن عروة وعبيد الله بن عمر وجابر الجعفي وخلق كثير من المجهولين ، كان إخباريًا عارفًا ، روى عنه جبارة بن المغلس وأبو معمر القطيعي والنضر بن حماد العتكي وجماعة. ثم ساق روايات من ضعفوه أو اتهموه أو تركوه ، ونقل أحاديث مما أسند إليه ابن عدي ، ثم قال: مات زمن الرشيد. قلت: هذه محصلة كلامهم عنه ، وما نعرف من اشتد عليه مثل أبي حاتم وابن حبان ، وهذا أشد ، لكن روى عنه الترمذي ، وإن أنكر حديثًا من مروياته وأسند إليه الطبري في تاريخه نحوا من 269 مرة ومثل الطبري في علمه وتقواه وتحريه وبصره بالحديث وتوقيره له وتثبته فيه ، لا يعقل أن يسند مثل هذا العدد من الروايات المتصلة بتاريخ الإسلام وجانب منها متصل بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين إلى راو ممن يصح أن يقال فيه: متروك، أو يتهم بالزندقة أو الوضع. ويتراءى لنا أنه أصيب به الواقدي وابن الكلبي وغيرهما من الإخباريين ، فبالاستقراء نكاد نجزم أن نقدة الحديث كان رأيهم سيئا في الإخباريين غالبًا ، وقد تكون نزعة الجمع والحشد تهيمن على الإخباريين ، فتمنعهم من شدة التحري والتثبت فيما ينقلون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بيد أننا نشعر بالحرج الشديد من التهم التي يلصقونها بهم لمجرد أنهم إخباريون ، وإذا اتهمنا سيفًا بالوضع أو وصفنا حديثه بالترك ، فإن نتيجة ذلك ستجعلنا نشك في جانب كبير ، ولعله الأكبر من روايات الطبري في تاريخه ، وإذن فستضطرب معارفنا من تاريخ الإسلام في عهوده الأول ، وهي عهود التشريع وقد تنهار ، والذي يتراءى لنا أن سيفًا كانت له نزعة سياسية ، ولعله كان عباسي النزعة ، ولعله أسهم في الدعوة العباسية ، فكان خصوم نزعته يحاربونه - كما هو الشأن في الصراعات السياسية - غالبًا – بمختلف وسائل الحرب وأيسرها وأفعلها الاتهام في الدين والأمانة ، لذلك فنحن نستقبل كلامهم في سيف أمثاله من الإخباريين بكثير من التحفظ والتحرج.

قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال: حدثنا معتمر بن سليمان التيمي ، قال: حدثنا أبي ، قال: حدثنا أبو نضرة ، عن أبي سعيد مولى أبي أسيد الأنصاري قال: سمع عثمان ، أن وفد أهل مصر قد أقبلوا ، قال: فاستقبلهم ، وكان في قرية له خارجة عن المدينة - أو كما قال - فلما سمعوا به ، أقبلوا نحوه إلى المكان الذي هو فيه ، قال: وكره أن يقدموا عليه بالمدينة أو نحو من ذلك ، قال: فأتوه ، فقالوا له: ادع بالمصحف ، قال: فدعى بالمصحف ، فقالوا له: افتح التاسعة (1) قال: وكانوا يسمون سورة يونس التاسعة - قال: فقرأها حتى أتى على هذه الآية: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} قال: قالوا له: قف ، فقالوا له: أرأيت ما حميت من الحمى ، الله أذن لك أم على الله تفتري؟ قال: فقال: امضه ، نزلت في كذا وكذا ، قال: وأما الحمى فإن عمر حمى الحمى قبلي لإبل الصدقة ، فلما وليت زادت إبل الصدقة ، فزدت في الحمى لما زاد في إبل الصدقة، إلى آخر القصة.

وذكر ابن كثير (2) ما يشبه هذه القصة، لكن نسب القول إلى علي لا إلى عثمان، فكان مما جاء في سياق قوله: فانطلق علي بن أبي طالب إليهم – يعني إلى المتحزبين من الأنصار على عثمان - وهم بالجحفة ، وكانوا يعظمونه ويبالغون في أمره، فردهم وأنبهم وشتمهم ، فرجعوا على أنفسهم بالملامة ، وقالوا: هذا الذي تحاربون الأمر بسببه - ويظهر أن أصحاب هذه المقولة من المصريين إذ كان هوى المصريين مع علي أيام الفتنة على عثمان - وتحتجون عليه به، ويقال: إنه ناظرهم على عثمان ، وسألهم ماذا ينقمون عليه، فذكروا أشياء منها أنه حمى الحمى. إلى آخر ما نقل من مقولاتهم.

ثم قال: فأجاب علي عن ذلك، أما الحمى فإنما حماه لإبل الصدقة لتسمن ، ولم يحمه لإبله ولا لنفسه ، وقد حماه عمر من قبله. إلى آخر القصة.

(1) التاسعة هذه الرواية أدق عدد من روايتي البيهقي والحاكم الآنفتين ، فسورة يونس هي التاسعة إذا اعتبرنا سورة الأنفال والتوبة سورة واحدة ، كما كان البعض يعتبرونها في ذلك العهد ، وليست السابعة، على أي اعتبار ، لأنهم اعتمدوا في ترقيمها على ترتيب المصحف العثماني ، فقالوا له: افتح التاسعة ، ويظهر أن الوهم كان من أحد الرواة الذين اشترك في الإسناد إليهم الحاكم والبيهقي فليتأمل.

(2)

البداية والنهاية. ج: 7 ح: 171.

ص: 1063

وأشار ابن أعثم الكوفي (1) وهو مؤرخ الفتوح إلى هذه القصة ، ولكن بشكل مختلف ، ولعلها تعددت عندئذ لتعدد محاولات عثمان إقناع خصومه ، فقال: ثم دخل - أي عثمان - منزله وأغلق بابه وصعد إليهم وكلمهم من السطح قائلًا: أيها الناس ، ماذا تريدون مني؟ وأي عمل من أعمالي لا توافقون عليه حتى أبدله؟ وما هدفكم حتى أحققه لكم وأحصل على رضاكم؟ فأجابوا: لقد حجزت عنا ماء المطر ومنعت مواشينا من ورود ذلك الماء، فقال عثمان: لقد حجزت الماء من إبل الصدقة، والآن إذا كان هذا لا يرضيكم ، فهو لكم ، فافعلوا به ما تشاؤون ، فقالوا: لقد حجزت ذلك الماء أكثر مما حجزه عمر رضي الله عنه وقال: لقد كثرت إبل الصدقة في هذه الأيام ، فلذلك اشتدت الحاجة إلى الماء، ولهذا كنت قد حجزت الماء. إلى آخر القصة.

وانفراد مؤرخ الشيعة لتخصيص الماء بالحماية أو بأنه علة الحماية ، يحمل على التساؤل عن الحافز إلى هذا التخصيص ، إلا أن يكون أطلق الماء على الكلأ باعتباره سببًا لنياته. ثم لماذا اجتنب كلمة الحمى أو أية كلمة مشتقة منها؟ لعله ممن ينكر الحماية أصلًا ، وهو شذوذ.

وقال مالك (2) عن زيد بن أسلم عن أبيه ، أن عمر بن الخطاب استعمل مولى له يدعى هنيا على الحمى ، فقال: يا هني ، اضمم جناحك على الناس ، واتق دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مستجابة ، وأدخل رب الصريمة والغنيمة ، وإياي ونعم بن عفان وابن عوف ، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى المدينة إلى زرع ونخل، وإن رب الصريمة والغنيمة إن تهلك ماشيته فيأتي ببنيه ، ويقول: يا أمير المؤمنين، يا أمير المؤمنين ، أفتاركهم أنا لا أبا لك؟ فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق ، وايم الله أنهم ليرون أن قد ظلمتهم ، إنها لبلادهم ومياههم ، قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام ، والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حبست عليهم من بلادهم شبرًا.

وقال الشافعي (3) أخبرنا سفيان ابن عيينة ، عن الزهري ، عن عبد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن الصعب بن جثامة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا حمى إلا لله ولرسوله)) .

(1) الفتوح. المجلد: 1. ص: 450 وما بعدها.

(2)

الموطأ. ص: 849 ، الأثر:221.

(3)

تهذيب مسند الشافعي. ج: 2. ص: 131 و132. ح: 433، 434.

ص: 1064

أخبرنا عبد العزيز بن محمد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، أن عمر بن الخطاب استعمل مولى له ، يقال له: هني ، على الحمى ، فقال له: يا هني ، ضم جناحيك للناس ، واتق دعوة المظلوم ، فإن دعوة المظلوم مجابة ، وأدخل رب الصريمة، والغنيمة، وإياك ونعم بن عفان ونعم بن عوف، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع ، وإن رب الغنيمة والصريمة يأتي بعياله ، فيقول: يا أمير المؤمنين، يا أمير المؤمنين ، أفتاركهم أنا لا أبا لك؟ فالماء أهون علي من الدراهم والدنانير ، وايم الله لعلى ذلك أنهم ليروني أني ظلمتهم ، إنها لبلادهم ، قاتلوا عليها في الجاهلية ، وأسلموا عليها في الإسلام ، ولولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت على المسلمين من بلادهم شبرًا.

وقال أحمد (1) حدثنا قراد قراد بضم القاف ، عرف به عبد الرحمن بن غزوان الخزاعي ، ويقال: الضبي أبو نوح. قال ابن حجر (تهذيب التهذيب ج: 6. ص: 247. ترجمة: 495) : سكن بغداد ، وروى عن جرير بن حازم وشعبة وعكرمة بن عمار والليث بن سعد ومالك وآخرين ، وعنه ابناه محمد وغزوان وأبو معاوية ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل وخلق غيرهم ، ونقل عن عبد الله بن أحمد عن أبيه قوله: كان عاقلًا من الرجال. وعن ابن معين قوله: صالح ليس به بأس. وعن أبي حاتم: صالح. وعن المدينى بن نمير ويعقوب بن شيبة وابن سعد: ثقة. قال: وذكره ابن حبان في الثقات ، وقال - يعني ابن حبان -: كان يخطئ ، يتخالج في القلب منه لروايته ، عن الليث ، عن مالك ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قصة المماليك. وهذه القصة هي ما روي عن مالك ، عن عائشة ، أن رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم جلس بين يديه ، فقال: يا رسول الله، إن لي مملوكين يكذبوننى ويخونونني ويعصونني ، وأضربهم وأسبهم ، فكيف أنا منهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم. ونقل ابن حجر عن الدارقطني قوله: قال لنا أبو بكر - يعنى النيسابوري -: ليس هذا من حديث مالك ، وأخطأ فيه قراد. ثم ذكر له سند آخر. قال أحمد: هذا باطل مما وضع الناس ، وليس كل الناس يضبط هذه الأشياء، وقال أحمد عن عبد الرحمن هذا: لم يكن يعرف حديث الليث ، وإن كان له فضل وعلم ، على أن الدارقطني وثق قرادا في الجرح والتعديل ، كما يقول ابن حجر: وروى الرازي عن أبيه أنه صدوق ، وقد أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي. أنبأنا عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيله)) .

(1) المسند. ج:2. ص:91.

ص: 1065

حدثنا حماد بن خالد ، عن عبد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع للخيل قال حماد: فقلت له: (وفي لفظ: فقلت له: يا أبا عبد الرحمن) - يعني العمري - لخيله؟ قال: لا ، لخيل المسلمين.

حدثنا مصعب ، هو الزبيري ، قال: حدثني عبد العزيز بن محمد ، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش المخزومي ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن عبد الله بن عباس ، عن الصعب بن جثامة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع وقال:((لا حمى إلا لله ولرسوله)) .

ومن مجموع هذه الأحاديث والآثار يتجلى:

أ - أن الحمى لم يحدث في الإسلام إلا حوالي السنة الثامنة من الهجرة أو بعدها بقليل، ذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أول مسلم اقتنى فرسًا حتى قيل: إن الفرسين الوحيدين اللذين كانا مع المسلمين في غزوة أحد كانا ملكًا له، وقيل غير ذلك (1) وغيرهما من كتب السيرة ومدونات الحديث.

وواضح أن حماية النقيع ومساحته ميل في بريد ، وهو مكان كثيف الأشجار وافر المياه ، لا يتصور أن يحدث لمجرد اتخاذ مرعى خاص لخيل المسلمين، ولكن لأن الحاجة اشتدت إلى تخصيص ذلك المرعى بعد أن تكاثرت النعم والخيل في أيدي المسلمين ، فكان لزامًا أن تخص الحيوانات العمومية - إن صح هذا التعبير بمرعى لا تزاحم فيه ولا يضيق عليها ، ولا تكون عرضة فيها لأن تستهلك ما بها من ماء وكلأ دواب الخاصة من المسلمين، وهذا يعني أنه لم تكن قد تكاثرت الدواب التابعة للملك العام فحسب ، وإنما كانت قد تكاثرت أيضًا وبشكل مواز - اعتبارًا كما يقتضيه مدلول تكاثر الملك العام من الدواب والحاجة إلى تخصيص مرعى له - الدواب الخاضعة لملكية الأفراد ونتيجة لما أسفرت عنه الغزوات والسرايا من غنائم تزداد وفرتها مع تكاثرها، ونتيجة أيضًا لليسر الذي أصبح عليه المسلمون من الاستقرار الاقتصادي الأخذ في النماء والرسوخ للمدينة المنورة والمناطق الخاضعة لنفوذها ثم للحجاز كافة بعد فتح مكة مما أتاح للمسلمين الأموال اللازمة لاقتناء الخيل استجابة لضرورات الحرب ولترغيب رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقتناء الخيل ووصفه الخيل بأن في نواصيها الخير. في أحاديث مشهورة.

(1) انظر ابن سيد الناس عيون الأثر. ج: 2. ص: 5 وما بعدها وحماد بن إسحاق (تركة النبي) . ص: 90 وما بعدها.

ص: 1066

ب - فلما كان عهد عمر نشأت حاجة أخرى ليس للاحتفاظ بحمى النقيع فحسب، بل بحماية مناطق أخرى، ذلك بأن إبل الصدقة تكاثرت على حين اتسع نطاق الغزو ، وترامت ثغوره ، وتعددت مواقع الفتوحات ، وكثر المسلمون ، وكانت الرغبة لديهم في الجهاد شديدة ملحة، وكان على عمر أن يستجيب لمقتضيات كل هذه العوامل، وأول ما تقتضيه الاستجابة أن يجد أماكن خاصة لرعي ما يخضع للملك العام من الدواب ، وخاصة الإبل التي كانت تجلب من الصدقة ، ولم يكن من الحكمة توزيعها كلها ، ولا كان ذلك من المشروع أيضًا ، ففي المسلمين عامة كفاية لمعاشهم بما قدر لهم جميعًا من أعطيات ، وبما يقسم على الفقراء والمساكين وغير هؤلاء من المستحقين في الصدقات من أنصبتهم تبعًا لاستحقاقهم، ثم إن للصدقات مصارف أخرى ، من بينها ما هو {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) وكل ذلك اضطر عمر إلى أن يحمي مناطق تتوفر فيها الحاجات الضرورية لصيانة دواب المسلمين وإنمائها ، ومنها الربذة وما حولها.

ج - وقد يقال: إن النقيع لم يكن ملكًا لأحد ، وأن القبائل التي كانت ترتاده أو يعرف بها لم تكن علاقتها به إلا الانتجاع ، وهو قول لا يمكن التسليم به، بيد أننا لا نريد أن نناقشه في هذا المجال، لكن ماذا يمكن أن يقال في الربذة وما حولها؟ فهي بنص حديث عمر على اختلاف رواياته ملك لمن حاجوه في شأنها ، قاتلوا عليها في الجاهلية ، وأسلموا عليها في الإسلام ، وهذا يعني أنها كانت مستقرًا لهم ، لا يريمون عنه أو كانت خاصة بهم، يختلفون إليها لا تعتدي عليهم فيها قبيلة أخرى ، فإن اعتدت قاتلوها فأجلوها. وهذا ما لم ينكره عمر ، بل اعترف به ، حسب ما تنقل عليه جميع الروايات ، ولكنه علل تصرفه بأنه اضطراري لتلبية حاجة إبل الصدقة التي يحمل عليها في سبيل الله، فعمله يمكن أن نطلق عليه التجنيد المالي أو الاستنفار المالي، وأنه في - بعض الروايات - اعتبر أن حاجة ما هو من مال الله تعلو على اعتبار حقوق الأفراد فيما يملكون، فإبل الصدقة التي حمى من أجلها هي من مال الله، والأرض التي حماها أرض الله ، والعباد الذين حمى منهم والآخرون الذين حمى لهم عباد الله، وهذا يعني أنه كان يعتبر أن كل حق يزول إذا تعين حق الله ، وأن حق الله مقدم على حق العبد إذا كان حق الله متصلًا بالمصلحة العامة أو بما نسميه اليوم بالحق العام ، وحق العبد منحصرًا فيما هو من حقوق الأفراد أو الملكية الخاصة، وعلى هذا الاعتبار وطبقًا لهذه الروايات فإن عمر رضي الله عنه قد يكون في الإسلام أول من رسم معالم تشريع نزع الملكية الخاصة للمصلحة العامة، وسيتعزز هذا الاعتبار بما سنراه من تصرفه في بعض الأموال المنقولة تصرفًا يتسق معه كل الاتساق.

(1) الآية رقم: (60) من سورة التوبة.

ص: 1067

د - ولم ينقل أحد من الرواة مهما يكن موثقًا أو متروكًا أو بينهما مجرد ملاحظة استفهامية ، فضلًا عن أن يكون إنكارًا لتصرف عمر في حمية الربذة وما حولها من أي كان من الصحابة غير من حاجه من أهلها في شأنها إن كان فيهم من يعد من الصحابة، وحتى هؤلاء لم ينقل عنهم لجاج في الحِجَاج لما شرح لهم عمر مسوغات تصرفه. ولسنا ندري كيف يكون إجماع الصحابة إن لم يكن هذا من إجماعهم، أنه ليس سكوتيا فحسب ، وإنما هو إقرار، وآية ذلك أن عثمان اقتدى به حين وسع المناطق المحمية وحمى غيرها ، واحتج به على من ناوؤه واتخذوا حماية الأرض والماء لنعم بيت المال وخيله من مسوغات مناوأتهم له، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة أنه على حق فيما فعل. فإن زعم زاعم أن الصحابة لم يستطيعوا أن يجابهوا عمر بالإنكار وهو المعروف بقوته وصلابته ، فهل يستطيع أن يزعم أن من أدرك منهم فتنة الدار لم يستطيعوا أن يجبهوا عثمان ، وهو الضعيف بطبيعته، وكان عندئذ في حالة ضعف سياسي جلبت عليه الناقمين المتوعدين من مصر والعراق فضلًا عن الحجاز وبينهم بعض صغار الصحابة. وكان من شهود ذلك اليوم الذي حاج فيه عثمان مناوئيه ممن لم يحتشد عليه وإن كان مناوئًا له ، أمثال عمار بن ياسر وربما رافع بن خديج ، ومع ذلك لم ينبس أحد منهم بكلمة منكرًا عليه ما صنع وأخذه عليه الغوغاء من حماية بعض المناطق للملك العام. أفليس هذا إجماع إقرار ، وليس مجرد إجماع سكوت؟

مهما يكن فإنا نرى الأطوار الثلاثة لحماية الحمى أدلة تثبت من بين ما تثبت من قواعد التشريع قاعدة الظرفية وقاعدة تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة وقاعدة تكييف ملكية الأفراد للأرض باعتبارها ليست ملكية رقبة، وإنما هي ملكية منفعة ، وما دامت ملكية الرقبة ليست لهم، فإن ملكية المنفعة تزول تلقائيًا عندما تتعين الحاجة إلى تحقيق أمر يتصل بصاحب ملكية الرقبة ، وهو الله فيما يتعلق بالأرض ، وذلك ما سنعود إليه في مكانه من هذا البحث بمزيد من التفصيل.

ص: 1068

12 -

الإسلام والمال

وردت كلمة (مال) مفردة معرفة ومنكرة ومضافة وجمعًا مضافًا إلى مخاطب أو إلى غائب ثلاثًا وثمانين مرة ، أغلبها تثبت مسؤولية أو تقرر تبعة ، أو تذكر بواجب أو تندب إلى معروف ، أو تنعي تقصيرًا أو تفريطًا ، أو أشرًا وبطرًا ، أو تنهى عن تصرف منكر ، أو تصف موقفًا سياسيًا ، أو تصرفًا جشعًا، وفي جميع هذه المواضيع تضاف الأموال إلى البشر جماعة أو أفرادًا إضافة لفظية أو معنوية تقديرية إن صح هذا التعبير، ذلك بأن الجانب التوجيهي والتهذيبي من القرآن الكريم أكد على إبراز محاسن التصرفات البشرية فيما خولهم الله من مال والحث عليه وإبراز مساوئ تلك التصرفات والتنديد بها وبيان معقباتها الدنيوية والأخروية. فالتشريع القرآني ليس نصوصًا تكليفية مجردة ، وإنما هو توجيه تربوي وتكييف أخلاقي أساسًا. والتكليف فيه مجرد تبيان لدرجة ذلك التوجيه والتكييف من الإلزام وما إذا كان فيه مجال للتخيير وطبيعة ذلك المجال إن وجد من ندب وإباحة وكراهة وتحديد مناط هذا المجال صراحة أحيانًا وإيحاء أحيانًا أخرى. ومرد ذلك إلى أن التشريع الإلهي مقصده تربية الفرد والمجتمع المسلم تربية قوامها تحديد المسؤولية وتبيين التبعة وتوضيح العاقبة ورسم معالم السلوك.

وفي هذا الإطار التربوي نفسه وردت كلمة (مال) مضافة إلى الله سبحانه وتعالى في قوله: {وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ} (1)

وردت معرفة بـ: (أل) أربع مرات، أولاها في تحديد مصارف الحقوق على المتمول لأصناف من المحرومين وممن تتعين عليه وما بينهم أو تجب على المجامع كافة مساعدتهم. فقال جل جلاله في سياق تحديد معنى البر:{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} (2) الآية. والثانية في معرض ذكر موقف سياسي لبني إسرائيل ، ولكن يلاحظ فيه أن المال لم يأت ذكره باعتباره ملكًا لفرد أو جماعة ، وإنما جاء باعتباره - بصورة ضمنية - ملكًا لله، فقال جل جلاله:{قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} الآية (3) والثالثة جاءت في معرض وصف الحياة الدنيا وما تزدان به وتختلف عن الآخرة وما يؤدي إليها، قال جل جلاله:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية (4) والرابعة وردت في سياق تبيان بعض الأسباب لما ينزل على الإنسان من بلاء في الدنيا أو يناله من عقاب في الآخرة.

(1) الآية رقم (33) سورة النور.

(2)

الآية رقم (177) سورة البقرة.

(3)

الآية رقم: (247) من سورة البقرة.

(4)

الآية رقم: (46) من سورة الكهف.

ص: 1069

قال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} الآية (1)

ووردت ست مرات بصيغة الجمع المضاف ، وكلها تحدد طبيعة علاقة المال بالناس أو علاقة الناس بالمال من حيث إنها مجرد وظيفة اجتماعية تترتب معقبات وتبعات على ممارستها ، أولاها وثانيها قوله سبحانه وتعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الآية (2) ففي هذه الآية الكريمة أضيفت الأموال مرة إلى ضمير المخاطبين ، ومرة إلى الظاهر غير الموجه إليه الخطاب مباشرة ، وإن كان موجهًا إليه ضمنًا. الثالثة وردت كلمة (أموال) مضافة إلى ظاهر الغائب غير المخاطب مباشرة لكن في معرض التنديد بتصرفاتهم المخالفة لشريعة الله والتي استوجبوا بها العقاب ، وذلك في قوله سبحانه وتعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (3)

وكذلك الشأن في الرابعة حيث وردت مضافة إلى ظاهر الغائب المخاطب مباشرة ، وذلك في معرض التنديد بتصرفات الرهبان التي لا تختلف عن تصرفات اليهود الوارد التنديد بها في الآية السابقة. قال جل جلاله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (4)

وواضح أن من هذه الآيات أن القرآن الكريم يبين بما لا مجال فيه لافتعال أي تأويل أن علاقة الإنسان بالمال منقولًا كان أو ثابتًا، إنما هي وظيفة اجتماعية تترتب على حسن أدائها أو سوئه نتائج دنيوية وأخروية، وقبل أن نمضي في استجلاء ما يتصل من هذا التبيان القرآني بهذا البحث نقف عند ما أثر عن أئمة التفسير من سلف ومعاصرين في معنى هذه الآيات.

(1) الآية رقم: (20) من سورة الفجر.

(2)

الآية رقم: (188) من سورة البقرة.

(3)

الآية رقم: (160 و161) من سورة النساء.

(4)

الآيتان رقم: (34 و35) من سورة التوبة.

ص: 1070

ففي قوله تعالى: {وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} الآية (1)

يقول ابن جرير الطبري (2) حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم ، قالا: حدثنا هشيم ، قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن الشعبي ، سمعته سأل: هل على الرجل حق في ماله سوى الزكاة؟ قال: نعم، وتلا هذه الآية:{وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ} .

حدثنا أبو كريب ، قال: حدثنا سويد بن عمرو الكلبي ، قال: حدثنا حماد بن سلمة ، قال: أخبرنا أبو حمزة ، قال: قلت للشعبي: إذا زكى الرجل ماله أيطيب له ماله؟ فقرأ هذه الآية: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} إلى {وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} إلى آخرها.

ثم قال: حدثتني فاطمة بنت قيس أنها قالت: يا رسول الله ، إن لي سبعين مثقالًا من ذهب. فقال:((اجعليها في قرابتك)) .

حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يحيى بن آدم ، عن شريك قال: حدثنا أبو حمزة فيما أعلم ، عن عامر ، عن فاطمة بنت قيس ، أنها سمعته يقول:((إن في المال لحقًا سوى الزكاة)) .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال: حدثنا ابن علية ، عن أبي حيان ، قال: حدثني مزاحم بن زفر ، قال: كنت جالسًا عند عطاء ، فأتاه أعرابي ، فقال: إن لي إبلًا ، فهل علي فيها حق بعد الصدقة؟ قال: نعم. قال: ماذا؟ قال: عارية الذلول وطروق الفحل والحلب.

ثم قال: وذكر أيضًا عن السدي أن هذا شيء واجب في المال، حق على صاحب المال أن يفعله سوى الذي عليه من الزكاة.

(1) الآية رقم: (177) سورة البقرة.

(2)

جامع البيان. ج: 2. ص: 56 و57.

ص: 1071

حدثنا الربيع بن سليمان ، قال: حدثنا أسد ، قال: حدثنا سويد بن عبد الله ، عن أبي حمزة ، عن عامر ، عن فاطمة بنت قيس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((في المال حق سوى الزكاة ، وتلا هذه الآية {لَيْسَ الْبِرَّ} إلى آخر الآية)) .

وقال السيوطي (1) وأخرج الترمذي (2) وابن ماجه (3) وابن جرير (4) وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي (5) والدارقطني (6) وابن مردويه عن فاطمة بنت قيس ، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((في المال حق سوى الزكاة)) ، ثم قرأ:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} الآية.

(1) الدر المنثور. ص: 171 و172.

(2)

رواه التزمذي (ج: 3. ص: 48. ح: 659 و660) من طريقين ، فقال: حدثنا محمد بن أحمد بن مدويه. حدثنا الأسود بن عامر ، عن شريك ، عن أبي حمزة ، عن الشعبي ، عن فاطمة بنت قيس قالت: سألت أو سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الزكاة ، فقال: إن في المال لحقا سوى الزكاة ، ثم تلا هذه الآية التي في البقرة {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} الآية.

(3)

الذي في ابن ماجه (السنن. ج: ا. ص: 570. ح: 1789) : حدثنا علي بن محمد. حدثنا يحيى بن آدم ، عن شريك ، عن أبي حمزة ، عن الشعبي ، عن فاطمة بنت قيس ، أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ليس في المال حق سوى الزكاة. ووهم محققه محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله في تحقيقه للجزء الثالث من الجامع الصحيح للترمذي حين علق على الحديث ورقم: (659) انظر التعليق رقم: (489)، إذ قال: أخرجه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب: ما أدى زكاته فليس بكنز ، ورقم الحديث: بـ 1799 وهو خطأ، فالحديث المرقوم بهذا الرقم يتصل بصدقة الإبل ، وحديث فاطمة بنت قيس في ابن ماجه يختلف عن حديثها في الترمذي وغيره. فتأمل.

(4)

جامع البيان. ص: 57.

(5)

لم يخرج ابن عدي في الكامل حديث فاطمة بنت قيس من طريق أبي حمزة على أنه تكلم في أبي حمزة ونقل كلام الآخرين وأسند إليه بعض الأحاديث ، ثم قال: (ولميمون الأعور غير ما ذكرت ، وأحاديثه التي يرويها خاصة عن إبراهيم مما لا يتابع عليها، وقلت: وهذا يعني أن غير أحاديثه عن إبراهيم قد يتابع عليها ولست أدري من أين كان للسيوطي أن ينسب إلى ابن عدي رواية حديث فاطمة بنت قيس عن طريق أبي حمزة إلا أن يكون وجده في كتاب غير الكامل

(6)

لم نقف عليه في مظانه ، ولعل هذا من أوهام السيوطي.

ص: 1072

وأخرج البخاري في تاريخه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: ((في المال حق بعد الزكاة؟ قال: نعم يحمل على النجيبة)) .

وأخرج عبد بن حميد ، عن الشعبي ، أنه سئل: هل على الرجل في ماله حق سوى الزكاة؟ قال: نعم، وتلا هذه الآية:{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} إلى آخر الآية.

وأخرج عبد بن حميد ، عن ربيعة بن كلثوم ، قال: حدثني أبي ، قال لمسلم بن يسار: إن الصلاة صلاتان ، وإن الزكاة زكاتان ، والله إنه لفي كتاب الله ، أقرأ عليك به قرآنًا. قلت له: اقرأ ، قال: فإن الله يقول في كتابه: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} إلى قوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} ، فهذا وما دونه تطوع كله ، وأقام الصلاة على الفريضة ، وآتى الزكاة ، فهاتان فريضتان.

ونقل ابن كثير (1)، عن ابن أبي حاتم أنه قال: حدثنا أبي. حدثنا يحيى بن عبد الحميد. حدثنا شريك ، عن أبي حمزة ، عن الشعبي. حدثتني فاطمة بنت قيس ((أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفللمال حق سوى الزكاة؟ فقالت: وتلا: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} )) . قال ابن كثير: ورواه ابن مردويه من حديث آدم بن إلياس ويحيى بن عبد الحميد ، كلاهما عن شريك ، عن أبي حمزة ، عن الشعبي ، عن فاطمة بنت قيس قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((في المال حق سوى الزكاة، ثم قرأ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} إلى قوله: {وَفِي الرِّقَابِ} )) .

وأخرجه ابن ماجه والترمذي وضعف أبا حمزة ميمون الأعور (2) وقد رواه السيار وإسماعيل بن سالم عن الشعبي.

(1) تفسير القرآن العظيم. ج: 1. ص: 208.

(2)

ميمون الأعور تأتي ترجمته في الأصل. انظر ص 1402.

ص: 1073

وقال ابن العربي (1) عند استنباطه الأحكام من الآية الكريمة {وَآتَى الْمَالَ} : وقد كان الشعبي فيما يؤثر عنه يقول: في المال حق سوى الزكاة، ويحتج بحديث يروى عن فاطمة بنت قيس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((في المال حق سوى الزكاة)) ، وهذا ضعيف لا يثبت عن الشعبي ، ولا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في المال حق سوى الزكاة، وإذا وقع أداء الزكاة ونزلت بعد ذلك حاجة ، فإنه يجب صرف المال إليه باتفاق العلماء، وقد قال مالك: يجب على كافة المسلمين فداء أسراهم ، وإن استغرق ذلك أموالهم ، وكذا إذا منع الوالي الزكاة ، فهل يجب على الأغنياء إغناء الفقراء؟ مسألة فيها نظر ، أصحها عندي وجوب ذلك عليهم.

قلت: وهذا من عجائب ابن العربي ، فهو من ناحية يزعم أنه ليس في المال حق سوى الزكاة، ويحكم بضعف ما أثر عن الشعبي ، ويضعف حديث فاطمة بنت قيس الذي يحتج به الشعبي، ويزعم أن هذا لا يثبت عن الشعبي ، ولا عن النبي صلى الله عليه وسلم وسنناقش أسانيد أثر الشعبي وحديث فاطمة بعد حين ، وهو من ناحية أخرى يقرر أنه إذا عرضت حاجة بعد أداء الزكاة يجب صرف المال إليها باتفاق من العلماء، ويصحح - عنده - أنه يجب على الأغنياء إغناء الفقراء.

وكان من قبل في استنباطه الأحكام من قوله سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (2) قد أورد بين الأقوال المأثورة في تفسيرها أنه وفاء الحقوق الواجبة العارضة في المال باختلاف الأحوال ما عدا الزكاة (3) اللهم إن لم يكن هذا تناقضًا ، فوفقني إلى فهم التناقض.

وقد أشار ابن العربي أيضًا إلى موقفه من هذا الحديث في العارضة ، إذ رواه الترمذي (4) فقال: مشيرًا إلى تضعيف الترمذي لرواية أبي حمزة.

(1) أحكام القرآن. ج: 1. ص: 59.

(2)

الآية رقم: (3) .

(3)

أحكام القرآن. ج: 1. ص: 1.

(4)

عارضة الآحوذي. ج: 3. ص: 162 و163.

ص: 1074

وإذا كان الحديث ضعيفًا ، فلا يشتغل به وتفسير الآية في الأحكام - يعني كتابه أحكام القرآن الذي نقلنا منه آنفًا - فلتنظر هنالك فيها وفي غيره - لعل الصواب: فيه وفي غيره - وقد تكرر وتقرر ووقع الشفاء منه بأبدع بيان.

ولكي يتبين تعنت ابن العربي في موقفه هذا ، ولا نجد كلمة ألطف من كلمة التعنت في وصفه، ننقل كل ما أخرجه الترمذي في هذا الشأن.

قال (1) باب ما جاء أن في المال حقا سوى الزكاة.

حدثنا محمد بن أحمد بن مدويه. حدثنا الأسود بن عامر ، عن شريك ، عن أبي حمزة ، عن الشعبي ، عن فاطمة بنت قيس قالت: سألت أو سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الزكاة ، فقال:((إن في المال لحقًا سوى الزكاة)) ، ثم تلا هذه الآية التي في سورة البقرة:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} الآية.

حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن. أخبرنا محمد بن الطفيل ، عن شريك ، عن أبي حمزة ، عن عامر الشعبي ، عن فاطمة بنت قيس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إن في المال لحقًا سوى الزكاة)) .

قال أبو عيسى: هذا حديث إسناده ليس بذاك ، وأبو حمزة وميمون الأعور يضعف، وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث ، قوله (2) وهو أصح.

قلت: ومن عجائب ابن العربي أنه لم يعرض لروايتي إسماعيل بن سالم وبيان اللتين أشار إليهما الترمذي ولم يوردهما وصححهما ، وكان عليه أن يعرض لهما وإن لم يخرجهما الترمذي ، إما لتفنيدهما وبيان العلة فيهما ، وإما لاعتمادهما والتخلي عن رأيه الذي حاول بعدم التعرض لهما الاستمرار في التعنت في الدفاع عنه وتأكيده ، ونحسب أنه لم يستطع أن يجد مغمزًا في إسماعيل بن سالم الأسدي الذي روى عنه البخاري في الأدب المفرد ، ومسلم وأبو داود والنسائي، وقال عنه

ابن سعد: ثقة ثبت، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه فراس قال ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج:8. ص: 259. ترجمة: 482) : فراس بن يحيى الهمذاني الخارفي أبو يحيى الكوفي ، روى عن الشعبي وعطية العوفي وأبي صالح السمان وفديك ابن عمارة ، روى عنه منصور بن المعتمر ، وهو من أقرانه ، وزكرياء بن أبي زائدة وشعبة وشيبان وسفيان الثوري والحسن بن عمارة وأبو عوانة وشريك وغيرهم وثقه أحمد وابن معين والنسائي. وقال أبو حاتم: شيخ ما ، بحديثه بأس. وقال ابن المدني عن يحيى بن سعيد: ما بلغني عنه شيء وما أنكرت من حديثه إلا حديث الاستبراء ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وقال: مات سنة تسع وعشرين ومائة ، وكان متقنا.

قلت - القائل ابن حجر -: وقال العجلي: كوفي ثقة من أصحاب الشعبي في عداد الشيوخ ، ليس بكثير الحديث. وقال ابن شاهين في الثقات: قال ابن عمار: ثقة. وقال عثمان - يعني ابن أبي شيبة -: صدوق. قيل له: ثبت؟ قال: لا.

(1) عارضة الآحوذي. ج: 3. ص: 162 و163.

(2)

يظهر أن كلمة (قوله) منصوبة على البدلية من (هذا البحث) ومع ذلك فلا نفهم له معنى مفيدًا، فليتأمل.

ص: 1075

أقدم موتًا من إسماعيل، وإسماعيل أوثق منه ، وفراس فيه شيء من ضعف ، وإسماعيل أحسن منه استقامة ، وأقدم سماعًا، سمع عن سعيد بن جبير ، وكذا قال مسلم عن أحمد ، وقال عبد الله ، عن أبيه أيضًا: ثقة ثقة، وقال المروزي عن أحمد: ليس به بأس ، وهو أكبر من مطرف (1) ثم إنه قال: قد كانت عنده أحاديث الشيعة ، وقد نظر له شعبة في كتبه. وقال أبو داود: سألت أحمد عنه ، فقال: بخ، قال: وسمعته يقول: صالح الحديث.

قلت - القائل ابن حجر (2) -: قد حكي عن ابن عوانة عن إسماعيل بن سالم أنه سمع زيدًا لا نعرف شيئًا عن هذه القصة ، ونظن أن زيدًا هذا هو زيد بن أسلم؛ لأن عدم ذكر نسبه أو كنيته يدل على شهرته عندهم ، وما نعلم في ذلك العهد من اسمه زيد يضاهي في شهرته شهرة زيد بن أسلم. رمز ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج:3. ص: 395. ترجمة: 728) له بأنه روى عنه الجماعة. قلت: أو مالك أو غيره. قال ابن حجر: زيد بن أسلم العدوي أبو أسامة ، ويقال: أبو عبد الله المدني الفقيه مولى عمر

(1) الظاهر أن مطرف هذا هو ابن طريف الحارثي ويقال: الجارفي ، كما ذكر ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج:10. ص: 172 ترجمة: 323) أبو بكر ، ويقال: أبو عبد الرحمن الكوفي ، روى عن الشعبي والسبيعي وابن أبي ليلى وعدة غيرهم ، وعنه أبو عوانة وهشيم وأبو جعفر الرازي والسفيانان ومحمد بن فضيل وشعبة وآخرون. وثقه أحمد وأبو حاتم وأبو داود وسفيان بن عيينة وابن علية وابن حبان توفي سنة ثلاث وثلاثين أو إحدى أو اثنتين أو ثلاث وأربعين ومائة.

(2)

تهذيب التهذيب. ج: 1. ص: 301 و302.

ص: 1076

روى عن أبيه وابن عمر وأبى هريرة وعائشة وجابر وآخرين من الصحابة وكبار التابعين ، وعنه أولاده الثلاثة ، وعبد الله وعبد الرحمن ومالك وابن عجلان وابن جريج وكثير غيرهم من الصدور. قال مالك عن ابن عجلان: ما هبت أحدًا قط هيبة زيد بن أسلم ، وقال العطاف عن خالد: حدث زيد بن أسلم بحديث ، فقال له رجل: يا أبا أسامة عمن هذا؟ فقال: يابن أخي ما كنا نجالس السفهاء. قلت: هذا جواب صاعق دامغ لمن يتعلقون بحكاية التدليس والإرسال إذا كان السند من أمثال زيد. وقد أخذ عليه بعضهم أنه يفسر برأيه القرآن ويكثر منه ، وهو مأخذ من الأفضل أن يعود على أصحابه، فلو وقفنا في تفسير القرآن على المأثور وحده لتعطل الجانب الأكبر من فهم الإسلام وإدراك الشريعة. توفي قبل خروج محمد بن عبد الله بن الحسن، وهكذا قال ابن حجر. يقول: فذكر قصة من معاوية فقال أحمد: ومن سمع هذا من أبي عوانة. وقال ابن أبي خيثمة ، عن ابن معين: ثقة أوثق من أساطين مسجد الجامع سمع من هشيم. وقال ابن أبي مريم وغيره: ثقة، زاد ابن أبي مريم: حجة. وقال الدوري عنه: سمع إسماعيل بن أبي صالح ذكوان وقد سمع من أبي صالح باذام، وقال أبو زرعة وأبو حاتم وابن خراش والدارقطني: ثقة، وقال أبو حاتم أيضًا: مستقيم الحديث، وقال ابن عدي: له أحاديث يحدث عنه قوم ثقات ، وأرجو أنه لا بأس به.

ثم قال ابن حجر: وقرأت بخط الذهبي في الميزان: لم أسق ذكره إلا تبعًا لابن عدي ، ولم يقل فيه إلا: أرجو أنه لا بأس به.

ثم قال ابن حجر: ولعله أراد أن ينقل ما تقدم أنه قيل لأحمد عنه مما يشير به إلى التشيع، لكنه لم يفصح به. وقال يعقوب الفسوي: لا بأس به ، كوفي ثقة. وقال أبو علي الحافظ: ثقة عسر في الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات (1)

(1) انظر ترجمته في (التهذيب. ج: 3. ص: 98. ترجمة: 447. والتاريخ الكببر للبخارى. ج: 1. ص: 356. ترجمة: 1125. وتاريخ بغداد للخطيب ج: 6. ص: 212 وما بعدها. ترجمة: 3271. والمعرفة والتاريخ الفسوي. ج: 3. ص: 96. والجرح والتعديل للرازي: (ج: 2. ص: 172. ترجمة: 580) . وتاريخ العلماء الثقات لابن شاهين، ص:54. ترجمة: 20. والثقات لابن حبان: ج: 6. ص: 29. والتاريخ لابن معين. ج: 2 ص:25.

ص: 1077

جميع هؤلاء وثقوه لذلك كان عجبًا أن يذكره ابن عدي في الكامل (1) ويقول - بعد أن يروي حديثًا بسنده إليه -: ولإسماعيل بن سالم أحاديث يحدث عنه قوم ثقات وأرجو أنه لا بأس به.

وينقل عنه الذهبي هذا الموقف في الميزان (2) وكأنه شعر بالحرج من ذلك، فهو يقول: وثقه جماعة ولم أسق ذكره إلا تبعًا لابن عدي)

إلخ. ومعلوم أن كلا من الذهبي في الميزان وابن عدي في الكامل إنما يترجمان للضعفاء، لكن الذهبي يعود فيذكره في الكاشف (3) ويرمز إلى أن كلا من مسلم وأبي داود والنسائي رووا عنه ويقول عنه: ثقة. والكاشف هو كتابه الخاص بالثقات وقد ترجم له غيرهؤلاء من نقدة الرجال ولا نعرف من أراب فيه غير ابن عدي والذهبي في الميزان تبعًا له ويظهر أن كليهما - أو بالأحرى ابن عدي خاصة - اعتمدا على تلميح أحمد إلى تشيعه لمجرد أنه روى عن زيد، وهب أنه ذو نزعة شيعية ، ولم يكن من الدعاة إلى نزعته ، فلماذا يُراب؟! غفر الله لأحمد ومن تبعه في التشكيك في هذا المحدث الذي لم يكن مكثرًا ، بل هو مقل، فقد اختلفوا في تعداد أحاديثه ، منهم من قال: عشرة ، ومنهم من أبلغها إلى عشرين.

وقد نقلنا آنفًا من تفسير الطبري حديث إسماعيل بن سالم هذا ، وقد رواه من طريق كل من أبي كريب ويعقوب بن إبراهيم، وأبو كريب روى عنه الجماعة وما من أحد يمكن أن يغمز فيه ، وقد ترجم له ابن سعد والبخاري والرازي والذهبي وابن حجر (4) وغيرهم من أرباب التراجم ونقدة الرجال الموثقين.

ويعقوب بن إبراهيم الذي أسند إليه الطبري هذا الحديث أيضًا هو الدورقي ، روى عنه الجماعة (5)

(1) ج: 1. ص: 282.

(2)

ج: 1. ص: 228. ترجمة: 887.

(3)

ج: 1. ص: 73. ترجمة: 380.

(4)

الطبقات. ج: 6. ص: 289. والتاريخ الكبير. ج: 1. ص: 205. والجرح والتعديل. ج: 8. ص: 52. وتذكرة الحفاظ ج: 2. ص: 497 و498. سير أعلام النبلاء. ج: 11. ص: 394 وما بعدها. وتهذيب التهذيب. ج: 9. ص: 385 و386.

(5)

انظر ابن سعد في الطبقات. ج: 7. ص: 360 والرازي الجرح والتعديل. ج: 9. ص: 202 والخطيب تاريخ بغداد. ج: 14. ص: 277 و280 والذهبي سير أعلام النبلاء. ج: 12. ص: 141 وابن حجر تهذيب التهذيب. ج: 11. ص: 381 وغيرهم من نقدة الرجال المعتمدين.

ص: 1078

وهشيم الذي روى عنه البخاري ما نظن أحدًا يستطيع أن يغمز فيه ولا في الروايتين عنه، ترجم له البخاري والطبري والرازي والخطيب والذهبي وابن حجر وغيرهم من أئمة الجرح والتعديل (1) وقد روي حديث إسماعيل بن سالم هذا عن هشيم أبو عبيد القاسم بن سلام (2) قال بعد أن أورد حديث حماد بن سلمة عن أبي حمزة الذي سنعود إليه بعد قليل: حدثنا هشيم ، قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن الشعبي بمثل ذلك. ورواه ابن عبد البر (3) بعد أن ذكر حديث بيان ، فقال نقلًا عن إسماعيل القاضي: وحدثنا أبو بكر وعلي ، قالا: حدثنا ابن فضيل ، عن بيان ، عن عامر قال: في المال حق سوى الزكاة. وزاد فيه إسماعيل بن سالم ، عن الشعبي قال: تصل القرابة وتعطي المساكين.

وروى ابن زنجويه (4) هذا الحديث بإسناد آخر ، فقال: حدثنا محمد بن يوسف - يعني الفريابي أحد شيوخ البخاري - أخبرنا يونس بن أبي إسحاق - يعني السبيعي ، روى عنه مسلم والأربعة - قال: سمعت عامرًا الشعبي وأبا إسحاق يقولان: على صاحب المال حق في الزكاة.

وبيان هو ابن بشر البجلي ، روى عنه الجماعة ، وهو غير مكثر ، ولم يغمز فيه أحد (5)

(1) التاريخ الكبير. ج: 8. ص: 242 وتاريخ الأمم والملوك ج: ا. ص: 186 و187 وج: 3. ص: 216 والجرح والتعديل. ج: 9. ص: 115 وتاريخ بغداد ج: 14. ص: 85 وتذكرة الحفاظ. ج: ا. ص: 148 و149 وسير أعلام النبلاء ج: 8. ص: 287 وما بعدها وتهذيب التهذيب. ج: 11. ص: 59 وما بعدها.

(2)

الأموال. ص: 499. ح: 929.

(3)

التمهيد. ج: 4. ص: 212.

(4)

الأموال ج: 2. ص: 792. ح: 1370.

(5)

انظر في ترجمته مثلًا: ابن حجر تهذبب التهذيب. ج: 1. ص: 506. ترجمة: 941.

ص: 1079

أما حديث أبي حمزة الذي نناقشه ومن أجله عرضنا إلى حديث إسماعيل بن سالم الأسدي وبيان البجلي - فقد رواه غير الترمذي وابن كثير - أبو عبيد عن طريق حماد بن سلمة (1)، فقال: حدثنا حجاج ، عن حماد بن سلمة ، عن أبي حمزة قال: قلت للشعبي: إذا أديت زكاة مالي ، أيطيب لي مال؟ قال: فقرأ علي هذه الآية: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} .

ورواه ابن زنجويه (2) بنفس السند واللفظ.

ورواه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف (3) فقال: حدثنا ابن فضيل ، عن بيان بن عامر قال: في المال حق سوى الزكاة.

قد يقول ابن العربي أو من يظاهره: إن ما روي عن بيان وإسماعيل بن سالم ليس حديثًا مرفوعًا ولا موقوفًا ولا مرسلًا ، وإنما هو أثر لعامر الشعبي ، أو رأي لتابعي مهما يبلغ وقارًا وجلالة ، فهو ليس أكبر من تابعي، ورأي التابعي وتأويله ليس مما يلزم ، إنما هو اجتهاد رجل كغيره من الرجال، ألم يختلفوا في رأي الصحابي وتأويله ، فما ظنك بالتابعي؟ وهذا اعتراض وجيه ، لولا أنه مدفوع بما رواه أبو حمزة عن الشعبي مرفوعًا، فشهادة بيان وإسماعيل بن سالم أو خبرهما على الأقل دليل على أن حديث أبي حمزة لا مغمز فيه، قد يكون لهم رأي في أبي حمزة ، ولكنا لا نعرف لهم رأيًا يعتد به في عامر الشعبي، ثم إن أبا حمزة لم يغمزوا فيه بشيء ذي بال ، ولم يصفوه بقاسمة، فهو ليس من ذوي الأهواء الدعاة ، ولا هو ممن عرف بالكذب والوضع، وأغلبهم تكلموا فيه ، لم يزيدوا على أن ضعفوه إلا ما كان من ابن حبان في كتاب المجروحين (4)، إذ قال: ميمون التمار أبو حمزة القصاب الأعور من أهل الكوفة يروي عن إبراهيم النخعي والحسن ، وروى عنه منصور بن المعتمر والثوري وحماد بن سلمة ، كان فاحش الخطأ ، كثير الوهم ، يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الإثبات، تركه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ، سمعت الحنبلي يقول: سمعت أحمد بن زهير يقول: سألته عن أبي حمزة الذي روى عن إبراهيم ، فقال: كوفي لا يكتب حديثه.

لكن البخاري اقتصر في (التاريخ الكبير)(5) وفي (الضعفاء الصغير)(6) على القول: ميمون أبو حمزة القصاب الأعور التمار الكوفي، عن إبراهيم والحسن ، روى عنه الثوري ، ليس بذاك.

واقتصر النسائي في كتاب الضعفاء والمتروكين (7) على القول: (ليس بثقة) . وذكره ابن عدي في (الكامل)(8) ، فأسند عن عبد الله ، عن أحمد القول: أبو حمزة صاحب إبراهيم متروك الحديث.

كما أسند إلى يحيى بن معين قوله: (أبو حمزة القصاب الأعور ميمون صاحب إبراهيم وأبو حمزة ثابت، وحين سأله عباس عن الذين قال عنهم هذا القول: أيهما أحب إليك؟ قال: لا ذا ، ولا ذاك.

وأسند إلى البخاري قولًا يختلف شيئًا عما ورد في التاريخ الكبير، والضعفاء الصغير، فنقل عن الجنيدي أن البخاري قال: ميمون أبو حمزة القصاب الأعور -ويقال: التمار الكوفي - عن إبراهيم والحسن ، روى عن الثوري ، ليس بالقوي عندهم.

قلت: هكذا ورد في النسخة المطبوعة التي بين أيدينا والصواب: روى عنه الثوري كما تقدم، ونلاحظ أن البخاري في هذه الرواية عبر بكلمة (ليس بالقوي عندهم) ، وهي عبارة تؤذن بأنه لم يرد أن يتحمل تبعة تضعيفه.

ثم أسند ابن عدي إلى حمزة أحاديث كعادته في تراجمه ، ثم قال: ولميمون الأعور غير ما ذكرت ، وأحاديثه التي يرويها بخاصة عن إبراهيم مما لا يتابع عليها، ونلاحظ أن ابن عدي حصر الاشتباه في مرويات أبي حمزة فيما يرويه عن النخعي.

(1) الأموال. ص: 594. ح: 928.

(2)

الأموال. ج: 2. ص: 790. ح: 1368.

(3)

ج: 3. ص: 191.

(4)

ج:3. ص: 5.

(5)

ج: 7. ص: 243. ترجمة: 1477.

(6)

ص: 244. ترجمة: 352.

(7)

ص: 231. ترجمة: 609.

(8)

ج: 6. ص: 2407.

ص: 1080

وذكره الدارقطني في الضعفاء والمتروكين (1) واقتصر على القول: كوفي عن النخعي والحسن ، ولم يزد على ذلك شيئا. وقال العقيلي في كتاب الضعفاء الكبير (2) حدثنا محمد بن زكريا ، قال: حدثنا محمد بن المثنى ، قال: ما سمعت يحيى ولا عبد الرحمن - يعني ابن مهدي - حدثا عن سفيان ، عن أبي حمزة الأعور شيئًا قط.

قلت: هذا يعني أن غيرهما من المحدثين عن سفيان لم يكونوا يمسكون عن التحديث بما يسنده إلى أبي حمزة.

ثم قال العقيلي: حدثنا عبد الله بن أحمد ، قال: سمعت أبي يقول: أبو حمزة ميمون صاحب إبراهيم متروك الحديث. وقال في موضع آخر: أبو حمزة ميمون الأعور روى عن إبراهيم ، وهو ضعيف الحديث.

قلت: كان أحمد رحمه الله وهو الذي ينكر القول بالرأي - يستند بتضعيف أبي حمزة بتركه على أنه يروي عن إبراهيم، وإبراهيم بحق هو واضع المعالم الأولى لمنهج الرأي الذي اتسم به الفقه الحنفي، لكنا لو مضينا مع أحمد في نهجه في تجريح الرجال لاشتبهنا في عدد من الثقات ممن أمسك أحمد عن الرواية عنهم، أو أراب في الرواية عنهم ، لأنهم ضعفوا في محنة خلق القرآن ، ولم يضعف أحمد، بيد أننا نسأل أحمد نفسه كم في المسلمين مثل أحمد؟ ولو مضينا معه في هذا النهج لأسقطنا أغلب الرواة والمحدثين ، وحجبنا عنهم التوثيق على أن أحمد مع ذلك روى عن عدد ممن تكلم فيهم غيره، وفي مسنده الكثير مما فيه مقال ، وإن حاول ابن حجر رفع الشبه عمن تكلموا فيهم ممن أسند إليهم.

ثم قال العقيلي: حدثنا محمد بن عفان ، قال: سمعت يحيى وسئل عن أبي حمزة صاحب إبراهيم ، فقال: كان اسمه ميمونا وليس بشيء.

حدثنا محمد بن عيسى ، قال: حدثنا عباس ، قال: سمعت يحيى يقول: أبو حمزة صاحب إبراهيم اسمه ميمون، وأبو حمزة التمالي ثابت، قلت: أيهما أحب إليك؟ قال: لا ذا ، ولا ذا.

ثم أورد كلام البخاري في تاريخه ، ولكن مسندًا سماعًا.

ثم أسند إليه حديثًا، ثم قال: حدثنا هارون بن علي ، قال: حدثنا علي بن مسلم الطوسي ، قال: حدثنا أبو داود ، عن أبي عوانة ، قال: قلت للمغيرة - يعني ابن مقسم ويروي عنه الجماعة -: تروي عن أبي حمزة؟ قال: لم يكن يجترئ علي أن

يحدثني إلا بحق.

(1) ص: 164. ترجمة: 129.

(2)

ج: 4. ص: 187. ترجمة: 1764.

ص: 1081

قلت: وهذا الذي روي عن المغيرة بن مقسم يشير إلى التشكيك في أن علة تضعيف أبي حمزة هي الوهم والخطأ، ويومئ إلى أنها الاتهام بالقول بالرأي وتدعيمه ، فهو من تلامذة إبراهيم.

وقال الرازي في الجرح والتعديل (1) : ميمون أبو حمزة القصاب الكوفي وهو الراعي الأعور ، روى عن إبراهيم النخعي والشعبي ، وروى عنه مسعر والثوري والحسن بن صالح وزهير بن معاوية وشريك وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وعبد الوارث ونصير بن أبي الأشعث القرادي وحسان بن إبراهيم وحاتم بن وردان.

ثم أسند ما ذكره محمد بن المثنى عن يحيى.

وروي عن عبد الله بن أحمد مكاتبة قول أحمد: ميمون صاحب إبراهيم ضعيف الحديث.

قلت: تأمل جيدًا جملة: صاحب إبراهيم.

ثم أسند إلى يحيى قوله في أبي حمزة: كوفي ليس بشيء ، وهو الذي حدث عن إبراهيم وسعيد بن المسيب ، لا يكتب حديثه.

ثم قال: سألت أبي عن ميمون أبي حمزة القصاب ، فقال: ليس بقوي يكتب حديثه.

قلت: هذا يعني أن أبا حاتم لا يبالغ في تضعيفه ، وأحسبه أدرك حوافز تضعيفه عند من سبقوه من النقدة ، فتحرج من مسايرتهم.

ونقل الذهبي في المغني (2) قول أبي حاتم هذا ، واستهل به ، ثم أتبعه بقول أحمد: متروك الحديث.

وروي في الميزان (3) كلام أحمد ثم كلام الدارقطني ثم كلام أبي حاتم ثم كلام البخاري ثم كلام النسائي، ثم أسند إليه أحاديث على عادته فيمن ترجم لهم.

(1) ج: 8. ص: 235. ترجمة: 1061.

(2)

ج: 2. ص: 690. ترجمة: 6562.

(3)

ج: 4. ص: 234. ترجمة: 8969.

ص: 1082

وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب (1) - بعد أن ذكر ما قاله النقدة الأولون ونقلناه سابقًا -:

قال الترمذي: قد تكلم فيه قبل حفظه. وقال في موضع آخر: ضعفه بعض أهل العلم.

قلت: تأمل جيدا قوله: ضعفه بعض أهل العلم.

ثم نقل عن الحاكم أبي أحمد قوله: حديثه ليس بالقائم ، وعن الخطيب قوله: لا تقوم به حجة.

قلت: هذا غير مستغرب من الخطيب رحمه الله فموقفه من أهل الرأي معروف.

ثم قال: وقال يعقوب بن سفيان: ليس بمتروك الحديث ، ولا هو حجة ، وقال الساجي: ليس بذاك.

هذه جملة صالحة ، وأعتقد أنها شاملة لما قالوه عن أبي حمزة ، وليس في أشدها ما يمكن أن يعتبر إيماء بتكذيبه. وأوضحها يفهم منه انقباضهم عنه لعلاقته بإبراهيم وانقباض بعضهم لما وصفوه به من الوهم والخطأ. لكن ما رواه بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي وإن لم يرق عن مستوى الأثر لتابعي جليل ، يدل اتفاقه في الحكم واللفظ مع حديث أبي حمزة عن طريق الشعبي عن فاطمة بنت قيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنهما من نبع واحد، وقد لا تنطبق عليه شروط المتابعة كما أرادها المحدثون ، لكن تصحيح الترمذي له واستظهار ابن عبد البر به مساندة أو استشهادًا لحديث أبي حمزة المرفوع ، يوحي بأن الإمامين الجليلين يعتبران ما رواه إسماعيل بن سالم وبيان بن بشر البجلي يرقى إلى مستوى حديثٍ ، وليس مجرد أثر، وبذلك يصبح مع حديث أبي حمزة المرفوع صراحة حجة يعتمد عليها ، ويرتكن إليها في الحكم بأن في المال حقًا غير الزكاة.

على أن هذا الذي نقل عن الشعبي لم يكن مذهبًا للشعبي وحده ، وإنما كان مذهبًا لعدد من معاصريه.

قال ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف (2) حدثنا حفص ، عن الأعمش ، عن إبراهيم قال: كانوا يرون في أموالهم حقًا سوى الزكاة.

حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور وابن أبي نجيح ، عن مجاهد {فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} (3) قال: سوى الزكاة.

(1) ج: 10. ص: 396. ترجمة: 711.

(2)

ج: 3. ص: 190.

(3)

المعارج: الآية رقم 24.

ص: 1083

حدثنا معاذ قال: حدثنا حاتم بن أبي صغيرة أبو يونس ، قال: حدثنا رباح ، عن عبيدة ، عن قزعة قال: قلت لابن عمر: إن لي مالًا فما تأمرني؟ إلى من أدفع زكاته؟ قال: ادفعها إلى ولي القوم - يعني الأمراء - ولكن في مالك حق سوى ذاك يا قزعة.

حدثنا ابن علية ، عن ابن أبي حيان قال: حدثني مزاحم بن زفر ، قال: كنت جالسًا عند عطاء ، فأتاه أعرابي ، فسأله: إن لي إبلًا ، فهل عليَّ فيها حق بعد الصدقة؟ قال: نعم.

ثم قال: حدثنا عبد الأعلى ، عن هشام ، عن الحسن قال: في المال حق سوى الزكاة.

ونقل ابن عبد البر في التمهيد (1) ثم قال: حدثنا خلف بن القاسم ، قال: حدثنا الحسن بن رشيق ، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن زفر القاضي بمصر ، قال: حدثنا محمد بن روح بن يزيد ، قال: حدثنا عبد الملك قريب الأصمعي ، قال: حدثنا المبارك بن فضالة ، وقال: سمعت الحسن يحدث ، عن قيس بن عاصم المنقري - وكان ممن عزل عن البصرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني في وفد بني تميم سنة تسع فأسلم - قال:((هذا سيد أهل الوبر)) ، قال: قلت: يا رسول الله ، ما خير المال؟ - يعني الإبل وكان ينصرف إليه المال عند العرب البدو - قال:((نعم المال الأربعون ، والأكثر الستون ، وويل لأصحاب المئين ، إلا من أدى حق الله في رسلها ونجدتها - يعني في الشدة والرخاء - وأفقر ظهرها ، وأطرق فحلها ، ومنح غزيرها ، ونحر سمينها ، فأطعم القانع والمعتر)) - وترك تمام الحديث.

ثم قال ابن عبد البر: فقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الماشية حقا سوى الزكاة ، وهذا بيّن في حديث جابر أيضًا.

حدثنا سعيد بن نصر. حدثنا قاسم بن أصبغ. حدثنا ابن وضاح. حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال: حدثنا يعلى بن عبيد ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها ، إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر - أي: بمستوى واسع أملس من الأرض - تطؤه ذات الظلف بظلفها ، وتنطحه ذات القرن بقرنها ، ليس فيها يومئذ جماء ولا مكسورة القرن. قالوا: يا

رسول الله، وما حقها؟ قال: إطراق فحلها ، وإعارة دلوها ، ومنحها وحلبها على الماء وحملٌ عليها في سبيل الله)) .

(1) ج: 4. ص: 212 وما بعدها.

ص: 1084

وقبل أن نستأنف متابعة آراء أئمة التفسير من السلف والمحدثين في تفسير قوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} الآية. وبعض آيات على شاكلتها، ننقل عن ابن حزم (1) كلامًا شريفًا أوجز فيه - إيجازًا محيطًا - آراء ومواقف الصحابة والتابعين من الحقوق الواجبة في المال غير الزكاة ومحاجة أنكروها ، قال رحمه الله: وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم ، ويجبرهم السلطان على ذلك - تأمل جيدًا قوله: ويجبرهم السلطان على ذلك - إن لم تقم الزكوات بضم ولا في سائر أموال المسلمين بهم - هذه العبارة غير واضحة - فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك ، وبه سكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة.

برهان ذلك قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} (2) وقال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (3)

فأوجب تعالى حق المساكين وابن السبيل وما ملكت اليمين مع حق ذي القربى، وافترض الإحسان إلى الأبوين وذي القربى والمساكين والجار وما ملكت اليمين ، والإحسان يقتضي كل ما ذكرنا ، ومنعه إساءة ولا شك.

وقال تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} (4) فقارن الله تعالى إطعام المسكين بوجوب الصلاة. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة في غاية الصحة أنه قال: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)) قال عبد الرزاق (المصنف ج: 11. ص 298. ح: 20589) : أخبرنا معمر ، عن الزهري قال: حدثني أبو سلمة ، عن أبي هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قبل الحسن بن علي والأقرع بن حابس التميمي جالس ، فقال الأقرع: يا رسول الله ، إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم إنسانًا قط. قال: فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال:((إن من لا يرحم لا يرحم)) . وقال أحمد (ج: 2. ص: 228) : أخبرنا هشيم عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال: دخل عيينة بن حصن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرآه يقبل حسنًا أو حسينًا ، فقال له: لا تقبله يا رسول الله ، لقد ولد لي عشرة ما قبلت أحدًا منهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إن من لا يرحم لا يرحم)) .

(1) المحلى. ج: 6. ص: 156 وما بعدها المسألة: 527.

(2)

الآية رقم: (26) من سورة الإسراء، والآية رقم:(38) من سورة الروم (فآتي) .

(3)

الآية رقم: (36) من سورة النساء.

(4)

الآية رقم: (43) و (44) من سورة المدثر.

ص: 1085

وقال (المصنف ج: 8 ص: 241) : حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أبصر النبي صلى الله عليه وسلم الأقرع يقبل حسنًا ، فقال: لي عشرة من الولد ، ما قبلت أحدًا منهم. فقال له:((من لا يرحم لا يرحم)) . وقال (المصنف. ص: 269) : حدثنا عبد الرزاق. أخبرنا معمر ، عن الزهري. حدثني أبو سلمة ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الحسين بن علي رضي الله عنهما والأقرع ابن حابس التميمي جالس ، وقال الأقرع: يا رسول الله ، إن لي عشرة من الولد ما قبلت إنسانًا منهم قط ، قال: فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال:((إن من لا يرحم لا يرحم)) . وقال (المصنف ص: 514) : حدثنا محمد بن أبي حفصة ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل الحسن بن علي رضي الله عنهما فقال الأقرع ابن حابس: إن لي عشرة من الولد ، ما قبلت أحدًا منهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((من لا يرحم لا يرحم)) . وقال (المصنف. ج: 4. ص: 358) : حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا شعبة ، عن سماك بن حرب ، عن عبيد الله بن جرير قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت: أبايعك على الإسلام ، فقبض يده ، فقال:((النصح لكل مسلم ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل) . وقال (المصنف. ص: 360) : حدثنا يزيد. حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم قال: قال جرير: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل) . وقال (المصنف. ص: 361) : حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا شعبة قال: سمعت أبا إسحاق قال: كان جرير بن عبد لله في بعث بأرمينيا قال: فأصابتهم مخمصة ومجاعة ، قال: فكتب جرير إلى معاوية: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لم يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل) قال: فأرسل إليه فأتاه ، فقال: أنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. فأقفلهم ومتعهم. قال أبو إسحاق: وكان أبي في ذلك الجيش ، فجاء بقطيفة مما متعه معاوية. وقال (المصنف. ص: 362) : حدثنا أبو معاوية وهو الضرير. حدثنا الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل) .

ص: 1086

وقال (المصنف 8 ص: 365) : حدثنا أبو أحمد ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبيه جرير ، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل) . وقال (المصنف ص 366) : حدثنا روح. حدثنا شعبة قال: سمعت سماك بن حرب قال: سمعت عبد الله بن عمير قال: وكان قائد الأعشى في الجاهلية يحدث ، عن جرير قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت: أبايعك على الإسلام ، قال: فقبض يده ، وقال:((النصح لكل مسلم)) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل) . حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن جرير ، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل) . وقال البخاري (الجامع الصحيح. ج: 7. ص: 78) : حدثنا عمرو بن حفص ، حدثنا أبي. حدثنا الأعمش قال: حدثني زيد بن وهب ، قال: سمعت جرير بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((من لا يرحم لا يرحم)) . وقال (الجامع الصحيح. ج: 8 ص: 165) : حدثنا محمد. أخبرنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن زيد ابن وهب وأبي ظبيان ، عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يرحم الله من لا يرحم الناس)) . وقال مسلم (الصحيح على هامش شرح النووي. ج: 15. ص: 76 و77) : حدثني عمرو الناقد وابن أبي عمر جميعًا ، عن سفيان ، قال عمرو: حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، أن الأقرع بن حابس أبصر النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن ، فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحدًا منهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((إنه من لا يرحم لا يرحم)) . حدثنا عبد بن حميد. أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزهري، حدثني أبو سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم

مثله. وحدثنا زهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم ، كلاهما عن جرير. وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعلي بن خشرم ، قالا: أخبرنا عيسى بن يونس.

وحدثنا أبو كريب محمد بن العلاء. حدثنا أبو معاوية. وحدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا حفص – يعني ابن غياث - كلهم عن زيد ابن وهب وأبي ظبيان ، عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل) . وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. حدثنا وكيع وعبد الله بن نمير ، عن إسماعيل ، عن قيس ، عن جرير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن أبي عمر وأحمد بن عبيدة ، قالوا: حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن نافع بن جبير ، عن جرير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث الأعمش.

ص: 1087

وقال الترمذي (ج: 4. ص 318. ح: 1911) : حدثنا ابن أبي عمر وسعيد بن أبي عبد الرحمن ، قالا: حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال: أبصر الأقرع بن حابس النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقبل الحسن ، قال ابن أبي عمر: الحسين والحسن ، فقال: إن لي من الولد عشرة ما قبلت أحدًا منهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه لا يرحم من لا يرحم)) . وتعقبه بقوله: وفي الباب عن أنس وعائشة. ثم قال: وهذا حديث حسن صحيح. وقال الترمذي (ص: 323. ح: 1923) : حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، حدثنا قيس. حدثنا جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)) . وتعقبه بقوله: هذا حديث حسن صحيح ، وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف وأبى سعيد وابن عمير وأبي هريرة وعبد الله بن عمر. وقال أبو داود (السنن. ج. ص:355. ح 5318) : حدثنا مسدد ، حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، أن الأقرع بن حابس أبصر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقبل حسينا ، فقال: إن لي عشرة من الولد ما فعلت هذا بواحد منهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لا يرحم لا يرحم)) . وقال ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 1. ص: 341 ح: 458) : أخبرنا عبد الله بن محمد الأزدي ، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، قال: أنبأنا سفيان ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال: أبصر حابس بن الأقرع التميمي النبي صلى الله

عليه وسلم يقبل الحسن بن علي ، فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحدًا منهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((من لا يرحم لا يرحم)) . وقال (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 445. ح:

5567) : أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة ، قال: حدثنا بن أبي السري ، قال: حدثنا عبد الرزاق ، قال: حدثنا معمر ، عن أبي هريرة ، وأورد الحديث الذي نقلنا آنفًا عن عبد الرزاق. وقال (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان: ج: ا. ص: 343. ح: 464) : أخبرنا أبو عروبة ، قال: أخبرنا أحمد ابن المقدم العجلي ، قال: حدثنا خالد بن الحارث ، قال: حدثنا شعبة ، قال: حدثنا سليمان ، قال: سمعت أبا ظبيان قال: سمعت جرير بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)) . وقال البيهقي (السنن الكبرى. ج: 8. ص: 161) : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو ، قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب. حدثنا أحمد بن عبد الجبار. حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان وزيد بن وهب ، عن جرير بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم فال:((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)) .

ومن كان على فضلة ورأى المسلم أخاه جائعًا عريانًا ضائعًا فلم يغثه فما رحمه بلا شك.

ص: 1088

وهذا خبر رواه نافع بن جبير بن مطعم وقيس بن أبي حازم وأبي ظبيان وزيد بن وهب نافع بن جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل النوفلي أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله المدني، ذكر ابن حجر (تهذيب التهذيب ج:10. ص: 404 ترجمة: 727) أنه روى ، عن أبيه والعباس بن عبد المطلب والزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب ورافع بن خديج وعبد الله بن عباس وأبي هريرة وعاثشة وأم سلمة وجملة غيرهم من الصحابة ، وعنه عروة بن الزبير والزهري وحبيب بن أبي ثابت وأبو الزبير وعمرو بن دينار وآخرون. وثقه كل من العجلي وأبي زرعة وابن خراش وابن حبان ، وقال: إنه كان من خيار الناس ، وكان يحج ماشيا وناقته تقاد ، وذكروه أصحاب زيد بن ثابت الذين كانوا يأخذون عنه ويفتون بفتواه. توفي رحمه الله قيل: في خلافة سليمان بن عبد الملك، وعن ابن أبي الزناد: سنة تسع وتسعين.

قيس بن أبي حازم: قال ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 8. ص: 386 ترجمة: 689) واسمه - يعني أبا حازم - حصين بن عوف ، ويقال: عوف بن عبد الحارث بن عوف البجلي الأخمس أبو عبد الله الكوفي ، أدرك الجاهلية ، ورحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعه ، فقبض وهو في الطريق ، وأبوه له صحبة ، ويقال: إن لقيس رؤية لم يثبت. وروى عن أبيه وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وسعيد والزبير وطلحة وعبد الرحمن بن عوف. وقيل: لم يسمع منه ، وأبي عبيدة وبلال مولى أبي بكر ومعاذ وخالد بن الوليد وابن مسعود وطائفة غيرهم من الصحابة ، وأرسل عن ابن رواحة ، روى عنه طائفة من التابعين ، منهم الأعمش. قال ابن عيينة: ما كان بالكوفة أحد أروى عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قيس. وقال الآجري عن أبي داود: أجود التابعين إسنادا قيس بن أبي حازم ، روى عنه تسعة من العشرة ، ولم يرو عن عبد الرحمن بن عوف، ويقال: إنه ليس أحد من التابعين جمع أن روى عن العشرة مثله إلا عبد الرحمن بن عوف ، فإنا لا نعلمه روى عنه شيئًا. ثم قد روى بعد العشرة عن جماعة من الصحابة وكبرائهم ، وهو متقن الرواية ، ومع ذلك تكلم فيه بعضهم ، فمنهم من اشتد عليه ، وزعم أن له مناكير ، ومنهم من كان أخف حدة ، فوصف بعض أحاديثه بالغرائب ، ويظهر أن مرد ذلك إلى نفر من الكوفين ، فقد قالوا: إنه كان يحمل على علي ، والمشهور أنه كان يقدم عثمان ، ولذلك تجنب كثير من قدماء الكوفيين الرواية عنه ، ولكن ابن خراش وهو كوفي جليل قال: ليس في التابعين أحد روى عن العشرة إلا قيس بن حازم وفضله ابن معين عن الزهري ، ويقال: إنه عاش حتى تجاوز المائة بسنين كثيرة ، ويقال: إنه اختلط بآخرة ، واختلفوا في تاريخ وفاته ما بين سنتي أربع وثمانين وأربع وتسعين.

ص: 1089

أبو ظبيان حصين بن جندب بن الحارث الجنبي (بفتح الميم وسكون النون ثم موحدة) الكوفي، قال ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج:2. ص: 379 وما بعدها. ترجمة: 645) ، روى عن عمر وعلي وابن مسعود وسلمان وأسامة بن زيد وعمار وحذيفة وأبي موسى وابن عباس وابن عمر وعائشة وغيرهم من الصحابة ومن التابعين عن علقمة وأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ومحمد بن سعد بن أبي وقاص وغيرهم ، وعنه ابنه قابوس وأبو إسحاق السبيعي وسلمة بن كهيل والأعثر وآخرون ، وثقه كل من أبي معين والعجلي وأبي زرعة والنسائي والدارقطنى. توفي حوالى سنة تسع وثمانين أو تسعين.

زيد بن وهب الجهني أبو سليمان الكوفي ، قال ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج:3. ص: 427. ترجمة: 781) : رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقبض وهو في الطريق. وروى عن عمر وعثمان وعلي وأبي ذر وابن مسعود وحذيفة وأبي الدرداء وأبي موسى وغيرهم ، وعنه أبو إسحاق السبيعي وإسماعيل بن أبي خالد والحكم بن عتيبة والأعمش ومنصور وجماعة آخرون. قال الأعمش لزهير: إذا حدثك زيد بن وهب عن أحد ، فكأنك سمعته من الذي حدثك عنه، ووثقه ابن معين وابن خراش، وذكر ابن سعد أنه توفي بولاية الحجاج بعد الجماجم.

وقال أبو بكر بن منجويه: سنة ست وتسعين ، وكذلك ابن حبان في الثقات، رحمه الله رحمة واسعة.

وجرير بن عبد الله بن جابر البجلي القسرى أبو عمرو، وقيل: أبو عبد الله اليماني ، قال ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج:2. ص: 73. ترجمة: 115) روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر ومعاوية ، وعنه أولاده المنذر وعبيد الله وأيوب وإبراهيم وابن ابنه أبو زرعة بن عمرو ، وأنس وأبو وائل وزيد بن وهب وابن علاقة والشعبي وأبو ظبيان وغيرهم، أسلم في السنة التي لحق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى ، ونزل الكوفة، ثم انتقل منها إلى قرقيسيا فنزلها ، وقال: لا أقيم ببلدة يشتم فيها عثمان.

وقال جرير: ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ، ولا رآني إلا تبسم. رواه الشيخان وغيرهم ، وكان جميلًا. وقال له عمر بن الخطاب: نعم السيد كنت في الجاهلية ، ونعم السيد أنت في الإسلام، وقيل: مات سنة إحدى وخمسين وقيل غير ذلك، رضي الله عنه وأرضاه. ، عن جرير بن عبد الله ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 1090

وروى أيضًا معناه الزهري عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحدثناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد. حدثنا إبراهيم بن أحمد. حدثنا الفربري. حدثنا البخاري. حدثنا موسى بن إسماعيل - هو التبوذكي - حدثنا المعتمر - هو ابن سليمان - عن أبيه. حدثنا أبو عثمان النهدي ، أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق حدثه ((أن أصحاب الصفة كانوا ناسًا فقراء ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من كان عنده طعام اثنين فيذهب بثالث ، ومن عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس)) قال مالك (الموطأ. ص: 802. ح: 81) عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((طعام الاثنين كافي الثلاثة وطعام الثلاثة كافي الأربعة)) . وقال أحمد (ج: 2. ص: 244 و407) : حدثنا سفيان ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((طعام الاثنين كافي الثلاثة ، وطعام الثلاثة يكفي الأربعة ، إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارًا ، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش والدواب تتقحم فيها ، فأنا آخذ بحجزكم ، وأنتم تواقعون فيها ، ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى بنيانا ، فأحسنه وأكمله وأجمله ، فجعل الناس يطيفون به يقولون: ما رأينا بنيانًا أحسن من هذا ، إلا هذه الثلمة فأنا تلك الثلمة)) . وقيل لسفيان: من يذكر هذا؟ فقال: أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة. حدثنا عفان قال: حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عمن سمع أبا هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((طعام واحد يكفي الاثنين ، وطعام الاثنين يكفي الأربعة)) . وقال أحمد (ج: 3. ص: 301 و315 و382) : حدثنا سفيان وعبد الرحمن ، عن سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طعام الواحد يكفي الاثنين ، وطعام الاثنين يكفي الأربعة ، وطعام الأربعة يكفي الثمانية)) .

ص: 1091

وحدثنا أبو معاوية. حدثنا الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال: قال رسول الله: ((طعام الواحد يكفي الاثنين ، وطعام الاثنين يكفي الأربعة)) . وحدثنا روح ، حدثنا ابن جريج. أخبرني أبو الزبير ، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((طعام الواحد يكفي الاثنين ، وطعام الاثنين يكفي الأربعة ، وطعام الأربعة يكفي الثمانية)) . وقال ابن حبان (الثقات. ج: 7. ص: 311 ح: 5214) : أخبرنا عبد الله بن أحمد بن موسى ، قال: حدثنا عمرو بن علي بن بحر ، قال: حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج ، قال: أخبرني أبو الزبير ، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: ((طعام الواحد يكفى الاثنين ، وطعام الاثنين يكفي الأربعة ، وطعام الأربعة يكفي الثمانية)) . وقال البخاري (الجامع الصحيح. ج: 6. ص: 200) : حدثنا عبد الله بن يوسف. أخبرنا مالك. وحدثنا إسماعيل. حدثنى مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طعام الاثنين كافي الثلاثة ، وطعام الثلاثة كافي الأربعة)) . وقال مسلم (على هامش شرحه للنووي. ج: 14. ص: 22 و23) : حدثنا يحيى بن يحيى ، قال: قرأت على مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طعام الاثنين كافي الثلاثة ، وطعام الثلاثة كافي الأربعة)) . حدثنا إسحاق بن إبراهيم. أخبرنا روح بن عبادة. وحدثني يحيى بن حبيب. حدثنا روح. حدثنا ابن جريج ، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((طعام الواحد يكفي الاثنين ، وطعام الاثنين يكفي الأربعة ، وطعام الأربعة يكفي الثمانية)) . وفي رواية إسحاق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم يذكر سمعت. حدثنى ابن نمير. حدثنا أبي. حدثنا سفيان. وحدثنى محمد بن المثنى. حدثنا عبد الرحمن بن سفيان ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث ابن جريج. وحدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة أبو كريب ، وإسحاق بن إبراهيم. قال أبو بكر وأبو كريب: حدثنا، وقال الآخران: أخبرنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال: قال رسول الله: ((طعام الواحد يكفي الاثنين ، وطعام الاثنين يكفي الأربعة)) .

حدثنا قتيبة بن سعيد وعثمان بن أبي شيبة ، قالا: حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((طعام الرجل يكفي الرجلين ، وطعام الرجلين يكفي أربعة ، وطعام أربعة يكفي ثمانية)) .

ص: 1092

وقال الترمذي (الجامع الصحيح. ج: 4. ص: 267. ح: 1820) : حدثنا الأنصاري. حدثنا معن. حدثنا مالك. وحدثنا قتيبة ، عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: ((طعام الاثنين كافي الثلاثة ، وطعام الثلاثة كافي الأربعة)) . وتعقبه بقوله: وفي الباب عن جابر وابن عمر. ثم قال: هذا حديث حسن صحيح ، روى جابر وابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((طعام الواحد يكفى الاثنين ، وطعام الاثنين يكفي الأربعة ، وطعام الأربعة يكفي الثمانية)) .

وحدثنا محمد بن بشار. حدثنا محمد بن مهدي ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا. وقال ابن ماجه (السنن. ج:2. ص: 1084. ح: 3254 و3255) : حدثنا محمد بن عبد الله الرقي. حدثنا يحيى بن زياد الأسدي. أنبأنا ابن جريج. أنبأنا أبو الزبير ، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله: ((طعام الواحد يكفي الاثنين ، وطعام الاثنين يكفي الأربعة ، وطعام الأربعة يكفي الثمانية)) .

حدثنا الحسن بن علي الخلال. حدثنا الحسن بن موسي ، حدثنا سعيد بن زيد. حدثنا عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير ، قال: سمعت سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه ، عن جده عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن طعام الواحد يكفي الاثنين ، وإن طعام الاثنين يكفي الثلاثة والأربعة ، وإن طعام الأربعة يكفي الخمسة والستة)) . وقال الدارمي (السنن. ج: 2. ص: 100) : أخبرنا أبو عاصم ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((طعام الواحد يكفي الاثنين ، وطعام الاثنين يكفي الأربعة ، وطعام الأربعة بكفي الثمانية)) . وقال الطبراني (المعجم الكبير ج: 7. ص: 229. ح: 6958 و6963) : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري. حدثنا إبراهيم بن الوليد ، عن محمد الأبلي. حدثنا أبي ، حدثنا مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طعام الواحد يكفي الاثنين ، وطعام الاثنين يكفي الأربعة)) .

حدثنا عبد الله بن أحمد. حدثنا أيوب بن محمد الوزان ، حدثنا فهير يحيى بن زياد – نظن أنه سقطت بين كلمة (فهير) وكلمة (يحيى بن زياد) كلمة هي (حدثنا) أو (أخبرنا) أو ما شاكلها – حدثنا ابن جريج. حدثنا أبو بكر ، عن الحسن ، عن سمرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((طعام الاثنين كافي الأربعة ، وطعام الأربعة كافي الثمانية)) . وقال (المعجم الكبير. ج: 10. ص 126. ح 10092) :

حدثنا جعفر بن أحمد السامي الكوفي، حدثنا أبو كريب، حدثنا مختار بن غسان، عن قيس بن الربيع، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة)) .

ص: 1093

وقال (المعجم الكبير. ج 12. ص:320. ح: 13236) : حدثنا الحسن بن علي الفسوي، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا أبو الربيع السمان، عن عمرو بن دينار، عن سالم، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية، اجتمعوا ولا تتفرقوا عنه)) . قلت: لقد رأيت أن أتتبع هذا الحديث بما يشبه الاستقراء لأسانيده وألفاظه دون اعتبار لتضعيفهم بعض المسندين، إذ إن الأسانيد والألفاظ على اختلافها وتباين رتبها يشهد بعضها لعبض، فلا مجال لمتابعتهم في تضعيف من ضعفوه، أو للتوقف عند كلامهم فيمن تكلموا فيه، فالحديث ثابت، وأكاد أجزم بأنه متواتر، وبعض من ضعفوه من مسنديه قد لا نتابعهم على تضعيفهم ولكن ليس هذا مجال مناقشة ذلك. أو كما قال، فهذا هو نفس قولنا.

ومن طريق الليث بن سعد، عن عقيل بن خالد، عن الزهري، أن سالم بن عبد الله بن عمر أخبره، أن عبد الله بن عمر أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)) قال البخاري (الجامع الصحيح. ج: 3. ص: 98) : حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، أن سالمًا أخبره، أن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة)) . وقال (الجامع الصحيح ج: 8. ص: 59) : حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، أن سالمًا أخبره، أن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)) . وقال مسلم (الصحيح على هامش شرحه للنووي. ج: 9 ص: 199) : حدثني أبو الطاهر، أخبرنا عبد الله بن وهب، عن الليث وغيره، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن شماسة، أنه سمع عقبة بن عامر على المنبر يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر)) . وقال مسلم (الصحيح على هامش شرحه للنووي. ج: 16. ص 120 و121) : حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، حدثنا داود – يعني ابن قيس – عن أبي سعيد مولى عامر بن كريز، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحاسدوا ولا تناجشوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ههنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) .

ص: 1094

وحدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح، حدثنا ابن وهب، عن أسامة - وهو ابن زيد - أنه سمع أبا سعيد مولى عبد الله بن عامر ابن كريز يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحو حديث داود. زاد ونقص، ومما زاد فيه:((إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، وأشار بأصابعه إلى صدره)) . وقال الترمذي (الجامع الصحيح. ج: 4. ص: 34 و35. ح: 426) : حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أن رسول الله قال:((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله يوم القيامة.)) وتعقبه بقوله: هذا حديث حسن صحيح غريب. وقال أحمد (المسند. ج: 4. ص: 79) : حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثنا يزيد بن هارون، قال: أنبأنا إسرئيل بن يونس بن أبي إسحاق، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الأعلى، عن جدته، عن أبيها سويد بن حنظلة، قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج الناس أن يحلفوا، وحلفت أنه أخي، فخلى عنه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال:((أنت كنت أبرهم وأصدقهم، صدقت المسلم أخو المسلم)) ، حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثنا الوليد بن القاسم وأسود بن عامر، قالا: حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن جدته، عن أبيها سويد بن حنظلة قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم

فذكره. وقال أبو داود (السنن. ج: 3. ص: 224. ح: 3256) : حدثنا عمرو بن محمد الناقد، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن جدته، عن أبيها سويد بن حنظلة، قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج القوم أن يحلفوا، وحلفت أنه أخي، فخلى سبيله، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته أن القوم تحرجوا أن يحلفوا، وحلفت أنه أخي، قال:((صدقت المسلم أخو المسلم)) . وقال (السنن. ج: 4. ص: 273. ح: 4893) : حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه، فإن الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله يوم القيامة)) . وقال ابن ماجه (السنن. ج:1. ص: 685. ح: 2119) : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل. وحدثنا يحيى بن حكيم، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن جدته، عن أبيها سويد بن حنظلة قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج الناس، أن يحلفوا، فحلفت أنا أنه أخي، فخلى سبيله، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أن القوم تحرجوا أن يحلفوا، وحلفت أنا أنه أخي، فقال:((صدقت المسلم أخو المسلم)) .

ص: 1095

وقال (السنن. ج: 2. ص: 755. ح: 2246) : حدثنا محمد بن بشار، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي: سمعت يحيى بن أيوب يحدث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن شماسة، عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا فيه عيب إلا بيّنه له)) . وقال الطبراني (المعجم الكبير. ج: 7. ص: 89. ح: 6464 و6465) : حدثنا حفص بن عمر الرقي، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل، حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن جدته، عن أبيها سويد بن حنظلة، قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج القوم أن يحلفوا، وحلفت أنا أنه أخي، فقال:((صدقت المسلم أخو المسلم)) ، حدثنا فضيل بن محمد الملطي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن جدته، عن أبيها سويد بن حنظلة قال: خرجنا نريد النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج القوم أن يحلفوا، فحلفت أنه أخي، فخلوا سبيله، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال:((صدقت المسلم أخو المسلم)) . وقال (المعجم الكبير. ج: 17. ص: 316 و317. الأحاديث: 873 و876 و877) : حدثنا مطلب بن شعيب الأزدي، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن شماسة، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن أخو المؤمن، لا يحل لمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه حتى يذر، ولا يخطب على خطبته حتى يذر)) .

حدثنا مطلب بن شعيب الأزدي، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شماسة، عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((المسلم أخو المسلم)) .

حدثنا أحمد بن زهير التستري، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا وهب بن جرير، حدثني أبي. عن يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن شماسة، عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم إن باع من أخيه شيئًا فيه عيب إلا يبينه له)) .

ص: 1096

وقال الشهاب القضاعي (مسند شهاب. ج: 1. ص: 132 و133. ح: 168 و169) : أخبرنا عبد الرحمن بن عمر النجيبي، حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد، حدثنا إبراهيم الحربي، حدثنا الوليد بن صالح، حدثنا الليث بن سعد، عن عقيل، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه)) ، أنبأنا أبو الحسن علي بن موسى السمسار بدمشق، حدثنا أبو زيد محمد بن أحمد المروزي، أنبأنا محمد بن يوسف الفربري، أنبأنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا يحيى بن بكير.، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، أن سالمًا أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله يوم القيامة)) .

من تركه يجوع ويعرى - وهو قادر على إطعامه وكسوته - فقد أسلمه.

حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا أحمد بن فتح، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى، حدثنا أحمد بن محمد، حدثنا أحمد بن علي، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا أبو الأشهب، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((من كان معه فضل ظهر، فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد، فليعد به على من لا زاد له. قال: فذكر من أصناف ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل))

قال مسلم (الصحيح على هامش شرح النووي. ج: 12. ص: 23) : حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا أبو الأشهب، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجل على راحلة له، قال: فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((من كان معه فضل ظهر، فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد، فليعد به على من لا زاد له. قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل)) .

ص: 1097

وقال أبو داود (السنن. ج: ص: 125 و126. ح: 1663) : حدثنا محمد بن عبد الله الخزاعي وموسى بن إسماعيل، قالا: حدثنا أبو الأشهب، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، إذ جاء رجل على ناقة له، فجعل يصرفها يمينًا وشمالًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((من كان عنده فضل ظهر، فليعد به عل من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له. حتى ظننا أنه لا حق لأحد منا في فضل)) . وقال ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 392. ح: 5395) : أخبرنا أبو يعلى، حدثنا شيبان بن أبي شيبة، حدثنا أبو الأشهب، حدثنا أبو نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجل على راحلته، قال: فجعل يضرب يمينًا وشمالًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((من كان معه فضل ظهر، فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل زاد، فليعد به على من لا زاد. ذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أن لا حق لأحد منا في فضل)) .

وقال البيهقي (السنن الكبرى. ج: 4. ص: 182) : أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، أخبرني أبو النضر الفقيه، حدثنا أبو عبد الله محمد بن نصر الإمام وأحمد بن النضر بن عبد الوهاب أبو الفضل. قالا: حدثنا شيبان بن أبي شيبة الأيلي، حدثنا أبو الأشهب، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجل على راحلة له، قال: فجعل يضرب يمينًا وشمالًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((من كان معه فضل من ظهر، فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل من زاد، فليعد به على من لا زاد له. قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى ظننا أنه لا حق لأحد منا في فضل)) .

وهذا إجماع الصحابة رضي الله عنهم يخبر بذلك أبو سعيد، وبكل ما في هذا الخبر نقول: ومن طريق أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((أطعموا الجائع وفكوا العاني)) . والنصوص من القرآن والأحاديث الصحاح في هذا تكثر جدا.

ص: 1098

وروينا عن طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن حبيب بن ثابت، عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين.

قال ابن زنجويه (الأموال. ج: 2. ص: 789. الأثر: 1364) : حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل، قال عمر بن الخطاب: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت فضول الأغنياء، فقسمتها في فقراء المهاجرين. قلت: يقتضي المنهاج الذي التزمناه في هذه التعاليق أن نقف عند تخريج الأثر، بيد أننا نجد أنفسنا في موقف يضطرنا إلى أن نخرج قليلًا عن هذا المنهاج، ذلك بأن محقق كتاب الأموال لابن زنجويه (شاكر ذيب فياض) حاول - كدأبه في كثير من مرويات ابن زنجويه - أن يبرز نفسه من نقده الحديث والآثار، فقال بعد أن أورد كلام ابن حزم في المحلى الذي أثبتناه في الأصل:(لكن حبيب بن أبي ثابت مدلس، يروي بالعنعنة، وهو من مدلسي الرتبة الثالثة، كما في طبقة المدلسين 13، وهي مرتبة من لم يحتج الأئمة بحديثهم، إلا إذا صرحوا بالسماع) . انتهى كلامه. ويظهر أن الرجل يحب أن ينطلق من ظواهر بعض أبجديات قواعد النقدة إلى مقعد الحكم على الأئمة، وهو منطلق عسير (مرتقى صعب) ، كان حريا أن يتحرج منه على الأقل توقيرًا لأئمة مكنهم علمهم المحيط المستوعب الواعي بقواعد الجرح والتعديل وضوابطه وطرائق استعمال تلك القواعد وموجباته وبالرجال وطبقاتهم ومقاماتهم من أمثال الذهبي والمزي إلى أن كان يحسب نفسه في طبقتهم، وذلك احتساب نشفق عليه من عواقبه. قال الذهبي رحمه الله وهو يترجم لحبيب (سير أعلام النبلاء. ج:5. ص: 288. ترجمة: 137) ماملخصه: الإمام الحافظ فقيه الكوفة أبو يحيى القرشي الأسدي مولاهم، حدث عن ابن عمر وابن عباس وأم سلمة، وقيل: لم يسمع منهما، وحكيم بن حزام، وقيل: لم يسمع منه، وأنس بن مالك وزيد بن أرقم وأبي وائل وزيد بن وهب وعاصم بن ضمرة وأبي الطفيل وأبي عبد الرحمن السلمي وإبراهيم بن سعد بن أبي وقاص وذر الهمداني وأبي صالح ذكوان والسائب بن فروخ وطاوس وأبي المنهال عبد الرحمن بن مطعم ونافع بن جبير وكريب وعروة في المستحاضة، وقيل: بل هو عروة المزني، وكان من أئمة العلم، روى عنه عطاء بن أبي رباح وحصين ومنصور والأعمش وأبو حصين وأبو الزبير وطائفة من الكبار وابن جريج وحاتم بن أبي صغيرة ومسعر وعبد العزيز بن سياه وشعبة والثوري والمسعودي وقيس بن الربيع وحمزة الزيات وخلق.

ص: 1099

قال ابن المدينى: له نحو مائتي حديث، وقال أحمد بن يونس، عن أبي بكر بن عياش: كان بالكوفة ثلاثة، ليس لهم رابع: حبيب بن أبي ثابت، والحكم، وحماد، كانوا من أصحاب الفتيا، ولم يكن أحد بالكوفة إلا يذل لحبيب، وقال أحمد العجلي: كوفي تابعي ثقة، كان مفتي الكوفة قبل حماد بن أبي سليمان، وقال ابن المبارك، عن سفيان: حدثنا حبيب، عن أبي يحيى القتات، قال: قدمت الطائف مع حبيب بن أبي ثابت، فكأنما قدم عليهم نبي، وقال أحمد بن سعد بن أبي مريم، عن يحيى: ثقة حجة، فقيل ليحيى: حبيب ثبت؟ قال: نعم، إنما روى حديثين، ثم قال: أظن يحيى يريد منكرين، حديث ((تصلي المستحاضة وإن قطر الدم على الحصير)) وحديث ((القبلة

للصائم)) . قلت: الحديث الأول أخرجه الدارقطنى والبيهقي والطحاوي وغيرهم. أما الحديث الثاني وصوابه: ((ترك الوضوء من القبلة)) - فقد رواه أبو داود والنسائي والترمذي والبيهقي والدارقطني. ثم قال الذهبي: وقال أبو حاتم: صدوق ثقة، لم يسمع من أم سلمة. ثم ذكر كلامهم حول سماعه من بعض الصحابة. ثم نقل عن أبي بكر بن عياش ومحمد بن عبد الله بن نمير والبخاري أنه مات سنة تسع عشرة ومائة، وروى عن ابن سعد، عن الهيثم، عن يحيى بن سلمة، عن كهيل، مات سنة اثنتين وعشرين ومائة في ولاية يوسف بن عمر، ثم قال: كان من أبناء الثمانين، وهو ثقة بلا تردد، وقد تناكد الدولابي، فذكره في الضعفاء له، لمجرد قول ابن عون فيه:(كان أعور) ، وإنما هذا نعت لبصره، لا جرح له. ثم قال: قال زافر بن سليمان، عن أبي سنان، عن حبيب بن أبي ثابت قال: من وضع جبينه لله، فقد برئ من الكبر. وقال أبو بكر بن عياش: رأيت حبيب بن أبي ثابت ساجدًا، فلو رأيته قلت: ميت. يعني من طول السجود، قلت: وإني لأستحيي أن أستشهد بهذا الحشد الكبير من أقوال المترجمين ورجال الطبقات ونقدة الرجال في إمام مثل حبيب بن أبي ثابت، بيد أني أنقل قول المزي رحمه الله (تهذب الكمال. ج: 5 ص: 358 وما بعدها. ترجمة: 1079) بعد أن ترجم له بما يشبه ترجمة الذهبي مؤكدًا ما رمز به في صدر الترجمة: روى له الجماعة. وقول ابن عدي رحمه الله (ج: 2 ص: 813 وما بعدها) بعد أن ترجم له، وأسند إليه أحاديث:(وحبيب بن أبي ثابت هو أشهر وأكثر حديثًا من أن أحتاج إلى أن أذكر من حديثه شيئًا، وإنما ذكرت هذا المقدار من رواية الثوري وشعبة عنه، وهو بشهرته مستغنى عن أن أذكر من أخباره أكثر من هذا، وقد حدث عنه الأئمة مثل الأعمش والثوري وشعبة وغيرهم، وهو ثقة حجة، كما قاله ابن معين، ولعل ليس في الكوفيين كبير أحد مثله لشهرته وصحة حديثه، وهو في أئمتهم يجمع حديثه) .

ص: 1100

قلت: فهل بقي لمتحذلق أن يحاول التعريف بنفسه أو الظهور بظهور الناقد المجرح بالغمز فيما يرويه حبيب بعد مثل هذا القول من أئمة نقد الحديث والجرح والتعديل أمثال ابن عدي وابن معين والمزي والذهبي الذين أكدوا أنه حجة، ومعنى أنه حجة أنه مصدق فيما يرويه محتج بما يسنده، أيا كانت صيغة الإسناد، ومع ذلك يقول حضرة المعلق المحترم:(لكن حبيب بن أبي ثابت مدلس يروي بالعنعنة، وهو من مدلسي المرتبة الثالثة كما في طبقة المدلسين 13 وهي مرتبة من لم يحتج الأئمة بحديثهم إلا إذا صرحوا بالسماع) . ولو نشاء لوقفنا معه عند مقولاتهم في صيغة العنعنة وفي التدليس وطبقة المدلسين، نوضح له طبيعة تلك المقولات، وكيف ينبغي تطبيقها حتى ولو سلمت لهم. بيد أننا نشفق عليه من هذا الموقف، إلا أن يلهمه الله التوفيق، فيزداد من العلم الواعي المدرك لحقائق المقولات غير الواقف عند ظواهرها، ويومئذ إذا مد الله في العمر والتقينا على عمل، قد يكون لنا معه موقف. ولمن شاء الاستزادة من الاطلاع على ما ترجموا به لحبيب بن أبي ثابت أن يرجع إلى تعليق أخينا العلامة الدكتور بشار عواد معروف على ترجمته التي أشرنا إليها آنفًا في تهذيب المزي، فقد استقصى أو أوشك أن يستقصي مصادر ترجمته ومراجعها زاده الله توفيقًا. وهذا إسناد في غاية الصحة والجلالة.

ومن طريق سعيد بن منصور، عن ابن شهاب، عن أبي عبد الله الثقفي، عن محمد بن علي بن الحسين، عن محمد بن علي بن أبي طالب، أنه سمع عليّ بن أبي طالب يقول: إن الله تعالى فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم، فإن جاعوا أو عروا أو جهدوا فبمنع الأغنياء، وحق على الله تعالى أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه. (1)

وعن ابن عمر أنه قال: في مالك حق سوى الزكاة.

اختلفت الروايات عن ابن عمر، وأشهرها أنه يرى أن المال الذي أديت زكاته ليس بكنز، لكن روي عنه ما يشبه في ظاهره أن يكون مغايرًا لهذا الرأي مثل أثر ابن حزم موضوع التعليق، والحديث الذي رواه ابن أبي شيبة، وهو يشبهه قال:(الكتاب المصنف. ج: 3. ص: 191) : حدثنا معاذ، قال: حدثنا حاتم بن أبي صغيرة أبو يونس، قال: حدثنا رباح، عن عبيدة، عن قزعة قال: قلت لابن عمر: إن لي مالًا، فما تأمرني إلى من أدفع زكاته؟ قال: ادفعها إلى ولي القوم - يعني الأمراء - ولكن في مالك حق سوى الزكاة يا قزعة.

(1) لم أقف على من أخرجه.

ص: 1101

بيد أن التأمل في الروايتين عنه بوعي واستجلاء لمناطهما يهدي إلى أن ابن عمر رضي الله عنه يفرق بين اعتبار المال كنزًا وما أديت زكاته، ليس بكنز عنده، وبين القول بوجوب حقوق في المال ليست ثابتة في زمان أو محددة بمقدار، وإنما توجبها ظروف وأحداث وتعينها وتضع حدودها في نطاق اعتبار طاقة كل أحد من المسلمين، فالفارق بين الأمرين أن الزكاة تجب عند توفر نصاب معين وحلول وقت معين، كوقت الحصاد، أو دوران الحول. أما الحقوق الطارئة التي توجبها ظروف وتعين مقادرها مع اعتبار طاقة الفرد، فوجوبها لا يتوقف على توفر نصاب معين أو حلول وقت معين ثابت، ومقدارها لا يتحدد بحد معين ثابت، وإنما يتغير ويتفاوت طبقًا للظرف الموجب لها ولحال من وجبت عليه، وبهذا يتضح أنه فيما نسب إلى ابن عمر تغاير في جوهره، وإن تراءى كذلك في ظاهره. فتأمل.

وعن عائشة أم المؤمنين والحسن بن علي وابن عمر أنهم قالوا كلهم لمن سألهم: إن كنت تسأل في دم موجع أو غرم مفظع أو فقر مدقع، فقد وجب حقك وقال ابن زنجويه (الأموال. ج:3. ص: 1133. الأثر: 2104

و2105) : أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا الأوزاعي، حدثني يحيى بن أبي كثير، قال: جاء رجل إلى الحسن بن علي عليه السلام يسأله، فقال: إن كنت تسأل في فقر مدقع أو غرم موجع أو دم مفظع، فقد وجب حقك. قال: ما أسألك في شيء من هؤلاء. قال: فلا حق لك. فأتى ابن عمر فسأله، فقال له مثل ذلك. وحدثنا علي بن الحسن، عن ابن المبارك، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن حبال بن رفيدة التميمي، أن الحسن بن علي عليه السلام أتاه سائل، فقال: إن كنت تسأل عن غرم مفظع أو فقر مدقع أو دم موجع، فقد وجب حقك. قلت: تكلم بعضهم في أسانيد هذا الأثر، فغمزوا واحدًا منها بالانقطاع، وآخر بضعف بعض رواته، ولست أريد أن أقف عند مغامزهم، إن أريد إلا أن أوضح وهمًا وقع للذهبي رحمه الله في الميزان (ج:1. ص: 448. ترجمة: 1680) في ترجمة حبال بن رفيدة، إذ قال: لا يعرف. قال البستي: فيه نظر. انتهى كلام الذهبي، رحمه الله. على حين أن حبال ترجم له ابن حبان في الثقات (ج:4. ص: 193) ، فقال: حبال بن رفيدة التميمي يروي عن الحسن، هو الحبال بن أبي الحبال، روى عنه أبو إسحاق السبيعي، وترجم له الرازي في الجرح والتعديل (ج: 3. ص: 315. ترجمة: 1405) فقال: حبال بن رفيدة كوفي، روى عن الحسن بن علي ومسروق، روى عنه أبو إسحاق ويونس بن أبي إسحاق ويحيى بن عبد الله الجابر سمعت أبي يقول ذلك.

ص: 1102

ثم قال: ذكر أبي، عن أبي إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين أنه قال: حبال بن رفيدة ثقة. انتهى كلام الرازي. قلت: لكن لم أجد له ذكرًا في تاريخ ابن معين. فليحرر. وقال ابن زنجويه (الأموال. ج: 3. ص: 1133. الأثر: 2106) : أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا ابن ثوبان، حدثني من سمع الحسن قال: جاء رجل إلى ابن عباس يسأله، فقال له ابن عباس: إن كنت تسأل في دم مفظع أو غرم مثقل أو فقر مجهد، حلت لك المسألة. ثم أتى ابن عمر فسأله، فقال له مثل ذلك. قلت: ولم نقف على ذكر لعائشة رضي الله عنها في مثل هذا الأثر، إلا ما جاء في كلام ابن حزم، وأحسبه وقف عليه، حيث لم أهتد إليه. وصح عن أبي عبيدة بن الجراح وثلاث مائة من الصحابة رضي الله عنهم أن زادهم فني، فأمرهم أبو عبيدة، فجمعوا أزوادهم في مزودين، وجعل يقوتهم أيامًا على السواء.

وروى مالك في الموطأ (ص: 803) عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله أنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثًا قبل الساحل، فأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، وهم ثلاثمائة، قال: وأنا فيهم، قال: فخرجنا، حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش، فجمع ذلك كله، فكان مزودين من تمر، قال: فكان يقوتناه كل يوم قليلًا، حتى فني، ولم تصبنا منه إلا تمرة تمرة، فقلت: وما تفي تمرة؟ فقال: لقد وجدنا فقدها حيث فنيت، قال: ثم انتهينا إلى البحر، فإذا حوت مثل الظرب، فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبتا، ثم أمر براحلة فرحلت، ثم مرت تحتهما، ولم تصبهما. وقد روى هذا الحديث كل من البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبي داود في مواضع مختلفة من كتبهم، لا نرى ما يدعو إلى نقل أسانيدهم كلها؛ لأن ذلك يطيل التعليق في غير طائل، حسبنا أن نشير إليها نقلًا عن المزي في (تحفة الأشراف. ج:2. ص: 385) ، ففي ذلك إرشاد لمن يريد استقراءها، قال رحمه الله: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثًا قبل الساحل، وأمر عليهم أبا عبيدة، وهم ثلاثماثة

الحديث. (خ) في الشركة (1: 1)، عن عبد الله بن يوسف. وفي المغازي (66: 1) عن إسماعيل بن أويس، كلاهما عن مالك. وفي الجهاد (123) عن صدقة بن الفضل، عن عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، كلاهما عنه به. و (4: 5) عن محمد بن حاتم، عن ابن مهدي، عن مالك به. و (4: 6) عن أبي كريب، عن أبي أسامة، عن الوليد بن كثير عنه به. في الزهد (99: 5) ، عن هناد بن السري، عن عبدة به. وقال: حسن صحيح. س في الصيد (35: 2) وفي السير (في الكبرى) ، عن محمد بن آدم، عن عبدة به.

ص: 1103

و (في الكبرى) عن الحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك به. ق في الزهد (12: 5) ، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبدة به. وبعضهم يزيد على بعض الحديث. ووقع في بعض النسخ المتأخرة من ت: عن هشام بن عروة عن (أبيه) ، عن وهب بن كيسان. وهو وهم.

وفي عدة من الأصول العتيقة: عن هشام بن عروة، عن وهب بن كيسان، ليس فيه (عن أبيه) ، وهو الصواب، كما في رواية الباقين. وقد رواه أيضًا جميع مدوني السير، مثل ابن هشام، وأورده الذهبي مختصرًا في (سير أعلام النبلاء. ج:1. ص: 20. ترجمة: 1) . وأحال المعلق على سيرة ابن هشام (ج: 2. ص: 632، 633) .

فهذا إجماع مقطوع به من الصحابة رضي الله عنهم لا مخالف لهم منهم. وصح أن الشعبي ومجاهد وطاوس وغيرهم كلهم يقولون: في المال حق سوى الزكاة. وما نعلم من أحد منهم خلافا في هذا إلا عن الضحاك بن مزاحم، فإنه قال: نسخت الزكاة كل حق في المال. وما رواية الضحاك حجة

قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف. ج: 3. ص: 186) : حدثنا وكيع، عن سلمة، عن الضحاك قال: نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن. وقال أبو عبيد (الأموال. ص: 499. الأثر: 930) : حدثنا مروان بن معاوية، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم قال: نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن. وقال ابن زنجويه (الأموال. ج: 2. ص: 792) : أخبرنا أبو نعيم، أخبرنا سلمة بن نبيط، عن الضحاك قال: نسخت الزكاة كل شيء في القرآن من الصدقة. أما قول ابن حزم يغفر الله له: (وما رواية الضحاك حجة فكيف رأيه؟) ، فإنما هو من بعض نزواته، وما أكثرها، يغفر الله له، ولئن كان بعضها مقبولًا، فإن منها ما كنا نود أن لو تحرج منه، فهو لا يتسق مع مثله من صدور العلماء والأئمة في التحقيق والاجتهاد، ولكن (جل من لعب فيه) ، ذلك بأن الضحاك بن مزاحم الهلالي رحمه الله أحد الصدور الأجلاء تكلموا في روايته، عن ابن عباس، واضطربت الرواية عنه في أنه رآه أو لم يره، وإنما يروي حديثه تدليسًا إذا أخذه عن سعيد بن جبير، ولكن ذلك لا يغمز في علمه وورعه، ولا ينزل به على أن يكون حجة. قال الذهبي رحمه الله (سير أعلام النبلاء. ج:4. ص: 598. ترجمة: 238) : الضحاك بن مزاحم الهلالي أبو محمد، وقيل: أبو القاسم صاحب التفسير، كان من أوعية العلم، وليس بالمجود لحديثه، وهو صدوق في نفسه. ثم قال: حدث عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري وابن عمر وأنس بن مالك وعن الأسود وسعيد بن جبير وعطاء وطاوس وطائفة، وبعضهم يقول: لم يلق ابن عباس، والله أعلم.

ص: 1104

حدث عنه عمارة بن أبي حفصة وأبو سعد البقال وجويبر بن سعيد ومقاتل وعلي بن الحكم وأبو روق عطية وأبو جنب الكلبي يحيى بن أبي حية ونهشل بن سعيد وعمرو بن الرماح وعبد العزيز بن أبي الرواد وقرة بن خالد وآخرون.

وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهما، وحديثه في السنن، لا في الصحيحين. وقد ضعفه يحيى بن سعيد، وقيل: كان يدلس، وقيل: كان فقيه مكتب كبير إلى الغاية، فيه ثلاثة آلاف صبي، فكان يركب حمارًا، ويدور على الصبيان، وله باع كبير في التفسير والقصص. قال سفيان الثوري: كان الضحاك يعلم ولا يأخذ أجرًا. ثم ذكر الروايات المختلفة عنه حول رؤيته لابن عباس. ونقل قول القطان: الضحاك عندنا ضعيف. وذكر ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 4. ص: 453. ترجمة: 784) أن البخاري علق عنه في كتاب اللعان عند تفسير قوله تعالى: {ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} . وفي تفسير سورة الرحمن. ونقل عن أبي نعيم قوله: مات سنة خمس ومائة، كما نقل توثيق العجلي والدارقطني له. قلت: ورجل من هذا الطراز من كبار التابعين لا ينبغي لامرئ أيا كان ومهما يبلغ من العلم والاجتهاد والرأي أن يتقول فيه إلا خيرًا، فما الذي يبقى لطالب العلم وطالب الحق من أسباب إلى ما يطلب إذا سمحنا لأنفسنا بالغمز في هؤلاء الأقطاب، ومرة أخرى يغفر الله لابن حزم.

فكيف رأيه؟!.

والعجب أن المحتج بهذا أول مخالف له، فيرى في المال حقوقًا سوى الزكاة، منها النفقات على الأبوين المحتاجين، وعلى الزوجة وعلى الرقيق، وعلى الحيوان والديون، فظهر تناقضهم.

فإن قيل: فقد رويتم عن ابن أبي شيبة: حدثنا أبو الأحوص، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: من أدى زكاة ماله، فليس عليه جناح أن لا يتصدق (1)

(1) قال ابن شيبة (الكتاب المصنف. ج: 3. ص: 191) : حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: من أدى زكاة ماله، فليس عليه جناح أن يتصدق. وقال البيهقي (السنن الكبرى. ج:4. ص: 133) : أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أنبأنا أبو منصور النضروي، حدثنا أحمد بن نجدة، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: من أدى زكاة ماله، فلا جناح عليه أن لا يتصدق.

ص: 1105

ومن طريق الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس في قوله تعالى:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} نسختها العشر ونصف العشر قال ابن أبي شيبة: (الكتاب المصنف. ج: 3. ص: 186) : حدثنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} نسختها العشر ونصف العشر. وقال ابن زنجويه (الأموال. ج:2. ص: 494 الأثر: 1375) : حدثنا يحيى، أخبرنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن مقسم، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} - سورة الأنعام الآية رقم (141) - قال: العشر ونصف العشر. وقال أبو يوسف (الخراج. ص: 56) : حدثنا الحجاج بن أرطاة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن عبد الله بن عباس في قول الله عز وجل:{وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال: العشر ونصف العشر. وقال يحيى بن آدم (الخراج. ص: 123. الأثر: 398) : حدثنا معاوية، عن حجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس في قوله:{وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال: العشر ونصف العشر. وقال الطبري (جامع البيان. ج: 8. ص: 43) : حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: نسخها العشر ونصف العشر. وقال البيهقي (ج: 4. ص: 132) : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر بن الحسن وأبو سعيد بن أبي عمرو، وقالوا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا الحسن بن علي بن عفان، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس في قوله تعالى:{وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال: العشر ونصف العشر. كان ابن حزم يغفر الله له، له أن يتخير كلمة أدنى إلى اللياقة من كلمة (ساقطة) في وصف رواية مقسم، لأن مقسم روى عنه البخاري والأربعة، وإن تكلم فيه البعض على أن كلامهم لم يبلغ درجة (الإسقاط)، وغاية أمره ما نقله ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج:10. ص: 188 وما بعدها. ترجمة: 507) عن الساجي من قوله: (تكلم الناس في بعض رواياته، ومن ارتياب البعض أو إنكارهم في سماعه عن بعض الصحابة مثل أمهات المؤمنين أم سلمة وميمونة وعائشة، وقد ضعفه بعضهم؛ لأنه كان يقرأ من كتاب، أو على حد تعبيرهم في (مصحف) ، وكان ذلك يومئذ عندهم مغمزًا. وكان الأولى لابن حزم أن يقف عند سماع الحكم عن مقسم، فقد شككوا في معظم سماعه منه، حتى قال أحمد: لم يسمع الحكم من مقسم إلا أربعة أحاديث، وأما غير ذلك فأخذها من كتاب.

ص: 1106

وشكك شعبة أيضًا في بعض سماعات الحكم من مقسم. على أن الحكم روى عنه الجماعة، وكان من أوعية العلم، فلا ضير عليه أن يكون أخذ شيئًا من حديث مقسم من كتاب ثبت لديه أن ما ورد فيه عن مقسم صحيح، وقد يكون ناوله مقسم نفسه ذلك الكتاب، ويغفر الله لابن حزم، فلو ذهبنا مع تشكيكه وتشنجاته في بعض ما يروى وما ينقد، لفاتنا علم كثير. ثم إن مقسمًا لم ينفرد برواية هذا الأثر عن ابن عباس، بل رواه عنه أيضًا الحكم مباشرة من غير وساطة مقسم. قال يحيى بن آدم (الخراج. ص:124. الأثر: 397) : حدثنا حفص بن غياث، عن الحجاج، عن الحكم، عن ابن عباس في قوله: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال: نسختها العشر ونصف العشر. قلت لحفص في ما يختلف فيه المعنى، فسكت، قلت له: فسمعته يذكر فيه مقسم؟ قال: لا. ومع أننا لا نذهب في تأويل هذه الآية مذهب ابن عباس مما رواه الحكم مباشرة أو بواسطة مقسم، فإننا نتحرج أشد التحرج من أن نغمز في رواية الحكم أو مقسم لمجرد أن نعضد رأينا بالتشكيك فيما روى من غير رأينا، وإن كان ابن عباس، فابن عباس حبر الأمة ومن أكابر علماء الصحابة وعلى أقصى درجات الجلال والوقار، بيد أن رأيه مهما يبلغ إجلالنا وتوقيرنا له رأي بشر ما لم يأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحسبنا ذلك لنقول له: لك رأيك، بيد أننا لسنا ملزمين به، أما كان هذا الموقف أولى بابن حزم؟ يغفر الله لنا وله.

فإن رواية مقسم ساقطة لضعفه

وليس فيها - لو صحت - خلاف لقولنا.

ص: 1107

وأما رواية عكرمة، فإنما هي أن لا يتصدق تطوعًا، وهذا صحيح. وأما القيام بالمجهود، ففرض ودين، وليس صدقة تطوع.

ويقولون: من عطش فخاف الموت، ففرض عليه أن يأخذ الماء حيث وجده، وأن يقاتل عليه. فأي فرق بين ما أباحوا له من القتال على ما يدفع به عن نفسه الموت من العطش وبين ما منعوه منه من القتال عن نفسه فيما يدفع به عنها الموت من الجوع أو العري؟! وهذا خلاف الإجماع والقرآن والسنن والقياس.

ولا يحل لمسلم اضطر أن يأكل ميتة أو لحم خنزير وهو يجد طعامًا فيه فضل عن صاحبه أو لذمي، لأن فرضًا على صاحب الطعام إطعام الجائع، فإذا كان ذلك كذلك، فليس بمضطر إلى الميتة، ولا إلى لحم الخنزير، وبالله تعالى التوفيق.

وله أن يقاتل على ذلك، فإن قتل، فعلى قاتله القود، وإن قتل المانع، فإلى لعنة الله؛ لأنه منع حقا، وهو طائفة باغية، قال تعالى:{فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهِ} (1) وما يمنع الحق باغ على أخيه الذي له الحق، وبهذا قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه مانع الزكاة، وبالله تعالى التوفيق.

قلت: لم أقف في هذا الشأن على تحقيق جامع شامل مثل هذا الذي دَبَّجه ابن حزم رحمه الله لذلك نقلته بكامله، وإن يكن على بعض الطول، وأحسبه يغني عن أي تحقيق آخر لأي فقيه غير ابن حزم، كذلك ننطلق منه إلى استئناف ما كنا بصدده من اقتباس آراء وروايات أئمة التفسير.

وقال ابن عطية (2) وقوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} الآية، هذه كلها حقوق في المال سوى الزكاة، وبها كمال البر، وقيل: هي الزكاة. ثم قال بعد أن ذكر قوله تعالى: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} . وذكر الزكاة هنا دليل على أن ما تقدم ليس الزكاة المفروضة.

وقال القرطبي (3) قوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} . استدل به من قال: إن في المال حقا سوى الزكاة، وبها كمال البر، وقيل: المراد الزكاة المفروضة، والأول أصح، لما أخرجه الدارقطني (4) عن فاطمة بنت قيس قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن في المال حقا غير الزكاة)) .

(1) الآية رقم: (9) من سورة الحجرات.

(2)

المحرر الوجيز. ج: 2. ص: 56 وما بعدها.

(3)

الجامع لأحكام القرآن. ج: 2. ص: 241 وما بعدها.

(4)

لم نقف عليه في مظانه ولعل هذا من أوهام السيوطي.

ص: 1108

ثم تلا هذه الآية: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} إلى آخر الآية. وأخرجه ابن ماجه في سننه والترمذي في جامعه، وقال: هذا حديث ليس إسناده بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور يضعف، وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله: وهو أصح. قلت - القائل القرطبي -: والحديث وإن كان فيه مقال، فقد دل على صحته معنى ما في هذه الآية نفسها من قوله تعالى:{وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} ، فذكر الزكاة مع الصلاة، وذلك دليل على أن المراد بقوله:{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} ليس الزكاة المفروضة، فإن ذلك كاد يكون تكرارًا، والله أعلم، واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة، فإنه يجب صرف المال إليها، قال مالك رحمه الله: يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم (1) وهذا إجماع أيضًا، وهو يقوي ما اخترناه، والموفق الإله.

وقال ابن حيان الأندلسي (2) بعد أن ذكر أقوال بعض المفسرين في تأويل هذه الآية وضعفها: وقيل: هو حق واجب غير الزكاة. قال الشعبي: (إن في المال حقا سوى الزكاة) وتلا هذه الآية، وقيل: رفع الحاجات الضرورية مثل إطعام الطعام للمضطر. فأما ما روي على أن الزكاة نسخت كل حق، فيحمل على الحقوق المقدرة، أما ما لا يكون مقدرًا، فغير منسوخ، فدليل وجوب التصدق عند الضروري ووجوب النفقة على الأقارب وعلى المملوك، وذلك كله غير مقدر.

وقال الرازي (3) في معرض تفسير هذه الآية: (المسألة الثانية: اختلفوا في المراد من هذا الإيتاء، فقال قوم: إنها الزكاة. وهذا ضعيف؛ وذلك لأنه تعالى عطف الزكاة عليه بقوله: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} . ومن حق المعطوف والمعطوف عليه أن يتغايرا، فثبت أن المراد به غير الزكاة، ثم إنه لا يخلو إما أن يكون من التطوعات أو من الواجبات، لا جائز أن يكون من التطوعات؛ لأنه تعالى قال في آخر الآية:{أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . وقف التقوى عليه، ولو كان ذلك ندبًا، لما وقف التقوى عليه.

(1) لم أقف على هذا الأثر عن مالك في مظانه من الموطأ (رواية يحيى بن يحيى) ولا من المدونة.

(2)

البحر المحيط. ج: 2. ص: 5.

(3)

التفسير الكبير. ج: 3. ص: 43 وما بعدها.

ص: 1109

فثبت أن هذا الإيتاء وإن كان غير الزكاة، إلا أنه من الواجبات، ثم فيه قولان: القول الأول: أنه عبارة عن دفع الحاجات الضرورية، مثل إطعام المضطر، ومما يدل على تحقق هذا الوجوب النص والمعقول. أما النص فقوله عليه الصلاة

والسلام: ((لا يؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانا وجاره طاو إلى جنبه)) (1)

وروي عن فاطمة بنت قيس: أن في المال حقًا سوى الزكاة، ثم تلت:{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} . وحكي عن الشعبي أنه سئل عمن له مال فأدى زكاته، فهل عليه شيء سواه؟ فقال: نعم، يصل القرابة، ويعطي السائل، ثم تلا هذه الآية.

وأما العقل فإنه لا خلاف أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة وجب على الناس أن يعطوه مقدار دفع الضرورة، ولم تكن الزكاة واجبة عليهم، ولو امتنعوا من الإعطاء جاز الأخذ منهم قهرًا، فهذا يدل على أن هذا الإيتاء واجب.

واحتج من طعن في هذا القول بما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: إن الزكاة نسخت كل حق (2) والجواب من وجوه:

الأول: أنه معارض بما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((في المال حقوق سوى الزكاة)) (3) وقول الرسول صلى الله عليه وسلم أولى من قول علي.

والثاني: أجمعت على أنه إذا حضر المضطر، فإنه يجب أن يدفع إليه ما يدفع الضرر، وإن كان قد أدى الزكاة بالكمال.

الثالث: المراد أن الزكاة نسخت الحقوق المقدرة، أما الذي لا يكون مقدرًا، فإنه غير منسوخ، بدليل أنه يلزم التصدق عن الضرورة، ويلزم النفقة على الأقارب وعلى المملوك، وذلك غير مقدر، فإن قيل: هب أنه صح هذا التأويل، ولكن ما الحكمة في هذا الترتيب؟ قلنا: فيه وجوه:

أحدها: أنه تعالى قدم الأولى فالأولى؛ لأن الفقير إذا كان قريبًا، فهو أولى بالصدقة من غيره، من حيث إنه يكون ذلك جامعًا بين الصلة والصدقة، ولأن القرابة من أوكد الوجوه في صرف المال إليه، وذلك يستحق به الإرث ويحجر بسببه على المالك في الوصية حتى لا يتمكن من الوصية إلا في الثلث، ولذلك كانت الوصية للأقارب من الواجبات على ما قال:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} (4) الآية.

(1) لم نقف على تخريج لهذا الحديث في مدونات السنة المعتمدة ولا في غيرها.

(2)

لم أفف على هذا الأثر في مظانه.

(3)

انظر مثلًا حديث فاطمة بنت قيس الذي نقلناه آنفًا وما شاكله.

(4)

البقرة الآية رقم: (180) .

ص: 1110

وإن كانت تلك الوصية قد صدرت منسوخة عند بعضهم، فلهذه الوجوه قدم ذا القربى، ثم أتبعه تعالى باليتامى؛ لأن الصغير الفقير الذي لا والد له ولا كاسب، فهو منقطع الحيلة من كل الوجوه، ثم أتبعهم تعالى بذكر المساكين؛ لأن الحاجة قد تشتد بهم، ثم ذكر ابن السبيل، إذ قد تشتد حاجته عند اشتداد رغبته إلى أهله، ثم ذكر السائلين وفي الرقاب؛ لأن حاجتهما دون حاجة من تقدم ذكره.

ثانيها: أن معرفة المرء بشدة حاجة هذه الفُرق تقوى وتضعف، فرتب تعالى ذكر هذه الفُرُق على هذا الوجه؛ لأن علمه بشدة حاجة من يقرب إليه أقرب، ثم بحاجة الأيتام، ثم بحاجة المساكين، ثم على هذا النسق.

وثالثها: أن ذا القربى مسكين وله صفة زائدة تخصه؛ لأن شدة الحاجة فيه تغمه وتؤذي قلبه، ودفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير، فلذلك بدأ الله تعالى بذي القربى ثم باليتامى، وأخر المساكين؛ لأن الغمّ الحاصل بسبب عجز الصغار عن الطعام والشراب من الغم الحاصل بسبب عجز الكبار عن تحصيلها، فأما ابن السبيل فقد يكون غنيا وقد تشتد حاجته في الوقت، والسائل قد يكون غنيا ويظهر شدة الحاجة، وأخر المكاتب؛ لأن إزالة الرق ليست في محل الحاجة الشديدة.

والقول الثاني: لأن المراد بإيتاء المال ما روي عنه عليه الصلاة والسلام عند ذكره الإبل، قال:((إن فيها حقا هو إطراق فحلها وإعارة دلوها)) (1) وهذا بعيد؛ لأن الحاجة إلى إطراق الفحل أمر لا يختص به ابن السبيل والمكاتب.

القول الثالث: أن إيتاء المال إلى هؤلاء كان واجبًا، ثم إنه صار منسوخًا بالزكاة، وهذا أيضًا ضعيف؛ لأنه تعالى جمع في هذه الآية بين هذا الإيتاء وبين الزكاة.

وقال ابن تيمية (2) في معرض بيان قاعدة (أن جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهي عنه، وأن جنس ترك المأمور به أعظم من جنس فعل المنهي عنه، وأن مثوبة بني آدم على أداء الواجبات أعظم من مثوباتهم على ترك المحرمات، وأن عقوبتهم على ترك الواجبات أعظم من عقوباتهم على فعل المحرمات) .

(1) تقدم آنفًا من إخراج ابن عبد البر.

(2)

مجموع الفتاوى. ج: 20. ص: 132 وما بعدها.

ص: 1111

وذكر لبيان ذلك وجوهًا، وعند شرح الوجه الحادي والعشرين منها قال: وقد قال الله تعالى في أكبر سورة في القرآن: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (1) إلى آخرها، فوصف المتقين بفعل المأمور به من الإيمإن والعمل الصالح من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وقال:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . وقال: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} .

وهذه الآية عظيمة وجليلة القدر من أعظم آي القرآن وأجمعه لأمر الدين، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن خصال الإيمان فنزلت. وفي الترمذي عن فاطمة بنت قيس عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:((إن في المال حقا سوى الزكاة)) وقرأ هذه الآية، وقد دلت على أمور:

أحدها: أنه أخبر أن الفاعلين لهذه الأمور هم المتقون، وعامة فعل هذه الأمور مأمور به.

الثاني: أنه أخبر أن هذه الأمور هي البر وأهله هم الصادقون، يعني في قوله:(آمنا) ، وعامتها أمور وجودية هي أفعال مأمور بها، فعلم أن المأمور به أدخلوا في البر والتقوى والإيمان من عدم المنهي عنه وبهذه الأسماء الثلاثة استحقت الجنة، كما قال تعالى:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (2)، وقال:{أم نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (3){إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} (4) وقال: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} (5) ، وهذه الخصال المذكورة في الآية قد دلت على وجوبها؛ لأنه أخبر بأن أهلها هم الذين سبقوا في قولهم وهم المتقون، والصدق واجب، والإيمان واجب بإيجاب حقوق سوى الزكاة، وقوله:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} (6)

(1) الآيتان رقم: (1) و (2) من سورة البقرة.

(2)

الآيتان رقم: (13) و (14) من سورة الانفطار.

(3)

الآية رقم: (28) من سورة ص.

(4)

الآيتان رقم: (54) من سورة القمر.

(5)

الآية رقم: (18) من سورة السجدة.

(6)

الآية رقم: (20) من سورة المزمل.

ص: 1112

وقوله لبني إسرائيل: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} . (1)

وقوله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (2) وقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وقوله: {وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} (3) في (سبحان) و (الروم)، فإتيان ذي القربى حقه: صلة الرحم، والمسكين: إطعام الجائع، وابن السبيل: قرى الضيف، وفي الرقاب: فكاك العاني، واليتيم نوع من إطعام الفقير.

وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((عودوا المريض، وأطعمو االجائع، وفكوا العاني)) قال البخاري (ج: 6. ص: 143) : حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن سفيان، قال: حدثني منصور، عن أبي وائل، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فكوا العاني، وأجيبوا الداعي، وعودوا المريض. وقال:(ج: 6. ص: 195) : حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن منصور، عن أبي وائل، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني. وقال (ج:7. ص:3 و4) : حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا أبو عوانة، عن منصور، عن أبي وائل، عن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني. لكن البخاري لم ينفرد بهذا الحديث، فقد ذكره المزي في (تحفة الأشراف. ج:6. ص: 418) أن الحديث رواه أيضًا أبو داود والنسائي، وهذا تخريجه بنصه: حديث: (فكوا العاني وأطعموا الجائع وعودوا المريض) . خ الأطعمة (1: 1) عن محمد بن كثير. وفي النكاح (72: 2) وفي الأحكام (23) عن مسدد، عن يحيى، كلاهما عن سفيان. وفي الجهاد (170: 2) عن قتيبة، عن جرير. وفي الطب (بل في المرضى 4: 1) عن قتيبة، عن أبي عوانة، ثلاثتهم عن منصورعنه به، ك. د في الجنائز (11: 2) عن محمد بن كثير به. س. في السير (الكبرى 63) وفي الطب ك (الكبرى 8: 1) عن قتيبة، عن أبي عوانة به.

وفي الطب (8: 1) عن محمود بن غيلان بن وكيع وبشر بن السري جميعًا عن سفيان به. ك حديث في رواية ابن العبد وابن داسة، وحديث محمود بن غيلان ليس في الرواية ولم يذكرهما أبو القاسم.

وفي الحديث الذي أفتى به أحمد: لو صدق السائل ما أفلح من رده (4)

وقال محمد عبده (5) عند شرحه للآية: ومشروعية البدل لهذه الأصناف من غير مال الزكاة لا تتقيد بزمن ولا بامتلاك نصاب محدود، ولا يكون المبذول مقدارًا معينًا بالنسبة إلى ما يملك، ككونه عشرًا أو ربع العشر أو عشر العشر، وإنما هو أمر مطلق بالإحسان موكول إلى أريحية المعطي وحالة المعطى، ووقاية الإنسان المحترم من الهلاك والتلف واجبة على من قدر عليها، وما زاد على ذلك فلا تقدير له، وقد أغفل أكثر الناس هذه الحقوق العامة التي حث عليها الكتاب العزيز، لما فيها من الحياة الاشتراكية المعتدلة الشريفة، فلا يكادون يبذلون شيئًا لهؤلاء المحتاجين إلا القليل النادر لبعض السائلين وهم في هذا الزمان أقل الناس استحقاقًا؛ لأنهم اتخذوا السؤال حرفة، وأكثرهم واجدون، ولو أقاموها لكان حال المسلمين في معايشهم خيرًا من سائر الأمم، ولكان هذا من أسباب دخول الناس في الإسلام، وتفضيله على جميع ما يتصور الباحثون من مذاهب الاشتراكيين والماليين.

وقال محمد الطاهر بن عاشور (6) بعد أن أفاض في إيضاح الجوانب اللغوية والنحوية والبيانية من نظم الآية الكريمة كعادته: الإيمان وإقام الصلاة هما منبع الفضائل الفردية؛ لأنهما ينبثق عنهما سائر التحليات المأمور بها، والزكاة وإيتاء المال أصل نظام الجماعة صغيرها وكبيرها، والمواساة تقوى (عنها)(7) الأخوة والاتحاد وتسدد مصالح للأمة كثيرة، وببذل المال في الرقاب يتعزز جانب الحرية المطلوبة للشارع حتى يصير الناس كلهم أحرارًا، والوفاء بالعهد فيه فضيلة فردية، وهي عنوان كمال النفس، وفضيلة اجتماعية، وهي ثقة الناس بعضهم ببعض، والصبر في جماع الفضائل وشجاعة الأمة، ولذلك قال الله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} فحصر فيهم الصدق والتقوى حصرًا ادعائيا للمبالغة (8)

(1) الآية رقم: (12) من سورة المائدة.

(2)

الآية رقم: (92) من سورة آل عمران.

(3)

الآية رقم: (26) من سورة الإسراء.

(4)

لم نقف على حديث بهذا اللفظ. في مظانه.

(5)

تفسير المنار. ج 2. ص: 117.

(6)

التحرير والتنوير. ج: 2. ص 132.

(7)

لعل في العبارة خطأ مطبعيًا صوابه: تقوى منها.

(8)

يغفر الله لأستاذنا، فلسنا نتفق معه في أن الحصر كان (ادعائيا للمبالغة) ، بل هو حصر تشريعي لبيان الحكم وضبط معالمه وشروطه التي لا يتأتى إلا بها، وهذا ما تدل عليه الآية الكريمة وآيات غيرها أورد بعضها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيما نقلنا عنه آنفًا.

ص: 1113

ودلت على أن المسلمين قد تحقق فيهم معنى البر، وفيه تعريض بأن أهل الكتاب لم يتحقق فيهم؛ لأنهم لم يؤمنوا ببعض الملائكة وبعض النبيين، ولأنهم حرموا كثيرًا من الناس حقوقهم، ولم يفوا بالعهد، ولم يصبروا، وفيها أيضا تعريض بالمشركين، إذ لم يؤمنوا باليوم الآخر والنبيين والكتب، وسلبوا اليتامى أموالهم ولم يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة.

وفي قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) وقوله: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (2)

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (3)

تواضع جمهور المفسرين على تأويل هذه الآيات في إطار من المفهوم الفردي لدلالاتها وحتى أولئك الذين عرضوا لاحتمال أن يكون المقصود من المخاطبين الذين أضيفت الأموال إليهم جمعًا مجموع المسلمين أو الأمة الإسلامية كافة، كان تصورهم بهذا الاحتمال منطلقًا من اعتبار الجماعة أو الأمة الإسلامية مجرد مجموعة أفراد دون أن يلحظوا أن المجتمع الإسلامي كثيرًا ما يعتبره الشرع كيانًا متميزًا أو - حسب التعبير الحديث - شخصية معنوية ويوجه إليه الخطاب بناء على هذا الاعتبار، وإن كان من الممكن أن نلمح عند التأمل ظلالًا غير واضحة لهذا التصور عند بعضهم، وكلما تقدم الزمن وتطورت المؤثرات المعاشية والحضارية ازداد هذا التصور وضوحًا لدى من يعايشون أطوار ذلك التقدم ومراحله.

وقد آثرنا أن ندرج صفايا أقوالهم وإن ابتعد معظمها عن وجهتنا وما نراه متسقًا مع ما نسميه (مناط التشريع الإسلامي في المجال المالي باعتباره مجالًا اجتماعيًا أولًا ثم فرديًا بالتبعية) صدقًا مع المنهج العلمي القاضي بعرض جميع جوانب الموضوع الذي يتناوله البحث وجميع الآراء والتصورات المحيطة به ليتسنى تقييم ما يصير إليه الباحث من نتائج على هدي من استكمال العناصر ووضوح المسار واجتلاء مرجحات الاختيار وتيسيرًا للقارئ أن يوازن ويصدر حكمه إن كان مؤهلًا للحكم دون الحاجة إلى مراجعة المصادر التي اعتمدناها إلا أن يريد التثبت أو يتوخى المزيد من الإحاطة لما قد يكون اقتصرنا في نقله على ما اعتبرناه - بتقدير علمي مجرد - الخلاصة والصفوة لرأي أو اتجاه، فاقتصرنا على نقله، وأحلنا إلى مصدره من يريد المزيد من الاستقراء.

(1) الآية رقم: (188) من سورة البقرة.

(2)

الآية رقم: (5) من سورة النساء.

(3)

الآية رقم: (29) من سورة النساء.

ص: 1114

ففي آية سورة البقرة: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} الآية، يقول ابن عطية (1) الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض. فأضيفت الأموال إلى ضمير المنهي، لما كان كل واحد منهيًا عنه، وكما قال:{تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} (2)

وقال القرطبي (3) : الخطاب بهذه الآية يتضمن جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض. ثم قال: وأضيفت الأموال إلى ضمير المنهي لما كان كل واحد منهما منهيًا ومنهيًا عنه، كما قال:{تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} .

وقال ابن حيان (4) : وهذا الخطاب والنهي للمؤمنين وإضافة الأموال إلى المخاطبين، والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض، كقوله:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} أي: لا يقتل بعضكم بعضًا، فالضمير الذي للخطاب يصح لكل واحد ممن حقه أن يكون منهيًا ومنهيًا عنه وآكلًا ومأكولًا منه، فخلط الضمير بهذه الصلاحية، وكما يحرم بأن يأكل، يحرم بأن يؤكل غيره. فليست الإضافة إذ ذاك للمالكين حقيقة، بل هي من باب الإضافة بالملابسة، وأجاز قوم الإضافة للمالكين.

وقال ابن العربي (5) معنى: لا يأكل بعضكم مال بعض، كما قال تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ، وكقوله تعالى:{فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} (6)

(1) المحرر الوجيز. ج: 2. ص: 96.

(2)

الآية رقم: (85) .

(3)

الجامع لأحكام القرآن. ج: 2. ص: 397.

(4)

البحر المحيط. ج: 2. ص: 55.

(5)

أحكام القرآن. ج: 1. ص: 97.

(6)

الآية رقم: (61) من سورة النور.

ص: 1115

المعنى: لا يقتل بعضكم بعضا، وليسلم بعضكم على بعض، ووجه هذا الامتزاج أن أخا المسلم كنفسه في الحرمة، والدليل عليه الأثر والنظر، أما الأثر فقوله عليه السلام:((مثل المسلمين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو منه، تداعى سائره بالحمى والسهر)) الحديث رواه الشعبي عن النعمان بن بشير. وأخرجه كل من البخاري ومسلم. وقال المزي (تحفة الأشراف. ج: 9. ص: 24. ح: 11627) : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد

)) الحديث. خ في الأدب (27: 4) عن أبي نعيم، عن زكرياء، عن الشعبي به. م في (الأدب 17: 2) عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن أبيه، عن زكرياء به. و (17: 5) عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي سعيد الأشج، كلاهما عن وكيع، و (17: 5) عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي، كلاهما عن الأعمش. و (17: 3) عن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير، عن مطرف، كلاهما عن الشعبي، رواه الأعمش عن خيثمة أيضًا، عن النعمان بن بشير، وقد مضى (11618) . ورواه أحمد (المسند. ج:4. ص: 270) : حدثنا يحيى بن سعيد، عن زكرياء قال: حدثنا عامر، قال: سمعت النعمان بن بشير يخطب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه شيء، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) . الحديث، حدثنا أبو نعيم، حدثنا زكرياء، قال: سمعت عامر يقول: سمعت النعمان بن بشير يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل المؤمنين

فذكر الحديث. وقال (المسند. ص: 274) : حدثنا يونس وسريج، قالا: حدثنا حماد، عن سماك بن حرب، عن النعمان بن بشير، أن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال سريج في حديثه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((مثل المؤمنين كمثل الجسد إذا تألم بعضه تداعى سائره)) . وقال ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 1. ص: 228. 233) : أخبرنا ابن قحطبة، حدثنا محمد بن

الصباح، حدثنا عبيدة بن حميد، عن الحسن بن عبيد الله النخعي، عن الشعبي قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مثل المؤمنين كمثل الجسد، إذا اشتكى منه شيء، تداعى له سائر الجسد)) .

ص: 1116

وقال الشهاب القضاعي (مسند شهاب. ص: 283 و284. ح: 1366 و1367 و1368) : أخبرنا عبد الرحمن بن عمر البزار، أنبأنا أبو يوسف أحمد بن محمد بن الأعرابي، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا بنجاب، حدثنا أبو عامر الأسعدي، حدثنا موسى بن عبد الملك بن عمير، عن أبيه قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد، إذا اشتكى بعضه، تداعى سائره بالسهر والحمى)) ، أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد الأدفوي، أخبرنا أبو الطيب أحمد بن سليمان الجريري إجازة، حدثنا أبو جعفر الطبري، حدثنا ابن حميد وأبو وكيع، قالا: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كالجسد، إذا اشتكى منه شيء، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) .

أخبرنا محمد بن الحسين النيسابوري، أخبرنا القاضي أبو طاهر، حدثنا موسى بن هارون، حدثنا جعفر بن حميد، حدثنا الوليد بن أبي ثور، عن عبد الملك بن عمير، عن النعمان بن بشير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إنما مثل المسلمين في تواصلهم وتراحمهم والذي جعل الله بينهم مثل الجسد إذا وجع بعضه وجع كله بالسهر والحمى)) . وقال البيهقي (السنن الكبرى. ج: 3. ص: 353) : أخبرنا الحسن بن بشران العدل ببغداد، أنبأنا جعفر بن محمد بن عمرو الرزاز ، حدثنا محمد بن عبيد الله، حدثنا إسحاق الأزرق، حدثنا زكرياء بن أبي زائدة، عن الشعبي، عن المنهال، عن النعمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالسهر والحمى)) . وقد رأينا نقل ألفاظ وأسانيد غير البخاري ومسلم لما في بعضها من التغاير عن بعض صيغة وزيادة ونقصًا.

وأما النظر فإن رقية الجنسية تقتضيه وشفقة الآدمية تستدعيه.

وقال محمد عبده (1) : الخطاب لعامة المكلفين، والمراد أن لا يأكل بعضكم مال بعض، واختار لفظ أموالكم، وهو يصدق بأكل الإنسان مال نفسه للإشعار بوحدة الأمة وتكافئها، وللتنبيه على أن احترام مال غيرك وحفظه هو عين الاحترام والحفظ لمالك؛ لأن استحلال التعدي وأخذ بغير حق يعرض كل مال للضياع والذهاب ففي هذه الإضافة اللطيفة تعليل للنهي وبيان لحكمة الحكم كأنه قال: لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل؛ لأن ذلك جناية على نفس الآكل من حيث هو جناية على الأمة التي هو أحد أعضائها، لا بد أن يصيبه معهم من كل جناية تقع عليهم، فهو باستحلاله مال غيره يجرئ غيره على استحلال أكل ماله عند الاستطاعة.

وقال محمد الطاهر بن عاشور (2) : الضمائر في مثل: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} إلى آخر الآية، عامة بجميع المسلمين، وفعل (ولا تأكلوا) واقع في حيز النهي، فهو عام، فأفاد ذلك نهيًا لجميع المسلمين من كل أكل وفي جميع الأموال. قلنا: هنا جمعان، جمع الآكلين، وجمع الأموال المأكولة، واذا تقابل جمعان في كلام العرب احتمل أن يكون من مقابلة كل فرد من أفراد الجمع بكل فرد من أفراد الجمع الآخر على التوزيع نحو: ركب القوم دوابهم. وقوله تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} (3){قُوا أَنْفُسَكُمْ} (4) واحتمل أن يكون كذلك، لكن على معنى أن كل فرد يقابل بفرد غيره لا بفرد نفسه نحو قوله:{وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} (5) قوله: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} ، واحتمل أن يكون من مقابلة كل فرد بجميع الأفراد نحو قوله:{وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} (6) ، والتعويل في ذلك على القرائن، وقد علم أن هذين الجمعين هنا من النوع الثاني، أي: لا يأكل بعضهم مال بعض آخر بالباطل بقرينة قوله: {بينكم} ، لأن (بين) تقتضي توسطًا خلال طرفين، فعلم أن الطرفين آكل ومأكول منه، والمال بينهما، فلزم أن يكون الآكل غير المأكول، وإلا لما كانت فائدة لقوله:{بينكم} .

قلت: وماذا يقول أستاذنا رحمه الله في مثل قول القائل: (أجلسوا فلانًا بينكم) أو: (اقسموا هذا بينكم) ، فليس في المثالين ما يشبه آكل ومأكول منه، بل إن كلا منهما يخاطب طرفين في وضع متساو، وهذا هو المعنى الذي نرتئيه ونرتضيه في قوله سبحانه وتعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ، فبينكم ليست قرينة التغاير الذي يعني فاعلًا ومفعولًا، وإنما هي قرينة التغاير الذي يعني التمايز والتعدد، وشتان بين التغاير في الأمرين، فليتأمل.

أما في قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} ففي ذلك قال القرطبي (7) : حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، قال: حدثنا ابن المبارك، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي مالك: أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا، التي هي قوامك بعد الله.

(1) الهامش ساقط من الأصل (المجلة) .

(2)

التحرير والتنوير. ج: 2. ص: 189.

(3)

الآية رقم: (102) من سورة النساء.

(4)

الآية: (6) سورة التحريم.

(5)

الآية: (11) سورة الحجرات.

(6)

الآية: 7 سورة المؤمنون.

(7)

جامع البيان: ج: 4. ص: 167.

ص: 1117

حدثنا أحمد بن الفضل، حدثنا أسباط، عن السدي: أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا، فإن المال هو قيام الناس وقوام معايشهم، يقول: كنت أنت قيم أهلك، فلا تعطي امرأتك مالك، فيكونوا هم الذين يقومون عليك.

حدثني المثني، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} ، يقول الله سبحانه: لا تعمد إلى مالك وما خولك الله وجعله للمعيشة فتعطيه امرأتك وبنيك ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك وأصلحه، وكن أنت الذي تنفق عليهم وكسوتهم ورزقهم ومؤونتهم. قال: وقوله: قيامًا، يعني قوامك في معايشك. وعلى هذه الوتيرة مضى ابن جرير في نقله.

وقال الزمخشري (1) : والخطاب للأولياء وأضاف الأموال إليهم؛ لأنها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم، كما قال:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (2){فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} (3) والدليل على أنه خطاب للأولياء في أموال اليتامى وقوله: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} .

وقال القرطبي (4) بعد أن أورد أقوالًا في تأويل الآية: ويقال: لا تدفع مالك مضاربة ولا إلى وكيل لا يحسن التجارة.

وروي عن عمر أنه قال: من لم يتفقه فلا يتجر في سوقنا، فذلك قوله تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} يعني الجهالة بالأحكام، ويقال: لا تدفع إلى الكفار، ولهذا كره العلماء أن يوكل المسلم ذميا بالشراء والبيع أو يدفع إليه مضاربة، وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: السفهاء هنا كل من يستحق الحجر.

ثم قال: واختلفوا في وجه إضافة المال إلى المخاطبين على هذا، وهم السفهاء، فقيل: أضافها إليهم؛ لأنها بأيديهم، وهم الناظرون فيها، فنسبت إليهم اتساعًا، كقوله تعالى:{فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} (5){فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (6) وقيل: أضافها إليهم؛ لأنها من جنس أموالهم، فإن الأموال جعلت مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد ومن ملك إلى ملك، أو هي لهم إذا احتاجوها كأموالكم التي تقي أعراضكم وتصونكم وتعظم أقداركم وبها قوام أمركم.

(1) الكشاف. ج: 1. ص: 500.

(2)

الآية (29) سورة النساء.

(3)

الآية: (25) سورة النساء.

(4)

الجامع لأحكام القرآن. ج: 5. ص: 28 و29.

(5)

الآية (61) سورة النور.

(6)

الآية: (54) سورة البقرة.

ص: 1118

وقول ثان قاله أبو موسى الأشعري وابن عباس والحسن وقتادة: إن المراد أموال المخاطبين حقيقة. قال ابن عباس: لا تدفع مالك الذي هو سبب معيشتك إلى امرأتك وابنك وتبقى فقيرًا تنظر إليهم وإلى ما في أيديهم، بل كن أنت الذي تنفق عليهم، فالسفهاء على هذا، هم النساء والصبيان، صغار ولد الرجل وامرأته، وهذا يخرج مع قول مجاهد وابن مالك في السفهاء.

وقال الرازي (1) في الآية قولان: الأول: أنها خطاب الأولياء، فكأنه تعالى قال: يا أيها الأولياء لا تؤتوا الذين يكونون تحت ولايتكم وكانوا سفهاء أموالهم، والدليل على أنه خطاب الأولياء قوله:{وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} وأيضًا فعلى هذا القول يحسن تعلق الآية بما قبلها، كما قررناه، فإن قيل: فعلى هذا الوجه كان يجب أن يقال: ولا تؤتوا السفهاء أموالهم، فلِمَ قال: أموالكم؟ قلنا: في الجواب وجهان: الأول أنه تعالى أضاف المال إليهم، لا لأنهم ملكوه، ولكن من حيث ملكوا التصرف فيه، ويكفي في حسن الإضافة أدنى سبب، وإنما حسنت هذه الإضافة إجراء للوحدة بالنوع مجرى الوحدة بالشخص، ونظيره قوله تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} (2)

وقوله {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وكذلك: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} . وقوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} .

ومعلوم أن الرجل منهم ما كان يقتل نفسه، ولكن كان بعضهم يقتل بعضًا، وكان الكل من نوع واحد، فكذا ههنا المال شيء ينتفع به نوع الإنسان، ويحتاج إليه، فلأجل هذه الوحدة النوعية حسنت إضافة أموال السفهاء إلى أوليائهم.

قلت: هذا كلام أساسه صحيح، لكن النتيجة التي انتهى إليها الرازي لا سبيل إلى اعتبارها صحيحة، ولا سليمة، فاعتبار إضافة الأموال إلى المخاطبين جاءت على أساس أن المال شيء ينتفع به نوع الإنسان ويحتاج إليه. وأن من ملاحظ الإضافة أنها جاءت على أساس أنها أضيفت إليهم، لا لأنهم ملكوه، لكن من حيث ملكوا التصرف فيه، وإنما حسنت هذه الإضافة إجراء للوحدة بالنوع مجرى الوحدة بالشخص. هذا الاعتبار اعتبار صحيح لا سبيل إلى المماراة فيه، لكن الخلوص منها إلى أن هذه الاعتبارات حسنت إضافة أموال السفهاء إلى أوليائهم، وأن الخطاب في الآية خطاب الأولياء خلوص لا يستقيم مع المنطق السليم إلا على أساس اعتبار الجماعة الإسلامية مجرد مجموعة أفراد وليست مجتمعًا ذا كيان معنوي متميز صالح لأن يتجه إليه الخطاب، وواضح أن هذا الأساس يناقض مبدأ الوحدة النوعية التي قام عليها توجيه الرازي لذلك التأويل.

(1) التفسير الكبير. المجلد: 5. ج: 9. ص: 190 و191.

(2)

الآية: (128) سورة التوبة.

ص: 1119

أما الاستدلال بقوله سبحانه وتعالى في الآية: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} فهو استدلال غير مستقيم، ذلك بأن الشراكة الاجتماعية في ملكية المال ملكية منفعة وانتفاع، وهي المناط من توجيه الخطاب إلى جمع المخاطبين، تترتب عنها تلقائيًا شراكة وظيفية، تحمل القادر تبعة التصرف طبقًا لما تقتضيه المصلحة العامة، وتخول غير القادر حق الاستفادة والانتفاع بحصته من المال الذي هو موضع الشراكة باعتباره عضوًا من المجتمع المشترك في ملكية المنفعة والانتفاع بذلك المال.

ولا يتسع لنا المجال لمناقشة الرازي في استدلاله ببعض الآيات الكريمة تدعيمًا لتوجيهه ذاك، فشتان ما بين دلالة جمع المخاطبين في قوله سبحانه وتعالى في سورة التوبة:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} مثلًا، وقوله في سورة البقرة:{فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ثم {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} .

ذلك بأن أمر بني إسرائيل بأن يقتلوا أنفسهم توبة مما اقترفوه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} الآية.

والتنديد بهم أنهم يقتلون أنفسهم بما يسفكون من دماء بعضهم بعضًا {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} (1) لا سبيل إلى مشاكلتهما أو تشبيههما بوصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه من أنفس المسلمين - على القراءة - بضم الفاء وهي الأظهر؛ لأنه وصف قائم على اعتبار وحدة المسلمين في أنفسهم وحدة خلق - بضم اللام - وشعور وإدراك ومتجه وإبراز مدى الوحدة النوعية بين ما فطر عليه صلى الله عليه وسلم من خلق عظيم من خصائصه الحرص على المسلمين والإشفاق من أن يصيبهم عنت والرأفة والرحمة بهم باعتبارهم كيانًا جامعًا متميزًا، وباعتباره الخلاصة والصفوة لهم، منه يستمدون ما فطروا عليه وما تطبعوا به من الأخلاق والمواجد والمدارك وإبراز مدى أصالة هذه الوحدة بينه وبينهم، فهو ليس غريبًا عنهم، وهم ليسوا غرباء عنه. ولذلك جاء التعبير في الآية الكريمة بعد توجيه الخطاب إلى جمع المخاطبين بكلمة (المؤمنين) في قوله سبحانه وتعالى:{بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} تمييزًا لهم عن غيرهم ممن لم تبلغ نفسه من السمو والصفاء مرتبة تؤهله للانتساب إلى المجتمع الذي يتميز بالوحدة النوعية نفسيا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1) البقرة: 84، 85.

ص: 1120

فأين هذا من أمر الآثمين من بني إسرائيل بأن يقتلوا أنفسهم تكفيرًا عما اقترفوه والتنديد بالظالمين منهم بأنهم يقتلون أنفسهم بما يسفكون من دماء بعضهم بعضًا، فيقتل البريء ظلما، ويقتل أو يستحق القتل الجاني ثأرًا أو قصاصًا؟!

أما الاستدلال بقوله سبحانه وتعالى في سورة النساء فاستدلال عجب، وأعجب منه أن يصدر من الرازي ذي العلاقة الوثقى بالفلسفة والشغف، أي أوشك أن يكون مسرفًا بها وبما تنهض عليه في عهده من طرائق المنطق الأرسطي، ذلك بأن الآية الكريمة وردت في معرض إباحة الزواج بالإماء {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (1) وجلي أن أي زواج لا ينعقد بحرة أو أمة إلا أن يأذن به ولي أمرها، وولي أمر الأمة مالكها، ولا سبيل إلى تصور أن أي إنسان يستطيع أن يعقد لرجل على أمة وإن كان لا يملكها بناء على أن الخطاب موجه على أساس نوع الوحدة الإنسانية، ثم إن كلمة {مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وردت كثيرًا في القرآن الكريم في تشريع حقوق ملك اليمين وواجبات المالك لهم وكيف ينبغي أن يعاملوا فيما يتجاوز الواجب، ولا سبيل حتى إلى مجرد التصور أن هذا التشريع يتجه إلى المجتمع الإنساني باعتباره كيانًا متميزًا على أساس من الوحدة النوعية، ليس متجهًا إليه باعتباره مجموعة أفراد يتحمل كل فرد تبعة عمله ومسؤولية تصرفاته، إذ لو كان متجهًا إلى المجتمع ككيان متميز مأذون له بالصرف الجماعي، فكان لكل أحد مثلًا أن يعتق عبدًا أو أمة في ملك غيره نيابة عن المجتمع المأذون له بالتصرف الجماعي ككيان متميز.

على حين أن توجيه الخطاب إلى المخاطبين جمعًا على أساس الوحدة النوعية للإنسان في مجتمع له كيان متميز في قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} يتسق اتساقًا كاملًا مع اعتبار شراكة الإنسان عامة والمجتمع الإسلامي خاصة في ملكية المنفعة والانتفاع بالمال وفي تحمل جميع التبعات والمسؤوليات المترتبة على التصرف فيه، فكان طبيعيًا أن يتجه الخطاب إلى المخاطبين جمعًا، إيذانًا بأن أي اختلال في التصرف يحدث من فرد منهم لا يبرئ ساحة غيره من أفراد المجتمع إن كان تصرفًا غير سليم ما قدروا على منعه أو تقويمه. فالنهي موجه إلى المجتمع الإسلامي أفرادًا ومجتمعًا توجيهًا متساويًا لا سبيل إلى ترجيح الاعتبار الفردي على الاعتبار الاجتماعي، ولا إلى ترجيح الاعتبار الاجتماعي على الاعتبار الفردي، وهذا غاية ما يسمح به المجال في هذا الشأن.

(1) الآية (25) سورة النساء.

ص: 1121

ثم قال الرازي غفر الله له: القول الثاني: أن هذه الآية خطاب الآباء، فنهاهم الله تعالى إذا كان أولادهم سفهاء لا يستقلون بحفظ المال وإصلاحه أن يدفعوا أموالهم أو بعضها إليهم، لما كان في ذلك من الإفساد، فعلى هذا الوجه يكون إضافة الأموال إليهم حقيقة، وعلى هذا القول يكون الغرض من الآية الحث على حفظ المال والسعي في أن لا يضيع ولا يهلك، وذلك يدل على أنه ليس له أن يأكل جميع أمواله ويهلكها، وإذا قرب أجله فإنه يجب عليه أن يوصي بماله إلى أمين يحفظ ذلك المال على ورثته.

ثم مضى يفند هذا القول بوجوه من التفنيد، أحسبه كان في غنى عنها لو لم يلتفت إليه ولم يقم إليه وزنًا، ذلك بأنه لم يمض ذكر للآباء أو تلميح إليهم فيما سبق هذه الآية الكريمة من آيات سورة النساء، على حين أن الضمير يوجه إلى المخاطبين جمعًا من أول جملة منها، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (1)

وقد تواتر التوجيه إلى المخاطبين جمعًا في الأوامر والنواهي إلى هذه الآية موضوع النقاش وما بعدها إلى قوله سبحانه وتعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} وهي الآية السادسة والثلاثون من سورة النساء واتسق الخطاب على هذا النسق اتساقًا بديعًا يدل على وحدة الاتجاه والمقصد، ولا يدع المجال للانحراف به إلى وجهات ليست منه وليس منها في شيء مهما حاول المتفقهة المتمحلون.

وقال ابن كثير (2) : ينهى سبحانه وتعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها الله للناس قيامًا، أي: تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها.

ومن هنا يؤخذ الحجر على السفهاء وهم أقسام، فتارة يكون الحجر للصغر، فإن الصغير مسلوب العبارة، وتارة يكون الحجر للجنون، وتارة لسوء التصرف لنقص العقل أو الدين، وتارة للفلس، وهو ما إذا أحاطت الديون برجل وضاق ماله عن وفائها، فإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر عليه حجر عليه.

ثم مضى يورد الأقوال المأثورة عن التابعين ومن بعدهم في تعيين السفهاء، ولا يخرج تعيينهم في مجموعة من هذه الأصناف التي ذكرها.

(1) الآية: (1) سورة النساء.

(2)

تفسير القرآن العظيم. ج: 1. ص: 452.

ص: 1122

وقال محمد الطاهر بن عاشور (1) : والخطاب في قوله: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ} كمثل الخطاب في {وَآَتُوا الْيَتَامَى} (2){وَآَتُوا النِّسَاءَ} (3) هو لعموم الناس المخاطبين بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} .

ثم قال: والمراد بالأموال أموال المحاجير المملوكة لهم، ألا ترى إلى قوله {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} وأضيفت الأموال إلى ضمير المخاطبين بـ:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ} إشارة بديعة إلى أن المال الرائج بين الناس هو حق لمالكيه المختصين به في ظاهر الأمر، ولكنه عند التأمل تلوح فيه حقوق الأمة جمعًا، لأن في حصوله منفعة للأمة كلها، لأن ما في أيدي بعض أفرادها من الثروة يعود إلى الجميع بالمصلحة، فمن تلك الأموال ينفق أربابها ويستأجرون ويشترون ويتصدقون، ثم تورث عنهم إذا ماتوا، فينتقل المال بذلك من يد إلى غيرها، فينتفع العاجز والعامل والتاجر والفقير والكفاف، ومتى قلت الأموال من أيدي الناس تقاربوا في الحاجة والخصاصة، فأصبحوا في ضنك وبؤس واحتاجوا إلى قبيلة أو أمة أخرى، وذلك من ابتزاز عزهم وامتلاك بلادهم وتصيير منافعهم لخدمة غيرهم. فلأجل هاته الحكمة أضاف الله تعالى الأموال إلى جمع المخاطبين ليكون لهم الحق في إقامة الأحكام التي تحفظ الثروة العامة، وهذه إشارة، لا أحسب أن حكيما من حكماء الاقتصاد سبق القرآن إلى بيانها، وقد أبعد جماعة جعلوا الإضافة لأدنى ملابسة؛ لأن الأموال في يد الأولياء وجعلوا الخطاب للأولياء خاصة، وجماعة جعلوا الإضافة للمخاطبين؛ لأن الأموال وإن لم تكن أموالهم حقيقة، وإليه مال الزمخشري، وجماعة جعلوا الإضافة؛ لأن السفهاء من نوع المخاطبين، فكأن أموالهم أموالهم، وإليه مال فخر الدين، وقارب ابن العربي إذ قال: لأن الأموال مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد، وتخرج من ملك إلى ملك وما ذكرته من البيان كان لكلمته هذه شأن، وأجد فريق آخرون فجعلوا الإضافة حقيقة أي لا تؤتوا - بأصحاب الأموال - أموالكم لمن يضيعها من أولادكم ونسائكم وهذا أبعد الوجوه، ولا إخال الحامل على هذا التقدير إلا الحيرة في وجه الجمع بين كون الممنوعين من الأموال السفهاء وبين إضافة تلك الأموال إلى ضمير المخاطبين، وإنما وصفته بالبعد؛ لأن قائله جعله هو المقصود من الآية، ولو جعله وجهًا جائزًا يقوم من لفظ الآية لكان له وجه وجيه.

(1) التحرير والتنوير. ج: 4. ص: 234 و236.

(2)

النساء: الآية رقم 2.

(3)

النساء: الآية رقم 4.

ص: 1123

ثم قال: وأجرى على الأموال صفة تزيد إضافتها إلى المخاطبين وضوحًا، وهي قوله:{الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} ، فجاء في الصفة بموصول، إيماء إلى تعليل النهي وإيضاحًا لمعنى الإضافة.

ثم قال: وقرأه الجمهور: قيامًا، والقيام ما به يقوم المعاش، وهو واوي أيضًا، وعلى القراءتين، فالإخبار بالأموال إخبار بالمصدر للمبالغة على قول الخنساء:

فإنما هي إقبال وإدبار

هذا عجز بيت من قصيدة طويلة للخنساء تماضر بنت عمرو بن الحرث بن الشريد، ترثي بها أخاها صخرا، ولتوضيح معنى البيت نورد أبياتًا قبلها وبعدها من القصيدة كما وردت في ديوانها ص: 42 وما بعدها، وكما وردت أبيات منها في العقد الفريد. ج:3. ص: 267 و268. ولا نلتزم بإحدى الروايتين، وإنما نقيم الواحدة بالأخرى حسب ما يرشدنا الذوق السليم ومطلع القصيدة:

قذى بعينيك أم بالعين عوار أم أقفرت إذ خلت من أهلها الدار

ومنها:

وما عجول على بوٍّ تطيف به لها حنينان إعلان وإسرار

ترعى إذا نسيت حتى إذا ذكرت فإنما هي إقبال وإدبار

لا تسمن الدهر في أرض وإن ركعت فإنما هي تحنان وتسجار

يوما بأوجد مني يوم فارقني صخر وللدهر إحلاء وإمرار

وهي من أروع ما عرفه الشعر العربي القديم من صادق الرثاء.

والمعنى أنها تقويم عظيم لأحوال الناس وقيل: قيمًا (1) جمع قيمة، أي: التي جعلها الله قيمًا، أي: أثمانًا للأشياء، وليس فيه إيذان بالمعنى الجليل المتقدم.

قلت: من الغريب أن المعنى الذي قرره في تفسير هذه الآية من دلالاتها على الشراكة العامة في الأموال للناس باعتبار المجتمع الإسلامي كيانًا معنويًا متميزًا على أن الأموال بهذا المعنى تمثل ثروة قومية وما إلى ذلك مما فصله تفصيلًا جيدًا وإن لم يكن شاملًا لم يتسن له فيما نقلناه عنه آنفًا من تفسيره لقوله سبحانه وتعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ، فشتان بتفسيره لهذه الآية وتفسيره لتلك، مع أن دلالتهما في الحقيقة واحدة، والمناط فيهما واحد، يتبينه كل من أحسن التأمل.

(1) على قراءة ورش بياء مشددة بدون ألف.

ص: 1124

وقد قلت: إن تأويله هذا ليس بشامل؛ لأن تبيانه للاعتبارات التي تجعل الأموال وإن كانت تحت تصرف الأفراد من مجموع الثروة القومية، لم يشمل جميع الاعتبارات والعوامل التي كنا نود لو أحاط بها، وأهمها أن وحدة الكيان الاجتماعي للمجتمع الإسلامي باعتباره كيانًا معنويًا متميزًا تقتضي وحدة الملكية جوهريا، لما يملكه أفراده من حيث إن ما يملكونه أجزاء أو عناصر لكيان ملكي واحد، كما أن المالكين لها أجزاء أو وحدات لكيان واحد، فتعدد المتصرفين وتعدد الأنصبة التي يتصرفون فيها لا يعنيان تعددًا في حقيقة الأمر لأولئك الأفراد ولا لتلك الأنصبة، وإنما يعنيان فحسب توزيعًا لمسؤولية التصرف وتبعته في شيء واحد بين أفراد يكونون وحدة، ولذلك فإساءة التصرف من فرد من الأفراد في النصيب الذي وكل إليه التصرف فيه تترتب عنها عواقب سيئة على مجموع الأنصبة التي تتكون منها الثروة القومية أو المال العام، وبرهان ذلك الأمر بالتحجير على السفيه، وإن كان قد جاوز سن الرشد ونهي غير السفيه عن التبذير وتحديد وجوه الإنفاق بحيث لا تكون إلا في ما هو مصلحة ذات مآل عام، وإن كانت في ظاهرها مصلحة فردية وتحديد طرائق الكسب والإنفاق بحيث لا يكون منها ما يضر وإن عن غير قصد بالمصلحة العامة مباشرة أو بها عن طريق الإضرار بمصلحة فرد أو أكثر؛ لأن الإضرار بمصلحة فرد أو أفراد يترتب عنه تلقائيًا الإضرار بالمصلحة العامة، وقد يتضح ذلك في بعض ما سنعرض له أثناء هذا البحث.

وبرهان آخر انتبهوا له بعض الانتباه، ولكن غفلوا عن دلالته في توجيه الآية، وهو قوله سبحانه وتعالى:{وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} إذ التعبير بـ: (في) يؤكد وحدة المرزوق فيه، ويبعد كل ادعاء بتفرقه أو تعدده، ويوضح أن الأموال التي أمروا بأن يرزقوا السفهاء فيها ويكسوهم لها كيان واحد، وإن يكن ضمنها أموال من حصة أولئك السفهاء ونصيبهم في التوزيع الوظيفي بين أفراد المجتمع الإسلامي مجموع أمواله. فالآية تؤذن بأن وظيفة السفهاء في نصيبهم من تلك الأموال قد نقص منها جانب التصرف، وبقي جانب الاستهلاك نتيجة للاستحقاق المشروع المتوقف عليه ضمان بقائهم وكرامتهم، وكان التعبير بـ:(في) بدلًا من (من) برهانًا على استحقاق السفهاء رزقهم في المال العام، سواء كانت لهم فيها حصة نتيجة إرث أو غيره مما يجعل لهم استحقاقًا وظيفيًا فيه أو لم تكن، فالمال العام حسب تعبير الآية الكريمة كله مصدر لرزق السفهاء، كما هو مصدر لرزق غيرهم، والفارق الوحيد هو أن وظيفة غيرهم تتكون من التصرف للإنماء والاستهلاك، أما وظيفة السفهاء فتنحصر في الاستهلاك لعجزهم بالسفه عن القيام بالإنماء، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} .

ص: 1125

وقد نبه الحس اللغوي والبياني بعض المفسرين مثل الزمخشري والرازي إلى بعض هذا المعنى، ولكن سرعان ما قلصوا منه بتأويلاتهم القائمة على تبعيض المجتمع وتبعيض المال تبعًا له، وكان محمد الطاهر بن عاشور أقربهم إلى سداد الفهم، لولا أنه نسي في حديثه عن (في) موقعها من هذه الآية ما سبق أن قرره منذ قليل من معنى وحدة المجتمع ووحدة المال باعتباره ثروة قومية. ونقتصر على نقل كلامه، ففيه صفة ما قاله كل من الزمخشري والرازي.

قال رحمه الله (1) : ومعنى قوله: {وارزقوهم فيها واكسوهم} واقع موقع الاحتراس، أي: لا تؤتوهم الأموال إيتاء تصرف مطلق ولكن آتاهم إياها بمقدار انتفاعهم من نفقة وكسوة، ولذلك قال فقهاؤنا: تسلم للمحجور نفقته وكسوته إذا أمن عليها بحسب حاله وماله، وعدل عن تعدية (ارزقوهم) و (اكسوهم) بـ:(من) إلى تعديتها بـ: (في) للدلالة على الظرفية المجازية على طريقة الاستعمال في أمثاله حين لا يقصد التبعيض الموهم للانتفاض من ذات الشيء بل يراد أن جملة الشيء ما يحصل به الفعل تارة من عينه وتارة من ثمنه وتارة من نتاجه وأن ذلك يحصل مكررًا مستمرًا.

ثم قال: وهذا معنى بديع في الاستعمال لم يسبق إليه المفسرون هنا، فأهمل بعضهم التنبيه على وجه العدول إلى (في)، واهتدى إليه صاحب الكشاف - قلت: والرازي بأوضح - بعض الاهتداء فقال: اجعلوها مكانًا لرزقكم بأن تتجروا فيها وتربحوا حتى تكون نفقتهم من الربح لا من صلب المال، فقوله: لا من صلب المال. مستدرك، ولو كان كما قال لاقتضى نهيًا عن الإنفاق من صلب المال.

(1) التحرير والتنوير. ص: 236.

ص: 1126

قلت: وقولهم بأن تتجروا

إلخ مستدرك أيضًا، ولو كان كذلك لسقط الأمر بالرزق للسفهاء من دلالة هذه الآية إذا لم يكن لهم مال حصلوا عليه من إرث أو غيره، بل كان ذووهم من الفقراء، فلم يتركوا لهم شيئًا ولا وهبهم غيرهم شيئًا تطوعًا هبة تمليك أو وقف، وإذا لاحتيج إلى دليل آخر من غير هذه الآية على وجوب القيام بهم وإنقاذهم من الخصاصة والمسغبة، ونتيجة لذلك يصبح قوله تعالى:{الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} خاصًا بمن لديهم من طريق الإرث أو الاكتساب أو غيرهما من الطرق المشروعة أنصبة من المال، ويبقى الأمر برزق السفهاء معطلًا يبحث عن علة له تنيط الإلزام بالمأمورين به، وهذا اختلال في التعبير يأباه البيان المعجز لكتاب الله العزيز.

ونصير في مسارنا هذا إلى الآية الرابعة التي سبق أن ألمعنا إليها، وهي قوله سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ، ولا تختلف هذه الآية في ضميريها عن آية سورة البقرة {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} . ولعل ذلك هو الذي صرف جمهرة المفسرين عن الوقوف في توجيه الضمير في (أموالكم) إلى المخاطبين جمعًا اكتفاء بما سبق أن قالوه في آية سورة البقرة إلا ما كان من وقفة لمحمد الطاهر بن عاشور (1) الذي قال: والضمير المرفوع بـ: (تأكل) والضمير المضاف إليه (أموال) راجعان إلى (الذين آمنوا) وظاهر أن المرء لا يُنهى عن أكل مال نفسه ولا يسمى انتفاعه بماله أكلًا، فالمعنى لا يأكل بعضهم مال بعض) .... إلخ.

قلت: سبحان الله، وكيف أن المرء لا يأكل مال نفسه، ولماذا كان الكسب والسعي وراءه إن لم يكن للأكل بمعناه العام الذي اتفقوا عليه وهو الإنفاق، ثم لعل أستاذنا رحمه الله نسي ما قاله في تفسير الآية الخامسة من هذه السورة نفسها ونقلناه عنه من وحدة مال الآمة تبعًا لوحدة مجتمعها باعتباره ثروة قومية بعد أن مضى به التفسير أشواطًا في أربع وعشرين آية فراح يقول:

(فالمعنى لا يأكل بعضهم مال بعض) هو أحسبه نسي أيضًا أنه حتى على أساس تبعيض المال والغفلة عن وحدة مال الأمة أو تجاهلها لا يصح تأويله هذا لأن المرء منهي عن التبذير والإسراف في إنفاق ماله نهيًا صريحًا في آيات شتى من القرآن الكريم، بل إن النهي وجه إلى المسلمين بواسطة توجيه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبعد الناس على التبذير والإسراف لمجرد تأكيد النهي تأكيدًا لا مزيد عنه، إذ قال الله سبحانه وتعالى:{وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} (2)

(1) التحرير والتنوير. ج: 5. ص: 23.

(2)

الآية: (26) سورة الإسراء.

ص: 1127

ولا مجال للقول إن النهي هنا كان عن التبذير في الإنفاق على الآخرين، لأن الموصوفين بأنهم إخوان الشياطين هم المبذرون كافة، سواء كان تبذيرهم على أنفسهم أو على غيرهم بدليل مدحه سبحانه وتعالى للمؤمنين بأنهم {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (1) وآيات غيرها. ومن عجب أن أستاذنا رحمه الله أتبع قوله الذي نقلناه آنفًا بأن شرح (الباطل) في قوله سبحانه وتعالى:{لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} بأنه ضد الحق وهو ما لم يشرعه الله ولا كان من إذن ربه، والباء فيه للملابسة، أفلا يرى رحمه الله أن التبذير والإسراف من الباطل؟ أو ليس الإدلاء بالمال إلى الحكام لأكل فريق من أموال الناس بالإثم كما ورد في الآية من سورة البقرة من أكل الأموال بالباطل؟ وهو يدلي الإنسان بالمال إلى الحكام لغرض باطل إذا لم يكن له في نفع توهمه، وهذا النفع لا يكون إلا ماليًا أو ما هو في معنى المال؟ وحتى لو فعل ذلك من أجل غيره أفلا يكون له من ورائه أي نفع وإن كان مجرد مصارحة أو قريبة أو ليس ذلك كله داخلًا في النهي عن أكل المال بالباطل وإذا كان الباطل جنسًا لما يقترف من الظلم أو الجور أو الخداع أو التبذير أو غير ذلك مما لم يأذن به الله؟ أفلا يكون النهى عنه دليلًا على أن الأموال المنهي أن تأكل به واحدة وحدته أي أنها من جنس واحد لانصباب النهي عنه عليها انصبابًا يشمل عمومها لا يخص منها جانبًا دون آخر.

لقد أفضنا شيئًا في هذا الشأن وظاهر ليس من صميم بحثنا لأن تحريره وتحقيقه يؤديان إلى إبراز حقيقة أن الإسلام يعتبر المال مهما تعدد المتصرفون فيه والمنتفعون به مالًا عامًا في حقيقته وجوهره يشمله حكم شرعي واحد في حقيقته وجوهره ومناطه كما يعتبر المسلمين على تعدد أفرادهم وألوانهم وشعوبهم مجتمعًا واحدًا يشملهم حكم شرعي واحد في حقيقته وجوهره ومناطه، وكل إخلال بوحدة المجتمع أو بوحدة المال العام يستوجب مواجهته بما يكفل إزالته وإعادة السلامة إلى الوحدة التي جاء الإسلام لإقامتها وتدعيمها وتأكيدها وصيانتها.

(1) الآية: (26) سورة الفرقان.

ص: 1128

13 -

المجتمع هو المالك الحق للمنفعة والانتفاع

يتضح مما سبق أن المجتمع باعتباره وحدة من عناصر متكاملة متكافلة هو المالك الحق لما خول الله المسلمين والإنسان عامة من منفعة وانتفاع في هذا الكون ما كان منه طبيعيًا وما كان مكتسبًا.

وتتضح من البندين التاسع والعاشر العلاقة التي أرادها الله للإنسان بما خوله الانتفاع به والاستفادة منه.

ويصير بنا المسار إلى ضرورة تبيان المعالم التي حددها الشارع الحكيم الخبير لتصرف الإنسان فيما خوله من حقوق المنفعة ووسائل الانتفاع.

وأول هذه المعالم تصريف المنافع المخولة له تصريفًا يفيده في خاصة نفسه وفيمن يعوله ويهتم بشأنه مباشرة، ويفيد المجتمع الذي هو جزء منه وعنصر من عناصره وأداة من أدواته.

وقد أطلق الشارع على هذا التصريف كلمة (الإنفاق) فوردت في القرآن الكريم بمشتقاتها المختلفة وصيغها المتعددة من مضافة وغير مضافة ومن مضافة إلى فرد ومن مضافة إلى جماعة أربعًا وسبعين مرة منها في صيغة الأمر المضافة إلى الجمع ستة مواضع وهي صريحة في الأمر بالإنفاق وفي أن الأمر موجه إلى جماعة المسلمين. يقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1)

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (2){يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} (3){آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} (4){وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} (5){فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (6)

(1) الآية: (195) سورة البقرة.

(2)

الآية: (254) سورة البقرة.

(3)

الآية: (267) سورة البقرة.

(4)

الحديد: الآية رقم (7) .

(5)

الآية: (10) سورة المنافقون.

(6)

الآية: (16) سورة التغابن.

ص: 1129

ووردت في معرض وصف المؤمنين باعتبار الإنفاق جزءًا لا يتجزأ من خصال الإيمان في سبعة مواضع من القرآن الكريم.

قال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (1){وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (2){إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (3){فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (4){وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (5){تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (6){فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (7)

ووردت في بقية المواضع (61 مرة) إما ترغيبًا في الإنفاق في سبيل الله، وإما تنديدًا بالذين يمسكون ولا ينفقون، وإما زجرًا وتوعدًا لهم، وفي كل ذلك بيان للمعلم الأساسي الذي شرعه الله لتصرف الإنسان فيما خوله من حقوق المنفعة ووسائل الانتفاع بما يسر له من خيرات الأرض وغيرها مما تصل إليه يده من مختلف جوانب الكون وعناصره.

(1) الآية: (2) سورة البقرة.

(2)

الآية: (133) و (134) سورة آل عمران.

(3)

الآية: (2) و (3) و (4) سورة الأنفال.

(4)

الآية: (34) و (35) سورة الحج.

(5)

الآية: (53) سورة القصص.

(6)

الآية: (16) سورة السجدة.

(7)

الآية: (36) و (37) و (38) سورة الشورى.

ص: 1130

وتصرف الإنسان وتصريفه فيما خول من حقوق المنفعة ووسائل الانتفاع طبقًا لهذا المعلم الواضح ينضبط في إطار لا يكاد يباح له تجاوزه من اعتبار المصلحة العامة للمجتمع الإسلامي حتى فيما يتصل بمصلحته الذاتية الخاصة أو بمصلحة من يعوله وترجع إليه حمايته ورعايته، فقد جاء في القرآن الكريم في وصف عباد الرحمن {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (1) في آيات غيرها أشرنا إلى بعضها في البند السابق، ويتضح من هذا أن من يخرج في تصرفه أو تصريفه عن هذا الإطار يفقد

حقه فيما خول له من حقوق المنفعة ووسائل الانتفاع.

أما المعلم الثاني الذي شرعه الله للإنسان وتصريفه، وقد يكون الوجه للمعلم الأول، فهو خلافة الله في عمارة الأرض، فالعمل الذي يتجه به الإنسان إلى الكسب والاستغلال والاستثمار يجب أن يتم في نطاق إعمار الأرض بأن يكون عملًا مستمر الجدوى موصلًا بعمل الآخرين تتكون منه ومن غيره الأسباب المحققة لاستمرار عمارة الأرض ونمائها. يقول الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه صالح عليه السلام مخاطبًا قومه ثمود:{هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (2) كما سبق أن أوضحنا في البند الثاني ومناط اعتبار إعمار الأرض مَعلَمًا لتصرف الإنسان وتصريفه كما أراده الله وشرعه هو حفظ أسباب الطمأنينة والانتفاع والحياة الكريمة العادلة للأجيال الإنسانية المتعاقبة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، وهذا يعني أن وحدة المجتمع الإسلامي خاصة ووحدة الإنسان عامة، ووحدة المنفعة والانتفاع المخولين للإنسان لا سيما المسلم لا تتعددان بتعدد الأجيال بل تستمران ما كتب الله لهذه الدنيا أن تستمر وأن حقوق الأجيال المتتالية مرتبط بعضها ببعض، فليس لأي جيل أن يزحف بحقوق الجيل الذي بعده بأن يُصرّ في صيانة وإنماء الإرث الذي صار إليه من الجيل الذي قبله أو أن يعمد إلى الاستئثار بما ورث من منافع وخيرات مبذرًا مسرفًا أو متكاسلًا قانعًا بما أنتج الأولون غير مكترث بما عليه من تبعة لمن يأتي بعد من الأبناء والأحفاد.

(1) الفرقان: الآية رقم 67.

(2)

هود: الآية رقم 61.

ص: 1131

من أجل ذلك كان الإنفاق في سبيل الله شرعًا أساسيًا، وضابطًا حاسمًا وجوهريًا لتصرف الإنسان وتصريفه فيما يسرَّ الله له من مال، وكان كل من التبذير والاكتناز جريمتين يترتب عليهما عقاب الله بمن يقترفهما أو اقترف إحداهما من الناس أفرادًا أو جماعات، بيد أن الاكتناز أشد عقوبة؛ لأنه أشد جناية على المتعايشين من أبناء المجتمع، فهو لا يحرمهم فحسب من المال المكتنز وفوائده بأن يسلبهم حق الانتفاع به، وإنما يحرمهم أيضًا وسيلة تعينهم على المزيد من العمل الإعماري الذي تمتد جدواه إلى الأجيال المقبلة. يقول الله سبحانه وتعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (1)

ولكي يتجلى المعنى الشرعي لكل من (الإنفاق) و (الاكتناز) نورد ما ورد بشأن كل منهما في مصادر اللغة ومصادر التفسير.

فمادة نفق وهي ثلاثي (أنفق) مدارها (الرواج) ولا يكاد يخرج استعمال (النفاق) عما يتصل (بالرواج) كما أن (الإنفاق) ومشتقاته لا يكاد يخرج عن معنى (الترويج) وما يتصل به.

يقول ابن منظور (2) ونفق البيع نفاقًا: راج، ونفقت السلعة تنفق نفاقًا، بالفتح: غلت ورغب فيها، وأنفقها هو ونفَّقها.

وفي الحديث: ((المنفِّق سلعته بالحلف الكاذب)) ، المنفق بالتشديد: من النفاق وهو ضد الكساد، ومنه الحديث:((اليمين الكاذبة منفقة للسلعة ممحقة للبركة)) ، أي هي مَظِنَّةٌ لنفاقها وموضع له.

وفي الحديث عن ابن عباس: ((لا ينفق بعضكم بعضًا)) أي لا يقصد أن ينفق سلعته على جهة النجش، فإنه بزيادته فيها يرغب السامع فيكون قوله سببًا لابتياعها ومنفقًا لها.

وقول ابن الأثير (3) وفيه - أي الحديث -: ((المنفق سلعته بالحلف الكاذب)) المنفق بالتشديد من النفاق، وهو ضد الكساد. ويقال: نفقت السلعة فهي نافقة، وأنفقتها ونفقتها، إذا جعلتها نافقة.

وفي الحديث: ((اليمين الكاذبة منفقة للسلعة ممحقة للبركة)) ، أي هي مظنَّة لنفاقها وموضع له.

(1) التوبة: الآيتان 34، 35.

(2)

لسان العرب. ج: 10. ص: 257.

(3)

النهاية. ج: ص: 99.

ص: 1132

ويقول الراغب (1) نفق الشيء مضى ونفد. ينفق إما بالبيع نحو: نفق البيع نفاقًا، ومنه: نفق الأيم ونفق القوم إذا أنفق سوقهم، وإما بالموت نحو نفقت الدابة نفوقًا، وإما بالفناء نحو: نفقت الدراهم تنفق وأنفقتها، والإنفاق قد يكون في المال وفي غيره وقد يكون واجبًا وتطوعًا. قال تعالى:{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) وقال: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (3) وقال: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (4) وقال {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} (5) وقال: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ} (6) إلى غير ذلك من الآيات. وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ} (7) أي: الإقتار يقال: نفق فلان إذا نفق ماله فأقتر، والإنفاق هنا كالإملاق في قوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} (8) والنفقة اسم لما ينفق قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ} (9) وقال: {وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً} (10) والنفق: الطريق النافذ والسرب في الأرض النافذ فيه قال تعالى: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ} (11) ، ومنه نافق اليربوع ونفق، ومنه النفاق: وهو الدخول إلى الشرع من باب والخروج من باب، وعلى ذلك نبه من قوله:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (12) أي الخارجون من الشرع.

ويخرج المفسرون عامة عن هذه المعاني التي تناقلها اللغويون وإن اختلفوا - منذ عهد الصحابة والتابعين - في تأويل آيات وردت فيها كلما (أنفق) أو إحدى مشتقاتها لذلك نقتصر على ما ارتأينا فيه تلخيصًا دقيقًا وشاملًا لأقوالهم تلك ومزيدًا من الإيضاح أو جديدًا من الفقه.

يقول الرازي (13) في تفسيره قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (14) أصل الإنفاق إخراج المال من اليد، ومنه: نفق البيع نفاقًا إذا كثر المشترون له، ونفقت الدابة إذ ماتت أي: خرجت روحها، ونافقا الفأرة لأنها تخرج منها ومنه النفق في قوله تعالى:{أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ} (15)

(1) المفردات في غريب القرآن. ص: 765 و766.

(2)

الآية (195) سورة االبقرة.

(3)

الآية: (10) سورة المنافقون.

(4)

الآية (92) سورة آل عمران.

(5)

الآية: (39) سورة سبأ.

(6)

الآية: (10) سورة الحديد.

(7)

الآية: (100) سورة الإسراء.

(8)

الآية: (31) سورة الإسراء.

(9)

الآية: (270) سورة البقرة.

(10)

الآية: (21) سورة التوبة.

(11)

الأنعام الآية رقم (35) .

(12)

الآية: (67) سورة التوبة.

(13)

التفسير الكبير. ج: 2. ص: 34 و35.

(14)

الآية: (3) سورة البقرة.

(15)

الأنعام الآية رقم (35) .

ص: 1133

ثم قال في قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (1) فوائد أحدها: أدخل (من) التبعيضية صيانة لهم وكفى - لعل فيه خطأ مطبعيا صوابه: وكف - عن الإسراف والتبذير المنهي عنه، وثانيها: قدم مفعول الفعل دلالة على كونه أعلم كأنه قال: ويخصون بعض المال بالتصدق به، وثالثها: يدخل في الإنفاق المذكور في الآية الإنفاق الواجب والإنفاق المندوب. والإنفاق الواجب أقسام: أحدها: الزكاة ، وهي قوله في آية الكنز {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2)

قلت: في هذا التأويل نظر وسيأتي بعد قليل مزيد من البيان في شأنه.

ثم قال: وثانيها: الإنفاق على النفس وعلى من تجب عليه نفقته. وثالثها: الإنفاق في الجهاد. وأما الإنفاق المندوب فهو أيضًا إنفاق لقوله: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} (3)

قلت: لا يسلم له هذا التأويل، بل الأمر في هذه الآية للوجوب؛ لأنه جاء في مواجهة قول المنافقين الذي ذكره الله سبحانه وتعالى قبل هذه الآية:{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} (4) ، والذين كانوا عند رسول الله يومئذ هم المهاجرون {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (5) والإنفاق عليهم كان يومئذ واجبًا متعينًا على كل من له فضل من وسائل العيش، ولم يكن مندوبًا إليه فحسب وقد نعرض لشيء من ذلك في مكانه من هذا البحث إن شاء الله.

ثم قال: فكل هذه الإنفاقات داخلة تحت الآية؛ لأن كل ذلك سبب لاستحقاق المدح.

قلت: يغفر الله للرازي، فليس ما في الآية مجرد مدح، وإنما هي تبيان للشروط والأوصاف التي لا يكمل الإيمان، ولا يكون مدعيه مؤمنًا حقا إلا بها وذلك ما يدل عليه وليس فيه دلالة على غيره دلالة لفظية غير قابلة للتأويل سياق الآية بما قبلها وما بعدها، فليتأمل.

(1) البقرة: الآية 3.

(2)

التوبة: الآية 34.

(3)

المنافقون: الآية رقم 10.

(4)

المنافقون: الآية 7.

(5)

الحشر: الآية رقم 7.

ص: 1134

وأورد ابن العربي في أحكام القرآن (1) عندما عرض لهذه الآية خمسة أوجه لتأويل الإنفاق، أهمها الوجه الرابع أن الإنفاق: وفاء الحقوق الواجبة العارضة في المال باختلاف الأحوال ما عدا الزكاة. ونقول: أهمها لأن الأوجه الأخرى التي أوردها وإن نقل بعضها عن بعض الصحابة أو التابعين لا تثبت عند التأمل والتمحيص وليس نقلها عمن أوثرت عنهم كافيًا لجعلها وجيهة وقد ذكرها غيره من المفسرين ومنهم الرازي فيما سبق وأشار إليها محمد الطاهر بن عاشور في عرضه البديع لوجوه تأويل الآية (2)

قال رحمه الله: مسألة ثالثة في وصف المتقين مما يحقق معنى التقوى وصدق الإيمان من بدل عزيز على النفس في مرضاة الله لأن الإيمان لما كان مقره القلب ومترجمه اللسان كان محتاجا إلى دلائل صدق صاحبه وهي عظائم الأعمال من ذلك التزام آثاره في الغيبية الدالة عليه {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (3) ومن ذلك ملازمة فعل الصلوات، لأنها دليل عن تذكر المؤمن من آمن به. ومن ذلك السخاء ببذل المال للفقراء امتثالًا لأمر الله بذلك.

قلت: تأمل جيدًا قوله: امتثالًا لأمر الله بذلك.

ثم قال: والإنفاق إعطاء الرزق فيما يعود بالمنفعة على النفس والأهل والعيال ومن يرغب في صلته أو التقرب لله بالنفع له من طعام أو لباس وأريد به هنا بثه في نفع الفقراء وأهل الحاجة وتسديد نوائب المسلمين بقرينة المدح واقترانه بالإيمان والصلاة، فلا شك أنه هنا خصلة من خصلة الإيمان الكامل، وما هو إلا الإنفاق في سبيل الخير والمصالح العامة، إذ لا يمدح أحد بإنفاقه على نفسه وعياله إذ ذلك مما تدعوا إليه الجبلة فلا يعتني الدين بالتحريض عليه، فمن الإنفاق ما هو واجب وهو حق على صاحب الرزق للقرابة والمحاويج من الأمة ونوائب الأمة كتجهيز الجيوش كالزكاة وبعضه محدد وبعضه تفوضه المصلحة الشرعية الضرورية أو الحاجية

إلخ.

(1) ج: 1. ص: 10.

(2)

التحرير والتنوير. ج: 1. ص: 234 و235.

(3)

الآية رقم 3 البقرة.

ص: 1135

وقبل أن نمضي فيما نحن بسبيله من تبيان مدى شمول وتحكم معلم الإنفاق في المجال العام من مجموع المال العام أو الثروة القومية سواء ما خول الأفراد حق المنفعة والانتفاع فيه وما كان هذا الحق خاصا بالسلطة العامة نقف مليًا عند كلمة متصلة بالإنفاق اتصالًا وثيقًا؛ لأنها ضده أو عكسه، وهي كلمة (كنز) ومشتقاتها.

وقد وردت في القرآن الكريم تسع مرات (1) والآية التي تعنينا في هذا المجال من الآيات التسع هي قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} (2) ، لكن قبل أن نقف عندها والتزامًا بالسنن الذي رسمناه لهذا البحث نتبين حدود اللغويين وآثار المفسرين في معنى كلمة (كنز) .

يقول ابن منظور (3) كنز: الكنز اسم للمال إذا أحرز في وعاء ولم يحرز فيه، وقيل: الكنز المال المدفون، وجمعه كنوز، كنزه يكنزه كنزًا واكتنزه، ويقال: كنزت البر في الجراب فاكتنز.

قال - يعني شمر -: وتسمي العرب كل كثير مجموع يتنافس فيه كنزًا.

وفي الحديث: ((ألا أعلمك كنزًا من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله)) ، وفي رواية:((لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة)) أي: أجرها مدخر لقائلها والمتصف بها كما يدخر الكنز، وفي التنزيل العزيز:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} (4)

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يذهب كسرى فلا كسرى بعده، ويذهب قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده، لتنفقن كنوزهما في سبيل الله)) .

الليث: يقال: كنز الإنسان مالا يكنزه، وكنزت السقاء إذا ملأته.

ابن عباس في قوله تعالى في الكهف: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} (5)

(1) الآية: (34) سورة التوبة، والآية:(35) نفس السورة. الآية: (12) سورة هود. الآية: (82) سورة الكهف. الآية: (8) سورة الفرقان. الآية (58) سورة الشعراء. الآية: (76) سورة القصص.

(2)

التوبة: الآية رقم 34.

(3)

لسان العرب. ج: 5. ص: 401.

(4)

التوبة: الآية رقم 34.

(5)

الآية: (82) سورة الكهف

ص: 1136

وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: أربعة آلاف وما دونها نفقة، وما فوقها كنز (1)

وفي الحديث: ((: كل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز)) ، الكنز في الأصل المال المدفون تحت الأرض، فإذا أخرج منه الواجب عليه، لم يبق كنزًا وإن كان مكنوزًا، وهو حكم شرعي تجوز فيه عن الأصل.

وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه: ((بشر الكنازين برضف من جنهم)) (2) فهم جمع كناز، وهو المبالغ في كنز الذهب والفضة وادخارهما وترك إنفاقهما في أبواب البر.

واكتنز الشيء: اجتمع وامتلأ.

ويقول ابن الأثير (3) : الكنز في الأصل المال المدفون تحت الأرض فإذا خرج منه الواجب عليه، لم يبق كنزًا وإن كان مكنوزًا، وهو حكم شرعي تجوز فيه من الأصل، ومنه حديث أبي ذر:((بشر الكنازين برضف من جنهم)) (4) وهم جمع كناز، وهم المبالغ في جمع الذهب والفضة وادخارهما وترك إنفاقهما في أبواب البر.

الكناز: المجتمع اللحم القويه وكل مجتمع مكتنز.

ويقول الراغب (5) الكنز جعل المال بعضه على بعض وحفظه وأصله من كنزت التمر في الوعاء وزمن الكناز وقت ما يكنز فيه التمر وناقة كناز مكتنزة اللحم، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} ، أي: يدخرونها، وقوله تعالى:{فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} وقوله: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} (6) أي مال عظيم. وقوله: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} قيل: كان صحيفة علم.

(1) روى عبد الرزاق المصنف. ج: 4. ص: 109 أثر: 7150) عن الثوري، عن أبي الضحى، عن جعدة بن هبيرة، عن علي بن أبي طالب قال: أربعة آلاف فما دونها نفقة وما فوقها كنز.

(2)

سيأتي تخريجه قريبًا ضمن أحاديث أبي ذر المختلفة.

(3)

النهاية. ج: 4. ص: 203.

(4)

سيأتي تخريجه قريبًا ضمن أحاديث أبي ذر المختلفة.

(5)

المفردات في غريب القرآن. ص: 664 و665.

(6)

هود الآية رقم 12.

ص: 1137

هذه صفوة ما قاله اللغويون ومن التزم نهجهم واقتصر عليه من المفسرين والفقهاء. أما أهل التأويل فإليك صفوة آرائهم.

قال الطبري في تأويل الآية (1) يقول تعالى ذكره: {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} . يقول: بشر الكثير من الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بعذاب أليم يوم القيامة موجع من الله، واختلف أهل العلم في معنى الكنز، فقال بعضهم: هو كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤد زكاته، قالوا: وعنى بقول: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لا يؤدون زكاتها، ذكر من قال ذلك.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن ابن عمر قال: كل ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونًا، وكل ما لم تؤد زكاته فهو الكنز الذي ذكر في القرآن، يكوى به صاحبه وإن لم يكن مدفونًا.

حدثنا الحسين بن جنيد، قال: حدثنا سعيد بن مسلمة، قال: حدثنا إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: كل ما أديت منه الزكاة فليس بكنز، وإن كان مدفونًا، وكل ما لم تؤد منه الزكاة وإن لم يكن مدفونًا، فهو كنز (2)

حدثني أبو السائب، قال: حدثنا يحيى بن فضيل، عن يحيى بن سعيد عن نافع، عن ابن عمر قال: أيما مال أديت زكاته فليس بكنز، وإن كان مدفونًا في الأرض وأيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه وإن كان على وجه (3)

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي وجرير، عن الأعمش، عن عطية، عن ابن عمر قال: ما أديت زكاته فليس بكنز (4)

قال: حدثنا أبي عن العمري عن نافع عن ابن عمر قال: ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين وما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرًا (5)

قال: حدثنا جرير عن الشيباني عن عكرمة قال: ما أديت زكاته فليس بكنز.

(1) جامع البيان: 10. ص: 83 وما بعدها.

(2)

ستأتي له أسانيد أخرى.

(3)

ستأتي له أسانيد أخرى.

(4)

ستأتي له أسانيد أخرى.

(5)

ستأتي له أسانيد أخرى.

ص: 1138

حدثنا محمد بن حسين قال: حدثنا أحمد بن الفضل قال: حدثنا أسباط عن السدي قال: أما الذين يكنزون الذهب والفضة فهؤلاء أهل القبلة والكنز ما لم تؤد زكاته وإن كان على ظهر الأرض وإن قل وإن كان كثيرًا وأديت زكاته فليس بكنز.

حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر قال: قلت لعامر: مال على رف بين السماء والأرض لا تؤدى زكاته أهو كنز؟ قال: يكوى به يوم القيامة.

وقال آخرون: كل مال زاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز أديت منه الزكاة أم لم تؤد. ذكر من قال ذلك.

حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي الضحى عن جعدة بن هبيرة عن علي رحمة الله عليه قال: أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة فما كان أكثر من ذلك فهو كنز.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن جعدة بن هبيرة، عن علي مثله.

حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا الشعبي قال: أخبرني أبو حصين عن جعدة بن هبيرة عن علي رحمة الله عليه في قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} قال: أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة وما فوقها كنز.

وقال آخرون: الكنز كل ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه، ذكر من قال ذلك.

حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الله بن معاذ قال: حدثنا أبي قال: حدثنا شعبة عن أنس عن عبد الواحد أنه سمع أبا مجيب (1) قال: كان نعل سيف أبي هريرة من فضة، فنهاه عنها أبو ذر، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها)) (2)

(1) لم نقف على راو بهذا الاسم، والذي وقفنا عليه أبو مجيبة الباهلي أو الباهلية وفي ضبط اسمه أو اسمها خلاف، وقد روى عنه أو عنها النسائي كما روى ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج:10. ص: 49. ترجمة 71) ولعل في الاسم خطأ مطبعيا.

(2)

لم نقف عليه عند غير الطبري.

ص: 1139

حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا مؤمل قال: حدثنا سفيان عن منصور عن الأعمش وعمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد قال: لما نزلت {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تبًا للذهب والفضة)) ، يقولها ثلاثا. قال: فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: فأي مال نتخذ؟ فقال عمر: أنا أعلم لكم ذلك فقال: يا رسول الله، أصحابك قد شق عليهم وقالوا: فأي مال نتخذ؟ فقال: ((لسانا ذاكرًا وقلبًا شاكرًا وزوجة تعين أحدكم على دينه)) (1)

حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا مؤمل قال: حدثنا إسرائيل عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن ثوبان بمثله.

حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن منصور، عن عمرو بن مرة، عن منصور بن أبي الجعد قال: لما نزلت هذه الآية {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال المهاجرون: أي المال نتخذ؟ قال: اسألوا النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فأدركته على بعير، فقلت: يا رسول الله، إن المهاجرين قالوا: أي المال نتخذ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لسانًا ذاكرًا وقلبًا شاكرًا وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على دينه)) (2)

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أسامة قال: توفي رجل من أهل الصفة، فوجد في مئزره دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((كية)) ، ثم توفي آخر، فوجد في مئزره ديناران، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((كيتان)) (3)

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن صدي بن عجلان أبي أمامة قال: مات رجل من أهل الصفة، فوجد في مئزره دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((كية)) ثم توفي آخر، فوجد في مئزره ديناران، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((كيتان)) (4)

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن سالم، عن ثوبان قال: كنا في سفر ونحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال المهاجرون: لو وددنا أن علمنا أي المال خير فنتخذه، إذ نزل في الذهب والفضة ما نزل، فقال عمر: إن شئتم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقالوا: أجل، فانطلق فتبعته أوضع على بعيري، فقال: يا رسول الله، إن المهاجرين لما أنزل الله في الذهب والفضة ما أنزل قالوا: لو وددنا أنا علمنا أي المال خير فنتخذه، قال:((نعم ليتخذ أحدكم لسانًا ذاكرًا، وقلبًا شاكرًا، وزوجة تعين أحدكم على إيمانه)) (5)

(1) ستأتي له أسانيد أخرى.

(2)

ستأتي له أسانيد أخرى.

(3)

ستأتي له أسانيد أخرى.

(4)

ستأتي له أسانيد أخرى.

(5)

ستأتي له أسانيد أخرف.

ص: 1140

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة القول الذي ذكر عن ابن عمر، أن كل مال أديت زكاته فليس بكنز يحرم على صاحبه اكتنازه وإن كثر، وأن كل مال لم تؤد زكاته فصاحبه معاقب مستحق وعد الله، إلا أن يتفضل الله عليه بعفوه وإن قل إذا كان مما يجب فيه الزكاة، وذلك أن الله أوجب في خمس أواق من الورق على لسان رسوله ربع عشرها، وفي عشرين مثقالًا من الذهب مثل ذلك ربع عشرها، فإذا كان ذلك فرض الله في الذهب والفضة على لسان رسوله، فمعلوم أن الكثير من المال وإن بلغ في الكثرة ألوف الألوف لو كان وإن أديت زكاته من الكنوز التي أوعد الله عليها العقاب، لم يكن فيه الزكاة التي ذكرنا من ربع العشر؛ لأن ما كان فرضا إخراج جميعه من المال وحرام اتخاذه، فزكاته الخروج من جميعه إلى أهله لا ربع عشره، وذلك مثل المال المغصوب الذي هو حرام على الغاصب إمساكه، وفرض عليه إخراجه من يده إلى يده، فالتطهر منه رده إلى صاحبه، فلو كان ما زاد من المال على أربعة آلاف درهم أو ما فضل عن حاجة ربه التي لا بد منها مما يستحق صاحبه باقتنائه إذا أدى إلى أهل السهمان حقوقهم منها من الصدقة وعد الله لم يكن اللازم فيه ربع عشره، بل كان اللازم الخروج من جميعه إلى أهله وصرفه فيما يجب عليه صرفه كالذي ذكرنا من أن الواجب على غاصب مال رده إلى ربه.

وبعد فإن فيما حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، قال: قال معمر: أخبرني سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل يوم القيامة صفائح من نار يكوى بها جنبه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس، ثم يرى سبيله بين الناس وإن كانت إبلا إلا بُطح لها بقاع قرقر، تطؤه بأخفافها، حسبته قال: وتعضه بأفواهها، يرد أولاها على أخراها حتى يقضى بين الناس، ثم يرى سبيله، وإن كانت غنمًا مثل ذلك، إلا أنها تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها (1) وفي نظائر ذلك من الأخبار التي كرهنا الإطالة بذكرها، فالدلالة الواضحة على أن الوعيد إنما هو من الله على الأموال التي لم تؤد الوظائف المفروضة فيها لأهلها من الصدقة، لا على اقتنائها واكتنازها، وفيما بينا من ذلك البيان الواضح على أن الآية لخاص، لما قال ابن عباس. وذلك ما حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} يقول: هم أهل الكتاب، وقال: هي خاصة وعامة (2)

(1) ستأتي له أسانيد أخرى.

(2)

ستأتي له أسانيد أخرى.

ص: 1141

يعني بقوله: خاصة وعامة، هي خاصة من المسلمين فيمن لم يؤد زكاة ماله منهم، وعامة في أهل الكتاب؛ لأنهم كفار، لا تقبل منهم نفقاتهم إن أنفقوا، يدل على صحة ما قلنا قول ابن عباس ما حدثني المثنى، قال: حدثني عبد الله قال: حدثني معاوية عن عبد الله ابن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا} إلى قوله {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} قال: هم الذين لا يؤدون زكاة أموالهم، قال: وكل مال لا تؤدى زكاته على ظهر الأرض أو في بطنها، فهو كنز، وكل مال تؤدى زكاته، فليس بكنز، كان على ظهر الأرض أو في بطنها (1)

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد: في قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} . قال: الكنز ما كنز عن طاعة الله وفريضته وذلك الكنز وقال: إنما فرضت الزكاة والصلاة جميعًا لم يفرق بينهما.

ثم قال: وقد كان بعض الصحابة يقول: هي عامة في كل كنز غير أنها خاصة في أهل الكتاب وإياهم عنى الله بها ذكر من قال ذلك.

حدثني أبو حصين، حدثنا عبد الله بن أحمد بن يونس، قال: حدثنا هشيم، قال: حدثنا حصين، عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فلقيت أبا ذر، فقلت: يا أبا ذر، ما أنزلك هذه البلاد؟ قال: كنت بالشام، فقرأت بهذه الآية:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية، فقال معاوية: ليست هذه الآية فينا، إنما هذه الآية في أهل الكتاب قال: قلت: إنها فينا وفيهم، قال: فارتفع في ذلك بيني وبينه القول، فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إليَّ: أن أقبل إليَّ. قال: فأقبلت، فلما قدمت المدينة ركبني الناس، كأنهم لم يروني قبل يومئذ، فشكوت ذلك إلى عثمان، فقال لي: تنح قريبًا، قلت: والله لن أدع ما كنت أقول (2)

حدثنا أبو كريب وأبو السائب وابن وكيع، قالوا: حدثنا ابن إدريس، قال: حدثنا حصين، عن زيد بن وهب، قال: مررنا بالربذة ثم ذكر عن أبي ذر نحوه (3)

حدثني أبو السائب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن أشعث وهشام، عن أبي بشر قال: قال أبو ذر: خرجت إلى الشام فقرأت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فقال معاوية: إنها لأهل الكتاب، فقال: إنها لفينا وفيهم.

(1) ستأتي له أسانيد أخرى.

(2)

ستأتي له أسانيد أخرى.

(3)

ستأتي له أسانيد أخرى.

ص: 1142

حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن زيد بن وهب، قال: مررت بالربذة، فإذا أنا بأبي ذر قال: قلت له: ما أنزل منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال: فقال: فنزلت في أهل الكتاب فقلت: نزلت فينا وفيهم.

ثم ذكر حديث هشيم عن حصين (1) وقال الشافعي (2) قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ، فأبان أن في الفضة زكاة، وقول الله عز وجل {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يعني والله أعلم في سبيله التي فرض من الزكاة وغيرها، فأما دفن المال فضرب من إحرازه، وإذا حل إحرازه بشيء حل بالدفن وغيره.

وقال الجصاص (3) بعد أن روى طرفًا مما رواه الطبري ونقلناه عنه من آثار الصحابة والتابعين في تأويل الآية: روي عنه صلى الله عليه وسلم: ((من سأل عن ظهر غنى، فإنما يستكثر من جمر جهنم)) فقلنا: وما غناه يا رسول الله؟ قال: أن يكون عند أهله ما يغذيهم ويعشيهم هذا الحديث متواتر روي من طرق متعددة عن عدد من الصحابة ولئن تكلموا في بعض مسنديه، فإن كلامهم لا ينزل بالحديث عن درجة المتواتر، بل إن من تكلموا فيهم وثقهم البعض وغمز فيهم آخرون غمزًا لا نرى الاعتداد به. وهذه طرقه وأسانيده متوالية حسب ترتيب مخرجيها عندنا. قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف. ج:3. ص: 180) : حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل وله ما يغنيه كان خدوشًا أو كدوحًا في وجهه)) قيل: يا رسول الله، وما غناؤه؟ قال: ((خمسون درهمًا أو حسابها من الذهب)) .

(1) ستأتي له أسانيد أخرى.

(2)

أحكام القرآن. ج:1. ص: 101.

(3)

أحكام القرآن. ج: 3. ص: 13.

ص: 1143

وقال (الكتاب المصنف. ص: 208 و209) : حدثنا ابن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((من سأل الناس تكثرًا، فإنما يسأل جمرة، فليستقل منه أو ليستكثر)) .

حدثنا ابن نمير، عن مجالد، عن الشعبي، عن حبشي السلولي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سأل الناس ليثري به ماله، فإنه خموش في وجهه ورضف من جهنم، يأكله يوم القيامة)) وذلك في حجة الوداع. وقال أحمد (الساعاتي الفتح الرباني: ج 9. ص: 90 ح:131) حدثنا وكيع حدثنا سفيان، عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل وله ما يغنيه، جاءت يوم القيامة خدوشًا أو كدوشًا في وجهه. قالوا يا رسول الله، ما غناه؟ قال: خمسون درهمًا أو حسابها من الذهب)) .

وقال (الفتح الرباني. ج 9. ص: 93. ح: 137) : حدثني محمد بن يحيى بن أبي سمينة، حدثنا عبد الصمد، حدثني أبي، حدثنا حسن بن ذكوان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عصام بن أبي ضمرة، عن علي – رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل مسألة عن ظهر غنى استكثر بها من رضف جهنم. قالوا: ما ظهر غنى قال: عشاء ليلة)) .

وقال (الفتح الرباني ج9 ص: 94 ح: 138) حدثنا يحيى بن آدم ويحيى بن أبي بكير قالا: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حبشي بن جنادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأله من غير فقر، فكأنما يأكل الجمر)) .

قال: (الفتح الرباني. ج 9. ص: 94. ح: 139) : حدثنا علي بن عبد الله، حدثني الوليد بن مسلم، حدثني عبد الله بن يزيد بن جابر، قال: حدثني ربيعة بن يزيد، حدثني أبو كبشة السلولي، أنه سمع سهل بن الحنظلية الأنصاري رضي الله عنه – صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ((أن عيينة والأقرع سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فأمر معاوية أن يكتب به لهما، ففعل، وختمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بدفعه إليهما، فأما عيينة فقال: ما فيه؟ قال: فيه الذي أمرت به. فقبله وعقده في عمامته، وكان أحكم الرجلين، وأما الأقرع فقال: أحمل صحيفة لا أدري ما فيها صحيفة المتلمس، فأخبر معاوية رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهما، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة، فمر ببعير مناخ في باب المسجد من أول النهار، ثم مر به آخر النهار وهو على حاله، فقال: أين هو صاحب هذا البعير؟ فابتغي، فلم يوجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتقوا الله في هذه البهائم، ثم اركبوها صحاحًا واركبوها سمانًا - كالمتسخط آنفًا - إنه من سأل وعنده ما يغنيه، فإنما يستكثر من نار جهنم. قالوا: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: ما يغذيه أو يعشيه))

ص: 1144

وقال (الفتح الرباني. ج 9.ص: 96. ح: 140) : حدثنا علي بن عبد الله بن جعفر، حدثنا عبد الله بن عبد الملك بن عثمان، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة بن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((من سأل مسألة وهو عنها غني، كانت شيئًا في وجهه يوم القيامة)) .

وقال (الفتح الرباني. ح: 141 و143) : حدثنا وكيع، حدثنا أبو الأشهب، عن الحسن بن عمران، عن حصين – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مسألة الغني شين في وجهه يوم القيامة.

حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا عمارة بن أبي زرعة، عن أبي هريرة – رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس أموالهم تكثرًا، فإنما يسأل جمرًا، فليستقل منه أو ليستكثر)) .

وقال ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج:5. ص:166. ح: 3382) : أخبرنا أبو عروبة، قال: حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن الحراني، قال: حدثنا يحيى بن السكن، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق قال: قال عمر بن الخطاب: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس ليثري ماله، فإنما هو رضف من النار يتلهبه، من شاء فليقل، ومن شاء فليكثر)) . وقال (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج5.ص: 166 و167.ح: 3384 و3385) : أخبرنا أبو يعلى، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا بن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس من أموالهم، فإنما سأل جمرًا، فليستقل منه أو ليستكثر)) .

ص: 1145

أخبرنا محمد بن مكرم البرتي ببغداد، قال: حدثنا علي بن المديني، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثني عبد الرحمن بن يزيد، عن جابر قال: حدثني ربيعة بن يزيد، قال: حدثني أبو كبشة السلولي، أنه سمع سهل بن الحنظلية صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ((أن الأقرع وعيينة سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر معاوية أن يكتب به لهما، وختمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بدفعه إليهما، فأما عيينة فقال: ما فيه؟ فقال: فيه الذي أمرت به، فقبله وعقده في عمامته، وكان أحلم الرجلين، وأما الأقرع فقال: أحمل صحيفة لا أدري مافيها كصحيفة المتلمس، فأخبر معاوية رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجته، فمر ببعير مناخ على باب المسجد في أول النهار، ثم مر به في آخر النهار وهو في مكانه، فقال: أين صاحب هذا البعير؟ فابتغي فلم يوجد، فقال: اتقوا الله في هذه البهائم، اركبوها صحاحًا، أو كلوها سمانًا. كالمتسخط آنفًا إنه من سأل شيئًا وعنده ما يغنيه، فإنما يستكثر من جمر جهنم، قالوا: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: ما يغذيه أو يعشيه.))

وقال مسلم (الصحيح على هامش شرح النووي ج: 7.ص: 130) : حدثنا أبو كريب وواصل بن عبد الأعلى، قالا: حدثنا ابن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((من سأل الناس أموالهم تكثرًا، فإنما يسأل جمرًا، فليستقل أو ليستكثر)) .

وقال الترمذي (الجامع الصحيح. ج: 3.ص: 40 و41. ح: 650 و651) : حدثنا قتيبة وعلي بن حجر - قال قتيبة: حدثنا شريك، وقال علي: أخبرنا شريك، والمعنى واحد - عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس وله ما يغنيه، جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح. قيل: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب)) . وتعقبه بقوله: وفي الباب عن عبد الله بن عمرو، ثم قال: حديث ابن مسعود حديث حسن، وقد تكلم حميد في شعبة بن جبير من أجل هذا الحديث.

ص: 1146

حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا سفيان، عن حكيم بن جبير بهذا الحديث، فقال له عبد الله بن عثمان صاحب شعبة: أو غير حكيم حدث بهذا الحديث؟ فقال له سفيان: وما لحكيم لا يحدث عن شعبة؟ قال: نعم، قال سفيان: سمعت زيدًا يحدث بهذا، عن محمد، عن عبد الرحمن بن يزيد. وقال أبو داود (السنن. ج: ص: 116. ح: 1636) : حدثنا الحسن بن علي، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا سفيان، عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل وله ما يغنيه، جاءت يوم القيامة خدوش أو حموش أو كدوح في وجهه. فقيل: يا رسول الله، وما الغنى؟ قال: خمسون درهمًا وما قيمتها من الذهب)) . قال يحيى: فقال عبد الله بن عثمان لسفيان: حفظي أن شعبة لا يروي عن حكيم بن جبير. فقال سفيان: فقد حدثناه زيد، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد.

وقال أبو داود (السنن. ح: 1629 و1630) : حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، حدثنا مسكين، حدثنا محمد بن المهاجر، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي كبشة السلولي، حدثنا سهيل بن الحنظلية، قال:((أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، فأمر لهما بما سألا، فأما الأقرع فأخذ كتابه فلفه في عمامته وانطلق، وأما عيينة فأخذ كتابه وأتى النبي صلى الله عليه وسلم مكانه، فقال: يا محمد، أتراني حاملًا إلى قومي كتابًا لا أدري ما فيه كصحيفة المتلمس، فأخبر معاوية بقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سأل وعنده ما يغنيه، فإنما يستكثر من النار. وقال النفيلي في موضع آخر: " من جمر جهنم ". فقالوا: يا رسول الله، وما يغنيه؟ وقال النفيلي في موضع آخر: وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة؟ قال: قدر ما يغذيه ويعشيه. وقال النفيلي في موضع آخر: " أن يكون له شبع يوم وليلة أو ليلة ويوم ")) .

وكان حدثنا به مختصرًا على هذه الألفاظ التي ذكرت، حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا عبد الله – يعني ابن عمر بن غانم – عن عبد الرحمن بن زياد، أنه سمع زياد بن نعيم الحضرمي، أنه سمع زياد بن الحرث الصدائي، قال: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعته

فذكر حديثًا طويلًا، قال: فأتاه رجل، فقال: أعطني من الصدقة؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك)) .

وقال النسائي (السنن. ج: 5.ص: 97) : أخبرنا أحمد بن سليمان، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا سفيان الثوري، عن حيكم بن جبير، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال:((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سأل وله ما يغنيه، جاءت خدوشًا أو كدوحًا في وجهه يوم القيامة. قيل: يا رسول الله، ماذا يغنيه، أو ماذا أغناه؟ قال: خمسون درهمًا أو حسابها من الذهب)) . قال سفيان: وسمعت زيدًا يحدث، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد. وقال ابن ماجه (السنن. ج:1. ص589. ح: 1838) : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس أموالهم تكثرًا، فإنما يسأل جمر جهنم، فليستقل أو ليكثر)) .

ص: 1147

وقال (السنن. ح: 1840) : حدثنا الحسن بن علي الخلال، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا سفيان، عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل وله ما يغنيه، جاءت مسألته يوم القيامة خموشًا أو خدوشًا أو كدوحًا في وجهه، قيل: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب)) . قال رجل لسفيان: إن شعبة لا يحدث عن حكيم بن جبير، فقال سفيان: قد حدثناه زيد، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد.

وقال الدارمي (السنن. ج: 1.ص: 387) : أخبرنا محمد بن عبد الله الرقاشي، حدثنا يزيد - هو ابن زريع - حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((من سأل الناس مسألة وهو عنها غني، كانت شيئًا في وجهه)) .

وقال الدراقطني (السنن: ج:2. ص: 121. ح: 1 و2 و4 و5 و6) : حدثنا القاسم بن إسماعيل، حدثنا يحيى بن المعلى بن منصور، حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثني الحسين بن عمرو بن خالد، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((من سأل مسألة عن ظهر غني استكثر بها من رضف جهنم. قالوا: يا رسول الله، وما ظهر الغني؟ قال: عشاء ليلة)) . وتعقبه بقوله: عمرو بن خالد متروك.

حدثنا عثمان بن جعفر بن اللبان، حدثنا محمد بن إبراهيم النبيرة، حدثنا محمد بن إسماعيل الجعفري، حدثنا عبد الله بن سلمة بن أسلم عن عبد الرحمن المسور بن مخرمة، عن أبيه، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((من سأل الناس عن ظهر غنى جاء يوم القيامة في وجهه خموش أو خدوش قيل: يا رسول الله، ما الغنى؟ قال: خمسون درهما أو قيمتها من الذهب)) . وتعقبه بقوله: ابن أسلم ضعيف.

حدثنا أبو هريرة الأنطاكي، حدثنا أبو زيد أحمد بن عبد الرحيم بن بكر بن فضيل، حدثنا محمد بن مصعد، حدثنا حماد بن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال:((سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من سأل الناس وهو غني، جاء يوم القيامة وفي وجهه كدوح وخدوش. فقيل: يا رسول الله، ما غناه؟ قال: أربعون درهمًا أو قيمتها ذهبًا)) .

حدثنا الحسن بن إسماعيل، حدثنا أبو هشام. وحدثنا محمد بن القاسم، حدثنا أبو كريب، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وقال:" خمسون درهمًا". وتعقبه بقوله: الأول وهم، قوله: عن أبي إسحاق. وإنما هو حكيم بن حبير، وهو ضعيف، تركه شعبة وغيره.

ص: 1148

قرئ عن أبي القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز - وأنا أسمع - حدثكم إسحاق بن إسرائيل أبو يعقوب المروزي، حدثني شريك بن عبد الله بن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ما سأل وله غنى، جاء يوم القيامة وفي وجهه كدوح أو خدوش أو خموش. قيل: وما غناه يا رسول الله؟ قال: خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب)) . وتعقبه بقوله: حكيم بن جبير متروك.

وقال الطحاوي (شرح معاني الآثار. ج: 2.ص: 49و20) : حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا مخول بن إبراهيم، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حبشي بن جنادة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سأل من غير فقر، فإنه يأكل الجمر)) .

حدثنا فهد، قال: حدثنا أبو غسان، قال: حدثنا إسرائيل فذكر مثله. ثم قال: حدثنا الحسين بن نصر، قال: حدثنا الفريابي. وحدثنا نصر بن مرزوق، قال: حدثنا أبو عاصم. قالا جميعًا: عن سفيان، عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن زيد النخعي، عن أبيه، عن ابن مسعود – رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يسأل عبد مسألة وله ما يغنيه إلا جاءت شينا أو كدوحًا أو خدوشًا في وجهه يوم القيامة. قيل: يا رسول الله، وماذا غناه؟ قال: خمسون درهمًا أو حسابها من الذهب)) .

حدثنا أحمد بن خالد البغدادي، قال: حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: حدثنا يحيى بن آدم. قال: حدثنا سفيان فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال:(كدوحًا في جهه) ، ولم يشك، وزاد:(فقيل لسفيان: لو كان غير حكيم. قال: حدثناه زيد، عن محمد بن عبد الرحمن، عن يزيد مثله.)

ص: 1149

حدثنا أبو بشر الرقي، قال: حدثنا ابن سويد، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: حدثنا ربيعة بن يزيد، عن كبشة السلولي، قال: حدثنا أبو حنظلة السلولي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سأل الناس عن ظهر غنى، فإنما يستكثر من جمر جهنم. قلت: يا رسول الله، وما ظهر غنى؟ قال: أن يعلم أن عند أهله ما يغذيهم أو يعشيهم)) .

حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا أبو عمرو الحوطي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد بن مردويه، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل وله ما يغنيه، جاءت شينا في وجهه يوم القيامة)) .

ثم قال: حدثنا أحمد بن داود، حدثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي، قال: حدثنا محمد بن الفضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس تكثرًا، فإنما هو جمر، فليستقل أو ليستكثر)) .

وقال الطبراني (المعجم الكبير. ج: 4. ص: 14 و15. ح: 3505) : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، حدثنا أبي، حدثنا أبو حمزة، عن الشعبي، عن حبشي بن جنادة السلولي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سأل الناس في غير مصيبة حاجته، فكأنما يلتقم الرضفة)) .

وقال (المعجم الكبير: ح: 3506 و3507 و3508) : حدثنا محمد بن النضر الأزدي، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حبشي بن جنادة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سأل من غير فقر، فكأنما يأكل الجمرة)) ، حدثنا أبو مسلم الكشي، حدثنا عبد العزيز بن الخطاب. وحدثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني، حدثنا إبراهيم بن عمرو البجلي. وحدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا يحيى الحماني. قالوا: حدثنا قيس بن الربيع، عن أبي إسحاق، عن حبشي بن جنادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل من غير فقر، فإنما يأكل من جمرة)) .

حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا موسى بن الحسين أبو الحسين السلولي، حدثنا غصن بن حماد، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حبشي بن جنادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل من غير فقر، فكأنما يأكل جمرًا)) .

وقال (المعجم الكبير. ج: 10. ص: 159. ح: 10199) : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثنا نصر بن ناب، عن الحجاج، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((من سأل مسألة وهو عنها غني، جاءت يوم القيامة كدوحًا في وجهه، لا تحل الصدقة لمن له خمسون درهمًا أو عرضها ذهبًا)) .

وقال البيهقي (السنن الكبرى. ج: 4. ص: 174) : أخبرني أبو الحسن بن بشران العدل ببغداد، أنبأ أبو الحسن أحمد بن إسحاق الطيبي، حدثنا أبو علي بشر بن موسى الأسدي المقري، حدثنا عبد الرحمن بن زياد، حدثني زياد بن نعيم الحضرمي قال: سمعت زياد بن الحارث الصدائي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم

فذكر الحديث، إلى أن قال: ثم أتاه آخر، فقال: يا نبي الله، أعطني. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:((من سأل الناس عن ظهر غنى، فصداع في الرأس، وداء في البطن. فقال السائل: أعطني من الصدقة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز جل لم يرض فيها بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم هو فيها، فجزأها ثمانية أجزاء، إن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك، أو أعطيناك حقك)) .

وكان ذلك في وقت شدة الحاجة ووجوب المواساة من بعضها (1) لبعض".

ثم دافع عن القول بأن الآية لا تعني وجوب الخروج من كل ما يملكه المسلم من الذهب والفضة مستدلا بوجوب الزكاة فيهما.

ثم قال: " إلا أن تحدث أمور توجب المواساة والإعطاء نحو الجائع المضطر، والعاري المضطر، أو ميت ليس له من يكفنه أو يواريه".

واستدل على هذا بحديث فاطمة بنت قيس الذي نقلناه ووقفنا عنده منذ حين.

ثم قال:

" وقوله تعالى: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يحتمل أن يريد به ولا ينفقون منها فحذف " من " وهو يريدها، وقد بينها بقوله:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (2) فأمر بأخذ بعض المال لا جميعه، وليس في ذلك ما يوجب نسخ الأول (3) إذ جائز أن يكون مراده: لا ينفقون منها.

(1) لعل في العبارة خطأ صوابه: من بعضهم.

(2)

الآية رقم: (105) سورة التوبة.

(3)

لعل الصواب: نسخ الأولى.

ص: 1150

قلت: يفند بهذا القول ما روي عن عمر بن عبد العزيز، أن آية الكنز منسوخة بقوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وكان من بين نقله من التأويلات.

وقال ابن العربي (1)

" وقد اختلف فيه - يعني في الكنز- على سبعة أقوال:

الأول: أنه المجموع من المال على كل حال.

الثاني: أنه المجموع من النقدين، يعني الذهب والفضة.

الثالث: أنه المجموع منهما ما لم يكن حليًا.

الرابع: أنه المجموع منهما دفينًا.

الخامس: أنه المجموع منهما لم تؤد زكاته.

السادس: أنه المجموع منهما لم تؤد منه الحقوق.

السابع: أنه المجموع ما لم ينفق ويهلك في ذات الله ".

ثم قال:

" وقد قال بعض الناس: إن ما زاد على أربعة آلاف كنز، وعزوه إلى علي، وليس بشيء يذكر لبطلانه (2)، أما أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال: هكذا وهكذا. وأشار بيده يفرقها)) (3) قال أبو ذر: الأكثرون أصحاب عشرة آلاف، يريد أن الأكثرين مالًا هم الأقلون يوم القيامة ثوابًا، إلا من فرقه في سبيل الله.

قلت – ابن العربي هو القائل -: وهذا بيان لضمان الرتبة بقلة الصدقة، لا لوجوب التفرقة بجميع المال ما عدا الصدقة الواجبة".

ثم استظهر بحديث ثوبان (4) الذي نقلناه آنفًا.

ثم قال:

" فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا جوابًا لمن علم رغبته في المال، فرده إلى منفعة المال لما فيه من الفراغ وعدم الاشتغال ".

(1) أحكام القرآن. ج: 2.ص: 298 و931.

(2)

تقدم إسناده ضمن أحاديث أبي ذر

(3)

تقدم إسناده ضمن أحاديث أبي ذر

(4)

تقدم إسناده ضمن أحاديث أبي ذر

ص: 1151

قلت: جرى ابن العربي في هذا على مذهبه الخاص به، من أنه ليس في المال حق سوى الزكاة، وأن كل نفقة أخرى لا تعدو أن تكون مندوبًا إليها، وله تأويله، بيد أن استدلاله من التهافت والضعف، بحيث نعجب منه أن ركن إليه، ذلك بأن حديث ثوبان فيه وعيد، وليس مجرد ترتيب لأصناف من يثابون أو تبيان لرتبهم، يظاهرنا في هذا الفهم ما سبق أن نقلناه وما سننقله بعد من أحاديث وآثار تثبت أن حديث ثوبان أبعد شيء من أن يكون دليلًا على عدم وجوب الإنفاق على من أدى زكاة ماله إذا تعين أمر أو ظرف يقتضي من القادر الإنفاق.

وقال القرطبي (1) عند شرحه لهذه الآية: " واختلف العلماء في المال الذي أديت زكاته، هل يسمى كنزا أم لا؟ فقال قوم: نعم، رواه أبو الضحى، عن جعدة بن هبيرة، عن علي – رضي الله عنه – قال علي: أربعة آلاف فما فوقها نفقة، وما كثر فهو كنز، وإن أديت زكاته. (2) ولا يصح. وقال قوم: ما أديت زكاته منه أو من غيره عنه، فليس بكنز، قال ابن عمر:ما أدي زكاته، فليس بكنز، وإن كان تحت سبع أرضين، وما لم تؤد زكاته، فهو كنز، وإن كان فوق الأرض. (3) ومثله عن جابر وهو الصحيح، وروى البخاري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من آتاه الله مالًا فلم يؤد زكاته، مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع، له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه – يعني بشدقيه – ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك. ثم تلا {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} )) (4) وفيه أيضًا عن أبي ذر قال: انتهيت إليه- يعني النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده - أو الذي لا إله غيره، أو كما حلف - ما من رجل يكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها، إلا أتى بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه، تطؤه بأخفافها، وتنطحه بقرونها، كلما جازت أخراها ردت عليه أولاها، حتى يقضي الله بين الناس)) (5) فدل دليل خطاب هذين الحديثين على صحة ما ذكرنا ".

(1) الجامع لأحكام القرآن. ج: 8. ص: 125 وما بعدها

(2)

تقدم إسناده ضمن أحاديث أبي ذر

(3)

تقدم إسناده ضمن أحاديث أبي ذر.

(4)

الآية رقم: (180) سورة آل عمران.

(5)

تقدم إسناده ضمن أحاديث أبي ذر.

ص: 1152

قلت: لا دليل فيهما؛ لأن الوعيد في آية الكنز يختلف عن الوعيد في الحديثين، أما استشهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} (1) فهو دليل على عمومها للزكاة وغيره، وليس دليلًا على معنى آية الكنز، ونوع العذاب الذي أوعد به الكانزون، وشتان بين الشجاع الأقرع وتطويقه وأخذه بهلزمتي مانع الزكاة وبين ما أوعد به الكانز {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} .

ثم قال: " وقد بين ابن عمر في صحيح البخاري هذا لمعنى، قال له أعرابي: أخبرني عن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} قال ابن عمر: من كنزها فلم يؤد زكاته، فويل له، فإنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة فلما أنزلت جعلها الله طهرًا للأموال ".

قلت: سنبين من بعد أن هذا وهم من ابن عمر إن صح عنه حين نحدد الزمن الذي نزلت فيه سورة التوبة والزمن الذي فرضت فيه الزكاة، وبَيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنصبتها.

ثم قال:

" وقيل: الكنز ما فضل عن الحاجة، روي عن أبي ذر، وهو ما نقل من مذهبه، وهو من شدائده وممن تفرد به رضي الله عنه، ويحتمل أن يكون مجمل ما روي عن أبي ذر في هذا ما روي أن الآية نزلت في وقت شدة وضعف المهاجرين وقصر يد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كفايتهم، ولم يكن في بيت المال ما يسعهم، وكانت السنون الحوائج هاجمة عليهم، فنهوا عن إمساك شيء من المال إلا على قدر الحاجة، ولا يجوز إدخار الذهب والفضة في مثل هذا الوقت، فلما فتح الله على المسلمين ووسع عليهم، أوجب صلى الله عليه وسلم في مائتي درهم خمسة دراهم، وفي عشرين دينارًا نصف دينار، ولم يوجب الكل، واعتبر مدة الاستنماء، وكان ذلك منه بيانًا صلى الله عليه وسلم".

(1) الآية رقم: (180) سورة آل عمران.

ص: 1153

قلت: هذا يتجه لو لم تكن سورة التوبة نزلت سنة تسع، وكان جلها متصلًا بغزوة تبوك، وظروفها وبعضها ممهدًا لها، وسنة تسع كانت بعد فتح مكة بعام كامل، وفتح مكة تتويج للفتوحات الإسلامية في العهد النبوي ولم يكن المسلمون يومئذٍ – ومنهم المهاجرون – في مثل الخصاصة التي يحاول أن يدعيها صاحب هذا القول، إلا أن يكون قد التبس عليه التاريخ.

ثم قال:

" وقيل: الكنز ما لم تؤد منه الحقوق العارضة، كفك الأسير، وإطعام الجائع".

وقال الرازي (1) بعد أن استعرض التأويلات المأثورة: " القول الأول، وانتهى إلى قول ابن عباس في قوله: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يريد الذين لا يؤدون زكاة أموالهم، قال القاضي: تخصيص هذا المعنى بمنع الزكاة لا سبيل إليه، بل الواجب أن يقال: الكنز: هو المال الذي ما أخرج " عنه". (2) ما وجب إخراجه " عنه " (3) ، ولا فرق بين الزكاة وبين ما يجب من الكفارات وما يلزم من نفقة الحج أو الجمعة (4) وبين ما يجب إخراجه في الدين والحقوق والإنفاق على الأهل أو العيال وضمان المتلفات وأروش الجنايات، فيجب في كل هذه الأقسام أن يكون داخلًا في الوعيد.

القول الثاني: المال الكثير إذا جمع فهو المذموم، سواء أديت زكاته أو لم تؤد، ثم ذكر أن أصحاب هذا القول احتجوا أولًا بعموم هذا الآية، وقال: ولا شك أن ظاهرها دليل على المنع من جمع المال، فالمصير إلى أن الجمع مباح بعد إخراج الزكاة ترك لظاهر هذه الآية، فلا يصار إليه بدليل منفصل.

والثاني: ما روى سالم بن الجعد أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تبًا للذهب والفضة. قالها ثلاثًا، فقالوا له: أي مال نتخذ؟ قال: لسانًا ذاكرًا وقلبًا خاشعًا وزوجة تعين أحدكم على دينه)) (5) وقال عليه السلام: ((من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها)) (6) .

وتوفي رجل، فوجد في مئزره دينار، فقال عليه السلام: كية. وتوفي آخر، فوجد في مئزرة ديناران، فقال عليه الصلاة والسلام: كيتان.

والثالث ما روي عن الصحابة في هذا الباب، فقال علي: كل ما زاد عن أربعة آلاف فهو كنز، أديت منه الزكاة أم لم تؤد (7) .

وعن أبي هريرة: كل صفراء أو بيضاء أوكى عليها صاحبها فهي كنز.

(1) التفسير الكبير. المجلد: 8. ج: 16. ص: 45 وما بعدها.

(2)

لعل الصواب: " منه ".

(3)

لعل الصواب: " منه ".

(4)

لم يتضح لنا ما يقصد بالجمعة.

(5)

تقدم إسناده ضمن أحاديث أبي ذر.

(6)

لم نقف عليه عند غير الطبري.

(7)

راجع الهامش رقم (1) ص 1502.

ص: 1154

وعن أبي الدرداء أنه كان إذا رأى أن التعسير قال ابن منظور (لسان العرب ج: 4. ص: 565 و566) : والعسير: الناقة التي لن تحمل سنتها، والعسيرة: الناقة التي اعتاطت فلم تحمل عامها، وفي التهذيب بغيرها، وقال الليث: العسير: الناقة التي اعتاطت فلم تحمل سنتها، وقد أعسرت وعسرت. ثم قال: والعسير من الإبل عند العرب التي اعتسرت فلم تركب، ولم تكن ذللت قبل ذلك ولا رضت، وكذا فسره الأصمعي، وكذلك قال ابن السكيت: العسير: الناقة التي ركبت قبل تذليلها، وعسرت الناقة تعسر عسرًا وعسرانًا وهي عاسر وعسير رفعت ذنبها في عدوها. قلت: يظهر لي أن في عبارة الرازي تصحيفًا مطبعيا صوابه: " العير " إذ لا يوجد في السياق ما يرجح كلمة " العسير" وإن استعملت في بعض حالات الإبل والنوق. فتأمل.

ولم نقف على تخريج لهذا الأثر، لكنه يشبه كلام أبي ذر، وقد تقدم، وكانا صديقين على سن متشابه في التفكير والسلوك، وإن كان أبو الدرداء أحصف عقلًا وأهدأ نفسًا وألطف معاملة رضي الله عنهما وأرضاهما. تقدم بالمال صعد على موضع مرتفع، ويقول: جاء القطار يحمل النار، وبشر الكنازين بكي في الجباه والجنوب والظهور والبطون

والرابع: أنه تعالى إنما خلق الأموال ليتوسل بها إلى دفع الحاجات، فإذا حصل للإنسان قدر ما يدفع به حاجته ثم جمع الأموال الزائدة عليه، فهو لا ينتفع بها لكونها زائدة على قدر حاجته، ومنعها من الغير الذي يمكنه أن يدفع حاجته بها، فكان هذا الإنسان بهذا المنع مانعًا من ظهور حكمته ومانعًا من وصول إحسان الله إلى عباده.

واعلم أن الطريق الحق أن يقال: الأولى لا يجمع الرجل الطالب للدين المال الكثير إلا أنه لم يمنع عنه في ظاهر الشرع، فالأول محمول على التقوى، والثاني على ظاهر التقوى، أما بيان أن الأولى الاحتراز من طلب المال الكثير فبوجوه:

ص: 1155

الوجه الأول: أن الإنسان إذا أحب شيئًا فكلما كان وصوله إليه أكثر والتذاذه بوجدانه أكثر، كان حبه له أشد وميله أقوى، فالإنسان إذا كان فقيرًا، فكأنه لم يذق لذة الانتفاع بالمال، وكأنه غافل عن تلك اللذة، فإذا ملك القليل من المال وجد بقدره اللذة، فصار ميله أشد، فكلما صارت أمواله أزيد، كان التذاذه به أكثر، وكان حرصه في طلبه وميله إلى تحصيله أشد، فثبت أن تكثير المال سبب لتكثير الحرص في الطلب، فالحرص متعب للروح والنفس والقلب، وضرره شديد، فوجب على العاقل أن يحترز عن الإضرار بالنفس، وأيضًا قد بينا أنه كلما كان المال أكثر، كان الحرص أشد، فلو قدرنا أنه كان ينتهي طلب المال إلى حد ينقطع عنه الطلب ويزول الحرص.

لقد كان الإنسان يسعى في الوصول إلى ذلك الحد، أما كما ثبت بالدليل أنه كلما كان تملك الأموال أكثر، كان الضرر الناشئ من الحرص أكبر، وأنه لا نهاية لهذا الضرر ولهذا الطلب، فوجب على الإنسان أن يتركه في أول الأمر كما قال:

رأى الأمر يفضي إلى آخر فصير آخره أولًا

والوجه الثاني: أن كسب المال شاق شديد، وحفظه بعد حصوله أشد وأشقى وأصعب، فيبقى الإنسان طيلة عمره تارة في طلب التحصيل، وأخرى في تعب الحفظ، ثم إنه لا ينتفع بها إلا بالقليل، وبالآخر يتركها مع الحسرات والزفرات، وذلك هو الخسران المبين.

الوجه الثالث: أن كثرة المال والجاه تورث الطغيان كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى} (1) والطغيان يمنع من وصول العبد إلى مقام رضوان الرحمن ويوقعه في الخسران والخذلان.

وقال محمد الطاهر بن عاشور (2) عند شرحه لهذه الآية: " فالموصول - يعني في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ} الآية - مراد به قوم معهودون يعرفون أنهم المراد من الوعيد ويعرفهم المسلمون، ولذلك لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أنب قومًا بأعيانهم.

ومعنى: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} انتفاء الإنفاق الواجب وهو الصدقات الواجبة والنفقات الواجبة إما وجوبًا مستمرًا كالزكاة، وإما وجوبًا عارضًا كالنفقة في الحج الواجب والنفقة في نوائب المسلمين مما يدعو الناس إليه ولاة العدل. والضمير المؤنث في قوله:{يُنْفِقُونَهَا} عائد إلى الذهب والفضة، والوعيد منوط بالكنز وعدم الإنفاق، فليس الكنز وحده بمتوعد، وليست الآية في معرض أحكام ادخار المال وفي معرض إيجاب الإنفاق، ولا هي في تعيين سبيل البر المعروف التي يجب الإخراج لأجلها من المال، ولا داعي إلى تأويل الكنز بالمال الذي لم تؤد زكاته حين وجوبها، ولا إلى تأويل الإنفاق بأداء الزكاة الواجبة، ولا إلى تأويل سبيل الله بالصدقات الواجبة؛ لأنه ليس المراد باسم الموصول العموم، بل أريد به العهد، فلا حاجة إلى ادعاء أنها نسختها آية وجوب

الزكاة، فإن وجوب الزكاة سابق على وقت نزول هذه الآية ".

(1) الآية رقم: (6) و (7) سورة العلق.

(2)

التحرير والتنوير. ج: 10. ص: 176 و177.

ص: 1156

ثم نقل من الموطأ قول ابن عمر: إن الكنز هو ما لم تؤد زكاته. وحديث أبي هريرة عن المال الذي لم تؤد زكاته وأخذه بلهزمتي صاحبه يوم القيامة، وهو يقول: أنا مالك أنا كنزك.

وقد ذكرناهما آنفًا.

ثم قال:

" فتأويله أن ذلك بعض ماله وبعض كنزه، فهو بعض الكنز المذموم في الكتاب والسنة، وليس كل كنز مذمومًا، وشذ أبو ذر فحمل الآية على عموم الكانزين في جميع أحوال الكنز وعلى عموم الإنفاق، وحمل {سَبِيلِ اللَّهِ} على وجوه البر، فقال بتحريم كنز المال، وكأنه تأول {وَلَا يُنْفِقُونَهَا} على معنى ما يسمى عطف التفسير أي: على معنى العطف لمجرد القرن بين اللفظين، فكان أبو ذر بالشام ينهى الناس عن الكنز، ويقول: وبشر الكناز بمكاوٍ من النار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. فقال له معاوية وهو أمير الشام في خلافة عثمان: إنما نزلت الآية في أهل الكتاب، فقال أبو ذر: نزلت فيهم وفينا. واشتد قول أبي ذر على الناس ورأوه قولًا لم يقله أحد في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فشكاه معاوية إلى عثمان، فاستجلبه من الشام وخشي أبو ذر الفتنة في المدينة، فاعتزلها وسكن الربذة، وثبت على قوله".

قلت: أبدأ الناس وأعادوا وخبوا وأوضعوا حول أبي ذر- رحمه الله – وحديثه أو أحاديثه، وليس شأننا في هذا المجال استقراء ما روي عن أبي ذر في شأن الكنز، إنما شأننا استجلاء المقاصد من مجموع حديث أبي ذر مع معاوية وعثمان وروايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول ما ينبغي الوقوف عنده وهو أساسي في تقديرنا، هو أن أبا ذر رضي الله عنه كان ممن يفتي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أوعية العلم، فقد ذكره ابن سعد في طبقاته (فيمن ذكر من أهل العلم والفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ، وروى في شأنه أثرًا لعلي رضي الله عنه فضلًا عن أثرين آخرين.

(1) طبقات ابن سعد. ج: 2. ص: 350 و354.

ص: 1157

فقال: أخبرنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، أخبرني أبو حرب بن أبي الأسود، عن أبي الأسود قال: قال ابن جريج ورجل من زاذان، قالا: سئل علي رضي الله عنه عن أبي ذر فقال: وعى علما عجز فيه، وكان شحيحًا حريصًا، شحيحًا على دينه حريصًا على العلم، وكان يكثر السؤال، فيعطي ويمنع، أما إنه ملئ له في وعاء حتى امتلأ، فلم يدروا ما يريد بقوله:(وعى علما عجز فيه) أعَجَزَ عن كشف ما عنده من العلم، أم عن طلب ما طلب من العلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟

أخبرنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، أخبرنا الوليد بن مسلم، أخبرنا أبو عمرو - يعني الأوزاعي -، حدثني مرثد - أو ابن مرثد - عن أبيه قال: جلست إلى أبي ذر الغفاري، إذ وقف عليه رجل، فقال: ألم ينهك أمير المؤمنين عن الفتيا - يظهر أنه يقصد بأمير المؤمنين عثمان - فقال أبو ذر: والله لو وضعتم الصمصامة على هذه، وأشار إلى حلقه، على أن أترك كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنفذتها قبل أن يكون ذلك.

وأخبرنا وكيع بن الجراح، عن فطر بن خليفة، عن منذر الثوري، عن أبي ذر قال: تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر جناحه في السماء إلا ذكرنا منه علمًا. ".

وما نريد أن نستقرأ ما أثر عن علم أبي ذر وفضله، حسبنا هذا الذي رواه ابن سعد موصولًا بأسانيد ما فيها من يمكن الغمز فيه لنتبين المركز العلمي لأبي ذر، هذا الذي تناولته الألسن إجلالًا من بعض وتشهيرًا من آخر.

وحديثه عن الكنز أو تأويله لآية الكنز تعبيرًا عن موقف تجاهله البعض وجهده، أو غفل عنه آخرون من وضع حدث في ظل معاوية، وأخذ يستشري ويستفحل منذ عهد عثمان، وما من أحد يزعم أو يستطيع أن يزعم أن أبا ذر كظم حديثه في صدره أو جمجمه ولم يبينه منذ عهد أبي بكر وطوال عهد عمر وصدرًا من عهد عثمان رضي الله عنهم أجمعين خوفًا من أحد أو مجاملة له، وكان ينبغي للذين تناولوه بالإجلال أو بالتشهير أن يتدبروا الظرف الذي أخذ فيه أبو ذر يجهر بدعوته ويشتد على معاوية، اضطر معاوية أن يشكوه إلى عثمان واضطر عثمان إلى أن يستجلبه إليه، ثم يأمره أو يأذن له على اختلاف الروايات بالخروج من المدينة وسكنى الربذة على أن يختلف إلى المدينة أحيانًا، لئلا يرجع أعرابيا، والإسلام ينهى من تحضر أن يرجع بدويًا.

ص: 1158

وقد سبق أن ذكرنا أثناء حديثنا عن رافع بن خديج، أن صلة ما كانت بين الصحابيين الجليلين رافع وأبي ذر على تفاوت بينهما في السن وتباين في المحتد والمنشأ، تمثلت في موقف كان لهما من عثمان لبث فيه أبو ذر شديدًا صامدًا صلبًا مجابهًا، وقمع فيه رافع بالجهر الهادئ المسالم بما يريانه معًا أو يقترب أحدهما من الآخر في شأنه رؤية ورأيًا، وكلاهما أحدث موقفه لحاجة وصخبًا بين معاصريه من أهل الفتيا وغيرهم، اقتصر رافع في موقفه على ما يتصل بالأرض وإيجارها، واختص أبو ذر في موقفه على ما يتصل بالأموال المنقولة مباشرة وكنزها في أغلب أحواله وإن تناول العقار أيضًا في بعضها، وكان منطلق رافع عما حدث به هو وجابر وأبو هريرة وغيرهم من نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إيجار الأرض على حين كان منطلق أبي ذر آية الكنز، وكلا الرجلين كان يقاوم - كل على طريقته - ظاهرة برزت منذرة بشر مستطير منذ أواخر عهد عثمان والذي لفت منها رافعًا ومن على شاكلته هو استحواذ القادرين ماليا على الأرض واستغلالها استحواذًا لم يحرم الفقراء فحسب، وإنما استغل ما فيهم من طاقة وخبرة استغلالًا يبقي على ضعف الفقير وينهك جهده فيما يكدس في خزائن القادر ثمرة ذلك الجهد وما صحبه من خبرة ودربة تكديسًا قوامه عرق الفقير الضعيف.

أما الذي لفت أبا ذر وخاصة حين ذهب إلى الشام، فهو ما أخذ يتكدس ويكتنز في أيدي المحظوظين عامة سواء منهم الفلاحون والتجار وأرباب الحرف وغيرهم ممن يستثمرون أموالهم، وطبيعي أن هؤلاء لم يكونوا جمهرة المسلمين، وإنما كانوا طائفة منهم، إن تكن وفيرة فليست الغالبة عددًا على كل حال.

وكان قد صحب هذا التكدس والاكتناز بذخ وترف أخذا يتطوران إلى نوع من البطر تجلى في تداول آنية الذهب والفضة، وطبعًا كان تداولها للاستعمال وحتى وإن يكن للزينة فهو نمط من الأشر والبطر نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم نهيًا صريحًا حاسما لا مجال فيه لأي تأويل، وكان بعض الصحابة رضوان الله عليهم قد ناقش معاوية وبالأحرى جادله جدالًا لا يخلو من حدة في نمط من التعامل أباحه معاوية وأنكره عليه صفوة الصحابة، وهو البيع والشراء في آنية الذهب والفضة بالنقد، أي بالدينار والدرهم، وليس هذا مجال تفصيل القول في هذا الشأن، حسبنا أن نشير إليه كمظهر من المظاهر التي اضطرت أبي ذر رضي الله عنه أن يشتد في الإنكار على معاوية بالذات وهو يتأول الوعيد الذي نزل في الكانزين بأنه غير موجه إلى المسلمين، وإنما هو موجه إلى أهل الكتاب تأولًا على غرابته ليس بغريب عن المقولة العجب الأخرى التي تقولها البعض، يغفر الله لهم، من أن آية الكنز نسختها آية الزكاة.

ص: 1159

وكان أبو ذر وهو الذي صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أغلب سنوات الهجرة إذ أسلم من قبلها، فأعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام خليقًا بأن ينكر أشد الإنكار على معاوية مواقفه المريبة تلك والتي نشأ عنها نمط من التكيف الطبقي في المجتمع الإسلامي عامة وفي الشام خاصة، إذ إن تصرف معاوية في الشام كان نمطًا أخذ يقتدي به بعض عمال عثمان من بني أمية وشيعتهم وذيولهم على أقطار أخرى مما شملته الفتوحات الإسلامية، ذلك بأن أبا ذر أخذ يدرك بعمق إيمانه وغزارة علمه وصلابته في دينه وشدة تمسكه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يتهدد المجتمع الإسلامي من التخلي عن قاعدة المؤاخاة التي شرعها القرآن أساسًا لبناء المجتمع الإسلامي، وطبقها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر إلى المدينة، إذ آخى بين المهاجرين والأنصار، والتحول إلى سلوك لا يؤدي ولا يمكن أن يؤدي إلا إلى صراع طبقي يهدم الكيان الإسلامي من داخله ويهيئه للمتربصين به لقمة سائغة فضلًا عن أن طبيعة الترف والبزخ حين تهيمن على الناس تصرفهم صرفًا كاملًا حاسما عن الخلق الإسلامي الرضي المستلهم لطبيعة الأخوة الإسلامية والمساواة بين المسلمين والتضحية في سبيل المصلحة العامة لهم إلى خلق الجشع والأثرة واللهف وراء المال من طرق شرعية بادئ الأمر، ثم من غيرها بالتأويل المنحرف لنصوص الشريعة، ثم بالاستهتار وعدم المبالاة، ثم بالاستحلال، وهي مراحل من الانحراف لا محيص من أن تؤدي الواحدة منها إلى الأخرى، فكان أبو ذر بما جهر وإصراره على ما أصر ثم إيثاره العزلة نمطًا من النضال، بل من الجهاد، اختاره أبو ذر، ووقف له حياته حتى لحق بربه راضيًا مرضيًا، ولم يكن شذوذًا كما يطيب للبعض أن يقول، وإنما هو صمود على الحق وثبات في الدعوة إليه، وصيانة معالمه وقواعده.

وآية ذلك أن النتيجة التي نتجت عن تأويلات المتأولين لآية الكنز ومنهم بعض التابعين - يغفر الله لهم - كانت استمرار المجتمع الإسلامي انطلاقًا من سنن معاوية في الابتعاد السريع المريع عن السنن الذي كان عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده وأراد علي رحمه الله أن يعيده إليه، فعاقه المنشقون، ثم عاجله قدر الله، وأراد عمر بن عبد العزيز رحمه الله أن يعيده إليه، فعاجله قدره أيضًا، ولا أحسبه بمستطيع لو طال عمره، فقد فات الأوان.

ص: 1160

والذي يعنينا من كل هذا هو أن تأويل أبي ذر لآية الكنز كان هو التأويل الصحيح الوحيد الذي تشهد له ظروف سورة التوبة كلها، كما تشهد له الوقائع التي حفلت بها تلك الظروف.

وقبل أن نعرض تلك الظروف نرى - تيسيرًا لاستكمال الصورة لدى القارئ - أن ندرج صفوة مما روي عن أبي ذر في تأويل آية الكنز ولم يورده الطبري أو أورده بسند مختلف، ذلك بأن أبا ذر لم يكن متأولًا بالمعنى اللغوي لكلمة التأويل، وإنما كان مفسرًا تفسيرًا يأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيغ إن لم تكن جميعًا متصلة بالآية اتصال تفسير، فإنها متصلة بحكمها اتصال بيان، وما من أحد يماري في أن السنة مبينة للقرآن، وقد آثرنا إدراج ما اصطفيناه من حديث أبي ذر حول الكنز بمختلف أسانيده وألفاظه على تماثل بعضها وتشاكل معانيها ودلالاتها ودون أن نعرض لما عرض له نقدة الحديث من تجريح بعض النقلة لإتاحة الفرصة لمن قد يطلع على هذا البحث أن يحيط بمختلف ما أثر عن أبي ذر في هذا الشأن وأن يتدبر دلالات ألفاظه ويتبين أن اختلافها لا يعني تغايرًا بين معانيها ودلالاتها، وإنما يعني أحيانًا اختلافًا بين بعض الرواة بالمعنى واختلافًا بين ظروف تحدث أبي ذر بما يأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، ذلك بأنه كان شغل أبي ذر في الشام وفي المدينة وفي مكة وفي الربذة وأينما حل وارتحل منذ نذر نفسه لمناهضة الكنازين في أواسط عهد عثمان عندما ارتحل إلى الشام ثم أعيد منه واعتزل اختيارًا أو طاعة لأمر عثمان في الربذة على ما ذكرته الروايات التي سندرجها بعد قليل.

ولأن كلام النقدة في بعض النقلة لا نراه ذا أثر جدير بالاعتبار في تقييم الحديث نفسه، فما من سند تكلموا في بعض رجاله إلا وشهدت لحديثه أسانيد وأحاديث أخرى، لا سبيل إلى الغمز فيها، وهذا يجعل كلامه في بعض النقلة غير مؤثر في دلالة الحديث أو الحكم المستفاد منه، لا سيما أن من تكلموا فيهم لم يصمهم أحد بوصمة الوضع أو ما يشاكله، وإنما اقتصروا في نقدهم على التضعيف اعتمادًا على أن بعضهم اختلط بآخرة، وأن غيره سيئ الحفظ وأوصاف على هذه الشاكلة.

وحول آية الكنز ووعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم للكانزين والمدخرين، روى كل من أحمد وابن أبي شيبة وابن حبان وابن سعد والبخاري ومسلم والذهبي بأسانيد مختلفة ما ندرجه على التوالي:

ص: 1161

قال أحمد في مسنده (1) : حدثنا عبد الرزاق، حدثنا سفيان، عن المغيرة بن النعمان، حدثنا عبد الله بن يزيد بن الأقنع الباهلي، حدثنا الأحنف بن قيس قال: كنت بالمدينة، فإذا أنا برجل يفر الناس منه حين يرونه، قال: قلت: من أنت؟ قال: أنا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: قلت: لم يفر الناس؟ قال: إني أنهاهم عن الكنوز بالذي كان ينهاهم عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وحدثنا عفان، حدثنا أبو الأشهب، حدثنا خليد العصري قال أبو جري: أين لقيت خليدا؟ قال: لا أدري، عن الأحنف بن قيس، قال: كنت قاعدًا مع أناس من قريش، إذ جاء أبو ذر حتى كان قريبًا منهم حتى قال: (ليبشر الكنازون بكي من قبل ظهورهم يخرج من قبل بطونهم، وبكي من قبل أقفائهم يخرج من جباههم. قال: ثم تنحى فقعد، قال: قلت: من هذا؟ قال: أبو ذر. فقمت إليه، فقلت: ما شيء سمعتك تنادي به؟ قال: ما قلت لهم شيئًا إلا شيئا سمعوه من نبيهم صلى الله عليه وسلم، قال: قلت له: ما تقول في هذا العطاء؟ قال: خذه، فإن فيه اليوم معونة، فإذا كان ثمنًا لدينك فدعه.

وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن المغيرة بن النعمان، عن عبد الله ابن يزيد بن خال الأقنع، عن الأحنف بن قيس قال: بينما أنا في حلقة، إذ جاء أبو ذر، فجعلوا يفرون منه، فقلت: لم يفر منك الناس؟ قال: إني أنهاهم عن الكنز الذي ينهاهم عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

وقال ابن أبي شيبة (2) : حدثنا محمد بن بشر، حدثنا سفيان، عن المغيرة بن النعمان، عن عبد الله بن الأقنع الباهلي، عن الأحنف بن قيس قال: كنت جالسًا بمجلس في المدينة، فأقبل رجل لا ترى حلقة إلا فروا منه، حتى انتهى إلى الحلقة التي كنت فيها، فثبت وفروا، فقلت: من أنت؟ قال: أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقلت: ما يفر الناس منك؟ قال: إني أنهاهم عن الكنوز. قال: قلت: إن أعطياتنا قد بلغت وارتفعت، فنخاف علينا منها. قال: أما اليوم فلا، ولكنها يوشك أن تكون أثمان دينكم، فدعوهم وإياها.

وحدثنا ابن إدريس، عن حصين بن زيد بن وهب، قال: مررنا على أبي ذر بالربذة، فسألنا عن منزله، قال: كنت بالشام فقرأت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .

فقال معاوية: إنها في أهل الكتاب. فقلنا: إنها لفينا وفيهم.

(1) ج: 5. ص:164 و167 و176.

(2)

الكتاب المصنف. ج: 3. ص: 112 و213.

ص: 1162

وحدثنا زيد بن حباب، قال: حدثني موسى بن عبيدة، قال: حدثني عمران بن أبي أنس، عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن أبي ذر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو حبيبي يقول: ((في الإبل صدقتها، من جمع دينارًا أو درهمًا أو تبرًا أو فضة، ولا يعده لغريم، ولا ينفقه في سبيل الله، فهو كي يكوى به يوم القيامة)) . ".

وقال ابن حبان (1) :

"أخبرنا عمران بن محمد الهمداني، قال: حدثنا مؤمل بن هشام، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم الأسدي، عن الجريري، عن أبي العلاء، عن الأحنف بن قيس، قال: قدمت المدينة، فبينا أنا في حلقة وفيها ملأ من قريش، إذ جاء رجل أخشن الثياب أخشن الجسد أخشن الوجه، فقام عليهم، فقال: بشر الكنازين برضف يحمى عليهم في نار جهنم، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج نغض كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه. فوضعوا رؤوسهم، فما رأيت أحدًا منهم رجع إليه شيئًا، قال: وأدبر، فأتبعته حتى جلس إلى سارية، فقال: ما رأيت هؤلاء لا يعقلون، إن خليلي أبا القاسم دعاني، فقال: يا أبا ذر. أجبته، قال: أترى أحدا؟ قال: فنظرت ما علي من الشمس وأنا أظنه يبعثني لحاجة له، فقلت: أراه. فقال: ما يسرني أن لي مثله ذهبًا أنفقه كله غير ثلاثة دنانير. ثم هؤلاء يجمعون الدنيا لا يعقلون شيئًا، قال: قلت: مالك ولإخوانك قريش، قال: لا وربك لا أسألهم دنيا ولا أستفتيهم في ديني حتى ألحق بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ".

وقال ابن سعد (2) :

"أخبرنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن زيد بن وهب، قال: مررت بالربذة، فإذا أنا بأبي ذر، قال: فقلت: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام، فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، وقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، قال: وقلت: نزلت فينا وفيهم، قال: فكان بيني وبينه في ذلك كلام فكتب يشكوني إلى عثمان أن أقدم المدينة، فقدمت المدينة، وكثر الناس علي كأنهم لم يروني قبل ذلك، قال: فذكر ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئت أنحيت فكنت قريبًا، فذلك أنزلني هذا المنزل، ولو أمر علي حبشي لسمعت وأطعت.

وأخبرنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو كعب صاحب الجريري، قال: حدثنا أبو الأصفر، عن الأحنف بن قيس قال: أتيت المدينة، ثم أتيت الشام فجمعت، فإذا رجل لا ينتهي إلى سارية إلا فر أهلها يصلي ويخفف صلاته قال: فجلست إليه، فقلت له: يا أبا عبد الله من أنت؟ قال لي: أنا أبو ذر. فقلت: وأنت من أنت؟ فقال لي: أنا الأحنف بن قيس، قال: قم عني لا أعدك بشر. فقلت له: كيف تعدني بشر؟ قال: إن هذا - يعني معاوية - نادى مناديه ألا يجالسني أحد ".

وقال البخاري (3)

(حدثني إسحاق بن منصور، أخبرنا عبد الصمد، قال: حدثنا أبي، حدثنا الجريري، حدثنا أبو العلاء بن الشخير، أن الأحنف بن قيس حدثهم، قال: جلست إلى ملأ من قريش، فجلس رجل خشن الثياب والشعر والهيأة، حتى قام عليهم وسلم، فقال: بشر الكنازين برضف يحمى عليه في نار جهنم، ثم يوضع في حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمتي ثديه، يتزلزل، ثم ولى، فجلس إلى سارية، وتبعته وجلست إليه وأنا لا أدري من هو، فقلت له: لا أرى القوم إلا قد كرهوا الذي. قلت: قال: إنهم لا يعقلون شيئًا، قال لي خليلي: قال: قلت: من خليلك؟ قال: النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر أتبصر أحدا؟)) قال: فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار وأنا أرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسلني في حاجة له، قال: قلت: نعم. قال: ((ما أحب أن لي مثل أحد ذهبًا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير وإن هؤلاء لا يعقلون، إنما يجمعون الدنيا، لا والله لا أسألهم ولا أستفتيهم عن دين حتى ألقى الله عز وجل) .

(1) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 5. ص: 107. ح: 3248.

(2)

ابن سعد الطبقات. ج: 4. ص: 226 و229.

(3)

صحيح البخاري. ج: 2. ص: 111 و112.

ص: 1163

وحدثنا علي، سمع هشيمًا، أخبرنا حصين، عن زيد بن وهب، قال: مررت بالربذة، فإذا أنا بأبي ذر رضي الله عنه فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام، فاختلفت أنا ومعاوية في:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذلك، وكتب إلى عثمان رضي الله عنه يشكوني، فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئت تنحيت فكنت قريبًا. فذاك الذي أنزلني هذا المنزل ولو أمَّروا علي حبشيًا لسمعت وأطعت. ".

وقال مسلم في صحيحه: (1) حدثني زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن الجريري، عن أبي العلاء، عن الأحنف بن قيس قال: قدمت المدينة، فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش، إذ جاء رجل أخشن الثياب أخشن الجسد أخشن الوجه، فقال: بشر الكنازين برضف يحمى عليه في جهنم، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض - بضم النون وإسكان الغين المعجمة وبعده ضاد معجمة وهو العظم الرقيق الذي على طرف الكتف ويقال له: الناغض - كتفيه، ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل، قال: فوضع القوم رؤوسهم، فما رأيت أحدًا منهم رجع إليه شيئًا، قال: فأدبر وأتبعته، حتى جلس إلى سارية، فقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم. قال: إن هؤلاء لا يعقلون شيئًا، ((إن خليلي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم دعاني فأجبته، فقال: أترى أحدا؟ فنظرت ما علي من الشمس وأنا أظن أنه يبعثني في حاجة له. فقلت: أراه. فقال: ما يسرني أن لي مثله ذهبًا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير)) . ثم هؤلاء يجمعون الدنيا لا يعقلون شيئًا، قال: قلت: مالك ولإخوتك من قريش لا تعتريهم ولا تصيب منهم، قال: لا وربكم، لا أسألهم عن دنيا ولا أستفتيهم عن دين حتى ألحق بالله ورسوله.

(1) صحيح مسلم ج: 7 ص: 77

ص: 1164

وحدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا أبو الأشهب، قال: حدثنا خليد العصري، عن الأحنف بن قيس قال: كنت في نفر من قريش، فمر أبو ذر وهو يقول: بشر الكنازين بكي ظهورهم يخرج من جنوبهم، وبكي من قبل أقفائهم يخرج من جباههم. قال: ثم تنحى فقعد، ثم قلت: من هذا؟ قالوا: هذا أبو ذر. قال: فقمت إليه، فقلت: ما شيء سمعتك تقول قبيل؟ قال: ما قلت إلا شيئًا قد سمعته من نبيهم صلى الله عليه وسلم قال: قلت: ما تقول في هذا العطاء؟ قال: خذه، فإن فيه اليوم معونة، فإذا كان ثمنًا لدينك فدعه".

وقال الذهبي (1) : "موسى بن عبيدة، حدثنا عمران بن أبي أنس، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: قدم أبو ذر من الشام، فدخل المسجد وأنا جالس، فسلم علينا، وأتى سارية، فصلى ركعتين تجوز فيهما، ثم قرأ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} ، واجتمع الناس عليه، فقالوا: حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((في الإبل صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي البر صدقته، من جمع دينارًا أو تبرًا أو فضة لا يعده لغريم، ولا ينفقه في سبيل الله كوي به)) قلت: يا أبا ذر، انظر ما تخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذه الأموال قد فشت، قال: من أنت يا بن أخي؟ فانتسبت له، فقال: قد عرفت نسبك الأكبر، ما تقرأ {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}

وتعقبه الذهبي بقوله: ضعف، وروى عنه الثقات."

ولم يكن موقف أبي ذر من "الكنز " هذا الذي تصوره الأحاديث السالفة موقف متأول وإنما كان موقفًا يأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في تفسير آية الكنز وحدها، ولكن في تشريع عام حاسم، عبر عنه أحيانًا بـ:"العهد " من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما توضحه الأحاديث التي ننقلها على التوالي عن كل من أحمد وابن سعد ومسلم والطبراني والذهبي.

قال أحمد في مسنده (2) : (حدثنا شعبة، أخبرني عمرو بن مرة، عن سعيد بن الحرث، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما يسرني أن لي أحدًا ذهبًا أموت يوم أموت وعندي منه دينار أو نصف دينار إلا أن أرصده لغريم)) .

(1) سير أعلام النبلاء. ج:3. ص: 66.

(2)

ج: 5. ص: 148و 149و152و156و 160و165و175و176.

ص: 1165

حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا سالم - يعني ابن أبي حفصة - عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي ذر. وأبي منصور، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر أي جبل هذا؟ قال: قلت: أحد يا رسول الله. قال: والذي نفسي بيده، ما يسرني أنه لي ذهبًا قطعًا أنفقه في سبيل الله، أدع منه قيراطًا. قال: قلت: قنطارًا يا رسول الله. قال: قيراطًا. قالها ثلاث مرات ثم قال: يا أبا ذر، إنما أقول الذي أقل، ولا أقول الذي هو أكثر)) .

وحدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر قال:((كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة ونحن ننظر إلى أحد، فقال: يا أبا ذر. قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ما أحب أن أحدًا ذاك عندي ذهبًا أمسي ثالثة وعندي منه دينار، إلا دينارًا أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا. وحثا عن يمينه وبين يديه وعن يساره، قال: ثم مشينا، فقال: يا أبا ذر، إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكذا. وحثا عن يمينه وبين يديه وعن يساره، قال. ثم مشينا، وقال: يا أبا ذر، كما أنت حتى آتيك، قال: فانطلق حتى توارى عني، قال: فسمعت لغطًا وصوتًا، قال: فقلت: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض له. قال: فهممت أن أتبعه ثم ذكرت قوله: لا تبرح حتى آتيك. فانتظرته حتى جاء، فذكرت له الذي سمعت، فقال: ذاك جبريل عليه السلام أتاني، فقال: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة. قال: قلت: وإن زنى وإن سرق. قال: وإن زنى وإن سرق)) .

وحدثنا عفان، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن سعد بن أبي الحسن، عن عبد الله بن الصامت أنه كان مع أبي ذر، فخرج عطاؤه، ومعه جارية له، فجعلت تقضي حوائجه قال: ففضل معها سبع، قال: فأمرها أن تشتري به فلوسًا، قال: فقلت: لو ادخرته لحاجة تنوبك أو لضيف ينزل بك، قال: إن خليلي عهد إلي أن أيما ذهب أو فضة أوكي عليه، فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله عز وجل.

وحدثنا إسماعيل، عن الجريري، عن أبي العلاء بن الشخير، عن الأحنف بن قيس قال: قدمت المدينة، فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش، إذ جاء رجل، فذكر الحديث، فاتبعته حتى جلس إلى سارية، فقال: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم. فقال: ((إن خليلي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم دعاني، فقال: يا أبا ذر. فأجبته، فقال: هل ترى أحدا؟ فنظرت ما علا من الشمس، وأنا أظنه يبعثني في حاجة، فقلت: أراه. قال: ما يسرني أن لي مثله ذهبًا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير)) .

حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت سويد بن الحرث قال: سمعت أبا ذر قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا - قال شعبة: أو قال: ما أحب أن لي أحدًا ذهبًا - أدع منه يوم أموت دينارًا أو نصف دينار إلا لغريم)) .

ص: 1166

حدثنا يزيد، أنبأنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، عن عبد الله بن الصامت، سمع أبا ذر قال: إن خليلي صلى الله عليه وسلم عهد إلي: ((أيما ذهب أو فضة أوكي عليه، فهو كي على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله إفراغًا)) .

حدثنا يزيد، أنبأنا همام، عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسين، عن عبد الله بن الصامت قال: كنت مع أبي ذر، وقد خرج عطاؤه ومعه جارية له، فجعلت تقضي حوائجه - وقال مرة: نقضيى - قال: ففضل معه فضل، قال: أحسبه سبع، قال: فأمرها أن تشتري بها فلوسًا، قلت: يا أبا ذر لو ادخرته للحاجة تنوبك وللضيف يأتيك. فقال: إن خليلي عهد إلي أن أيما ذهب أو فضة أوكي عليه، فهو جمر على صاحبه يوم القيامة حتى يفرغه إفراغًا في سبيل الله.

حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت سويد بن الحرث قال: سمعت أبا ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أحب أن لي مثل أحد ذهبًا - قال شعبة أو قال: ما أحب

أن لي أحدًا ذهبًا - أدع منه يوم أموت دينارًا أو نصف دينار إلا لغريم.)) .

وقال ابن سعد: (1)

(أخبرنا عفان بن مسلم، قال: حدثنا همام، قال: أخبرنا قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، عن عبد الله بن الصامت أنه كان مع أبي ذر، فخرج عطاؤه، ومعه جارية له قال: فجعلت تقضي حوائجه، قال: ففضل معها سبع، قال: فأمرها أن تشتري به فلوسًا، قال: لو ادخرته للحاجة تنوبك أو للضيف ينزل بك. قال: إن خليلي عهد إلي أن أي مال ذهب أو فضة أوكي عليه، فهو جمر على صاحبه حتى يفرقه في سبيل الله.

أخبرنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا أبو هلال، قال: حدثنا قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، أن أبا ذر كان عطاؤه أربعة آلاف، فكان إذا أخذ عطاءه، دعا خادمه فسأله عما يكفيه لسنة فاشتراه له، ثم اشترى فلوسًا بما بقي، وقال: إنه ليس من وعاء ذهبًا أو فضة يوكى عليه، إلا وهو يتلظى على صاحبه. ".

(1) الطبقات ج: 4 ص: 229

ص: 1167

وقال مسلم في صحيحه (1) :

"حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير وأبو كريب كلهم عن أبي معاوية، قال يحيى: أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة عشاء ونحن ننظر إلى أحد، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر. قال: قلت: لبيك يا رسول الله. قال: ما أحب أن أحدا ذاك ذهب أمسي ثالثة عندي منه دينار، إلا دينارا أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا. حثًا بين يديه، وهكذا عن يمينه، وهكذا عن شماله، ثم مشينا فقال: يا أبا ذر. قال: قلت: لبيك يا رسول الله. قال: إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا. مثل ما صنع في المرة الأولى، قال: ثم مشينا، قال: يا أبا ذر كما أنت حتى آتيك. قال: فانطلق حتى توارى عني، قال: سمعت لغطًا، وسمعت صوتًا، قال: فقلت: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال: فهممت أن أتبعه، فقال: فذكرت قوله: لا تبرح حتى آتيك. قال: فانتظرته، فلما جاء ذكرت له الذي سمعت، قال: فقال: ذاك جبريل أتاني، فقال: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئًا، دخل الجنة. قال: قلت: وإن زني وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق.

حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن عبد العزيز - وهو ابن رفيع - عن زيد بن وهب، عن أبي ذر قال:((خرجت ليلة من الليالي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده ليس معه إنسان، قال: فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد، قال: فجعلت أمشي في ظل القمر، فالتفت، فرآني فقال: من هذا؟ فقلت: أبو ذر جعلني الله فداك. قال: يا أبا ذر، تَعَالَهْ. قال: فمشيت معه ساعة، فقال: إن المكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيرًا فنفع به يمينه وشماله وبين يديه ووراءه، وعمل فيه خيرًا. قال: فمشيت معه ساعة، فقال: اجلس ههنا. قال: فأجلسني في قاع حوله حجارة، فقال لي: اجلس ههنا حتى أرجع إليك. قال: فانطلق في الحرة حتى لا أراه، فلبث عني، فأطال اللبث، ثم إني سمعته وهو مقبل وهو يقول: وإن سرق وإن زنى. فلما جاء لم أصبر، فقلت: يا نبي الله، جعلني الله فداك، من تكلم في جانب الحرة، ما سمعت أحدًا يرجع إليك شيئًا. قال: ذلك جبريل عرض في جانب من الحرة قال: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله دخل الجنة. فقلت: يا جبريل، وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم. قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم وإن شرب الخمر)) .

(1) على هامش شرح النووي. ج: 7. ص: 74 و75و 76.

ص: 1168

وقال الطبراني (1) : حدثنا عبد الله بن الحسن الحراني، حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال:((إن خليلي صلى الله عليه وسلم عهد إلي أنه أيما ذهب أوكي عليه، فهو جمر على صاحبه حتى ينفقه في سبيل الله)) .

حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثني أبي، قال: وجدت في كتاب أبي بخطه، حدثنا مستلم بن سعيد، عن منصور بن زاذان، عن الحسن، عن عبد الله بن الصامت، أن أبا ذر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أوكى على ذهب أو فضة ولم ينفقه في سبيل الله كان جمرًا يوم القيامة يكوى به)) .

وقال الذهبي (2) : وروى همام، عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر رضي الله عنه قال:((إن خليلي صلى الله عليه وسلم عهد إلي أيما ذهب أو فضة أوكي عليه فهو جمر على صاحبه حتى ينفقه في سبيل الله عز وجل) .

على أن في قصة أبي ذر رضي الله عنه جانبًا لم نقف على من أعاره الاهتمام الذي يستحقه، مع أن اعتباره أساسي في تحديد مدى دلالتها وتعيين دلالاتها، وما نحسب تفسير آية الكنز خاصة وتبيان موقف أبي ذر من الأغنياء عامة يستقيم نهج الاهتداء إليهما دون اعتباره.

ذلك بأن رسول الله كان قد أنبأ أبا ذر بما سيحدث له، ورسم له النهج الذي عليه أن يسلكه عندما يحدث ما أنبأه به، ولو قد كان أبو ذر سيتخذ موقفًا غير مسلم يحدث له بسببه ما أنبأه به رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذره منه ونهاه عنه كما نهاه عن سبيل كان سيسلكها لولا أنه صارحه بها فحذره منها ورسم له غيرها وذلك ما توضحه الأحاديث التي رواها كل من أحمد وابن سعد وندرجها فيما يلي: قال أحمد في مسنده (3) :

(1) المعجم الكبير. ج: 2. ص: 151. ح: 1634 و1641.

(2)

تذكرة الحفاظ. ج: 1. ص: 18.

(3)

ج: 4. ص: 156. وج: 5. ص: 178 و444. وج: 7. ص: 497

ص: 1169

"حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت داود بن أبي هند، عن أبي حرب بن الأسود الدؤلي، عن عمه، عن أبي ذر قال: أتاني نبي الله صلى الله عليه وسلم وأنا نائم في مسجد المدينة، فضربني برجله، فقال: ألا أراك نائما فيه؟ قال: قلت: يا نبي الله غلبتني عيني. قال: كيف تصنع إذا أخرجت منه؟ قال: آتي الشام الأرض المقدسة المباركة. قال: كيف تصنع إذا أخرجت منه؟ قال: ما أصنع يا نبي الله، أضرب بسيفي. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أدلك على ما هو خير لك من ذلك وأقرب رشدًا تسمع وتطيع وتنساق لهم حيث ساقوك.

حدثنا يزيد، حدثنا كهمس بن الحسن، حدثنا أبو السليل، عن أبي ذر قال:((جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو علي هذه الآية: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} حتى فرغ من الآية، ثم قال: يا أبا ذر، لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم. قال: فجعل يتلو بها ويرددها علي حتى نعست، ثم قال: يا أبا ذر، كيف تصنع إذا خرجت من المدينة؟ قال: قلت: إلى السعة والدعة أنطلق حتى أكون حمامة من حمام مكة. قال: كيف تصنع إن أخرجت من مكة؟ قال: قلت إلى السعة والدعة إلى الشام والأرض المقدسة. قال: وكيف تصنع إن أخرجت من الشام؟ قال: قلت: إذا والذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي. قال: أو خير من ذلك. قال: أو خير من ذلك. قال: تسمع وتطيع وإن كان عبدًا حبشيا)) .

قال عبد الله بن أحمد في زوائده:

حدثنا الحكم بن نافع أبو اليمان، أخبرنا إسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن أبي حصين، عن شهر بن حوشب قال الذهبي في ترجمته (سير أعلام النبلاء. ج:4. ص: 372. وما بعدها ترجمة: 151) : - ورمز بأنه أخرج له الأربعة ومسلم مقرونًا - أبو سعيد الأشعري الشامي مولى الصحابية أسماء بنت يزيد الأنصارية كان من كبار علماء التابعين حدث عن مولاته أسماء وعن أبي هريرة وعائشة وابن عباس وعبد الله بن عمرو وأم سلمة وأبي سعيد الخدري وعدة، وقرأ القرآن على ابن عباس، ويرسل عن بلال وأبي ذر وسلمان وطائفة، حدث عنه قتادة ومعاوية بن قرة والحكم بن عتيبة وآخرون - ذكر بعضهم الذهبي -.وذكر أن مسلما والنسائي كنياه أبا سعيد، ونقل عن حنظلة أنه روى عن شهر قوله: عرضت القرآن على ابن عباس سبع مرات. وروي عن أحمد بن حنبل قوله: شهر ثقة ما أحسن حديثه. وقوله في رواية أخرى: ليس به بأس. وعن الترمذي قوله: قال محمد - يعني البخاري -: شهر حسن الحديث وقوي أمره، وقال: إنما تكلم فيه ابن عون، ثم إنه روى عن رجل عنه.

ص: 1170

وعن العجلي ثقة، وعن يحيى بن معين ثبت، وعن أبي زرعة وغيره لا بأس به، وعن النسائي لا بأس به، وعن النسائي ليس بالقوي، وعن ابن عدي لا يحتج به، وعن ابن معين في رواية أخرى ثقة، وعن ابن عون قال: إن شهرًا تركوه. وعن

صالح بن محمد جزرة قدم شهر على الحجاج، فحدث بالعراق، ولم يوقف منه على كذب، وكان رجلًا ينسك، وعن الفلاس كان يحيى بن سعيد القطان لا يحدث عن شهر، وكان عبد الرحمن يحدث عنه. ثم قال: وروى يحيى بن أبي بكير الكرماني، عن أبيه قال: كان شهر بن حوشب على بيت المال، فأخذ خريطة فيها دراهم فقيل له:

لقد باع شهر دينه بخريطة فمن يأمن القراء بعدك يا أشهر

أخذت بها شيئًا طفيفًا وبعته من ابن جرير إن هذا هو الغدر

وتعقب الذهبي هذه الرواية بقوله: إسنادها منقطع، ولعلها وقعت وتاب منها، أو أخذها متأولًا أن له في بيت مال المسلمين حقا. نسأل الله الصفح. فأما رواية يحيى القطان عن عباد بن منصور، قال: حججت مع شهر بن حوشب فسرق عيبتي، فما أدري ما أقول. قلت: هذا كلام الذهبي.

ثم ساق له أثرًا يتناقض مع هاتين التهمتين، فقال: ومن مليح قول شهر من ركب مشهورًا من الدواب وليس مشهورًا من الثياب، أعرض الله عنه وإن كان كريمًا.

وروي عن أبي بشير الدولابي وأبي إسحاق السعدي قوله: شهر لا يشبه حديثه حديث الناس كأنه مولع بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى أخبارًا عن شعبة على أنه تركه.

وروى الذهبي آثارًا وأحاديث استنكروها عن شهر، فقال: فهذا ما استنكر عن شهر في ساعة روايته، وما ذلك بالمنكر جدا.

قلت: إلا أثرًا مما رواه الذهبي لا نستطيع أن نتقبله إلا أن يكون قد رواه "حكاية وليس رواية يوثقها، وهو ما نقل الذهبي وغيره عن سيار بن حاتم من قوله: حدثنا جعفر بن سليمان، عن أبي بكر الهذلي، عن شهر بن حوشب قال: لما قتل ابن آدم أخاه، مكث آدم مائة سنة لا يضحك. قلت: إلى هنا لا غرابة. ثم أنشد يقول:

تغيرت البلاد ومن عليها فوجه الأرض مغبر قبيح

تغير كل ذي لون وطعم وقل بشاشة الوجه المليح

قلت: ما من شك في أن هذا الشعر مفتعل منحول، وفيه إقواء، ولا مسوغ لما تمحلوه لتقويم إعرابه بحيث يبرأ من الإقواء.

ص: 1171

ثم إن آدم وإن يكن يعرف الأسماء كلها، لم يكن يعرف هذه العربية عربية الحجازيين ومن على شاكلتهم، فلو كان يعرفها لتوارثها عنه أبناؤه والأجيال التي تعاقبت بعده، فبرأت لغتهم مما نجده في الحفريات من كلام يشبه الأعجمية، وما صلته بالعربية إلا من نطق الأحرف. فتأمل.

وقد ترجم لشهر عدد من مدوني تاريخ العصر الأول والثاني للهجرة وتراجم الرجال ونقدة الحديث. رحمه الله رحمة واسعة.

عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي ذر قال: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم آتي المسجد إذا أنا فرغت من عملي، فأضطجع فيه، فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يومًا وأنا مضطجع، فغمزني برجله، فاستويت جالسًا، فقال لي: يا أبا ذر، كيف تصنع إذا أخرجت منها؟ فقلت: أرجع إلى مسجد رسول الله وإلى بيتي. قال: فكيف تصنع إذا أخرجت؟ فقلت: إذا آخذ بسيفي فأضرب به من يخرجني. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يده على منكبي، فقال: غفرًا يا أبا ذر - ثلاثًا - بل تنقاد معهم حين قادوك، وتنساق معهم حين ساقوك، ولو عبدًا أسود. قال أبو ذر: فلما نفيت إلى الربذة، أقيمت الصلاة، فتقدم رجل أسود كان فيها على نعم الصدقة، فلما رآني أخذ يرجع ليقدمني، فقلت: كما أنت بل أنقاد إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثنا هاشم، قال: حدثنا عبد الحميد، قال: حدثنا شهر، قال: حدثتني أسماء بنت يزيد، ((أن أبا ذر الغفاري كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا فرغ من خدمته آوى إلى المسجد، فكان هو بيته يضطجع فيه، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، فوجد أبا ذر نائما منجدلًا في المسجد، فنكته النبي صلى الله عليه وسلم برجله حتى استوى جالسًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أراك نائما؟ قال أبو ذر: يا رسول الله، فأين أنام؟ هل لي من بيت غيره؟ فجلس النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: كيف أنت إذا أخرجوك منه؟ قال: إذن ألحق بالشام، فإن الشام أرض الهجرة وأرض المحشر وأرض الأنبياء، فأكون رجلًا من أهلها. قال له: كيف أنت إذا أخرجوك من الشام؟ قال: إذن أرجع إليه فيكون هو بيتي ومنزلي. قال له: كيف أنت إذا أخرجوك منه الثانية؟ قال: إذن آخذ سيفي، فأقاتل عني حتى أموت. قال: فكشر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثبته بيده، قال: أدلك على خير من ذلك؟ قال: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تنقاد لهم حيث قادوك، وتنساق لهم حيث ساقوك، حتى تلقاني وأنت على ذلك)) .

قال ابن سعد (1) : أخبرنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر:((إذا بلغ البناء سلعًا فاخرج منها - ونحا بيده نحو الشام، ولا أرى أمراءك يدعونك - قال: يا رسول الله، أفلا أقاتل من يحول بيني وبين أمرك؟ قال: لا. قال: فما تأمرني؟ قال: اسمع وأطع ولو لعبد حبشي. قال: فلما كان ذلك، خرج إلى الشام فكتب معاوية إلى عثمان أن أبا ذر قد أفسد الناس بالشام، فبعث إليه عثمان، فقدم عليه، ثم بعثوا أهله من بعده، فوجدوا كيسًا أو شيئًا، فظنوا أنها دراهم، فقالوا: ما شاء الله، فإذا هي فلوس، فلما قدم المدينة قال له عثمان: كن تغدو عليك وتروح اللقاح. قال: لا حاجة لي في دنياكم، ثم قال: ائذن لي حتى أخرج إلى الربذة. فأذن له، فخرج إلى الربذة، وقد أقيمت الصلاة وعليها عبد لعثمان حبشي، فتأخر، فقال أبو ذر: تقدم فصل، فإني أمرت أن أسمع وأطيع ولو لعبد حبشي، فأنت عبد حبشي ")) .

وقد التزم أبو ذر التزامًا دقيقًا بسلوك النهج الذي رسمه له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يريم أيا كانت الأطوار التي توالت عليه حتى لقي الله، كما تصوره تصويرًا بديعًا الأحاديث التي رواها كل من أحمد وابن سعد والطيالسي وابن زنجويه والذهبي وندرجها على التوالي: قال أحمد في مسنده (2) : حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا عبد الله بن لهيعة، حدثنا أبو قبيل، قال: سمعت عبد الله بن مالك الزيادي يحدث، عن أبي ذر أنه جاء يستأذن على عثمان بن عفان - رضي

الله عنه - فأذن له وبيده عصاه، فقال عثمان رضي الله عنه: يا كعب، إن عبد الرحمن بن عوف ترك مالًا، فما ترى فيه؟ فقال: إن كان يصل فيه حق الله، فلا بأس عليه.

(1) الطبقات. ج: 4. ص: 226 و227.

(2)

ج: 1. ص: 63.

ص: 1172

فرفع أبو ذر عصاه، فضرب كعبا، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما أحب لو أن لي هذا الجبل ذهبًا أنفقه ويتقبل مني أذر خلفي منه ست أواق، أنشدك الله يا عثمان أسمعته؟ ثلاث مرات قال: نعم.

وقال ابن سعد (1) : أخبرنا الفضل بن دكين، قال: حدثنا جعفر أبو البرقان، عن ثابت بن الحجاج، عن عبد الله بن سيدان السلمي، قال: تناجى أبو ذر وعثمان حتى ارتفعت أصواتهما، ثم انصرف أبو ذر مبتسما، فقال له الناس: ما لك ولأمير المؤمنين؟ قال: سامع مطيع ولو أمرني أن آتي صنعاء أو عدن ثم استطعت أن أفعل لفعلت. وأمره عثمان أن يخرج إلى الربذة.

وأخبرنا عفان بن مسلم وعمرو بن عاصم الكيلابي، قالا: حدثنا سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال، قال: حدثنا عبد الله بن الصامت، قال: دخلت مع أبي ذر في رهط من غفار على عثمان بن عفان من الباب الذي لا يدخل عليه منه أحد، قال: وتخوفنا عثمان عليه، قال: فانتهى إليه، فسلم عليه، قال: ثم بدأه بشيء إلا قال: أحسبتني منهم يا أمير المؤمنين؟ والله ما أنا منهم ولا أدركتهم، لو أمرتني أن آخذ بعرقوتي قتب لأخذت بهما حتى أموت، قال: ثم استأذنه إلى الربذة، فقال: نعم، نأذن لك، ونأمر لك بنعم من نعم الصدقة، فتصيب من رسلها، فقال: فنادى أبو ذر دونكم معاشر قريش دنياكم فاعدموها، لا حاجة لنا فيها، قال: فما نراه بشيء، قال: فانطلق وانطلقت معه حتى قدمنا الربذة، قال: فصادفنا مولى لعثمان غلاما حبشيًا يؤمهم، فنودي بالصلاة، فقال: فلما رأى أبا ذر نكص، فأومأ إليه أبو ذر تقدم فصل، فصلى خلفه أبو ذر.

وقال أبو داود الطيالسي في مسنده (2)

حدثنا شعبة، قال: أخبرني أبو عمران، سمع عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال: لما قدم أبو ذر على عثمان من الشام، قال: يا أمير المؤمنين، أتحسب أني من قوم - والله ما أنا منهم ولا أدركتهم - يقرؤون القرآن لا يتجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يرجعون إليه حتى يرجع السهم إلى فوقه (3) سيماهم التحليق، والله لو أمرتني أن أقوم ما قعدت ما ملكتني رجلاي، ولو وثقتني بعرجون في قدمي ما حللته حتى تكون أنت الذي تحلني.

(1) الطبقات. ج: 4. ص: 227 و232.

(2)

مسند الطيالسي. ص:61. ح: 451.

(3)

يعني بسهم الخوارج والحديث مشهور في الخوارج من طرق عدة، وليس مما يعنينا هنا تخريجه.

ص: 1173

وقال ابن زنجويه (1) : "أخبرنا النضر بن شميل، أخبرنا شعبة، عن أبي عمران الجوني، قال: سمعت عبد الله بن الصامت قال: قدم أبو ذر على عثمان بن عفان من الشام، فقال: افتح الباب حتى يدخل الناس، أتحسبني من قوم، أحسبه قال: يقرؤون القرآن لا يتجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، لا يعودون حتى يعود السهم على فوقه هم شر الخلق والخليقة (2) ، والله لو أمرتني أن أقعد لما قمت أبدًا، ولو أمرتني أن أقوم لقمت ما ملكتني رجلاي، ولو ربطتني على البعير لم أطلق نفسي حتى تكون أنت الذي أطلقتني. قال: ثم استأذنه أن يأتي الربذة، فأتاها، فإذا عبد يؤمهم، فقالوا: أبو ذر أبو ذر. فنكص العبد، فقيل له: تقدم. فقال: إن خليلي أوصاني بثلاث: أن أسمع وأطيع ولو لعبد حبشي مجدع الأطراف، وإذا صنعت مرقة فأكثر ماءها ثم انظر إلى أهل بيت من جيرتك فأصبهم منها بمعروف، وأن تصلي الصلاة لوقتها، فإن أدركت الإمام وقد صلى، كنت قد أحرزت صلاتك، وإن لا، فهي لك نافلة.

وقال الذهبي (3) : "حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت، قال: دخلت مع أبي ذر على عثمان، فلما دخل حسر على رأسه، وقال: والله ما أنا منهم يا أمير المؤمنين - يريد الخوارج، قال ابن شوذب: سيماهم الحلق - قال له عثمان: صدقت يا أبا ذر، إنما أرسلنا إليك لتجاورنا بالمدينة، قال: لا حاجة لي في ذلك، ائذن لي إلى الربذة، قال: نعم، ونأمر لك بنعم من نعم الصدقة تغدو عليك وتروح. قال: لا حاجة لي في ذلك، يكفي أبا ذر صريمته (4) فلما خرج، قال: دونكم معاشر قريش، دنياكم فاعلموها (5) قال: ودخل عليه وهو يقسم وعبد الرحمن بن عوف بين يديه وعنده كعب، فأقبل عثمان على كعب، فقال: يا أبا إسحاق، ما تقول فيمن جمع هذا المال فكان يتصدق منه ويصل الرحم؟ قال كعب: إني لأرجو له، فغضب ورفع عليه العصا، وقال: ما تدري يابن اليهودية، ليودن صاحب هذا المال لو كان عقارب في الدنيا تلسع السوداء من قلبه.

(1) الأموال. ج: 1. ص: 74 فقرة: 27.

(2)

الخلق والخليقة بمعنى واحد، ولعل عطف إحدى الكلمتين على الأخرى إنما هو من الرواة.

(3)

سير أعلام النبلاء. ج: 2. ص: من 67 إلى 70.

(4)

صريمته: القطيع الصغير من الغنم.

(5)

فاعلموها: خذوها - العلم - بسكون اللام العض والأكل بجفاء من باب ضرب.

ص: 1174

السري بن يحيى، حدثنا غزوان أبو حاتم، قال: بينما أبو ذر عند باب عثمان ليؤذن له، إذ مر به رجل من قريش، فقال: يا أبا ذر، ما مجلسك ههنا؟ قال: يأبى هؤلاء أن يأذنوا لنا، فدخل الرجل، فقال: يا أمير المؤمنين، ما بال أبي ذر على الباب، فأذن له، فجاء حتى جلس ناحية، وميراث عبد الرحمن يقسم، فقال عبد الرحمن لكعب: أرأيت المال إذا أدي زكاته، هل يخشى على صاحبه فيه تبعة؟

قال: لا. فقام أبو ذر فضربه بعصا بين أذنيه، ثم قال: يابن اليهودية، تزعم أن ليس عليه حق في ماله إذا آتى زكاته، والله يقول:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} (1) ويقول: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} (2) ، فجعل يذكر نحو هذا من القرآن، فقال عثمان للقرشي: إنما نكره أن نأذن لأبي ذر من أجل ما ترى.

وروي عن ابن عباس قال: كان أبو ذر يختلف من الربذة إلى المدينة مخافة الأعرابية (3) فكان يحب الوحدة، فدخل على عثمان وعنده كعب. الحديث. وفيه: فشج كعبًا، فاستوهبه عثمان، فوهبه له، وقال: يا أبا ذر، اتق الله واكفف يدك ولسانك.

موسى بن عبيدة رمز له ابن حجر في (تهذيب التهذيب: ج: 10. ص: 256. ترجمة: 636) بأنه أخرج له الترمذي وابن ماجه، وقال في ترجمته: ابن النشيط بن عمرو بن الحارث الربذي أبو عبد العزيز المدني، روى عن أخويه عبد الله ومحمد وعبد الله بن دينار وإياس بن سلمة بن الأكوع، وذكر آخرين غيرهم، وعنه ابن أخيه بكار بن عبد الله والثوري وعبد الله بن المبارك والدراوردي ووكيع وآخرون، ذكر بعضًا منهم، ونقل عن علي بن المديني، عن يحيى بن سعيد، كنا نتقي حديث موسى بن عبيدة تلك الأيام، ثم كان بمكة، فلم نأته. وقال يحيى: أحدث عن شريك أحسن إلي منه، وقال عمرو بن علي: ذكرت ليحيى حديث موسى عن عمر بن الحكم سمع سعدًا في الصلاة في مسجد المدينة، فأنكر يحيى بأن يكون عمر سمع سعدًا، ولم يرض موسى بن عبيدة، وقال الجوزجاني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لا تحل الرواية عندي عنه، قلت - القائل الجوزجاني -: فإن شعبة روى عنه، فقال: لو بان شعبة ما بان لغيره ما روى عنه، وقال محمد بن إسحاق الصائغ عن أحمد: لا تحل الرواية عنه، وقال أحمد بن الحسن الترمذي عن أحمد: لا يكتب حديث أربعة: موسى بن عبيدة وإسحاق بن أبي قرة وجويبر وعبد الرحمن بن زياد. وقال البخاري: قال أحمد: ليس حديثه عندي بشيء، وحمل عليه. ثم ساق ابن حجر روايات أخرى، عن أحمد في موسى على هذه الشاكلة، لكن يروي بعد ذلك عن الدروي قوله: قلت لأحمد: ما تقول في ابن إسحاق ومولى بن عبيدة؟ فقال: أما ابن إسحاق فهو رجل يكتب عنه هذه الأحاديث، كأنه يعني المغازي. وأما موسى فلم يكن به بأس، ولكنه حدث بأحاديث منكرة، وأما إذا جاء الحلال والحرام أردنا قومًا هكذا، وضم عباس علي يديه، وقال أحمد، عن ابن معين: موسى بن عبيدة ليس بالكذوب، ولكنه روى عن عبد الله بن دينار أحاديث مناكير. وروي عن ابن معين تضعيفه وعن أبي زرعة ليس بقوي الأحاديث، وعن أبي حاتم منكر الحديث، وعن البخاري قوله: لم أخرج عن موسى بن عبيدة ولا أحدث عنه، وعن أبي داود أحاديثه مستوية إلا عن عبد الله بن دينار، وعن الترمذي يضعف، وعن النسائي ضعيف وليس بثقة، وعن ابن سعد كان ثقة كثير الحديث وليس بحجة، وعن يعقوب بن شيبة صدوق ضعيف الحديث جدا ومن الناس من لا يكتب حديثه لدهائه وضعفه وكثرة اختلاطه، وكان من أهل الصدق، وقال ابن عدي: الضعف على رواياته بين، وعن زيد بن الحباب: شممنا من قبره رائحة المسك لما مات، ولم يكن بالربذة مسك ولا عنبر. قال زيد: وكان بيته ليس فيه إلا الخصاف، وفي البيت رمل وحصى. توفي سنة اثنتين أو ثلاث وخمسين ومائة.

وقال أبو بكر البزار: موسى بن عبيدة رجل مقيد وليس بالحافظ، وأحسب أن ما قصر به عن حفظ الحديث شغله بالعبادة، وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم، وقال الساجي: منكر الحديث، وكان رجلًا صالحًا عندهم، وكان القطان لا يحدث عنه، وقد حدث عنه وكيع، وقال: ثقة، وقد حدث عن عبد الله بن دينار أحاديث لم يتابع عليها، قال: وقيل ليحيى بن معين: إن موسى يحدث عن الزهري أحاديث، قال: إنها مناولة، قيل: إنه يحدث عن أبي حازم عن أبي هريرة، ولم يسمع من أبي حازم هي من كتاب صار إليه، وضعفه ابن قانع وابن حبان. انتهى كلام الحافظ ملخصًا.

قلت: من تمحيص كلامهم هذا يتضح أنهم أخذوا عنه سوء الحفظ والاعتماد على الكتابة والتحديث عن مناولة أو كتاب، ولعله لم يكن يصرح بذلك، والرواية عن عبد الله بن دينار، ولكن أحدا - على ما نعلم - لم يغمزه في دينه ولا في عقيدته، اتبعناهم في منهجهم هذا، فضعفنا الحديث، ولو كانت له شواهد لضاع علينا علم كثير، ونحسب أن هذا المنهج هو الذي هيأ للقياسيين المناخ للترويج لأقيستهم والعدول عن السنة إلى الرأي، يغفر الله لنا ولهم.:

(1) الآية رقم: (9) سورة الحشر.

(2)

الآية رقم: (8) سورة الدهر.

(3)

أي: يرجع بدويًا.

ص: 1175

أخبرنا ابن نفيع (1)، عن ابن عباس قال: استأذن أبو ذر على عثمان فتغافلوا عنه ساعة، فقلت: يا أمير المؤمنين هذا أبو ذر بالباب، قال: ائذن له إن شئت أن تؤذينا وتبرح بنا، فأذنت له، فجلس على سرير مرمول (2) فرجف به السرير وكان عظيما طويلًا، فقال عثمان: أما إنك لزاعم أنك خير من أبي بكر وعمر. قال: ما قلت؟ قال: إني أنزع عليك بالبينة، قال: والله ما أدري ما بينتك وما تأتي به؟! وقد علمت ما قلت قال: فكيف إذا ما قلت؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أحبكم إلي وأقربكم مني الذي يلحق بي على العهد الذي عهدته عليه)) وكلكم أصاب من الدنيا، وأنا على ما عهدته عليه، وعلى الله تمام النعمة، وسأله عن أشياء، فأخبره بالذي يعلمه، فأمر أن يرتحل إلى الشام فيلحق بمعاوية، فكان يحدث بالشام، فاستهوى قلوب الرجال، فكان معاوية ينكر بعض شأن رعيته، وكان يقول: لا يبيتن عند أحدكم دينار ولا درهم، ولا تبر ولا فضة، إلا شيء ينفقه في سبيل الله أو يعده لغريم، وأن معاوية بعث إليه بألف دينار في جنح الليل، فأنفقها، فلما صلى معاوية الصبح، دعا رسوله فقال: اذهب إلى أبي ذر، فقل له: أنقذ جسدي من عذاب معاوية، فإني أخطأت. قال: يا بني، قل له: يقول لك أبو ذر: والله ما أصبح عندنا منه دينار، ولكن أنظرنا ثلاثًا حتى نجمع لك دنانيرك، فلما رأى معاوية أن قوله صدق فعله، كتب إلى عثمان: أما بعد، فإن كان لك بالشام حاجة أو بأهله، فابعث إلى أبي ذر بأنه قد وغل صدور الناس، فكتب إليه عثمان: أقدم علي. فقدم.

عاصم بن كليب، عن أبي الجويرية، عن زيد بن خالد الجهني قال: كنت عند عثمان، إذ جاء أبو ذر، فلما رآه عثمان قال: مرحبا وأهلا بأخي، فقال أبو ذر: أهلا ومرحبًا بأخي، لقد أغلظت علينا في العزيمة، والله إن عزمت علي لحبوت ما استطعت، إني خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو حائط بني فلان، فقال لي:((ويحك بعدي. فبكيت، فقلت: يا رسول الله، وإني لباق بعدك؟ قال: نعم، فإذا رأيت البناء على سلع فالحق بالمغرب أرض قضاعة)) قال عثمان: أحببت أن أجعلك مع أصحابك وخفت عنك جهال الناس.

(1) لعله ابن نويفع محمد بن الوليد فلا نعلم ناقلًا اسمه ابن نفيع وابن نويفع يروي عن كريب، عن ابن عباس، ففي الحديث انقطاع.

(2)

أي منسوج بالسعف والحبال.

ص: 1176

وكانت قناعة أبي ذر بأنه دقيق الالتزام بما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد تبلورت عنده، فأصبحت موقفًا سياسيا واجتماعيا ذا صبغة دينية، صمد عليه بقية حياته، ويتمثل هذا الموقف في التزامه بطاعة الأمير حتى وإن يكن مجرد إمام في الصلاة، فالإمارة عنده هي الاطلاع بمسؤولية جماعية أيا كانت هذه المسؤولية.

كما يتمثل في تكييف علاقاته ومعاملاته مع رفاقه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يقيم ويحدد طبيعة علاقته بكل واحد منهم وتعامله معه بنوع العلاقة التي بين ذلك الواحد والقائمين على الحكم في ذلك العهد، ومع أنه كان يخاطب عثمان بأخيه كما مر آنفًا في حديث زيد بن خالد الجهني، ربما اعتبارًا لأن عثمان من المبشرين بالجنة، وأنه زوج اثنتين من بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه خليفة بويع بيعة شرعية، فقد رفض أن يكون أخًا لأبي موسى الأشعري لمجرد أنه قبل ولاية لعثمان.

فقد روى ابن سعد (1) : "أخبرنا عبد الله بن عمرو أبو معمر المنقري، قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد، عن الحسين المعلم، عن أبي بريدة قال: لما قدم أبو موسى الأشعري لقي أبا ذر، فجعل أبو موسى يلزمه، وكان الأشعري خفيف اللحم قصيرًا، وكان أبو ذر رجلًا أسود كث الشعر، فجعل الأشعري يلزمه، ويقول أبو ذر: إليك عني، ويقول الأشعري: مرحبا بأخي، ويدفعه أبو ذر، ويقول: لست بأخيك، إنما كنت أخاك قبل أن تستعمل، قال: ثم لقي أبا هريرة، فالتزمه وقال: مرحبا بأخي، فقال أبو ذر: إليك عني، هل كنت عملت لهؤلاء؟ قال: نعم. قال: هل تطاولت في البناء أو اتخذت زرعًا أو ماشية قال: لا. أنت أخي، أنت أخي.

على حين أخذ على أبي الدرداء أنه بنى بيتًا، إذ رأى في مجرد بناء بيت إقبالًا على الدنيا لا ينبغي لمثل أبي الدرداء.

قال الذهبي (2) : " قال ثابت البناني: بنى أبو الدرداء مسكنًا، فمر عليه أبو ذر، وقال: ما هذا، أتعمر دارًا أذن الله بخرابها؛ لأن تكون رأيتك تتمرغ في عذرة أحب إلي من أن أكون رأيتك فيما رأيتك فيه.

(1) الطبقات: ج: 4. ص: 230.

(2)

سير أعلام النبلاء. ج: 2. ص: 74.

ص: 1177

وما من أحد يستطيع أن يغمز في شيء مما نقل من مواقف أبي ذر، ولم يكن أحد يستطيع ذلك في عهده، ما أكثر من كانوا يترصدونه ويرتقبون أن يجدوا له مغمزًا، لولا أنه في عاصم من كل متربص ومرتقب بما شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدق الذي ليس بعده صدق شهادات تناقلها الصحابة ونقلها عنه معاصروه ثم من جاؤوا بعده من النقلة يثبتها إثباتًا لا سبيل إلى الغمز فيه، وإن تقول بعض النقدة في بعض الأسانيد لما يشهد لها من أسانيد أخرى لا سبيل إلى تجريحها ما وراه كل من أحمد وابن سعد وابن حبان والترمذي وابن ماجه والحاكم والذهبي.

قال أحمد (1) : " حدثنا أبو النضر، حدثنا عبد الحميد بن بهرام، حدثنا شهر بن حوشب، حدثنا عبد الرحمن بن غنم، أنه زار أبا الدرداء بحمص، فمكث عنده ليالي، فأمر بحماره فأوكف، فقال أبو الدرداء: لا أراني إلا متعبك، فأمر بحماره فاسرج، فسارا على حماريهما، فلقيا رجلا شهد الجمعة بالأمس عند معاوية بالجابية، فعرفهما الرجل ولم يعرفاه، فأخبرهما خبر الناس، ثم إن الرجل قال: وخبر آخر كرهت أن أخبركماه أراكما تكرهانه، فقال أبو الدرداء: فلعل أبا ذر نفي. قال: نعم والله. فاسترجع أبو الدرداء وصاحبه قريبًا من عشر مرات، ثم قال أبو الدرداء {فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} (2) - كما قيل لأصحاب الناقة - اللهم إن كذبوا أبا ذر فإني لا أكذبه، اللهم إن اتهموه فإني لا أتهمه، اللهم إن استغشوه فإني لا استغشه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتمنه حين لا يأتمن أحدًا، ويسر إليه حين لا يسر لأحد، أما والذي نفس أبي الدرداء بيده، لو أن أبا ذر قطع يميني ما أبغضته بعد الذي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أظلت

الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر)) .

وقال ابن سعد (3) : "أخبرنا عبد الله بن نمير، قال: أخبرنا الأعمش، عن عثمان بن نمير، عن أبي حرب بن الأسود الدؤلي، عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق من أبي ذر)) .

(1) الفتح الرباني ج: 22. ص: 373.

(2)

الآية رقم: (27) من سورة القمر.

(3)

الطبقات. ج: 4. ص: 228 و229.

ص: 1178

أخبرنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا أبو أمية بن يعلى، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، من سره أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذر)) أخبرنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا سلام بن مسكين، قال: حدثنا مالك بن دينار، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((أيكم يلقاني على الحال التي أفارقه عليها؟ فقال أبو ذر: أنا. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: صدقت. ثم قال: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، من سره أن ينظر إلى زهد عيسى بن مريم، فلينظر إلى أبي ذر)) .

أخبرني سليمان بن حرب والحسن بن موسى، قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن بلال بن أبي الدرداء، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر)) .

أخبرنا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، قال: حدثنا أبو حرة، عن محمد بن سيرين قال: قال رسول الله: ((ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر)) .

أخبرنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا محمد بن عمرو، قال: سمعت عراك بن مالك يقول: قال أبو ذر: إني أقربكم مجلسًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وذلك أني سمعته يقول صلى الله عليه وسلم:((أقربكم مجلسًا يوم القيامة من خرج من الدنيا كهيأة ما تركته فيها، وإنه والله ما منكم من أحد إلا وقد تشبث منها بشيء غيري)) .

وقال ابن حبان (1) : "أخبرنا الحسين بن أحمد بن بسطام بالأبلة، حدثنا العباس بن عبد العظيم العنبري، حدثنا النضر بن محمد اليمامي، حدثنا عكرمة بن عمار، عن أبي زميل، عن مالك بن مرثد، عن أبيه، عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ((: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق منك يا أبا ذر)) .

(1) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 9. ص: 132و135. ح: 7088و7091

ص: 1179

وأخبرنا محمد بن نصر بن نوفل بمرو، حدثنا أبو داود السنجي سليمان بن معبد، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا أبو زميل عن مالك بن مرثد قال: قال أبو ذر: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تقل الغبراء ولا تظل الخضراء على ذي لهجة أصدق وأوفى من أبي ذر شبيه عيسى ابن مريم. على نبينا وعليه السلام، قال: فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا نبي الله أفتعرف ذلك له؟ قال: نعم، فاعرفوه له)) .

وقال الترمذي (1) : "حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا ابن نمير، عن الأعمش، عن عثمان بن نمير - هو أبو اليقظان - عن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي، عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر)) .

قال: وفي الباب عن أبي الدرداء وأبي ذر.

قال: وهذا حديث حسن.

وحدثنا العباس العنبري، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة عن عمار، حدثنا أبو زميل - هو سماك بن الوليد الحنفي - عن مالك بن مرثد، عن أبيه، عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر شبه عيسى ابن مريم عليه السلام، فقال عمر بن الخطاب كالحاسد: يا رسول الله، أفتعرف ذلك له؟ قال: نعم فاعرفوه له)) .

قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

وقد روى بعضهم هذا الحديث، فقال:((أبو ذر يمشي في الأرض بزهد عيسى ابن مريم عليه السلام) .

وقال ابن ماجه (2) :

(1) الجامع الصحيح. ج: 5. ص: 669. ح: 3801و3802.

(2)

السنن. ج: 1. ص: 55. ح:156.

ص: 1180

"حدثنا علي بن محمد، حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا الأعمش، عن عثمان بن نمير، عن أبي حرب بن الأسود الدؤلي، عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر)) .

وقال الحاكم (1) : أخبرنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم المزني، حدثنا أحمد بن سلمة، حدثنا العباس بن عبد العظيم العنبري، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا أبو زميل، عن مالك بن مرثد، عن أبيه، عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تقل الغبراء ولا تظل الخضراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر شبيه عيسى ابن مريم، فقام عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله، فتعرف ذلك له؟ قال: نعم فاعرفوه له)) هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

وقد روي عن عبد الله بن عمرو وأبي الدرداء. أما حديث عبد الله بن عمرو فحدثناه أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا أبو يحيى الحماني، عن الأعمش، وأخبرني أبو بكر بن محمد الصيرفي، حدثنا أبو قلابة، حدثنا يحيى بن حماد، حدثنا أبو عوانة، عن سليمان الأعمش، عن عثمان بن قيس البجلي، عن أبي حرب الدؤلي قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على رجل أصدق لهجة من أبي ذر)) .

وأما حديث أبي الدرداء فحدثناه الشيخ أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن بلال بن أبي الدرداء، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر)) . وقال الذهبي (2) : "الأعمش عن عثمان بن عمير، عن أبي حرب، عن أبي الأسود، سمعت عبد الله بن عمرو، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر)) .

سلام بن مسكين، أخبرنا مالك بن دينار، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((أيكم يلقاني على الحال التي أفارقه عليه؟ قال أبو ذر: أنا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، ومن سره أن ينظر إلى زهد عيسى فلينظر إلى أبي ذر)) .

(1) المستدرك. ج: 3. ص: 302.

(2)

سير أعلام النبلاء. ج: 2. ص: 59.

ص: 1181

ولم يكن أبو ذر مجرد سامع ينقل ما سمع، فيقال فيه: إنه قد لا يكون واعيًا بما ينقل أو فقيهًا لما قال أو بصيرًا بما سمع، وإنما كان عالمًا جليلًا أفتى في عهد أبي بكر وعمر وأصر على الفتيا في عهد عثمان وإن منعه عثمان أو بعض ولاته أو تقول على عثمان بعض أنصاره بمنعه، وذلك ما تشهد به الآثار التي رواها كل من ابن سعد والذهبي مما ندرجه فيما يلي:

قال ابن سعد (1) : "أخبرنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو حرب بن الأسود، عن أبي الأسود، قال ابن جريج: ورجل من زاذان قالا: سئل علي عن أبي ذر وقال: وعى علما عجز فيه، وكان شحيحًا حريصًا، شحيحًا على دينه، حريصًا على العلم، وكان يكثر السؤال فيعطي ويمنع، أما إنه قد ملئ له في وعائه حتى امتلأ. فلم يدروا ما يريد بقوله:(وعى علما عجز فيه) . أعجز عن كشف ما عنده من العلم، أم عن طلب ما طلب من العلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال الذهبي (2) :

" البابلي، أخبرنا الأوزاعي، حدثني مرثد أبو كثير، عن أبيه، عن أبي ذر، أن رجلًا أتاه، فقال: إن مصدقي عثمان رضي الله عنه ازدادوا علينا أنغيب عليهم بقدر ما ازدادوا علينا؟ فقال: لا، وقف مالك، وقل: ما كان لكم من حق فخذوه، وما كان باطلًا فردوه، فما تعدوا عليك جعل في ميزانك يوم القيامة. قال: وعلى رأسي فتى من قريش، فقال: أما نهاك أمير المؤمنين عن الفتيا؟ قال: أرقيب أنت علي، فوالذي نفسي بيده لو وضعتم الصمصامة في هذه - وأشار إلى قفاه، ثم ظننت أني منفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجيزوا علي لأنفذتها.

الأوزاعي، حدثني أبو كثير، عن أبيه قال: أتيت أبا ذر وهو جالس عند الجمرة الوسطى، وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه، فأتاه رجل، فوقف عليه، فقال: ألم ينهك أمير المؤمنين عن الفتيا؟ فرفع رأسه، فقال: أرقيب أنت علي، لو وضعتم

الصمصامة على هذه - وأشار بيده إلى قفاه - ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجيزوا علي لأنفذتها.

(1) الطبقات. ج: 4. ص: 232.

(2)

تذكرة الحفاظ ج: 1. ص: 18. وسير أعلام النبلاء. ج: 4. ص: 64.

ص: 1182

عن ثعلبة بن الحكم، عن علي قال: لم يبق أحد لا يبالي في الله لومة لائم غير أبي ذر ولا نفسي ثم ضرب بيده على صدره.

وهذه المياسم التي لفتنا إليها باعتبارها العناصر المكونة لقصة أبي ذر موقفه، يكملها ما رواه ابن سعد (1) فقال: "أخبرنا مالك بن إسماعيل أبو غسان النهدي، قال: حدثنا مسعود بن سعد الجعفي، عن الحسن بن عبيد الله، عن رياح بن الحارث، عن ثعلبة بن الحكم، عن علي قال: لم يبق أحد لا يبالي في الله لومة لائم غير أبي ذر ولا نفسي، ثم ضرب بيده إلى صدره.

وما من شك في أن صلابة أبي ذر وصراحته وشدة التزامه بكل ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فهمه من كتاب الله عز وجل وبالنضال المستميت في سبيل صيانة التراث النبوي العملي والتشريعي من التحريف والانحراف يكون الركن الركين الذي يعصم تفسيره لآية "الكنز " وفهمه لما في المال حق سوى الزكاة من كل محاولة لتوهيمه أو اعتبار موقفه متطرفًا على حد التعبير الحديث، فليس في شريعة الله تطرف واعتدال، إنما هو الالتزام أو الانحراف، وقد تجيئ الرخصة، ولكن الظروف الخاصة هي التي تسوغها وتحيط بها، فإذا انتفت الظروف ارتفعت الرخصة وأبو ذر لم يكن يجهل ذلك، بدليل أنه لم يجهر بقوله ولم يبرز بنضاله طيلة أيام عمر وعلي، بل وحتى من أيام أبي بكر، وكانت الأموال قد أخذت تستكثر في أيدي المسلمين، ذلك بأن المسلمين يومئذ كانت الدنيا تقبل عليهم، وكانوا يتقبلونها، ولكن مقبلين على الآخرة يتعاملون بها ومعها في نطاق شرع الله وخلق القرآن، فلما صار الأمر إلى بني أمية وشيعتهم، استغلوا ضعف عثمان وإسماحه رحمه الله فجردوا العمل السياسي من الالتزام الديني، ونتج عن ذلك انحراف عامة الناس وأكثرهم من مسلمة الفتوح الذين لم يعايشوا أنوار النبوة عن الخلق الإسلامي الذي هو النبع الأصيل لمناط التشريع انحرافًا أخذ في بادئ أمره يعمد إلى التأويل يعتمده، وما أكثر ما كان التأويل تحريفًا للمعنى أو للمناط، ثم تطور أمره حتى أصبح نمطًا من عدم الاكتراث بالنص، قد يتقنع بأنماط من الترخيص، لا سيما حين أخذ يعم التقليد، ويفشو الوضع ويضؤل الاعتصام بالنص الثابت والأثر الصحيح والفهم الصريح، وتلك ظاهرة تصحب دائما طول الأمد بعهد النبوة ثم من بعده بعهود اليقظة والانبعاث وصيحات التلبية والتحذير.

(1) الطبقات. ج: 4. ص: 231 و232.

ص: 1183

على أن التزام أبي ذر بما وعاه عن رسول الله صلى الله عليه وسل في تأثل المال واكتنازه وما ينجر عنه من تبعات كان سلوكًا قبل أن يكون دعوة، ومن أروع صوره ما رواه ابن سعد والذهبي.

قال ابن سعد (1) : "أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا سعيد بن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه، عن أبي ذر، أنه رآه في نمرة مؤتزرًا بها قائما يصلي، فقلت: يا أبا ذر، أما لك ثوب غير هذه النمرة؟ قال: لو كان لي لرأيته علي. قلت: فقد رأيت عليك منذ أيام ثوبين. قال: يابن أخي أعطيتهما لمن هو أحوج مني. قلت: والله إنك لمحتاج إليهما. قال: اللهم غفرًا، إنك لمعظم للدنيا، أليس ترى علي هذه البردة ولي أخرى للمسجد ولي أعنز نحلبها، ولي أحمرة نحمل عليها ميرتنا، وعندنا من يخدمنا ويكفينا مهنة طعامنا، فأي نعمة أفضل مما نحن فيه؟

أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا سفيان الثوري، عن عمار الذهبي، عن أبي شعبة قال: جاء رجل من قومنا أبا ذر يعرض عليه، فأبى أبو ذر أن يأخذ، وقال: لنا أحمرة نحتمل عليها، وأعنز نحلبها، ومحررة تخدمنا، وفضل عباءة من كسوتنا، وإني لأخاف أن أحاسب بالفضل.

أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا علي بن يزيد الأسلمي، قال: حدثني عيسى بن عميلة الفزاري، قال: أخبرني من رأى أبا ذر يحلب غنيمة له، فيبدأ بجيرانه وأضيافه قبل نفسه، وقد رأيته ليلة حلب حتى ما بقي في ضروع غنمه شيء إلا مصره وقرب إليهم تمرًا وهو يسير، ثم تعذر إليهم، وقال: لو كان عندنا ما هو أفضل من هذا لجئنا به. قال: وما رأيته ذاق تلك الليلة شيئًا.

أخبرنا محمد بن عمر، عن موسى بن عبيدة، قال: حدثني عبد الله بن خراش الكعبي، قال: وجدت أبا ذر في مظلة شعر بالربذة تحته امرأة سحماء، فقلت: يا أبا ذر تتزوج سحماء؟ قال: أتزوج من تضعني، أحب إلي ممن ترفعني، ما زال لي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى ما ترك لي الحق صديقًا.

(1) الطبقات. ج: 4. ص: 235.

ص: 1184

أخبرنا عفان بن مسلم، قال: حدثنا همام بن يحيى، قال: حدثنا قتادة، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبي، أنه دخل على أبي ذر وهو بالربذة وعنده امرأة سوداء مشنفة، ليس عليها أثر المجاسد ولا الخلق. قال: فقال: ألا ترون ما تأمرني هذه السويداء؟ تأمرني أن آتي العراق، فإذا أتيت العراق مالوا علي بدنياهم، ألا وإن خليلي عهد إلي أن دون جسر جهنم طريقًا ذا دحض ومزلة، وإنا إن نأت عليه وفي أحمالنا اقتدار أحرى أن ننجو من أن نأتي عليه ونحن مواقير.

أخبرنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا قرة بن خالد، حدثنا عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، قال: كسي أبو ذر بردين، فاتزر بأحدهما، وارتدى بشملة، وكسى أحدهما غلامه، ثم خرج على القوم، فقالوا: لو كنت لبستهما جميعًا كان أجمل. قال: أجل، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تكسون.

وقال الذهبي (1) : "وعن أم طلق قالت: دخلت على أبي ذر، فرأيته شاعثًا شاحبًا، بيده صوف، قد جعل عودين وهو يغزل بهما، فلم أر في بيته شيئًا، فناولته شيئًا من دقيق وسويق، فقال لي: أما ثوابك، فعلى الله.

وقد يقال: ما بال أبي ذر آثر النفي أو الاعتزال إلى الربذة عن الاستمرار في النضال من أجل دعوته ومواجهة ما قد يجره عليه نضاله من متاعب أو من تضحيات إن كان ملتزمًا فواثقًا بما يدعو إليه ويرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن أوكد خصائص الالتزام والوثوق الاستهانة بالمتاعب والتضحيات في سبيل ما كان به الالتزام والوثوق.

والجواب عن هذا من أبي ذر نفسه، فقد تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرًا لم يكن ليتجاوزه، ليس بأدنى وجوبا أو تأكدًا من الأمر الذي التزم به ووثق فيما يتصل بالمال، وهو يتصل هذه المرة بالسياسة أو بعلاقة الرعية بالراعي والمسلمين بمن يؤمر عليهم، فقد كان أبو ذر ينزع إلى أن يستل سيفه ويقاتل به كل من يقف في وجهه إلى أن ينتصر أو يستشهد، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بغير ذلك حين أفضى إليه بنزعته تلك، ولنستمع إليه فيما روى عنه كل من أحمد وابن سعد وابن ماجه.

(1) سير أعلام النبلاء. ج: 2. ص: 74.

ص: 1185

قال أحمد في مسنده (1) : (حدثنا محمد بن جعفر وحجاج، قالا: حدثنا شعبة، عن أبي عمران، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال: ((أوصاني خليلي عليه السلام بثلاث: اسمع وأطع ولو لعبد مجدع الأطراف، وإذا صنعت مرقة فأكثر ماءها، ثم انظر أهل بيت من جيرانك، فأصبهم منها بمعروف، وصل الصلاة لوقتها، وإذا وجدت الإمام قد صلى فقد أحرزت صلاتك، وإلا فهي نافلة)) .

حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، حدثنا قتادة، حدثنا أبو عمران الجوني، عن عبد الله بن الصامت، قال: لما قدم أبو ذر على عثمان من الشام، فقال:((أمرني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: اسمع وأطع وإن كان عبدًا مجدع الأطراف، وإذا صنعت مرقة فأكثر ماءها، ثم انظر أهل بيت من جيرتك فأصبهم منها بمعروف، وصل الصلاة لوقتها، فإن وجدت الإمام قد صلى فقد أحرزت صلاتك، وإلا فهي نافلة)) .

وقال ابن سعد (2) : "أخبرنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا العوام بن حوشب، قال: حدثنا رجل من أصحاب الأجر، عن شيخين من بني ثعلبة - رجل وامرأته - قالا: نزلنا الربذة، فمر بنا شيخ أشعث أبيض الرأس واللحية، فقالوا: هذا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذناه أن نغسل رأسه، فأذن لنا، واستأنس بنا، فبينا نحن كذلك، إذ أتاه نفر من أهل العراق - حسبته قال: من أهل الكوفة - فقالوا: يا أبا ذر، فعزل بك هذا الرجل وفعل، فهل أنت ناصب لنا راية؟ فلنكمل برجال ما شئت. فقال: يا أهل الإسلام، لا تعرضوا علي ذاكم، ولا تذلوا السلطان، فإنه من أذل السلطان فلا توبة له، والله لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة أو أطول جبل لسمعت وأطعت وصبرت واحتسبت، ورأيت أن ذلك خير لي ولو سيرني ما بين الأفق إلى الأفق - أو قال: ما بين المشرق والمغرب - لسمعت وأطعت وصبرت واحتسبت، ورأيت أن ذلك خير لي، ولو ردني إلى منزلي لسمعت وأطعت وصبرت واحتسبت، ورأيت أن ذلك خير لي. ".

(1) ج: 5. ص: 161 و171.

(2)

الطبقات. ج: 4. ص: 227.

ص: 1186

وقال ابن ماجه في سننه (1) :

"حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، أنه انتهى إلى الربذة وقد أقيمت الصلاة، فإذا عبد يؤمهم، فقيل: هذا أبو ذر، فذهب يتأخر، فقال أبو ذر: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم أن أسمع وأطيع، وإن كان عبدًا حبشيا مجدع الأطراف.

وقد روي عن أبي ذر ما قد يوهم أنه يتعارض مع تفسيره للكنز لما جاء فيه من لفظ " الزكاة" الذي قد ينصرف إلى الزكاة المفروضة، وقد يكون تبيانًا أو تأويلًا للروايات الأخرى الناهية عن الكنز والاستكثار عامة، وتلك التي وردت فيها كلمة "حق" بدلًا من كلمة "الزكاة ".

فقد روى كل من أحمد وابن زنجويه ومسلم والنسائي والبيهقي وجميعهم عن طريق المعرور بن سويد ما ننقله على التوالي:

قال أحمد (2) :

"حدثنا محمد بن عبيد وابن نمير المعني، قالا: حدثنا الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر قال:((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في ظل الكعبة، قال: هم الأخسرون ورب الكعبة، هم الأخسرون ورب الكعبة، هم الأخسرون، فأخذني غم، وجعلت أتنفس، قال: قلت: هذا شر حدث في. قال: قلت: من هم، فداك أبي وأمي؟ قال: الأكثرون إلا من قال في عباد الله هكذا وهكذا، وقليل ما هم، ما من رجل يموت ويترك غنما أو إبلًا أو بقرًا لم يؤد زكاته، إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمن حتى تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها حتى يقضى بين الناس، ثم تعود أولاها على أخراها)) وقال ابن نمير: كلما نفذت أخراها عادت إليه أولاها.

(1) ج: 2. ص: 955. ح: 2862.

(2)

المسند. ج: 5. ص: 148و 149و 169.

ص: 1187

حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني مقبلًا قال: هم الأخسرون ورب الكعبة. فقلت: ما لي، لعلي أنزل في شيء، من هم فداك أبي وأمي؟ قال: الأكثرون أموالًا، إلا من قال هكذا، فحثا بين يديه وعن يمينه وعن شماله، قال: ثم قال: والذي نفسي بيده، لا بموت أحد منكم فيدع إبلًا وبقرًا وغنما لم يؤد زكاتها، إلا جاءته يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، تطؤه بأخفافها، وتنطحه بقرونها، كلما نفدت أخراها عليه، أعيدت أولاها حتى يقضى بين الناس.

وقال ابن زنجويه (1) :

"أخبرنا محمد بن عبيد، حدثنا الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر قال:((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في ظل الكعبة، فلما رآني قد أقبلت، قال: هم الأخسرون ورب الكعبة. مرتين، وقال: فأخذني غم، وجعلت أتنفس، وقلت: هذا شيء حدث في. قلت: من هم فداك أبي وأمي؟ قال: الأكثرون، إلا من قال في عباد الله هكذا وهكذا - عن يمينه وعن يساره وعن خلفه - وقليل ما هم، ما من رجل يموت فيترك غنما أو إبلًا أو بقرًا لم يؤد زكاتها إلا جاءته يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمن حتى تطأه بأظلافها وتنطحه بقرونها حتى يقضى بين الناس، ثم تعود أولاها على أخراها)) .

وقال مسلم (2) :

"حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر قال:((أتيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال: هم الأخسرون ورب الكعبة. قال: فجئت حتى جلست، فلم أتقار أن قمت، فقلت: يا رسول الله فداك أبي وأمي، من هم؟ قال: هم الأكثرون أموالًا إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا - من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله - وقليل ما هم، ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس)) .

حدثني أبو كريب، حدثني محمد بن العلاء، حدثني أبو معاوية، عن الأعمش، عن المعرور، عن أبي ذر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة

فذكر نحو حديث وكيع، غير أنه قال: والذي نفسي بيده، ما على الأرض رجل يموت فيدع إبلًا أو بقرًا أو غنما لن يؤدي زكاتها.

(1) الأموال ج: 2. ص: 783.ح: 1355.

(2)

على هامش شرح النووي. ج: 7. ص: 73 و74.

ص: 1188

قال النسائي (1) :

" وأخبرنا هناد بن السري في حديثه، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر قال:((جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني مقبلًا قال: هم الأخسرون ورب الكعبة. قلت: ما لي، لعلي أنزل في شيء. قلت: من هم فداك أبي وأمي؟ قال: الأكثرون أموالًا، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا. حثا بين يديه وعن يمينه وعن شماله، ثم قال: والذي نفسي بيده، لا يموت رجل فيدع أبلا أو بقرًا لم يؤد زكاتها، إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها، كلما نفدت أخراها أعيدت أولاها حتى يقضى بين الناس)) .

وقال البيهقي (2) :

أخبرنا أبو الحسين محمد بن الحسين بن الفضل القطان ببغداد، أنبأنا أبو عمرو عثمان بن أحمد السماك، حدثنا محمد بن عبيد الله بن يزيد المنادي، حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي، حدثنا الأعمش. وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني، حدثنا أحمد بن حازم بن أبي عزرة، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر رضي الله عنه قال:((انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال: هم الأخسرون ورب الكعبة. قال: فجئت حتى جلست، فلم أتقار أن قمت، فقلت: من هم فداك أبي وأمي؟ قال: هم الأكثرون، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا - أربع مرات - وقليل ما هم، ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، تنطحه بقرونها وتطؤه بأخفافها، كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضي بين الناس)) . لفظ حديث وكيع رواه مسلم في الصحيح عن أبي بكر بن أيى شيبة، وأخرجه البخاري من وجه آخر عن الأعمش.

ومثل هذا الذي روي عن أبي ذر مما يتراءى للنظرة الساذجة متناقضًا روي عن أبي هريرة، فقد جاء عنه الوعيد لمن لم يؤد حق الله في ماله والتنديد به، كما جاء عنه الوعيد لمن لم يؤد زكاة ماله والتنديد به، والكلمتان كلتاهما وردتا في أحاديث متشابهة الأسانيد متشابهة الألفاظ، والبعض منها لا يختلف الواحد عن الآخر إلا بورود كلمة (الزكاة) في أحدهم، وكلمة (الحق) أو (حق الله) في الآخر تمامًا، كما رأينا فيما روي عن أبي ذر مما قد يبدو متناقضًا، وقبل أن نأخذ في تجلية الحقيقة التي تزيح وهم التناقض بين هذه الأحاديث، ندرج ما روي عن أبي هريرة.

(1) السنن. ج: 5. ص:10.

(2)

السنن ج: 4. ص: 97.

ص: 1189

فالأحاديث التي ورد فيها ذكر الزكاة رواها كل من مالك وأحمد وأبي عبيد وابن زنجويه والبخاري والبيهقي وجميعها عن طريق أبي صالح السمان.

قال مالك (1) :

"عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة أنه كان يقول: من كان عنده مال لم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان يطلبه حتى يمكنه، يقول له: أنا كنزك.

وتعقبه ابن عبد البر (2) :

هذا الحديث أيضًا موقوف في الموطأ غير مرفوع، وقد أسنده عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار أيضًا، عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

والإسناد الأول رواه عبد العزيز بن الماجشون، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عندي خطأ منه في الإسناد. والله أعلم.

وقال أحمد (3) : حدثنا حصن، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من آتاه الله مالًا فلم يؤد زكاته، مثل له ماله يوم القيامة شجاعًا أقرع، له زبيبتان، يأخذ بلهزمتيه يوم القيامة، ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} إلى آخر الآية)) .

حدثنا قتيبة، حدثنا بشر بن سعد، عن ابن عجلان، عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((يكون كنز أحدهم يوم القيامة شجاعًا أقرع ذا زبيبتين، يتبع صاحبه وهو يتعوذ منه، ولا يزال يتبعه حتى يلقمه أصبعه)) .

(1) الموطأ. ص:207.

(2)

التمهيد. ج:17. ص:145.

(3)

الساعاتي الفتح الرباني. ج: 8. ص: 193 و200.

ص: 1190

حدثنا عفان، حدثنا وهيب، عن خالد البصري، قال: حدثنا سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته، إلا جيئ به يوم القيامة وبكنزه، فيحمى عليه صفائح في نار جهنم، فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله؛ إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها، إلا جيئ به يوم القيامة وبإبله كأوفر ما

كانت عليه، فيبطح لها بقاع قرقر، كلما مضى أخراها، رد عليه أولاها، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله؛ إما إلى الجنة، وأما إلى النار، وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها، إلا جيئ به

يوم القيامة كأوفر ما كانت، فيبطح لها بقاع قرقر، فتطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها، كلما مضت أخراها ردت عليه أولاها، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله؛ إما إلى الجنة، وإما إلى النار)) . الحديث.

وقال أبو عبيد (1) :

"وحدثنا سعيد بن أبي مريم، عن محمد بن جعفر بن أبي كثير، قال: حدثني سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته، إلا يؤتى به وبكنزه يوم القيامة أوفر ما كان، فيضرب صفائح، ثم يحمى عليها في نار جهنم، ثم يكوى بها جبينه وجنبه وظهره، كلما بردت صفيحة أحميت، حتى يقضي الله بين خلقه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله من الجنة أو من النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها، إلا يؤتى به وبإبله يوم القيامة أوفر ما كانت، فيبطح لها بقاع قرقر، ثم تستن عليه وتخبطه بأخفافها وتعضه بأفواهها، كلما انقضى آخرها عطف عليه أولها، حتى يقضي الله تبارك وتعالى بين خلقه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله من الجنة أو النار)) . ثم ذكر في الغنم والبقر مثل ذلك.

وقال ابن زنجويه (2) :

(1) الأموال. ص: 494. ح: 923.

(2)

الأموال ج: 2. ص: 780 و781. ح: 1353.

ص: 1191

" حدثني ابن أبي أويس، حدثني عبد العزيز بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ما من عبد لا يؤدي زكاة ماله إلا أتي به وبماله، فأحمي عليه صفائح من نار جهنم، فيكوى بها جبينه، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون (1) ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، ولا عبد لا يؤدي صدقة إبله إلا أتي به يوم القيامة وبإبله على أوفر ما كانت، فيبطح لها بقاع قرقر، فتستن عليه، كلما مضى عليه آخرها، رد عليه أولها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره ألف سنة، ولا عبد لا يؤدي صدقة غنمه إلا أتي به وبغنمه على أوفر ما كانت، فينبطح لها بقاع قرقر، فتستن عليه، كلما مر عليه آخرها رد عليه أولها، تطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره مائة ألف سنة (2) مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى جنة، وإما إلى نار)) .

وقال البخاري في صحيحه (3) :

(حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من آتاه الله مالًا، فلم يؤد زكاته، مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع، له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزميه - يعني بشدقيه - ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك. ثم تلا: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} )) .

وحدثنا عبد الله بن منير، سمع أبا النضر، حدثنا عبد الرحمن - هو ابن عبد الله بن دينار - عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من آتاه الله مالًا، فلم يؤد زكاته، مثل له ماله شجاعًا أقرع، له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزميه - يعني بشدقيه - يقول: أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} إلى آخر الآية)) .

وقال البيهقي (4) :

"أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ، أنبأ أبو عبد الله محمد بن موسى الرازي ببخارى، أنبأ محمد بن أيوب، أنبأ علي بن المديني، حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((: من آتاه الله مالًا، فلم يؤد زكاته، مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه - يعنى شدقيه - ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية)) .

وتعقبه البيهقي بقوله:

رواه البخاري في الصحيح عن علي بن المديني، ورواه مالك عن عبد الله بن دينار موقوفًا.

(1) لعل في العبارة خطأ، صوابه: خمسين ألف سنة كما ورد في الأسانيد الأخرى أو لعلها رواية اختص بها ابن زنجويه، وهذا الاحتمال بعيد، لكن يرجح هذا الاحتمال ورود جملة "مما تعدون" بعد جملة "ألف سنة"، والجملتان جزء من الآية:(4) سورة السجدة ونصه: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} ، ووردت جملة (خمسين ألف سنة) في سورة المعارج في قوله سبحانه وتعالى:{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كان مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} الآية: (4) .

(2)

هذا يؤكد ما أثبتناه في التعليق السابق من أن في الرواية خطأ، وربما كان من الناسخ.

(3)

ج: 2. ص: 110 و111. وج: 5. ص: 172.

(4)

السنن. ج:4. ص:81.

ص: 1192

أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، أنبأنا محمد بن يعقوب بن يوسف، حدثني أبي ويحيى بن منصور الهروي، قالا: حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب الأموي، حدثنا عبد العزيز بن المختار، حدثنا سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته، إلا أحمي عليه في نار جهنم، فجعل صفائح، فيكوى بها جنباه وجبينه، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله؛ إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها، إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت، تسير عليه، كلما مضى أخراها ردت عليه أولاها، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها، إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت، فتطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء، كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها، حتى يحكم الله على عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار. قال سهيل: فلا أدري أذكر البقر أم لا. قالوا: فالخيل يا رسول الله؟ قال: الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة. أو قال: الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة. قال سهيل: أنا أشك. الحديث)) .

أما تلك التي وردت فيها كلمة "حق"، بدلًا من كلمة " الزكاة"، فقد رواها كل من أحمد وابن زنجويه والبخاري وأبي داود والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي من طرق مختلفة، اثنتان عن السمان، وواحدة عن عطاء، وأخرى عن الأعرج، وأخرى عن زيد بن أسلم، وأخرى عن العلاء بن عبد الرحمن، وأربعة عن أبي عمرو (أو أبي عمر) الغداني، وأخرى عن كل من شعيب العقيلي ويحيى بن أبي كثير، وهي على التوالي:

قال أحمد (1) :

(1) الساعاتي الفتح الرباني. ج: 8. ص: 196.

ص: 1193

"حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي عمر الغداني، قال: كنت عند أبي هريرة جالسًا، فمر رجل من بني عامر بن صعصعة، فقيل له: هذا أكثر عامري مالًا، فقال أبو هريرة: ردوه إلي. فردوه عليه، فقال: نبئت أنك ذو مال كثير. قال العامري: إي والله، إن لي مائة حمرًا ومائة أدمًا. حتى عد من ألوان الإبل وأفنان الرقيق ورباط الخيل. فقال أبو هريرة: إياك وأخفاف الإبل وأظلاف النعم. يردد ذلك عليه، حتى جعل لون العامري يتغير أو يتلون، فقال: ما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كانت له إبل لا يعطي حقها - فذكر مثل الحديث المتقدم - ثم قال: واذا كانت له بقر لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكبره وأسمنه وأشره، ثم يبطح لها بقاع قرقر، فتطؤه فيه كل ذات ظلف بظلفها، وتنطحه كل ذات قرن بقرنها، إذا جاوزته أخراها، أعيدت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس حتى يرى سبيله، وإذا كان له غنم - فذكر نحو الحديث المتقدم - ثم قال: قال العامري: وما حق الإبل يا أبا هريرة؟ قال: أن تعطي الكريمة، وتمنح الغزيرة، وتفقر الظهر، وتسقي اللبن، وتطرق الفحل.

ثم أسند حديث أبي هريرة هذا بلفظ مختلف، فقال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن يحيى، حدثنا محمد بن بكر، حدثنا أبو داود، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه، إلا جعله الله يوم القيامة يحمى عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره، حتى يقضي الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب غنم لا يؤدي حقها، إلا جاءت يوم القيامة أوفى ما كانت، فيبطح لها بقاع قرقر، فتنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلما مضت أخراها، ردت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي حقها إلا جاءت يوم القيامة أوفر ما كانت، فيبطح لها بقاع قرقر، فتطؤه بأخفافها، كلما مضت أخراها ردت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار)) .

وقال ابن زنجوبه (1) :

أخبرنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها، إلا جعلت له يوم القيامة صفائح، ثم أحمي عليها في نار جهنم، ثم كوي بها جبهته وجبينه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين الناس، فيرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي حقها، ومن حقها حلبها يوم ورودها، إلا أتي به يوم القيامة لا يفقد منها فصيلًا واحدًا، ثم بطح لها بقاع قرقر، ووطأته بأخفافها، وعضته بأفواهها، كلما مر عليه آخرها كر عليه أولها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين الناس، فيرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا أتي بها يوم القيامة، ثم بطح لها بقاع قرقر، ليس فيها عضباء ولا عقصاء ولا جلحاء، تطؤه بأظلفها، وتنطحه بقرونها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، كلما مر عليه أولها كر عليه آخرها حتى يقضي الله بين الناس، فيرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار)) .

(1) الأموال. ج: 2. ص: 788.

ص: 1194

وقال البخاري في صحيحه (1) :

"حدثنا الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، أن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج حدثه، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تأتي الإبل على صاحبها على خير ما كانت إذا هو لم يعط فيها حقها، تطؤه بأخفافها، وتأتي الغنم على صاحبها على خير ما كانت إذا لم يعط فيها حقها، تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها، قال: ومن حقها أن تحلب على الماء، قال: ولا يأتي أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته لها يعار، فيقول: يا محمد، فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد بلغت، ولا يأتي ببعير يحمله على رقبته له رغاء، فيقول: يا محمد، فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد بلغت)) .

وقال أبو داود (2) :

حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه إلا جعله الله يوم القيامة يحمى عليه في نار جهنم، فيكوى بها جبهته وجبينه وظهره، حتى يقضي الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، إما إلى النار، وما من صاحب غنم لا يؤدي حقها إلا جاءت يوم القيامة أوفر ما كانت، فيبطح لها في قرقر، فتنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء، كلما مضت أخراها ردت عليه أولاها، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي حقها، إلا جاءت يوم القيامة أوفر ما كانت، فيبطح لها بقاع قرقر، تطؤه بأخفافها، كلما مضت عليه أخراها ردت عليه أولاها، حتى يحكم الله تعالى بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار)) .

وحدثنا جعفر بن مسافر، حدثنا ابن أبي فديك، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. قال في قصة الإبل بعد قوله: لا يؤدي حقها، قال: ومن حقها حلبها يوم ورودها.

حدثنا الحسن بن علي، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا شعبة، عن قتادة، عن أبي عمر الغداني، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو هذه القصة، فقال له - يعني لأبي هريرة -: فما حق الإبل؟ قال: تعطي الكريمة، وتمنح الغزيرة، وتفقر الظهر، وتطرق الفحل، وتسقي اللبن.

(1) ج:2. ص:110.

(2)

السنن. ج: 2. ص: 124 و125. ح: 1658 إلى 1660.

ص: 1195

وقال النسائي (1) :

"أخبرنا إسماعيل بن مسعود، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة، قال: حدثنا قتادة، عن أبي عمرو الغداني، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أيما رجل كانت له إبل، لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها، قالوا: يا رسول الله، ما نجدتها ورسلها؟ قال: في عسرها ويسرها، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأسمنه وأشره، يبطح لها بقاع قرقر، فتطؤه بأخفافها، إذا جاءت أخراها أعيدت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس، فيرى سبيله، وأيما رجل كانت له بقر لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها، فإنها تأتي يوم القيامة أغذ ما كانت وأسمنه وأشره، يبطح لها بقاع قرقر، فتنطحه كل ذات قرن بقرنها، وتطؤه كل ذات ظلف بظلفها، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس، فيرى سبيله، وأيما رجل كانت له غنم لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكثره وأسمنه وأشره، ثم يبطح لها بقاع قرقر، فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها، وتنطحه كل ذات قرن بقرنها، ليس فيها عقصاء ولا عضباء، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله)) .

قال ابن ماجه (2) : حدثنا أبو مروان محمد بن عثمان العثماني، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((تأتي الإبل التي لم تعط الحق منها، فتطأ صاحبها بأخفافها، وتأتي البقر والغنم تطأ صاحبها بأظلافها وتنطحه بقرونها، ويأتي الكنز شجاعًا أقرع، فيلقى صاحبه يوم القيامة، فيفر منه صاحبه مرتين، ثم يستقبله، فيفر، فيقول: ما لي ولك. فيقول: أنا كنزك، أنا كنزك، فيتقيه بيده، فيلقمها)) .

(1) السنن. ج: 5. ص:12.

(2)

السنن. ج:1. ص: 569. ح: 1786.

ص: 1196

وقال الحاكم (1) :

"حدثنا علي بن حماد العدل، حدثنا أبو المثنى العنبري، حدثنا علي بن عبد الله المديني، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن يحيى بن أبي كثير، حدثني عامر بن شعيب العقيلي (2) ، أن أباه أخبره، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة، وأول ثلاثة يدخلون النار، فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة: فالشهيد، وعبد مملوك أحسن عبادة ربه ونصح لسيده، وعفيف متعفف ذو عيال، وأما أول ثلاثة يدخلون النار: فأمير مسلط، وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله في ماله، وفقير فجور)) .

وتعقبه بقوله: عامر بن شعيب العقيلي شيخ من أهل المدينة مستقيم الحديث، وهذا أصل في هذا الباب، تفرد به يحيى بن أبي كثير، ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي في التلخيص.

وقال البيهقي (3) :

"أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، أنبأ عبد الله بن جعفر، حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن عامر العقيلي، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة، وأول ثلاثة يدخلون النار؛ فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة: فالشهيد، وعبد أدى حق الله ونصح لسيده، وفقير متعفف ذو عيال. وأما أول ثلاثة يدخلون النار: فسلطان متسلط، وذو ثروة من المال لم يعط حق ماله، وفقير فجور)) .

ويشهد لكلمة "حق" فيما روي عن كل من أبي ذر وأبي هريرة ما رواه كل من أحمد وأبي عبيد والدارمي عن جابر من طريق كل من أبي الزبير وطاوس.

(1) المستدرك ج: 1. ص: 387.

(2)

قال الذهبي في (الميزان. ج: 2. ص: 359) : عامر بن شعيب، عن سفيان بن عيينة، قال أبو عبد الله الحاكم: له موضوعات.

(3)

السنن. ج: 4. ص: 82.

ص: 1197

قال أحمد (1) :

"حدثنا محمد بن بكر وعبد الرزاق، قالا: حدثنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من صاحب إبل لا يفعل فيها حقها - ثم ذكر نحو حديث أبي هريرة في الابل والبقر والغنم - ثم قال: ولا صاحب كنز لا يفعل فيه حقه إلا جاء كنزه يوم القيامة شجاعًا أقرع يتبعه، فاغرًا فاه، فإذا رآه فر منه، فيناديه ربه: خذ كنزك الذي خبأته، فأنا عنه أغنى منك، فإذا رأى أنه لا بد له منه، سلك يده في فيه فقضمها قضم الفحل))

قال أبو الزبير: وسمعت عبيد بن عمير، قال: يارسول الله. قال عبد الرزاق في حديثه: قال رجل: يا رسول الله ما حق الإبل؟ قال: حلبها على الماء، وإعارة دلوها، وإعارة فحلها ومنيحتها، وحمل عليها في سبيل الله. قال عبد الرزاق فيها كلها: وقعد لها. وقال عبد الرزاق فيه: قال أبو الزبير: سمعت عبيد بن عمير يقول هذا القول. ثم سأل جابر الأنصاري عن ذلك، فقال مثل قول عبيد بن عمير.

وقال أبو عبيد (2) :

"حدثنا الحجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من صاحب إبل لا يفعل فيها حقها، إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت قط، وقعد لها بقاع قرقر، تستن عليه بقوائمها وأخفافها، ولا صاحب بقر لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت، وقعد لها بقاع قرقر، تنطحه بقرونها وتطؤه بقوائمها، ولا صاحب غنم لا يفعل فيها حقها، إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت، وقعد لها بقاع قرقر، تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، ليس فيها جماء ولا منكسر جناحها، ولا صاحب كنز لا يفعل فيه حقه، إلا جاء كنزه يوم القيامة شجاعًا أقرع، يتبعه فاتحًا فاه، فإذا أتاه فر منه، فيناديه ربه: خذ كنزك الذي خبأته فأنا عنه أغنى منك، فإذا رأى أنه لا بد منه، سلك يده في فيه، فيقضمه قضم الفحل)) .

وحدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه أنه ذكر هذا الحديث أو نحوه، قال: فقيل له: ما حقها؟ قال: فذكر أربعًا، قال ابن طاوس: لا أعرف بأيهن بدأ، قال: تحلب على العطن، وتحمل على راحلتها، وتنحر سمينها، وتمنح

لقوحها.

وحدثنا عمر بن طارق، عن عبد الله بن لهيعة، عن خالد بن يزيد قال: سئل عطاء بن أبي رباح عن مثل ذلك، فحدث عن أبي هريرة أنه قال: نعم المال ثلاثون، تمنح منيحتها، وتنحر سمينها، ويحمل على نجيبتها.

وقال الدارمي (3) : "أخبرنا سهل بن عبيد، حدثنا عبد الملك، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها، إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر، تطؤه ذات ظلف بظلفها، وتنطحه ذات القرن بقرنها، ليس فيها يومئذ جماء ولا مكسورة القرن، قالوا: يا رسول الله، وما حقها؟ قال: إطراق فحلها، وإعارة دلوها، ومنحتها وحلبها على الماء، ويحمل عليها في سبيل الله.))

(1) الساعاتي الفتح الرباني. ج: 8. ص: 198.

(2)

الأموال. ص: 493. ص: 922.

(3)

السنن. ج: 1. ص: 379 و380.

ص: 1198

حدثنا بشر بن الحكم، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابرا يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من صاحب إبل لا يفعل فيها حقها، إلا جاء يوم القيامة أكثر ما كانت قط، وأقعد لها بقاع قرقر، استنوا عليه بقوائمها وأخفافها، ولا صاحب بقر لا يفعل فيها حقها، إلا جاء يوم القيامة أكثر ما كانت، وأقعد لها بقاع قرقر، تنطحه بقرونها، وتطؤه بقوائمها، ولا صاحب غنم لا يفعل فيها حقها، إلا جاء يوم القيامة أكثر ما كانت، أقعد لها بقاع قرقر، تنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، ليس فيه جماء ولا مكسور قرنها، ولا صاحب كنز ولا يفعل فيه حقه، إلا جاء كنزه يوم القيامة شجاعا أقرع، يتبعه فاتحًا فاه، فإذا أتاه فر منه، فيناديه: خذ كنزك الذي خبأته. قال: فأنا عنه غني، فإذا رأى أنه لا بد منه، سلك يده في فمه، فيقضمها قضم الفحل)) .

قال: وقال أبو الزبير: سمعت عبيد بن عمير يقول هذا القول، ثم سألنا جابر بن عبد الله فقال مثل قول عبيد بن عمير، قال: قال رجل: يا رسول الله، ما حق الإبل؟ قال: حلبها على الماء، وإعارة دلوها، وإعارة فحلها

ومنحتها، وحمل عليها في سبيل الله.

وكذلك اختلفت روايتهم عن ابن مسعود.

فروي النسائي (1) :

"أخبرنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا ابن عيينة، عن جامع بن أبي راشد، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من رجل له مال، لا يؤدي حق ماله إلا جعل له طوقا في عنقه شجاع أقرع، وهو يفر منه، وهو يتبعه، ثم قرأ مصداقه من كتاب الله عز وجل {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ))

وقال ابن ماجه (2) : حدثنا محمد بن أبي عمر المدني، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن أعين وجامع بن أبي راشد، سمعنا شقيق بن سلمة يخبر، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله، إلا مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع حتى يطوق عنقه، ثم يقرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله تعالى {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية ")) .

(1) السنن. ج: 5. ص: 11.

(2)

ج: 1. ص: 568 و569. ح: 1784

ص: 1199

وقال البيهقي (1) : "أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن وأبو زكريا بن أبي إسحاق وغيرهما، قالوا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأ الربيع بن سليمان، أنبأ الشافعي، أنبأ سفيان بن عيينة، سمع جامع بن أبي راشد وعبد الملك بن أعين، سمعا أبا وائل يخبر، عن عبد الله بن مسعود يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله، إلا مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع، يفر منه، وهو يتبعه حتى يطوقه في عنقه، ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} )) (2) .

كما يشهد لروايات (حق) بدلًا من (زكاة) - ولكن بالدلالة لا باللفظ - ما رواه كل من أحمد، عن بهز بن حكيم، وأبي عبيد، عن عطاء وأبي داود، عن واسع بن حبان، وعن عبيد بن عمير.

قال أحمد (3) :

"حدثنا يزيد، أخبرنا بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يأتي رجل مولاه، فيسأله من فضل هو عنده فيمنعه، إلا دعي له يوم القيامة شجاعًا يتلمظ فضله الذي منعه)) .

وفي رواية: ((ما من مولى يأتي مولى له، فيسأله من فضل عنده فيمنعه، إلا جعله الله تعالى عليه شجاعًا ينهسه قبل القضاء)) .

وقال أبو عبيد (4) :

"حدثنا عمرو بن طارق، عن عبد الله بن لهيعة، عن خالد بن يزيد، قال: سئل عطاء بن أبي رباح عن مثل ذلك - أي: عن حق الله في الإبل - فحدث عن أبي هريرة أنه قال: نعم المال الثلاثون، تمنح منيحتها، وتنحر سمينتها، ويحمل على نجيبتها".

وقال أبو داود (5) :

"حدثنا يحيى بن خلف، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج قال: قال أبو الزبير: سمعت عبيد بن عمير قال: قال رجل: يارسول الله، ما حق الابل؟ فذكر نحوه - أي: نحو ما ورد في حديث تقدم لأبي داود من طريق أبي صالح السمان - زاد: وإعارة دلوها.

(1) السنن. ج:4. ص: 81.

(2)

الآية رقم: (180) سورة آل عمران.

(3)

الساعاتي الفتح الرباني. ج: 8. ص: 201.

(4)

الأموال. ص: 495.

(5)

السنن. ج: 2. ص: 125. ح: 1661و 1662 و1663.

ص: 1200

وحدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني، حدثني محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، عن جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من كل جاد عشرة أوسق من التمر بقنو يعلق في المسجد للمساكين.

وحدثنا محمد بن عبد الله الخزاعي وموسى بن إسماعيل، قالا: حدثنا أبو الأشهب، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال:((بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، إذ جاء رجل على ناقة له، فجعل يصرفها يمينًا وشمالًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان له فضل ظهر، فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل زاد، فليعد به على من لا زاد له. حتى ظننا أنه لا حق لأحد منا في الفضل)) .

قلت: من الصعب المراجحة بشكل يطمئن إليه القلب بين أسانيد هذه الأحاديث المختلفة، فحديث المعرور بن سويد أخرجه كل من مسلم وابن زنجويه وأحمد والنسائي والبيهقي عن طريق الأعمش عن أبي الزبير، وفيه كلمة (زكاة) بدل كلمة (حق) . ونظرا لتعدد الأسانيد، فلا نجد مدعاة لاعتباره ما تكلم به في بعض من الرواة عن الأعمش أو من بعدهم، كذلك حديث أبي هريرة الذي وردت فيه كلمة (زكاة) بدلًا من كلمة (حق) ، رواه مالك، عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح السمان موقوفا، ووصله ابن عبد البر، كما وصله أحمد عن طريق عبد الرحمن ابنه، وفيه بعض الكلام قال ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج:6. ص: 206 وما بعدها ترجمة: 419) بعد أن ترجم له وذكر بعضًا ممن روى عنهم وممن رووا عنه، قال الدوري عن ابن معين: في حديثه عندي ضعف، وقد حدث عنه يحيى القطان، وحسبه أن يحدث عنه يحيى، وقال عمرو بن علي: لم أسمع عبد الرحمن يحدث عنه بشيء قط، وقال أبو حاتم: فيه لين، يكتب حديثه، ولا يحتج به. وقال ابن عدي: وبعض ما يرويه منك لا يتابع عليه، وهو في جملة من يكتب حديثه من الضعفاء. ثم قال ابن حجر: وقال السلامي عن الدارقطني: خالف فيه البخاري الناس، وليس بمتروك. وقال الحاكم عن الدار قطنى: إنما حدث بأحاديث يسيرة. وقال أبو القاسم البغوي: هو صالح الحديث. وقال الحربى: غيره أوثق منه. وقال ابن خلفون: سئل عنه ابن المديني، فقال: صدوق. قلت: لكن رغم ذلك رمز له ابن حجر بأنه روى عنه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي، وطبعًا نقل ذلك ابن حجر عن أستاذه المزي، فإن يكن هؤلاء يروون جميعًا عن الضعفاء فإلى من نسند التوثيق؟!

ص: 1201

ورواه كل من أحمد وأبي عبيد وابن زنجويه والبيهقي عن أبي صالح من طريق ابنه سهيل، وفيه كلام قال ابن حجر (تهذيب التهذيب: ج: 4. ص: 263. ترجمة: 453) ورمز بأنه روى عنه الجماعة: سهيل بن أبي صالح، واسمه ذكوان السمان أبو يزيد المدني، روى عن أبيه وسعيد بن المسيب والحارث بن مخلد الأنصاري وأبي الحباب وسعيد بن يسار وعبد الله بن دينار وعطاء بن يزيد الليثي والنعمان بن عياش والأعمش وربيعة وآخرين ذكرهم عنه، وربيعة والأعمش ويحيى بن سعيد الأنصاري ومالك وشعبة والفزاري وابن جريج والسفيانين وجماعة ذكر منهم طائفة.

ثم قال ابن عيينة: كنا نعد سهيلًا لينا في الحديث، وقال حرب عن أحمد: ما يصلح حديثه. وقال أبو طالب عن أحمد: قال يحيى بن سعيد ومحمد - يعنى ابن عمرو -: أحب إلينا، وما صنع شيئًا، سهيل أثبت عندهم. وقال الدوري عن ابن معين: سهيل ابن أبي صالح والعلاء بن عبد الرحمن حديثهما قريب من السواء، وليس حديثهما بحجة. وقال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: سهيل أشبه وأشهر - يعني من العلاء - وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وهو أحب إلي من العلاء. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عدي: لسهيل نسخ، وقد روى عنه الأئمة وحدث عن أبيه وعن جماعة عن أبيه، وهذا يدل عل تمييزه كونه ميز ما سمع من أبيه وما سمع من غير أبيه، وهو عندي ثبت لا بأس به مقبول الأخبار، وروى له البخاري مقرونًا بغيره. قال ابن حجر: وعاب ذلك عليه النسائي، فقال السلمي: سألت الدارقطنى: لم ترك البخاري حديث سهيل في كتاب الصحيح؟ فقال: لا أعرف له فيه عذر، فقد كان النسائي إذا مر بحديث سهيل قال: سهيل والله خير من أبي اليمان ويحيى بن بكير وغيرهما، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ، مات في ولاية أبي جعفر، وكذا أرخه ابن سعد، وقال: كان سهيل ثقة كثير الحديث، وأرخه ابن قانع سنة ثمان وثلاثين - أي: بعد المائة - وذكر البخاري في تاريخه، قال: كان لسهيل أخ، فمات، فوجد عليه، فنسي كثيرًا من الحديث، وذكر ابن أبي خيثمة في حديثه عن يحيى قال: لم يزل أهل الحديث يتقون حديثه، وذكر العقيلي عن يحيى أنه قال: هو صويلح، وفيه لين. وقال الحاكم في باب من عيب على مسلم إخراج حديثه: سهيل أحد أركان الحديث، وقد أكثر مسلم الرواية عنه في الأصول والشواهد، إلا أن غالبها في الشواهد، وقد روى عنه مالك، وهو الحكم في شيوخ أهل المدينة الناقد لهم، ثم قيل في حديثه بالعراق: إنه نسي الكثير منه، وساء حفظه في آخر عمره، فذهب بعض حديثه. انتهى مع بعض التلخيص. .

ص: 1202

أما حديث أبي هريرة الذي وردت فيه كلمة (زكاة) ، فقد رواه كل من أحمد وأبي داود عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه. على حين رواه كل من أحمد والنسائي عن طريق أبي عمر الغداني.

ورواه أبو داود أيضًا عن طريق زيد بن أسلم، عن أبي صالح. ورواه البخاري عن طريق الأعرج. ورواه ابن ماجه عن طريق العلاء بن عبد الرحمن قال ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج:8. ص: 186. ترجمة: 335) ورمز بأنه روى عنه مسلم والأربعة: العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي أبو شبل المدني مولى الحرقة - بضم المهملة وفتح الراء - من جهينة يروي عن أبيه وابن عمر وأنس وأبي السائب مولى بن هشام بن زهرة وآخرين، ذكر بعضًا منهم، وعنه ابن شبيل وابن جريج ومالك وشعبة والسفيانان وآخرون ذكر بعضًا منهم. ثم قال: قال أبو عبد الله، عن أحمد، عن أبيه: ثقة، لم أسمع أحدًا ذكره بسوء، وفضله عن سهيل وعن محمد بن عمرو، وقال الدوري عن ابن معين: وليس حديثه بحجة، وهو وسهيل قريب من السواء. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ليس بذاك، لم يزل الناس يتوقون حديثه، وقال أبو زرعة: ليس هو بالقوي، وقال أبو حاتم: صالح، روى عنه الثقات، ولكنه أنكر من حديثه أشياء. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عدي: وللعلاء نسخ يرويها عنه الثقات، وما أرى به بأسًا. وذكره ابن حبان في الثقات، وتوفي في أول خلافة أبي جعفر، ونقل ابن حجر عن أبي داود قوله: سهيل أعلى عندنا من العلاء، أنكروا على العلاء صيام شعبان، يعنى حديث: إذا انتصف شعبان فلا تصوموا. وقال عثمان الدارمي: سألت ابن معين عن العلاء وابنه كيف حديثهما؟ قال: ليس به بأس. قلت: هو أحب إليك أو سعيد المقبري؟ قال: سعيد أوثق، والعلاء ضعيف، يعني بالنسبة إليه. يعنى لما قال: أوثق. خشي أنه يظن أنه يشاركه في هذه الصفة، وقال: إنه ضعيف. وقال البخاري: قال علي: أراه مات سنة ثلاث وثلاثين، وقال ابن الأثير: مات سنة تسع وثلاثين، وقال الخليلي: مدني مختلف فيه؛ لأنه ينفرد بالحديث. وقال الترمذي: هو ثقة عند أهل الحديث. الرقي، ورواه الحاكم والبيهقي عن طريق عامر بن شعيب العقيلي، عن أبيه.

ص: 1203

وروى حديث جابر، ووردت فيه كلمة (حق) بدلًا من كلمة (زكاة) كل من أحمد وأبي عبيد وابن عبد البر عن طريق أبي الزبير، ورواه أبو عبيد أيضًا عن ابن طاوس عنه، وعن عبد الملك بن سليمان عنه، كذلك رواه الدارمي عنه من طريق عبد الملك. وروى النسائي حديث ابن مسعود وفيه كلمة (حق) بدلًا من كلمة (زكاة) عن طريق أبي وائل، على حين رواه كل من ابن ماجه والبيهقي عن طريق وائل أيضًا

، ولكن جاءت فيه كلمة (زكاة) بدلًا من كلمة (حق)، فالمعنى: هذا الاختلاف في رواياتهم، لاجتلاء ذلك نقرر أولًا حقيقة لا مناص من الانطلاق من تقريرها، وهي أن بعض هذه الروايات كانت بالمعنى، وبعضها باللفظ، ولا سبيل إلى الجزم أيها كانت باللفظ، إنما السبيل الوحيدة التي يمكن الاطمئنان إليها هي الجمع بين الروايتين باعتبار أننا لا نستطيع ترجيح الواحدة عن الأخرى، وإن يكن مجموع أسانيد الروايات بكلمة (حق) - لا سيما إذا أضيفت الروايات عن أبي ذر - ترجح تلك التي وردت فيها كلمة (زكاة) بدلًا من كلمة (حق) رجحانًا لا يمكن اعتماده علميًا لاعتبار أنها أصح، وأنها الأولى، بأن تكون الرواية اللفظية.

والجمع بينهما إنما يتأتى من التأكد من المعنى المقصود من كلمة (زكاة) عند من وردت في روايته، ويظهر أن أغلب من أثر عنهم تفسير قوله تعالى:{وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} (1) وقوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (2) وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} (3) اعتمدوا اعتبار كلمة " زكاة" مرادفة لكلمة " الزكاة، بـ (أل) التعريفية والتي استعملها الشارع للحق المعين زمانه ونصابه ومصادره والمطلق عليه. هذا اللفظ المعرف بأل والمقرون بالصلاة في معظم ما ورد ذكره في القرآن الكريم والذي هو الركن الثالث من أركان الاسلام الخمس. ولذلك جاء ما أثر عنهم من التأويل والتفسير والاستنباط متأرجحًا بين دعوى نسخ بعض هذه الآيات بآيات الزكاة، وبين القول بأنها جميعًا تؤكد آيات الزكاة وتنذر مانعي الزكاة بما أعد لهم يوم القيامة من نكال، وقل في المفسرين وشراح الحديث من فرق بين هذه الآيات وآيات الزكاة دون أن يعتبر هذه الآيات منسوخة بآيات الزكاة.

(1) الآية رقم (177) سورة البقرة.

(2)

الآية رقم (180) سورة آل عمران.

(3)

الآية رقم (34) سورة التوبة.

ص: 1204

ولم أقف على من فكر منهم في أن يفصل بين دلالة لفظ (زكاة) غير معرف بأل ودلالته معرفًا بها، على حين أن التفرقة بين الدلالتين هي مكمن السر والمناط، لذلك لم نجد مناصًا من العودة إلى أصل كلمة (زكا) .

قال ابن الأثير (1) :"زكا " قد تكرر في الحديث ذكر الزكاة والتزكية، وأصل الزكاة في اللغة: الطهارة والنماء والبركة والمدح، وكل ذلك قد استعمل في القرآن والحديث، وزنها فعلة، كالصدقة، فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها، قلبت ألفًا وهي من الأسماء المشتركة بين المخرج والفعل، وتطلق على العين، وهي الطائفة من المال المزكى بها، وعلى المعنى وهو التزكية. ومن جانب هذا البيان أتى من ظلم نفسه بالطعن على قوله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} (2) ذاهبًا إلى العين، وإنما المراد المعنى الذي هو التزكية، فالزكاة طهرة للأموال، وزكاة الفطر طهرة للأبدان، وفي حديث زينب:"كان اسمها برة، فغيره وقال: تزكي نفسها ". زكى الرجل نفسه إذا وصفها وأثنى عليها، وفي حديث الباقر أنه قال:"زكاة الأرض يبسها ". يعني طهارتها من النجاسة، كالبول وأشباهه بأن يجف ويذهب أثره. وفي حديث معاوية أنه قدم المدينة بمال، فسأل عن الحسن بن علي، فقيل: إنه بمكة، فأزكى المال ومضى، فلحق الحسن، فقال: قدمت بمال، فلما بلغني شخوصك أزكيته، وها هو ذا، كأنه يريد أوعيته مما تقدم، هكذا فسره أبو موسى ".

وقال ابن منظور (3) :

" (زكا) الزكاء ممدود النماء والربح، زكا يزكو زكاة وزكوا. وفي حديث علي كرم الله وجهه قال: المال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق، فاستعار له الزكاء، وإن لم يك ذا جرم، وقد زكاه الله وأزكاه والزكاء: ما أخرجه الله من الثمر، وأرض زكية: طيبة سمينة، حكاه أبو حنيفة - يعني الدينوري في زكا، والزرع يزكو زكاء ممدود؛ أي: نما، وأزكاه الله، وكل شيء يزداد وينمى فهو يزكو زكاء، وتقول: هذ الأمر لا يزكو بفلان زكاء، أي: لا يليق به وأنشد:

والمال يزكو بك مستكثرًا يختال قد أشرق للناظر

(1) النهاية. ج: 2. ص: 307 وما بعدها.

(2)

الآية رقم: (4) سورة المؤمنون.

(3)

لسان العرب. ج: 14. ص: 358.

ص: 1205

ابن الأنباري: في قوله تعالى: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً} (1) ومعناه: وفعلنا ذلك رحمة لأبويه وتزكية له، قال الأزهري: أقام الاسم مقام المصدر الحقيقي، والزكاة: الصلاح. ورجل نقي زكي؛ أي: زاك من قوم أتقياء أزكياء، وقد زكا زكاء وزكوا وزَكِي وتزكى، وزكاه الله، وزكى نفسه تزكية: مدحها.

ثم قال: والزكاة زكاة المال معروفة، وهو تطهيره، والفعل زكى يزكي تزكية، إذا أذى عن ماله زكاته.

غيره - أي: غير ابن الأنباري -: الزكاة ما أخرجته من مالك لتطهره به، وقد زكى المال، وقوله تعالى {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (2) قالوا: تطهرهم بها. قال أبو علي: الزكاة صفوة الشيء، وزكاه إذا أخذ زكاته، وتزكى، أي: تصدق. وفي التنزيل العزيز: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} (3) قال بعضهم: الذين هم للزكاة مؤدون. وقال آخرون: الذين هم للعمل الصالح فاعلون. وقال تعالى: {خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} (4) أي: خيرًا منه عملًا صالحًا. وقال الفراء: زكاة صلاحا، وكذلك قوله عز وجل:{وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً} (5) قال: صلاحا، أبو زيد النحوي في قوله عز وجل:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} (6) .

وقوله: {مَا زَكَا مِنْكُمْ} فمن قرأ ما زكا فمعناه: ما صلح منكم، ومن قرأ: ما زكى، فمعناه: ما أصلح، ولكن الله يزكي من يشاء، أي: يصلح، وقيل لما يخرج من المال للمساكين من حقوقهم: زكاة؛ لأنه تطهير للمال وتثمير وإصلاح ونماء كل ذلك قيل ".

إذا وضح في الأذهان المعنى اللغوي لكلمة (زكاة) بل والمعنى الذي فهم من المعنى الحديثي لها في أكثر من مساق، يحسن أن نتدبر أن كلمة "الزكاة" وردت في القرآن الكريم معرفة بـ (أل) التعريف تسعًا وعشرين مرة، منها سبع مرات في آيات تعرض إما لبني إسرائيل، وإما لبعض الأنبياء، واثنتان وعشرون مرة خاصة بالمسلمين، وأغلبها مدنية، ويبلغ مجموع ما ورد في القرآن من كلمة (زكا) ومشتقاتها تسعًا وخمسين مرة، منها ثلاثون مرة لا تختص بالزكاة المفروضة (الركن الثالث من أركان الدين) وإن شملها بعضها مع غيرها، مما تدل عليه كلمة (زكا) بمعنى النماء أو الطهر أو البركة أو غيرها مما سبق أن نقلناه عن اللغويين.

(1) الآية رقم: (13) سورة مريم.

(2)

الآية رقم: (103) سورة التوبة.

(3)

الآية رقم (9) سورة المؤمنون.

(4)

الآية رقم: (81) سورة الكهف.

(5)

الآية رقم (13) سورة مريم.

(6)

الآية رقم: (21) سورة النور.

ص: 1206

وينبغي أن يلاحظ أن كلمة (زكاة) بدون (أل) أي: نكرة، وردت في القرآن الكريم ثلاث مرات، مرة واحدة تتعلق بالمسلمين، وهي قوله تعالى:{وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}

(1)

ومرتين تتصلان بغير المسلمين: إحداهما في قصة ذي القرنين، وهي قوله تعالى على لسانه:{فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} (2) . والثانية تتصل بنبي الله يحيى عليه السلام، وهي قوله سبحانه وتعالى في وصفه:{وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا} (3) ، وفي جميعها لا مجال لدعوى أن كلمة (زكاة) تشتمل دلالتها على (الزكاة) بمعنى الركن الثالث من أركان الدين. وإنما دلالتها تتراوح بين البركة والطهر والنماء، وهذا ينفي نفيًا حاسما أن تكون كلمة (زكاة) بدون أداة التعريف (أل) قد استعملها الشارع حقيقة شرعية في الركن الثالث من أركان الدين. أما إذا كانت معرفة بأل، فيمكن الدعوى بأن الشارع استعملها حقيقة شرعية فيه، وهذا يعني أنها إذا وردت غير معرفة بأل، سواء كانت (نكرة) أو (معرفة) عرفتها الإضافة، كما هو الشأن في الروايات التي ذكرت (زكاة ماله) بدلا من (حقه) ، أو ما شاكل ذلك في الأحاديث المروية عن أبي ذر وأبي هريرة وغيرهما، والتي سبق أن نقلناها، فلا سبيل إلى القول بأنها تعني الزكاة المفروضة إلا بدليل، وهذا الدليل الذي يعينها بأنها الزكاة المفروضة لا وجود له في تلك الروايات لفظا أو مفهوما أو سياقا، وعلى من زعم وجوده البرهان، بل إن كلمة الزكاة - معرفة بأل - نفسها، يرى بعض المفسرين أنها ليست "حقيقة شرعية " أطلقها الشارع الحكيم جل جلاله على الركن الثالث من أركان الدين، فقد وردت في القرآن الكريم في رأيهم معبرة عن غير هذا الركن أو بالأحرى معبرة عن أحد معانيها اللغوية التي تشرك في التعبير عنها، ومن مجموعها جاء إطلاقها على الركن الثالث من أركان الدين ومن هؤلاء المفسرين الراغب الأصبهاني، ويحسن أن ننقل مجموع ما قاله في كلمة (زكا) ومشتقاتها، فذلك أجلى لرأيه ومنطلقه في تأويله قال (4) :(زكا) أصل الزكاة النمو الحاصل من تزكية الله تعالى، ويعتبر ذلك بالأمور الدنيوية والأخروية. يقال: زكا الزرع يزكو إذا حصل منه نمو وبركة، وقوله تعالى:{أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} (5) إشارة إلى ما يكون حلالًا لا يستوخم عقباه، ومنه الزكاة لما يخرج الإنسان من حق الله تعالى إلى الفقراء وتسميته بذلك لما يكون فيها من رجاء البركة أو تزكية النفس، أي: تنميتها بالخيرات والبركات أو هما جميعًا، فإن الخيرين موجودان فيها. وقرن الله تعالى الزكاة بالصلاة في القرآن الكريم لقوله:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} (6)

(1) الآية: (39) سورة الروم.

(2)

الآية: (81) سورة الكهف.

(3)

الآية رقم (13) سورة مريم.

(4)

المفردات في غريب القرآن. ص: 312 و313.

(5)

الآية: (19) سورة الكهف.

(6)

الآيات: (43) و (83) و (110) سورة البقرة والآية: (56) سورة النور.

ص: 1207

وبزكاء النفس وطهارتها يصير الإنسان بحيث يستحق في الدنيا الأوصاف المحمودة، وفي الآخرة الأجر والمثوبة، وهو أن يتحرى الإنسان ما فيه تطهيره، وذلك ينسب تارة إلى العبد لكونه مكتسبًا لذلك نحو قوله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} (1)، وتارة ينسب إلى الله تعالى لكونه فاعلًا لذلك في الحقيقة نحو قوله تعالى:{بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} (2) ، وتارة إلى النبي لكونه واسطة في وصول ذلك إليهم، نحو قوله:{تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (3)، وقوله:{يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ} (4) ، وتارة إلى العبادات التي هي آلة في ذلك، نحو قوله:{وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً} (5)، وقوله:{لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} (6) أي: مزكى بالخلقة، وذلك عن طريق ما ذكرنا من الاجتباء، وهو أن يجعل بعض عباده عالمًا وطاهر الخلق، لا بالتعلم والممارسة، بل بتوفيق إلهي كما يكون لجل الأنبياء والمرسلين، ويجوز أن يكون تسميته بالزكي لما يكون عليه في الاستقبال، لا في الحال، والمعنى: سيتزكى. {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ}

(7)

أي: يفعلون ما يفعلون من العبادة ليزكيهم الله، أو ليزكوا أنفسهم، والمعنيان واحد، وليس قوله:"للزكاة" مفعولًا لقوله: "فاعلون "، بل اللام فيه للعلة والقصد. وتزكية الإنسان نفسه ضربان؛ أحدهما بالفعل، وهو محمود، وإليه قصد بقوله:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} (8)، وقوله:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} (9) .

والثاني بالقول: كتزكية العدل غيره، وذلك مذموم أن يفعل الإنسان بنفسه، وقد نهى الله تعالى عنه فقال:{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (10) ، ونهيه عن ذلك تأديب لقبح مدح الإنسان نفسه عقلًا وشرعًا، ولهذا قيل لحكيم: ما الذي لا يحسن وإن كان حقًا؟ قال: مدح الرجل نفسه ".

(1) الآية: (9) سورة الشمس.

(2)

الآية: (49) سورة النساء.

(3)

الآية رقم. (103) سورة التوبة.

(4)

الآية: (151) سورة البقرة.

(5)

الآية رقم (13) سورة مريم.

(6)

الآية: (19) سورة مريم.

(7)

الآية رقم (9) سورة المؤمنون.

(8)

الآية رقم (9) سورة الشمس.

(9)

الآية: (17) سورة الأعلى

(10)

الآية: (32) سورة النجم.

ص: 1208

ونحسب أن الراغب بقوله هذا، جمع فأوعى، وشرح فأغنى، إذ أوضح طبيعة العلاقة بين إطلاق الزكاة على الركن الثالث من أركان الدين واستعمال هذا اللفظ نفسه معرفًا أو غير معرف أو ما اشتق منه في غير ما يتصل مباشرة بذلك الركن، إذ أنه في جميع استعمالاته يدور حول معانيه المختلفة التي يدل عنها بطريق الاشتراك، وهي النماء والطهر المعنويان والحسيان، ثم المدح المذموم منه والمحمود، وما يتفرع عنها من التنمية والمباركة والتطهير، فوضح من كل ذلك ومما تقدم من كلام اللغويين أن استعمال عبارة:" زكاة ماله " في بعض الروايات و: " حقه " وما شاكل ذلك في روايات أخرى للأحاديث المتصلة بالمال وما يجب على العبد في التصرف فيه، ليس منحصر الدلالة على ما له علاقة بالركن الثالث من أركان الدين، بل يشمله ويتجاوزه إلى غيره من التصرفات المندوب إليها، مثل الإحسان إلى ذوي الأرحام والصدقة على الفقراء والمساكين والواجبة لطارئ ظرفي، مثل نفقات الجهاد ونفقات الاستعداد له وغير ذلك مما سنوضحه في موضعه من هذا البحث.

ولعل ما أوضحناه ينهض برهانًا حاسمًا على بطلان دعوى نسخ بعض الآيات المتصلة بالكنز أو الصدقة بآيات الزكاة، وهو ما تعلق به بعض المفسرين كعادتهم، إذ يأرزون إلى دعوى النسخ، كلما تراءى لهم ما يحسبونه تعارضًا بين بعض الآيات أو بعض الأحاديث أو بين آيات وأحاديث.

كما أنه برهان حاسم على أن كلمة (زكاة) معرفة وغير معرفة ومشتقاتها، لا تنصرف في مواردها من القرآن الكريم إلى الركن الثالث من أركان الدين إلا أن تصرفها قرينة من لفظ أوسياق، وهو ما يبطل ما ذهب بعضهم إلى زعمه من أن قوله سبحانه وتعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) يراد فيها بلكمة {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وبكلمة (صدقة) ما له علاقة بالزكاة الركن الثالث من أركان الدين، وهو تأويل عجب من قائله، وأعجب منه أنهم جمهرة، وفيهم صدور في التفسير، ذلك بأن الآية من آيات سورة التوبة، وهي كما يقول محمد الطاهر بن عاشور (2) :

" آخر السور نزولًا عند الجميع نزلت بعد سورة الفتح في قول جابر بن زيد في السورة الرابعة عشرة بعد المائة في عداد نزول سور القرآن ".

ثم قال:

" والجمهور أنها نزلت دفعة واحدة، فتكون مثل سورة الأنعام من السور الطوال، وفسر كثير من المفسرين بعض آيات هذه السورة لما يقتضي أنها نزلت أوزاعًا في أوقات متباعدة ".

(1) الآية رقم (3) سورة التوبة

(2)

التحرير والتنوير، ج: 10، ص: 97 و101

ص: 1209

ثم قال:

" والذي يغلب على الظن أنه ثلاث عشرة آية من أولها إلى قوله تعالى: {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) نزلت متتابعة ".

ثم قال:

" وهذا ما اتفقت عليه الروايات، وقد قيل: إن ثلاث آيات منها أولها إلى قوله: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (2) أذن بها يوم الموسم، وقيل: أربعين آية من أولها إلى قوله: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3) أذن بها في الموسم ". ثم قال:

" فالجمع بينهما يغلب الظن بأن أربعين آية نزلت متتابعة على نزول جميع السورة دفعة واحدة، ليس ببعيد عن الصحة ".

قلت: وهذا ما نرجحه لما تدل عليه الآيات الأربعون من معان وأحكام مما يتعين إعلانه في ذلك الموسم، ومنها آية الكنز، وهي الرابعة والثلاثون، ولأن الآية الأخيرة من الأربعين تتصل بقصة الهجرة، وفيها أكبر إعجاز وتحد لمشركي مكة وتعجيز لكل أحد يمكن أنه ما يزال يفكر في مواصلة تحدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثته.

ثم قال الشيخ ابن عاشور:

" اتفقت الروايات على أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة تبوك في رمضان سنة تسع، عقد العزم على أن يحج في شهر ذي الحجة من عامه، ولكنه كره " عن اجتهاد أو بوحي من الله " مخالطة المشركين في الحج معه وسماع تلبيتهم التي تتضمن الاشتراك؛ أي: قولهم في التلبية: " لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك ". وطوافهم عراة، وكان بينه وبين المشركين عهد، لم يزل عاملًا لم ينقض. والمعنى أن مقام الرسالة يربأ من أن يسمع منكرًا من الكفر ولا يغيره بيده؛ لأن ذلك أقوى الإيمان، فأمسك عن الحج تلك السنة، وأمر أبا بكر على أن يحج بالمسلمين، وأمره أن يخبر المشركين بأن لا يحج بعد عامه ذلك مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.

(1) الآية: (13) سورة التوبة.

(2)

الآية (31) سورة التوبة.

(3)

الآية رقم (40) سورة التوبة

ص: 1210

ثم قال:

" فافتتحت السورة بتحديد مدة العهود التي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين وما يتبع ذلك من حالة حرب وأمن، وفي خلال مدة الحرب مدة تمكينهم من تلقي دعوة الدين وسماع القرآن، وأتبع بأحكام الوفاء والنكث وموالاتهم ومنع المشركين من دخول المسجد الحرام وحضور مناسك الحج وإبطال مناصب الجاهلية التي كانوا يعتزون بأنهم أهلها وإعلان حالة الحرب بين المسلمين وبينهم، وإعلان الحرب على أهل الكتاب من العرب حتى يعطوا الجزية، وأنهم ليسوا بعيدًا من أهل الشرك، وأن الجميع لا تنفعهم قوتهم ولا أموالهم وحرمة الأشهر الحرم وضبط السنة الشرعية وإبطال النسيئ الذي كان عند الجاهلية وتحريض المسلمين على المبادرة بالإجابة إلى النفير للقتال في سبيل الله ونصر النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الله ناصر نبيه وناصر الذين ينصرونه وتذكيرهم بنصر الله ورسوله يوم حنين وبنصره إذ أنجاه الله من كيد المشركين بما هيأ له من الهجرة إلى المدينة والإشارة بالتجهيز إلى غزوة تبوك وذم المنافقين والمعتذرين والمستأذنين في التخلف بلا عذر وصفات أهل النفاق من جبن وبخل وحرص على أخذ الصدقات مع أنهم ليسوا يستحقونها، وذكر أذاهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالقول وأيمانهم الكاذبة وأمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف وكذبهم في وعودهم وسخريتهم بضعفاء المؤمنين وأمرهم بضرب الجزية على أهل الكتاب ومذمة ما أدخله الأحبار والرهبان في دينهم من العقائد الباطلة ومن التكالب على الأموال، وأمر الله بجهاد الكفار والمنافقين، ونهى المؤمنين عن الاستعانة بهم في جهادهم والاستغفار لهم، ونهى نبيه صلى الله عليه وسلم من الصلاة على موتاهم، وضرب المثل بالأمم الماضية، وذكر الذين اتخذوا مسجد الضرار عن سوء نية وفضل مسجد قباء ومسجد الرسول بالمدينة، وانتقل إلى وصف حالة الأعراب من محسنهم ومسيئهم ومهاجرهم ومتخلفهم، وقوبلت صفات أهل الكفر والنفاق بأضدادها صفات المسلمين، وذكر ما أعد لهم من الخير، وذكر في خلال ذلك فضل أبي بكر وفضل المهاجرين والأنصال والتحريض على الصدقة والتوبة والعمل الصالح والجهاد، وأنهم فرض على الكفاية، والتذكير بنصر الله على المؤمنين يوم حنين على بأسهم والتنويه لغزوة تبوك وجيشها والذين تاب الله عليهم من المتخلفين عنها والامتنان على المسلمين بأن أرسل فيهم رسولًا منهم جعله على صفات فيها كل خير لهم، وشرع الزكاة ومصارفها والأمر بالتفقه في الدين ونشر دعوة الدين ".

ص: 1211

وقد نقلنا هذا الكلام على طوله – وإن حذفنا منه جملًا – ارتأينا أنها لا تتصل بموضوعنا؛ لأنه يرسم صورة دقيقة للأفق النفسي والمجال التشريعي والمدى الظرفي لهذه السورة الجليلة التي زعم البعض يغفر الله لهم أن آية أو أكثر منها نسخت بآيات نزلت قبلها. فهل هنالك أعجب من هذا الزعم؟ ! ذلك بأن الزكاة شرعت في القرآن المكي وأكد شرعها في القرآن المدني، وغاية ما ورد في شأنها وليس خاصًا بها في رأينا كما سنبينه من بعد تعيين مصارفها وبيان المستحقين لها، فلا يعقل أن يكون تشريع الزكاة ناسخًا لما جاء في آخر سورة نزلت من القرآن قبيل لحاق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، وتكاد أغراضها كلها تنحصر في تعيين وتبيان طبيعة العلاقة بين المسلمين بعضهم ببعض باعتبارهم كيانًا دوليًا ومجتمعًا متكاملًا متكافلًا وبينهم وبين غيرهم من الأمم على اختلاف مللها ونحلها ومواقعها بناء على ذلك الاعتبار.

ومن هذا المنطلق كان الشيخ ابن عاشور – رحمه الله – أكثر توفيقًا من غيره وأعمق فهمًا وأوضح بيانًا وهو يشرح قوله تعالى في هذه السورة الجليلة {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (1) الآية، فقال: " لما كان من شرط التوبة – قلت: إذ نزلت في من وصفتهم آية قبلها بأنهم {مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} (2) - تدارك ما يمكن تداركه مما فات، وكان التخلف عن الغزو مشتملًا على أمرين، هما عدم المشاركة في الجهاد، وعدم إنفاق المال في الجهاد، جاء في هذه الآية إرشاد لطريق تداركهم ما يمكن تداركه مما فات، وهو نفع المسلمين بالمال والإنفاق العظيم على غزوة تبوك استنفد المال المعد لنوائب المسلمين، فإذا أخذ من المتخلفين شيء من المال انجبر به بعض الثلم الذي حل بمال المسلمين. والتاء في (تطهرهم) تحتمل أن تكون تاء الخطاب، نظرًا لقوله:(خذ) ، وأن تكون تاء الغائبة عائدة إلى الصدقة، وأيا ما كان فالآية دالة على أن الصدقة تطهر وتزكي، والتزكية جعل الشيء زكيًا، أي: كثير الخيرات، فقوله:(تطهرهم) إشارة إلى مقام التخلية من السيئات، وقوله:(وتزكيهم) إشارة إلى مقام التحلية بالفضائل والحسنات، ولا جرم أن التخلية مقدمة على التحلية، فالمعنى أن هذه الصدقة كفارة لذنوبهم ومجلبة للثواب العظيم.

(1) الآية رقم (103) سورة التوبة

(2)

الآية رقم (106) سورة التوبة

ص: 1212

قلت: وأضيف إلى هذا أن الآية قاعدة تشريعية جليلة لأمر لست أدري كيف أغفله المفسرون والفقهاء أو غفلوا عنه؟! هي أمر ولي الأمر لمعاقبة من يقترف عملًا يترتب عنه ضرر يصيب المسلمين عامة أو بعضهم، لا سيما إذا كان متصلًا بالمال العام أو بمال لجماعة منهم بعقوبة مالية تعوض، إما تعويضًا كاملًا أو رمزيًا، ما يترتب من الضرر على الإثم الذي اقترفه، فليت شعري إن لم يكن مما تدل عليه الآية هذا التشريع، فما هو المناط منها إذن؟ قد يقال: إن الأمر بأخذ الصدقة من أموالهم لا يبلغ درجة الإيجاب، وإنما هو ندب، إذ جاء بعده {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (1) بيد أن مثل هذا القول على درجة من السذاجة كان يمكن أن تحفز إلى إغفاله، لولا أنه قد يوهم بعض المتفقهة، ذلك بأن (تعليل الأخذ من الأموال) بأنه سبب للتطهر والتزكية ينهض دليلًا على وجوبه لوجوب أن يتطهر المسلم ويتزكى، ولأن وجوب ذلك آكد لمن اقترف إثمًا تجاوز أثره، خاصة نفسه، وأصاب غيره من المؤمنين جماعة أو مجتمعًا ذا كيان. أما الصلاة التي أمر بها ولي الأمر أو هي خاصة بالرسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك المسلم التائب، فالغرض منها أن تحدث سكينة في قلبه، ولذلك جاء ذكر النتيجة المرجوة منها مسبوقًا بأن التأكيدية والفاصلة بينها وبين جملة الأمر بالصلاة، بخلاف بيان مناط الأمر بأخذ الأموال الذي جاء غير مفصول بينه وبين ذلك الأمر بأي فاصل، حتى لكأنه يشكل جملة واحدة، وإن لم يعتبره النحاة كذلك، تبيانًا لكون التطهير والتزكية هي كفاء ما يؤخذ من أموال التائب. على حين أن الصلاة هي شيء يشبه (الجائزة) فهي تنتج سكينة نفسية من شأنها أن تعيد الطمأنينة إلى قلب المؤمن، وهذه الصلاة – وهي مجرد دعاء – عمل معنوي بحت ونتيجته أيضًا معنوية بحتة على حين أن أخذ الأموال عمل مادي، وكفاؤه (الزكاة) ، شيء مشترك بين النماء والبكرة والطهارة والمدح، فهو أمشاج من ماديات ومعنويات.

ومن عجب أن يزعم عدد من المفسرين والمتفقهة أن الصدقة المأمور بأخذها في هذه الآية هي الزكاة التي هي الركن الثالث من أركان الدين، ولسنا ندري ما شأن الزكاة في هذا المجال؟!.

(1) الآية رقم (103) سورة التوبة

ص: 1213

فالذين جاء الأمر بأخذ الصدقة منهم أثموا بالتخلف عن غزوة تبوك وعدم الإنفاق عليها، ولم يأثموا بمنع الزكاة، فلماذا يكون قبول توبتهم متعلقًا بأمر لم يفعلوه ولم يأثموا فيه، ولو مضينا مع هؤلاء في قولهم، لوجب تلقائيًا أن نذهب إلى أن هؤلاء المتخلفين كأنهم أثموا أيضًا في صلاتهم، أو كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بأن يجعلهم أمامه، وأن يصلي عليهم صلاة لعلها تشبه صلاة الجنازة أو قريبًا منها، وهذا ما لم يقل به أحد، ولا يمكن أن يقول به عاقل، ولو قال به أحد لرد عليه بما ورد في الحديث الشريف من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول أحيانًا عندما يتلقى صدقة – وليس زكاة – من أحد من المسلمين:((اللهم صل على فلان))

قال عبد الرزاق (المصنف. ج: 4. ص: 58. ح 6957) : عن عبد الله بن كثير، عن شعبة قال: أخبرني عمرو بن مرة، قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى، وكان من أصحاب الشجرة، قال:((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقة، قال: اللهم صل عليهم. قال: فأتاه أبي بصدقة، فقال: اللهم صلى على أبي أوفى)) .

وذكر المزي (تحفة الأشراف. ج: 4. ص 287) أن كلا من البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه أخرجوا حديثًا بهذا المعنى، فقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم، قال: اللهم صلى على آل فلان

الحديث. ومنهم من زاد فيه: وكان أبي من أصحاب الشجرة خ في الزكاة (64)، عن حفص بن عمر. وفي المغازي (36: 18) عن آدم. وفي الدعوات (19: 2) عن مسلم بن إبراهيم. و (33: 1) سليمان بن حرب. فرقهما م في الزكاة (55: 1) عن يحيى بن يحيى وأبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم، أربعتهم عن وكيع. و (55: 1) عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه. و (50: 2) عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن عبد الله بن إدريس. د فيه (الزكاة 7) عن حفص بن عمرو وأبي الوليد. س فيه (الزكاة 13) عن عمر بن يزيد، عن بهز بن أسد. ق فيه (الزكاة 8: 1) عن علي بن محمد، عن وكيع، تسعتهم عن شعبة عنه. ومن أن بعض الرواية ذكر كلمة زكاة بدل كلمة صدقة، فإن ذلك لا يحملنا على الجزم بأن كلمة زكاة هي لفظ عبد الله بن أوفى، فاختلافهم في اللفظ برهان على أنهم أو بعضًا منهم رووه بالمعنى، وليس ما يرجح أن تكون إحدى الروايتين هي اللفظ، ثم إن كلمة زكاة ما لم تدخل عليها (أل) لا سبيل إلى الدعوى بأنها بالضرورة الزكاة المفروضة، كما أوضحنا ذلك في الأصل، وقد أخرجه هذا الحديث فضلًا عمن ذكرنا المفسرون بالمأثور مثل الطبري وأبي حاتم والسيوطي في تفسير الآية موضوع البحث فلتراجع.

ص: 1214

على أن كلمة (الصدقة) لم يقل أحد: إنها تختص بـ: (الزكاة) الركن الثالث من أركان الدين، وقد تكرر ورودها في سورة التوبة، وهي كما ذكرنا آنفًا سورة تتضمن التشريع لما يتصل بالجهاد ممارسته والاستعداد له، وهذا برهان ما بعده من برهان على أن الصدقة في هذه الآية الكريمة:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} ليست هي الزكاة.

على أن المفسرين الذين وقفنا على آثارهم – ولا نستثني أحدًا – تواضعوا على اعتبار كلمة (الصدقة) و (الصدقات) أغلب ما يكون سريانها على الزكاة، لا سيما في سورة التوبة، وقد سبق أن أوضحنا ظروفها وملابساتها التي لا سبيل إلى تجاهلها عند تفسير آياتها واجتلاء ما تتضمنه من الأحكام، ومن العجب المذهل أنهم لم يعنوا بالالتفات إلى أمر نحسبه أساسيا في صرف كلمة (الصدقة) و (الصدقات) إلى المعنى المراد منها، ذلك أنها وردت في ثلاث آيات كريمة، منها سورة التوبة جمعًا، ووردت إفرادًا في غيرها في نفس السورة وفي سور أخرى، يقول الله سبحانه وتعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} (1) ثم يقول: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (2) ويقول: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) والذي نجزم به ولا نحسبه قابلًا لأي جدل أو مراء أن استعمال صيغة الجمع لا يمكن أن يكون مرادفًا لاستعمال صيغة الإفراد، وأن كل حرف في القرآن بل وكل نقطة وشكلة له ولها حظ أساسي من تبيان وتكييف الحكم أو الدلالة على ما أريد من الكلمة أو الآية الدالة عليها.

ولا سبيل إلى دعوى أن كلمة الصدقات جاءت جمعًا للدلالة على تنوع موارد الزكاة (الإبل والغنم والثمار والورق والذهب) وما إلى ذلك، إذ إن هذه الدعوى إن أمكن الالتفات إليها في تأويله تعالى لتعيين مصارف الزكاة {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} (4) فما الذي يسوغ الالتفات إليها في تأويل قوله جل جلاله في التنديد على المنافقين وتبيان ألوان من تصرفاتهم الظاهرة والباطنة {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} (5) إذ إن الجمع في هذا المقام لا معنى له، ضرورة أن اللمز كان في توزيع الصدقة أيا كان نوعها، ولم يكن مصروفًا إلى الصدقات باختلاف أنواعها في ذاتها ومهما اختلفوا في سبب نزول هذه الآية، وإن كان في ذي الخويصرة التميمي (حرقوص بن زهير أول إمام للخورج) أو في أبي الجواظ، وكلاهما من المنافقين (6) فإنهم لن يستطيعوا أن يجزموا بأن المال الذي كان يقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لمزوا في قسمته، ففضحهم الله سبحانه وتعالى في هذه الآية، كان مال الزكاة، وآية ذلك أنه ما من أحد منهم زعم أن الصدقات في قوله سبحانه وتعالى:{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} (7) هي أيضًا الزكاة، وأن اللمز الذي قارفه المفضوحون كان في الأنصبة التي أداها من وجبت عليهم الزكاة، ذلك أولًا: لأن بقية الآية تدمغ بالبطلان مثل هذا الزعم لو حدث، إذ كان وصفًا للمتطوعين الملموزين بأنهم (لا يجدون إلا جهدهم)، وثانيًا: لأن سبب النزول الذي ذكره المفسرون لهذه الآية يدحض دحضًا حاسمًا كل ادعاء بأن الصدقات فيها يراد بها الزكاة.

(1) الآية: (58) سورة التوبة.

(2)

الآية: رقم (60) سورة التوبة.

(3)

الآية: (79) سورة التوبة.

(4)

الآية رقم (60) سورة التوبة.

(5)

الآية رقم (58) سورة التوبة

(6)

انظر مثلًا: الرازي التفسير الكبير المجلد: 8. ج: 16. ص: 99 وما بعدها. ومحمد الطاهر بن عاشور التحرير والتنوير ج: 10. ص: 231 وما بعدها.

(7)

الآية رقم (79) سورة التوبة

ص: 1215

يقول الطبري (1) :

" وذكر أن المعنى بقوله: {الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} عبد الرحمن بن عوف وعاصم بن عدي الأنصاري وأن المعنى بقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} أبو عقيل الأراشي أخو بني أنيف.

ذكر من قال ذلك

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من بذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء رجل من الأنصار بصاع من طعام، فقال بعض المنافقين: والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء. وقالوا: إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع.

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس يومًا، فنادى فيهم أن اجمعوا صدقاتكم، فجمع الناس صدقاتهم، ثم جاء رجل من أحوجهم بمن من تمر، فقال: يا رسول الله، هذا صاع من تمر، بت ليلتي أجر بالجرير الماء، حتى نلت صاعين من تمر، فأمسكت أحدهما، وأتيتك بالآخر، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره في الصدقات، فسخر منه رجال، وقالوا: والله إن الله ورسوله لغنيان عن هذا وما يصنعان بصاعك من شيء، ثم إن عبد الرحمن بن عوف رجل من قريش من بني زهرة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل بقي من أحد من أهل هذه الصدقات؟ فقال: لا. فقال عبد الرحمن بن عوف: إن عندي مائة أوقية من ذهب في الصدقات. فقال له عمر بن الخطاب: أمجنون أنت؟ فقال: ليس بي جنون. فقال: أتعلم ما قلت؟ قال: نعم مالي ثمانية آلاف، أما أربعة آلاف فأقرضها ربي، وأما أربعة آلاف فلي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت. وكره المنافقون، فقالوا: والله ما أعطى عبد الرحمن بن عوف عطيته إلا رياء. وهم كاذبون، إنما كان به متطوعًا. فأنزل الله عذره وعذر صاحبه المسكين الذي جاء بصاع من التمر فقال الله في كتابه:{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} الآية (2) .

(1) جامع البيان المجلد 6. ج: 10. ص: 134 إلى 137

(2)

الآية رقم (79) سورة التوبة.

ص: 1216

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن شبل بن أبي نجيح، عن مجاهد {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بصدقة ماله أربعة آلاف، فلمزه المنافقون، وقالوا: راءى {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} قال رجل من الأنصار: آجر نفسه بصاع من تمر، لم يكن له غيره، فجاء به، فلمزوه، وقالوا: كان الله غنيًا عن هذا.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية (1) . قال: أقبل عبد الرحمن بن عوف بنصف ماله، فتقرب به إلى الله، فلمزه المنافقون، فقالوا: ما أعطى ذلك إلا رياء وسمعة، فأقبل رجل من المسلمين يقال له: حبحاب أبو عقيل، فقال: يا نبي الله، بت أجر الجرير على صاعين من تمر، أما صاع فأمسكه لأهلي، وأما صاع فها هو ذا. فقال المنافقون: والله، إن الله ورسوله لغنيان عن هذا، فأنزل الله في ذلك القرآن {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ} الآية.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قال: تصدق عبد الرحمن بن عوف بشطر ماله، وكان ماله ثمانية ألف دينار، فتصدق بأربعة آلاف دينار، فقال ناس من المنافقين: إن عبد الرحمن بن عوف لعظيم الرياء، فقال الله:{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} (2) ، وكان لرجل صاعان من تمر، فجاء بأحدهما، فقال ناس من المنافقين: إن كان الله عن صاع هذا لغنيا، فكان المنافقون يطعنون عليهم ويسخرون منهم، فقال الله:{وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) .

(1) الآية رقم (79) سورة التوبة.

(2)

الآية رقم (79) سورة التوبة

(3)

الآية رقم (79) سورة التوبة

ص: 1217

حدثني المثنى، قال: حدثنى الحجاج بن المنهال الأنماطي، قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي سلمة، عن أبيه ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تصدقوا، فإني أريد أن أبعث بعثًا، فقال عبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله، إن عندي أربعة آلاف، ألفين أقرضهما إلى الله، وألفين لعيالي، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أعطيت، وبارك لك فيما أمسكت، فقال لرجل من الأنصار: وإن عندي صاعين من تمر؛ صاعًا لربي، وصاعًا لعيالي. قال: فلمز المنافقون، وقالوا: ما أعطى ابن عوف هذا إلا رياء. وقالوا: أو لم يكن الله غنيًا عن صاع هذا؟ فأنزل الله {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} )) الآية (1)

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعد، قال: أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس في قوله:{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} قال: أصاب الناس جهد شديد، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتصدقوا، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعمائة أوقية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك له فيما أمسك. فقال المنافقون: ما فعل عبد الرحمن هذا إلا رياء وسمعة، قال: وجاء رجل بصاع من تمر، فقال: يا رسول الله، آجرت نفسي بصاعين، انطلقت بصاع منهما إلى أهلي، وجئت بصاع من تمر. فقال المنافقون: إن الله غني عن صاع هذا، فأنزل الله هذه الآية {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2)

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن إسحاق {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} الآية (3) ، وكان من المطوعين من المؤمنين في الصدقات عبد الرحمن بن عوف، تصدق بأربعة آلاف دينار، وعاصم بن عدي أخو بني عجلان، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغب في الصدقة، وحض عليها، فقام عبد الرحمن بن عوف، فتصدق بأربعة آلاف درهم (4) ، وقام عاصم بن عدي فتصدق بمائة وسق من تمر، فلمزوهما، وقالوا: ما هذا إلا رياء، وكان الذي تصدق بجهده أبو عقيل أخو أبي أنيف الأراشي حليف بني عمرو بن عوف، أتى بصاع من تمر، فأفرغه في الصدقة، فتضاحكوا به، وقالوا: إن الله لغني عن صاع أبي عقيل.

(1) الآية رقم (79) سورة التوبة

(2)

الآية رقم (79) سورة التوبة

(3)

الآية رقم (79) سورة التوبة

(4)

لعل في هذا خطأ صوابه: بأربعة آلاف دينار

ص: 1218

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله، قال: حدثنا شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن ابن مسعود قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل، قال أبو النعمان: كنا نعمل، قال: فجاء رجل، فتصدق بشيء كثير، قال: وجاء رجل فتصدق بصاع تمر، فقالوا: إن الله لغني عن صاع هذا، فنزلت:{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} (1) .

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا زيد بن حباب، عن موسى بن عبيدة، قال: حدثنا خالد بن يسار، عن ابن أبي عقيل، عن أبيه قال: بت أجر الجرير على ظهري على صاعين من تمر، فانقلبت بأحدهما إلى أهلي يتبلغون به، وجئت بالآخر أتقرب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: انثره في الصدقة، فسخر المنافقون منه، وقالوا: لقد كان الله غنيًا عن صدقة هذا المسكين، فأنزل الله:{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} الآيتين. (2) .

حدثني يعقوب، حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا الجريري، عن أبي السليل، قال: وقف على الحي رجل، فقال: حدثني أبي أو عمي، قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: من يتصدق اليوم بصدقة أشهد له بها عند الله يوم القيامة؟ قال: وعلي عمامة لي، قال: فنزعت لونًا أو لونين لأتصدق بهما، قال: ثم أدركني ما يدرك ابن آدم، فعصبت بها رأسي، قال: فجاء رجل لا أرى بالبقيع رجلًا أقصر قامة ولا أشد سوادًا ولا أذم لعيني منه، يقود ناقة، لا أرى بالبقيع أحسن منها ولا أجمل منها، قال: صدقة هي يا رسول الله؟ قال: نعم. قال: فدونكها، فألقى بخطامها أو بزمامها. قال: فلمزه رجل جالس، فقال: والله إنه ليتصدق بها ولهي خير منه، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: بل هو خير منك ومنها. يقول ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم.

حدثني يونس، قال: أخبرني ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، يقول: الذي تصدق بصاع التمر، فلمزه المنافقون أبو خيثمة الأنصاري

(1) الآية رقم (79) سورة التوبة

(2)

الآيتان (79، 80) سورة التوبة

ص: 1219

حدثني المثنى، قال: حدثنا محمد بن رجاء أبو سهل العباداني، قال: حدثني عامر بن يساف اليمامي، عن يحيى بن أبي كثير اليمامي، قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، مالي ثمانية آلاف، جئتك بأربعة آلاف، فاجعلها في سبيل الله، وأمسكت أربعة آلاف لعيالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت. فقال ناس من المنافقين: والله ما أعطى عبد الرحمن إلا رياء وسمعة، ولقد كان الله ورسوله غنيين عن صاع فلان، فأنزل الله {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} (1) يعني عبد الرحمن بن عوف {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} (2) يعني صاحب الصاع {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) .

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن مجاهد قال: قال ابن عباس: أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يجمعوا صدقاتهم، وإذا عبد الرحمن قد جاء بأربعة آلاف، فقال: هذا مالي أقرضه الله، وقد بقي لي مثله. فقال له: بورك لك فيما أعطيت وفيما أمسكت. فقال المنافقون: ما أعطى إلا رياء، وما أعطى صاحب الصاع إلا رياء، إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا، وما يصنع الله بصاع من شيء.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} إلى قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . (4) قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يتصدقوا، فقام عمر بن الخطاب فألقى مالًا وافرًا، فأخذ نصفه، قال: فجئت أحمل مالًا كثيرًا، فقال له رجل من المنافقين: ترائي يا عمر؟ فقال عمر: أرائي الله ورسوله، وأما غيرهما فلا. قال: ورجل من الأنصار لم يكن عنده شيء، فأجر نفسه ليجر الجرير على رقبته بصاعين ليلته، فترك صاعًا لعياله، وجاء بصاع يحمله، فقال له بعض المنافقين: إن الله ورسوله عن صاعك لغنيان، فذلك قول الله تبارك وتعالى:{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} . هذا الأنصاري {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (5)

(1) الآية رقم (79) سورة التوبة.

(2)

الآية رقم (79) سورة التوبة.

(3)

الآية رقم (79) سورة التوبة.

(4)

الآية رقم (79) سورة التوبة.

(5)

الآية رقم (79) سورة التوبة.

ص: 1220

وقال البخاري (1) : " حدثنا عبيد الله بن سعيد، حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله البصري، حدثنا شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن أبي مسعود – رضي الله عنه – قال: لما نزلت آية الصدقة، كنا نحامل، فجاء رجل، فتصدق بشيء كثير، فقالوا: مراء، وجاء رجل، فتصدق بصاع، فقالوا: إن الله لغني عن صاع هذا. فنزلت {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} (2) .

وقال (3) : " حدثني بشر بن خالد أبو محمد، أخبرنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن أبي مسعود قال: لما أمرنا بالصدقة، كنا نتحامل، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء. فنزلت: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} الآية "(4) .

وقال مسلم: " حدثني يحيى بن معين، حدثنا غندر، حدثنا شعبة.

وحدثنيه بشر بن خالد واللفظ له، أخبرنا محمد - يعني ابن جعفر - عن شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن أبي مسعود قال: أمرنا بالصدقة، قال: نحامل، قال: فتصدق أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بشيء أكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقته، وما فعل هذا الآخر إلا رياء. فنزلت {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} ، ولم يلفظ بشر بالمطوعين.

وحدثنا محمد بن بشار، حدثني سعيد بن الربيع.

وحدثنيه إسحاق بن منصور، أخبرنا أبو داود، كلاهما عن شعبة بهذا الإسناد. وفي حديث سعيد بن الربيع قال: كنا نحامل على ظهورنا ".

(1) ج: 2. ص: 114

(2)

الآية رقم (79) سورة التوبة

(3)

ج: 5. ص: 205

(4)

الآية رقم (79) سورة التوبة

ص: 1221

قلت: ارتأيت أن أسوق كل هذه الأسانيد من مصادر مختلفة دون أن أتقصى جميع مواردها لغناء ما اكتفيت به منها إثارًا لاطلاع من قد ينظر في هذا البحث على مجموعة صالحة من ألفاظ هذا الحديث وأسانيده، قد نجعله يطمئن إلى ما انتهى إليه رأينا من تحديد دلالة لفظ " الصدقات " و" الصدقة " في مختلف مواقعه من القرآن الكريم، ذلك بأن هذه الروايات المتعددة والمختلفة الألفاظ والأسانيد اتفقت على شيء واحد على الأقل، هو أن " الصدقات " في قوله تعالى:{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} الآية (1) لا يمكن حصر دلالتها على الركن الثالث من أركان الدين، إذ إن الظرف الذي وقعت فيه حادثة المطوعين والذين لا يجدون إلا جهدهم ليس هو ظرف جباية الزكاة وإن اختلفوا في تعيينه. فقال البعض: إنه ظرف تجهيز لغزو، وقال الأكثرون: إنه ظرف جهد أصاب الناس، فأشفق منه رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أجهدهم، وحرض الناس على الصدقة، وأيا كان فهو ليس ظرف جباية الزكاة، وإن وهم بعض الرواة، فحسبه ظرف جباية الزكاة، وهو وهم ظاهر البطلان، فالمتطوع بأربعة آلاف درهم أو بمائة أوقية ذهبًا أيا كان، سواء كان عبد الرحمن بن عوف أو غيره أو كانوا أكثر من واحد تعدد منهم هذا النوع من التطوع، لا يمكن اعتبار ما جاء به متطوعًا زكاة ما يملك من ورق أو ذهب؛ لأنه لو كان كذلك، لكان مجموع ما يملك ستين ومائة ألف دينارًا أو درهمًا أو أربعة آلاف أوقية ذهبًا، وهذا ما لم يقل به أحد، ولا يمكن أن يتصور في ذلك العهد رأس مال يملكه فرد واحد، كذلك الصاع ونصف الصاع الذي جاء به أبو عقيل أو غيره من {لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} (2) ، لا يمكن أن يكون زكاة؛ لأن الروايات مجمعة على أن صاحب الصاع ونصف الصاع كان يحامل أو آجر نفسه؛ ليحصل على صاعين من تمر، ترك لأهله صاعًا يتبلغون به، وتصدق بالصاع، وإذا اعتبرنا أنه نصاب الزكاة في التمر خمسة أوسق، فإن مقدار ما يصرف منه زكاة، ويجب على صاحبه أن يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين صاعًا إن كان نخله لا يعتمد على السقي، أو خمسة عشر صاعًا إن كان يعتمد عليه، ومن هذا يتضح أن من زعم أن الحادث الذي نزلت بسببه الآية كانت له صلة بالزكاة كان واهمًا، أو كان من رووا عنه واهمين.

نخلص من هذا كله إلى أن كلمة الصدقة مفردة أو جمعًا في مختلف مواقعها من سورة التوبة لا سبيل إلا حصر دلالتها في الزكاة، ومعنى ذلك أن رسول الله صل حين أمر بأن يأخذ الصدقة من {وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا} (3) وبأن يصلي عليهم، إنما كان ذلك الأمر تشريعًا مستقلًا عن تشريع الزكاة، أنه نمط من العقاب لمن أمسك عن الإنفاق في سبيل الله ساعة حاجة المسلمين إلى الإنفاق، أما عند الخروج للجهاد، وإما قبل ذلك، ولمجرد الاستعداد له يعاقبه ولي الأمر بأن يأخذ صدقة من ماله، ولم يُر في الآية الكريمة تحديد للمبلغ الذي يأخذه ولي الأمر، وإنما ترك لاجتهاده الذي تأثر بالوضع المالي للمعاقب وبمدى حاجة المسلمين في الظرف الذي أمسك فيه صاحب المال ذلك عن الإنفاق، وهذا تشريع يثبت أن في المال حقا غير الزكاة تمامًا، كما يثبت ذلك قوله سبحانه وتعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية (4) . وقوله جل جلاله: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ} الآية (5) .

(1) الآية رقم (79) سورة التوبة.

(2)

الآية رقم (79) سورة التوبة.

(3)

الآية رقم (102) سورة التوبة

(4)

الآية رقم (34) سورة التوبة

(5)

الآية رقم (180) سورة آل عمران

ص: 1222

ونتيجة أخرى نستخلصها من وقفتنا هذه عند كلمة " الصدقة " مفردة وجمعًا ومواقعها من سورة التوبة، وهي أن قوله سبحانه وتعالى في تعيين مصارف الصدقات الثمانية {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية (1) . ليس خاصا بمصارف الزكاة الركن الثالث من أركان الدين، وإنما هو شامل لجميع الصدقات ومصارفها، مانع لصرفها في غير تلك المصارف الثمانية.

ويتراءى لنا أن بعض المناط في قوله سبحانه وتعالى في آخر هذه الآية: {وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} (2) يشير إلى ذلك، فما كانت الزكاة وحدها مصدرًا يكفل حاجات الأصناف الثمانية، وخاصة ما هو من حاجات الجهاد استعدادًا له وإنفاقًا فيه، ثم إن قوله سبحانه وتعالى في آخر هذه الآية:{فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ} نص صريح – في رأينا – على أن في المال حقا غير الزكاة، بدليل أن هذه الجملة لا يمكن أن تكون إلا بيانا للحكم الشرعي الذي نزلت الآية الكريمة لإقراره وتبيانه، وكان استهلالها قوله تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} الآية (3) . ولأمر ما جاءت كلمة " الصدقات" جمعًا لم تأت مفردة، وذلك ما ألمعنا إليه آنفًا من أن الحرف الواحد بل الشكلة والنقطة لا يمكن أن ترد في الكلمة القرآنية إلا لمزيد من المعنى أو لتكييف له أو تحديد، وما من أحد يستطيع أن يزعم ذلك.

ونحسب أننا قد أتينا على الكفاية والغناء من الأدلة الحاسمة على أن الزكاة ليست هي كل حق الله في المال، ففيه حقوق غيرها، وعلى أن كلمة " الزكاة " وكلمة " الصدقة " معرفتين أو منكرتين أو جاءت إحداهما مفردة أو جمعًا، لا يمكن حصر دلالتها على الركن الثالث من أركان الدين إلا بقرينة لفظية أو حالية أو محلية أو غيرها من القرائن المعتمدة في الاستدلال، فإذا تقدمت القرينة كانت الكلمة شاملة للحقوق المختلفة في المال، ومنها الركن الثالث من أركان الدين.

وقد نعرض إلى أدلة أخرى فيما يستقبلنا من بنود هذا البحث.

(1) الآية رقم (60) سورة التوبة

(2)

الآية رقم (60) سورة التوبة

(3)

الآية رقم (60) سورة التوبة

ص: 1223

14-

في المال حق سوى الزكاة

نخلص إلى القول مما تقدم أن في المال حقًا سوى الزكاة، وأن هذا الحق يختلف عن الزكاة في أن مقداره غير محدد، وإنما تحدده ظروف وطاقات الناس وأوضاعهم المالية، وأن زمانه غير معين، وإنما تعينه الأحداث والتطورات وما قد يختلف على المجتمع الإسلامي أو جماعة محدودة من المسلمين مشتركة في أوضاعها الحياتية من ملابسات وتطورات وظروف تتصل بالتطور الحضاري أو بمقتضيات الأمن الداخلي أو الخارجي سياسيًا أو اقتصاديًا أو اجتماعيًا، وأن أداء هذا الحق أو القيام به يعني " الإنفاق "، وسنتبين فيما بعد وجوه الإنفاق المطلوب وطرائقه، فليس هو بالضرورة وفي جميع الأوقات والظروف التخلي عن المال المنفق بصورة نهائية، إذ قد يكون شيئًا آخر غير ذلك وقد يعود على المنفق نفسه بالخير الآجل في دنياه فضلًا عن أخراه مما سيأتي بيانه في غير هذا الموضع.

حسبنا الآن أن نتبين حقيقة أبرزتها الأدلة القرآنية والسنية التي سقناها فيما سبق على أن الإنفاق الواجب على المكلف ليس منحصرًا في الزكاة، وهذه الحقيقة – وقد سبق أن لفتنا إليها أكثر من مرة – أن ما خوله الله للإنسان من حق الانتفاع بالأرض وما يخرج منها وما يدب عليها من دابة وما يمكن أن تصل إليه يده من جوانب الكون الأخرى مما علت أو سفلت محكوم بالوظيفة التي خلقه الله للقيام بها، وهي خلافته في الأرض خلافة من وظائفها عمله في عمارة الأرض.

وبدهي أن خلافة الله تعني التزام العدل في جميع التصرفات، وأن التزام العدل يعني اعتبار مصلحة الجميع قبل مصلحة الفرد إذا تغايرت المصلحتان وقبل أن تتغاير في حقيقة الأمر، إذ هما متكاملتان عند التقدير السليم والنظر العميق البعيد.

كما أن عمارة الأرض تقتضى تضافر الجميع على إنجازها واستمرارها وتطويرها وصيانتها كل بحسب ما آتاه الله وفطره عليه من كفاية وفهم واستعداد وعلم، تضافرًا يلتزم باعتبار مصلحة الجميع.

وليس مصلحة الجميع، وليس مصلحة الفرد منطلقًا وهدفًا في آن واحد، إذ إن اعتبارها منطلقًا يترتب عليه التوزيع العادل المتساوي لما تطلبه العمارة من الجهد وما تقتضيه من التعاون الصادق الخالص من شوائب الأنانية والمخاتلة والخداع والتغيير.

ص: 1224

في حين أن اعتبارها هدفًا يترتب عنها تلقائيا تجانس المشاعر والتقديرات تجانسًا ينعكس على تكافل الجهود وتكاملها؛ لأن شعور العامل بأن عمله يشمله ويشمل غيره كما أنه مشمول بعدم غيره ينأى به عن كل ما من شأنه أن يحفزه إلى التقصير وإلى المداورة والتهرب، بل ومحاولة الموازنة بين عمله وعمل غيره، فالجميع مدرك مستيقن وهو يبذل ما يبذل من جهد، بأنه إنما يعمل لمصلحته باعتبارها جزءًا من مصلحة غيره.

لذلك كان هدف الشارع من الشريعة تحقيق المصلحة العامة وكفالتها وصيانتها من كل ما قد يضر بها أو ينال منها، بل إن الفقهاء الموفقين - وأقول الموفقين عمدًا - أثبتوا بما لا مجال فيه للمراء، أن الشارع اعتبر المصلحة العامة حتى فيما يختص بالعبادات، وإن كانت غير معقولة المعنى، كما يقول جمهور.

ولعل من أكثرهم توفيقًا في بيان موقع رعاية المصلحة العامة من الشرع الإسلامي أبا إسحاق الشاطبي رحمه الله لذلك نسوق فقرات من أقواله في هذا الشأن قبل أن نمضي فيما نحن بسبيله من تبيان طبيعة المصلحة العامة التي تتعلق بها حقوق في المال غير الزكاة.

قال رحمه الله (1) : "

إن وضع الشرائع، إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معًا. وقد وقع الخلاف فيها في علم الكلام، وزعم الرازي أن أحكام الله ليست بعلة البتة، كما أن أفعاله كذلك، وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد، وأنه اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين، وكما اضطر - أي: الرازي - في علم أصول الفقه إلى إثبات العلل للأحكام الشرعية، أثبت على أن العلل بمعنى العلامات المعرفة للأحكام الخاصة".

ثم قال:

" والمعتمد إنما هو أنَّا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره، فإن الله تعالى يقول في بعثه الرسل وهو الأصل:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (2)

(1) الموافقات ج: 2. ص: 6، 7

(2)

الآية (95) سورة النساء.

ص: 1225

وبعد أن ساق أمثلة أخرى من القرآن الكريم والحديث الشريف قال: "وإذا دل الاستقراء على هذا، وكان في مثل هذه القضية مفيدًا للعلم، فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة، ومن هذه الجملة ثبت القياس والاجتهاد.

ثم قال (1) :

"تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون ضرورية، والثاني: أن تكون حاجية، والثالث: أن تكون تحسينية. فأما الضرورية، فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت، لم تجر مصالح الدين على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والخسران المبين ".

قلت: تأمل جيدًا قوله: " (إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت وحياة ".

ثم قال (2) : ومجموع الضروريات خمسة وهي: حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل. وقد قالوا: إنها مراعاة في كل علية، وأما الحاجيات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع، دخل على المكلفين - على الجملة - الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة ".

ثم قال (3) : وأما التحسينات فمعناها: الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات التي تألفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق ".

وسنعود إلى الشاطبي، لكنا قبل ذلك ننقل أقوالًا لغيره، منها ما يتسق مع أقواله، ومنها ما لا يتغاير معها، وإن لم يلتزم نفس منهجه في التفكير والاستنباط على أنه يقرر القاعدة نفسها التي قررها هو.

(1) الموافقات ج: 2 ص 8.

(2)

الموافقات ج2. ص: 10.

(3)

الموفقات ج2: ص: 11.

ص: 1226

قال ابن قيم الجوزية (1) : وقع بسبب الجهل غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، ومن الرحمة إلى ضدها، ومن المصلحة إلى المفسدة، ومن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم، أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصورن وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه استقام على سواء السبيل، فهي قرة العيون وحياة القلوب ولذة الأرواح، فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم، وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يمسك الله السماوات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطي العالم، رفع إليه ما بقي من رسومها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.

وقال الآمدي (2) : "المقصود من شرع الحكم إما جلب مصلحة أو دفع مضرة أو مجموع الأمرين بالنسبة إلى العبد لتعالي الرب تعالى عن الضرر والانتفاع ".

ثم قال:

"وإذا عرف أن المقصود من شرع الحكم إنما هو تحصيل المصلحة أو دفع المضرة، فذلك إما أن يكون في الدنيا وإما أن يكون في الآخرة، فإن كان في الدنيا، فشرع الحكم إما أن يكون مفضيًا إلى تحصيل أصل المقصود ابتداء أو دوامًا أو تكميلًا.

(1) أعلام الموقعين. ج: 4. ص: 14.

(2)

الإحكام في أصول الأحكام. ج: 3. ص: 389 و390.

ص: 1227

وقال الآمدي (1) : "وهو بصدد إقامة الدلالة على أن المناسبة والاعتبار دليل كون الوصف علة".

وذلك لأن الأحكام إنما شرعت لمقاصد العباد، أما أنها مشروعة لمقاصد وحكم فيدل عليه الإجماع والمعقول. أما الإجماع فهو أن أئمة الفقه مجمعة على أن أحكام الله تعالى لا تخلو من حكمة ومقصود، وإن اختلفوا في كون ذلك بطريق الوجود، كما قالت المعتزلة، أو بحكم الاتفاق والواقع من غير وجوب، كقول أصحابنا: وأما المعقول فهو أن الله تعالى حكيم في صنعه، فرعاية الغرض في صنعه إما أن يكون واجبًا أو لا يكون واجبًا. فإن كان واجبًا فلم يخل من المقصود، وإن لم يكن واجبًا ففعله للمقصود يكون أقرب إلى موافقة المعقول من فعله بغير مقصود، فكان المقصود لازمًا من فعله ظنا. فإذا كان المقصود لازمًا في صنعه، فالأحكام من صنعه، فكانت لغرض ومقصود. والغرض إما أن يكون عائدًا إلى الله تعالى أو إلى العباد، ولا سبيل إلى الأول لتعاليه عن الضرر والانتفاع، ولأنه على خلاف الإجماع، فلم يبق سوى الثاني. وأيضًا فإن الأحكام مما جاء به الرسول، فكانت رحمة للعالمين، لقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (2) فلو دخلت الأحكام من حكمة عائدة إلى العالمين ما كانت رحمة، بل نقمة، لكون التكليف بها محض تعب ونصب، وأيضًا قوله تعالى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (3) فلو كان شرع الأحكام في حق العباد لا لحكمة، لكانت نقمة لا رحمة، لما سبق، وأيضًا قوله عليه الصلاة والسلام:((لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)) (4) ، فلو كان التكليف بالأحكام لا حكمة عائدة إلى العباد، لكان شرعها ضررًا محضًا، وكان ذلك بسبب الإسلام وهو خلاف النص.

وإذا أثبت أن الأحكام إنما شرعت لمصالح العباد، فإذا رأينا حكما مشروعًا مستلتزمًا لأمر مصلحي، فلا يخلو إما أن يكون ذلك هو الغرض من شرع الحكم أو ما لم يظهر لنا، لا يمكن أن يكون الغرض، ما لم يظهر لنا، وإلا كان شرع الحكم تعبدًا، وهو خلاف الأصل، لما سبق تقريره، فلم يبق إلا أن يكون مشروعًا لما ظهر، فإذا كان ذلك مظنونًا، فيجب العمل به؛ لأن الظن واجب الاتباع في الشرع ويدل على ذلك إجماع الصحابة على العمل بالظن ووجوب اتباعه في الأحكام الشرعية.

(1) الإحكام في أصول الأحكام. ج: 3. ص: 411 و413.

(2)

الآية: (107) سورة الأنبياء.

(3)

الآية: (156) سورة الأعراف.

(4)

انظر تخريجه في الفصل: (19) .

ص: 1228

وقال الرازي (1) :

في معرض شرحه (بيان علية الوصف بالمناسبة) : "الناس ذكروا في تعريف مناسب شيئين:

الأول: أنه الذي يفضي إلى ما يوافق الإنسان تحصيلًا وإبقاء، وقد يعبر عن "التحصيل بجلب المنفعة، وعن الإبقاء بدفع المضرة؛ لأن ما قصد إبقاؤه، فإزالته مضرة، وإبقاؤه دفع للمضرة. ثم هذا التحصيل والإبقاء قد يكون مطردًا، وقد يكون مظنونًا، وعلى التقديرين، فإما أن يكون دينيا أو دنيويا، والمنفعة عبارة عن اللذة أو ما يكون طريقًا إليه، والمضرة عبارة عن الألم أو ما يكون طريقًا إليه، واللذة قيل في حدها: إنها إدراك الملائم، والألم: إدراك المنافي، والصواب عندي أنه لا يجوز تحديدهما؛ لأنهما من أظهر ما يجده الحي من نفسه ويدرك بالضرورة التفرقة بين كل واحد منهما أو بينهما وبين غيرهما، وما كان كذلك يتعذر تعريفه بما هو أظهر منه.

الثاني: أنه الملائم لأفعال العقلاء في العادات، فإنه يقال: هذه اللؤلؤة تناسب هذه اللؤلؤة. أي: الجمع بينهما في سلك متلائم، وهذه الجبة تناسب هذه العمامة، أي: الجمع بينهما متلائم.

والتعريف الأول قول من يعلل أحكام الله تعالى بالحكم والمصالح، والتعريف الثاني قول من يأباه.

ثم قال (2) : كون المناسب مناسبًا إما أن يكون لمصلحة تتعلق بالدنيا أو لمصلحة تتعلق بالآخرة. أما القسم الأول فهو على ثلاثة أقسام؛ لأن رعاية تلك المصلحة إما أن تكون في محل الضرورة، أو في محل الحاجة، أما التي في محل الضرورة فهي التي تتضمن حفظ مقصود من المقاصد الحسنة، وهي حفظ النفس والمال والنسب والدين والعقل.

(1) المحصول. القسم: 2. ج: 2. ص: 217 و219.

(2)

المحصول. القسم: 2. ج: 2 ص: 220.

ص: 1229

ثم قال (1) : "المسألة الثالثة في أن المناسبة لا تبطل بالمعارضة، والدليل عليه أن كون الوصف مناسبًا، إنما يكون لكونه مشتملًا على جلب منفعة أو دفع مضرة، وذلك لا يبطل بالمعارضة. أما الأول فظاهر، وأما الثاني فيدل عليه وجوب الأول، أن المناسبتين المتعارضتين إما أن تكونا متساويتين، أو إحداهما أرجح من الأخرى، فإن كان الأول، لم يكن بطلان إحداهما بالأخرى أولى من العكس، فإما أن تبطل كل واحدة منهما بالأخرى، وهو محال؛ لأن المقتضي لعدم كل واحدة وجود الأخرى والعلة، ولا بد وأن تكون حاصلة مع المعلوم. فلو كان كل واحدة منهما مؤثرة في عدم الأخرى، لزم أن تكونا موجودتين حال كونهما معدومتين، وذلك محال. وإما أن لا تبطل إحداهما بالأخرى عند التعارض وذلك هو المطلوب، وأما إن كانت إحدى المناسبتين أقوى فههنا لا يلزم التفاسد أيضًا؛ لأنه لو لزم التفاسد لكان لما بينهما من المنافاة، لكنا تبينا في القسم الأول أنه لا منافاة بينهما؛ لأنهما اجتمعا وإذا زالت المنافاة لم يلزم من وجود أحدهما عدم الآخر.

الثاني: أن المفسدة الراجحة إذا كانت معارضة بمصلحة مرجوحة، فإما أن ينتفي شيء من الراجح لأجل المرجوح، أو لا ينتفي، والأول باطل، والثاني أيضًا باطل؛ لأن القدر الذي يندفع من المفسدة بالمصلحة يكون مساويًا لتلك المصلحة، فيعود التقسيم الأول في ذينك التقديرين المتساويين في أنه ليس اندفاع أحدهما بالآخر أولى من العكس. فإما أن يندفع كل واحد منهما بالآخر، وهو محال، أو لا يندفع واحد منها بالآخر، وهو المطلوب.

وأيضًا ليس اندفاع بعض أجزاء الطرف الراجح بالطرف المرجوح وبقاء بعضه أولى من اندفاع ما فرض باقيًا وبقاء ما فرض زائلًا؛ لأن تلك الأجزاء متساوية في الحقيقة ".

ثم قال:

(وعن ذلك نقول: المصلحة والمفسدة إما أن يتساويا، أو تكون إحداهما راجحة على الأخرى، فعلى تقدير التساوي يندفع كل واحد منهما بالآخر، فلا تبقى لا مصلحة ولا مفسدة، فوجب أن لا يترتب عليها لا مدح ولا ذم، وقد فرضنا ترتبهما عليها. هذا خلف.

(1) المحصول القسم: 2. ج: 2 ص: 232 و241.

ص: 1230

وإن كانت إحدى الجهتين راجحة كانت المرجوحة معدومة، فيكون الحاصل إما المدح وحده أو الذم وحده، وقد فرضنا حصولهما معًا. هذا خلف.

ثم قال:

"العقلاء يقولون في فعل معين الإتيان به في مصلحة في حقي لولا ما فيه من المفسدة الفلانية ولولا صحة اجتماع وجهي المفسدة والمصلحة وإلا لما صح هذا الكلام ".

ثم قال "في إقامة الدلالة على أن المناسبة دالة على العلية:

"المناسبة تفيد ظن العلية، والظن واجب العمل به، بيان الأول من وجهين: الأول: أن الله تعالى شرع الأحكام لمصلحة العباد، وهذه مصلحة، فيحصل ظن أن الله تعالى إنما شرعه لهذه المصلحة، فهذه مقدمات ثلاث لا بد من إثباتها بالدليل.

أما المقدمة الأولى فالدليل عليها وجوه:

أحدها: أن الله تعالى خصص الواقعة المعينة بالحكم المعين لمرجح أو لا لمرجح، والقسم الثاني باطل، وإلا لزم ترجيح أحد الطرفين على الآخر، لا لمرجح، فثبت القسم الأول، وذلك المرجح إما أن يكون عائدًا إلى الله تعالى، أو إلى العبد، والأول باطل بإجماع المسلمين، فتعين الثاني، وهو أنه تعالى إنما شرع الأحكام لأمر عائد إلى العبد. والعائد إلى العبد إما أن يكون مصلحة للعبد أو مفسدته، أو ما لا يكون لا مصلحته ولا مفسدته، والقسم الثاني والثالث باطل باتفاق العقلاء، فتعين الأول فتعين الأول، فثبت أنه تعالى إنما شرع الأحكام لمصالح العباد.

وثانيها: أنه تعالى حكيم بإجماع المسلمين، والحكيم لا يفعل إلا لمصلحة، فإن من يفعل لا لمصلحة يكون عابثًا، والعبث على الله محال للنص والإجماع والمعقول. أما النص فقوله تعالى {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} (1){رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطلًا} (2){مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} (3) وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون على أنه تعالى ليس بعابث، وأما المعقول فهو أن العبث سفه، والسفه صفة نقص، والنقص على الله تعالى محال.

(1) الآية: (115) سورة المؤمنون.

(2)

الآية: (191) سورة آل عمران.

(3)

الآية: (39) سورة الدخان.

ص: 1231

فثبت أنه لا بد من مصلحة، وتلك المصلحة يمتنع عودها إلى الله تعالى كما بينا، فلا بد من عودها إلى العبد، فثبت أنه تعالى شرع الأحكام لمصالح العباد.

وثالثها: أن الله تعالى خلق الآدمي مشرفًا مكرمًا، لقوله تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} (1) ومن كرم أحدًا ثم سعى في تحصيل مطلوبه كان ذلك السعي ملائمًا لأفعال العقلاء مستحسنًا فيما بينهم، فإذا ظن كون المكلف مكرمًا يقتضى أن الله تعالى لا يشرع إلا ما يكون مصلحة له.

ورابعها: أن الله تعالى خلق الآدميين للعبادة لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) والحكيم إذا أمر عبده بشيء، فلابد وأن يزيح عذره وعلته، ويسعى في تحصيل منافعه ودفع المضار عنه، فيصير فارغ البال، ليتمكن من الاشتغال بأداء ما أمره به، والاجتناب عما نهاه عنه، فكونه مكلفًا يقتضي ظن أن الله تعالى لا يشرع إلا ما يكون مصلحة له.

وخامسها: النصوص الدالة على أن مصالح الخلق ودفع المضار عنهم مطلوب الشرع. قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (3) وقال: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (4) وقال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (5) وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (6){وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمُ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (7)، وقال عليه السلام:((بعثت بالحنيفية السهلة السمحة)) قال عبد الرزاق (المصنف. ج: 11. ص: 292. ح: 20574) أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عمر بن عبد العزيز، قال: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الدين أفضل؟ قال: ((الحنيفية السمحة)) . وقال أحمد (المسند. ج: 1. ص: 226) : حدثنى يزيد، قال: أنبأنا محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: ((الحنيفية السمحة)) .

(1) الآية: (70) سورة الإسراء.

(2)

الآية: (56) سورة الذاريات

(3)

الآية: (107) سورة الأنبياء.

(4)

الآية رقم (29) سورة البقرة.

(5)

الآية رقم (13) سورة الجاثية.

(6)

الآية: (185) سورة البقرة.

(7)

الآية: (178) من سورة الحج.

ص: 1232

وقال (المسند. ج: 5. ص: 266) : حدثنا أبو المغيرة، حدثنا معان بن رفاعة، حدثني علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه، قال: فمر رجل بغار فيه شيء من ماء، قال: فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه من ماء ويصيب ما حوله من البقل، ويتخلى من الدنيا، ثم قال: وإني أتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك، فإن أذن لي فعلت، وإلا لم أفعل، فأتاه فقال: يا نبي الله، مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل، فحدثتنى نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى من الدنيا، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة، والذي نفس محمد بيده، لغدوة وروحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة)) .

وقال (المسند. ج: 6. ص: 177 و233) : حدثنا سليمان بن داود ، قال: حدثنا عبد الرحمن ، عن أبيه قال: قال لي عروة: إن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: ((لتعلم يهود أن في ديننا فسحة إني أرسلت بحنيفية سمحة.))

وحدثنا سليمان بن داود، أنبأنا ابن أبي الزناد ، عن أبي الزناد قال: قيل لي: إن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: ((لتعلم يهود أن في ديننا فسحة ، إني أرسلت بحنيفية سمحة)) وأورده البخاري تعليقا في باب "الدين يسر " من (كتاب الإيمان. ج: 1. ص: 15) وقال ابن حجر: (في تعليق التعليق. ج: 2. ص: 40 وما بعدها) : أخبرنا عبد الله بن عمر الحلاوي ، أنبأنا أحمد بن محمد حنفجلة ، أنبأنا عبد اللطيف الحراني ، أنبأنا أبو محمد بن صاعد ، أنبأنا أبو القاسم الكاتب ، أنبأنا الحسن بن علي المذهب ، أنبأنا أبو بكر بن مالك ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن محمد ، حدثني أبي ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا محمد بن إسحاق ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال:((قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: الحنيفية السمحة)) . ورواه البخاري في كتابه الأدب المفرد عن صدقة بن الفضل ، عن يزيد بن هارون. وهكذا رواه عبد الأعلى وعبد الرحمن بن مغراء وعلي بن مجاهد وغيرهم ، عن محمد بن إسحاق ، ولم أره من حديثه إلا معنعنا ، وله شاهد من مرسل صحيح الإسناد ، قال ابن سعد في الطبقات: أنبأ عارم بن الفضل ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا معاوية بن عياش الجرمي ، عن أبي قلابة. فذكره في قصة. وله شاهد آخر صحيح مرسل أيضا ، رواه أبو اليمان في نسخته ، عن شعيب ، عن الزهري ، عن عمر بن عبد العزيز ، عن أبيه ، ((عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الدين ، أيه أفضل؟ فقال: الحنيفية السمحة)) .

أنبئته عن غير واحد ، منهم أبو الربيع بن قدامة ، عن إبراهيم بن محمود الأزجي ، أنبأنا عبد الحق بن عبد الخالق اليوسفي ، أنبأنا هبة الله بن أحمد ، أنبأنا أبو القاسم بن بشران ، أنبأنا أبو سهل بن زياد القطان ، حدثنا عبد الكريم بن الهيثم حدثنا أبو اليمان به.

ص: 1233

ورواه البزار في مسنده من حديث عمر بن عبد العزيز ، عن أبيه ، عن جده ، وفي إسناده عبد العزيز بن أبان ، وهو متروك ، ولم يخرج الحديث عن كونه مرسلا؛ لأن مروان جد عمر بن عبد العزيز لا يصح له صحبة ولا سماع ، وله شاهد آخر مرسل ، قال عبد الرزاق في مصنفه: أخبرنا ابن أبي رواد ، عن محمد بن واسع ، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قلت: إن ابن حجر لديه نسخة من مصنف عبد الرزاق تختلف عن التي بين أيدينا ، فقد سبق أن نقلنا الحديث عن عبد الرزاق في هذا التعليق بسند مختلف. فتأمل.

وكذلك سبق أن نقلنا عن أحمد الحديث الذي نقله ابن حجر بعد حديث عبد الرزاق ضمن ما نقلناه من مسند أحمد. ثم قال: وفي الباب عن أبي بن كعب وجابر وابن عمر وأبي إمامة وأبي هريرة وأحمد بن عبد الله الخزاعي وغيرهم.

وقال الطبراني (المعجم الكبير. ج: 11 ص: 227. ح: 11571) : حدثنا أحمد بن داود المكي ، حدثنا أحمد بن عمر الرازي ، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء ، عن محمد بن إسحاق ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال:((قيل: يا رسول الله ، أي الإسلام أفضل؟ قال: "حنيفية سمحة.))

وقال: ((لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)) (1) .

وسادسها: أنه وصف نفسه بكونه رؤوفًا رحيما بعباده ، وقال:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (2) ، فلو شرع ما لا يكون للعبد فيه مصلحة ، لم يكن ذلك رأفة ورحمة.

وقال ابن قدامة المقدسي (3)

"متى لزم من الوصف المتضمن للمصلحة مفسدة مساوية للمصلحة أو راجحة عليها ، فقيل: إن المناسبة تنتفي، فإن تحصيل المصلحة على وجه يتضمن فوات مثلها أو أكبر منها ، ليس من شأن العقلاء ، لعدم الفائدة على تقدير التساوي وكثرة الضرر على تقدير الرجحان ، فلا يكون مناسبًا ، إذ المناسب إذا عرض على العقول السليمة تلقته بالقبول ، فيعلم أن الشارع لم يرد بالحكم تحصيلًا للمصلحة في ضمن الوصف المعين ، وهذا غير صحيح ، فإن المناسب المتضمن للمصلحة ، والمصلحة أمر حقيقي لا ينعدم بمعارض ، إذ ينتظم من العاقل أن يقول: لي مصلحة في كذا ، يصدني عنه ما فيه من الضرر من وجه آخر ، وقد أخبر الله تعالى أن في الخمر والميسر منافع للناس ، وأن إثمهما أكبر من نفعهما.

(1) انظر تخريجه في الفصل 19.

(2)

الآية: (56) سورة الأعراف.

(3)

روضة الناظر. ص 276، 278.

ص: 1234

فلم ينف منافعهما مع رجحان إثمهما ، والمصلحة جلب المنفعة أو دفع المضرة ، ولو أفردنا النظر إليها غلب على الظن ثبوت الحكم من أجلها ، وإنما يختل ذلك الظن مع النظر إلى المفسدة اللازمة من اعتبار الوصف الآخر ، فيكون هذا معارضًا ، إذ هذا حال كل دليل له معارض ، ثم ثبوت الحكم مع وجود المعارض لا يعد بعيدًا ، ونظيره ما لو ظفر الملك بجاسوس لعدوه ، فإنه يتعارض في النظر اقتضاءان؛ أحدهما: قتله دفعًا لضرره ، والثاني: الاحسان إليه استمالة له لتكشيف حال عدوه ، فسلوكه إحدى الطريقين لا يعد عبثًا ، بل يعد جريًا على موجب العقل ، ولذلك ورد الشرع بالأحكام المختلفة في الفعل الواحد نظرًا إلى الجهات المختلفة ، كالصلاة في الدار المغصوبة ، فإنها سبب للثواب من حيث إنها صلاة ، وللعقاب من حيث إنها غصب ، نظرًا إلى المصلحة والمفسدة ، مع أنه لا يخلو إما أن يتساويا ، أو يرجح أحدهما ، فعلى تقدير التساوي لا تبقى المصلحة مصلحة ، ولا المفسدة مفسدة ، فيلزم انتفاء الصحة والحرمة ، وعلى تقدير رجحان المصلحة يلزم انتفاء الحرمة ، وعلى تقدير رجحان المفسدة يلزم انتفاء الصحة ، فلا يجتمع الحكمان معًا ، ومع ذلك اجتمعا ، فدلا على بطلان ما ذكروا.

ثم قدرنا توقف المناسبة على رجحان المصلحة ، فدليل الرجحان أنا لم نجد في محل الوفاق مناسبًا سوى ما ذكرناه ، فلو قدرنا الرجحان ، يكون الحكم ثابتًا معقولًا ، وعلى تقدير عدمه يكون تعبدًا ، واحتمال التعبد أبعد وأندر ، فيكون احتمال الرجحان أظهر. ومثال ذلك تعليلنا وجوب القصاص على المشتركين في القتل بحكمة الردع والزجر ، كي لا يفضي إسقاطه إلى فتح باب الدماء ، فيعارض الخصم بضرر إيجاب القتل الكامل على من لا يصدر منه ذلك ، فيكون جوابه ما ذكرناه ، والله أعلم ".

وبعد هذا الكلام الشريف الذي أوضح به كل من الرازي وابن قدامة - على اختلاف طريقتيهما في التبيان والإيضاح - ما قد يعترض من شبهات يلتبس تمييز الحكم منها على أغلب المتفقهة - لا سيما المقلدة - حين يتراءى شكل من شبهة التعارض بين المصلحة والمفسدة وعسر المراجحة بينهما ، وانتهيا معًا إلى تقرير مبدأ استفاض بين الأصوليين وإن لم يوفق أغلبهم إلى مثل ما وفقا إليه من تبيان وتحليل وتعليل ، وهو أن جلب المصلحة مقدم على درء المفسدة.

ص: 1235

نعود إلى الشاطبي رحمه الله وهو يتميز عنهما - أو بالأحرى عن الرازي ، فابن قدامة ليس ببعيد عنه في المنهاج - بأنه لا يوغل في منطقة الحجاج والبرهنة ، وإنما يريدها ميسرة بينة ، تتجاوب معها العقول والمدارك دون الحاجة إلى جهد يوغلها فيه افتعال المقدمات وابتغاء النتائج ، أو بعبارة أدق وأوجز "فلسفة التعقيد التي كثيرًا ما تؤدي بأمثال الرازي يغفر الله له إلى مفازات من التعقيد إن لم تستعسر على العقول غير المهيأة ، فلا أقل من أن تثقل عليها ونسوق كلام الشاطبي متتاليًا دون تعقيب ، إذ سوف نقف عقب هذا الاستدلال بكلام السلف وقواعدهم موقفًا مستطيلًا لتبيان مدى علاقة تكييف تصرف الإنسان فيما خوله الله من مال بمقتضيات هذه القواعد التي بسطها أئمة أصول الفقه ومهدنا لها - قبل أن نسوق نصوصهم - بما سقناه من نصوص الكتاب والسنة ، وفي وقفتنا تلك سنتوجها أيضًا بنصوص أخرى.

قال الشاطبي رحمه الله (1) : في معرض بيان (أن كل تكملة يفضي اعتبارها إلى رفض أصلها ، فلا يصح اشتراطها عند ذلك) .

"وكذلك الجهاد مع ولاة الجور ، قال العلماء بجوازه، قال مالك: لو ترك ذلك لكان ضارا على المسلمين ، فالجهاد ضروري ، والوالي فيه ضروري ، والعدالة فيه مكملة للضرورة ، والمكمل إذا عاد للأصل بالإبطال لم يعتبر ، لذلك جاء الأمر بالجهاد مع ولاة الجور عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال عبد الرزاق (المصنف. ج:5. ص: 278 إلى 280 ح: 9607 إلى 9619) : عن معمر ، عن الزهري ، عن محمود بن الربيع ، أن أبا أيوب الأنصاري غزا مع يزيد بن معاوية الغزوة التي مات فيها. وعن معمر ، عن أيوب عن ابن سيرين قال: كان أبو أيوب الأنصاري يغزو مع يزيد بن معاوية ، فمرض وهو معه ، فدخل عليه يزيد يعوده ، فقال له: حاجتك؟ قال: إذا أنا مت فسر بي في أرض العدو ما استطعت ، ثم ادفني. قال: فلما مات ، سار به حتى أوغل في أرض الروم يوما أو بعض يوم ، ثم نزل فدفنه.

(1) الموافقات. ج: 2. ص: 15.

ص: 1236

وعن معمر ، عن أيوب ، عن أبي حمزة الضبعي ، قال: قلت لابن عباس: إنا نغزو مع هؤلاء الأمراء ، فإنهم يقاتلون على طلب الدنيا ، قال: فقاتل أنت على نصيبك من الآخرة.

وعن الثوري ، عن جابر قال: سألت الشعبي عن الغزو عن أصحاب الديوان أفضل أو التطوع؟ قال: بل أصحاب الديوان، المتطوع متى شاء رجع.

وعن ابن التيمي ، عن كهمس ، قال: قلت للحسن: نغزو مع الأمراء فما يطلعون على أمرهم، غير أنا نسالم إذا سالموا ، ونحارب إذا حاربوا. قال: قاتل مع المسلمين عدوهم.

وقال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف. ج: 12. ص: 449 إلى 451 ، الأثر: 15221 إلى 15231) : حدثنا حفص بن غياث ، عن الأعمش قال: كان أصحاب عبد الله يغزون زمان الحجاج: عبد الرحمن بن يزيد ، وأبو سنان وأبو جحيفة، حدثنا عبدة ، عن الأعمش ، قال: سمعتهم يذكرون أن عبد الرحمن بن يزيد كان يغزو الخوارج في زمان الحجاج يقاتلهم.

حدثنا عبدة بن سليمان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، أنه غزا في زمان الحجاج، حدثنا وكيع ، قال: حدثنا مثنى بن سعيد ، عن أبي حمزة قال: سألت ابن عباس عن الغزو مع الأمراء وقد أحدثوا. فقال: تقاتل على نصيبك من الآخرة ، ويقاتلون عل نصيبهم من الدنيا.

حدثنا وكيع ، قال: حدثنا حماد بن زيد ، عن الجعد أبي عثمان ، عن سليمان اليشكري ، عن جابر قال: قلت له: أغزو أهل الضلالة مع السلطان؟ قال: اغز ، فإنما عليك ما حملت ، وعليهم ما حملوا.

حدثنا غندر، عن الفزاري، عن هشام، عن الحسن وابن سيرين سُئلا عن الغزو مع أئمة السوء، فقالا: لك شرفه وأجره وفضله، وعليهم إثمهم.

حدثنا وكيع، قال: حدثنا مالك بن مغول، عن طلحة بن مصرف، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد النخعي، قال: قلت لأبي: يا أبة، في إمارة الحجاج أتغزو؟ قال: يا بنى، لقد أدركت أقوامًا أشد بُغضًا منكم للحجاج، وكانوا لا يدعون الجهاد على حال، ولو كان رأي الناس في الجهاد مثل رأيك ما أرى الإتاوة، يعنى الخراج.

حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: ذكر له أن أقوامًا يقولون: لا جهاد، فقال: هذا شيء عرض به الشيطان.

حدثنا وكيع، قال: حدثنا الربيع بن الصبيح، عن قيس بن سعد، عن مجاهد، قال: سألت ابن عمر عن الغزو مع أئمة الجور وقد أحدثوا، فقال: اغزوا.

حدثنا أحمد بن عبد الله، عن زائدة، عن ليث، قال: كان مجاهد يغزو مع بني مروان، وكان عطاء لا يرى بأسًا.

حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، قال: خرج على الناس بعث زمن الحجاج ، فخرج فيه عبد الرحمن بن يزيد.

وترجم البخاري في صحيحه (ج: 3. ص: 215) بحديث لم يسنده ، فقال: باب الجهاد ماض مع البر والفاجر. وأسند بعض الترجمة حديث: الخيول معقود في نواصيها الخير.

لكن روى الحديث أبو داود (السنن. ج: 3. ص: 18. ح: 2532)، فقال: حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا جعفر بن برقان ، عن يزيد بن أبي نشبة ، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة من أصل الإيمان: الكف عمن قال: لا إله إلا الله ، ولا تكفره بذنب ، ولا تخرجه من الإسلام بعمل ، والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل ، والإيمان بالأقدار)) .

ص: 1237

وقال في نفس المعنى ولكن بعبارة أخرى (ح: 2533) : حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب ، حدثني معاوية بن صالح ، عن العلاء بن الحرث ، عن مكحول ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجهاد واجب عليكم مع كل أمير ، برا كان أو فاجرًا ، والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم ، برا كان أو فاجرًا ، وإن عمل الكبائر)) . وقال ابن ماجه (السنن. ج: 2. ص: 488. ح: 1525) : حدثنا أحمد بن يوسف السلمي ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا الحارث بن نبهان ، حدثنا عتبة بن يقظان ، عن أبي سعيد ، عن مكحول ، عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلوا على كل ميت ، وجاهدوا مع كل أمير)) .

وقال البيهقي (السنن الكبرى. ج: 3. ص: 121) : أخبرنا أبو علي الروذباري، أنبأ أبو بكر بن داسة ، حدثنا أبو داود، حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب، حدثني معاوية بن صالح ، عن العلاء بن الحارث ، عن مكحول ، عن أبن هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجهاد واجب عليكم مع كل أمير ، برا كان أو فاجرًا ، والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم ، برا كان أو فاجرًا ، وإن عمل الكبائر ، والصلاة واجبة على كل مسلم ، برا كان أو فاجرًا ، وإن عمل الكبائر)) .

ثم قال (1) :

" المقاصد الضرورية في الشريعة أصل للحاجية والتحسينية ، فلو اختل الضروري بإطلاق ، لاختل باختلاله بإطلاق ، ولا يلزم من اختلالهما اختلال الضروري بإطلاق ، نعم قد يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق اختلال الحاجي بوجه ما، وقد يلزم من اختلال الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما، فلذلك إذا حوفظ على الضروري ، فينبغي المحافظة على الحاجي ، وإذا حوفظ على الحاجي ، فينبغي أن يحافظ على التحسيني ، فثبت أن التحسيني يخدم الحاجي ، وأن الحاجي يخدم الضروري ، وأن الضروري هو المطلوب ".

ثم قال:

"وبيان الأول أن مصالح الدين والدنيا مبنية على الأمور الخمسة المذكورة فيما تقدم، فإذا اعتبر قيام هذا الوجود الدنيوي مبنيا عليها ، بمعنى إذا انخرمت لم يبق للدنيا وجود - أعني ما هو خاص بالمكلفين والتكليف - وكذلك الأمور الأخروية لا قيام لها إلا بذلك، فلو عدم الدين عدم ترتب الجزاء المرتجى ، ولو عدم المكلف لعدم من يتبين ، ولو عدم العقل لارتفع التدين ، ولو عدم النسل لم يكن في العادة بقاء ، ولو عدم المال لم يبق عيش - وأعني بالمال ما يقع عليه ويستبد به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه ويستوي في ذلك الطعام والشراب واللباس على اختلافها وما يؤدي إليها من جميع المتمولات - فلو ارتفع في ذلك لم يكن بقاء ، وهذا كله معلوم ، ولا يرتاب فيه من عرف ترتيب أحوال الدنيا وأنها زاد للآخرة.

ثم قال (2) :

"المصالح المبثوثة في هذه الدار ينظر فيها من جهتين؛ من جهة مواقع الوجود ، ومن جهة تعلق الخطاب الشرعي بها، فأما النظر الأول فإن المصالح الدنيوية - من حيث هي موجودة هنا - لا يتخلص كونها مصالح محضة".

ثم قال:

"كما أن المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضة من حيث مواقع الوجود ، إذ ما من مفسدة تفرض في العادة الجارية إلا ويقترن بها أو يسبقها أو يتبعها من الرفق واللطف ونيل اللذات، ويدلك على هذا ما هو الأصل ، وذلك أن هذه الدار وضعت على الامتزاج بين الطرفين والاختلاط بين القبيلين ، فمن رام استخلاص جملة فيها ، لم يقدر على ذلك".

ثم قال:

"فإذا كان كذلك ، فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب ، فإذا كان الغالب جهة المصلحة ، فهي المصلحة المفهومة عرفًا ، وإذا غلبت الجهة الأخرى ، فهي المفسدة المفهومة عرفًا، ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوبًا إلى الجهة الراجحة، فإن رجحت المصلحة فمطلوب ، ويقال فيه: إنه مصلحة ، وإذا غلبت جهة المفسدة فمهروب منه ، ويقال: إنه مفسدة على ما جرت به العادة في مثله".

(1) الموافقات. ص: 16 و17

(2)

الموا فقات. ص: 25 و26 و27

ص: 1238

ثم قال:

"هذا وجه النظر في المصلحة الدنيوية والمفسدة الدنيوية من حيث مواقع الوجود في الأعمال العادية، وأما النظر الثاني فيها من حيث تعلق الخطاب بها شرعا ، فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد ، فهي المقصودة شرعًا ، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد ليجري قانونها على أقوم طريق وأهدى سبيل ، وليكون حصولها أتم وأقرب وأولى بنيل المقصود على مقتضى العادات الجارية في الدنيا، فإن تبعها مفسدة أو مشقة فليست مقصودة في شرعية ذلك الفعل وطلبه ، وكذلك المفسدة إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد ، فرفعها هو المقصود شرعًا ، ولأجله وقع النهي ليكون رفعها على أتم وجوه الإمكان العادي في مثلها حسب ما يشهد له كل عقل سليم، فإن تبعتها مصلحة أو لذة ، فليست هي المقصودة بالنهي عن ذلك الفعل ، بل المقصود ما غلب في المحل ، وما سوى ذلك ملغى في مقتضى النهي ، كما كانت جهة المفسدة ملغاة في جهة الأمر.

فالحاصل من ذلك أن المصالح المعتبرة شرعًا أو المفاسد المعتبرة شرعًا ، هي خالصة غير منسوبة بشيء من المفاسد لا قليلًا ولا كثيرًا ، وإن توهم أنها مشوبة ، فليست في الحقيقة الشرعية كذلك؛ لأن المصلحة المغلوبة أو المفسدة المغلوبة إنما المراد بها ما يجري في الاعتياد الكسبي من غير خروج إلى زيادة تقتضي التفات الشارع إليها على الجملة ، وهذا المقدار هو الذي قيل: إنه غير مقصود للشارع في شرعية الأحكام ".

ثم قال (1) .

"وأما إذا كانت المصلحة أو المفسدة خارجة عن حكم الاعتياد بحيث لو انفردت لكانت مقصودة لاعتبار الشارع ، ففي ذلك نظر ".

ثم قال:

"فلا يخلو إما أن تتساوى الجهتان ، أو تترجح إحداهما على الأخرى، فإن تساوتا فلا حكم من جهة المكلف بأحد الطرفين دون الآخر إذا ظهر التساوي بمقتضى الأدلة ، ولعل هذا غير واقع في الشريعة ".

(1) الموافقات. ص: 30 و31

ص: 1239

ثم قال:

"وأما إن ترجحت إحدى الجهتين، على الأخرى فيمكن أن يقال: إن قصد الشارع "غير " (1) متعلق بالجهة الأخرى ، إذ لو كان متعلقًا بالجهة الأخرى لما صح الترجيح ولا كان الحكم ، كما إذا تساوت الجهتان فيجب الوقف ، وذلك غير صحيح مع وجود الترجيح".

وقال الشاطبي أيضًا (2) :

"مقاصد الشارع في بث المصالح في التشريع أن تكون مطلقة عامة لا تختص بباب دون باب ، ولا بمحل دون محل ، ولا بمحل وفاق دون محل خلاف ، وبالجملة الأمر في المصالح مطرد مطلقًا في كليات الشريعة وجزئياتها".

ومن الدليل على ذلك ما تقدم في الاستدلال على مطلق المصالح ، وأن الأحكام مشروعة لمصالح العباد ، ولو اختصت لم تكن موضوعة للمصالح على الإطلاق ، لكن البرهان قام على ذلك ، فدل على أن المصالح فيها غير مختصة ".

ثم قال (3) :

"جلب المصلحة أو دفع المفسدة إذا كان مأذونًا فيه على ضربين: أحدها: أن لا يلزم منه إضرار للغير ، والثاني: أن يلزم منه ذلك، وهذا الثاني ضربان؛ أحدهما: أن يقصد الجالب أو الدافع ذلك الإضرار ، كالمرخص في سلعته قصدًا لطلب معاشه وصَحِبه قصد الإضرار بالغير ، والثاني: أن لا يقصد إضرارًا بأحد، وهو قسمان؛ أحدهما: أن يكون الأضرار عاما ، كتلقي السلع وبيع الحاضر للبادي ، والامتناع من بيع داره أو فدانه ، وقد اضطر إليه الناس لمسجد جامع أو غيره.

والثاني: أن يكون خاصا ، وهو نوعان؛ أحدهما: أن يلحق الجالب أو الدافع بمنعه من ذلك ضرر ، فهو محتاج إلى فعله ، كالدافع عن نفسه مظلمة ، يعلم أنها تقع بغيره أو يسبق إلى شراء طعام أو ما يحتاج إليه أو إلى صيد أو إلى حطب أو ماء أو غيره عالمًا إذا جازه استضر غيره بعدمه ، ولو أخذ من يده استضر.

والثاني: أن لا يلحقه بذلك ضرر ، وهو على ثلاثة أنواع:

أحدها: ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعيا ، أعني القطع العادي ، كحفر البئر خلف باب الدار في الظلام بحيث يقع الداخل فيه بلا بد، وشبه ذلك.

والثاني: ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرًا كحفر البئر بموضع لا يؤدي غالبًا إلى وقوع أحد فيه ، وأكل الأغذية التي غالبها أن لا تضر أحدًا ، وما أشبه ذلك.

(1) بدون زيادة لا يستقيم التعبير.

(2)

الموافقات. ج: 2. ص: 54.

(3)

الموافقات. ص: 348.

ص: 1240

والثالث: ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرًا لا نادرًا ، وهو على وجهين؛ أحدهما: أن يكون غالبًا ، كبيع السلاح من أهل الحرب ، والعنب من الخمار ، وما يغش به ممن شأنه الغش ونحو ذلك.

والثاني: أن يكون كثيرًا لا غالبًا ، كمسائل بيوع الآجال ، فهذه ثمانية أقسام.

فأما الأول فباق على أصله من الإذن ، ولا إشكال فيه ، ولا حاجة إلى الاستدلال عليه؛ لثبوت الدليل على الإذن ابتداء. وأما الثاني فلا إشكال في منع القصد إلى الإضرار من حيث هو إضرار لثبوت الدليل على أن لا ضرر ولا إضرار في الإسلام ، لكن يبقى النظر في هذا العمل الذي اجتمع فيه قصد نفع النفس وقصد إضرار الغير ، هل يمنع منه فيصير غير مأذون به ، أم يبقى على حكمه الأصلي من الإذن ، ويكون عليه إثم ما أفسد؟

هذا مما يتصور فيه الخلاف على الجملة ، وهو جار على مسألة الصلاة في الدار المغصوبة ، ومع ذلك فيحتمل في الاجتهاد تفصيلًا ، وهو أنه إما أن يكون إذا رفع ذلك العمل وانتقل إلى وجه آخر في استجلاب تلك المصلحة أو درء تلك المفسدة ، حصل له ما أراد أولا ، فإن كان كذلك ، فلا إشكال في منعه منه؛ لأنه لا يقصد ذلك الوجه لأجل الإضرار ، فلينتقل عنه ، ولا ضرر عليه ، كما يمنع من ذلك الفعل إذا لم يقصد غير الإضرار ، وإن لم يكن له محيص عن تلك الجهة التي ينظر منها الغير ، فحق الجالب أو الدافع مقدم ، وهو ممنوع من قصد الإضرار ، ولا يقال: إن هذا تكليف بما لا يطاق ، فإنه إنما كلف بنفي قصد الإضرار ، وهو داخل تحت الكسب ، لا بنفي الإضرار بعينه.

وأما الثالث - ويعني به أن يكون الإضرار عامًا - فلا يخلو أن يلزم من منعه الإضرار به ، بحيث لا ينجبر أولا، فإن لزم ، قدم حقه على الإطلاق على تنازع يضعف مدركه من مسألة الترس التي فرضها الأصوليون ، إذا تترس الكفار بمسلم ، وعلم أن الترس إذا لم يقتل استوصل أهل الإسلام ، وإن أمكن انجبار الإضرار ورفعه جملة ، فاعتبار الضرر العام أولى ، فيمنع الجالب أولًا الدافع مما هم به؛ لأن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة بدليل النهي عن تلقي السلع وعن بيع الحاضر للبادي واتفاق السلف على تضمين الصناع مع أن الأصل فيهم الأمانة ، وقد زادوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره مما ومتى رضي أهله وما لا، وذلك يقضي بتقديم مصلحة العموم على مصلحة الخصوص ، ولكن بحيث لا يلحق الخصوص مضرة.

ص: 1241

وقال الشاطبي (1) :

"لما أثبتت الشريعة على قصد المحافظة على المراتب الثلاث من الضروريات والحاجيات والتحسينات ، وكانت هذه الوجوه مثبوثة في أبواب الشريعة وأدلتها غير مختصة بمحل دون محل ، ولا باب دون باب ، ولا قاعدة دون قاعدة ، كان النظر الشرعي فيها أيضًا عامًا لا يختص بجزئية دون أخرى ، لأنها كليات تقضي على كل جزئي تحتها ، وسواء علينا أكان جزئيًا إضافيا أم حقيقيا ، إذ ليس فوق هذه الكليات كل تنتهي إليه ، بل هي أصول الشريعة ، وقد تمت ، فلا يصح أن يفقد بعضها حتى يفتقر إلى قياسها بإثبات أو غيره ، فهي الكافية في مصالح الخلق عمومًا وخصوصًا؛ لأن الله تعالى قال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (2) وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (3)

وفي الحديث: ((تركتكم على الجادة)) (4) وقوله: ((لا يهلك على الله إلا هالك)) قال أحمد في (المسند. ج:1. ص: 279) : حدثنا عفان، حدثنا جعفر بن سليمان ، حدثنا الجعد أبو عثمان ، عن أبي رجاء العطاردي ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روى عن ربه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن ربك تبارك وتعالى رحيم ، من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشرة إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة ، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله تعالى ، ولا يهلك على الله إلا هالك)) .

وقال مسلم (على هاش شرح النووي. ج: 2. ص: 149 و150) : حدثنا شيبان بن

فروخ، حدثنا عبد الوارث ، عن الجعد أبي عثمان، حدثنا أبو رجاء العطاردي ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى قال: ((إن الله كتب الحسنات والسيئات ، ثم بين ذلك ، فمن هم بحسنة فلم

يعملها ، كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعملها ، كتبها الله عز وجل عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، وإن هم بسيئة فلم يعملها ، كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعملها ، كتبها الله سيئة واحدة)) .

(1) الموافقات ج: 3. ص: 5.

(2)

الآية: (3) سورة المائدة.

(3)

الآية: (28) سورة الأنعام.

(4)

لم أقف عليه ، ولعله طرف من حديث.

ص: 1242

وقال الدارمي (السنن. ج: 2. ص: 321) : حدثنا عفان ، حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا الجعد أبو عثمان ، قال: سمعت أبا رجاء العطاردي ، قال: سمعت ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال:((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ربكم رحيم ، من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت عشرًا إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، ومن هم بسيئة فلم يعملها ، كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت واحدة أو يمحوها ، ولا يهلك على الله إلا هالك)) .

ونحو ذلك من الأدلة على تمام الأمر وإيضاح السبيل.

وإذا كان كذلك ، وكانت الجزئيات وهي أصول الشريعة فما تحتها مستمدة من تلك الأصول الكلية - شأن الجزئيات مع كلياتها في كل نوع من أنواع الموجودات - فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كليتها، فمن أخذ بنص مثلًا في جزئي معرضًا على كليه ، فقد أخطأ ، وكما أن من أخذ بالجزئي معرضًا عن كليه ، فهو مخطئ ، كذلك من أخذ بالكلي معرضًا عن جزئيه.

وقد آثرنا أن نسوق كل هذه النصوص وفي بعضها طول ، وبعضها يتضمن في ثناياه ما لا يتصل بموضوعنا مباشرة ، لنضع بين يدي من قد يتفضل بالاطلاع على هذا البحث وتمحيصه ما نحسبه من النصوص يغنيه عن الاضطرار إلى مراجعة مصادر مما رجعنا إليه أو على شاكلتها استبانة أو تأكدًا من سلامة النقل أو استقامة الاحتجاج أو شمول الاعتبار لمختلف الاتجاهات والمدارس الأصولية والفقهية فيما نقلناه واعتمدناه ، ونحن نتلمس في مسيرتنا ما يتراءى لنا صراطا مستقيما إلى استبانة الحق وتجليته من أهواء وأوهام تداولته بطرائق شتى ، فجللته بألوان من الارتياء والتأويل والتوجيه نحسبها - إن لم نكن مخطئين - جنحت عن القصد ، وأوغلت في الجنوح.

ذلك بأن موضوع "انتزاع الملك للمصلحة العامة"على ضوء التشريع الإسلامي اضطربت فيه آراء من تناولوه بالدراسة والبحث ، فأنكره البعض ، ورأوه ضربًا من الاعتداء على حرمة أموال الناس التي ثبت في السنة والكتاب عظمتها من الاعتداء والتنديد على من تجاوز فيها حدود الله والوعيد له بأشد العقاب، ونحن والمسلمون كافة مع هؤلاء فيما حاولوا الاستناد إليه من النصوص والأحكام التي هي من بدهيات التشريع الإسلامي ، ولكنا نختلف معهم ، وننكر عليهم فيما خلصوا إليه من الرأي وركنوا إليه من الحكم واعتمدوا عليه من طرائق التشريع.

ص: 1243

على حين أقره الآخرون على اختلاف بينهم في مدى وطرائق الإقرار ، بيد أنهم - حسب ما انتهى إليه علمنا - اتففوا على اعتبار إقراره منطلقًا من قاعدة " المصلحة المرسلة " ومضى كل فريق يتسقط الحجج ، ويلتقط النصوص تأكيدًا لما ذهب إليه من اعتبار "المصلحة المرسلة " هي القاعدة الوحيدة المحكمة في هذا الشأن.

ونحن نتفق مع هؤلاء في أن (المصلحة) هي منطلق الحكم في هذا المجال ، بيد أننا نختلف معهم في طبيعة هذه المصلحة ، فهي عندنا ليست " المصلحة المرسلة " وإنما هي " المصلحة العامة " التي هي مناط التشريع الإسلامي ومن أبرز أنواع

المناط في جميع مجالاته وخاصة المعاملات.

وشتان بين اعتبار "المصلحة المرسلة " واعتبار "المصلحة العامة " قاعدة في الحكم ، إذ إن اعتبار "المصلحة المرسلة" يعني أن الحكم مجرد اجتهاد ، والحكم الاجتهادي هو عندنا أضعف الأحكام ، حتى وإن اعتمد على القياس الصحيح السليم ، فكيف إذا اعتمد على مجرد اعتبار "المصلحة المرسلة ".

أما اعتبار المصلحة العامة هي القاعدة ، بصفتها مناط التشريع ، فمرده ليس إلى "الاجتهاد المجرد" ، وإنما إلى الفهم القائم على الاستقراء والاستقصاء للنصوص والآثار ، ثم اجتلائها وتقييمها في نطاق ظروفها وملابساتها ودون إغفال ما قد يتراءى للبعض بين بعض النصوص والآثار من تغاير أو تناقض أو اضطراب أو ضعف ، ودون إغفال أيضًا لتمحيص هذا الذي يتراءى لهؤلاء تمحيصًا ينأى عن التقليد ، ولا يعتمد إلا على اعتبار الدلالات الدقيقة والأسباب المجردة عند تقدير كل عنصر من تلك العناصر (التعارض ، والتغاير ، والتناقض ، والاضطراب والضعف) .

وواضح وضوحًا لا مجال للمراء فيه أن الحكم الذي يثبت بنص من الكتاب أو السنة - فكيف إذا كان بنص منهما معًا - باعتباره من مشمولات دلالته أو مناطه أو هما معًا ، أقوى وأرسخ وألزم بمراحل بعيدة من ذلك الذي يثبت أو يراد إثباته بمجرد اجتهاد منطلق من تقدير شخصي مهما استفرغ فيه من جهد لقاعدة " المصالح المرسلة " ومدى التطابق بينها وبين الأمر الذي يراد الحكم فيه اعتمادًا عليها.

ص: 1244

15 -

حق التصرف بمقتضى المصلحة العامة

على أن المصير إلى تحرير الحكم الشرعي في "انتزاع الملك للمصلحة العامة " يستلزم تحديد طبيعة العلاقة بين الإنسان وما تحت يده من ثابت ومتنقل.

وقد ألمعنا إلى رأينا في هذا الشأن إلماما عارضًا حين وقفنا عند دلالة اللام في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (1) وأوضحنا اعتمادنا القول بأنها للاختصاص ليست للملك ، كما رأى الجمهور ، واستظهرنا هنالك بآثار بعض المفسرين ، ونريد أن نعود إلى الوقوف عند معنى اللام؛ لأن تحديده بدقة هو المنطلق الأساسي - في تقديرنا - إلى تحديد الحكم الذي نحن بسبيل البحث فيه ، ووقفتنا هذه ترتكز على ثلاث ركائز؛ الأولى: قوله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (2)، وقوله في سورة الأنبياء:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (3) والثانية: حديث زيد بن أسلم ، عن أبيه ، وقد سبق أن نقلناه عن أبي عبيدة وجاء فيه قول عمر رضي الله عنهم جميعًا ، " قال أسلم: فسمعت رجلًا من بني ثعلبة يقول له: يا أمير المؤمنين ، حميت بلادنا ، قاتلنا عليها في الجاهلية ، وأسلمنا عليها في الإسلام. يرددها عليه مرارًا ، وعمر واضع رأسه إليه ، ثم إنه رفع رأسه إليه ، ثم قال: البلاد بلاد الله ، ويحمي النعم مال الله ، يحمل عليها في سبيل الله.

والثالث: معنى ذكره الأصوليون للام الإضافة ، وهو "التصرف"، وننقله عن أبي الوليد الباجي رحمه الله فقد أحسن التعبير عنه والتمثيل له قال (4) :

"فأما لام الإضافة فلها خمسة مواضع: الملك ، والسبب ، والفعل ، والاختصاص ، واليد والتصرف".

ثم قال: وأما اليد والتصرف فنحو قولك: المال للوصي ، بمعنى أن له فيه اليد والتصرف. قال الله تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} (5) فأضاف المال إلى الأوصياء لما كان لهم من القيام عليها والتصرف للأيتام فيها".

(1) الآية رقم (9) سورة البقرة.

(2)

الآية رقم (128) سورة الأعراف.

(3)

الآية رقم (105) سورة الأنبياء.

(4)

إحكام الفصول. ص: 180. فقرة: 25.

(5)

الآية: (5) سورة النساء.

ص: 1245

قلت: ومن هذا القبيل دلالة اللام في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (1) فهي عندي لـ"اختصاص" التصرف تمامًا كما هي في الآية السالفة التي استدل بها الباجي لإبراز معنى التصرف فيها، يعضد ذلك جواب عمر لأخي بني ثعلبة حين حاجه بقوله: بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية وأسلمنا عليها في الإسلام ، إذ إن عمر لم يجبه بصيغة تحتفظ بإضافة البلاد والأرض إلى بني ثعلبة الذين قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام ، إنما حاجهم بقوله: البلاد بلاد الله ، ويحمي النعم مال الله. الحديث.

وما من شك في أن عمر رضي الله عنه عدل عن إضافة الأرض إلى بني ثعلبة ، فصرف إضافتها إلى الله عن عمد ولهدف قاصد ، بل ولحكم ثابت عنده دل عليه قوله: البلاد بلاد الله ، ، ويحمي النعم مال الله. ولست أجد نصًا أوثق من هذا يفرق بين "الملكية" و" التصرف" ، ذلك بأن المالك هو الأحق ، بل صاحب الحق الوحيد فيما يملك إذا تعينت الحاجة إلى "تخصصه " أو "تخصص" ما يتصل به مباشرة بحق المنفعة و"الانتفاع" ، وأن من قد يكون خول لها "التصرف" أو جعل له "الاختصاص " في ذلك الملك كله أو بعضه ، إنما يكون ذلك الذي خول له

أو جعل حين لا تتعين الحاجة إلى أن يستقل المالك أو غيره ممن هو أوثق منه صلة وأولى بالتخويل والتخصيص. فإذا تعينت كان تعينها ناسخًا لأي تخويل أو "تخصيص" أيا كان المخول له "المخصص" ، ولسنا نرى لعدول عمر عن إضافة البلاد إلى بني ثعلبة وصرف إضافتها إلى الله وتعليل ذلك الصرف بأن النعم الذي يحمل عليه مال الله ، دلالة غير الإصداع بهذا الحكم الحازم الحاسم الذي لا يقبل أي مراء أو تأويل.

ولا سبيل إلى القول بأن هشام بن سعد المدني راوي هذا الأثر عن زيد بن أسلم وصفه البعض بأنه "قد يهم" ، فأطراف من الحديث وردت بطرق أخرى ، وهشام بن سعد روى عنه مسلم والأربعة ، ولم يغمز في دينه ، والحديث من الشهرة بحيث كان حريا بأن يثير جدلًا بين التابعين من طبقة هشام ومن دونها ومن فوقها لو كان فيه ما رآه المحدثون جديرًا بالجرح أو الريب.

(1) الآية رقم (29) سورة البقرة.

ص: 1246

ثم إن قول عمر هذا ليس بدعًا من عمر ، وإنما هو تطبيق لاستمرار حكم كان من عهد موسى عليه السلام وحكاه القرآن الكريم عنه في قول الله جل جلاله على لسانه:{إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ} (1) ، فهي ليست لأحد ، وهو يورثها من يشاء من عباده ، وهؤلاء الذين يشاء - أو اقتضت حكمته وجرى سننه - أن يورثها لهم من عباده ، هم الذين أشار إليهم موسى عليه السلام نفسه في قوله في الآية التالية لهذه:{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (2) ، فهو يعدهم بالاستخلاف وينبههم إلى أن الاستخلاف ليس وضعًا مكتسبًا اكتسابًا أبديًا لهم ، وإنما هو ابتلاء أو امتحان يظهر الله تعالى به صلاحهم أو عدم صلاحهم له إذ:{فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} . ونظيره قوله سبحانه وتعالى في سورة الأنعام: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) ، فهي إذن سنة الله في خلقه ، يستخلف على الأرض من يشاء من عباده ما أحسنوا خلافته عليها ، لا فرق بين مسلم وغير مسلم ، وينتزعها منهم إذا أفسدوا ، فلم يحسنوا خلافته عليها ، لا فرق أيضًا بين مسلم وغير مسلم ، وهو لا ينذرهم بانتزاعها فحسب ، وإنما ينذرهم بالعقاب على الإفساد ، ويبشرهم بالرحمة لمن أناب إليه ، وتاب بعد أن أفسد، فالعلاقة بين الإنسان وما خول له من ثابت ومتنقل هي خلافة الله في تصريفه والتصرف فيه ، وهي مستمرة ما أحسن القيام بواجبات الخلافة ، فزائلة عمن أساء إلى غيره ممن لم يسئ ، وقد يكون أصلح ، وذلك عندي - ولا شيء غيره ، وإن تجمهر المفسرون على غيره - تأويل قوله تعالى:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (4) ، ذلك بأن هذه الآية الكريمة وردت بعد مجموعة من أخبار الأولين أمم وأنبياء ورسل ، امتحنوا بألوان من الابتلاء من سراء وضراء ، وكان لهم تأثير في تطور الحياة في الأرض ، وفيهم داود وسليمان اللذين كانا ملكين ، وفيهم زكريا الذي كانت ضراعته إلى الله أن يهبه وريثًا ، وبعد حكاية أخبار هذه الأمم وهؤلاء الأنبياء والرسل جاء قوله سبحانه وتعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} (5)

(1) الآية رقم (128) سورة الأعراف.

(2)

الآية رقم (129) سورة الأعراف.

(3)

الآية رقم (165) سورة الأنعام.

(4)

الآية رقم (105) سورة الأنبياء.

(5)

الآيتان (94، 95) سورة الأنبياء.

ص: 1247

وواضح أن قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ، يعني: التمييز بين الإيمان والعمل من الصالحات ، وهو نفس التمييز الوارد في قوله سبحانه وتعالى في سورة النور:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (1)

ويعني أيضًا من هم "الصالحون " في قوله: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (2) ، ومن عجب أن يذهب المفسرون في تأويل هذه الآية كل مذهب إلا التأويل الصحيح ، فإنهم أهملوه أو غفلوا عنه، ذلك بأن كلمة "الصلاح" وما اشتق منها وقر في أذهانهم وأفهامهم أنها لا تعني في القرآن والحديث إلا الصلاح المؤدي إلى نعيم الآخرة حتى حين ترد في معرض ضبط وتنظيم شؤون الدنيا ، وهذا الذي وقر في أذهانهم جعلهم يتكلفون التأويلات لما يكون تأويله ظاهرًا ، بل ثابتًا من القرآن الكريم نفسه ومن نسبة الله في كونه، فليس الصلاح الذي معناه التقوى مؤهلًا لصاحبه وحده لأن يكون خليفة الله في الأرض يوكل إليه أمر أعمارها وتطويرها لصالح الناس كافة ، إنما الصلاح المؤهل لهذه المهمة هو الكفاية للقيام بها بما تقتضيه مسؤولية خلافة الله ومهمتها ، وقد لفت الله سبحانه وتعالى الانتباه إلى الحكمة من هذه السنة التي استنها للكون بتعقيبه على الآية الآنفة الذكر بقوله جل جلاله:{إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} (3) ، فجاءت العبارة مسوقة على التذكير في المضاف إليه وصفته، فلم يقل جل جلاله: للقوم العابدين. بالتعريف ، ومع ذلك اضطرب المفسرون في تأويل هذه الآية واحتاروا اضطرابهم واحتيارهم في تأويل سابقتها ، وذهبوا في كل مذهب إلا المذهب الصحيح القويم ، وهو أن الصالحين الذين كتب الله في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثونها ، هم قوم عابدون ، وعبد في هذه الآية ليس من العبادة في دلالتها الشرعية ، وإنما هو من أصل دلالتها اللغوية ، وهي الذلة والألم الذي يتشكل في بعض حالاته غضبًا ، وقد عرفت العرب استعمال كلمة التعبيد بمعنى التذليل ، كما عرفت استعمال كلمة عبد - بكسر الباء الموحدة - بمعنى غضب ، وقد شاع في ألسنة الناس وصف الطريق السوية بأنها معبدة (4) .

(1) الآية رقم (55) سورة النور.

(2)

الآية: (105) سورة الأنبياء.

(3)

الآية: (106) سورة الأنبياء.

(4)

انظر ابن منظور لسان العرب. ج: 3. ص: 274 و275.

ص: 1248

ومن عجب أن المفسرين لم يلتفتوا إلى تجرد قوم عابدين من أداة التعريف ، فلو أريد بهم القوم العابدون الذين هم الصالحون في رأيهم لما كان لتجريد قوم عابدين من أداة التعريف معنى واضح ، ومعاذ الله أن يكون في القرآن تعبير ليس مقصودًا لذاته ، وليست صيغته مرادة في دلالته ، والمعنى - والله أعلم - أن البشارة بأن الأرض يرثها عباد الله الصالحون وجهت بلاغًا لقوم يعانون من الذل معاناة تفعم نفوسهم ألمًا حتى لا يتحول الألم فيها إلى نمط من الغضب على الحياة لما يعانون من الذلة والهوان ، فهي بشارة وجهت إليهم "بلاغًا " لتعيد إليهم الأمل وتدعوهم إلى الاستعداد بابتغاء المؤهلات التي تجعلهم صالحين لخلافة الله في الأرض بأعمارها مؤهلين لإرثها بصلاحهم له.

ونعتقد أن مما يشهد لرأينا هذا ، ما وصف به إبراهيم وبنوه من أنهم كانوا عابدين في قوله سبحانه وتعالى:{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} ، فهم موصوفون في هذه الآية الكريمة بالتذلل والخضوع لله وبأنهم أوحي إليهم فعل الخيرات ، أي: أنهم يفعلون الخيرات بإلهام من الله وتوفيق ، وهذه الخيرات ليست هي العبادات غير المعقولة المعنى والتي تضبط العلاقة بين العبد وربه ، وإنما هي شيء يتجاوز مجرد التعبد ، كانوا يفعلونه بوحي من الله متقربين إلى الله بالاستذلال له ، فهم له عابدون ، على أن كلمة عابدين في هذه الآية ليست وصفًا لنكرة ، وإنما هي وصف لمعرفة ، فهي تختلف صيغة عن كلمة عابدين في الآية السابقة ، ومع ذلك فلا تبعد عنها في جوهر معناها ، وإن اختلفتا وجهة دلال باختلاف المساق ، وهذه من روائع الإعجاز القرآني.

وقد وردت كلمة (صلح) ومشتقاتها في القرآن الكريم دالة على غير العبادة والالتزام بها ، وإن كان مدلولها داخلًا بالنية عند استحضارها في مضمون العبادة. قال الله تعالى:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أو إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} (1)

{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ} (2){وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} (3){إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} (4){فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} (5){وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} (6){وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (7){قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} (8){وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (9){سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} (10) . {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (11)

(1) الآية رقم (182) سورة البقرة.

(2)

الآية: (39) سورة المائدة.

(3)

الآية: (16) سورة النساء.

(4)

الآية: (160) سورة البقرة.

(5)

الآية (51) و (52) سورة الشعراء.

(6)

الآية: (48) سورة النمل.

(7)

الآية: (42) سورة الأعراف.

(8)

الآية: (46) سورة هود.

(9)

الآية: (33) سورة النور.

(10)

الآية: (27) سورة القصص.

(11)

الآية: (17) سورة هود

ص: 1249

وما نحسب مفسرًا أو متأولًا مستقيم النظر في دلالة الآي مستحضرًا لمواقعها ومساقها ومناسباتها يسيغ لنفسه أن يزعم أن واحدة من هذه الآيات إنما تعني بكلمة " صلح " ومشتقاتها ما يتصل بالتعبد غير المعقول المعنى لله سبحانه وتعالى.

فالموعودون بالمغفرة والرحمة ممن استزلهم الشيطان بالقذف إن هم تابوا وأصلحوا ، ليس إصلاحهم بالضرورة شاملًا للقيام بجميع العبادات المأمور بها؛ لأن إفسادهم الذي استوجبوا من أجله العقاب في الدنيا والحرمان من قبول شهادتهم

والوصف بالفسق ، إنما هو رمي المحصنات ، وبدهي أن الإصلاح المطلوب منهم ليتأهلوا للمغفرة والرحمة هو أن يكذبوا أنفسهم ويشيعوا تبرئة المحصنات مما قذفوهن به إشاعة تشمل مدى ما أشاعوه من قذف ، واللذان أُمِر المسلمون بالإعراض عنهما والكف عن إيذائهما لما أتياه من الفاحشة إن تابا وأصلحا ، يراد بإصلاحهما الإقلاع عن إتيان الفاحشة ، إذ هي الفساد الذي من أجله أمر المسلمون بإيذائها.

هذان مثلان من دلالة كلمة "صلح " ومشتقاتها في الآيات التي سقناها براهين على أن القرآن الكريم استعمل هذه الكلمة في مواضع شتى ليس بمعنى التقوى ، كما توهم المفسرون في كثير من الآيات ، ولكن بمعنى إزالة الفساد المتصل بإحداث الخلل في المجتمع ، سواء كان الخلل في المال أو في الأنساب أو في غيرهما مما يتصل بالحياة الاجتماعية أو بمعنى الإسهام في عمارة الأرض وتطوير الحياة البشرية عليها أو ما نسميه اليوم بالإنماء الاقتصادي وتطوير الحضارة ، وهذان الأمران؛ الإقلاع عن الفساد ، والإسهام في التطوير الحضاري، هما الصلاح المؤهل لخلافة الله في الأرض وإرثها الذي هو إرث التصرف فيها وتصريف نتاجها.

ولعلنا قد أوضحنا بما فيه الغناء كل الغناء ما نذهب إليه من أن علاقة الإنسان بما خول له في الأرض وفي الكون من " الثابت " و" المتنقل " هي الاختصاص في التصرف ، وهي ما سماه الله سبحانه وتعالى بالخلافة حين جعل الإنسان خليفة له في الأرض ، وأهلية الإنسان لهذه الخلافة هي التي لم يتبينها الملائكة حين توجسوا من استخلاف الله له ، فقالوا إذ قال لهم:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (1){: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} } (2)

(1) الآية رقم (30) سورة البقرة.

(2)

الآية رقم (30) سورة البقرة.

ص: 1250

وهذا الاختصاص والتصرف أو هذه الكيفية لفهم علاقة الإنسان بالأرض وخلافته عليها هي التي عبر عنها عمر بقوله: البلاد بلاد الله. الحديث.

ومع أن ما سقناه من الأدلة على ما ذهبنا إليه من معنى اللام المضافة في قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} (1) الآية ، أنه لاختصاص التصرف ومن أن هذا الاختصاص والتصرف لا يناط بالإنسان المسلم وحده ، وإن كان يؤثر عن غيره إذا تساوى مع غيره أو فضل عنه ، وإنما يناط بكل من كان أصلح لممارسته ، فإنا نرى للمزيد من التأكيد والإيضاح أن نسوق آيات أخرى من كتاب الله العزيز ، لا سبيل أن يزعم أحد عند تأويلها أن اللام فيها للملك ، ولا سبيل إلى اعتبار اللام فيها لغير الاختصاص والتصرف. قال الله سبحانه وتعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (2) .

وقد يتيسر للمفسرين الذين يحبون أن يحصروا دلالة اللام المضافة في الملك أن يزعموا أنها كذلك في إضافة الرزق والفلك ، بل وقد يزعمون أنها كذلك أيضًا في الأنهار ، ولكن هل يستطيعون أنها كذلك في الشمس والقمر وفي الليل والنهار حتى مع استحضار ما وصل إليه العلم التجريبي الحديث من قدرة الإنسان على استعمال أشعة الشمس كوسيلة من وسائل استنباط الطاقة المتجددة.

وعلى هذه الوتيرة جاء قوله سبحانه وتعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (3)

وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (4) وقوله جل جلاله {: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} } (5)

(1) الآية رقم (29) سورة البقرة.

(2)

الآية: (32) و (33) سورة إبراهيم.

(3)

الآية: (12) سورة النحل.

(4)

الآية: (20) سورة لقمان.

(5)

الآية: (12) و (13) سورة الجاثية.

ص: 1251

وما نحسب أحدًا يستطيع أن يزعم للإنسان أي نوع من أنواع الملكية للشمس والقمر والنجوم والبحر وجميع ما في السماوات وما في الأرض وإن طاب لبعض أن يتبجحوا بالقول: "إن الإنسان سيد هذا الكون " ، وأغلب هؤلاء إن لم يكونوا جميعًا من الملاحدة أو ممن في إيمانهم دخل.

ولا جرم أن علاقة الإنسان بما تصل إليه يده من هذا الكون تنحصر في خلافة الله في التصرف والتصريف وتنضبط باعتبار المصلحة العامة حتى فيما يتراءى له كما لو كان منحصرًا في المصلحة الخاصة في جميع ممارساته ، ذلك بأن الفرد لا يملك استقلالا كاملا بمعنى انفصالا مطلقا عن إخوانه كأفراد في المجتمع ، ولا عن كيان المجتمع كهيكل متميز فيما قد يتراءى له أنه ذاتي صرف ، إذ إن أدنى إغفال - فضلًا عن تجاوز متعمد - لاعتبار مقتضيات المصلحة العامة لا مناص من أن يحدث خللًا فيها بما ينطلق منه من الاعتماد على متطلبات الأنانية الصرفة ، وهو خلل كثيرًا ما يتحول إلى فساد هادم ، آية ذلك أن الغني حين يتجاهل حقوق الآخرين فيما بين يديه من مال فينفقه مبذرًا مسرفًا ، لا محيص من أن ينعكس تصرفه المنحرف على مصالح غيره انعكاسًا ماديا واجتماعيًا وخلقيًا ، وذلك بعض ما يمكن استلهامه من قوله سبحانه وتعالى:{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} (1) .

ومن التنديد المتكرر في آيات شتى من القرآن الكريم بالترف والمترفين ، بل إن القرآن الكريم أوضح عاقبة التبذير بجلاء في نص لا يقبل التأويل ، وهو قول الله الحكيم الخبير:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (2) وأخرى ما جاء به الشرع من وجوب الحجر على السفيه إذا صار إليه مال بإرث أو هبة من مثل قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} (3) ، بل إن الشرع الإسلامي جاء بحرمان المعتدي على حقوق غيره حرمانًا كاملًا مما كان مخولًا له اختصاص التصرف فيه ، وذلك عقابًا له على الاعتداء ودرءًا لانتشار الطبيعة العدوانية والتصرفات التي لا تراعي حقوق الآخرين.

ولعل أبرز مثل وأصرحه لهذا الإجراء ما وقع لسمرة بن جندب.

(1) الآية (27) سورة الإسراء.

(2)

الآية: (16) سورة الإسراء.

(3)

الآية رقم (5) سورة النساء.

ص: 1252

قال أبو داود (1) :

"حدثنا سليمان بن داود العتكي، حدثنا حماد، حدثنا واصل مولى أبي عيينة ، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي - يعني الباقر عليه السلام يحدث ، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه ((أنه كانت له عضد (2) من نخل في حائط رجل من الأنصار ، قال: ومع الرجل أهله ، قال: فكان سمرة يدخل إلى نخله ، فيتأذى به ، ويشق عليه ، فطلب إليه أن يبيعه ، فأبى ، فطلب إليه أن يناقله ، فأبى ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له ، فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه ، فأبى ، فطلب إليه أن يناقله ، فأبى ، قال: فهبه له ، ولك كذا وكذا. أمرًا رغبه فيه ، فأبى ، فقال: أنت مضار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصاري: اذهب فاقلع نخله)) .

وقال البيهقي (3) :

" أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المقري، أنبأنا الحسن بن محمد بن إسحاق، حدثنا يوسف بن يعقوب، حدثنا أبو الربيع ، حدثنا حماد بن زيد ، عن واصل مولى ابن عيينة ، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي يحدث ، عن سمرة بن جندب ((أنه كانت له عضد من نخل في حائط رجل من الأنصار ، قال: ومع الرجل أهله ، وكان سمرة بن جندب يدخل إلى نخله ، فيتأذى به ويشق عليه ، فطلب إليه أن يبيعه ، فأبى ، فطلب إليه أن يناقله ، فأبى ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك ، فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه ، فأبى ، فطلب إليه أن يناقله ، فأبى ، قال: قال: فهبه لي ، ولك كذا وكذا. أمرا رغبه فيه ، فأبى ، فقال: أنت مضار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصاري: اذهب فاقلع نخله)) .

(1) سقط هذا الهامش من الأصل (المجلة) .

(2)

عضد قال محقق السنن محمد محيي الدين عبد الحميد رحمه الله: عضد من نخل ، بفتح العين وضم الضاد ، قال الخطابي: هو هكذا في رواية أبي داود ، وصوابه: عضيد ، يريد نخلا لم تسبق ولم تطل ، قال الأصمعي: إذا صار للنخلة جذع يتناول منه المتناول ، فتلك النخلة العضيدة ، وجمعه عضيدات.

(3)

السنن الكبرى. ج: 6. ص: 157 و158.

ص: 1253

وتعقبه البيهقي بقوله: وقد روي في معارضته ما دل على أنه لا يجبر عليه.

ثم قال:

"أخبرنا أبو طاهر الفقيه، أنبأ أبو بكر محمد بن الحسين القطان، حدثنا إبراهيم بن الحارث، حدثنا يحيى بن أبي بكر، حدثنا زهير بن محمد ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر بن عبد الله ((أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: إن لفلان في حائطي عذقًا ، وقد آذاني وشق علي مكان عذقه. فأرسل إليه نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وقال: بعني عذقك الذي في حائط فلان. قال: لا. قال: فهبه لي. قال: لا. قال: فبعنيه بعذق في الجنة قال: لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيت أبخل منك إلا الذي يبخل بالسلام)) .

قلت: ويظهر أن قضية هذا العذق ليست نفس قضية نخلة سمرة ، يدل على ذلك ما أعقب به البيهقي روايته لقصة هذا العذق مما يعين صاحبه قال: أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، حدثنا أبو محمد المزني، حدثنا علي بن محمد بن عيسى، حدثنا أبو اليمان، أخبرني شعيب ، عن الزهري قال: حدثني سعيد بن المسيب ((أن أول شيء عاتب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي لبابة بن عبد المنذر أنه خاصم يتيما له في عذق نخلة ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي لبابة بالعذق ، فضج اليتيم واشتكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي لبابة: هب لي هذا العذف يا أبي لبابة لكي نرده إلى اليتميم. فأبى أبو لبابة أن يهبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا لبابة ، أعطه هذا اليتيم ولك مثله في الجنة. فأبى أبو لبابة أن يعطيه ، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله ، إن ابتعت هذا العذق فأعطيت اليتيم ألي مثله في الجنة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. فانطلق الأنصاري وهو ابن الدحداحة حتى أتى أبا لبابة فقال: يا أبا لبابة ، أبتاع منك هذا العذق بحديقتي ، وكانت له حديقة نخل ، فقال أبو لبابة: نعم. فابتاعه منه بحديقة ، فلم يلبث ابن الدحداحة إلا يسيرًا حتى جاء كفار قريش يوم أحد ، فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقاتلهم ، فقتل شهيدًا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رب عذق مذلل لابن الدحداحة في الجنة)) .

ص: 1254

قلت: ولا تنافي بين القصتين ، فقد كان تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضية سمرة تصرفًا بحق الإمامة ، وسيأتي بعد قليل بيان بالظروف التي يكون فيها للإمام التصرف بحق الإمامة ، وكان تصرفه صلى الله عليه وسلم في قضية أبي لبابة تصرفًا بمقتضى النبوة ، فقد قضى بحق الإمامة لأبي لبابة بالعذق ، فلما تأذى منه اليتيم ، لم ير أن يقضي له بحق الإمامة ما يدفع عنه الأذى ليس إصرارًا على حكمه الأول ، ولكن - حسب ما يدل مصير القضية ومن كان الحل على يديه - لوحي أو مكاشفة من الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بما سيصير إليه أمر القضية ، أو لأنه صلى الله عليه وسلم ما زال يأمل في أبي لبابة أن يرجع عن إصراره ، لذلك أمهله مليا ، ولعله رآه في حالة نفسية متشنجة ، فاستأنى به لعله يراجع أمره بعد أن يهدأ. ويشهد لهذا الاحتمال ما جاء في أول القصة في الرواية الثانية للبيهقي: من أن أبا لبابة خاصم يتيما له ، ولعل اليتيم كان في حجره أو من قرابته ، وأبو لبابة ليس من عامة الصحابة ، بل من صفوتهم ، فلا يبعد أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرج أو أشفق من أن يصدمه بما يكره ، فاستأنى به على أمل أن يفيء إلى الخير ، ومهما يكن فإن قصة "العذق " لا تعارض قصة "العضد " كما حاول البيهقي أن يوهم، وقد قالوا في قصة "العضد": إن أبا جعفر بن محمد عليه السلام لم يسمع من سمرة ، وهذا قريب الاحتمال، فقد توفي سمرة رضي الله عنه وما يزال أبو جعفر طفلًا أو في بداية اليفاعة من سنيه ، وقريب جدًا أن لا يكون سمع منه ، فيكون الحديث مرسلًا ، ولكن بأي مرسل إذا لم نعمل بمراسيل أبي جعفر وأمثاله من أئمة التابعين وأفاضلهم ، لا سيما أهل البيت؟!

وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحكام ما يشبه قضية سمرة أو يقرب منها ، من ذلك ما رواه البخاري وغيره من قصة الزبير مع رجل من الأنصار ، ولفظه من البخاري (1) :

(1) ج: 3. ص: 76 ، وانظر أبو داود السنن. ج: 3. ص: 315. ح: 3637.

ص: 1255

"حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث، حدثني ابن شهاب ، عن عروة ، عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه حدثه ، أن رجلًا من الأنصار خاصم الزبير عند النبي صلى الله عليه وسلم في شراج (1) الحرة التي يسقون بها النخل ، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر. فأبى عليه ، فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: اسق يا زبير ، ثم أرسل الماء إلى جارك. فغضب الأنصاري ، فقال: أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال: اسق يا زبير ، ثم احبس الماء حتى ترجع إلى الجدر. فقال الزبير: والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (2) .

وعلى هذا النسق - وربما استلهامًا لقصة الزبير أو استنادا إليها - جرى عمر رضي الله عنه في حكم مماثل ، روى البيهقي وغيره واللفظ للبيهقي ، قال (3) :

"أخبرنا أبو زكرياء، حدثنا أبو العباس، أنبأ الربيع، أنبأ الشافعي، أنبأ مالك ، عن عمرو بن يحيى المازني ، عن أبيه ، أن الضحاك بن خليفة ساق خليجا له من العريض (4) فأراد أن يمره في أرض لمحمد بن مسلمة محمد بن مسلمة رمز له ابن حجر في (تهذب التهذيب. ج:9. ص: 454 و455. ترجمة: 737) بأنه روى عنه الجماعة ، وترجم له بأنه محمد بن مسلمة بن سلمة بن حريش الخزرجي الأنصاري الحارثي أبو عبد الله ، ويقال: أبو عبد الرحمن وأبو سعيد المدني ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعنه ابنه محمود والمسور بن مخرمة وسهل بن أبي سلمة وأبو بردة بن أبي موسى وقبيصة بن ذؤيب والأعرج وضبيعة بن حصين وعروة بن الزبير وغيرهم.

(1) الشراج بكسر الشين جمع شرجة ، وهي مسيل الماء

(2)

الآية: (65) سورة النساء.

(3)

السنن الكبرى. ج: 6. ص: 157.

(4)

عريض بتصغير عرض بفتح العين أو ضمها واد بالمدينة ، ذكر في المغازي: "خرج أبو سفيان من مكة حتى بلغ العريض ، ثم انطلق هو وأصحابه هاربين إلى مكة ، وقد ورد ذكره في الشعر الجاهلي أيضًا ، انظر ياقوت: معجم البلدان: 4. ص: 114.

ص: 1256

ونقل عن ابن عبد البر قوله: كان من أفضل الصحابة وهو أحد الثلاثة الذين قتلوا كعب بن الأشرف ، استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته على المدينة ، ولم يشهد الجمل ولا صفين ، ونقل عن ابن سعد قوله: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح ، وعن البرقي قوله: توفي سنة اثنتين وأربعين ، وعن المدائني وجماعة مات سنة ثلاث وهو ابن سبع وسبعين سنة ، وقيل: سنة ست ، وقيل: سنة سبع وأربعين.

قال ابن حجر: وروى يعقوب بن سفيان في تاريخه أن شاميًا من أهل الأردن دخل عليه داره فقتله ، وقال ابن شاهين عن ابن أبي داود: قتله أهل الشام ، ولم يعين السنة ، لكونه اعتزل عن معاوية في حروبه رضي الله عنه وأرضاه. فأبى محمد ، فكلم فيه الضحاك (1) عمر بن الخطاب رضي الله عنه فدعا محمد بن مسلمة ، فأمره أن يخلي سبيله ، فقال محمد بن مسلمة: لا. فقال عمر رضي الله عنه: لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافعًا ، تشرب به أولًا وآخرًا ، ولا يضرك؟ فقال محمد: لا. فقال عمر رضي الله عنه: لم تمنع؟ والله ليمرن به ولو على بطنك.

وتعقبه البيهقي بقوله: هذا حديث مرسل ، وبمعناه رواه أيضًا يحيى بن سعيد الأنصاري ، وهو أيضًا مرسل ، وقد روي في معناه حديث مرفوع.

قلت: لا يضيره الإرسال ، فكل من يحيى بن عمارة بن أبي حسن الأنصاري المدني "من الثالثة "، وابنه عمرو من السادسة ، ويحيى بن سعيد ، سواء كان الأشدق "من الثالثة " أو القطان من كبار التاسعة ، ثقات ، روى عنهم الستة ، فلا يغمز عندنا الإرسال فيما يرسل هؤلاء وأئمتهم الكبار.

وسنسوق مزيدًا من الأمثلة المتسقة مع هذه حين نعرض لما خوله الله الإنسان من اختصاص التصرف في المتنقل من المال.

(1) رمز له ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج: 4. ص: 444. ترجمة: 773) : بأنه روى عنه الأربعة ، وقال عنه: الضحاك بن سفيان الكلابي أبو سعيد له صحبة ، كان ينزل نجدا ، ويقال: لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة بعثه على بني كلاب لجمع صدقاتهم ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كتب إليه أن يورث أشيم الضبابي من دية زوجها ، وروى عنه سعيد بن المسيب ، وليس له في الكتب غيره ، وروى الحسن البصري عنهم حديثا آخر. ثم قال ابن حجر: نسبه ابن السكن وغيره: الضحاك بن سفيان بن عوف بن كعب بن أبي بكر بن كلاب رضي الله عنه وأرضاه.

ص: 1257

ونعتقد أنه قد وضح بما يزيل كل اشتباه والتباس ما توخيناه من إثبات الطبيعة الحقيقية لعلاقة الإنسان بما خوله الله من اختصاص التصرف فيما صار إليه بالطرق المشروعة من المال الثابت والمتنقل وطبيعة العلاقة بين تخويله "اختصاص التصرف" وبين استخلافه بذلك التخويل في تصريف ما خول إليه تصريفًا يلتزم بأمرين؛ العمل على زيادة إعمار الأرض أو - بالتعبير الحديث - التطور الحضاري ، ورعاية المصلحة العامة باعتبارها المهيمنة وحدها على كل تصرف وتصريف فيما استخلف فيه ، وباعتبار المصالح الخاصة لاغية وباطلة إذا تعارضت مع المصلحة العامة؛ لأنها تستحيل عندئذ مفاسد لا ينحصر ضررها وفسادها في المجال العام وحده ، وإنما يصيب أول ما يصيب من يتوهم أنها مصالح خاصة له بتأثير النظرة المحدودة واللبس الحاصل من تصورها بمنظور الأنانية الضيقة.

ولا مراء في أن الشريعة الإسلامية اعترفت بالمصالح الفردية وشرعت لها ما يعصمها عند كل فرد من أفراد المجتمع الإسلامي أو الإنساني من عدوان وتجاوز الآخرين ، بيد أنها حددت هذه الشرعية وما يترتب عنها من عصمة وصيانة بأن لا تكون هي أيضًا أداة تجاوز وعدوان منه على غيره من أفراد المجتمع أو على كيان المجتمع نفسه ، فإذا تجاوزت هذه الحدود انتفت الشرعية؛ لأن المصالح العامة هي معيار كل اعتبار ، والمهيمنة على كل تصرف وتصريف وتشريع. إنها بذاتها قاعدة تشريع ومعيار تشريع؛ لأنها المناط الضابط والمتحكم لمقاصد وغايات كل تشريع.

ونرى أن من أبرز ما يعكس تصرفات السلف طبقًا لهذه القاعدة ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين عمد إلى توسيع كل من المسجد الحرام والمسجد النبوي.

ص: 1258

قال الأزرقي (1) : أخبرني جدي - يعني أحمد بن محمد بن الوليد - قال: أخبرنا مسلم بن خالد ، عن ابن جريج ، قال: كان المسجد الحرام ليس عليه جدارات محاطة ، إنما كانت الدور محدقة به من كل جانب ، غير أن بين الدور أبوابًا ، يدخل منها الناس من كل نواحيه ، فضاق على الناس ، فاشترى عمر بن الخطاب رضي الله عنه دورًا ، فهدمها وهدم على من قرب من المسجد ، وأبى بعضهم أن يأخذ الثمن ، وتمنع من البيع ، فوضعت أثمانها في خزانة الكعبة ، حتى أخذوها بعد، ثم أحاط عليه جدارًا قصيرًا ، وقال عمر: إنما نزلتم على الكعبة ، فهو فناؤها ، ولم تنزل الكعبة عليكم. ثم كثر الناس في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه فوسع المسجد ، واشترى من قوم ، وأبى آخرون أن يبيعوا ، فهدم عليهم ، فصيحوا به ، فدعاهم ، فقال: إنما جرأكم علي حلمي عنكم ، فقد فعل بكم عمر هذا فلم يصح به أحد ، فاحتديت على مثله فصيحتم بي ، ثم أمر بهم إلى الحبس ، كلمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد فتركهم.

وقال الطبري (2) :

"وفي هذه السنة - أعنى سنة سبع عشرة - اعتمر عمر ، وبنى المسجد الحرام فيما زعم الواقدي ، ووسع فيه ، وأقام بمكة عشرين ليلة ، وهدم على أقوام أبوا أن يبيعوا ، ووضع أثمان دورهم في بيت المال حتى أخذوها ".

وقال (3) : "وقال الواقدي: فيها زاد عثمان في المسجد ووسعه ، وابتاع من قوم وأبى آخرون ، فهدم عليهم ، ووضع الأثمان في بيت المال ، فصيحوا بعثمان ، فأمر بهم بالحبس ، وقال: أتدرون ما جرأكم علي ، ما جرأكم علي إلا حلمي ، قد فعل هذا بكم عمر ، فلم تصيحوا به ، ثم كلمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد فأخرجوا ".

(1) أخبار مكة. ج: 2. ص: 65 و66.

(2)

تاريخ الطبري. ج: 4. ص: 68 و69.

(3)

تاريخ الطبري. ج: 4. ص: 251.

ص: 1259

وقال الحاكم (1) : "أخبرنا أبو جعفر بن محمد بن عبد الله البغدادي ، حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن سليمان بن إبراهيم الإسكندراني بمصر، حدثنا أبو يحيى الضرير زيد بن الحسن البصري ، حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن جده ، عن عمر بن الخطاب أنه قال للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((زد في المسجد)) ودارك قريبة من المسجد ، فأعطيناها ، نزدها في المسجد ، وأقطع لك أوسع منها ، قال: لا أفعل. قال: إذن أغلبك عليها. قال: ليس ذاك لك ، فاجعل بيني وبينك من يقضي بالحق. قال: ومن هو؟ قال: حذيفة بن اليمان. قال: فجاؤوا إلى حذيفة ، فقصوا عليه ، قال حذيفة: عندي في هذا خبر ، قال: وما ذاك؟ قال: إن داود النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يزيد في بيت المقدس ، وقد كان بيت قريب من المسجد ليتيم ، فطلب إليه فأبى ، فأراد داود أن يأخذها منه ، فأوحى الله عز وجل إليه أن نزه البيوت عن الظلم لبيتي. قال: فتركه ، فقال العباس: فبقي شيء؟ قال: لا. قال: فدخل المسجد ، فإذا بميزاب للعباس شارع في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسيل ماء المطر منه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر بيده ، فقلع الميزاب ، فقال: هذا الميزاب لا يسيل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال العباس: والذي بعث محمدًا بالحق ، إنه هو الذي وضع الميزاب في هذا المكان ، ونزعته أنت يا عمر؟ فقال عمر: ضع رجليك على عاتقي لترده إلى ما كان هذا. ففعل ذلك العباس ، ثم قال العباس: قد أعطيتك الدار تزيدها في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فزادها عمر في المسجد ، ثم قطع العباس دارًا أوسع منها بالزوراء. وتعقبه بقوله: هذا حديث كتبناه عن أبي جعفر وأبي علي الحافظ عليه ، ولم يكتبه إلا بهذا الإسناد ، والشيخان رضي الله عنهما لم يحتجا بعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ".

قلت: وأغفله الذهبي ، فلم يدرجه في التلخيص.

(1) المستدرك. ج: 3. ص: 331.

ص: 1260

وقال ابن سعد (1) : "أخبرنا يزيد بن هارون ، قال: أخبرنا أبو أمية بن يعلى ، عن سالم أبي النضر ، قال: لما كثر المسلمون في عهد عمر ، ضاق بهم المسجد ، فاشترى عمر ما حول المسجد من الدور ، إلا دار العباس بن عبد المطلب وحجر أمهات المؤمنين ، فقال عمر للعباس: يا أبا الفضل ، إن مسجد المسلمين قد ضاق بهم ، وقد ابتعت ما حوله من المنازل توسع به على المسلمين في مسجدهم إلا دارك وحجر أمهات المؤمنين ، أما حجر أمهات المؤمنين ، فلا سبيل إليها ، وأما دارك فبعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين أوسع بها في مسجدهم. فقال العباس: ما كنت لأفعل. فقال عمر: اختر إحدى ثلاث؛ إما أن تبيعها بما شئت من بيت مال المسلمين ، وإما أن أخططك (2) حيث شئت من المدينة وأبنيها لك من بيت مال المسلمين ، وإما أن تتصدق بها على المسلمين ، فتوسع بها في مسجدهم. فقال: لا ، ولا واحدة منها. فقال عمر: اجعل بيني وبينك من شئت فقال: أبي بن كعب. فانطلقا إلى أبي ، فقصا عليه القصة ، فقال أبي: إن شئتما حدثتكما بحديث سمعته عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقالا: حدثنا. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله أوحى إلى داود أن ابْنِ لي بيتًا أذكر فيه. فخط له هذه الخطة ، خطة بيت المقدس ، فإذا تربيعها بيت رجل من بني إسرائيل ، فسأله داود أن يبيعه إياه ، فأبي ، فحدث داود بنفسه أن يأخذ منه ، فأوحى الله إليه أن يا داود أمرتك أن تبني لي بيتًا أذكر فيه ، فأردت أن تدخل في بيتي الغصب ، وليس من شأني الغصب ، وإن عقوبتك أن لا تبنيه. قال: يا رب ، فمن ولدي. قال: من ولدك)) . قال: فأخذ عمر بمجامع ثياب أبي بن كعب ، وقال: جئتك بشيء ، فجئت بما هو أشد منه لتخرجن مما قلت فجاء يقوده حتى أدخله المسجد ، فأوقفه على حلقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيهم أبو ذر ، فقال: إني نشدت الله رجلا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر حديث بيت المقدس حيث أمر الله داود أن يبنيه إلا ذكره. فقال أبو ذر: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال آخر: أنا سمعته. وقال آخر: أنا سمعته - يعنى من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأرسل عمر أبيا ، قال: وأقبل أبي على عمر ، فقال: يا عمر ، أتتهمني على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عمر: يا أبا المنذر ، لا والله ما اتهمتك عليه ، ولكني كرهت أن يكون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرًا. قال: وقال عمر للعباس: اذهب فلا أعرض لك في ذلك. فقال العباس: أما إن فعلت هذا ، فإني قد تصدقت بها على المسلمين أوسع عليهم بها في مسجدهم ، فأما وأنت تخاصمني ، فلا. قال: فخط عمر لهم دارهم التي هي لهم اليوم ، وبناها من بيت مال المسلمين.

(1) الطبقات ج:4 ص: 21 وما بعدها

(2)

لعل الصواب: أن أخطط لك

ص: 1261

قال: أخبرنا سليمان بن حرب وعارم بن الفضل ، قالا: حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس قال: كانت للعباس بن عبد المطلب دار إلى جنب المسجد بالمدينة ، فقال عمر: هبها لي أو بعنيها ، حتى أدخلها في المسجد ، فأبى. قال: فاجعل بينى وبينك رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعلا أبي بن كعب بينهما ، قال: فقضى أبي على عمر. قال: فقال عمر: ما في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أجرأ علي من أبي ، قال: أو أنصح لك يا أمير المؤمنين؟ أما علمت قصة المرأة ، أن داود لما بنى بيت المقدس ، أدخل فيه بيت امرأة بغير إذنها ، فلما بلغ حجر الرجال منع بناءه ، فقال: أي رب ، إذ منعتني ففي عقبي من بعدي. فلما كان بعد ، قال له العباس: أليس قد قضيت لي؟ قال: بلى. قال: فهي لك قد جعلتها لله.

وقال السيوطي في الدر المنثور الدر المنثور. ج: 4. ص: 160. قال البخاري (الصحيح. ج: 2. ص: 15 و16) : حدثنا عمرو بن علي ، قال: حدثنا أبو قتيبة ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن أبيه قال: سمعت ابن عمر يتمثل بشعر أبي طالب:

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

وقال عمر بن حمزة: حدثنا سالم ، عن أبيه ، ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي ، فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب.

ص: 1262

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

وهو قول أبي طالب.

حدثنا الحسن بن محمد ، قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، قال: حدثني أبي عبد الله بن المثنى ، عن ثمامة بن عبد الله بن أنس ، عن أنس ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب ، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال: فيسقون.

وقال (الصحيح. ج: 4. ص: 209) : حدثنا الحسن بن محمد، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثني أبي عبد الله بن المثنى ، عن ثمامة بن عبد الله بن أنس ، عن أنس رضي الله عنه ، أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب ، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال: فيسقون.

وقال ابن سعد (الطبقات. ج: 4. ص: 28 و29) : أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، قال: حدثني أبي ، عن ثمامة بن عبد الله ، عن أنس بن مالك ، أنهم كانوا إذا قحطوا على عهد عمر خرج بالعباس فاستسقى به ، وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا عليه السلام إذا قحطنا ، فتسقينا ، وإنما نتوسل إليك بعم نبينا عليه السلام ، فاسقنا.

أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء ، قال: حدثنا عمرو بن أبي المقدام ، عن يحيى بن مقلة ، عن أبيه ، عن موسى بن عمر ، قال: أصاب الناس قحط ، فخرج عمر بن الخطاب يستسقي ، فأخذ بيد العباس ، فاستقبل به القبلة ، فقال: هذا عم نبيك عليه السلام جئنا نتوسل به إليك ، فاسقنا. قال: فما رجعوا حتى سقوا.

أخبرنا محمد بن عمر ، قال: حدثني عبد الله بن محمد بن عمر بن حاطب ، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، عن أبيه قال: رأيت عمر آخذًا بيد العباس ، فقام به ، فقال: إنا نستشفع بعم رسولك صلى الله عليه وسلم إليك. .- بعد أن نقل عن ابن سعد الروايتين السابقتين لحديث عمر مع العباس -:

ص: 1263

وأخرج عبد الرزاق في المصنف ، عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال: أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يأخذ دار العباس بن عبد المطلب ، يزيد بها في المسجد ، فأبى العباس رضي الله عنه أن يعطيها إياه ، فقال عمر رضي الله عنه: لآخذنها. قال: اجعل بيني وبينك أبي بن كعب ، قال: نعم ، فأتيا أبيا ، فذكرا له، فقال أبي رضي الله عنه: أوحى الله إلى سليمان بن داود عليه السلام أن يبني بيت المقدس ، وكانت أرضًا لرجل ، فاشترى منه الأرض ، فلما أعطاه الثمن ، قال: الذي أعطيتني خير أم الذي أخذت مني؟ قال: بل الذي أخذت منك ، قال: فإني لا أجيز. ثم اشتراها منه بشيء أكثر من ذلك ، فصنع الرجل مثل ذلك مرتين أو ثلاثًا ، فاشترط عليه سليمان عليه السلام أني أبتاعها منك على حكمك ، ، ولا تسألني أيهما خير. قال: نعم. فاشتراها بحكمه ، فاحتكم اثني عشر ألف قنطار ذهبًا ، فتعاظم ذلك سليمان أن يعطيه ، فأوحى الله إليه إن كنت تعطيه من شيء هو لك ، فأنت أعلم ، وإن كنت تعطيه من رزقنا فأعطه حتى يرضى. قال: ففعل. قال: وإني أرى أن عباسًا رضي الله عنه أحق بداره حتى يرضيه. قال العباس رضي الله عنه: فإن قضيت ، فإني أجعلها صدقة على المسلمين.

وأخرج عبد الرزاق ، عن زيد بن أسلم ، قال: كان للعباس بن عبد المطلب دار إلى جنب مسجد المدينة ، فقال عمر رضي الله عنه: بعنيها ، وأراد عمر أن يدخلها في المسجد ، فأبى العباس أن يبيعها إياه ، فقال عمر رضي الله عنه: فهبها لي. فأبى ، فقال عمر: فوسعها أنت في المسجد. فأبى ، فقال عمر: لا بد لك من إحداهن ، فأبى عليه ، قال: فخذ بيني وبينك رجلًا. فأخذا أبي بن كعب ، واختصما إليه ، فقال أبي لعمر: ما أرى أن تخرجه من داره حتى ترضيه. فقال عمر: أرأيت قضاءك هذا في كتاب الله أم سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أبي: بل سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عمر: وما ذاك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن سليمان بن داود لما بنى بيت المقدس ، جعل كلما بنى حائطًا أصبح منهدما ، فأوحى الله إليه أن في حق رجل حتى ترضيه. فتركه عمر رضي الله عنه ، فوسعها العباس رضي الله عنه بعد ذلك في المسجد")) .

ص: 1264

قلت: حاول البعض أن يستظهر بحديث عمر والعباس هذا ، لما ذهب إليه من عدم جواز الملك للمصلحة العامة ، وأنه ولا بد من استرضاء المالك ، فإن لم يرض ، فلا سبيل إلى أحد أيا كان إلى ما يملك ، وإن تعينت المصلحة العامة واستحال إنجازها بغير الحصول على ملك ذلك المتعنت ، وهو استدلال خاطئ من وجوه: أحدها: أن عمر قال للعباس في رواية الحاكم حين أبى أن يبيعها أو يتصدق بها أو يعارض عليها: إذن أغلبك عليها. وقال له في إحدى الروايات التي نقلها السيوطي عن عبد الرزاق: لآخذنها. قال: فاجعل بيني وبينك أبي بن كعب. الحديث.

وفي رواية أخرى نقلها السيوطي عن عبد الرزاق لم ترد كلمة "لآخذنها"، أو "إذن أغلبك عليها"، أو ما في معناهما ، وإنما وردت كلمة لا بد لك من إحداهن أي: البيع أو المعارضة أو الصدقة ، ووردت على لسان العباس كلمة "خذ بيني وبينك رجلًا ". وفي هذه الرواية أن عمر هو الذي أخذ أبي بن كعب ، وسنعود بعد قليل إلى هذا الاضطراب، أما الذي يعنينا الآن ، فهو أن "التحكيم " جاء حسب ثلاث من هذه الروايات بعد إنذار أو ما يشبهه من عمر للعباس رضي الله عنهما بانتزاع ملكية الدار استجابة للمصلحة العامة التي تعينت بالضرورة لحاجة المسلمين ، وقد كثروا إلى توسيع المسجد النبوي ، وأن التحكيم كان نتيجة للتراضي بينهما ، وهذا يعنى أن عمر لم يتزحزح عن مبدأ حق الإمام في انتزاع الملك للمصلحة العامة أو للضرورة ، وإن رضي قبل تطبيقه بالتحكيم ما زال عند حكم الحكم احترامًا للحكم أو للعباس أو لهما معًا وللصحابة الذين شهدوا بصحة رواية أبي ، أو على أمل أن يتراجع العباس عن تصلبه إذ أدرك عمر - من قبوله أو اقتراحه التحكيم أن تصلبه ذاك إنما كان مصدره إباء العباس من أن يفرض عليه أمر ، وإصراره على أن لا يتأمر عليه أحد وعلى أن تكون له الكلمة العليا فيما يتصل بشؤونه الخاصة أو ما يراه متصلًا بشؤونه الخاصة، ولكي ندرك وجاهة هذا الاحتمال ينبغي أن نستحضر ما رواه أصحاب السنن من توسل عمر بالعباس في "الاستسقاء "(1) بعد لحاق الرسول صلى الله

عليه وسلم بالرفيق الأعلى باعتباره عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيط به العباس من إجلال وتبجيل حتى لقد احتمل زكاته وجعلها في ذمته (2) عندما أخبروه بامتناع العباس من إخراجها مما هو مبسوط في كتب السنة والمناقب بطرق لا سبيل إلى الغمز فيها ، وما كان مثل هذا التبجيل ليخفى على عمر ، وما كان ليغفل عنه ، وهو يواجه الخلاف بينه وبين العباس على إضافة دار العباس إلى المسجد النبوي، ثم إن العباس كان رجلًا مهيبًا (3) قوي الاعتداد بنفسه ، لا يكاد يقبل أن ترد له كلمة ، ولا يكاد أحد يجرؤ على أن يردها له ، وذلك مستفيض في أبواب المناقب من مدونات السنن وفضلًا عن ذلك كله ، فقد درج أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على ملاطفة بني هاشم ملاطفة استثنائية - والعباس عميدهم لسنه - راعيا لما هجس في خواطر بعضهم - ربما في خواطرهم جميعًا - من خروج الخلافة منهم ، وكانوا يأملون فيها؛ لأنهم أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طالبوه به غفلة منهم عن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور:((نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)) قال البخاري (ج: 4. ص: 209 و210) : حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب ، عن الزهري قال: حدثني عروة بن الزبير ، عن عاثشة رضي الله عنها ، أن فاطمة عليها السلام أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من النبي صلى الله عليه وسلم فيما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم تطلب صدقة النبي صلى الله عليه وسلم التي بالمدينة وفدك ، وما بقي من خمس خيبر ، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا نورث ما تركنا فهو صدقة)) إنما يأكل آل محمد من هذا المال - يعنى مال الله - ليس لهم أن يزيدوا على المأكل ، وإني والله لا أغير شيئًا من صدقات النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت عليها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولأعملن فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتشهد علي ، ثم قال: إنا قد عرفنا يا أبا بكر فضيلتك ، وذكر قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقهم ، فتكلم فقال: والذي نفسي بيده ، لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي.

أخبرني عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا خالد ، حدثنا شعبة ، عن واقد قال: سمعت أبي يحدث ، عن ابن عمر ، عن أبي بكر رضي الله عنهم قال: ارقبوا محمدا في أهل بيته.

ورواه من هذه الطريق ، ومن أخرى غيره من أصحاب السنن والمؤرخين ، والحديث أشهر من أن نفيض في تخريجه

(1) سيأتي بيانه بعد قليل.

(2)

سيأتي بيانه بعد قليل

(3)

قال الذهبي (سير أعلام النبلاء ج: 2. ص: 79. ترجمة: 11) : قال الكلبي: كان العباس شريفًا مهيبًا عاقلًا جميلًا أبيض بضًا ، له ضفيرتان معتدل القامة.

ص: 1265

ثم إن عمر ما كان ليخفى عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقالة عثرات ذوي الهيئات قال أبو داود (السنن. ج: 4. ص: 133. ح: 4375) : حدثنا جعفر بن مسافر ومحمد بن سليمان الأنباري ، قالا: أخبرنا ابن أبي فديك ، عن عبد الملك بن زيد - نسبه جعفر إلى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل - عن محمد بن أبي بكر ، عن عمرة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم ، إلا الحدود)) .

وذكر المزي (تحفة الأشراف. ج: 12. ص: 413. ح: 17912) أن النسائي أخرجه في السنن الكبرى: حديث: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)) .

زاد ابن أبي فديك: ((إلا الحدود)) . (في الحدود 3:4) عن جعفر بن مسافر والأنباري ، كلاهما عن ابن أبي فديك ، عن عبد الملك بن زيد - نسبه جعفر إلى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل - عن محمد بن أبي بكر به. س في الرجم (الكبرى 22: 1) عن إبراهيم بن يعقوب ، عن سعيد بن أبي مريم ، عن عطاف بن خالد ، قال: أخبرني عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر ، عن أبيه به.

روي عن محمد بن أبي بكر ، عن أبيه ، عن عمرة. وسيأتي.

وقال (تحفة الأشراف. ج: 12 ص: 431. ح: 17956) فقال على التوالي: حديث: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)) . س في الرجم (الكبرى 32: 5) عن إبراهيم بن يعقوب ، عن عبد الله بن يوسف ، عن عبد الرحمن بن أبي الرجال ، عن ابن أبي ذئب ، عن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، عن ابن حزم به.

عن عبد الملك بن زيد المدني ، عن محمد بن أبي بكر بن حزم ، عن أبيه ، وزاد:((إلا الحدود))

و (23: 6) عن يونس بن عبد الأعلى ، عن معن بن عيسى ، عن ابن أبي ذئب ، عن عبد العزيز بن عبد الله ، عن أبي بكر بن حزم به. ولم يذكر عائشة.

و (32: 4) عن هلال بن العلاء ، عن عبد الله بن قعنب ، عن ابن أبي ذئب ، عن

عبد العزيز بن عبد الملك ، عن محمد بن أبي بكر ، عن أبيه به. مرسل.

و (3:32) عن محمد بن حاتم ، عن سويد بن نصر ، عن عبد الله بن المبارك ، عن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر ، عن محمد بن أبي بكر ، عن أبيه ، عن عمرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم:((تجاوزوا عن زلة ذي الهيئة)) . وهو عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، روى عن محمد بن أبي بكر بن حزم ، عن عمرة ، عن عائشة. وقد مضى - ح (17912) ، ورواه أبو عروبة الحراني ، عن إبراهيم بن أبي الوزير ، عن أبي بكر بن نافع المدني ، عن محمد بن عمارة ، عن عمرة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 1266

وأخرجه البيهقي (السنن. ج: 8. ص: 267) : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو طاهر الفقيه وأبو العباس أحمد بن محمد الشاذياخي في آخرين ، قالوا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، أنبأنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، حدثني عبد الملك بن زيد ، عن محمد بن أبي بكر بن حزم ، عن أبيه ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم ، إلا حدا من حدود الله)) .

وقال (السنن. ص: 334) على التوالي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن بالويه المزكي ، قالا: حدثنا الإمام أبو الوليد حسان بن محمد القرشي ، حدثنا جعفر بن محمد بن الحسين، حدثنا يحيى بن أبي يحيى ، أنبأ أبو بكر بن نافع المديني ، عن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، قال: قالت عمرة: قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقيلوا ذوي الهيئات زلاتهم)) .

أخبرنا أبو سهل أحمد بن محمد بن إبراهيم المهراني المزكي وأبو العباس أحمد بن محمد الشاذياخي وغيرهما ، قالوا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا محمد بن إسماعيل ، عن ابن أبي فديك ، حدثنا عبد الملك بن زيد ، عن محمد بن أبي بكر بن حزم ، عن أبيه ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عاثشة أنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم ، إلا حدًا من حدود الله))

وكذلك رواه دحيم وأبو الطاهر بن السرح ، عن ابن أبي فديك. ورواه جماعة عن ابن أبي فديك دون ذكر أبيه فيه ، فالله أعلم.

والعباس في الصدارة من ذوي الهيئات بلا مراء.

من أجل ذلك كله نرى أن عدول عمر عن المصادرة إلى التحكيم ثم قبوله بالحكم إنما ينهض دليلًا لنا وليس علينا.

ص: 1267

فالمصادرة كانت هي الأساس لرأي عمر وموقفه والعدول عنها كان استثناء، ونعتقد أن العباس رضي الله عنه إذا صحت الروايات التي نقلناها آنفًا - كان مدركًا لذلك ، وكان عازمًا من أول الأمر على النتيجة التي انتهى إليها آخره ، وهي أن يتصدق بداره على المسلمين، بيد أنه أراد أن يثبت لعمر أنه وإن يكن خليفة للمسلمين لا سبيل له إليه ، وربما ولا إلى غيره من بنى هاشم ما دام حيًا ، ثم إن عمر أثار في نفس العباس ما حمله على التصلب لما ذكر له أن حجر أمهات المؤمنين - وهي مثل دار العباس ملاصقة للمسجد - لا سبيل إليها ، وما كان العباس في أنفته ومكانه المتميز عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرضى بأن يكون أدنى منزلة من أمهات المؤمنين في تقدير عمر ورعايته.

الوجه الثاني: أن هذا الحديث مضطرب اضطرابًا شديدًا لفظًا وسندًا ، فقد وصله الحاكم عن طريق زياد بن أسلم ، لكن ما نقله السيوطي عن عبد الرزاق كان مرسلًا ، سواء كان عن زيد بن أسلم نفسه ، أو عن سعيد بن المسيب ، وقد جهدت أن أعثر في مصنف عبد الرزاق على ما نقله عنه السيوطي ، فلم أهتد إليه في مظانه من المصنف ، وأخشى أن يكون السيوطي قد أغفل بعض رجال سند عبد الرزاق ، وذلك اعتمادًا على بعض التصرف الذي يظهر أنه من السيوطي فيما نقله عن ابن سعد.

ومهما يكن ففي الروايات المختلفة لهذا الأثر تغاير ، يعسر تدارك بعضه ، فبعضها ينص على أن عمر ترك إلى العباس أن يختار حكما ، فاختار أبيا على حين ينص غيره على أن عمر اختار أبيا فقبله العباس ، وتأتي رواية الحاكم الموصولة ، فتذكر أن الحكم كان حذيفة بن اليمان ، وليس أبيا ، وإن احتفظت بما نقل على لسان أبي من حديث بناء بيت المقدس. ثم إن ما ذكرته هذه الروايات وغيرها مما نقل السيوطي عن الواسطي وابن مردويه بعد حديث عمر عن قصة بناء بيت المقدس شديد الاضطراب، فبعضها يتحدث عن بيت امرأة أراد داود أن يأخذها غصبًا ، وبعضها الآخر يتحدث عن أرض أغلى صاحبها ثمنها ، فأراد داود أن يأخذها غصبًا. وأخرى تتحدث عن أن سبب عدم بناء داود بيت المقدس وأرجائه إلى سليمان هو أن داود بنى لنفسه بيتًا قبل أن يأخذ في بناء بيت المقدس ، فعاقبه الله بالحرمان من البناء، ثم إن بعضها يذكر أن داود أو سليمان شرع في البناء ، وكلما بنى حائطًا وجده قد انهدم صباح اليوم الثاني؛ لأنه كان يبني في أرض يملكها مالك لم يستأمره في شأنها ، فضلًا عن أن يتم الاتفاق معه على ثمنها. فليت شعري ما هو الاضطراب إن لم يكن هذا الذي أشرنا إلى بعض منه في هذا الحديث.

ص: 1268

والثالث: أنه حتى لو لم يضطرب هذا الحديث على هذه الشاكلة ، فإن في بعض من وصلوه عند الحاكم ينزل بسنده عن درجة الصحة على أيسر اعتبار ، وفي روايتي ابن سعد وأستاذه الواقدي ، وكفى به سببًا للنزول بالحديث عن مستوى درجة الصحة ، فضلًا عن كلام في بعض رجاله أيضًا.

وقد يقال: وإذن فما فائدة إيراده في هذا البحث ، وجوابنا أن الفائدة من إيراده هي أولا تبيان عدم حجيته وخطأ الذين احتجوا به، وثانيًا: تبيان أنه حتى على فرض صحة الاحتجاج به يدل بفحواه على ما نذهب إليه من تحكيم المصلحة العامة فيما قد يتراءى مصلحة خاصة ، وأن اعتبارها يعلو فوق كل اعتبار غيرها ، وثالثًا: تبيان الجهة التي يكون لها الاختصاص بالأصالة في تقدير المصلحة العامة وتعيينها وتحديد ظروفها ومقتضياتها ، وهي ما أطلق عليه الفقهاء والأصوليون (حق الإمامة) أو (حق الإمام) ، وكان لهم فيه كلام طويل ، وأحيانًا متغاير ، بيد أنه لم يختلفوا في جوهره ، وإنما انحصر اختلافهم في تطبيقه عامة ، وفيما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يعتبره بعضهم تطبيقًا لهذا الحق ، بينما يعتبره آخرون من الفتوى أو من التشريع ، وليس هذا مجال مناقشتهم في اعتباراتهم التطبيقية هذه ، إنما عرضنا لها لبيان أن (حق الإمامة) في جوهره ليس محل خلاف معتبر ولا التفاتة شذوذ بعض المتفقهة والأثر المروي عن قصة عمر مع العباس وتوسيع الحرم النبوي ، نرجح أن له أساسًا ، وأن ما ألمعنا إليه آنفًا من اضطراب أسانيده وبعض ألفاظه لا ينفي أن يكون له أساس ، فلا مراء في أن عمر وسع المسجد النبوي ، وأدخل فيه بيوتًا كانت حوله لما كثر المسلمون في المدينة كما فعل في الحرم المكي، ولا مراء في أن عثمان فعل ذلك في الحرمين معًا ، وحاج بعض الناقمين عليه فيما آخذوه به من إجباره أرباب البيوت المجاورة للمسجدين على قبول التعويض عن بيوتهم وتركها بأنه لم يخرج عن سنة سنها عمر ، وأنهم استضعفوه فنقموا عليه ، وكانوا يرهبون عمر ، فلم يستطيعوا أن ينقموا عليه.

ص: 1269

وتصرف عمر مع العباس وعدوله عن إكراهه إلى التحكيم بينهما لا يختلف في جوهره حكما عن تصرفه مع غيره في مكة أو في المدينة مما اضطرهم اضطرارًا إلى التخلي عن بيوتهم لما تعينت المصلحة العامة في توسيع الحرمين الشريفين، ففي الموقفين تصرف بمقتضى (حق الإمامة) أو (حق الإمام) ، ولا يوجد ما يلزم الإمام شرعًا بأن يكون تصرفه مع الناس على اختلاف مراتبهم ومواقعهم متماثلًا شكلًا. إنما الذي يلزم الإمام شرعًا أن يزن تصرفه معهم جميعًا متماثلًا في جوهره. أما أسلوب التصرف فموكول إلى اجتهاده ما من عاقل أو فقيه واع يستطيع أن يماري في ذلك.

ونحسب أن تصرف عمر مع العباس تصرفًا قائما على اعتبار موقعه في المجتمع الإسلامي واحترامه لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس غريبًا عن حالة نفسية سابقة كانت بينه وبين العباس لا نعرف أول منشئها ، ولكنا نعرف أنه كانت من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عهد إلى عمر بجباية الصدقة.

قال أبو عبيد (1) :

"حدثنا يزيد ، عن حجاج بن أرطاة ، عن الحكم بن عتبة ، قال:((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة ، فأتى العباس يسأله صدقة ماله ، فقال: قد عجلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة سنتين، فرفعه عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: صدق عمي ، قد تعجلنا منه صدقة سنتين)) .

قال أبو عبيد: كان هشيم يزيد في إسناد هذا الحديث عن منصور ، عن الحكم ، عن الحسن بن مسلم: حدثت بذلك عنه ولا أحفظه منه.

وحدثونا عن إسماعيل بن زكريا ، عن الحجاج بن دينار ، عن الحكم بن حجية بن عدي ، عن علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ، أن النبي صلى الله عليه وسلم تعجل من العباس صدقة سنتين.

وقال ابن زنجويه (2) :

(1) الأموال. ص: 776 و777. ح: 1884 و1885.

(2)

الأموال. ج: 3. ص: 78. ج: 2207 و2208.

ص: 1270

حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا الحجاج ، عن الحكم ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمر على الصدقة، فأتى العباس يسأله صدقة ماله ، فقال: قد عجلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة سنتين. فتجهم له عمر ، وأغلظ عليه ، فرافعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: صدق يا عمر ، قد تعجلنا منه صدقة سنتين)) .

وأنبأ يحيى بن يحيى، أخبرنا هشيم ، عن منصور ، عن الحكم ، عن الحسن بن مسلم قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة ، فأتى على العباس يأخذ صدقة ماله، فتجهمه العباس ، فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((يا عمر، أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه؟ إنا تعجلنا صدقة العباس العام عام الأول)) .

على أن هذا الحديث الذي رواه غيرهما أيضًا لم تخل أسانيده وألفاظه من كلام نؤثر - لتبيان رتبة الاحتجاج به وللمقارنة بينه وبين حديث آخر سندرجه بعد قليل - أن ننقل كلامًا جامعًا دقيقًا لابن حجر في تحقيقه قال (1) : "حديث علي: أن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل ، فرخص له.

أحمد وأصحاب السنن والحاكم والدارقطني والبيهقي من حديث الحجاج بن دينار عن الحكم ، عن حجية بن عدي ، عن علي.

ورواه الترمذي من رواية إسرائيل ، عن الحكم ، عن حجر العدوي ، عن علي ، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه على الحكم ، ورجح رواية منصور عن الحكم ، عن الحسن بن مسلم بن يناق ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا ، وكذا رجحه أبو داود ، قال الشافعي: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تسلف صدقة مال العباس قبل أن تحل ، ولا أدري أثبت أم لا. قال البيهقي: وعنى بذلك هذا الحديث ، ويعضده حديث أبي البختري ، عن علي ، أن النبي صلى الله عليه

وسلم قال: ((إنا كنا احتجنا فاستسلفنا العباس صدقة عامين)) رجاله ثقات ، إلا أن فيه انقطاعًا ، وفي بعض ألفاظه أن النبي قال لعمر:((إنا كنا تعجلنا صدقة مال العباس عام أول)) رواه أبو داود الطيالسي.

(1) تلخيص الحبير. ج: 2. ص: 160. ح: 832 و833.

ص: 1271

ثم قال:

"روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تسلف من العباس صدقة عامين، الطبراني والبزار من حديث ابن مسعود به ، وزاد: في عام. وفي إسناده محمد بن ذكوان ، وهو ضعيف ، ورواه البزار وابن عدي والدارقطني من حديث الحسن بن عمارة ، عن الحكم ، عن موسى بن طلحة ، عن أبيه نحوه. والحسن متروك ، وقد خالف الناس عن الحكم فيه ، كما تقدم في الحديث الماضي، ورواه الدارقطني أيضًا من حديث العرزمي ومندل بن علي ، عن الحكم بن مقسم ، عن ابن عباس في هذه القصة ، وهما ضعيفان أيضًا ، والصواب: عن الحكم ، عن الحسن بن مسلم بن يناق مرسلًا ، كما مضى.

قلت: ورواه ابن أبي شيبة (1) وفيه انقطاع ، قال: "حدثنا حفص بن غياث ، عن حجاج ، عن الحكم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ساعيًا على الصدقة ، فأتى العباس يتسلفه ، فقال له العباس: إني أسلفت صدقة مالي سنتين. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: صدق عمي.

لكن ابن زنجويه في روايته السابقة وصله عن علي ، ووصله الدارقطني في بعض رواياته عن ابن عباس ، ولم نسق هذا الحديث لتحقيقه سندًا ومتنا ، وكنا سنصرف عنه النظر لولا أنهم اعتمدوه في الاحتجاج على جواز تعجيل الزكاة قبل

أوانها إذا وجد سبب وجودها ، ولولا أنه لبس على البعض أمره مع حديث أهم منه ، سندرجه بعد قليل.

والذي يعنينا منه الجانب النفسي الذي عبرت عنه رواية ابن زنجويه عن حجاج عن الحكم إذ جاء فيها: "فتجهم له عمر ، وأغلظ عليه. وروايته الأخرى من طريق منصور ، عن الحكم ، عن الحسن بن مسلم ، وفيها: "فتجهمه العباس " وهذه تماثل أو تقرب من رواية للدارقطني (2) ولفظها:

(1) الكتاب المصنف. ج: 3. ص: 148.

(2)

السنن. ج: 2. ص: 114.

ص: 1272

"حدثنا محمد بن أحمد بن عمرو بن عبد الخالق، حدثنا إبراهيم بن محمد بن نائلة الأصبهاني، حدثنا محمد بن المغيرة، حدثنا النعمان بن عبد السلام ، عن محمد بن عبيد الله ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال:((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر ساعيًا ، قال: فأتى العباس يطلب صدقة ماله ، قال: فأغلظ له العباس ، فخرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن العباس قد أسلفنا زكاة ماله العام والعام المقبل)) .

حدثنا محمد بن مخلد ومحمد بن جعفر المطيري ، قالا: أخبرنا أبو خراسان محمد بن أحمد بن السكن، حدثنا موسى بن داود، حدثنا مندل بن علي ، عن عبيد الله ، عن الحكم ، وقال المطيري: عن عبيد الله بن عمر ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن

ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمر على الصدقة ، فرجع وهو يشكو العباس ، فقال: إنه منعني صدقته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عمر أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه ، إن العباس أسلفنا صدقة عامين في عام)) كذا قال: عن عبيد الله بن عمر ، وإنما أراد: محمد بن عبيد الله. والله أعلم.

حدثنا محمد بن عبد العزيز، حدثنا عبد الله بن محمد بن أبان، حدثنا أبو داود ، عن شريك ، عن إسماعيل ، عن سليمان الأحول ، عن أبي رافع ، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمر ساعيًا ، فكان بينه وبين العباس شيء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه، إن العباس أسلفنا صدقة العام عام أول)) .

فجميع هذه الروايات تثبت أن جوا من التوتر حدث بين عمر والعباس ، وأغلبها تثبت أن التجهم والإغلاظ كان من العباس ، وبعضها - وفيه تحريف فيما نرجح - يثبت أنه ما كان من عمر ، والمهم أنهما كانا بين الرجلين ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عذر العباس إن يكن هو المتجهم المغلظ ، واعتذر لعمر أو عاتب عمر برفق إن يكن منه التجهم والإغلاظ ، وبين له كيف ينبغي أن يعامل العباس ، فهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والعم صنو الأب.

ص: 1273

سيقول من يغلو في توقير الصحابة فيرفعهم نفسيا عن طبيعة البشر: إنه لا ينبغي اعتبار مثل هذه الحادثة مؤثرًا نفسيا. وجوابنا أن الصحابة رضوان الله عليهم صفوة البشر بعد الأنبياء ، بيد أنهم من البشر على كل حال ، ولا يبعد أن يعلق في أنفسهم بعض ما يعلق في أنفس عامة البشر من المواجد ، وقد ألمعنا آنفًا إلى طبيعة العباس المتميزة بشدة الإباء والنخوة.

وقد أثرنا من قبل إلى لبس وقع فيه بعض الفقهاء وشراح الحديث فيما يحققون هذه القصة ويستنبطون منها الحكم في تعجيل الصدقة ، ومرده إلى ما نحسبه قصة أخرى - إذا ثبتت القصة الأولى - وهي أصح سندًا ومتنا ، رواها كل من عبد الرزاق وأحمد والبخاري ومسلم وأبي داود والنسائي والدارقطني والبيهقي ، وهذه رواياتهم على التوالي:

قال عبد الرزاق (1) :

"عن ابن جريج ، قال: حدثت حديثًا رفع إلى عبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب الناس في الصدقة ، فأتي فقيل: يا رسول الله ، هذا أبو جهم وخالد بن الوليد وعباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد منعوا الصدقة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((ما ينقم منا أبو جهم إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله ورسوله ، وأما خالد بن الوليد ، فقد حبس أدراعه وأعتده في سبيل الله ، وأما عباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي عليه ومثلها معها)) .

وقال أحمد (2) :

"حدثنا علي بن حفص، أخبرنا ورقاء ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة ، فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم النبي صلى الله عليه

وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما نقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله ، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا ، فقد احتبس أدراعه في سبيل الله ، وأما العباس فهو علي ومثلها. ثم قال: أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه)) .

(1) المصنف. ج: 4. ص: 44. ح: 6918.

(2)

الساعاتي الفتح الرباني. ج: 9. ص: 29. ح: 71.

ص: 1274

وقال البخاري (1) :

"حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب ، قال: حدثنا أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة ، فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس بن عبد المطلب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله ورسوله ، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله ، وأما العباس بن عبد المطلب فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي عليه صدقة ومثلها معها)) تابعه ابن أبي الزناد عن أبيه ، وقال ابن إسحاق ، عن أبي الزناد: هي عليه ومثلها معها. وقال ابن جريج: حدثت عن الأعرج بمثله".

وقال مسلم (2) : "حدثني زهير بن حرب، حدثنا علي بن حفص، حدثنا ورقاء ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال:((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة ، فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله ، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا ، قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله ، وأما العباس فهي علي ومثلها معها. ثم قال: يا عمر ، أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه)) .

وقال أبو داود (3) :

"حدثنا الحسن بن الصباح، حدثنا شبابة ، عن ورقاء ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال: ((بعث النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب على الصدقة ، فمنع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرًا فأغناه الله ، وأما خالد بن الوليد فإنكم تظلمون خالدًا ، فقد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله، وأما العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي علي ومثلها. ثم قال: أما شعرت

أن عم الرجل صنو الأب أو صنو أبيه)) .

(1) الصحيح ج: 2. ص: 128.

(2)

على هامش شرح النووي. ج: 7 ص: 56.

(3)

السنن. ج: 2. ص: 115. ح: 1623 و1624.

ص: 1275

حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا إسماعيل بن زكريا ، عن الحجاج بن دينار ، عن الحكم ، عن حجية ، عن علي ، أن العباس سأل النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل ، فرخص له في ذلك. قال مرة: فأذن له في ذلك.

قال أبو داود: روى هذا الحديث هشيم ، عن منصور بن زاذان ، عن الحكم ، عن الحسن بن مسلم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث هشيم أصح.

وقال النسائي (1) : "أخبرني عمران بن بكار ، قال: حدثنا علي بن عياش ، قال: حدثني شعيب ، قال: حدثني أبو الزناد مما حدثه عبد الرحمن الأعرج مما ذكر أنه سمع أبا هريرة يحدث قال: وقال عمر: ((أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة ، فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس بن عبد المطلب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله ، وأما خالد بن الوليد فإنكم تظلمون خالدًا ، قد احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله ، وأما العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي عليه صدقة ، ومثلها معها)) .

أخبرنا أحمد بن حفص ، قال: حدثني أبي ، قال: حدثني إبراهيم بن طهمان ، عن موسى ، قال: حدثنى أبو الزناد ، عن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة قال: ((أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة

)) مثله سواء.

وقال الدارقطنى (2) : "حدثنا أحمد بن محمد بن زياد ، قال: حدثنا عبد الكريم بن هيثم، حدثنا عبيد بن يعيش، حدثنا يوسف بن بكير ، حدثنا ابن إسحاق ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال:((أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة ، فقيل له: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس بن عبد المطلب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله ، وأما خالد ، فإنكم تظلمون خالدًا ، وقد احتبس أدرعه وأعتده ، وأما العباس فهي علي ومثلها معها هي له)) .

وقال البيهقي (3) :

"أخبرنا عبد الله الحافظ، حدثنا أحمد بن جعفر القطيعي ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا أبي، حدثنا علي بن حفص، حدثنا ورقاء ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال:((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه على الصدقة ، فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله ، وأما خالد ، فإنكم تظلمون خالدًا ، قد احتبس أعتده وأدرعه في سبيل الله ، وأما العباس فهي علي ومثلها معها. ثم قال: يا عمر ، أما علمت أن عم الرجل صنو أبيها)) .

ذلك بأن شراح الحديث وبعض الفقهاء اعتبروا القصتين قصة واحدة ، ولهذا الاعتبار وجاهة، فبينهما تماثل في معظم الوقائع ، وإن اختلفتا اختلافًا بينا في بعض وقائعهما ، جعلنا نرجح أنهما قصتان إذا ثبتت القصة الأولى وبرئت من التحريف أو أنهما قصة واحدة وقع فيها تحريف عند بعض الرواة لاعتبارات سياسية ، فبين رواة القصة الأولى من عرف بالتشيع وأغلبهم فيهم كلام.

(1) السنن. ج: 5. ص: 833.

(2)

السنن. ج: 2. ص: 123

(3)

السنن الكبرى. ج: 4. ص: 111.

ص: 1276

وهذه القصة أو هذه الصيغة الثانية لقصة العباس مع عمر هي التي تعنينا بالأساس ليس لإثبات ما إذا كانت الواقعة تتصل بجباية ، وهو الراجح عندنا ، أو بجباية صدقة غير الزكاة ، وهو ما يميل إليه البعض ممن ألمعنا إليهم آنفًا توقيرًا

للصحابة ، وخاصة من كان في مقام عمر والعباس وارتفاعًا بهم عن مستوى البشرية الصرفة وما يلابسها من مكامن وجدانية ، وإنما لتبيان ما تدل عليه من تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى "حق الإمامة " أو "حق الإمام" تصرفًا دأب عمر على الاقتداء به في كثير من أحكامه وتعامله مع الأحداث دأبا حسبه بعض المتفقهة مجرد اجتهاد حتى زعم البعض أن عمر كان ربما عطل نصا قرآنيًا أو حديثًا باجتهاده ، وهو زعم باطل ، كان ينبغي أن يتنزه عنه من ينتسب إلى الدراسات الشرعية أو إلى دراسة آثار الخلفاء الراشدين ومن على شاكلتهم من أئمة الصحابة واستنباط الأحكام الشرعية منها استنباطًا مقصودًا لذاته أو مستهدفًا به نمط من التمييز لتطور الفكر التشريعي أو التوجيه الاجتماعي في العهد الأول من تاريخ الإسلام.

وقبل أن نأخذ في تبيان قاعدة (حق الإمامة) أو (حق الإمام) انطلاقًا من هذه الواقعة ووقائع تشاكلها ، نؤثر أن ننهي إيضاحنا لما في تصرف عمر من اعتبار المصلحة العامة بتأكيد أن قبوله التحكيم بينه وبين العباس واعتماده على حكمه هو باعتباره المرجع الأعلى للقضاء ، إذ هو خليفة المسلمين في تصرفه مع غير العباس في قضايا مماثلة ، كان كلاهما عملًا توخى فيه المصلحة العامة ، بل حفزته إليه المصلحة العامة التي رآها تعلو على كل اعتبار وإن كان احترام حقوق

وحرمة مال عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل إن تصدق العباس بداره بعد التحكيم ، فيه اعتراف ضمني باعتبار المصلحة العامة ، وأنها تعلو عن كل اعتبار غيرها ، فقد كان أيسر للعباس لما حكم الحكم - أبي أو حذيفة - لصالحه أن يحتفظ بجواره للمسجد النبوي ، وأن لا يقبل عنه بديلًا ، أما إذ رضي بأن ينتقل من منزل يجاور فيه ابن أخيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستطيع أن يسمع منه أذان المؤذن ثم يتوضأ ويلحق صلاة الجماعة إلى منزل يحرمه من هاتين المزيتين وغيرهما فما من شك في أن رضاه هذا كان استجابة لما أدركه من تعين المصلحة العامة ، وأن امتناعه من قبل كان لمجرد إرضاء إبائه ونخوته وإقناع عمر بأن ليس له - خلقيا - سلطان على بني هاشم عامة وما فتئت في أنفسهم موجدة من خروج الخلافة من أيديهم ، وعلى عم رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ، وإن يكن خليفة للمسلمين وخليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وله حق السمع والطاعة على الجميع.

ص: 1277

16 -

معالم قاعدة التصرف بحق الإمامة

والتصرف بحق الإمامة قاعدة بعيدة الخطر بالغة الأثر متمادية التطور والتفرع مع تمادي الحضارة في التطور والتنوع وتباين المؤثرات الاجتماعية والسياسية في طبيعة مستجدات الأحداث مع كل طور من أطوارها وكل نوع من أنواعها ، ومع ذلك فلم نقف فيما بين أيدينا من مصادر السلف ومراجع المتأخرين على بحث قائم بذاته يرسم بدقة وشمول معالم هذه القاعدة ومسارها والضوابط التي يجب أن تحكمها إلا ما كان من إلماعات وإلمامات عابرة عارضة في ثنايا أبحاث الأصوليين والفقهاء وروايات المحدثين وآثار النقلة مما لو جمع ونسق جمعًا وتنسيقًا منهجيين لأمكن أن يؤلف مرجعًا يصير إليه الباحث في اجتلاء ضوابط هذه القاعدة وما تفرع أو يمكن أن يتفرع عنها من أحكام.

ولعل من أقرب ما قاله الأصوليون حول هذه القاعدة إلى تجلية بعض معالمها قول القرافي رحمه الله (1) :

"اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام الأعظم والقاضي الأحكم والمفتي الأعلم ، فهو صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة وقاضي القضاة وعالم العلماء، فجميع المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته ، وهو أعظم من كل من تولى منصبًا منها في ذلك المنصب إلى يوم القيامة. فما من منصب ديني إلا وهو متصف به في أعلى رتبة غير أن غالب تصرفه صلى الله عليه وسلم تبليغ؛ لأن وصف الرسالة غالب عليه.

قلت: كان الأولى أن يقول: (غير أن كل تصرفه صلى الله عليه وسلم بالتبليغ) بدلًا من قوله: (غير أن غالب

إلخ) ؛ لأن التصرفات الأخرى التي ذكرها غير التبليغ الصرف تتضمن معنى التبليغ على اعتبار أن التبليغ لا ينحصر معناه في الإلزام ، وإنما يشمل كل جوانب بيان شرع الله ، بما فيه الإباحة نفسها. فتأمل.

(1) الفروق ج: 1. ص: 205 وما بعدها.

ص: 1278

ثم قال:

"ثم تقع تصرفاته صلى الله عليه وسلم منها ما يكون من التبليغ والفتوى إجماعًا ، ومنها ما يجمع الناس على أنه بالقضاء ، ومنها ما يجمع الناس على أنه بالإمامة ، ومنها ما يختلف العلماء فيه لتردده بين رتبتين فصاعدًا ، فمنهم من يغلب عليه رتبة ، ومنهم من يغلب عليه أخرى، ثم تصرفاته صلى الله عليه وسلم بهذه الأوصاف تختلف آثارها في الشريعة ، فكل ما قاله أو فعله على سبيل التبليغ كان ذلك حكما عاما على الثقلين إلى يوم القيامة. فإن كان مأمورًا به أقدم عليه كل أحد بنفسه ، وكذلك المباح وإن كان منهيًا عنه اجتنبه كل أحد بنفسه ، وكل ما تصرف فيه عليه بوصف الإمامة لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الإمام اقتداء به عليه السلام؛ ولأن سبب تصرفه فيه بوصف الإمامة دون التبليغ يقتضي ذلك".

قلت: أليس تصرفه بوصف الإمامة "تبليغًا " بوجوب أو إباحة ذلك التصرف وما شاكله مقيدًا بأن لا يصدر إلا من الإمام أو مخصصًا الحكم فيه للإمام ، ولولا أنه تبليغ على هذه الصورة لكان من خصائصه صلى الله عليه وسلم وحده ، ولا يجوز لأحد أن يقتدي به فيه وهو ما لم يقل به أحد ، وما هو التبليغ إن لم يكن بيان شرع الله في تصرف ما ، أو في أمر ما؟ بصرف النظر عما إذا كان عاما أو خاصًا أو مطلقًا أو مقيدًا أو مشروعًا لكل الظروف أو لظرف خاص.

ثم قال:

"وهذه هي الفروق بين القواعد الثلاث ، ويتحقق ذلك بأربع مسائل: المسألة الأولى: بعث الجيوش لقتال الكفار والخوارج ومن تعين قتاله وصرف أموال بيت المال في جهاتها وجمعها من محالها وتولية القضاة والولاة العامة وقسمة الغنائم وعقد العهود للكفار ذمة وصلحًا، هذا هو شأن الخليفة والإمام الأعظم ، فمتى فعل صلى الله عليه وسلم شيئًا من ذلك ، علمنا أنه تصرف فيه صلى الله عليه وسلم بطريق الإمامة دون غيرها ، ومتى فصل صلى الله عليه وسلم بين اثنين في دعاوى الأموال أو أحكام الأبدان أو نحوها بالبينات أو الأيمان والنكولات ونحوها ، فنعلم أنه صلى الله عليه وسلم إنما تصرف في ذلك بالقضاء دون الإمامة العامة وغيرها؛ لأن هذا شأن القضاء والقضاة.

ص: 1279

قلت: وهل كان الإمام إلا قاضيا؟ يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (1)

ويقول الله سبحانه وتعالى مخاطبًا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْزَلْنَا إليك الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} (2)، ويقول جل جلاله مخاطبًا له أيضًا ومبينًا الحد الفاصل بين المسلم وغيره في الموقف من أحكامه صلى الله عليه وسلم:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3)، ويقول جل من قائل:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إلى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (4)

وهل كانت الإمامة في جوهرها بجميع مهامها إلا نمطًا من القضاء ، وهل كان القضاء إلا مهمة تتعلق بالإمام نفسه ، وله أن يكلها إلى غيره ، ولكن ذمته لا تبرأ إن لم يستفرغ الجهد في اختيار من يكلها إليه ، طبقًا لضوابط الأهلية للقضاء في الشريعة الإسلامية.

ثم قال:

"وكل ما تصرف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادات بقوله أو بفعله أو أجاب به سؤال سائل عن أمر ديني ، فأجابه فيه ، فهذا تصرف بالفتوى والتبليغ ، فهذه المواطن لا خفاء فيها ، وأما مواضع الخفاء والتردد ففي بقية المسائل.

(1) الآية: (26) سورة ص.

(2)

الآية: (48) سورة المائدة.

(3)

الآية: (65) سورة النساء.

(4)

الآية: (51) سورة النور.

ص: 1280

المسألة الثانية: قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أحيا أرضًا ميتة فهي له))

الحديث بهذا اللفظ مرسل ، رواه مالك في الموطأ ، فقال (636. ح. 32) : حدثني يحيى ، عن مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((من أحيا أرضًا ميتة فهي له ، وليس لعرق ظالم حق)) . قال مالك: والعرق الظالم كل ما احتفر أو أخذ أو غرس بغير حق. ورواه أبو عبيد بإسنادين ، فقال (الأموال. ص:403. ح: 701 و702) : حدثنى يحيى بن بكير ، عن الليث بن سعد ، عن عبيد الله بن أبي جعفر ، عن أبي الأسود ، عن عروة ، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحيا أرضًا ليست لأحد ، فهو أحق بها)) قال: قال عروة: وقضى بذلك عمر بن الخطاب في خلافته.

وحدثنا سعيد بن عبد الرحمن الجمحي وأبو معاوية ، كلاهما عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق)) .

ورواه ابن زنجويه (الأموال. ج: 2. ص: 639. ح: 1053) : حدثنا محمد بن يوسف ، أنبأنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن عروة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق)) .

وقال أبو داود (السنن. ج: 178. ح: 3073و 74 30) : حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن سعيد بن زيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق)) .

حدثنا ابن السري، حدثنا عبدة ، عن محمد - يعنى ابن إسحاق - عن يحيى بن عروة ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((من أحيا أرضًا ميتة فهي له)) . وذكر مثله قال: فقد خبرني الذي حدثني هذا الحديث ، أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، غرس أحدهما نخلًا في أرض الآخر ، فقضى لصاحب الأرض بأرضه ، وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها. قال: فقد رأيتها وإنها لتضرب أصولها بالفؤوس ، وإنها لنخل عم ، حتى أخرجت منها.

وقال الترمذي (الجامع الصحيح. ج: 3: 662 وما بعدها. ح: 1378) : حدثنا محمد بن بشار، أخبرنا عبد الوهاب الثقفي، أخبرنا أيوب ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن سعيد بن زيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق)) . ثم قال: وفي الباب عن جابر وعمرو بن عوف المزني جد كثير وسمرة.

ثم قال (الجامع الصحيح. ح: 1379) : حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب ، عن هشام بن عروة ، عن وهب بن كيسان ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((من أحيا أرضًا ميتة فهي له)) ، وتعقبه بقوله: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 1281

وقال البيهقي (السنن. ج: 6. ص: 143) : أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، حدثنا أبو العباس الأصم، أنبأنا الحسن بن علي بن عفان ، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا محمد بن فضيل ، عن ليث ، عن طاوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عادي الأرض لله ولرسوله ، ثم لكم من بعد، فمن أحيا شيئًا من موتان الأرض ، فله رقبتها)) . وبه قال: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال: إن عادي الأرض لله ولرسوله ولكم من بعد ، فمن أحيا شيئًا من موتان الأرض ، فهو أحق به. وقد روي الحديث بألفاظ أخرى وطرق أخرى ولكنها جميعًا تدل على نفس الحكم.

اختلف العلماء رضي الله عنهم في هذا القول: هل تصرف بالفتوى ، فيجوز لأحد أن يحيي أذن الإمام في ذلك الإحياء أم لا ، وهو مذهب مالك والشافعي رضي الله عنهما ، وهو تصرف منه عليه السلام بالإمامة ، فلا يجوز لأحد أن يحيي إلا بإذن الإمام ، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله ، وأما تفرقة مالك بين ما قرب من العمارة ، فلا يحيى إلا بإذن الإمام ، وبين ما بعد فيجوز بغير إذنه ، فليس من هذا الذي نحن فيه ، بل هو من قاعدة أخرى ، وهي أن ما قرب من العمران يؤدي إلى التشاجر والفتن وإدخال الضرر ، فلا بد فيه من نظر الأئمة دفعًا لذلك المتوقع ، كما تقدم ، وما بعد من ذلك لا يتوقع فيه شيء من ذلك ، فيجوز، ومذهب مالك والشافعي في الإحياء أرجح؛ لأن الغالب في تصرفه صلى الله عليه وسلم الفتيا والتبليغ ، والقاعدة: أن الدائرة بين الغالب والنادر إضافته إلى الغالب أولى.

قلت: وقد أظهر التطور الحضاري أن ليس ثمة خلاف بين مالك والشافعي من جانب وأبي حنيفة من جانب آخر في جوهر الأمر، ولكن في شكله ، ذلك بأن إلغاء المسافة أو انتقاءها وهيمنة التخطيط والتحفظ وحاجة الدولة إلى ضبط جميع أعمال الإعمار والتمييز بين ما يخصص للبناء وما يخصص للفلاحة وما يترك للرعي وما ينتظر به إلى أن تصل إليه أعمال الإعمار ، كل ذلك يوضح أن فتوى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بالأحرى حكمه كان بمقتضى الإمامة ، وأن تفرقة مالك والشافعي بين ما قرب من العمارة وما بعد، كانت نمطًا من الإلهام الإلهي ، فكأنما كشف الله لهما عما سيصير إليه أمر الإنسان وحضارته في المستقبل على حين أن حكم أبي حنيفة كان دليلًا على بعد نظره في تصور الآماد التي ينبغي اعتبارها فيما يتصل بفهم النصوص الشرعية المتعلقة بالمعاملات.

ص: 1282

ثم قال:

"المسألة الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان لما قالت له صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح ، لا يعطني وولدي ما يكفيني. فقال لها عليه السلام: خذي لك ولولدك ما يكفيك بالمعروف (1) اختلف العلماء في هذه المسألة وهذا التصرف منه صلى الله عليه وسلم ، هل هو بطريق الفتوى ، فيجوز لكل من ظفر بحقه أو بجنسه أن يأخذه بغير علم خصمه به ، ومشهور مذهب مالك خلافه ، بل هو مذهب الشافعي ، أو هو تصرف بالقضاء ، فلا يجوز لأحد أن يأخذ جنس حقه أو حقه إذا تعذر أخذه من الغريم إلا بقضاء قاض ، حكى الخطابي القولين عن العلماء في هذا الحديث حجة من قال: إنه بالقضاء أنها دعوى في مال على معين ، فلا يدخله إلا القضاء؛ لأن الفتاوى شأنها العموم وحجة القول بأنها فتوى ما روي أن أبا سفيان كان بالمدينة ، والقضاء على الحاضرين من غير إعلام ولا سماع حجة ، فتعين أنه فتوى ، وهذا هو ظاهر الحديث.

المسألة الرابعة: قوله صلى الله عليه وسلم: ((من قتل قتيلًا فله سلبه)) (2) اختلف العلماء في هذا الحديث هل تصرف فيه صلى الله عليه وسلم بالإمامة ، فلا يستحق أحد سلب المقتول إلا أن يقول الإمام ذلك ، وهو مذهب مالك خلاف أصله فيما قاله في الإحياء ، وهو أن غالب تصرفه صلى الله عليه وسلم بالفتوى ، فينبغي أن يحمل على الفتيا عملا بالغالب ، وسبب مخالفته لأصله أمور ، منها: أن الغنيمة أصلها أن تكون للغانمين ، لقوله عز وجل:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (3) وإخراج السلب من خلاف هذا الظاهر ، ومنها أن ذلك ربما أفسد الإخلاص عند المجاهدين ، فيقاتلون بهذا السلب دون نصر كلمة الإسلام.

قلت: هذا تعليل عجيب ، وإلا فلماذا شرعت المغانم إن لم يكن لإذكاء الوازع الشخصي الدنيوي إلى جانب الوازع الإيماني الأخروي ، وهل السلب إلا نمطًا متميزًا من الغنيمة؟

ثم قال: ومن ذلك أنه يؤدي إلى أن يقبل على من له سلب دون غيره ، فيقع التخاذل في الجيش ، وربما كان قليل السلب أشد نكاية على المسلمين ، فلأجل هذه الأسباب ترك هذا الأصل ، وعلى هذا القانون وهذه الفروق يتخرج ما يرد عليك من هذا الباب من تصرفاته صلى الله عليه وسلم. فتأمل ذلك فهو من الأصول الشرعية.

(1) سيأتي تخريجهما بعد قليل.

(2)

سيأتي تخريجهما بعد قليل.

(3)

الآية: (41) سورة الأنفال

ص: 1283

وقال ابن الشاط في تعليقه على هذا الفرق: لم يجود التعريف بهذه المسائل ولا أوضحها كل الإيضاح ، والقول الذي يوضحها هو أن التصرف في الحكم الشرعي إما أن يكون تصرفه فيه بتعريفه ، وإما أن يكون بتنفيذه، فإن كان تصرفه فيه بتعريفه ، فذلك هو الرسول إن كان هو المبلغ عن الله تعالى ، وتصرفه هو الرسالة ، وإلا فهو المفتي ، وتصرفه هو الفتوى ، وإن كان تصرفه فيه بتنفيذه ، فإما أن يكون تنفيذه ذلك بفصل وقضاء وإبرام وإمضاء ، وإما أن لا يكون كذلك ، فإن لم يكن كذلك ، فذلك هو الإمام ، وتصرفه هو الإمامة ، وإن كان كذلك ، فذلك هو القاضي ، وتصرفه هو القضاء.

قلت: ولم يحسن ابن الشاط أيضًا التحديد الدقيق لما أراد تحديده ذلك بأن تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اعتبروه فتوى وفيما اعتبروه قضاء ، لا فيما اعتبروه إمامة هو تبليغ أساسًا ، والفرق هو إما أن يكون التصرف قوليا صرفًا أو فعليا يراد به مجرد بيان نص ، وأغلب ما يكون هذا في العبادات ، وهذا النوع من التصرف هو التبليغ المجرد ، وإما أن يكون فصلًا بين متخاصمين ، فهذا التصرف ذو صبغة قضائية ، وإن يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم به وفيه مبلغًا وإمامًا ثم قاضيًا بصفته الرسول المبلغ الإمام ، وإما أن يكون تصرفًا مما يقتضيه تنظيم أمر الناس في شأن مما يصل بالفرد أو الجماعة أو المجتمع تنظيما لا يتأتى إلا بهيبة السلطة أو قوتها ، وهذا التصرف هو ما يطلق عليه التصرف بمقتضى الإمامة أو بحق الإمام ، والرسول صلى الله عليه وسلم وهو يمارسه يتصرف بصفته الرسول الإمام ، ذلك بأننا إذا جردنا تصرفًا من تصرفاته عليه الصلاة والسلام من اعتبار الرسالة مصدرًا ملحوظًا فيه ، أمكن الالتباس في شأنه بالاختصاص كما ألمعنا آنفًا. فتأمل.

على أن تصرفاته في العبادة نفسها إذا لم تكن تطبيقًا لنص قرآني محكم ليس بحاجةإلى بيان - وهذا النوع قليل - ليست مجرد تبليغ ، وإن تكن بطبيعتها بيانًا لمجمل النص القرآني في عبادة ما أو تشريعا ابتدائيًا مستمدة عناصره من سنن التشريع القرآني كما هو الشأن في الصلوات النوافل والسنن المؤكدة وغيرها من العبادات المسنونة للتقرب مما لم ترد فيه نصوص قرآنية خاصة ، وإنما هي تصرفات تتضمن أيضًا معنى الإمامة ، إذ أنه صلى الله عليه وسلم حين يسن سنة أو يبين مجملًا أو يطبق نصًا قرآنيًا إنما يفعل ذلك بصفته الإمام الرسول الموكول إليه أمر التطبيق والبيان والاستنان.

ص: 1284

ولا يختلف موقعه في هذا المجال عن موقعه فيما يفعله أو يقضي به في مجال المعاملات أو ما يسمى اليوم بالحقوق المدنية عامة أو في مجال الأحوال الشخصية ، ولا نجد مدعاة إلى أن نسوق نماذج شتى من تصرفاته صلى الله عليه وسلم بمقتضى الإمامة ، ونؤثر هذا التعبير على عبارة حق الإمامة " ، أو "حق الإمام" ، فقد مضى بعض منها خلال البندين السابقين ، إذ نسوق الروايات المختلفة عن رافع بن خديج في المزارعة والمساقاة وخاصة أمره صلى الله عليه وسلم لرافع أو لغيره ، إذ وجده يزارع غيره في أرضه ، فأمره أن يأخذ بدوره ونفقته ، وأن يزرع الزرع لصاحب الأرض ، وإذ نسوق نماذج من القضية المأثورة الدالة على اعتماد المصلحة العامة وإن نتج عن اعتمادها بعض الإضرار بأحد الطرفين المتقاضيين اعتبارًا لأخف الضررين وتشريعًا لقاعدة حكمية وخلقية تتمادى آثارها فتشمل المصلحة العامة في الحال والمآل ، وذلك حين عرضنا لقضية سمرة بن جندب وعضيده في حائط الأنصاري ، وكيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقطع عضيد سمرة حين امتنع عن البيع والمعاوضة وابتغاء الثواب في الآخرة، ثم لقضية الزبير وصاحبه الذي خاصمه على الماء يمر بأرض للزبير قبل أن يصل إليه ، وكيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يحبس الماء حتى يبلغ الجدر ثم يرسل ما فضل لخصمه بعد أن تجرأ خصمه فاتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحاباة ابن عمته.

وإذ عرضنا لحديث عمر مع العباس وخالد بن الوليد ولئن اختلفوا في أمر العباس إن كان امتناعه عن تسليم صدقته لعمر؛ لأنه أسلفها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لعامين بالتماس منه عليه الصلاة والسلام لحاجة ألمت بالمسلمين أو لأنه رفض أن يسلمها لعمر لسبب آخر ، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحملها عنه أو أخبر بأنه استلفها منه ، وذلك ما سبق أن عرضنا له ببعض التفصيل ، فإنهم في أمر خالد بن الوليد لم يجدوا مجالًا واسعًا للاختلاف ، إذ لم تتغاير الروايات فيما يتصل به ، فانحصر اختلافهم في تعليل موقفه وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم منه وفي تأويل بعض ألفاظه ابتغاء المطابقة بين قاعدة فقهية قعدوها وجمدوا عليها وبين قضية ثابتة من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد صحابته الأجلاء خلخلت لهم تلك القاعدة.

ص: 1285

فقد وقر عندهم واستقر أن الصدقة تجب في كل مال يملكه مسلم من الأموال المزكاة ، إذ توفر فيه النصاب ، وحال عليه الحول ، إن يكن مما يشترط فيه الحول ، وعز عليهم أن يضيفوا إلى هذه القاعدة استثناء يشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى الإمامة واضح العلة واضح الصيغة واضح البيان، وهو أنه لما كانت الزكاة إنما شرعت لضمان مورد لبيت مال المسلمين يواجه به حاجات الأصناف الثمانية المذكورة في قوله سبحانه وتعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (1) فإن المال الذي يكون في يد شخص خول له ، فوقفه كله في سبيل الله وإن احتفظ بالتصرف فيه ولم يسلمه لبيت مال المسلمين لا يشمله شرع الزكاة ، إذ إنه كله وليس جزء منه أصبح وقفًا في سبيل الله ، {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} أحد الأصناف الثمانية التي عينتها الآية الكريمة مصارف للزكاة ، وما أروع قوله صلى الله عليه وسلم في أمر خالد:((إنكم تظلمون خالدًا)) . الحديث. فليت شعري لما لم يستوقف انتباه الفقهاء وهم يبدؤون ويعيدون في محاولة التوفيق بين قاعدتهم التي قعدوها فجمدوا عليها ، وبين هذا التشريع النبوي الرائع الحكيم.

ومع أن في هذه النماذج الغناء كل الغناء في التمثيل لتصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى الإمامة ، فإنا نؤثر لمزيد من البيان أن نسوق تصرفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قضيتين مختلفتين وإن كان تصرفه فيهما يتوخى إقرار نفس السنة ، سنة التصرف بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة؛ لأنهما يمثلان تشريعًا في مجال بعيد الخطر ومختلف عن مجالات التصرفات السابقة، فكلاهما يتصل بالمغانم وهي حق لجميع المجاهدين بصرف النظر عن اختلاف الفقهاء أيضًا في ما إذا كان استحقاقهم يتعين بمجرد أن يغنمها الجيش الإسلامي أو لا يتعين إلا حين يقسمها الإمام ، فحث على القول بأن استحقاق المجاهد في الغنيمة لا يتعين إلا عند قسمتها، فلا جدال في أن مجرد غنمها يثبت فيها حقا جماعيا لجميع المجاهدين يمكن أن نسميه حقا مشتركًا أو مشاعًا ومع ذلك فقد أحدث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تشريعًا في قضيتين مختلفتين يثبت بما لا مجال فيه للجدل ما للإمام من حق التصرف في المغانم بمقتضى الإمامة حين تتعين المصلحة العامة في تصرف لا يلتزم إلزامًا دقيقًا بالحق المشترك أو المشاع في المغانم.

(1) التوبة آية رقم 106.

ص: 1286

القضية الأولى قضية سلب المقتول وحق القاتل فيه ، وهي قضية تناقلها جميع أصحاب السنن ونقلة الأخبار ونعتمد فيها ما أخرجه البخاري في صحيحه.

قال (1) : حدثنا مسدد، حدثنا يوسف بن الماجشون ، عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه ، عن جده قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر ، فنظرت عن يميني وشمالي ، فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما ، ما تمنيت أن أكون بين أضلع منهما ، فغمزني أحدهما ، فقال: يا عم ، هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم ، ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا. فتعجبت لذلك ، فغمزني الآخر ، فقال لي مثلها ، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس ، فقلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني. فابتدراه بسيفيهما ، فضرباه حتى قتلاه ، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه ، فقال: أيكما قتله؟ قال كل واحد منهما: أنا قتلته. فقال: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا. فنظر في السيفين، فقال: كلاكما قتله. سلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح ، وكانا معاذ بن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح ، قال محمد: سمع يوسف صالحًا وسمع إبراهيم أباه عبد الرحمن بن عوف.

وقال (2) :

حدثنا عبد الله بن مسلمة ، عن مالك ، عن يحيى ، عن ابن أفلح ، عن أبي محمد مولى أبي قتادة رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين ، فلما التقينا ، كانت للمسلمين جولة ، فرأيت رجلًا من المشركين علا رجلًا من المسلمين ، فاستدبرت حتى أتيته من ورائه حتى ضربته بالسيف على حبل عاتقه ، فأقبل علي ، فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت.

(1) البخاري (الصحيح) . ج: 4. ص: 57.

(2)

البخاري (الصحيح) . ج: 4. ص: 57.

ص: 1287

ثم أدركه الموت ، فأرسلني ، فلحقت عمر بن الخطاب ، فقلت: ما بال الناس؟ قال: أمر الله. ثم إن الناس رجعوا وجلس النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه)) . فقمت ، فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست. ثم قال: ((من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه)) . فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست ، ثم قال الثالثة مثله ، فقمت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ما لك يا أبا قتادة؟)) فاقتصصت عليه القصة ، فقال رجل: صدق يا رسول الله ، وسلبه عندي ، فأرضه عني. فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لا ها الله ، إذن لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يعطيك سلبه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((صدق)) فأعطاه ، فبعت الدرع ، فابتعت به مخرفًا في بني سلمة ، فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام.

وقال (1) :

حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمر بن كثير بن أفلح ، عن أبي محمد مولى أبي قتادة رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام حنين، فلما التقينا ، كان للمسلمين جولة ، فرأيت رجلًا من المشركين قد علا رجلًا من المسلمين ، فضربته من ورائه على حبل عاتقه بالسيف ، فقطعت الدرع ، وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ، ثم أدركه الموت ، فأرسلني ، فلحقت عمر ، فقلت: ما بال الناس؟ قال: أمر الله عز وجل ، ثم رجعوا ، وجلس النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال:((من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه)) فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((مثله)) قال: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم مثله ، فقمت ، فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست. قال: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم مثله ، فقمت ، فقال:((مالك يا أبا قتادة؟)) فأخبرته ، فقال رجل: صدق ، وسلبه عندي ، فأرضه عني. فقال أبو بكر: لاها الله إذا ، لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيعطيك سلبه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((صدق، فأعطه)) فأعطانيه ، فابتعت به مخرفًا في بني سلمة ، فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام.

(1) البخاري (الصحيح) . ج: 5. ص: 100 و101

ص: 1288

وقال (1) :

قال الليث: حدثني يحيى بن سعيد ، عن عمر بن كثير بن أفلح ، عن أبي محمد مولى أبي قتادة ، أن أبا قتادة قال: لما كان يوم حنين ، نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلًا من المشركين ، وآخر من المشركين يختله من ورائه ليقتله ، فأسرعت إلى الذي يختله ، فرفع يده ليضربني ، وأضرب يده فقطعتها ، ثم أخذني فضمني ضمًا شديدًا حتى تخوفت ، ثم برك فتحلل ، ودفعته ثم قتلته ، وانهزم المسلمون ، وانهزمت معهم ، فإذا بعمر بن الخطاب في الناس ، فقلت له ما شأن الناس؟ قال: أمر الله. ثم تراجع الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((من أقام بينة على قتيل قتله فله سلبه)) ، فقمت لألتمس بينة على قتيلي ، فلم أر أحدًا يشهد لي ، فجلست ، ثم بدا لي ، فذكرت أمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رجل من جلسائه: سلاح هذا القتيل الذي يذكر عندي ، فأرضه منه. فقال أبو بكر: كلا ، لا يعطيه أصيبغ من قريش ويدع أسدًا من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأداه إلي ، فاشتريت منه خرافًا ، فكان أول ما تأثلته في الإسلام.

والقضية الثانية قضية إيثار بعض المقاتلة على بعض في قسمة الغنيمة وإعادة بعض الغنيمة إلى من غلبوا من الأعداء إذا هم أفاؤوا إلى الإسلام ، وهي أيضًا قضية مشهورة لدى أصحاب السنن ونقلة الأخبار، لذلك نقتصر فيها على ما أخرجه البخاري.

قال (2) :

"حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا جرير بن حازم، حدثنا الحسن ، قال: حدثني عمرو بن تغلب رضي الله عنه ، قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا ومنع آخرين ، فكأنهم عتبوا عليه ، فقال: إني أعطي قومًا أخاف ظلعهم وجزعهم ، وأكل أقوامًا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغناء ، منهم عمرو بن تغلب. فقال عمرو بن تغلب: ما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم. زاد أبو عاصم عن جرير ، قال: سمعت الحسن يقول: حدثنا عمرو بن تغلب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بمال أو بسبي فقسمه بهذا.

(1) البخاري (الصحيح) . ج: 5. ص: 100 و101

(2)

البخاري (الصحيح) . ج: 4. ص: 59 و60

ص: 1289

وقال (1) :

"حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني أعطي قريشًا أتألفهم؛ لأنهم حديث عهد بجاهلية)) .

وقال (2) :

"حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا الزهري ، قال: أخبرني أنس بن مالك ، أن ناسًا من الأنصار قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أموال هوازن ما أفاء ، فطفق يعطي رجالًا من قريش المائة من الإبل ، فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعطي قريشًا ، ويدعنا وسيوفنا تقطر من دمائهم. قال أنس: فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم ، فأرسل إلى الأنصار ، فجمعهم في قبة من أدم ولم يدع أحدًا معهم غيرهم، فلما اجتمعوا ، جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: ما كان حديث بلغني عنكم؟ قال له فقهاؤهم: أما ذوو رأينا فلم يقولوا شيئًا ، وأما أناس منا حديثة أسنانهم ، فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشًا ويترك الأنصار وسيوفنا تقطر من دمائهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعطي رجالًا حديث عهدهم بكفر ، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعوا إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوالله ما تنقلبون به ، قالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا. فقال لهم: إنكم سترون بعدى أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على الحوض. قال أنس: فلم نصبر.

وقال: (3)

حدثنا سعيد بن عفير، حدثني ليث، حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، حدثني إسحاق، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال: حدثنا ابن أخي ابن شهاب ، وزعم عروة بن الزبير أن مروان والمسور بن مخرمة أخبراه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين ، فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: معي من ترون وأحب الحديث إلي أصدقه. فاختاروا إحدى الطائفتين ، إما السبي ، وإما المال.

(1) البخاري (الصحيح) . ج: 4. ص: 59 و60

(2)

البخاري (الصحيح) . ج: 4. ص: 59 و60

(3)

البخاري ج: 5. ص: 99.

ص: 1290

وقد كنت استأنيت بكم وكان أنظرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف ، فلما تبين لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين ، قالوا: فإنا نختار سبينا ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال: أما بعد ، فإن إخوانكم قد جاؤونا تائبين ، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم ، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل ، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل. فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن ، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم. فرجع الناس ، فكلمهم عرفاؤهم ، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا. هذا الذي بلغني عن سبي هوازن.

وجلي أن القضيتين تتفقان في إحداث حكم شرعي يكون استثناء لقاعدة حق المجاهدين أفرادًا أو بالاشتراك في المغانم عند غنمها ، وهذا الحكم هو أن للإمام إذا تعينت عنده مصلحة عامة في إيثار فرد أو أكثر من المجاهدين أو من غيرهم من المسلمين بشيء من الغنائم ، فله أن يفعل ذلك بمقتضى حق الإمامة ولا يعتبر جائرًا على ذوي الحق الأصليين في المغانم؛ لأنه تصرف اعتبارًا لمصلحة عامة تشملهم جميعًا ، وتشمل معهم غيرهم ، ويتمادى أثرها إلى المجتمع الإسلامي قاطبة أو إلى جانب كبير منه ، وذلك ما يرجح بهذه المصلحة العامة عن بعض ما قد يتراءى "مفسدة" محدودة الأثر لما ينقص بعض النقص من حقوق الأفراد المستحقين أصلًا للمغانم.

قد يجادل بعض المشغوفين بالجدل في أن قضية هوازن وإعادة السبي إليهم إنما تمت بتصرف ناتج عن "الإقناع " وليس ناتجا عن "التحكم" ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله وفد هوازن أن يعيد إليهم ما أصاب من سبي وغنيمة في انتصاره عليهم وعلى ثقيف ، لم يأمر المسلمين أمرًا صريحًا بأن يعيدوا إليهم ما أعادوا ، وإنما جعل لهوازن أن يختاروا بين السبي والمال ، فلما اختاروا السبي حث المسلمين على أن يعيدوا إليهم سبيهم ، فاستجابوا له وأعادوا إليهم ما بين أيديهم ، وهذا النوع من الجدل إنما يعتمد على فهم ساذج لتصرفات رسول الله يكتمو على تقصير في استحضار جميع الملابسات التشريعية السابقة أو المواكبة للتصرفات النبوية ، ذلك بأن المسلمين كانوا يدركون من الخلق العظيم الذي أصفى به نبيه صلى الله عليه وسلم ومن منهاجه في معاملتهم وتكييف سلوكهم أفرادًا وجماعة تكييفًا خلقيا أنه دأب صلى الله عليه وسلم على اعتماد أسلوب "الإقناع" وإيثاره على أسلوب "التحكم " إلا أن يضطر اضطرارًا إلى الالتجاء إلى أسلوب "التحكم" مجابهة لعناد بعض من لا يفقهون وقلما فعل ذلك ، وأنه صلى الله عليه وسلم إذ يحث على عمل من هذا القبيل له آماده السياسية المتجاوزة للاعتبارات الفردية والمتجاوبة مع اعتبارات المصلحة العامة إنما يأمر أمرًا صاغه بأسلوب الترغيب ليتيح للمسلمين الشعور بالمشاركة في اتخاذ القرار وبالإسراع إلى الاستجابة له والمبادرة لما يريد ابتغاء الأجر من الله سبحانه وتعالى بطاعة الله والرسول على حين أنهم يدركون أعمق الإدراك أنهم إن لم يستجيبوا لما رغبهم فيه وحثهم عليه قد يرتكبون إثما بمخالفته وعدم الاستجابة له فهم يحفظون - أو كثير منهم يحفظون - قوله سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1) وقوله جل جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (2) .

(1) الآية: (59) سورة النساء.

(2)

الآية: (24) سورة الأنفال.

ص: 1291

وتدبر جيدًا قوله تعالى: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} . ولعل قصة سعيد بن المعلى حين دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فلم يستجب لدعوته حتى أتم صلاته فعاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية الحديث رواه البخاري في تفسير سورة الفاتحة (ج: 5. ص: 46)، فقال: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى ، عن شعبة قال: حدثني خبيب بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد ، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم أجبه ، فقلت: يا رسول الله ، إني كنت أصلي. فقال: ألم يقل الله استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم؟ ثم قال لي: لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ، ثم أخذ بيمينى ، فلما أراد أن يخرج ، قلت: ألم تقل: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟ قال: {الحمد لله رب العالمين} هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته. ورواه في تفسير سورة الأنفال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا} الآي. فقال (البخاري. ص: 199) : حدثني إسحاق ، قال: أخبرنا روح، حدثنا شعبة ، عن خبيب، وذكر الحديث.

ص: 1292

وقال ابن حجر (فتح الباري. ج: 8. ص: 119 و120) في شرحه للحديث الأول وبعد أن ذكر اختلافهم في اسم أبي سعيد: هنا (تنبيهان) ويتعلقان بإسناد هذا الحديث؛ أحدهما نسب إلى الغزالي والفخر الرازي وتبعه البيضاوي ، هذه القصة لأبي سعيد الخدري ، وهو وهم ، وإنما هو أبو سعيد بن المعلى.

ثانيهما: روى الواقدي هذا الحديث عن محمد بن معاذ ، عن خبيب بن عبد الرحمن بهذا الإسناد ، فزاد في إسناده: عن أبي سعيد بن المعلى ، عن أبي بن كعب. والذي في الصحيح أصح ، والواقدي شديد الضعف إذا انفرد ، فكيف إذا خالف ، وشيخه مجهول ، وأظن الواقدي دخل عليه حديث في حديث ، فإن مالكًا أخرج نحو الحديث المذكور من وجه آخر ، فيه ذكر أبي بن كعب ، فقال: عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبي سعيد مولى عامر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب. ومن الرواة عن مالك قال: عن أبي سعيد ، عن أبي بن كعب ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ناداه. وكذا أخرجه الحاكم ، ووهم ابن الأثير حيث ظن أن أبا سعيد شيخ العلاء هو أبو سعيد بن المعلى ، فإن ابن المعلى صحابي أنصاري من أنفاسهم مدني ، وذلك تابعي مكي من موالي قريش ، وقد اختلف فيه على العلاء ، أخرجه الترمذي عن طريق الدراوردي ، والنسائي عن طريق روح بن القاسم ، وأحمد عن طريق عبد الرحمن بن إبراهيم ، وابن خزيمة عن طريق حفص بن ميسرة ، كلهم عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي سعيد ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب

فذكر الحديث.

وأخرجه الترمذي وابن خزيمة من طريق عبد الحميد بن جعفر ، والحاكم من طريق شعبة ، كلاهما عن العلاء مثله. لكنه قال: عن أبي هريرة رضي الله عنه. ورجح الترمذي كونه من مسند أبي هريرة ، وقد أخرجه الحاكم أيضًا عن طريق الأعرج ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب. وهو مما يقوي ما رجحه الترمذي ، وجمع البيهقي بأن القصة وقعت لأبي بن كعب ولأبي سعيد بن المعلى ، ويتعين المصير إلى ذلك ، لاختلاف مخرج الحديثين واختلاف سياقهما كما بينه. كانت وقعت قبل غزوة حنين وأنها تنوقلت بين المسلمين ، فوعوها واتعظوا بها ، مهما يكن فما من شك في أنهم لو لم يعيدوا فيما بين أيديهم من سبي طوعًا لاستعاده منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "بالتحكم"؛ لأنه صلى الله عليه وسلم وعد هوازن بأحد أمرين؛ إما السبي ، وإما المال ، وما كان ليخلف وعده ، وهو حين وعدهم كان يتصرف بمقتضى الإمامة، وحين أصدر أمره إلى المسلمين في صيغة ترغيب كان يتصرف بمقتضى الإمامة أيضًا وإن تلطف في الصيغة.

ص: 1293

وقد يجادل البعض بأن تصرفه صلى الله عليه وسلم في هذه القضية وفي قضية إيثار بعض المجاهدين على بعض عند توزيع الغنائم في غزوة حنين إنما كان تطبيقًا لمبدأ تأليف ، {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} ، وهذا فهم له وجاهته ، ولكن حق {الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} إنما جاء به النص فيما يتعلق بالصدقات ، لا فيما يتعلق بالغنائم ، ثم إن الذين آثرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصص أوفر من الغنائم ليسوا جميعًا ممن تنطبق عليهم صفة {الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} ، بل قد لا يكون من تنطبق عليهم هذه الصفة ، عدا بعض الأفراد ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ترضى الأنصار وقد ساء بعضهم أن يؤثر عليهم بعضهم في الغنائم لم يتعلل في استرضائهم بتأليف القلوب ممن آثرهم صراحة وإن أمكن فهم ذلك احتمالًا مما قاله

في استرضائهم ، وإنما تعلل في استرضائهم صراحة بالموازنة بين خلاقين؛ خلاق من يعود إلى رحله بالمغانم من الشاة والجمال ، وخلاق من يعود برحله إلى رسول الله ، وشتان بين الخلاقين.

على أن هذه الشبهة وما شاكلها مما قد يثيره المجادلون لا مجال لها في قضية كل من أبي قتادة ومعاذ بن عمرو بن الجموح ، فما من أحد يستطيع أن يزعم بأن هذين الصحابيين الجليلين يمكن الغمز فيهما بأنهما من {المؤلفة قلوبهم} ، ولا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أعطى سلب أبي جهل لمعاذ بن عمرو بن الجموح وحين أعطى أبا قتادة سلب قتيله ، كان يتألف أحدهما أو يتألفهما معًا ، وإن يكن الاحتمال وجيهًا أنه صلى الله عليه وسلم كان بعمله ذاك يحفز أبطال المسلمين ، لا سيما الشباب إلى المزيد من الاستبسال في مواجهة الأعداء ، على أن لهاتين القضيتين دلالة بالغة الأثر ، وهي أن قضية معاذ بن عمرو بن الجموح كانت في غزوة بدر أولى غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقضية أبي قتادة كانت في حنين أخرى غزواته عليه الصلاة والسلام ، وفي كلتا القضيتين تصرف بمقتضى الإمامة، وهذا يعني أن قاعدة التصرف بمقتضى الإمامة قاعدة مكينة استمرت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة عهده النير الميمون ، فليس لأحد أن يجادل فيها.

ص: 1294

وتصرفه صلى الله عليه وسلم طبقًا لهذه القاعدة أو بالأحرى تشريعه لهذه القاعدة شمل قضايا فردية صرفة ، وإن تكن ذات أثر في تكييف التشريع العام، كما شمل قضايا ظاهرة الصبغة الاجتماعية وإن كان تطبيقها متصلًا بأفراد ، وقد سبق أن وقفنا مرتين عند قضية عضيد سمرة بن جندب وقضية الزبير وصاحبه الذي خاصمه على الماء ، ونؤثر أن نورد قصتين أخريين تشبهان هاتين ، ولكن لهما تأثيرهما في مجالين مختلفين:

الأولى: ما رواه البخاري وغيره من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وهل ترك لنا عقيل من رباع)) .

والثانية: ما رواه البخاري وغيره أيضًا من إذنه صلى الله عليه وسلم لهند زوجة أبي سفيان أن تأخذ من ماله كفايتها وكفاية ولدها.

قال البخاري (1) :

"حدثنا أصبغ ، قال: أخبرني ابن وهب ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن علي بن الحسين ، عن عمرو بن عثمان ، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله ، أين تنزل بدارك بمكة؟ فقال:((وهل ترك عقيل من رباع أو دور)) ؟ وكان عقيل ورث أبا طالب ، هو وطالب ، ولم يرث جعفر ولا علي رضي الله عنهما شيئًا؛ لأنهما كانا مسلمين ، وكان عقيل وطالب كافرين ، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لا يرث المؤمن الكافر. قال ابن شهاب: وكانوا يتأولون قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (2) .

(1) البخاري ج: 2. ص: 57.

(2)

الآية: (72) سورة الأنفال.

ص: 1295

وقال (1) : حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن هندًا قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح ، وأحتاج أن آخذ من ماله. قال النبي صلى الله عليه وسلم:((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) .

وسواء كان قوله صلى الله عليه وسلم: ((وهل ترك لنا عقيل من رباع)) عند فتح مكة أو في حجة الوداع أو فيهما معًا ، فالقصة متعددة على اختلاف بين الرواة والنقلة ، بسطه ابن حجر في الفتح ، فإن الذي يعنينا هو أنه صلى الله عليه وسلم قعد شرعه ، لولا تقعيده لها لكان موضوعها مجال خلاف واسع بين المسلمين ، وهي أن الكافر حين يسلم، يسلم على ما في يده ما أصاب في حال الكفر ، وإن كان من مال استحقه المسلمون، وبيان ذلك أن إرث رسول الله صلى الله عليه وسلم جده عبد المطلب وإرث علي وجعفر رضي الله عنهما من أبيهما أبي طالب استحوذ عليه عقيل أخوهما رضي الله عنه قبل أن يسلم ، ولم يسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم رده بعد أن أسلم ، وإنما أقره عليه ، واعتل بإقراره عليه أنه لم يعد يملك رباعا في مكة ينزل فيها ، فقد استحوذ عقيل على رباعه ، وجلي أنه لو لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حق في تركة جده عبد المطلب؛ لأن أباه توفي وعبد المطلب حي ، وأن أعمامه الأحياء هم وحدهم لهم الحق في إرثه ، وكان لعلي أو لجعفر حق في تركة أبيهما أبي طالب في إرثه لعبد المطلب يشمله حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحق عقيل فيما استحوذ عليه لنزل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم أنه صلى الله عليه وسلم حصر الاستحواذ على رباعه في عقيل والعباس وغيره من ورثة عبد المطلب قد أصابوا أنصبتهم من إرثه ما في ذلك شك ، فوضح أن عقيلًا استحوذ هو وحده على رباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع أن شراح الحديث ورواته لم يذكروا شيئا عن طبيعة هذه الرباع ، فإنا نشعر بأنها قد لا تكون مجرد حصته من إرث جده عبد المطلب ، بل يمكن أن يكون منها إرثه من خديجة رضي الله عنها وأن عقيلًا لم يستحوذ استنادًا إلى حق الإرث فحسب ، وإنما كان استحواذه جريًا على سنن المصادرة التي استنتها قريش في أموال المهاجرين من المسلمين ، فكان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:((وهل ترك لنا عقيل من رباع)) تشريعًا بمقتضى الإمامة لقاعدة أن الكافر إذا أسلم يظل له ما أسلم عليه من مال ، وليس للمسلم الذي كان صاحب ذلك المال أن يطالبه به ، ولذلك اعتبرنا هذا الحديث الشريف قاعدة تشريعية متميزة من القواعد الناتجة عن التصرف بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة ، فلو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشرعها لانفتح باب يعسر إغلاقه ، وقد يكون مستحيلًا من الجدل والخصام بين المسلمين السابقين وبين أولئك اللاحقين قد يعوق عملية الإسماح للمسلمين اللاحقين في مجتمع المسلمين السابقين ، وواضح أن هذه المصلحة تعلو على اعتبار المصلحة الفردية لأولئك الذين صودرت أموالهم نتيجة لهجرتهم. وهي فضلًا عن ذلك تشريع يمنع بمقتضاه من تخلى للمسلمين عن شيء من ماله في سبيل الله أن يستعيده وإن أمكنته استعادته ، ومن هذا القبيل الكراهة للمصدق أن يشتري صدقته إن وجدها تباع ، ولمن وهب عتادًا لمجاهد ليجاهد به في سبيل الله أن يشتريه إذا وجده في السوق يباع.

أما قضية هند وأبي سفيان فلها مجال آخر من التشريع وإن تكن انطلقت من قاعدة التصرف بمقتضى الإمامة ، فالإذن لزوجة البخيل المقتر على زوجه وولده أن تأخذ من ماله كفايتها وكفاية ولدها بالمعروف دون استئذان زوجها وحتى بالرغم من امتناعه يثبت أولًا: الحق في العيش الكفاف للزوجة والولد في مال القادر البخيل.

وثانيًا: أولوية هذا الحق وأسبقيته لواجب المحافظة على مال الزوج باعتباره أمانة لا يحل للزوجة أن تتصرف فيه إلا بإذنه.

وثالثًا: إثبات الحق لصاحب الحق المغتصب أو الممنوع منه أن يأخذه إذا وجده أو أمكنه الحصول عليه بأية وسيلة.

ورابعًا: إقرار مبدأ دقيق خطير ، هو أن ما خوله الله من تصرف فيما بين يديه من ما ليس مخولا له تخويلًا مطلقًا غير مقيد ، وإنما هو مخول له تخويلًا محدودا بأن ينتفع به وينفع غيره ، فإذا تجاوز هذا الحد بأن اختص به نفسه وحرم غيره أو حرم نفسه وحرم غيره بخلًا وأمكن لغيره الشريك فيه بحكم الشرع أن ينال منه نصيبه بمعروف ، فله ذلك غير آثم ، إنما الإثم على ذلك الذي حاول أن يمنعه حقه أنانية أو بخلًا.

(1) البخاري ج: 8. ص: 115 و116.

ص: 1296

هذه بعض الأحكام التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقضية هند وأبي سفيان ، وهي من الفيوض الكريمة للتصرف بمقتضى الإمامة اعتبارا للمصلحة العامة ، وما أكثر ما أصاب المسلمون من فيوض سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من خير عميم.

وكان الصحابة رضوان الله عليهم - لا سما أهل الفتيا - وأولو الأمر منهم يدركون ذلك أعمق الإدراك من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بوعيهم لمناط ما يشرع قولًا وفعلًا ، ولو قد مضينا في استقصاء مداركهم هذه بأسانيدها لملأنا مجلدات.

حسبنا أن نقف عند نماذج منها مما انتهجه عمر خلال سني خلافته، فما نعلم في تاريخ التشريع الإسلامي في العهد الأول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عمر وعيًا بحقائق التشريع وتجلية لخباياه وسرائره على حرص شديد منه أن لا ينحرف عن صاحبيه قيد أنملة، ولسنا نغفل الصديق رضي الله عنه ونحسبه لو مد الله في عمره سيكون مثل عمر وإن بأسلوب مختلف في التطبيق والتنفيذ لاختلاف طبيعة الرجلين الجليلين في التعامل مع الناس والأشياء والأحداث ، وآية ذلك موقفه رضي الله عنه من مانعي الزكاة والعمل على حفظ القرآن من التلاشي والاندثار بالأمر بجمعه بعد محنة القراء في اليمامة ، وكلا الأمرين مشهوران ، لسنا بحاجة فيهما إلى بيان أو إسناد.

أما الفاروق رضي الله عنه فقد شاء الله أن تطول خلافته هونا ، فاستطاع أن يكمل بيان التشريع الإسلامي وتجلية مناطه ومغازيه وإيضاح معالم النهج الذي يتعين سلوكه في تطبيقه حتى لا يعسر على الفقيه الواعي أن يجد حدثًا مما يستجد في حياة الناس على اختلاف أطوار حضارتهم وأنماط بيئاتهم ليس للحكم فيه أو لتكييف مواجهته أساس من عمل عمر أو قوله إن لم يكن له أساس من فعل رسول الله أو قوله ، وليس في القرآن الكريم نص صريح يتصل به.

ص: 1297

ونحسب أن حياة عمر العامة هي المرجع الغني الأصيل بعد سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لالتماس حكم الشريعة الإسلامية فيما لم يأت فيه نص في القرآن الكريم.

ولو مضينا في استقصاء النماذج - أقول: النماذج ، وليس الكل - لما يصل بموضوعنا (الحكم بمقتضى الإمامة) من حياة عمر العملية والقولية العامة ، لكان علينا أن نضع مجلدًا خاصا بنصوصها وأسانيدها ومقاصدها وما يستنبط منها ، وكم نود أن يمد الله لنا في العمر ويمنحنا من الجهد ويهبنا من التوفيق ما يتيح لنا التفرغ لهذا العمل بعد أن نفرغ من عمل نرسم له الآن معالمه ، وهو المنهاج النبوي في السياسة الداخلية والخارجية للدولة الإسلامية.

لذلك نحاول أن ندرج كما اتفق وتيسر لنا - ولا نقول: أن نصطفي ، فحياة عمر كلها صفوة الصفايا - بعض النماذج لتصرفاته التشريعية بمقتضى الإمامة رضي الله عنه وأرضاه.

روى عبد الرزاق (1) :

عن الثوري وابن جريج ، عن يحيى بن سعيد ، عن مسلم بن جندب.

وروى ابن حزم (2) نقلًا عن عبد الرزاق حديث مسلم بن جندب هذا ، وننقله عنه؛ لأن النسخة المطبوعة من مصنف عبد الرزاق سقطت منها كلمة أو كلمتان ، بينما رواية ابن حزم وافية.

قال مسلم بن جندب: قدم المدينة طعام ، فخرج أهل السوق إليه ، فابتاعوه ، فقال لهم عمر: أفي سوقنا هذا تتجرون؟ أشركوا الناس ، أو اخرجوا فاشتروا ، ثم ائتوا فبيعوا.

وقال مالك (3) : إنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال: لا حكرة في سوقنا ، لا يعمد رجال بأيديهم فضول من أذهاب إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا ، فيحتكرون علينا ، ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده في الشتاء والصيف ، فذلك ضيف عمر ، فليبع كيف شاء الله ، وليمسك كيف شاء الله.

(1) المصنف. ج: 8. ص: 206. ح:14900

(2)

المحلى. ج:9. ص:41.

(3)

الموطأ ص: 544.

ص: 1298

ووصله البيهقي فقال (1) :

أخبرنا عبد الله الحافظ أبو سعيد بن أبي عمرو ، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا الربيع بن سليمان ، حدثنا عبد الله بن وهب ، عن سليمان بن بلال ، عن إسماعيل بن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن أبي ربيعة ، عن أبيه ، أن عمر بن الخطاب خرج إلى السوق ، فرأى ناسًا يحتكرون بفضل أذهابهم ، فقال عمر: لا ، ولا نعمة عين ، يأتينا الله عز وجل بالرزق حتى إذا نزل بسوقنا قام أقوام ، فاحتكروا بفضل أذهابهم عن الأرملة والمسكين ، إذا خرج الجلاب باعوا على نحو ما يريدون من التحكم ، ولكن أيما جالب جلب يحمله على عمود كبده في الشتاء والصيف حتى ينزل سوقنا ، فذلك ضيف لعمر ، فليبع كيف شاء الله ، وليمسك كيف شاء الله.

وقال عبد الرزاق (2) :

أخبرنا ابن جريج ومحمد بن مسلم ، عن عمرو بن دينار ، قال: قال عمر بن الخطاب: من باع في سوقنا ، فنحن له ضامنون ، ولا يبيع في سوقنا محتكر.

أخبرنا معمر أنه بلغه ، أن عمر برجل يبيع طعامًا قد نقص سعره ، فقال: اخرج من سوقنا ، وبع كيف شئت ".

ووصله البيهقي فقال (3) :

أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق وأبو بكر بن الحسن ، قالا: حدثنا أبو العباس الأصم، أنبأنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أنبأ ابن وهب، أخبرني مالك ، عن يونس بن يوسف ، عن سعيد بن المسيب قال: مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه على حاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبًا له بالسوق ، فقال له عمر رضي الله عنه: إما أن تزيد في السعر ، وإما أن ترفع من سوقنا.

(1) السنن. ج:6. ص:30.

(2)

المصنف. ص: 206 و207. ح: 14903/14906.

(3)

السنن. ص: 29.

ص: 1299

وتعقبه البيقهي بقوله:

فهذا مختصر، وتمامه فيما روى الشافعي عن الدراوردي ، عن داود بن صالح التمار ، عن القاسم بن محمد ، عن عمر رضي الله عنه ، أنه مر بحاطب بسوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب ، فسأله عن سعرهما ، فسعر له مدين لكل درهم ، فقال له عمر رضي الله عنه: لقد حدثت ببعير مقبلة من الطائف تحمل زبيبًا وهم يعتبرون بسعرك ، فإما أن ترفع في السعر ، وإما إن تدخل زبيبك للبيت تبيعه كيف شئت ، فلما رجع عمر حسب نفسه ، ثم أتى حاطبًا في داره فقال له: إن الذي قلت ليس بعزمة مني ، ولا قضاء ، إنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد ، فحيث شئت فبع ، وكيف شئت فبع.

وقال عبد الرزاق:

أخبرنا مالك ، عن يونس ، عن يوسف ، عن ابن المسيب ، أن عمر بن الخطاب مر على حاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبًا له في السوق ، فقال له عمر: إما أن تزيد في السعر ، وإما أن ترفع عن سوقنا.

أخبر ابن جريج ، عن عمرو بن شعيب ، قال: وجد عمر بن الخطاب ابن أبي بلتعة يبيع الزبيب بالمدينة ، فقال: كيف تبيع يا حاطب؟ فقال: مدين. فقال: تبتاعون بأبوابنا وأفنيتنا وأسواقنا ، تقطعون في رقابنا ، ثم تبيعون كيف شئتم، بع صاعًا ، وإلا فلا تبع في سوقنا ، وإلا فسيروا في الأرض واجلبوا ، ثم بيعوا كيف شئتم.

وروى مالك في الموطأ (1) :

عن يونس بن يوسف ، عن سعيد بن المسيب ، أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبًا له في السوق ، فقال له عمر: إما أن تزيد في السعر ، وإما أن ترفع عن سوقنا.

قلت: انفرد الشافعي إذا ثبت ما نقل عنه البيهقي بما زاده في روايته لقصة حاطب ، من أن عمر راجع نفسه ، فعاد إليه وأذن له في البيع كيف شاء ، وعلى فرض صحة هذه الزيادة - والزيادة من الثقة مقبولة ، فكيف إذا كانت من إمام

كالشافعي رحمه الله فإن عمر فعل ذلك في رأينا والله أعلم إكرامًا لحاطب؛ لأنه بدري ، وللبدريين مقام متميز بين الصحابة ، فضلًا عن سائر المسلمين.

(1) الموطأ. ص: 544.

ص: 1300

قال أبو عبيد (1) :

"وأما ما جاء في ترك القسم ، فإن هشيم بن بشير حدثنا ، قال: أخبرنا العوام بن حوشب ، عن إبراهيم التميمي ، قال: لما افتتح المسلمون السواد ، قال عمر: اقسمه بيننا ، فإنا افتتحناه عنوة. قال: فأبى ، وقال: فما لمن جاء بعدكم من المسلمين؟ وأخاف إن قسمته أن تفاسدوا بينكم في المياه ، قال: فأقر أهل السواد في أرضيهم ، وضرب على رؤوسهم الجزية وعلى أرضيهم الطسق (2) ولم يقسم بينهم.

وحدثني سعيد بن أبي سليمان ، عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، حدثنا الماجشون ، قال: قال بلال لعمر بن الخطاب في القرى التي افتتحها عنوة: اقسمها بيننا ، وخذ خمسها. فقال عمر: لا ، هذا عين المال ، ولكن أحبسه فيما يجري عليهم وعلى المسلمين. فقال بلال وأصحابه: أقسمها بيننا. فقال عمر: اللهم اكفني بلالا وذويه. قال: فما حال الحول ومنهم حي يطرف.

قال عبد العزيز بن سلمة: وأخبرني زيد بن أسلم ، قال: قال عمر: تريدون أن يأتي آخر الناس وليس لهم شيء.

حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن مالك بن أنس ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه قال: سمعت عمر قال: لولا آخر الناس ما افتتحت قرية إلا قسمتها.

حدثنا ابن أبي مريم ، عن ابن لهيعة قال: أخبرني يزيد بن أبي حبيب عمن سمع عبد الله بن المغيرة بن أبي بردة يقول: سمعت سفيان بن وهب الخولاني يقول: لما افتتحت مصر بغير عهد ، قام الزبير فقال: يا عمرو بن العاص اقسمنها. فقال عمرو: لا أقسمها. فقال الزبير: لتقسمنها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر. فقال عمرو: لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين. فكتب إلى عمر ، فكتب إليه: أن دعها حتى يغزو منها حبل الحبلة.

حدثنا أبو الأسود عن ابن لهيعة ، عن زيد بن أبي حبيب ، أن عمر كتب إلى سعد بن أبي وقاص يوم فتح العراق ، أما بعد فقد بلغني كتابك أن الناس قد سألوا أن تقسم بينهم غنائمهم وما أفاء الله عليهم، فانظر ما أجلبوا به عليك في العسكر من كراع أو مال فاقسمه بين من حضر من المسلمين ، واترك الأرضين والأنهار لعمالها ليكون ذلك في أعطيات المسلمين ، فإنا لو قسمناها بين من حضر لم يكن لمن بعده شيء.

(1) الأموال. ص: 181 و184 الأثر: 146 إلى 152.

(2)

الخراج ولعلها ليست عربية.

ص: 1301

حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مضرب ، عن عمر أنه أراد أن يقسم السواد بين المسلمين ، فأمر أن يحصر ، فوجد الرجل يصيبه ثلاثة من الفلاحين ، فشاور في ذلك ، فقال له علي بن أبي طالب: دعهم يكونوا مادة للمسلمين. فتركهم وبعث إليهم عثمان بن حنيف ، فوضع عليهم ثمانية وأربعين ، وأربعة وعشرين ، واثني عشر (1)

حدثنا هشام بن عمار الدمشقي ، عن يحيى بن حمزة ، قال: حدثني تميم بن عطية المعلي ، قال: أخبرني عبد الله بن أبي قيس أو عبد الله بن قيس الهمداني - شك أبو عبيد (2) قال: قدم عمر الجابية ، فأراد قسم الأرض بين المسلمين ، فقال له معاذ: والله إذن ليكون ما تكره ، إنك إن قسمتها صار الربع العظيم في أيدي القوم ثم يبيدون ، فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة ، ثم يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسدا وهم لا يجدون شيئًا ، فانظر أمرًا يسع أولهم وآخرهم.

قال هشام: وحدثني الوليد بن مسلم ، عن تميم بن عطية ، عن عبد الله بن أبي قيس - أو ابن قيس - (3) أنه سمع عمر يكلم الناس في قسم الأرض ، ثم ذكر كلام معاذ إياه ، قال: فصار عمر إلى قول معاذ.

وقال ابن زنجوية (4) :

(1) على أساس اعتبار رقم استدلالي لها - حسب التعبير الحديث - يزيد وينقص اعتبار الأقوال لمن تضرب عليهم ، وفي ذلك روى ابن زنجويه (الأموال. ج:1. ص: 159 الأثر: 157) وغيره واللفظ لابن زنجويه ، قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا مندل ، عن الشيباني ، عن أبي عون ، عن المغيرة ، عن شعبة ، أن عمر بعث إلى رهط من أهل السواد ، فسألهم عن أعمالهم وعن عيالهم وعن بطالتهم ، ثم وضع عليهم ثمانية وأربعين درهمًا ، وأربعة وعشرين ، واثني عشر. وأعقبه بحديث أبي عبيد الذي أدرجناه في الأصل على حين وردت أحاديث بما يزيد عن هذا القدر وينقص طبقًا لأحوال من تضرب عليهم.

(2)

قال ابن حجر (التقريب. ج: 1. ص: 442. ترجمة: 557) : عبد الله بن أبي قيس ، ويقال: ابن أبي موسى أبو الأسود النصري بالنون الحمصي ، ثقة مخضرم ، من الثانية ، ورمز إلى أنه روى عنه البخاري في الأدب المفرد ومسلم والأربعة.

(3)

قال ابن حجر (التقريب. ج: 1. ص: 442. ترجمة: 557) : عبد الله بن أبي قيس ، ويقال: ابن أبي موسى أبو الأسود النصري بالنون الحمصي ، ثقة مخضرم ، من الثانية ، ورمز إلى أنه روى عنه البخاري في الأدب المفرد ومسلم والأربعة.

(4)

الأموال. ج: 1. ص: 190. الأثر: 222.

ص: 1302

حدثنا سعيد بن أبي مريم، أنبأ محمد بن جعفر، أخبرني زيد بن أسلم ، عن أبيه ، أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: أنا والذي نفسي بيده لولا أن أترك آخر الناس ببانا (1) ليس لهم شيء ما فتحت في قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ولم أتركها خزانة لهم يقسمونها.

قال البخاري (2) : حدثنا صدقة، أخبرنا عبد الرحمن ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه قال: قال عمر رضي الله عنه: لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر.

وقال البخاري (3) : حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر ، قال: أخبرني زيد ، عن أبيه ، أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يقول: أما والذي نفسي بيده لولا أن أترك آخر الناس ببانا ليس لهم شيء ما فتحت علي قرية إلا قسمتها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر ، ولكني أتركها خزانة لهم يقتسمونها.

حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا ابن مهدي ، عن مالك بن أنس ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عمر رضي الله عنه قال: لولا آخر المسلمين ما فتحت عليهم قرية إلا قسمتها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر.

ونقل الحافظ في الفتح (4) : عن الدارقطني عن غرائب مالك من طريق معن بن عيسى عن مالك بسند الحديث السابق ، عن عمر قال: لئن بقيت إلى الحول لألحقن أسفل الناس بأعلاهما. لكن روى أحمد في مسنده (5) :

(1) بموحدتين مفتوحتين ، الثانية ثقيلة ، يعنى شيئًا واحدًا أو معدمين لا شيء لهم ، وقيل: صوابه "بيانًا " بموحدة ثم تحتانية بدل الموحدة الثانية ، والمعنى واحد ، انظر ابن حجر فتح الباري. ج:7. ص: 375 و376.

(2)

ج: 5. ص:81.

(3)

ج: 5. ص:81.

(4)

الصحيح. ج: 4. ص: 51.

(5)

ج: 1. ص:31.

ص: 1303

"عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو ، قال: حدثنا هشام - يعني ابن سعد - عن زيد بن أسلم ، عن أبيه قال: سمعت عمر يقول: لئن عشت إلى هذا العام المقبل لا يفتح للناس قرية إلا قسمتها بينهم كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر.

وواضح أن بين هذا الأثر والآثار السابقة له عن عمر ما يشبه أن يكون عمر قد رجع عن احتباس الأرض المفتوحة عنوة وقفا لبيت مال المسلمين ، ترجع عوائده على الأجيال المتعاقبة إلى قسمتها بين الفاتحين ، وقد اعتمد ابن حزم في المحلى (1) هذه الرواية ، فاستظهر بها لما ذهب إليه في هذا الشأن، بيد أننا نرتاب في صحتها متنا لما بين بعض ألفاظها وألفاظ الروايات الأخرى من شبه يوحي بأن فيما اختلفت فيه عن الروايات الأخرى وهما، وقد عرف هشام بن سعد بأنه صدوق ، ولكن له أوهام (2) . وسيأتي عن عمر من التصرفات ما يعضد ما ذهبنا إليه في هذا الشأن على أن احتباس الأرض المفتوحة عنوة أو الرجوع عن احتباسها لو ثبت كلاهما يعضد ما نستظهر به من أعمال عمر على اعتبار التصرف بمقتضى الإمامة طبقًا للمصلحة العامة قاعدة شرعية ثابتة تضبط تصرفات أولي الأمر ، وتحكم ما قد تتغاير فيه المصلحتان العامة والخاصة.

قال يحيى بن آدم (3) :

"حدثنا قيس بن الربيع ، عن رجل من بني أسد ، عن أبيه قال: أصفى حذيفة أرض كسرى وأرض آل كسرى ومن كان كسرى أصفى أرضه ، وأرض من قتل ، ومن هرب ، والآجام ومغيض الماء.

قلت: كان حذيفة عاملًا لعمر.

وقال:

"حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن عبد الله بن الوليد بن عبد الله بن معقل ، قال: حدثني عبد الملك بن أبي حرة ، عن أبيه قال: أصفى عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا السواد عشرة أصناف ، أصفى أرض من قتل في الحرب ، ومن هرب من المسلمين ، وكل أرض لكسرى ، وكل أرض كانت لأحد من أهله ، وكل مغيض ، وكل دبر بريد ، قال: ونسيت أربعًا ، قال: وكان خراج ما أصفى سبعة آلاف ألف ، فلما كانت الجماجم أحرق الناس الديوان ، فأخذ كل قوم ما يليهم.

(1) ج: 7. ص: 343.

(2)

انظر ابن حجر في تهذيب التهذيب.

(3)

الخراج. ص: 63.الأثر: 197 و199. وانظر أيضًا السنن الكبرى ج: 9. ص: 134.

ص: 1304

حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن عبد الله بن الوليد المزني ، عن رجل من بني أسد ، قال: لم أدرك بالكوفة أحدًا كان أعلم بالسواد منه ، قال: بلغت غلة الصوافي على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أربعة آلاف ألف ، وهي التي يقال لها: صوافي الأسنان اليوم ، قلت: وما الصوافي؟ قال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصفى كل أرض كانت لكسرى أو لآل كسرى أو رجل قتل في الحرب أو رجل لحق بأهل الحرب أو مغيض ماء أو دبر بريد ، قال: وخصلتين ذكرهما ولم أحفظهما. وفي حديث قيس: والآجام ، ومن كان كسرى أصفى أرضه.

وقال أبو عبيد (1) .

"حدثنا معاذ بن معاذ وأزهر السمان ، كلاهما عن ابن عون ، فأما أزهر فقال: عن عمر بن يحيى الزرقي ، وأما معاذ فقال: عن الزرقي ولم يسمه ، قال: أقطع أبو بكر طلحة بن عبيد الله أرضًا ، وكتب له بها كتابًا ، وأشهد له ناسًا فيهم عمر قال: فأتى عمر طلحة بالكتاب ، فقال: اختم على هذا. قال: لا أختم ، أهذا كله لك دون الناس؟ قال: فرجع طلحة مغضبًا إلى أبي بكر. فقال: والله ما أدري أنت الخليفة أم عمر؟ قال: لا بل عمر ، ولكنه أبى.

وقال ابن زنجويه (2) :

حدثنا النضر، أخبرنا ابن عون، أنبأنا رجل من بني زريق ، أن أبا بكر رضي الله عنه أقطع طلحة أرضًا ، وكتب له بها كتابًا ، وأشهد فيه ناسًا ، وأشهد عمر فيمن أشهد ، قال: فأتاه بالكتاب ، وقال: اختم هذا. قال: لا ، لم؟ أكل المسلمين أعطى مثل ما أعطاك؟ قال: فخرج وهو غضبان حتى دخل على أبي بكر ، فقال: ما أدري أنت الخليفة أم عمر؟ قال: لا ، بل عمر ، لكنه أبى ذلك.

(1) الأموال. ص: 191. أثر: 685.

(2)

الأموال ج: 2. ص: 622 و623. أثر: 685.

ص: 1305

قلت: تكلموا في عمر بن يحيى الزرقي ، وقال عنه ابن معين: ليس بشيء (1) ثم إنهم قالوا: إن حديثه عن أبي بكر وعمر مرسل ، ومع ذلك فهو يتسق مع تصرفات عمر التي سيأتي بعض منها ، وقد روى ابن زنجويه هذا الحديث عن أبي عبيد بالسند السابق (2) .

وقال أبو عبيد (3) : حدثنا هشام بن إسماعيل الدمشقي ، عن محمد بن شعيب بن شابور ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، أن أبا بكر أقطع لعيينة بن حصن قطيعة ، وكتب له بها كتابًا ، فقال طلحة أو غيره: وإنا نرى هذا الرجل سيكون من هذا الأمر بسبيل - يعني عمر - فلو أقرأته كتابك فأتى عيينة عمر ، فأقرأه كتابه ، ثم ذكر مثل حديث ابن عون - يعني المتقدم في شأن طلحة - وزاد فيه: أنه بصق في الكتاب ومحاه ، قال: فسأل عيينة أبا بكر أن يجدد له كتابًا ، فقال: لا ، والله لا أجدد شيئًا رده عمر.

ورواه البيهقي بأطول ولفظه (4) :

أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان ببغداد، أنبأ عبد الله بن درستويه، حدثنا أبو يوسف يعقوب بن سفيان، حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، حدثنا المحارب ، عن حجاج بن دينار الواسطي ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة قال: جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالا: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن عندنا أرضًا سبخة ، ليس فيها كلأ ولا منفعة ، فإن رأيت أن تقطعناها لعلنا نزرعها ونحرثها

فذكر الحديث في الإقطاع وإشهاد عمر رضي الله عنه عليه ومحوه إياه ، فقال عمر رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما ، والإسلام يومئذ قليل ، وإن الله أعز الإسلام ، فاذهبا فاجهدا جهدكما ، لا أرعى الله عليكما إن رعيتما.

(1) قال البخاري (التاريخ الكبير. ج: 6. ص: 206. ترجمة: 2184) : عمر بن يحيى الزرقي الأنصاري ، أن أبا بكر رضي الله عنهما ، روى عنه ابن عون ، مرسل. ونقل الرازي (الجرح والتعديل. ج:6. ص: 142. ترجمة: 769) كلام البخاري بلفظه ونسبه إلى أبيه ، ثم روى بسنده عن عثمان بن سعيد ، قال: قلت ليحيى بن معين: عمر بن يحيى ما حاله؟ قال: ليس شيء. قلت: لم أعزله على ذكر في تاريخ ابن معين. وقال الذهبي (الميزان. ج: 3. ص: 230. ترجمة 6247) : عمر بن يحيى الزرقي شيخ تابعي ، حدث عنه ابن عون ، قال ابن معين: ليس بشيء.

(2)

الأموال. الأثر: 1024.

(3)

الأموال. الأثر: 686.

(4)

السنن الكبرى. ج: 7. ص: 20.

ص: 1306

ونقله السيوطي (1) عن ابن أبي حاتم بمثل لفظ البيهقي فقال: وأخرج ابن أبي حاتم عن عبيدة السلماني ، قال: جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر ، فقالا: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن عندنا أرضًا سبخة ، ليس فيها كلأ ولا ماء ولا منفعة ، فإن رأيت أن تقطعناها لعلنا نحرثها أو نزرعها ، أو لعل الله أن ينفع بها. فأقطعهما إياها ، وكتب لهما بذلك كتابًا وأشهد لهما ، فانطلقا إلى عمر ليشهداه على ما فيه ، فلما قرآ على عمر ما في الكتاب ، تناوله من أيديهما ، فتفل فيه فمحاه ، فتذمرا وقالا له مقالة سيئة ، فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفهما ، والإسلام يومئذ قليل ، وإن الله قد أعز الإسلام ، فاذهبا فاجهدا جهدكما ، لا أرعى الله عليكما إن رعيتما.

قلت: كان عيينة بن حصن ممن تألفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني فزارة ، وكان الأقرع بن حابس ممن تألفهم من بني نصر.

وقال الطبري (2) :

"حدثنا القاسم ، قال: حدثنا الحسين ، قال: حدثنا هشيم ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن يحيى ، عن حبان بن أبي جبلة ، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأتاه عيينة بن حصن: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} ، وتعقبه بقوله: أي ليس اليوم مؤلفة.

وقال عبد الرزاق (3) :

عن ابن جريج قال: حدثني هشام بن عروة ، عن عروة ، أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أخبره ، عن أبيه قال: توفي حاطب وترك أعبدًا ، منهم من يمنعه من ستة آلاف يعملون في مال لحاطب بشمران ، فأرسل إلي عمر ذات يوم ظهرًا وهم عنده ، فقال: هؤلاء أعبدك سرقوا ، وقد وجب عليهم ما وجب على السارق ، وانتحروا ناقة لرجل من مزينة واعترفوا بها ومعهم المزني ، فأمر عمر أن تقطع أيديهم ، ثم أرسل وراءه ، فرده ثم قال لعبد الرحمن بن حاطب: أما والله لولا أن أظن أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى إن أحدهم يجد ما حرم الله عليه يأكله لقطعت أيديهم ، ولكن والله إذ تركتهم لأغرمنك غرامة توجعك، ثم قال للمتولي: كم ثمنها؟ قال: كنت أمنعها من أربعمائة. قال: أعطه ثمانمائة.

(1) الدر المنثور. ج: 3. ص: 252.

(2)

ج: 10. ص:113.

(3)

المصنف. ج: 1. ص: 238 ، الأثر 18977و 18978.

ص: 1307

وعن معمر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، أن غلمة لأبيه عبد الرحمن بن حاطب سرقوا بعيرًا فانتحروه ، فوجد عندهم جلده ورأسه ، فرفع أمرهم إلى عمر بن الخطاب ، فأمر بقطعهم ، فمكثوا ساعة وما نرى إلا أن قد فرض من قطعهم ، ثم قال عمر: علي بهم ، ثم قال لعبد الرحمن: والله لأني أراك تستعملهم وتسيء إليهم حتى لو وجدوا ما حرم الله لا حل لهم ، ثم قال لصاحب البعير: كم كنت تعطي لبعيرك؟ قال: أربعمائة. قال لعبد الرحمن: قم فاعزم لهم ثمانمائة درهم.

وقال البيهقي (1) : أخبرنا أبو زكرياء بن أبي إسحاق وأبو سعيد بن أبي عمرو ، قالا: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الشيباني، حدثنا أبو أحمد محمد بن عبد الوهاب ، أنبأ جعفر بن عون، حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: أصاب غلمان لحاطب بن أبي بلتعة بالعالية ناقة لرجل من مزينة ، فانتحروها واعترفوا بها ، فأرسل إليه عمر ، فذكر ذلك له ، وقال: هؤلاء أعبدك قد سرقوا وانتحروا ناقة رجل من مزينة ، واعترفوا بها. فأمر كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم ، ثم أرسل بعدما ذهب فدعاه ، وقال: لولا أني أظن أنكم تجيعونهم حتى إن أحدهم أتى ما حرم الله عز وجل ، لقطعت أيديهم ، ولكن والله لئن تركتهم لأغرمنك فيهم غرامة توجعك. فقال: كم ثمنها للمزني؟ قال: كنت أمنعها من أربعمائة. قال: فأعطه ثمانمائة.

وقال ابن حجر (2) : وقال البخاري في التاريخ الصغير: حدثنا محمد بن العلاء ، وقال الحاملي في أماليه: حدثنا مروان بن عبد الله - واللفظ له – قالا: حدثنا عبد الرحمن بن حميد المحاربي، حدثنا حجاج بن دينار ، عن أبي عثمان ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة بن عمرو قال: جاء الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن إلى أبي بكر الصديق رضي

الله عنه فقال (3) : يا خليفة رسول الله ، إن عندنا أرضًا سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة ، فإن رأيت أن تقطعناها. فأجابهما ، وكتب لهما ، وأشهد القوم ، وعمر ليس فيهم ، فانطلقا إلى عمر يشهداه فيه ، فتناول الكتاب وتفل فيه ومحاه ، فتذمرا له ، وقالا له مقالة سيئة ، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما ، والإسلام يومئذ قليل ، وأن الله قد أعز الإسلام ، اذهبا فاجهدا على جهدكما ، لا رعى الله عليكما إن رعيتما. فأقبلا إلى أبي بكر وهما يتذمران ، فقالا: ما ندري والله أنت الخليفة أو عمر؟ فقال: لا ، بل هو لو كان شاء. فجاء عمر وهو مغضب ، فوقف على أبي بكر ، فقال: أخبرني عن هذا الذي أقطعتهما أرضا هي لك خاصة أو للمسلمين؟ قال: بل للمسلمين عامة. قال: فما حملك على أن تخص بها هذين؟ قال: استشرت الذين حولي فأشاروا علي بذلك ، وقد قلت لك: إنك أقوى على هذا مني.

وقال ابن زنجويه (4) : حدثنا أبو الأسود، حدثنا ابن لهيعة ، عن ابن أبي حبيب ، عن ابن أخي عمرو بن الصعق أنه كتب إلى عمر بن الخطاب بأبيات من شعر لما كثر عمال عمر بن الخطاب رضوان الله تعالى عنه:

أبلغ أمير المؤمنين رسالة فأنت أمين الله في المال والأمر

فلا تدعن أهل الرساتيق والجزى يشيعون مال الله في الأدم الوفر

فأرسل إلى النعمان فاعلم حسابه وأرسل إلى عمرو وأرسل إلى بسر

ولا تنسين النافعين كليهما وصهر بني غزوان عندك ذو وفر

ولا تدعوني للشهادة إنني أغيب ولكني أرى عجب الدهر

من الخيل كالغزلان والبيض كالدمى وما ليس ينسى من قدام ومن ستر

ومن غيظة مكنونة في صيانها ومن طي أستار معصفرة حمر

فقاسمهم أهلي فداؤك إنهم سيرضون إن قاسمتهم منك بالشطر

إذا التاجر الطائي جاء بفأرة من المسك راحت في مفارقهم تجري

تبيع إذا باعوا وتغزو إذا غزوا فأنى لهم مال ولسنا بذي وفير.

(1) السنن الكبرى. ج: 8. ص: 278.

(2)

الإصابة ج3. ص: 55 ترجمة: 6151.

(3)

لعل فيه خطأ صوابه: فقالا

(4)

كتاب الأموال. ج: 2. ص: 604و 605 ، أثر: 995 و996.

ص: 1308

وكان عمر بن الخطاب إذا استعمل عاملًا فاستكثر ماله ، بعث إليه ، فأخذ بشطر ماله.

قال أبو عبيد: وأخبرنا معاذ بن معاذ ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين قال: لما قدم أبو هريرة من البحرين ، قال له عمر: يا عدو الله وعدو كتابه ، أسرقت مال الله؟ قال: لست عدو الله ولا عدو كتابه ، ولكني عدو من عاداهما ، ولم أسرق مال الله. قال: فقال: من أين اجتمعت لك عشرة آلاف؟ قال: خيلي تناسلت ، وعطائي تلاحق ، وسهامي تلاحقت. فقبضها منه ، قال أبو هريرة: فلما صليت الصبح استغفرت لأمير المؤمنين.

وروى عبد الرزاق هذا الأثر فقال (1) : عن معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، أن عمر بن الخطاب استعمل أبا هريرة على البحرين ، فقدم بعشرة آلاف ، فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال يا عدو الله وعدو كتابه. قال أبو هريرة: لست عدو الله ولا عدو كتابه ، ولكني عدو من عاداهما. قال: فمن أين هي لك؟ قال: خيل لي تناتجت ، وغلة رقيق لي ، وأعطية تتابعت علي. فنظروه ، فوجدوه كما قال. قال: فلما كان بعد ذلك ، دعاه عمر يستعمله فأبى أن يعمل له ، فقال: أتكره العمل وقد طلب العمل من كان خيرًا منك يوسف؟ قال: إن يوسف نبي ابن نبي ابن نبي ، وأنا أبو هريرة ابن أميمة أخشى ثلاثًا واثنتين ، قال له عمر: أفلا قلت خمسًا؟ قال: لا ، أخشى أن أقول بغير علم ، وأقضي بغير حلم ، ويضرب ظهري ، وينتزع مالي ويشتم عرضي.

(1) المصنف. ج: 11. ص: 323. أثر: 20659

ص: 1309

وقال ابن سعد (1) :

أخبرنا عمرو بن الهيثم ، قال: حدثنا أبو هلال ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة قال: كنت عاملًا بالبحرين ، فقدمت على عمر بن الخطاب ، فقال: عدوا لله وللإسلام - أو قال: عدوًا لله ولكتابه - سرقت مال الله. قلت: لا ، ولكني عدو من عاداهما ، خيل لي تناتجت ، وسهام لي اجتمعت. وأخذ مني عشرة آلاف ، قال: ثم أرسل إلي بعد آن: ألا تعمل؟ قلت: لا. قال: لم أليس قد عمل يوسف؟ قلت: يوسف نبي ابن نبي ، وأخشى من عملكم ثلاثًا واثنتين ، قال: أفلا تقول خمسًا؟ قال: لا، أخاف أن يشتم عرضي ويؤخذ مالي ويضرب ظهري ، وأخاف أن أقول بغير علم ، وأقضي بغير حلم.

أخبرنا هوذة بن خليفة وعبد الوهاب بن عطاء ويحيى بن خليف بن عقبة وبكار بن محمد ، قالوا: حدثنا ابن عون ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة قال لي عمر: يا عدو الله وعدو كتابه ، أسرقت مال الله؟ قال: فقلت: ما أنا بعدو الله ، ولا بعدو كتابه ، ولكني عدو من عاداهما ، ولا سرقت مال الله. قال: فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف؟ قال: قلت يا أمير المؤمنين ، خيلي تناسلت ، وسهامي تلاحقت ، وعطائي تلاحق. قال: فأمر بها أمير المؤمنين ، فقبضت. قال: فكان أبو هريرة يقول: اللهم اغفر لأمير المؤمنين.

أخبرنا عمرو بن عاصم الكلابي، حدثنا همام بن يحيى ، قال: حدثنا إسحاق بن عبد الله ، أن عمر بن الخطاب قال لأبي هريرة: كيف وجدت الإمارة يا أبا هريرة؟ قال: بعثتني وأنا كاره ، ونزعتني وقد أحببتها ، وأتاه بأربعمائة ألف من البحرين ، فقال: أظلمت أحدًا؟ قال: لا، قال: أخذت شيئًا بغير حقه؟ قال: لا، قال: فما جئت به لنفسك؟ قال: عشرين ألفًا. قال: من أين أصبتها؟ قال: كنت أتجر. قال: انظر رأس مالك ورزقك وخذه ، واجعل الآخر في بيت المال.

وقال أبو عبيد (2) :

حدثنا عبد الله بن صالح ، عن الليث بن سعد ، عن يحيى بن سعيد ، أن عمرو بن الصعق لما نظر إلى أموال العمال تكثر ، استكثر ذلك ، فكتب إلى عمر بن الخطاب بأبيات شعر قد ذكرها عبد الله بن صالح عن الليث في حديثه ، قال: فبعث عمر إلى عماله وفيهم سعد وأبو هريرة ، فشاطرهم أموالهم.

(1) الطبقات الكبرى. ج: 4. ص: 335.

(2)

الأموال. ص: 381 أثر: 664 إلى 666.

ص: 1310

وحدثنا معاذ ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين قال: لما قدم أبو هريرة من البحرين ، قال له عمر: يا عدو الله وعدو كتابه ، أسرقت مال الله؟ قال: لست بعدو الله ولا بعدو كتابه ، ولكن عدو من عاداهما ، ولم أسرق مال الله. قال: فمن أين اجتمعت إليك عشرة آلاف درهم؟ قال: خيلي تناسلت ، وعطائي تلاحق ، وسهامي تلاحقت. فقبضها منه، قال أبو هريرة: فلما صليت الصبح استغفرت لأمير المؤمنين.

وحدثنا يعقوب بن إسحاق ، عن زيد بن إبراهيم التستري ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة مثل ذلك ، وزاد فيه قال: قال أبو هريرة: ثم قال لي عمر بعد ذلك: ألا تعمل؟ قلت: لا. قال: لم أليس قد عمل من هو خير منك يوسف؟ فقلت: إن يوسف نبي ابن نبي ابن نبي ، وأنا ابن أميمة ، وأخشى ثلاثًا واثنتين ، قال: فهلا قلت خمسًا؟ قال: أخشى أن أقول بغير علم ، وأحكم بغير حلم - وقال: أقول بغير حلم وأحكم بغير علم ، قال: الشك من ابن سيرين - وأخشى أن يضرب ظهري ، ويشتم عرضي ، وينزع مالي.

وقال ابن زنجوية (1) :

"أنبأ بكر بن بكار، أنبأ أبو حرة، حدثنا محمد ، قال: قال عمر لأبي هريرة: يا عدو الله وعدو كتابه ، خنت مال الله؟ قال: ما خنت مال الله ، وما أنا بعدو الله ولا عدو كتابه ، ولكن عدو من عاداهما ، سهامي اجتمعت ، وخيلي تناسلت. قال: فغرمه اثني عشر ألف درهم ، فلما دخل الصلاة ، قال: اللهم اغفر لعمر.

حدثنا محاضر بن مجالد بن سعيد ، عن عامر الشعبي قال: قال عمر لأناس من أصحاب محمد: يا معشر أصحاب محمد ، إذا تخلفتم عن الأمر بمن أستعين أو من أبعث؟ قال أبو هريرة: فأمرني على البحرين ، قال: فأتاه بثلاثمائة ألف درهم ، فقال عمر: ما رأيت مالًا قط أكثر من هذا ، ما في هذا إلا دعوة مظلوم أو مال يتيم؟ قال أبو هريرة: بئس المرء أنا إن كان المهنأ لك ، وإن كانت لي المؤنة ، ولكن والله ما ألوت أن أطيب. فقال عمر: لله الحمد. فقال أبو هريرة: والله لا أرجع. فقال له: لم يا أبا هريرة؟ قال: لأني أخاف اثنتين - أظنه قال: فيما بيني وبين الله - أخاف بيني وبين الله: أن أقول بغير حكم ، وأقضي بغير حق ، وأخاف ثلاثًا فيما بيني وبينك: أن أصيب شيئًا فلا تحله لي ، وأتعقب من مال فلا تعقبه لي ، وإن حدثتك فلا تصدقني.

(1) الأموال. ج2. ص: 606 أثر: 997 و998.

ص: 1311

وقال أبو يوسف (1) :

"حدثني المجالد بن سعيد ، عن عامر ، عن المحرر بن أبي هريرة ، عن أبيه ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إذا لم تعينوني فمن يعينني؟ قالوا: نحن نعينك. فقال: يا أبا هريرة أنت البحرين وهجر ، ائت العام. قال: فذهبت فجئته في آخر السنة بغرارتين فيهما خمسمائة ألف ، فقال له عمر رضي الله عنه: ما رأيت مالًا مجتمعًا قط أكثر من هذا ، فيه دعوة مظلوم أو مال يتيم أو أرملة ، قال: قلت: لا والله بئس والله الرجل أنا ، إذًا إن ذهبت أنت بالمهنأ ، وأنا أذهب بالمؤنة.

قال الطبري (2) : كتب إلي السري ، عن شعيب ، عن سيف ، عن أبي المجالد وأبي عثمان والربيع وأبي حارثة ، قالوا: ولما قفل خالد وبلغ الناس ما أصابت تلك الطائفة ، انتزعه رجال ، فانتجع خالدًا رجال من أهل الآفاق ، فكان الأشعث بن قيس (3) ممن انتجع خالدًا بقنسرين ، فأجازه خالد بعشرة آلاف ، وكان عمر لا يخفى عليه شيء في عمله، كتب إليه من العراق بخروج من خرج ، ومن الشام بجائزة من أجيز فيها ، فدعا البريد ، وكتب معه إلى أبي عبيدة أن يقيم خالدًا ويعقله بعمامته وينزع منه قلنسوته حتى يعلمهم من أين إجازة الأشعث ، أمن ماله أم من إصابة أصابها؟ فإن زعم أنها من إصابة أصابها ، فقد أقر بخيانة ، وإن زعم أنها من ماله ، فقد أسرف واعزله على كل حال ، واضمم إليك عمله ، فكتب أبو عبيدة إلى خالد ، فقدم عليه ، ثم جمع الناس ، وجلس على المنبر ، فقام البريد وقال: يا خالد ، أمن مالك أوجزت بعشرة آلاف أو من إصابة؟

(1) الخراج. ص: 114.

(2)

تاريخ الرسل والملوك. ج: 4. ص: 67 وما بعدها.

(3)

الأشعث بن قيس الكندي صحابي نزل الكوفة كما يقول ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 1. ص: 359. ترجمة 653)، وقيل: مات بها أيضًا بعد استشهاد علي رضي الله عنه بيسير حين صالح الحسن عليه السلام ومعاوية ، وكان قد ارتد ثم عاد إلى الإسلام في خلافة أبي بكر وزوجه أخته أم فروة ، وشهد القادسية والمدائن وصفين ، وكان له دور في الفتنة يغفر الله لنا وله ، ولولا أنه صحابي لكان لنا فيه مقال.

ص: 1312

فلم يجبه حتى أكثر عليه وأبو عبيدة ساكت لا يقول شيئًا ، فقام بلال إليه ، فقال: إن أمير المؤمنين أمر فيك بكذا وكذا. ثم تناول قلنسوته فعقله بعمامته ، وقال: ما تقول؟ أمن مالك أم من إصابة؟ قال: لا ، بل من مالي ، فأطلقه وأعاد قلنسوته ، ثم عممه بيده ، ثم قال: نسمع ونطيع لولاتنا ، ونفخم ونخدم موالينا ، قال: وأقام خالد متحيرًا لا يدري أمعزول أم غير معزول ، وجعل أبو عبيدة لا يخبره حتى إذا طال على عمر أن يقدم ، ظن الذي كان ، فكتب إليه بالإقبال ، فأتى خالد أبا عبيدة ، فقال: رحمك الله ما أردت إلى ما صنعت كتمتني أمرًا كنت أحب أن أعلمه قبل اليوم ، فقال أبو عبيدة: إني ما كنت والله لأروعك ما وجدت لذلك بدا ، وقد علمت أن ذلك يروعك ، قال: فرجع خالد إلى قنسرين فخطب أهل عمله وودعهم وتحمل ، ثم أقبل إلى حمص فخاطبهم وودعهم ، ثم خرج نحو المدينة حتى قدم على عمر فشكاه ، وقال: لقد شكوتك إلى المسلمين ، والله إنك في أمري غير مجمل يا عمر. فقال عمر: من أين هذا الثراء؟ قال: من الأنفال والسهمان، ما زاد على الستين ألفًا فلك ، فقوم عمر عروضه ، فخرجت إليه عشرون ألفًا ، فأدخلها بيت المال ، ثم قال: يا خالد ، والله إنك علي لكريم ، وإنك إلي لحبيب ، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء.

كتب إلي السري عن شعيب ، عن سيف ، عن عبد الله بن مستورد ، عن أبيه ، عن عدي بن سهيل قال: كتب عمر إلى الأمصار: إني لم أعزل خالدًا عن سخطة ولا خيانة ، ولكن الناس فتنوا به ، فخفت أن يتوكلوا عليه ويبتلوا به ، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع ، وألا يكونوا بعرض فتنة.

كتب إلى السري عن شعيب ، عن سيف ، عن مبشر ، عن سالم قال: لما قدم خالد على عمر قال عمر متمثلًا:

صنعت فلم يصنع كصنعك صانع وما يصنع الأقوام فالله صانع.

فأغرمه شيئًا ، ثم عوضه ، وكتب فيه إلى الناس بهذا الكتاب ، ليعذره عندهم وليبصرهم.

وقال الذهبي (1) :

(1) سير أعلام النبلاء. ج: 1. ص: 380. ترجمة: 78.

ص: 1313

"الأصمعي ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين ، أن خالد بن الوليد دخل وعليه قميص حرير ، فقال عمر: ما هذا؟ قال: وما بأسه ، قد لبسه ابن عوف. قال: وأنت مثله (1) عزمت على من في البيت إلا أخذ كل واحد منه قطعة فمزقوه.

وقبل هذا روى الذهبي ما نقلناه عن الطبري في عزل عمر لخالد ، ولم ينسبه إلى الطبري ، وإنما قال (2) :

"ومن كتاب سيف عن رجاله قال: كان عمر لا يخفى عليه شيء من عمله ، وإن خالدًا أجاز الأشعث بعشرة آلاف، فدعا البريد وكتب إلى أبي عبيدة أن تقيم خالدًا وتعقله بعمامته ، وتنزع قلنسوته حتى يعلمك من أين أجاز الأشعث ، أمن مال الله أم من ماله؟ فإن زعم أنه من إصابة أصابها ، فقد أقر بخيانة، وإن زعم أنها من ماله فقد أسرف، واعزله على كل حال، واضمم إليك عمله ، ففعل ذلك ، فقدم خالد على عمر فشكاه ، وقال: لقد شكوتك إلى المسلمين وبالله ، يا عمر إنك في أمري غير مجمل. فقال عمر: من أين هذا الثراء؟ قال: من الأنفال والسهمان، ما زاد على الستين ألفًا فلك ، تقوم عروضه ، قال: فخرجت عليه عشرون ألفًا ، فأدخلها بيت المال. ثم قال: يا خالد ، والله إنك لكريم علي ، إنك لحبيب إلي، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء.

وقال عبد الرزاق (3) :

عن معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، أن رجلًا دخل على عمر بن الخطاب وعليه ثوب "ملالا " - لعله ملألأ منصوب على الحال مخففة فيه الهمزة على مذهب من لا ينطق بالهمزة ، أي: صبغ صباغة أحدثت فيه لمعانًا - فأمر به عمر ، فمزق عليه ، فتطاير في أيدي الناس ، فقال عمر: أحسبه حريرًا.

وقصة عمر مع قصر سعد بن أبي وقاص في الكوفة مما استفاض ذكره بين الناس ، وصفوتها مما رواه الطبري (4) من حديث ابن إسحاق:

(1) الظاهر أن عمر يشير إلى أن ابن عوف رخص له رسول الله صلى الله عليه وسلم في لبس الحرير لمرض به يمنعه من لبس غيره.

(2)

سير أعلام النبلاء. ج: 1. ص: 380. ترجمة: 78.

(3)

المصنف. ج: 11. ص: 88 أثر: 19977.

(4)

تاريخ الرسل والملوك. ج: 4. ص: 47.

ص: 1314

"وكانت الأسواق تكون في موضعه بين يديه ، فكانت غوغاؤهم تمنع سعدًا. الحديث. فلما بني - يعني قصر سعد - ادعى الناس عليه ما لم يقل ، وقالوا: قال سعد: سكن عني الصويت. وبلغ عمر ذلك ، وأن الناس يسمونه قصر سعد ، فدعا محمد بن مسلمة فسرحه إلى الكوفة ، وقال: اعمد إلى القصر حتى تحرق بابه ، ثم ارجع عودك على بدئك ، فخرج حتى قدم الكوفة ، فاشترى حطبًا ، ثم أتى به القصر ، فأحرق الباب ، وأتي سعد ، فأخبر الخبر ، فقال: هذا رسول أرسل لهذا الشأن ، وبعث لينظر من هو ، فإذا هو محمد بن مسلمة ، فأرسل إليه رسولًا بأن ادخل ، فخرج إليه سعد ، فأراده على الدخول والنزول ، فأبى ، وعرض عليه نفقة ، فلم يأخذ ودفع كتاب عمر إلى سعد: بلغني أنك بنيت قصرًا اتخذته حصنًا ويسمى قصر سعد ، وجعلت بينك وبين الناس بابًا ، فليس بقصرك ، ولكنه قصر الخبال ، انزل منه منزلًا مما يلي بيوت الأموال ، وأغلقه ، ولا تجعل على القصر بابًا تمنع الناس من دخوله وتنفيهم به عن حقوقهم ليوافقوا مجلسك ومخرجك من دارك إذا خرجت ، فحلف له سعد ما قال الذي قالوا - يعني: سكن عني الصويت - ورجع محمد بن مسلمة من فوره حتى إذا دنا من المدينة فني زاده ، فتبلغ بلحاء من لحاء الشجر ، فقدم على عمر وقد سنق - أي: بشم - فأخبره خبره كله ، فقال: فهلا قبلت من سعد. قال: لو أردت ذلك كتبت لي به أو أذنت لي فيه. فقال عمر: إن أكمل الرجال رأيًا من إذا لم يكن عهد من صاحبه ، عمل بالحزم أو قال به ولم يتكل ، وأخبره بيمين سعد وقوله ، فصدق سعدًا ، وقال: هو أصدق ممن روى عليه ومن أبلغني.

ونحسب أن هذه النماذج - وأمثالها كثير في تصرفات عمر رضي الله عنه تدمغ كل من يحاول أن يرتاب أو يريب أو يلبس على الناس في شأن التصرف بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة.

فمنع عمر " الاحتكار " حتى في غير وقت حاجة الناس ، بل لمجرد الاحتكار ، سواء كان ضارا بالمستهلك بإغلاء السعر أو ضارا بالتاجر بإنقاص السعر عن المتواضع عليه في السوق تواضعًا غير احتكاري عمل من صميم التصرف بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة ، سواء كانت المصلحة اقتضتها حماية التاجر أو المستهلك ، فالمصلحة العامة ليست أداة حماية طبقة دون أخرى ، أو صنف من الناس دون صنف ، ولا هي قاعدة يتصرف الإمام اعتبارًا لها في حال دون حال ، وإنما هي قاعدة ثابتة أصيلة يلتزمها الإمام في تصرفاته ، وإن اضطره التزامها إلى تأويل نص أو وقف العمل به ، كما فعل عمر ما هو مستفيض الشهرة عنه ، ليس بحاجة إلى نقل مسند من وقفه العمل بقطع يد السارق في عام الرمادة اعتبارًا لحال الناس وما هم عليه يومئذ من الخصاصة التي تضطر البعض منهم إلى تصرفات لو طبق فيها الحكم المنصوص عليه في الكتاب أو في السنة لأوسعهم نكالًا ، وإذا فقد يدفعهم إلى العصيان ، وهو أشد وأسوأ عاقبة من مجرد التجاوز اضطرارًا لما حظرته النصوص وأوجبت عليه العقوبة في الأحوال العادية.

ص: 1315

ومثل ما فعله في عام الرمادة إحجامه عن قطع أيدي أعبد لحاطب بن أبي بلتعة - وتقدم إسناد خبره - تقديرًا للظرف الذي دفعهم إلى الاعتداء على مال الغير على أن في هذه الحادثة حكما آخر رسخ قاعدة كنا عرضنا إذ وقفنا عند قوله سبحانه وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (1) وهي قاعدة تسليط العقوبة المالية في بعض الحالات التي تقتضى العقاب ، ذلك بأن عمر غرم حاطبا قيمة الجمل الذي نحره أعبده مضاعفة ، وهذا يعني أن للإمام أن يعاقب من ثبتت عليه جناية مالية أو لها علاقة بالمال ، سواء اقترفها بنفسه أو كان السبب في اقترافها بأكثر مما أضاعت جنايته ، وله تقدير هذا "الأكثر" حسب ما يراه اجتهاده رادعًا للجاني ومرضيا للمجني عليه وزاجرًا عن الجناية نفسها ، ويتراءى لنا أن تغريم عمر حاطبا تلك الغرامة كان يريد به أن يشيع خبره في الناس ، فيمتنعوا عن إجاعة من يعولونهم ويدركوا أن الغرامة على الجناية المالية لا تنحصر بالضرورة عن تعويض ما تلف بسببها ، بل إن تقديرها يرجع إلى نظر الإمام وأدناه العوض المجرد. وبذلك يكون تغريم عمر لحاطب تطبيقًا لقاعدة المصلحة العامة وتصرف الإمام بمقتضاها لما توخاه من جعل حاطب عبرة لغيره من الناس، وربما من تشريع هذه القاعدة سنة يتبعها من قد يصير إليه بعده أمر الناس.

وموقف عمر من عيينة بن حصن وإقطاع أبي بكر له قد يراه البعض عجبًا ، ومن يدري فقد يتخذه الرافض - أو لعلهم اتخذوه ، فليس بين أيدينا ما نرجع إليه من مصادرهم - مغمزًا في عمر، إذ يرون فيه عصيانًا صريحًا وإهانة لا تحتمل لأبي بكر ، وهو الخليفة يومئذ ، فالنظرة الساذجة تعتبر تفل عمر على وثيقة إقطاع أبي بكر لعيينة ومحوه إياها بيده أكثر من مجرد استخفاف لولي الأمر الأعلى، على حين أنه في عمقه عمل جليل من عمر لا يقصد به مجرد إنكار أن يستمر العمل بمداراة (المؤلفة قلوبهم) ، وقد أصبح الإسلام عزيزًا يتحدى كل من تسول له نفسه التمرد أو حتى مجرد الفتنة ، وإنما يقصد به - وربما أساسًا - أن يضع قاعدة جليلة ، هي أن تصرف الإمام نفسه إذا كان مخالفًا للمصلحة العامة يفقد جلاله ووقاره ، ويصبح مجردًا من كل احترام؛ لأن المصلحة العامة فوق كل اعتبار.

(1) الآية رقم (103) سورة التوبة

ص: 1316

ونحسب أن أبا بكر قد فقه ذلك ووعاه ، إذ رفض تجديد الوثيقة حين طلب إليه تجديدها ، وآية ذلك أنه اتخذ نفس الموقف من طلحة كما اتخذ عمر منه نفس الموقف، وليس طلحة من المؤلفة قلوبهم ، بل هو من صدور الصحابة ، وكان أحد السبعة الذين جعل عمر الخلافة بينهم ، وكان من أقرب المقربين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورغم كل ذلك فعل عمر بوثيقة أبي بكر له بالإقطاع مثل ما فعل بوثيقة الإقطاع لعيينة من أبي بكر. ولا عبرة عندنا بمن حاول التشكيك في قضية طلحة ، إذ كبر عليه أن يفعل عمر ما فعل بطلحة ، فوهم وأوهم بأنها قضية عيينة مستندًا إلى رواية أن طلحة هو الذي نصح عيينة بأن يشهد عمر ، وهو وهم عجب ساذج ، إذ أن نصيحة طلحة كانت عن تجربة ، فقد خبر بنفسه فعل عمر ، فلما حضر إقطاع أبي بكر لعيينة نصحه أن يشهد عمر صدورًا عن تجربة سابقة له واختبارًا لموقف عمر إن كان سيختلف موقفه من عيينة عنه معه ، ولكن مواقف عمر لا تختلف لسبب بسيط عميق ، هو أنه – رضي الله عنه كان في جميع تصرفاته يصدر عن قاعدة أصيلة في وعيه هي أن المصلحة العامة تعلو عن الأشخاص والمقامات وعن كل اعتبار غيرها.

يدل على ذلك موقفه من خالد بن الوليد وأبي هريرة، فما من أحد يستطيع أن يتوهم - مجرد الوهم - أن عمر صدر في تصرفه مع خالد ومع أبي هريرة عن اتهام لأحدهما أو حتى عن مجرد اشتباه ، ولكنه قدر أن الناس قد يقولون – والمتربصون والمترصدون للقيل والقال كثير -: إن عمر يغض الطرف عن تصرفات عماله ، وإن عمال عمر يتأثلون الأموال في عملهم ، وآية ذلك أبيات عمر أو أخيه - على اختلاف الروايات - تشي بالعمل إلى عمر ، وتستعديه عليهم بما يشبه التحدي أو الامتحان. وأخرى أن عمر عرض على أبي هريرة أن يعود إلى العمل ، فرفض أبو هريرة ، وأثنى على خالد بعد أن انتزع منه ما انتزع ، فقال له: يا خالد ، والله إنك لكريم علي ، وإنك لحبيب إلي ، ولن تعاتبنى بعد اليوم على شيء.

ص: 1317

ومرة أخرى لا عبرة بمن حاول التشكيك في قصة عمر مع خالد بحجة أن نقدة الحديث ضعفوا سيفًا ، وأن في رجال قصته كما نقلها الطبري عن سيف ونقلها الذهبي عنه أيضًا جهالة ، فالقصة مستفيضة ، ووصم نقدة الحديث نقلة الأخبار بالضعف ليس بمسلم لهم ، إذ لو سلمنا لهم به لالتبس علينا معظم تاريخ القرن الأول وما بعده مما لم يكن يبلغنا لولا ابن إسحاق والواقدي وسيف ومن على شاكلتهم. ثم إن سيفًا لم يصموه بمثل ما وصموا به مالك بن إسحاق ، وليس هذا مجال التحقيق والتحرير في موقف رجال الحديث من نقلة الأخبار.

وثالثة أن عمر حين نعي له خالد ، صرح بما يؤكد ما ذهبنا إليه من تأويل قصته معه.

قال الذهبي (1)

" الواقدي: حدثنا عمر بن عبد الله بن رباح ، عن خالد بن رباح، سمع ثعلبة بن أبي مالك يقول:. رأيت عمر بقباء ، وإذا حجاج من الشام قال: من القوم؟ قالوا: من اليمن ممن نزل حمص ويوم رحلنا منها مات خالد بن الوليد ، فاسترجع مرارًا ، ونكس ، وأكثر الترحم عليه وقال: كان والله سدادًا لنحر العدو وميمون النقيبة، فقال له علي: فلم عزلته؟ قال: عزلته لبذله المال لأهل الشرف وذوي اللسان. قال: فكنت عزلته عن المال وكنت تركته على الجند. قال: لم يكن ليرضى. قال: فهلا بلوته.

ومرة أخرى حاول البعض التشكيك في هذه الرواية بما وصم به بعض نقدة الحديث الواقدي ، وقد سبق جوابنا لهم، ونريد أن نقف مليا عند شهادة عمر لخالد كما وردت في هذه الرواية بأنه إنما عزله لبذله المال لأهل الشرف وذوي اللسان، كان خالد عاملًا لعمر على حمص وما يليها ، فكان يتصرف تصرف الإمام في منطقة عمله ، والذين سكنوا الشام بعد فتحها أوشاب من الناس مختلفة طبائعهم وخلائقهم اختلافهم أصولًا وسابقة في الإسلام ووعيًا بشريعته وخلقه، وخالد يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ربما أعطى شاعرًا أو داعية ليقطع لسانه أي ليكف أذاه عن المسلمين ، وربما أعطى شريفًا في قومه ليتألفه والذين عرفوا (بالمؤلفة قلوبهم) هم أنماط من هؤلاء والشام حديثة عهد بالفتح ، ولا تزال ثغورها ميادين حرب ، والمصلحة العامة تقتضى أن يتخذ المسؤول فيها كل وسيلة يراها تعصم "الدواخل" والثغور عن كل تأثير "لمواجد" أو "قالات" يمكن أن تنتج بلبالا في الدهماء ، اعتبارًا لهذه المصلحة أعطى خالد ما أعطى للأشعث بن قيس ، وربما أعطى غيره من ذوي المقامات في قومهم ، وربما أعطى بعض الشعراء أو الدعاة.

(1) سير أعلام النبلاء ج 1 ص 380 ترجمة 78

ص: 1318

ونحسب أن عمر إنما وجد على خالد من قضية الأشعث بن قيس بالذات ، فالرجل كان من "المؤلفة قلوبهم" ثم ارتد ، ثم عاد وأسلم ، وعمر يرى أن المسلمين في عهده لا ينبغي أن يقيموا وزنًا لمثل هذا الذي لا يمكن أن يستقر على حال ، ورحم الله خالدًا أحسبه حين أعطى الأشعث ، كان يحاول أن يحمله على الاستقرار على الإسلام ، وأن يأمن اضطرابه ، وأن يتألف به قومه. ورحم الله عمر لقد كان رأيه في الأشعث شديدًا ، فليت خالد تركه فاضطرب فانكشف أمره للمسلمين قبل أن يكون ما كان في صفين يوم خب الأشعث وأوضع ، وكان من أسباب الفتنة وعناصرها.

ومهما يكن فكلا الرجلين كان يتصرف "بمقتضى الإمامة " اعتبارًا للمصلحة العامة لا يرتاب في ذلك إلا من ينقصه الوعي والفقه والتوفيق.

ولم يكن عمر يلتزم اعتبار المصلحة العامة في تصرفاته بمقتضى الإمامة إذا كانت متصلة بشؤون المال العام أو بما يؤثر فيه فحسب ، وإنما كان يلتزمه أيضًا فيما يتصل بشؤون السياسة والتوجيه الاجتماعي والفردي ، من ذلك تمزيقه قميص خالد الحريري ، وأمره بتمزيق قميص رجل دخل عليه ، وكان "ملألأ " فظنه من حرير، والقميصان ملك لصاحبيهما ، ولو وقف عمر عند ظواهر النصوص ، لأقر بخلعهما ، ولكنه نظر إلى أبعد من الظواهر ، فخالد من صدور المسلمين ، وكان قائد الجانب من الجند وعاملًا على ناحية من البلاد المفتوحة. أما الرجل الذي لم يسم فما أحسبه كان يجرؤ على أن يدخل على عمر في هيأته "اللامعة " تلك لو لم يكن من (ذوي الهيئات) ، لذلك رأى عمر أن يجعل من كليهما عبرة يتناقلها الناس ويتعظون بها، فزلة "ذوي الهيئات" والمقامات إذا لم تحسم بطريقة لها جهارة ودوي يصك آذان العامة ، قد يتخذها البعض مسوغًا لسلوك يقدمون عليه ، وقد يتخذها آخرون مادة للقيل والقال.

ص: 1319

وحسما لهذا وذاك تجاوز عمر ظاهر النصوص واعتمدنا قاعدة التصرف بمقتضى المصلحة العامة ، فرزأها في قميصيهما ابتغاء أن يشيع خبر ما فعل ، وأن يتردد شيوعه بين الناس ، فيزدجر المترصدون للاحتذاء ، ويحرص المتربصون للغمز واللمز وترتكز قاعدة سياسية واجتماعية مفادها تأكيد حظر لبس الحرير إلا لضرورة مثل التي أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجلها لعبد الرحمن بن عوف أن يلبسه وتطبيق حكم الحظر على الناس جميعًا وإن اختلفت مواقعهم ومقاماتهم بأسلوب واحد لا يتأثر باختلاف المواقع والمقامات ، فتتأكد بذلك سنة المساواة بين الناس في الحكم وتطبيق الحكم.

وتحريق باب قصر سعد عمل سياسي بعيد المدى عميق الأثر ، فعمر أعلم الناس بأنه لو كتب إلى سعد مجرد كتاب يأمره أن يهدم القصر ، لا أن يخلع بابه فحسب ، لما وضع سعد الكتاب من يده قبل أن يكون قد شرع في هدم القصر.

ولكن "أقاويل " بلغت عمر ، فخشي على دولة المسلمين أن تنتشر فيها "قالات " تخدش ثقة العامة في قادتها وصدور أئمتها ، وما من شك في أن الناس جميعًا - أو جمهرة منهم على الأقل ، لا سيما أهل الكوفة وكانوا جندًا لسعد في فارس - قد سمعوا أنه من المبشرين بالجنة ، وعلموا مكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقالة فيه تشيع الريبة فيمن لا يزالون من الإسلام على رخاوة، ومن يدري فالعهد بالنفاق غير بعيد وإن مضت أعوام على لحاق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى ، والاحتمال قوي بأن لا يزال في الناس منافقون دخلوا الإسلام رهبة من السيف أو رغبة في الكيد والفسق. وإذا فقد يجدون من قصر سعد - وقد بني على نمط قصور الأكاسرة كما تقول الروايات - ومن إغلاق سعد بابه على الغوغاء الذين يصطخبون عند بابه بتجارتهم ، إذ كانت السوق بجانب القصر ، والمسجد مادة للارتياب في مدلول العدل والمساواة في الإسلام أو للدس والوقيعة بين عامة المسلمين وصدور أئمتهم ، فكان لزامًا أن يقضى على مثل هذا الاحتمال بعمل حاسم صاخب تتناقله الألسنة ، ويتخذ منه الناس حديث مجلسهم ، ويعتبر به غير سعد من العمال ، وقل فيهم أو استحال من يسامت سعدًا موقعًا ومقامًا وعمق دين. ولا ريب عندنا في أن عمر قد ارتأى ذلك ، وأبعد منه مدى وأعمق أثرًا وأبلغ اعتبارًا حين أمر محمد بن مسلمة بإحراق باب قصر سعد دون أن يطرقه أو ينذره ، ولم يكن يقصد سعدًا بأمره ، وإنما كان يقصد غيره من العمال ، ويقصد عامة الناس.

ص: 1320

وآية ذلك أنه عتب على محمد بن مسلمة إن لم يقبل النفقة التي عرضها عليه سعد ليبرهن على أنه لم يكن غاضبًا على سعد حين أصدر أمره ذاك ، وأنه جعل سعدًا أحد السبعة الذين رشحهم للخلافة ، ونصح للخليفة بعده إن لم يكن سعدًا أن يستعين بسعد ، وتبرأ من أن يكون عزله عن عمله بالكوفة اشتباهًا في خيانته أو كفاءته.

وقد نلتقي مع عمر وتصرفاته التشريعية البديعة فيما نستقبل من هذا البحث ، فهو كاشف أسرار قاعدة (التصرف بمقتضى الإمامة) اعتبارًا للمصلحة العامة والمعلن بعمله أنها أهم مناطق للتشريع الإسلامي في المعاملات وغيرها مما يتصل بحياة البشر ، بل وحتى في بعض شعائر العبادات.

17 -

المصلحة العامة مناط للتشريع

قال ابن منظور (1) :

" المصلحة: الصلاح، والمصلحة واحدة المصالح. والاستصلاح: نقيض الاستفساد ".

وقال (2) :

" المفسدة خلاف المصلحة. والاستفساد خلاف الاستصلاح ، وقالوا: هذا الأمر مفسدة لكذا، أي: فيه فساد، قال الشاعر:

إن الشباب والفراغ والجده مفسدة للعقل أي مفسده

وفي الخبر: أن عبد الملك بن مروان أشرف على أصحابه وهم يذكرون سيرة عمر ، فغاظه ذلك، فقال: إيها عن ذكر عمر ، فإنه إزراء على الولاة مفسدة للرعية.

وقد اشتبه على كثير من المتفقهة المقلدة من المحدثين ومن سبقهم بعد عصور الرواية والاجتهاد الأولى التمييز بين عموم لفظ " المصالح " وخصوص لفظ " المصالح المرسلة " ، فخيل إليهم أنهما شيء واحد ، وانطلقوا من هذا " الخيال " ينسبون أحكامًا مقررة أو يصدرون اجتهادات لبعض ما استجد من الأحداث والأحوال ، وبذلك وقعوا في مزالق ، أيسرها أن بعض الأحكام الثابتة بدلالة نص نقلي من فعل أو قول تخيلوها من " المصالح المرسلة ".

(1) لسان العرب: ج 2. ص: 517

(2)

لسان العرب. ج: 3. ص: 353.

ص: 1321

ومن هذا الالتباس ما حسبه بعض المحدثين من أن التصرف بمقتضى الإمامة فيما خوله الله للإنسان من وظائف المنفعة والانتفاع بالأرض وما عليها وما تصل إليه يده من هذا الكون الفسيح ، ينظر فيه على أساس " المصالح المرسلة " وأن ما فعله عمر – رضي الله عنه – أو غيره مما يتصل بهذا الشأن ، إنما هو صادر من قاعدة " المصالح المرسلة ".

ومن قبل هؤلاء مضى بعد المبتدعة من دراويش الصوفية وأدعياء التصوف إلى اعتبار بدعمهم صادرة من المصالح المرسلة، أو مشاكلة لها (1) .

ولو قد تدبروا لاستبان لهم الفرق البعيد العميق بين عموم " المصلحة العامة " وخصوص "المصالح المرسلة". فهذه من تلك ، ما في ذلك شك عند من اعتبرها سندًا يمكن للمجتهد أن يعتمده عند انعدام النص وعدم توافر مؤهلات القياس الجلي في بعض ما يستجد من الأحداث والأحوال ، أو هي من القياس الخفي عند الذين لم يعتمدوها سندًا مستقلًا وضبطوها بضوابط نسلكها فيما هو من القياس الخفي ، وليس هذا مجال مناقشة هؤلاء وأولئك ، وإن كنا نميل إلى تمييزها عن مختلف أنواع القياس ، وإن أشبهت بعضًا منها واعتبارها سندًا مستقلًا ليس تقليدًا لمالك – رحمه الله – ولكن اقتناعًا بما اعتمده عليه في هذا الشأن.

على أن "المصالح المرسلة" يتضمن اسمها ما يميزها من عموم "المصالح" ، بل إن اعتبارها سندًا مصدره التسليم بأن "المصالح " مناط شرعي واجب الملاحظة والاعتبار عند فهم النصوص الشرعية وتعليلها واستكناه حكمتها.

وما وجد سبيل إلى تحكيم نص قولي أو فعلي من النصوص المسلم بتحكيمها عند أئمة السلف والأصوليين ، فلا يسوغ لأي أحد أن يعدل عن تحكيم النص إلى ابتغاء سند غيره عند الحكم في حادث استجد أو في حال طرأت حتى وإن لم يكن لذلك الحادث أو لتلك الحال شبه بحادث أو حال صدر فيه أو فيها حكم بنص فعلي أو قولي أو بمقتضى نص فعلي أو قولي.

ذلك بأن المصالح باعتبارها مناطًا شرعيًا لا خلاف فيها بين الجمهور إلا ما كان من الرازي ومن على شاكلته من العقلانيين (2) على حين أن (المصلحة المرسلة) كانت وما تزال موضع خلاف يقول الشاطبي (3) :

(1) انظر الشاطبي. الاعتصام. ج 2. ص 117 وما بعدها

(2)

الموافقات ج 2. ص 6، 7.

(3)

انظر الشاطبي. الاعتصام. ج 2. ص 117 وما بعدها

ص: 1322

"وأيضًا فإن القول بالمصالح المرسلة ليس متفقًا عليه ، بل قد اختلف فيه أهل الأصول على أربعة أقوال ، فذهب القاضي وطائفة من الأصوليين إلى رده ، وأن المعنى لا يعتبر ما لم يستند إلى أصل ، وذهب مالك إلى اعتبار ذلك ، وبنى الأحكام عليه على الإطلاق ، وذهب الشافعي ومعظم الحنفية إلى التمسك بالمعنى الذي لم يستند إلى أصل صحيح ، لكن بشرط قربه من معاني الأصول الثابتة ، هذا ما حكى الإمام الجويني ، وذهب الغزالي إلى أن المناسب إذا وقع في رتبة التحسين والتزيين ، لم يعتبر حتى يشهد له أصل معين ، وإذا وقع في رتبة الضروري ، فسبيله إلى قبوله ، لكن بشرط قال: ولا يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد ، واختلف قوله في الرتبة المتوسطة ، وهي رتبة الحاجي ، فرده في المستصفى وهو آخر قوليه ، وقبله في شفاء الغليل كما قبل ما قبله. وإذا اعتبر من الغزالي اختلاف قوله ، فالأقوال خمسة.

وقال ابن قدامة (1) :

"الرابع من الأصول المختلفة فيها الاستصلاح وهي اتباع المصالح المرسلة ، والمصلحة هي جلب المنفعة أو دفع المضرة ، وهي على ثلاثة؛ أقسام قسم شهد الشرع باعتبارها ، فهذا هو القياس وهو اقتباس الحكم من معقول النص ، أو الإجماع.

القسم الثاني: ما شهد ببطلانه كإيجاب الصوم بالوقاع في رمضان على الملك ، إذ العتق سهل عليه ، فلا ينزجر والكفارة وضعت للزجر ، فهذا لا خلاف في بطلانه ، لمخالفته النص - قلت: بل في ذلك خلاف باعتبار المناط - وفتح هذا يؤدي إلى تغيير حدود الشرع - قلت: وماذا يمنع إذا أصبح ذلك ضروريًا ، وكفل تحقيق المناط؟!

الثالث: ما لم يشهد له إبطال ولا اعتبار معين، وهذا على ثلاثة ضروب أحدها: ما يقع في مرتبة الحاجات كتسليط الولي على تزويج الصغيرة ، فذلك لا ضرورة إليه ، لكنه محتاج إليه لتحصيل الكفء خيفة من الفوات واستقبالًا للصلاح المنتظر في المآل.

(1) سقط الهامش من الأصل (المجلة) .

ص: 1323

الضرب الثاني: ما يقع موقع التحسين والتزيين ورعاية حسن المناهج في العبادة والمعاملات كاعتبار الولي في النكاح صيانة للمرأة عن مباشرة العقد لكونه مشعرًا بتوقان نفسها إلى الرجال ، فلا يليق ذلك بالمروءة ، ففوض ذلك إلى الولي ، حملًا للخلق على أحسن المناهج ، ولو أمكن تعليل ذلك بقصور رأي المرأة في انتقاء الأزواج وسرعة الاغترار بالظاهر ، لكان من الضرب الأول ، ولكن لا يصح ذلك في سلب عبادتها. قلت: هذه العبارة غير واضحة ، فهذان الضربان لا نعلم خلافًا في أنه لا يجوز التمسك بهما من غير أصل، فإنه لو جاز ذلك كان وضعًا للشرع بالرأي ، ولما احتجنا إلى بعثة الرسل ، ولكن العامي يساوي العالم في ذلك ، فإن كل واحد يعرف مصلحة نفسه. الضرب الثالث: ما يقع في رتبة الضروريات ، وهي ما عرف من الشارع الالتفات إليها ، وهي خمس: أن يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وعقلهم ونسبهم ومالهم. ومثاله قضاء الشرع بقتل الكافر المضل وعقوبة المبتدع الداعي إلى البدع صيانة لدينهم وقضاؤه بالقصاص ، إذ به حفظ النفوس وإيجابه حد الشرب ، إذ به حفظ العقول ، وإيجابه حد الزنا حفظًا للنسل والأنساب ، وإيجابه زجر السارق حفظًا للأموال ، وتفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل ، فذهب مالك وبعض الشافعية إلى أن هذه المصلحة حجة ، لأنا قد علمنا أن ذلك من مقاصد الشرع ، وكون هذه المعالم مقصودة عرف بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات ، فيسمى ذلك مصلحة مرسلة ، ولا نسميه قياسًا؛ لأن القياس لا يرجع إلى أصل معين والصحيح أن ذلك ليس بحجة؛ لأنه ما عرف من الشارع المحافظة على الدماء بكل طريق ، ولذلك لم يشرع المثلة وإن كانت أبلغ الردع والزجر. قلت: لكن شرع ما يشاكلها في المحارب لما استحق منه المبالغة في الردع والزجر ، إذ أباح للإمام تقطيع يده ورجله من خلاف. فتأمل.

ولم يشرع القتل في السرقة وشرب الخمر. قلت: لكن حد السرقة من نص قرآني وقطع اليد شبيه بالمثلة، أما حد الخمر فبالنسبة لذلك ضوعف في عهد عمر وما بعده زجرًا لجرأة الناس واستخفافهم بالحد المسنون ، فإذا أثبت حكما لمصلحة من هذه المصالح لم يعلم أن الشرع حافظ على تلك المصلحة بإثبات ذلك الحكم كان وضعًا للشرع بالرأي وحكما بالعقل المجرد كما حكي أن مالكًا قال: يجوز قتل الثلث من الخلق لاستصلاح الثلثين. ولا نعلم أن الشرع حافظ على مصلحتهم بهذا الطريق فلا يشرع مثله ".

ص: 1324

قلت: هذا كلام ابن قدامة ، وهو حنبلي ، وما نريد أن ندخل معه في جدل ، لا سيما حول ما نقل عن مالك من قتل الثلث لإصلاح الثلثين. فمجال الجدل في ذلك بعيد متشعب ، وليس من شأننا في هذا البحث أن نريد إلا أن نحاجه في صلب المسألة ، مسألة المصلحة المرسلة ، وموقف أحد منها بما ننقله من ابن القيم الحنبلي أيضًا. (1) وهو ينقل نبذًا من كلامه في السياسة الشرعية ، قال في رواية المروزي وابن منصور:

والمخنث ينفى؛ لأنه لا يقع منه إلا الفساد والتعرض له ، وللإمام نفيه إلى بلد يأمن فساد أهله ، وإن خاف به عليهم حبسه ، وقال في رواية حنبل فيمن شرب خمرًا في نهار رمضان أو أكل شيئًا نحو هذا: أقيم الحد عليه وغلظ عليه مثل الذي يقتل في الحرم دية وثلث.

ثم قال:

"ونص الإمام أحمد رضي الله عنه فيمن طاعن على الصحابة أنه قد وجب على السلطان عقوبته وليس على السلطان أن يعفو عنه ، بل يعاقبه ويستتيبه ، فإن تاب ، وألا أعاد العقوبة.

ثم قال:

قالوا: وهذا كل من وجب عليه حق فامتنع ، فإنه يضرب حتى يؤديه ، وأما كلام مالك وأصحابه في ذلك فمشهور.

وبعد أن أورد فتاوى للشافعي تدل على أخذه بهذا النسق من الحكم ، وإن تراءى أنه أبعد الناس عن الأخذ به (2) قال:

"وهل السياسة الشرعية إلا من هذا الباب ، وهي الاعتماد على القرائن التي تفيد القطع تارة ، والظن الذي هو أقوى من ظن الشهود بكثير تارة ، وهذا باب واسع.

(1) سقط أيضا هذا الهامش من الأصل (المجلة) .

(2)

انظر مثلًا الرسالة. ص: 509 إلى 515.

ص: 1325

وليس من شأننا في هذا المجال أن نوغل في استقصاء خلافاتهم وأقوالهم ومواقفهم حول (المصالح المرسلة) وهي في أغلبها أقوال وآراء ومواقف شكلية ، إذ قلما نعثر وقد لا نعثر على قول أو رأي أو موقف موضوعي ، إنما شأننا أن نثبت وجود خلاف وأن نبرز ملامحه تمييزًا لما بين الاستناد في الحكم في حدث أو حال على أساس المصالح المرسلة " والاستناد على أساس المصلحة باعتبارها مناطًا شرعيا ، ولا جدال في أن الاستناد إلى سند ليس مثارًا للخلاف أو هو مما اطمأن إليه الجمهور أولى وأرجح بكثير من الاستناد إلى سند اختلفوا فيه اختلافًا عريضًا وإن يكن في جوهره مجرد اختلاف شكلي.

على أن اعتبار المصلحة أساسًا للحكم في موضوع هذا البحث لا يتعين إلا في بعض ما يطبق عليه من أحداث وأحوال أما في غيرها ، فإن الحكم فيه يرتكز أساسًا على نص شرعي ، منه ما هو من القرآن ، ومنه ما هو من السنة ، ومنه ما هو من عمل أئمة الصحابة وفي طليعتهم عمر رضي الله عنه ولئن اختلفوا في حجية عمل الصحابة ، فإنا نشعر بأن عمل عمر لا يجوز الاختلاف في حجيته؛ لأن الصحابة كانوا يستقبلونه باعتباره تصرفًا بمقتضى الإمامة ، وأغلبه لم ينكره أحد منهم والقليل الذي كان لبعضهم موقف منه مثل عدول عمر عن توزيع أراضي السواد على المسلمين إلى وقفها ليستمر ريعها إلى الأجيال المقبلة منهم وموقف أنس وبعض الصحابة من ذلك ، سانده الجمهور مساندة استمرت في عهد عثمان وعلي دون أن تستمر المعارضة له ، فصار بذلك كغيره مما لم يعارضه أحد من عمله غير مرتكز على اجتهاد عمر فحسب ، وهو وحده حجة حاسمة عندنا ، وإنما تحول إلى إجماع سكوتي من غير أولي الأمر وتطبيقي من أولي الأمر ، إذ واصل العمل به عثمان وعلي ، بل احتج ببعضه عثمان على خصومه ، إذ نقموا عليه أشياء مما فعل عمر مثلها مثل التصرف لتوسيع المسجد النبوي في بيوت المجاورين له ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ، وخاصة من أهل الفتيا صحة ما احتج به.

وعلى قاعدة اعتبار المصلحة مناطًا لتشريع واعتبار انطباقها على أي تصرف في حدث أو حال مستمر أو مستجد تطبيقًا للشرع الذي كان مناطه المصلحة في حكمه في القضية المشاكلة أو الراجحة المماثلة واعتبار الأخذ بهذا الأساس مقدمًا على الآخذ بمبدأ " المصالح المرسلة " في الحكم فيما يستجد من الأحداث والأحوال ثم على قاعدة اعتبار حق الإمام في التصرف بمقتضى المصلحة العامة، نأخذ في تقرير ما خلص إليه بحثنا في موضوع انتزاع الملك للمصلحة العامة.

ص: 1326

18 -

خلافة الإنسان وظيفة وليست ملكًا في الأرض

لا مراء في أن الإنسان إنما يحوز ما يستطيع حيازته من الأرض وما عليها وما في باطنها وفي غيرها مما استطاعت يده أن تطول إليه من عناصر الكون وأشيائه ابتغاء لمصلحة يراها قائمة أو ينشد تحقيقها، فلولا المصلحة لما أعنت نفسه بالحيازة وما يترتب عليها من الصيانة والرعاية والحماية بما يقتضيه كل ذلك من جهد العمل وخطير التعرض لألوان شتى من المتاعب والمشاق.

بيد أن الحيازة أيا كان مصدرها إرثًا أو هبة أو نمطًا من التعاقد أو استيلاء بالقوة أو استيلاء بالسبق (إحياء الموات) ليست وحدها "المؤهل " له للحصول شرعًا على حق المنفعة والانتفاع، فبصرف النظر عن الحيازة غير المشروعة أساسًا مثل التي تأتي بالغصب والسرقة والاحتيال وما إلى ذلك مما لا تبيحه الشرائع السماوية والوضعية ، فإن الحيازة المشروعة قد تسوغ صاحبها - نظريًا - حق المنفعة والانتفاع في حين أنه علميًا قد يسلب هذا الحق لأسباب ترجح في اعتبار مصلحته الخاصة أو في اعتبار المصلحة العامة أو في اعتبار مصلحة خاصة لغيره ما يترتب عن مجرد الحيازة المشروعة من التسويغ النظري لحق المنفعة والانتفاع.

فمن المسلم به في الشرائع السماوية والوضعية الحجر على السفيه مثلا ، ولا جدال في أن السفيه نظريا له حق المنفعة والانتفاع بما صارت إليه حيازته بطريقة مشروعة ، بيد أنه - علميًا - غير مسوغ له أن يمارس هذا الحق لافتقاره إلى أهلية الممارسة ، كذلك شأن القاصر الذي لم يبلغ الرشد والعاجز الذي فقد القدرة على الممارسة السليمة لحق المنفعة والانتفاع لمعوق كالشيخوخة البالغة حد الاختلاط والمرض والسجن والأسر وما شاكل ذلك.

فوضح أنه لا بد من التمييز بين الأهلية لاستحقاق المنفعة والانتفاع ، وبين الأهلية لممارسة هذا الحق ، وهو تمييز ضروري وأساسي لتكييف وتعيين الظروف والحالات والأسباب التي يصبح تدخل الغير بالتصرف أو التصريف فيما يحوزه إنسان ما بطريقة شرعية اعتبارًا لما تقتضيه مصلحته أو مصلحة لغيره ترجح مصلحته أو المصلحة العامة.

ص: 1327

ويتجلى هذا التمييز باستحضار ما سبق أن قررناه بأدلة من الكتاب والسنة وأثار السلف من أن الطبيعة الحق للعلاقة بين الإنسان وما يسوغ له - أو يستطيع - أن يحوزه من الثابت والمنقول ، إنما هي الخلافة عن الله تعالى في عمارة الأرض عمارة تهيئ له وللبشر كافة وللمسلمين خاصة أسباب الحياة الآمنة المطمئنة المتمتعة بكل ما أمكن تيسيره - في نطاق ما يبيحه الشرع - من الطيبات الموفرة لألوان السعادة والبهجة والحبور.

وبما أن الخلافة وظيفة اجتماعية في جوهرها وسياسية واقتصادية في منهجها ، فإن أي إخلال بمقتضياتها يترتب عنه تلقائيا وبدهيا إما زوالها وإما تحديد مداها بحيث ينحصر فيما لا يتناوله الإخلال.

وضوابط الشريعة في الشؤون المدنية وخاصة المعاملات وفي الشؤون السياسية وهي تشمل كل ما يتصل بأمن الدولة الإسلامية داخليا وخارجيا وكفالة الرفاهية والاستقرار والتطور المستمر لها وفي الأحوال الشخصية وفي بعض أنواع الشعائر التعبدية ، إذ تتكامل طقوس التعبد الصرف وأنواع من التصرفات المالية كالزكاة والحج حدود لا يكمل مؤهل الإنسان لحق التصرف والتصريف فيما يحوزه إلا بالاحترام المطلق وبالرعاية الكاملة لها وأي تجاوز لها يسلبه تلقائيًا الحق الكامل في التصرف والتصريف إما كليا أو جزئيا.

وليس تجاوز هذه الحدود أو بعضها منحصرًا في ممارسة تصرف مما يعتبره الشرع ظلما أو اعتداء على الغير بصورة مباشرة فحسب ، بل قد يكون في عدم ممارسة التصرف الذي يعتبره الشرع واجبًا بالتعيين أو بالكفاية بدافع الرفض أو الامتناع.

ص: 1328

وبيان ذلك:

أ- أن مانع الزكاة مثلًا معتد على ضابط من الضوابط التي ترسم له حدود التصرف والتصريف فيما تحوزه مما تجب فيه الزكاة ، وبذلك يكون قد اقترف ما يبيح لغيره ممن له الحق شرعًا أن يتدخل ليمارس تصرفًا فيما يحوزه هو ، يقيم به شريعة الله ، ويؤدي للمستحقين في الزكاة الممنوعة ، سواء كانوا أفرادًا أو بيت مال المسلمين ما لهم من حق فيما يحوزه ذلك المانع لها.

ب- والممارس للمعاملات الربوية معتد اقترف مما يخول لغير ممن له الحق في أن يردعه ويزجره وينتزع منه ما زاد عن رأس ماله ليرده إلى من أخذ منه بطريقة ربوية إن كان قد اضطر إلى ذلك اضطرارًا أو يعود به على الفقراء وعلى بيت مال المسلمين إن كان الطرفان قد أقدما باختيارهما على ممارسة المعاملة الربوية.

ج- والمحتكر الذي يجحف في السعر فيما يكون الناس مضطرين إليه من وسائل عيشهم ومرافقه مثل المواد الغذائية والمساكن المعدة للإيجار معتد سلب نفسه حق التصرف المطلق في النطاق المشروع فيما يحوزه وهي الأسباب لغيره ممن له الحق في منع الاحتكار وردع المحتكر وإقرار العدل بين الناس في تعاملهم وتعايشهم.

د- والمدين الممتنع عن الوفاء وهو قادر عليه أو العاجز عنه لإفلاسه معتد أوجد بتصرفه الأسباب والوسائل لمن له الحق في أن يجبره على الأداء إن كان قادرًا ممتنعًا أو يحجر عليه ويبيع ما يملك نيابة عنه للقيام بأداء دينه جزئيًا أو كليًا.

هـ- والممتنع عن الإنفاق المتعين لإنماء اقتصاد الدولة الإسلامية أو لتسليحها أو لكفاية أية حاجة من حاجاتها معتد باقترافها من شأنه العمل على إضعاف الدولة الإسلامية والإساءة نتيجة لذلك إلى المسلمين مجتمعًا وأفرادًا وللمسؤول عن شؤون الدولة الإسلامية أن يوقف عدوانه عند حده بأن يمارس نيابة عنه انتزاع حصته من الإنفاق المطلوب.

ص: 1329

والإنفاق في المجال العام لا يعني بالضرورة "الإعطاء" ، بل قد يعني "الترويج" وهو إخراج الأموال من خزائنها وتشغيلها إذا احتاج إليها اقتصاد الدولة ، سواء لتنمية صناعتها أو لإيجاد فرص العمل وتحقيق السلم الاجتماعي لأفرادها أو لتجميع طاقة مالية تحتاج إليها للتمكين لهيبتها السياسية بتقوية عملتها أو بتوسيع نفوذها بواسطة سياسة القروض والمساعدات وغير ذلك من الممارسات المالية التي تتوخى منها الدول ضمان وتقوية مركزها السياسي وتأثيرها في المجتمع الدولي.

هذه الأمثلة وما شاكلها مسوغات وأحيانًا موجبات للسلب الكلي أو الجزئي لحق التصرف والتصريف ممن لم يحترم ضوابطها فيما يحوزه أيا كان سبيله إلى حيازته؛ لأن حماية الغير عن الظلم وإن برعاية ما يبدو كما لو كان مصلحة خاصة لذلك الغير ، هو في حقيقته من المصلحة العامة؛ لأن حماية الأفراد أو الجماعات من الظلم ، وصيانة حقوق الآخرين من الضياع من صميم إقامة العدل الذي هو جوهر المصلحة العامة ، ولأن حفظ مصالح الدولة الإسلامية وإن كانت حاجية أو تحسينية من صميم المصلحة العامة ، فالدولة إنما هي الكيان الذي انصهرت فيه وتبوتقت وتكافلت وتكاملت جميع المصالح الذاتية الحق للأفراد الذين تتألف منهم ، ثم هي الجهاز الأمثل لضمان وتنظيم جميع الممارسات الهادفة إلى استمرار عمارة الأرض وتصوره كما وكيفًا وأمدا.

وصيانة حقوق الآخرين ورعاية مقتضيات العدل بين الناس والحرص على استمرار نمو الدولة الإسلامية وازدهارها وتطورها ماديًا وسياسيًا واجتماعيًا ضوابط لمدلول الخلافة عن الله في الأرض واختلال ضابط منها يرتب عنه تلقائيًا انعدام جانب من مدلولها ، وتنتج عنه تبعة على من كان تصرفه سببًا في ذلك الاختلال وتبعة على من يملك شرعًا الحق في منع ذلك الاختلال.

وجلي من الأشواط التي قطعناها في هذا البحث أن استخلاف الله سبحانه وتعالى للإنسان على الثابت والمنقول مما تصل إليه يداه بالطرق المشروعة ليس "تمليكًا " وأن الإنسان ليس "مالكًا " لما في يده من ثابت أو منقول بالمعنى الذي عرفه التشريع الوضعي إلى ما قبل عصر الاشتراكية الملكية، وعرفه الفقهاء المسلمون لها حين قسمها هؤلاء وأولئك إلى قسمين:"ملكية الرقبة " ، و"ملكية المنفعةأو الانتفاع ".

ص: 1330

وقد سبق أن نقلنا عن القرافي (1) رأي المازري - رحمهما الله - من أن الملك الحق لله وحده ، وأن الإنسان إنما يملك المنفعة والانتفاع ، وورد هذا الرأي في بعض قولنا عن غيره أيضًا وهو مما نعتمده ، ولا نعتمد غيره ، ولا يتسق غيره مع وصف الله سبحانه وتعالى في القرآن بأنه (رب العالمين) و (مالك الملك) وما إلى ذلك من الأوصاف التي تؤكد أن الملك الحق لله وحده ومع وصف وظيفة الإنسان في القرآن الكريم بأن الله جعله خليفة في الأرض لينظر كيف يعمل ، وأن الله يرث الأرض من يشاء من عباده الصالحين.

وبما أن الخلافة وظيفة في رأينا وفي رأي الموفقين من السلف وهو ما يدل عليه مناط التشريع في شؤون المعاملات وما يتصل بها من التشريعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

وبما أن الوظيفة لا تعني الملكية ، وإنما تعني التكليف بمهمة محددة تترتب عن التقصير في أدائها تبعات أيسرها انعدام الأهلية للبقاء في الوظيفة أو لممارسة بعض مهامها.

وبما أن الوظيفة يقصد بها أداء نفع عام أو لجماعة معينة أو لمنطقة معينة.

فإن الفشل أيا كان سببه في القيام بالوظيفة التي هي الهدف من الخلافة ليستوجب تلقائيًا إما فقد الوظيفة كلها وذلك يعني لفقد الخلافة وإما انحصارها في نطاق أضيق وإحالة جانب منها إلى الغير ممن له القدرة أو الاستحقاق على

القيام به وهذا يعني بلغة واضحة انتزاع "التخويل " المترتب عن "الخلافة" له كليًا أو جزئيًا وتحويله أو تحويل جانب منه إلى غيره ممن هو أقدر وأصلح لكفايته أو لرعايته بضوابط الشريعة أو لموقعه من المجتمع.

(1) انظر القرافي في البند السابع.

ص: 1331

19 -

الشرعية هي المدار الوحيد لكل تصرف وتصريف في الأرض

إذا تبين أن الإنسان "موظف " بـ "الخلافة " في الأرض لتصريف إلى ما صار إليه من " الثابت والمنقول" بالطرق المشروعة والتصرف فيها طبقًا للطرق المشروعة أيضًا وليس "مالكًا" بالمعنى الذي عرف به "الملك " عند المتفقهة المقلدة

وعند واضعي التشريعات الوضعية وضح - بالضرورة – أن " الشرعية" هي المدار الوحيد لكل تصرف وتصريف في الأرض ما عليها يمارسه الإنسان حاكما أو محكومًا فإذا انتفت "الشرعية " من أي تصرف أو تصريف زالت عمن

يمارسه واستحال وضعه باعتباره موظفًا بالخلافة إلى وضع يتعين النظر في كيفية إعادته إلى "الشرعية" أو إعادة "الشرعية" إليه أو رفعها عنه نهائيا.

وبيان ذلك أن التصرف في "المال" وظيفة اجتماعية حظ الفرد منها يصلح حاله ويحفظ وجوده ويؤهله أن يكون عنصرًا مفيدًا صالحًا في مجتمعه فهو إذًا داخل في إطار المعنى الاجتماعي لوظيفته فإذا تجاوز حدود وظيفته بأن أغفل

المعنى الاجتماعي لها أو لم يغفله ولكن تعدى في ممارسته لها مقتضيات العدالة وهي أساس سلامة المجتمع فقد الأهلية، كليًا أو جزئيا للاستمرار فيها وتعين على ولي الأمر إما

تصحيح سيره وتقويم مساره وإما إقصاؤه إذا فقد المؤهل كليًا.

وطبقًا لهذه القاعدة يتحدد موقف ولي الأمر من حماية الدلالة الاجتماعية لوظيفة الإنسان بالخلافة في الأرض في رصد تصرفات من بأيديهم أموال من الثابت والمنقول ومراقبتها والحرص على أن تكون

بجميع أنماطها وفي جميع أحوالها وأطوارها ملتزمة بالمعنى الاجتماعي لوظيفة الإنسان الخليفة في الأرض وعليه اتخاذ جميع الوسائل الضرورية لمنع الانحراف بوظيفة الخلافة عن مقاصدها الاجتماعية، ونعني بالمقاصد الاجتماعية ما يشمل

رعاية مصالح الناس أفرادًا وكيانًا "دولة! عاجلًا في معاشهم وآجلًا في مواكبتهم لما يقتضيه التطور الحضاري من النماء الاقتصادي واستمرار القوة المانعة لكل مطمع أو مطمح عدائي وذلك بكيفية متصلة مطردة لا يعتريها أي شيء من

شأنه تعويق مسارها أو الإبطاء به إلا أن يكون مما هو من التصرفات القدرية خارجًا عن قدرة الإنسان واختياره.

ص: 1332

ومن هذه القاعدة باعتبارها مناطًا لتشريع الزكاة انطلق - في ما نظن - أبو بكر رضي الله عنه في قتاله لمانعي الزكاة وإن منعوها عقالًا مما كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو المشهور

من قوله.

بل وإبرازا لهذه المناط ضاعف رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة عقابًا لمن منعها قال عبد الرزاق (المصنف. ج: 4. ص: 18. ح: 6824) : عن معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال:

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((في كل أربعين من الإبل السائمة ابنة لبون فمن أعطاها مؤتجرًا فله أجرها ومن كتمها فإنا لآخذوها وشطر ماله عزمة، من عزائم ربك لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)) . وقال أحمد (المسند. ج: 5. ص: 2 و4) : حدثنا إسماعيل بن علية عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((في كل إبل سائمة في كل أربعين بنت لبون لا تفرق إبل عن حسابها فمن أعطاها مؤتجرًا فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها منه وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا جل وعز لا يحل لآل محمد منها شيء)) . وحدثنا يحي بن سعيد، حدثنا بهز، حدثني أبي عن جدي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون لا تفرق إبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا تبارك وتعالى لا يحل لآل محمد منها شيء)) . وقال ابن زنجوية (الأموال. ج: 2. ص: 833. ح: 1443) حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، أنبأنا بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون لا تفرق إبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا لا يحل لآل محمد منها شيء)) .وقال (نفس المرجع. ص: 868. ح: 1534) : حدثنا عبد الله بن بكر، حدثنا بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون ولا يفرق إبل عن حسابها من أعطى مؤتجرًا فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا لا يحل لآل محمد منها شيء)) . وقال أبو داود (السنن. ج: 2. ص: 101. ح: 1575) : حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، أخبرنا بهز بن حكيم. وحدثنا محمد بن العلاء، أخبرنا أبو أسامة عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون ولا يفرق إبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرًا - قال أبو العلاء (مؤتجرًا بها) - فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله

عزمة من عزمات ربنا عز وجل ليس لآل محمد منها شيء)) .

ص: 1333

وقال النسائي (السنن. ج: 5. ص: 25) : أخبرنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا معتمر قال: سمعت بهز بن حكيم يحدث عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((في كل إبل سائمة من كل أربعين ابنة لبون لا تفرق إبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرًا له أجرها ومن منعها فإنا آخذها وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا لا يحل لآل محمد منها شيء)) . وقال (نفس المرجع. ص: 15) : أخبرنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى قال: حدثنا بهز بن حكيم قال: حدثني أبي عن جدي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون لا يفرق إبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها ومن أباها فإنا آخذوها وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا لا يحل لأل محمد منها شيء)) . وقال الحاكم (المستدرك.: 1. ص: 377 و378) : حدثنا أبو بكر أحمد بن سلمان الفقيه، حدثنا الحسن بن مكرم، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا بهز بن حكيم وأخبرنا حمد بن سلمان، حدثنا أحمد بن عيسى، حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث بن سعيد، حدثنا بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((في كل إبل سائمة في كل أربعين ابن لبون لا يفرق إبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا لا تحل لآل محمد منها بشيء)) . وتعقبه بقوله: هذا حديث صحيح الإسناد على ما قدمنا ذكره في تصحيح هذه الصحيفة ولم يخرجاه. وأورده الذهبي في التلخيص ولم يعقب عليه بشيء. وقال البيهقي (السنن الكبرى. ج: 4. ص: 105) : أخبرنا عبد الله بن يحيى بن عبد الجبار، أنبأ أحمد بن إسماعيل الصفار، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا عبد الرزاق.، أنبأ معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((في كل أربعين من الإبل السائمة ابنة لبون من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها ومن كتمها فإنا آخذوها وشطر إبله عزمة من عزمات ربك لا يحل لمحمد ولا لآل محمد)) .وتعقبه بقوله: كذلك رواه جماعة عن بهز بن حكيم وقال أكثرهم: عزمة من عزمات ربنا. ثم قال: أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو.

ص: 1334

حدثنا أبو العاص محمد بن يعقوب، أنبأ الربيع بن سليمان قال: قال الشافعي: ولا يثبت أهل العلم بالحديث أن تؤخذ الصدقة وشطر الإبل الغالي لصدقته ولو ثبت قلنا به. وتعقب قول الشافعي هذا بقوله: هذا حديث قد أخرجه أبو داود في كتاب السنن فأما البخاري ومسلم - رحمهما الله - فإنهما لم يخرجاه جريًا على عادتهما في أن الصحابي أو التابعي إذا لم يكن إلا راو واحد لم يخرجا حديثه في الصحيحين ومعاوية بن حيدة القشيري لم يثبت عندهما رواية ثقة عنه غير ابنه فلم يخرجا حديثه في الصحيح وقد كان ضعيف الغرامة على من سرق في ابتداء الإسلام ثم صار منسوخًا واستدل الشافعي على نسخه بحديث ابن البراء بن عازب فيما أفسدت ناقته فلم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في تلك القصة أنه أضعف الغرامة بل نقل فيها حكمه بالضمان فقط فيحتمل أن يكون هذا من ذاك. والله أعلم. وتعقب السيوطي - وهو شافعي كالبيهقي - حديث النسائي من طريق يحيى الذي أدرجناه آنفًا فقال: قال في النهاية: قال الحربي: غلط الراوي في لفظ الرواية إنما هو وشطر ماله أن يجعل ماله شطرين ويتخير عليه المصدق فيأخذ الصدقة من خير النصفين عقوبة لمنعه الزكاة فأما ما لا يلزمه فلا. وقال الخطابي في قول الحربي: لا أعرف ذا الوجه وقيل: معناه أن الحق مستوفى منه غير متروك وإن تلف شطر ماله كرجل كان له ألف شاة فتلفت حتى لم يبق له إلا عشرون فإنه يؤخذ منه عشر شياه لصدقة الألف وهو شطر ماله الباقي وهذا أيضًا بعيد لأنه قال: إنا آخذوه وشطر ماله وقيل: إنه كان في صدر الإسلام يقع بعض العقوبات في الأموال ثم نسخ كقوله في التمر المعلق من خرج بشيء منه فعليه غرامة مثله والعقوبة وكقوله في ضالة الإبل المكتوبة غرامها ومثلها معها وكان عمر يحكم به فغرّم حاطبًا ضعف ثمن ناقة المزني لما سرقها رقيقها ونحروها وله في الحديث نظائر وقد أخذ أحمد بن حنبل بشيء من هذا وعمل به وقال الشافعي في القديم: من منع زكاة ماله أخذت وأخذ شطر ماله عقوبة على منعه واستدل بهذا

الحديث وقال في الجديد: لا يؤخذ إلا الزكاة لا غير. وجعل هذا الحديث منسوخًا وقال: كان ذلك حيث كانت العقوبة في المال ثم نسخت ومذهب عامة الفقهاء أن لا واجب على متلف شيء أكثر من مثله أو قيمته.

ص: 1335

انتهى كلام السيوطي. قلت: إن تعجب فعجب رجوع الشافعي عن القول بتغريم كاتم الزكاة بعد أن قال به وقياس الفقهاء كتمان الزكاة بعموم إتلاف الغير دون تمييز بين إتلاف متعمد يقصد به النكاية بصاحب المال وبين إتلاف

غير متعمد أو متعمد ولكن بدون نية النكاية وإنما هو الاضطرار كقضية رقيق حاطب وناقة المزني وأعجب من هذا كله فرارهم كدأب كثير من المتفقهة المقلدة إلى دعوة النسخ مع أن الآية الكريمة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} من آخر ما نزل ومع أن عمر رضي الله عنه غرم حاطبًا ثمن ناقة المزني مضاعفًا لأنه أجاع رقيقه حتى ألجأه الجوع إلى العدوان على مال الغير فكيف تستقيم دعوى النسخ مع هذه الحقائق؟ ولماذا رجع الشافعي يغفر الله له عن القول بعقوبة كاتم الصدقة إلا أن يكون رأى رأي البخاري ومسلم في عدم اعتماد الحديث لا يعرف إلا من راو واحد وهو رأي قد تكون له وجاهته في ضبط شروط الإخراج لمدون أو مؤلف في السنة ولكنا لا نعرف له وجهًا وجيهًا لمن يقول بالعمل بحديث الآحاد وهو ما يأخذ به الجمهور ويكاد يعتبر عدم الأخذ به شذوذًا فتأمل. وشرعت العقوبات المالية على من لم يسهم في الإنفاق في الجهاد كما سبق أن ذكرنا غير مرة.

ونعتقد أن من تتبع أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده وخاصة عمر في الشؤون المالية يتضح له بما يرفع عنه كل لبس ما سبق تقريره من أن الضابط الشرعي الذي يحكم " المؤهل" للوظيفة بالخلافة في الأرض وما عليها من ثابت ومنقول هو دلالتها الاجتماعية أو ما يطلق عليه المصلحة العامة.

والمصير الذي لا مصير غيره من هذا المنطلق هو أن واجب ولي الأمر إذا تعينت المصلحة العامة أن يسلب كليًا أو جزئيًا وظيفة الخلافة في الثابت أو المنقول من كل من كان تصرفه غير ملتزم بها.

ص: 1336

ولا سبيل إلى حصر الموجبات على ولي الأمر أن يتخذ هذا الإجراء بيد أننا سبق أن سقنا أمثلة من منع الزكاة والإمساك عن الإنفاق في الجهاد أو له بإمداد الدولة بالمال الذي تكون بحاجة إليه لتطوير قوتها أو صيانتها إرهابًا لأعداء الله وأعداء المسلمين والتعامل مع الآخرين بطريقة من شأنها الإخلال بالسلم الاجتماعي مثل إرهاق العمال أو اضطهادهم أو عدم إنصافهم في الأجور ومثل إجحاف العمال في مطالبهم بما يتجاوز حقوقهم العادلة أو ضرارهم لمن يعملون عندهم لاعتبارات لا علاقة لها بالعمل كالاعتبارات السياسية ومثل محاولة أرباب الصنائع والمصانع ومختلف وسائل الإنتاج استغلال ظروف خاصة حدثت للمجتمع أو للدولة من أجل الحصول على مكاسب إضافية ليست مما يقتضيه العدل، ومثل اندفاع التجار جشعًا إلى استغلال حاجة الناس إلى ما بين أيديهم من ثابت أو منقول برفع أسعارها ورفض تقديمها بالسعر العادل أن يخفض أسعارها عن مستواها العادل ضرارًا لغيرهم ممن يعود عليهم الخفض والخسارة وربما بالإفلاس لمجرد إقصائه من السوق أو لسبب آخر لا يمت إلى العدالة أو الرفق في حقيقته بصلة ومثل ادخار مالكي النقود نقودهم في الخزائن أو المصارف إما بغرض منع التعامل بها إلا بالطرق الربوية وإما بغرض اكتنازها فحسب لاسيما حين تكون الدولة أو المجتمع بحاجة إلى السيولة النقدية إما لتوفير العمل للعاطلين

وإما لتحقيق الموازنة بين الصادرات والواردات وإما لأداء ديون مترتبة على الدولة اضطرها إليه! سبب مشروع وإما لتدعيم عملة الدولة لتحتفظ بقيمتها أو لتزداد قوتها إذا كان في ازدياد قوتها مصلحة اقتصادية.

وفي جميع هذه الحالات وما شاكلها يتعين على ولي الأمر أن يتخذ طبقًا للتصرف بمقتضى الإمامة واعتبار المصلحة العامة جميع الإجراءات التشريعية على هدي القواعد العامة للشريعة الإسلامية لتحقيق ما تقتضيه المصلحة العامة أو يستوجبه الحفاظ على ضوابط الشريعة الإسلامية في المعاملات وغيرها مما يتصل بقواعد الإسلام أو بالمصالح العامة.

ومن هذه الإجراءات محاسبة مانعي الزكاة والذين لم يؤدوها! وإن لم يقصد بعدم أدائها إلى منعها عن كل ما تجمع في ذمتهم منها وأخذه بالقوة إن امتنعوا عن أدائه ولو اقتضى ذلك مصادرة جميع ما يملكون إذا استغرقتها ديون الزكاة.

ص: 1337

ومنها محاسبة من يتعامل مع المصارف أو مباشرة بالطرق الربوبة على ما تجمع لديهم من الفوائد الربوية وأخذه منهم بجميع الوسائل ومنها مصادرة الأموال كلها إذا تبين أنها جميعًا فوائد ربوية ووضح أن رؤوس أموالهم استهلكوها في نفقاتهم الخاصة وأن كل مدخراتهم مجرد فوائد ربوية.

ومنها مصادرة كل ثابت أو منقول صار إلى من يتصرف فيه بطريقة غير مشروعة وحتى بطريقة "مشبوهة" وإن اتخذت صبغة المشروع مثل من يثبت لولي الأمر أنه حاز ما بيده من ثابت أو منقول نتيجة للتعاون مع حكم أو جهاز غير إسلامي عند احتلاله لبلد إسلامي إما في شكل أجور أو في شكل تسهيلات إدارية أو قانونية مكنته من حيازة ما تأثله من ثابت أو منقول لأن ذلك مال حرام ومصير المال الحرام إلى ولي الأمر ينفقه

في المصالح العامة.

ومنها تسخير الأموال المدخرة لتوظيفها في تحقيق مصلحة عامة مثل الزيادة في الإنتاج وتحقيق الاكتفاء الذاتي وما شاكل ذلك إذا امتنع أصحابها عن ترويجها اختياريًا في السبيل التي يرى ولي الأمر أنها بحاجة إليها لأن ذلك في رأينا من

"الكنز " الذي أنذر الله صاحبه بالنكال في الدنيا والآخرة ولأن ترويج المدخرات المالية فيما يحقق المصلحة العامة هو عين الإنفاق في سبيل الله وليس هذا الإنفاق محصورًا في انتزاع المال المكتنز من صاحبه انتزاعا كاملًا بل قد يتحقق في انتزاع التصرف فيه من صاحبه وقيام الدولة بدلًا منه بالتصرف فيه على أن يبقى حق المنفعة والانتفاع به لصاحبه في إطار ما تقتضيه الوظيفة الاجتماعية بالخلافة وذلك بناء على القاعدة التي سبق أن أوضحناها من أن الحق الشرعي للإنسان فيما يحوزه من الثابت والمنقول ينحصر في حق المنفعة والانتفاع في نطاق المصلحة العامة.

ص: 1338

ومنها إعادة توزيع الأموال الثابتة كالأرض والعقارات إذ تجمعت بعامل توفر النقد أو غيره في أيد محدودة حرم منها عامة أفراد المجتمع وكانوا بحاجة إليها أو كان المستحوذون عليها مستغلين لها بصورة تضر بجمهور أفراد المجتمع أو كانوا مقصرين في استغلالها بحيث لا يستغلونها استغلالًا كاملًا ولا يستفيد المجتمع اقتصاديًا وماليًا بما تستطيع تلك العقارات إنتاجه من عوائد يضر عدم توفرها بتلك المصالح.

ومنها إجبار من تكون لهم أموال خارج الدولة الإسلامية التي يقيمون فيها بعامل تهريب النقود أو تهريب الخبرات ابتغاء استغلالها خارج تلك الدولة وإن كان في دولة إسلامية أخرى- إذا قلنا بجواز تعدد الدول الإسلامية أو إذا سلمنا بالأمر الواقع وإن لم ندن لله بشرعيته وهذا هو موقفنا - لمجرد أن ما يعود عليهم من استغلالها خارجها لاسيما إذا كانت الدولة التي يقيمون فيها ويدينون لها بالولاء بحاجة إلى تلك الأموال أو الخبرات لتدعيم تطورها الاقتصادي أو قوتها العسكرية التي تتوخى من تدعيمها إرهاب أعداء الله وأعداء المسلمين أو لتحقيق أمنها الداخلي بتوفير الأسباب الكفيلة بإقرار السلم الاجتماعي على اختلافه.

ولا يلجأ إلى "الإجبار" إلا إذا امتنع أصحابها من إعادتها باختيارهم ويشمل "الإجبار" المدخرات من النقود والممتلكات من العقارات إذ تلجأ الدولة إلى بيعها عليهم كما يشمل إجبار الخبراء على العودة إلى بلادهم واتخاذ جميع الوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك لاسيما إذا كانوا ممن تفتقر الدولة إلى خبرتهم لما لهم من الاختصاص في أنماط من التقنية المتطورة أو في فروع من العلم التجريبي أو النظري بحيث تضطر الدولة إلى جلب خبراء أجانب عنها لتوفير حاجتها من تلك

الاختصاصات إذا لم تجبرهم على العودة إلى بلادهم ذلك بأن "الخبرة " و" الاختصاص " مما يعتبر بمثابة "المال" لما ينتج عنه عند استغلاله فضلًا عن أنهما مما يتعلق به الواجب العيني على كل فرد من بذل الجهد في تدعيم الدولة الإسلامية التي ينتمي إليها ومن الإنفاق في سبيل تدعيمها ما كانت بحاجة من أبنائها إلى الجهد والإنفاق.

ص: 1339

ومنها مصادرة كل مال أو خبرة أو اختصاص ليست الدولة بحاجة إليه ولكنه يستعمل خارجها أو من داخلها استعمالًا يفيد مباشرة أو بطريقة غير مباشرة أعداء الله وأعداء المسلمين أو دولة إسلامية انتسابًا ولكنها غير ملتزمة وإن زعمت الالتزام لاسيما إذا كانت حربًا على السنة النبوية ومناهجها انطلاقًا من بعض الأهواء والبدع التي كانت السبب فيما عرفته الدولة الإسلامية من الفتن وما أصابها من تفرق وشتات ويشمل هذا النوع كل طائفة أو نحلة تتخذ من النيل من الخلفاء الراشدين أو من بعضهم قاعدة لوجودها وجدليتها ذلك بأن أي مال يستعمل في تدعيم هذا النوع من الاتجاهات يندرج في مضمون حرب الله ورسوله والسعي في الأرض فسادًا وعلى الدولة الإسلامية الملتزمة بالسنة النبوية أن تصادره إذ أن صاحبه لم يعد يملكه أو بالأحرى فقد حق خلافة الله في التصرف فيه بالمنفعة والانتفاع لما استعمله فيما يحارب الله ويفسد في الأرض.

لكن إذا ثبت أنه لم يكن قاصدًا إلى حرب الله والإفساد في الأرض وإنما أساء الفهم وأساء التأويل يعاد إليه ما صودر منه على أن يستعمله داخل دولته المسلمة الملتزمة بالسنة النبوية البعيدة عن البدع والأهواء المنحرفة.

ومنها انتزاع حق التصرف والتصريف ممن لا يحسن إنفاق ماله بما يعيث فيه فسادًا بالتبذير والإسراف أشرًا وبطرا {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} (1) لأن هذا التصرف من شأنه - أولًا -: أن يسرع بالفناء فيما بين يديه من مال فيصبح أو يصبح ورثته من بعده عالة على المجتمع و ثانيًا -: أن يكون سببًا في إشاعة نمط من التصرف الفاسد بين من يشهدونه من ذويه خاصة ومن غيره من الدهماء والعوام الذين تستخفهم المظاهر فلا يحسنون التمييز بين ما هو خير وما هو شر وقد يكون ذلك سببًا في إشاعة الحسد في قلوبهم وفي دفعهم إلى تصرفات غير صالحة وقد يكون سببًا في تزيين ذلك السلوك الفاسد لبعض من يملكون مثله أو قريبًا منه ما ييسر لهم مشاكلته أو مقاربته فيترتب عن ذلك شيوع الأخلاق الفاسدة في المترفين والفقراء على السواء.

وهذا النمط من الناس الأشرين البطرين يدخلون أساسًا في قوله سبحانه وتعالى:

{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} (2) من واجب ولي الأمر المسلم التحجير عليهم واستعمال ما يملكون نظريًا فيه حق المنفعة والانتفاع استعمالًا صالحًا يكفل نماءه ويصونه من الضياع ويفيد صاحبه ومجتمعه الإفادة التي تقتضيها الوظيفة الاجتماعية المعنية بخلافة الإنسان في الأرض على أن ينفق عليه بالمعروف.

(1) الآية: (27) سورة الإسراء.

(2)

الآية رقم (5) سورة النساء

ص: 1340

هذه بعض الوجوه التي تجعل من المتعين على ولي الأمر المسلم أن يتدخل بسلطان الشرع الإسلامي لتصحيح مسار المال كوسيلة لإسعاد المجتمع الإسلامي وإعزازه وإنماء مقوماته الاقتصادية وتدعيم ركائزه وأركانه السياسية وتحقيق سيادته على العالم وتأمينه داخلًا وخارجًا "من كل ما يحدث فيه اختلالًا أو اعتلالًا ولا أحسب أحدًا يستطيع أن يزعم أن هنالك مصلحة تعلو أو تسامت هذه المصلحة أو أن هنالك تكليفًا يسبق أو يواكب هذا التكليف لولي الأمر المسلم فيما ولي من أجل رعايته وتحقيقه من أمور المسلمين.

ولا نكران أن تدخل ولي الأمر في هذه الوجوه وما شاكلها من شأنه أن يحدث ألمًا لمن يكون هذا التدخل سلبًا أو تحديدًا لحقه في التصرف والتصريف فيما خوله الله نظريًا حق التصرف فيه وتصريفه من الثابت والمنقول باعتباره واحدًا من البشر الذين وكل الله إليهم خلافته في الأرض بيد أن ما يصيبه من الألم ويعتبره - وقد يعتبره مثله جمهرة من مقلدة المتفقهة - مفسدة لا يجوز إغفالها ليس بشيء في الاعتبار الشرعي عند موازنته بما توخاه وفي الأمر المسلم بتدخله من تحقيق المصلحة العامة فلا توجد مصلحة لا يحتمل أن تصاحبها مفسدة وإنما المعيار الذي لا معيار غيره هو التأكد من أيهما الراجح المصلحة أم المفسدة؟ وحتى لو تراءى - بادي الرأي - أنهما سواء في الموازنة فإن المرجح الحاسم الذي يعتبر إبرامًا لا ينقض هو النظر إلى المال والتأكد من مدى تطابقه وتجانسه مع مقتضيات الشرع الإسلامي نصوصًا أو مناطًا.

وفي هذا المجال يقول الشاطبي رحمه الله (1) :

" النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة من المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون ذلك الفعل مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب أو مفسدة تدرأ ولكن له مال على خلاف ما قصد فيه وقد يكون غير مشروع مفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذ أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المولد إلا أنه عذب المذاق محبوب الغب جار على مقاصد الشريعة.

(1) الموافقات. ج: 4. ص: 194.

ص: 1341

والدليل على صحته أمور أحدها: أن التكاليف - كما تقدم - مشروعة لمصالح العباد، ومصالح العباد إما دنيوية وإما أخروية أما الأخروية فراجعة إلى مآل المكلف في الآخرة ليكون من أهل النعيم لا من أهل الجحيم وأما الدنيوية فإن الأعمال - إذا تأملتها - مقدمات لنتائج المصالح فإنها أسباب لمسببات هي مقصودة للشارع والمسببات هي مآلات الأسباب فاعتبارها في جريان الأسباب مطلوب وهو معنى النظر في المآلات) .

ثم قال:

والثاني: إن مآلات الأعمال إما أن تكون معتبرة شرعًا أو غير معتبرة فإن اعتبرت فهو المطلوب وإن لم تعتبر أمكن أن يكون للأعمال مآلات مضادة لمقصود تلك الأعمال وذلك غير صحيح لما تقدم من أن التكاليف لمصالح العباد ولا مصلحة تتوقع مطلقًا مع إمكان وقوع مفسدة توازيها أو تزيد وأيضًا فإن ذلك يؤدي إلى أن لا تتطلب مصلحة بفعل مشروع ولا تتوقع مفسدة بفعل ممنوع وهو خلاف وضع الشريعة كما سبق.

والثالث: الأدلة الشرعية والاستقراء التام أن المآلات معتبرة في أصل المشروعية كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2)، وقوله:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} (3) وقوله: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (4) وقوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} (5) وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} (6) وقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (7)

وأما في المسألة على الخصوص فكثير، فقد قال في الحديث حين أشير عليه بقتل من ظهر نفاقه ((أخاف أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه)) ورد هذا اللفظ في قضيتين: الأولى تتصل بعبد الله بن أبي بن سلول وحولها قال أحمد (المسند ج: 3. ص: 392 و393) : حدثنا حسين بن محمد، حدثنا سفيان يعني ابن عيينة عن عمرو قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة قال: يرون أنها غزوة بنى المصطلق فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار فقال الأنصاري يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟ فقيل: رجل من المهاجرين كسع رجلًا من الأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها فتنة قال جابر وكان المهاجرون حين قدموا المدينة أقل من الأنصار، ثم إن المهاجرين كثروا فبلغ ذلك عبد الله بن أبي فقال: فعلوها والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فسمع ذلك عمر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أضرب هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عمر دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه.

(1) الآية: (21) سورة البقرة

(2)

الآية: (183) سورة البقرة.

(3)

الآية رقم (188) سورة البقرة.

(4)

الآية رقم (108) سورة الأنعام.

(5)

الآية: (165) سورة النساء.

(6)

الآية: (216) سورة البقرة.

(7)

الآية: (179) سورة البقرة.

ص: 1342

وقال البخاري (ج: 4. ص: 160) : حدثنا محمد، أخبرنا. مخلد بن يزبد، أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع جابرًا رضي الله عنه يقول: غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثاب معه ناس من المهاجربن حتى كثروا وكان من المهاجرين رجل لعاب فكسع أنصاريًا فغضب الأنصاري غضبًا شديدًا حتى تداعوا وقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى أهل الجاهلية ثم قال: ما شأنهم فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري، فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوها، فإنها خبيثة وقال عبد الله بن أبي بن سلول: أقد تداعوا علينا، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال عمر: ألا تقتل يا رسول الله هذا الخبيث لعبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه. ثم قال (نفس المرجع. ج: 6. ص: 65 و66) : حدثنا علي، حدثنا سفيان قال عمرو: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا في غزاة قال سفيان مرة في جيش: فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما بال دعوى جاهلية؟ قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال: دعوها فإنها منتنة، فسمع بذلك عبد الله بن أبي، فقال: فعلوها، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه

ص: 1343

وكانت الأنصار أكثر من المهاجرين حين قدموا المدينة ثم إن المهاجرين كثروا بعد، قال سفيان فحفظته من عمرو فقال عمرو: سمعت جابرًا؛ كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم. وقال مسلم (على هامش شرح النووي. ج: 16. ص138) : حدثنا أبو بكر بن أي شيبة وزهير بن حرب وأحمد بن عبدة الضبي وابن أبي عمر "واللفظ لابن أبي شيبة " قال ابن عبدة: أخبرنا، وقال الآخرون: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: سمع عمرو جابر بن عبد الله يقول: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال دعوى الجاهلية قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال: دعوها، فإنها منتنة، فسمعها عبد الله بن أبي بن سلول فقال: لقد فعلوها، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قال عمر: دعنى أضرب عنق هذا المنافق فقال: دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه. وقال التزمذي (الجامع الصحيح. ج: 5. ص: 417و8 1 4.ح: 5 1 33) : حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار، سمع جابر بن عبد الله يقول: كنا في غزاة قال سفيان: يرون أنها غزوة بني المصطلق، فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما بال دعوى الجاهلية، قالوا: رجل من المهاجرين كسع رجلًا من الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوها؛ فإنها منتنة، فسمع ذلك عبد الله بن أبي بن سلول. فقال: أوقد فعلوها، والله (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، وقال غير عمر، فقال له ابنه عبد الله بن عبد الله: والله لا تنفلت حتى تقر أنك الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز، ففعل. وقال البيهقي (السنن الكبرى. ج:9.: ص: 32) : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني محمد بن عبد الله الكعبي، حدثنا محمد بن أيوب، أنبأ علي بن المديني، حدثنا سفيان قال: قال عمرو: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: كنا في غزاة وقال سفيان مرة أخرى: كنا في جيش

فكسع - أي ضربه من خلف - رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار فقال - هنا سقطٌ، صوابه ما سبق

ص: 1344

أن نقلناه عن البخاري وغيره؛ -: دعوها؛ فإنها منتنة، فسمع ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنا سقط أيضًا كالسابق - فقال: قد فعلوها، أما والله (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنا سقط أيضًا كسابقيه – دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه قال: وكانت الأنصار أكثر من المهاجرين حين قدموا المدينة، ثم إن المهاجرين كثروا بعد.

والقضية الثانية ما كان من بعض المنافقين في قسمة غنائم غزوة حنين وقد اختلفت الرواية في شأنها من الذي استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل المنافق الذي حاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ فورد في بعضها أنه عمر وورد في أخرى أنه خالد ويبدو لي أن نسبها إلى خالد أقرب إلى المنطق بأن القضية الأولى كان بطلها عمر وما أراه إلا قد اعتبر بها أما الثانية فمعقول جدًا أن يكون بطلها خالدا وإنما التبس على بعض الرواة شأن القضيتين فنسبوا الثانية إلى عمر كما نسبوا الأولى وهذه طائفة من الروايات المختلفة في شأنها. قال أحمد (المسند. ج: 3. ص: 354 و355) : حدثنا أبو المغيرة، حدثنا معاذ بن رفاعة، حدثنا أبو الزبير عن جابر بن عبد الله قال: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم هوازن بين الناس بالجعرانة قام رجل من بني تميم فقال: اعدل يا محمد فقال: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل، لقد خبت وخسرت إن لم أعدل، قال: فقال عمر: يا رسول الله، ألا أقوم فأقتل هذا المنافق؟ قال: قال معاذ الله أن تتسامع الأمم أن محمدًا يقتل أصحابه ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا وأصحابًا له يقرؤون القرآن لا يتجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق المرماة من الرمية قال معاذ قال لي أبو الزبير فعرضت هذا الحديث على الزهري فما خالفني

إلا أنه قال: النضي قلت القدح فقال ألست برجل عربي.

وقال (نفس المرجع. ص: 56) : حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أي سعيد الخدري قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسمًا إذ جاء ابن ذي الخويصرة التميمي فقال: "اعدل يا رسول الله، فقال: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل فقال عمر بن الخطاب: أتأذن لي فيه فأضرب عنقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه؛ فإن له أصحابًا يحتقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء ينظر في نضيته فلا يوجد فيه شيء، ينظر في رصافة فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نصله فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم منهم رجل أسود في إحدى يديه أو قال: إحدى ثدييه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر يخرجون إلى حين فترة من الناس فنزلت فيهم {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} الآية.

ص: 1345

قال أبو سعيد: أشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أن عليًا حين قتله وأنا معه جيئ بالرجل على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال (نفس المرجع. ص: 65 و353) : حدثنا محمد بن مصعب حدثنا الأوزاعي عن الزهري عن أبي سلمة والضحاك المشرفي عن أبي سعيد الخدري قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم يقسم مالًا إذ أتاه ذو الخويصرة رجل من بنى تميم فقال: يا محمد اعدل فوالله ما عدلت منذ اليوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله لا تجدون بعدي أعدل عليكم مني، ثلاث مرات، فقال عمر: يا رسول الله، أتأذن لي فأضرب عنقه؟ فقال: لا، إن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر صاحبه إلى فوقه فلا يرى شيئًا، آيتهم رجل إحدى يديه كالبضعة، أو كثدي المرأة، يخرجون على فرقتين من الناس يقتلهم أولى الطائفتين بالله، قال أبو سيد فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأني شهدت عليًا حين قتلهم فالتمس في القتلى فوجد على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حدثنا حسن بن موسى، أنبأنا أبو شهاب عن يحيى بن سعيد عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله: قال جئت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الجعرانة وهو يقسم فضة في ثوب بلال للناس فقال رجل: يا رسول الله، اعدل فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل لقد خبت إن لم أكن أعدل، فقال عمر: يا رسول الله، دعني أقتل هذا المنافق فقال: معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم أو تراقيهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية.

وقال البخاري (الصحيح. ج: 4. ص: 78 1 و79 1) : حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسما إذ أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بنى تميم فقال: يا رسول الله اعدل فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، فقال عمر: يا رسول الله أتأذن لي فأضرب عنقه؟ فقال: دعه، فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى رصافه، فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه وهو قدحه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه، فلا يوجد فيه شيء، قد يسبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أومثل البضعة تدردر، ويخرجون على حين فرقة من الناس.

قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به حتى نظرت إليه على نعت النبي صلى الله عليه وسلم الذي نعت.

وقال مسلم (على هامش شرح النووي ج: 7. ص: 159 إلى 167) : حدثنا محمد بن رمح بن المهاجر، أخبرنا الليث عن يحيى بن سعيد عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة منصرفه من حنين وفي ثوب بلال فضة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها يعطي الناس فقال: يا محمد اعدل قال: ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق. فقال: معاذ الله؛ أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي،إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية.

وحدثنا محمد بن المثنى حدثتا عبد الوهاب الثقفي قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله. وحدثنا أبو بكير ابن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنى قرة بن خالد، حدثنى أبو الزبير عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم مغانم، وساق الحديث، حدثنا هناد بن السري، حدثنا أبو الأحوص عن سعيد بن مسروق عن عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد الخدري قال: بعث علي رضي الله عنه وهو باليمن بذهبة في تربتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أربعة نفر الأقرع بن حابس الحنظلي وعيينة بن بدر الفزاري وعلقمة بن علاثة العامري ثم أحد بنى كلاب وزيد الخير الطائي ثم أحد بني نبهان قال: فغضبت قريش فقالوا: أيعطي صناديد نجد ويدعنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما فعلت ذلك لأتألفهم)) فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين غائر العينين ناتئ الجبين

ص: 1346

محلوق الرأس فقال: اتق الله يا محمد قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فمن يطع الله إن عصيته أيأمنني على أهل الأرض ولا يأمنوني)) قال: ثم أدبر الرجل فاستأذن رجل من القوم في قتله "يرون أنه خالد بن

الوليد " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من ضئضئ هذا قومًا يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)) .

حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد الواحد عن عمارة بن القعقاع، حدثنا عبد الرحمن بن أبي نعم قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهبة في أديم مقروط لم تحصل من ترابها قال: فقسمها بين أربعة نفر بين عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وزيد الخيل والرابع إما علقمة بن علاثة وإما عامر بن الطفيل فقال رجل من أصحابه كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحًا ومساءً قال: فقام رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناشز الجبهة كث اللحية محلوق الرأس مشمر الإزار فقال: يا رسول الله اتق الله فقال: ويلك أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله قال: ثم ولى الرجل فقال خالد بن الوليد يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال: لا؛ لعله أن يكون يصلي، قال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم قال: ثم نظر إليه وهو مقف فقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبًا لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فقال: أظنه قال: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود.

حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن عمارة بن القعقاع بهذا الإسناد قال: وعلقمة بن علاثة ولم يذكر عامر بن الطفيل؛ وقال ناتئ الجبهة ولم يقل ناشز وزاد؛ فقام إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ قال: لا، قال: ثم أدبر فقام إليه خالد سيف الله فقال: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ قال: لا، فقال: إنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله لينًا رطبًا وقال: قال عمارة: حسبته قال: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود.

حدثنا ابن نمير، حدثنا ابن فضيل عن عمارة بن القعقاع بهذا الإسناد وقال بين أربعة نفر زيد الخير والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وعلقمة بن علاثة أو عامر بن الطفيل وقال: ناشز الجبهة كرواية عبد الواحد وقال: ((إنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم)) ولم يقل لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود.

حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن عطاء بن يسار أنهما أتيا أبا سعيد الخدري فسألاه عن الحرورية هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها قال: لا أدري من الحرورية ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يخرج في هذه الأمة "ولم يقل: منها" قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم فيقرأون القرآن لا يجاوز حلوقهم أو حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه فيتمارى في الفوقة هل علق بها من الدم شيء)) .

حدثني أبو الطاهر، أخبرنا أبو عبد الله ابن وهب، أخبرني يونس عن ابن شهاب، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري. وحدثني حرملة بن يحي وأحمد بن عبد الرحمن الفهري قالا: أخبرنا ابن وهب أخبرني يوسف عن ابن شهاب أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن والضحاك الهمداني أن أبا سعيد الخدري قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسما أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم فقال: يا رسول الله اعدل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ويلك ومن يعدل إن لم أعدل؟ قد خبت وخسرت إن لم أعدل)) . فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله ائذن لي فيه أضرب عنقه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه، فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء "وهو القدح " ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد في شيء سبق الفرث والدم آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتلهم وأنا معه فأمر بذلك الرجل فالتمس فوجد فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعت.

وقال الطبراني (المعجم الكبير. ج: 2. ص: 175. ح: 1753) : حدثنا أبو الزنباع روح بن الفرج.

ص: 1347

حدثنا يحيى بن بكير، حدثني ابن وهب عن مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد عن أبي الزبير عن جابر قال: أبصرت عيناي وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة وفي ثوب بلال فضة، رسول الله صلى الله عليه وسلم

يقبضها للناس ويعطيهم، فقال له رجل: يا رسول الله اعدل قال: ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله فلأقتل هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم أو حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية. وقال ابن ماجه (السنن. ج:1. ص:21. ح: 172) : حدثنا محمد بن الصباح، أنبأنا سفيان بن عيينة. عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله بالجعرانة وهو يقسم التبر والغنائم، وهو في حجر بلال، فقال رجل: اعدل يا محمد فإنك لم تعدل فقال: ويلك من يعدل بعدي إذا لم أعدل فقال عمر: دعني يا رسول الله حتى أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا في أصحاب أو أصحاب له يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.

قلت: ورد ذكر ذي الخويصرة في عدة روايات لهذه القصة وذو الخويصرة هذا يقال إنه حرقص بن زهير أحد صدور الخوارج الذي قتل في النهروان ويظهر أن ابن حجر لم يتأكد لديه هذا القول فقد قال وهو ينقله عن ابن عبد البر (الإصابة. ج:1. ص: 320 ترجمة: 1661)"وزعم أبو عمر أنه ذو الخويصرة التميمي رأس الخوارج المقتول بالنهروان" ثم أورد أخبارًا تشكك في صحبة حرقص بن زهير ثم قال وهو يترجم لذي الخويصرة (نفس المرجع. ص: 485. ترجمة: 2450) : التميمي ذكره ابن الأثير في الصحابة مستدركًا على من قبله ولم يورد في ترجمته سوى ما أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم ذات يوم قسمًا فقال ذو الخويصرة رجل من بني تميم: يا رسول الله اعدل فقال: من يعدل إذا لم أعدل. الحديث. وأخرجه من طريق تفسير الثعلبي ثم من طريق تفسير عبد الرزاق كذلك، لكن قال فيه: إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي وهو حرقص بن زهير فذكره.

ثم قال ابن حجر: ووقع في موضع آخر في البخاري قال عبد الله بن ذي الخويصرة وعندي في ذكره في الصحابة وقفة. انتهى كلام ابن حجر.

وهذا الشك في صحبة ذي الخويصرة وصحبة حرقص بن زهير وهل هما رجل واحد أم اثنان واختلاف الرواة في تعيين الرجل الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اعدل. الحديث. نستخلص منه العبر الآتية:

الأولى: أن اختلافهم في التعيين إذا لم يترتب عنه حكم لا يعتبر اضطرابًا في الحديث.

الثانية: أن إطلاق الصحابي على كل من رأى الرسول! أو حتى على كل من شهد منه مشهدًا (ذا لم يثبت استمراره في العيش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تردده عليه إذا كان يقطن بعيدًا عن المدينة إطلاق يجب التحري فيه إذ يترتب عن قبوله القول بعد التهم جميعًا ومن شأن هذا القول أن يحدث حرجًا في اعتبار أمثال ذي الخويصرة هذا - إن ثبت أنه صاحب المقولة - صحابيًا ولا سيما وقد ذكرت بعض الرواة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنه سيدخل النار أو كما قال، فكيف يعتبر عدلًا وهو ما لا مناص منه إن عددناه في الصحابة. الثالثة: إن الخوارج في جميع مصادرهم لتترجم الرجال وتاريخ وقائعهم، ويذكرون حرقص بن زهير كأحد الإمامين الأولين لهم، وهذا يعني أنه يتحمل جانبًا من مسؤولية قيادة الفتنة بين المسلمين، وقد نجد عذرًا فيمن التبس عليهم الأمر فاشتركوا مع معاوية في وقعة صفين، أو مع من واجه عليًا - رضي الله

عنه - في وقعة الجمل، فالأمر في ذلك لا يعدو نطاق الاجتهاد والترجيح في موقع الحق بين المتخاصمين، وفي كلا معسكري الخصام الصحابة الأجلاء، ولكن الذين واجهوا عليًا في النهروان من الصعب اعتبارهم معذورين بالاجتهاد.

فالمعسكران غير متكافئين فيمن اشتركا فيهما ومعسكر النهروان أبعد شيء عن أن يقارب معسكر علي في نوعية المشتركين أو في عدد الصحابة الذين ضمهم فإذا كان حرقص بن زهير هو ذو الخويصرة وإن أثبت أن ذا الخويصرة هو صاحب المقولة وأنه هو الذي جاء فيه ما ورد من نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سيتجيش معه أفلا يكون ذلك رادعًا للقائلين بأن صفة صحابي تشمل كل من أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كل من روى عنه، وإن حديثًا واحدًا؟ الواقع أن إطلاق لفظ صحابي بحاجة إلى كثير من التأمل والتحرير. وقوله: لولا قومك حديث عهدهم بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم يكاد لا يخلو مسند من مساند السنة أو مصدر من مصادر التاريخ الإسلامي من حديث من الأحاديث الواردة في هذا المعنى ولا يترتب عنه حكم متجدد إلا ما كان من اعتبار الحجر - بكسر الحاء وسكون الجيم المعجمة - من الكعبة أو ليس منها وهو أمر طال فيه الخلاف وليس هذا مقام تحريره لذلك نقتصر في تخريج الحديث الذي أشار إليه الشاطبي رحمه الله على ما رواه عبد الرزاق وهو أقدم من الشيخين رحمهما الله - إذ لا نجد حاجة إلى استقراء روايات غيره.

ص: 1348

قال عبد الرزاق (المصنف. ج: 5. ص: 102 و104. ح: 9106) : في حديث طويل رواه عن معمر عن عبد الله - يعنى ابن عثمان بن خثيم - عن أبي الطفيل فذكر حريقها في زمان ابن الزبير فقال ابن الزبير: إن عائشة أخبرتني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لولا حداثة قومك بالكفر لهدمت الكعبة فإنهم تركوها سبعة أذرع في الحجر ضاقت بهم النفقة والخشب. وقال (نفس المرجع. ص: 27 1 و28 1.ح: 0 5 1 9 و1 5 1 9) : عن ابن جريج قال سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير قال وفد الحارث بن عبد الله على عبد الملك في خلافته فقال عبد الملك: ما أظن أبا حبيب سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها قال: وكان الحارث مصدقا لا يكذب قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: سمعتها تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قومك استقصروا من بنيان البيت وإني لولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت فيه ما تركوا منه، فإن بدا لقومك أن يبنوه من بعدي فهلم لأريك ما تركوا منه فأراها قريبًا من سبعة أذرع. هذا حديث عبد الله بن عبيد وزاد عليه الوليد بن عطاء قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: وجعلت له بابين موضوعين في الأرض شرقيًا وغربيًا وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟ قالت: لا. قال:! تعززا لأن لا يدخلوها إلا من أرادوا فإن الرجل إذا كرهوا أن يدخلها يدعونه حتى يرتقي حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط قال عبد الملك للحارث: أنت سمعتها تقول هذا؟ قال نعم فنكت بعصاه ساعة ثم قال: وددت أني تركته وما تحمل.

عن معمر عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: ((الم تري أن قومك استقصروا عن قواعد إبراهيم؟)) قالت: أفلا ترده يا رسول الله على قواعد إبراهيم؟ قال: ((إن قومك حديثو عهد بكفر، أو أنهم حديثون بكفر)) . بمقتضى هذا أفتى مالك الأمير حين أراد أن يرد البيت على قواعد إبراهيم فقال له: لا تفعل لئلا يتلاعب الناس ببيت الله، هذا معنى الكلام دون لفظه قال القاضي عياض (ترتيب المدارك. ج:2. ص: 105 و106) : قال بعضهم: لما قدم الرشيد المدينة وقال آخر: بعض الخلفاء أراد أن ينقض منبر النبي صلى الله عليه وسلم ويزيد فيه فقال لمالك: ما ترى؟ فقال: ما أرى. فغضب وقال: قد زاد فيه معاوية. فقال مالك: إن المنبر إذ ذاك كان صلبًا فلست آمن إن نقضته إن تذهب البركة منه وفي رواية: أن يتهافت فيتشاءم الناس منك ويقولون: زال على يده أثر من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أحسن الله جزاءك فترك ما كان نواه. قال: وشاور المهدي مالكًا في ثلاثة أشياء في الكعبة في أن ينقضها ويردها على ما كانت عليه

فأشار عليه أن لا يفعل، وفي المنبر أن ينقضه ويرده على ما كان عليه؛ وذلك حين أراد أن يرد المنابر كلها صغارًا على منبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له مالك: إنما هو من طرفاء وقد سمر إلى هذه العيدان يعني التي زادها معاوية

وأخشى إن نقضته أن يخرب وينكسر ولولا ذلك لرأيت أن ترده إلى حالته الأولى وشاوره في نافع بن أبي نعيم القارئ أن يقدمه للصلاة. فأشار عليه ألا يفعل وقال: هو إمام أخاف أن يكون منه شيء في الغفلة فيحكى عنه. وفي حديث الأعرابي الذي بال في المسجد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركه حتى يتم بوله وقال: لا تزرموه (1) وحديث النهي عن التشديد على النفس في العبادة خوفًا من الانقطاع وجميع ما مر في تحقيق المناط الخاص مما في هذا المعنى حيث يكون العمل في الأصل مشروعًا لكن ينهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة أو ممنوعًا لكن يترك النهى عنه لما في ذلك من المصلحة وكذلك الأدلة الدالة على سد الذرائع كلها فإن غالبها تذزع بفعل جائز إلى عمل غير جائز فالأصل على المشروعية لكن مآله غير مشروع والأدلة الدالة على التوسعة ورفع الحرج كلها فإن غالبها سماح في عمل غير مشروع في الأصل لما يؤول إليه من الرفق المشروع ولا معنى للإطناب بذكرها وكثرتها واشتهارها قال ابن العربي: حين أخذ في تقرير هذه المسألة اختلف الناس بزعمهم فيها وهي متفق عليها بين العلماء فافهموها وادخروها".

(1) قال المزي (تحفة الأشراف. ج: 1. ص: 110. ح: 290) : حديث أن أعرابيا بال في المسجد

الحديث. خ في الأدب (35: 2) عن عبد الله بن عبد الوهاب الحجي. م س جميعًا في الطهارة (م.3. س 45) عن قتيبة - ق فيه (الطهارة: 78) عن أحمد بن عبدة الضبي - ثلاثتهم عنه به. ورواه أحمد أيضًا وغيره ونقتصر على لفظ البخاري (ج: 7. ص: 80) حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب حدثنا حماد بن زيد عن أنس بن مالك أن أعرابيًا بال في المسجد فقاموا إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزرموه ثم دعا بدلو من ماء فصب عليه. وقد رواه البخاري وغيره بلفظ مختلف في أبواب الطهارة.

ص: 1349

وواضح أن تقدير المآل لكل تصرف في هذا المجال يعتمد على كفاية ولي الأمر وأهليته للاجتهاد فليست الأحوال والأوضاع سواء وقد أشرنا من قبل إلى ما أطلقنا عليه اسم "الظرفية " وهو يشمل تغاير الأزمنة والبيئات وتغاير تأثيرها في الأحوال والأحداث وتكييفها لها تبعًا لتغايرها وجانب كبير من تقدير هذا الأمر يعتمد على كفاية ولي الأمر وأهليته للاجتهاد ولا سبيل إلى اعتبار ما قد يقوله بعض المقلدة المتفقهة ممن تجمدوا على ظواهر ألفاظ الأصوليين وقواعدهم من أن ولي الأمر الذي يكون إليه الحكم في تحديد أو تحويل ممارسة التصرف والتصريف في المال يجب أن يكون ضليعًا في العلوم الشرعية واللغوية مستوفيًا شروط الأهلية للاجتهاد لأن هذا النمط من الاجتهاد الذي نكله إلى ولي الأمر ولا مناص من أن يوكل إليه لأنه من صميم مهامه وتبعاته ليس هو استنباط الحكم الشرعي وإنما هو إدراك مناط الحكم الشرعي وتقدير الموجبات لتطبيقه اعتبارًا لمناطه من الأحوال والأحداث والظروف في هذا المجال يقول الشاطبي رحمه الله (1) :

" قد يتعلق الاجتهاد بتحقيق المناط فلا يفتقر في ذلك إلى العلم بمقاصد الشارع كما أنه لا يفتقر فيه إلى معرفة علم العربية لأن المقصود من هذا الاجتهاد إنما هو العلم بالموضوع على ما هو عليه وإنما يفتقر فيه إلى العلم بما لا يعرف ذلك الموضوع إلا به من حيث قصدت المعرفة به فلا بد أن يكون المجتهد عارفًا ومجتهدًا من تلك الجهة التي ينظر فيها يتنزل الحكم الشرعي على وفق ذلك المقتضى كالمحدث العارف بأصول الأسانيد وطرقها وصحيحها من سقيمها وما يحتج به من متونها مما لا يحتج. فهذا يعتبر اجتهاده فيما هو عارف به كان عالمًا بالعربية أم لا. وكذلك القارئ في تأدية وجوه القراءات والصانع في معرفة عيوب الصناعات والطبيب في العلم بالأدواء والعيوب وعرفاء الأسواق في معرفة قيم السلع ومداخل العيوب فيها والعاد في صحة القسمة والماسح في تقدير الأراضين ونحوها، كل هذا وما أشبهه يعرف به مناط الحكم الشرعي غير مضطر إلى العلم بالعربية ولا العلم بمقاصد الشريعة وإن كان اجتماع ذلك كمالًا في المجتهد. والدليل على ذلك ما تقدم من أنه لو كان لازمًا - أي أن يكون مجتهدًا في كل علم يتعلق به الاجتهاد أي تعلق كان (المعلق الشيخ عبد الله دراز) - لم يوجد مجتهد إلا في الندرة بل هو محال عادة وإن وجد فعلى جهة خرق العادة) .

(1) الموافقات. ج: 4. ص: 165.

ص: 1350

ثم قال:" وأيضًا إن لزم في هذا الاجتهاد العلم بمقاصد الشارع لزم في كل علم وصناعة أن لا تعرف إلا بعد المعرفة بذلك إذ فرض من لزوم العلم بها العلم بمقاصد الشارع وذلك باطل فما أدى إليه مثله فقد حصلت العلوم ووجدت من الجهال بالشريعة والعربية ومن الكفار المنكرين للشريعة. ووجه ثالث: أن العلماء لم يزالوا مقلدين في هذه الأمور من ليس من الفقهاء وإنما اعتبروا أهل المعرفة بما قلدوا فيه خاصة وهو التقليد في تحقيق المناط فالحاصل أنه إنما يلزم في هذا الاجتهاد المعرفة بمقاصد المجتهد فيه كما أنه في الأوليين - وهما الاجتهاد من النصوص ومن المعاني (المعلق) - كذلك فالاجتهاد في الاستنباط من الألفاظ الشرعية يلزم فيه المعرفة بمقاصد تلك الألفاظ من الوجه الذي يتعلق به الحكم لا من وجه آخر وهو ظاهر".

ولا يعني اعتمادنا هذه القاعدة التي أحسن الشاطبي رحمه الله صياغتها وإيضاحها كما هو دأبه في جل ما يصوغ ويوضح - والكمال لله وحده - أننا نبيح لولي الأمر أن يتصرف دون الاعتماد على حكم الشريعة الإسلامية بل بمجرد رأيه الشخصي. فذلك إنما يعني أننا نبيح له أن يحكم بهواه ونعوذ بالله من أن نبيح الحكم بالهوى.

وإنما نعتمد هذه القاعدة على اعتبار أنه " المختص"، بتقدير الأوضاع والأحوال التي يواجهها بحكم ما عليه من مهام وتبعات واختصاصه هذا لا يعطيه حرية التصرف المطلقة كما أن عدم اختصاصه - إذا لم يكن مختصا في الشريعة الإسلامية- لا يجرده من حرية التصرف وإنما يؤهله اختصاصه لأن يكون تقديره محل اعتبار واستنادًا لمن يجب أن يكون بجانبه ومستشارًا له من المختصين في الشريعة الإسلامية وعدم اختصاصه في الشريعة أو عدم أهليته للاجتهاد فيها وإن كان بصيرًا بها بصرًا لا يؤهله للاجتهاد يوجب عليه قبل أن يقدم على تنفيذ ما يرى بتقديره أنه عادل أو ضروري أن يعود إلى مشورة ذوي الاختصاص في الشريعة الإسلامية. كما أن ذوي الاختصاص هؤلاء يجب عليهم أن يعتمدوا فيها يشيرون به عليه إلى جانب الحكم الشرعي المجرد نصا واستنباطًا ما يبسطه لهم من تقديره والعوامل التي صدر عنها فيه.

ص: 1351

على أنه إذا اختلف من يرجع إليهم لابتغاء حكم الشريعة في مشورتهم له وكان قادرًا على استيعاب الأدلة التي أوضحها له كل فريق من المختلفين وعلى الوعي بالمقاصد التي يرمى إليها كل دليل وعلى التمييز والترجيح المجردين من الهوى ومن التأثر بكل نزعة أو جدلية خارجة عن نطاق الشريعة الإسلامية بين الأدلة المعروضة عليه من المختلفين وما يرمي إليه كل دليل من مناط وعلى اكتشاف الدليل والوجه والمناط والأنسب لما وقر في رأيه عند تقدير الحادث أو الحال موضوع الاجتهاد كان عليه أن يتحمل تبعته أمام الله وأن يعتمد على ما رجح لديه ووقر في نفسه أنه الحق والعدل تطبيقًا لقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (1) .

فليس ولي الأمر عندنا - والله أعلم - ملزمًا بما يسمى اليوم "رأي الأغلبية" وإنما هو ملزم بما يترجح عنده - إذا لم يتأكد فكيف إذا تأكد - أنه الحق والعدل لأن الذي يمارس أمور الناس قد يعرف من خفاياها وقد يستطيع أن يكتنه من سرائرها ويدرك من ملابساتها ويستشرف من معقباتها ما لا يستطيعه غيره ممن يشهدون تلك الأمور من بعيد أو من قريب دون أن يمارسوها بأنفسهم مما يبلغ خبرة بها أو بالبعض منها. فالخبرة النظرية وحدها لا تكفي لاستكناه السرائر وإدراك الملابسات واستشراف المعقبات وهذا في ما نفهم - والله أعلم - بعض السر في أن الله سبحانه وتعالى لم يأمر نبيه عليه الصلاة والسلام وتبعًا منه ولي أمر المسلمين من بعده أن يلتزم باتباع مشورة من يستشيرهم وهو ما يدل عليه قوله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ} ومعناه - والله أعلم بأسرار كتابه العزيز - إذا تأكد لديك أو ترجح رأي أو حكم بعدما أشار عليك من استشرت وليس ضروريا أن يكون هو نفس ما أشار به عليك فتوكل على الله فالعزم هنا هو الشعور الذي ينتج عن التأكد والرجحان إذ أن المسؤول الأول والأخير هو ولي الأمر وهو إذا اجتهد بعد أن أحسن التقدير واستشار المؤهلين للمشورة من ذوي الاختصاص في الأمر المجتهد فيه شرعًا أو موضوعًا مأجور أجرًا مضاعفًا إن أصاب وأجرًا واحدًا إن أخطأ ما لم يكن للهوى أو لأي مؤثر غير الاعتبارات الشرعية ومقتضيات المصلحة العامة تأثير في اجتهاده.

(1) الآية: (159) سورة آل عمران.

ص: 1352

ذلك بأن نتائج أي اجتهاد لا يمكن أن تكون قطعية وغاية أمرها - مهما وضحت أدلتها وتضافرت على تركيزها وتركينها القرائن والشواهد والقواعد - أن تكون راجحة رجحًا قد يتراءى شبيهًا بالتأكد بيد أنه - رغم ذلك - ليس له أن يتجاوز درجة الرجحان إنها حصيلة جهد البشر غير المعصوم ومصدرها خبرة المجتهد بالأمر الذي يجتهد فيه طبيعة وظروفًا ومآلًا، وبصره بصرًا عميقًا شاملًا بمصادر الاعتبار الشرعي في الحكم في ذلك الأمر نصوصًا محكمة أو مفاهيم أو آثارًا أو أقيسة أو ما إليها كالاستصحاب والاستحسان والمصالح المرسلة.

ولا سبيل في الاجتهاد إلى الاكتفاء بأحد العنصرين، عنصر الخبرة وعنصر البصر الشرعي أو "الفقه"، إذ أن عنصر الخبرة وحده قد يجلو ويشخص المصادر والموارد والمنافع والمفاسد كما تتراءى للعقل البشري، والعقل البشري مهما حاول أن يتجرد للعدل الصرف ويتنزه عن الهوى ويأتي له الخلوص إلى الرشد الحق إلا أن يستهدي بأنوار الوحي لأن قدرته على التنزه محدودة وبصره بحقائق العدل والحق محدود أيضًا فلا مناص له من الاستعانة بهدي الوحي أي بالشرائع المتنزلة لفظًا أو إلهامًا (الكتاب والسنة) وبما سبق السلف إلى استنباطه منها موضوعًا أو منهجًا.

إذ إن استنباط السلف - عليهم رحمة الله - صحابة كانوا أو تابعين قد يكون غير قابل للتأثر "بالظرفية" لأنه متصل بما لا يؤثر فيه تغاير الأزمنة والبيئات وجل ما يكون هذا النوع في العبادات غير المعقولة المعنى وفيما يتصل بشعارها خاصة وقد يكون قابلًا للتأثر "بالظرفية" إذا كان يتصل بالعادات والمعاملات والجوانب الخاضعة لمؤثرات التطور والتغير البيئوي والزمني أو ما نسميه بالتطور الحضاري من حياة البشر. وهذا النوع من الاستنباط - فهمًا كان أو اجتهادًا - لا سبيل إلى الالتزام به موضوعًا إذا تغاير مع ظروف زمنية أو بيئوية كما أنه لا سبيل إلى إغفاله منهجًا وإن تعذر أو استحال الالتزام به موضوعًا.

فالحياة المادية البشرية في هذا العصر تكاد لا تتشابه في معظم عاداتها وأدواتها وممارساتها مع حياة السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن ظهرت الثورة البخارية في الصناعة ثم الثورات الأخرى المتفرعة عنها، والتي لا يزال

تفرعها مطردًا.

ص: 1353

والالتزام باستنباطاتهم موضوعًا لا مناص من أن يعطل إما حياة المسلمين من مواكبة التطور وإن التزامهم بالإسلام وشرائعه وإن التزموا بعقائده إذا هم آثروا مواكبة التطور انسجامًا مع طبيعة الحياة ومقتضياتها ومن الحرب على الإسلام أن يحاول أحد أو تحاول طائفة اضطرار المسلمين إلى هذا الاختيار بحجة ضرورة الالتزام موضوعًا بسلوك السلف واجتهاداتهم ونمط حياتهم إذ إن هذه المحاولة ستقضي على الالتزام بالإسلام شريعة وربما عقيدة أيضًا فليس في طاقة فرد أو مجتمع أن يعاكس تطور الحياة.

على حين أن الكلمة القرآنية والجملة القرآنية - القرآن هو الأساس لكل تشريع إسلامي حتى ما كان منه سنيًا – يتجلى الإعجاز الإلهي فيها بتجانسها مع البصائر والأفهام في كل ظرف زمني أو بيئوي وفي كل طور حضاري حتى لا يكاد القارئ البصير ببعض التدبر - فكيف بالتدبر المتعمق المستأني - أن يظن أن الآية يقرأها إنما نزلت للحظته تلك وأن نزولها في زمن سابق لم يكن لهداية ذلك الزمن وإنما كان ليتعبد بتلاوتها من كانوا أحياء فيه ولتتداولها الأجيال إلى لحظته تلك. وما من شك في أن كل قارئ بصير موفق في جميع الأزمنة والظروف والبيئات منذ نزل القرآن الكريم كان يجد مثل هذا الشعور وهو يتلو آيات الله البينات وهذا - والله أعلم بسرائر كتابه ولطائف إعجازه - من أقوى الأدلة وأوثق البيانات على أن محمدًا عليه الصلاة والسلام كان خاتم الأنبياء وأن القرآن كان خاتم الكتب المنزلة ومهيمنًا عليها وكان ويظل ما بقيت الأرض والسماوات الوشيجة الواشجة بين السماء هداية وبين الأرض اهتداء.

وهذا الوعي بالطبيعة التطورية للتصور البشري للدلالة القرآنية المواكبة لطبيعة التطورية للتأثر البشري بالتطور الحضاري هو الذي جعلنا نقسم الاعتبار لاجتهاد السلف إلى موضوعي ومنهجي. ونتيجة لهذا الاعتبار أصبح اليوم من المتعين ضروريًا أن لا ينفرد الفقيه ولا الخبير بالاجتهاد أو بتعيين الحكم وإن بمجرد الفهم لنص من النصوص في أي حادث وفي أي حال وفي أية قضية مما يتصل بالحياة المادية للبشر ونعني بالحياة المادية ما ليس من الحياة الروحية الصرفة كالعبادات غير المعقولة المعنى ولا من الحياة الذاتية غير المتغيرة كمعظم ما يتصل بشؤون النكاح والطلاق وما شاكلهما من الأحوال الشخصية.

ص: 1354

ذلك بأنه لا سبيل إلى تحكيم الفقيه وحده أو الخبير وحده في شأن من شؤون الاقتصاد مثلًا واعتبار حكم هذا أو ذاك مما يرتضيه الشرع أو لا يتناقض معه وإن تراءى أوثق بالشرع أو أوثق بالمصلحة.

فالظروف التي نشًأ فيها الفقه الإسلامي وتطور كانت طرائق المعاملات ذات الطابع الاقتصادي لا تكاد تتشابه مع ظروف معاملاتنا اليوم شكلًا ولا موضوعًا، كان الاقتصاد يومئذ فرديًا صرفًا وكان النقد عينيًا صرفًا ويكاد التعامل بالمقايضة لا يختلف عن التعامل بالنقد فكلا التعاملين يقوم على نمط من التقييم وكان مدار الكسب الجهد الفردي ومجال التجارة الجهد الفردي فإن اشترك اثنان أو ثلاثة أو أكثر فلفترة محدودة في بضاعة محدودة لزمن محدود. فالبنية الاقتصادية إذن كانت بنية فردية صرفة، كذلك كانت الصناعة فليست أكثر من عمل فرد في يعتمد على خبرة فردية مصدرها في أغلب شأنها ما يكتسب من التجربة

الفردية ومداها في كل شأنها ما تستطيع قوة الفرد أن تنتج فأين هذا من شأن اقتصادنا اليوم وقد أصبح كيانات جبارة ليس الفرد فيها إلا كلولب صغير من اللوالب التي تضبط بها أجزاء المصنع ولا وجود فيها لعينية النقد وإنما هو قطع اعتبارية من الورق أو المعدن ويكاد لا يكون لها أساس يمكن لمسه أو تشخيصه وإنما هو مجموعة اعتبارات (الطاقة الإنتاجية ومدخرات العملة الصعبة ومدخرات الذهب ومدخرات الأرض من المعادن المعتبرة) فكيف يحاول من يحاول أن يحكم طرائق الممارسة التي ضبط لها الفقهاء أحكامًا مما استنبطوه من النصوص القرآنية أو السنية لعهودهم تلك في أوضاعنا الراهنة هذه؟

إنه لا مناص من أن يشترك الخبير والفقيه في الاجتهاد بل وأن يتعاونا على إعادة قراءة النصوص وفهمها من جديد. فبدون ذلك لن يكون للإسلام بقاء ولن يتاح له أن يستعيد هيمنته هاديًا وموجهًا وضابطًا على الأمة الإسلامية فضلًا عن أن يجتذب إليه الأمم والنحل الأخرى.

واعتبارًا لكل هذا قررنا بأن الحكم في الظروف التي يتعين فيها تدخل ولي الأمر في ما خول للإنسان من حق الانتفاع والمنفعة والتصرف والتصريف إذا تعين التدخل فيه يجب أن يعتمد على اجتهاد مزدوج من كل من الفقيه والخبير لا ينفرد به أحدهما ولكن لولى الأمر - لاسيما إذا كان خبيرًا - حق الموازنة والترجيح واتخاذ القرار.

ص: 1355

لكن الالتزام بمناهج السلف في الاجتهاد قل أن يمكن التخلي عنه لأصول مناهجهم المستمدة من استقراء الطرائق والأساليب القرآنية والسنية في التعبير والتعليل والدلالة والإيماء وهي ضوابط لسبل فهم الشريعة والاستنباط منها، لا تتخلف أو قل ما تتخلف فإن تخلفت فليس التخلف منها وإنما هو من مدى فهم وتميز من استنبطوها ورسموا قواعدها ومعالمها ولا تتأثر بمؤثر خارجي أو قل ما تتأثر فإن تأثرت فليست هي المتأثرة ولكن العقول التي استنبطتها ورسمت معالمها وقواعدها لم تستطع أن تبلغ مداها من الارتفاع عن المؤثرات فقصرت وهي تضبط قواعدها وترسم معالمها عن أن تجعل عملها الاجتهادي متجردًا عن طبيعتها الفانية متجانسًا مع الطبيعة الأبدية لطرائق الكتاب والسنة في التعبير والتعليل والدلالة والإيماء.

لذلك لا سبيل إلى التخلي عن المنهاج الاجتهادي للسلف إلا أن يتعين قصوره عن المدى الأبدي الشامل لينابيعه الأولى من الكتاب والسنة وذلك قليل، بل نادر يكاد لا يكون له وجود.

ونحسب أن هذا الاعتبار اعتبار ازدواجية الاجتهاد في الشؤون غير التعبدية وما على شاكلتها هو الحكم الفيصل في إخلاف الزمن الذي اضطرب فيه الفقهاء والمقلدة حول جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل.

فجمهرة المتخلفين - إن لم يكونوا جميعًا - اعتمدوا البصر بالشريعة بصرًا مؤهلًا للاجتهاد شرطًا من شروط الأهلية للإمامة على تفاوت بينهم في الالتزام بهذا الشرط لاعتبار صحتها أو في اعتباره شرطًا ترجيحًا.

بيد أن استقراء مواقف أئمة الاجتهاد الأول ممن اعتمدوا أئمة المذاهب السنية أو لم يعتمدوا ولكنهم وثقوا في مجال الدراية والرواية وفي طليعتهم نفر من التابعين يدمغ أسباب هذا الاختلاف وحججه ويثبت مما لا يدع مجالًا للارتياب والمراء أنهم كانوا يدينون بصحة الإمامة لمن عاصروهم من الخلفاء الأمويين والعباسيين من معاوية إلى هارون ثم المعتصم والواثق وما منهم من شكك في وجوب الطاعة لهم ما لم يأمروا بمنكرٍ.

ص: 1356

فقد كان نفر من صغار الصحابة الذين تصدروا للفتيا من عهد الخليفتين الراشدين أو بعدهما وجمهرة من الطبقة الأولى والثانية من التابعين يدينون بالولاء لمعاوية وابنه يزيد ولمروان وابنه عبد الملك. ودرج التابعون على هذا المنوال بعدهم وكان مالك رحمه الله يدين بالولاء للمنصور والهادي والمهدي وهارون ويقبل جوائزهم ويخاطبهم بإمارة المؤمنين (1) وكان

الشافعي يدخل على الرشيد ويحضر مجلسه (2) ويصيب من جوائزه. كذلك كان أبو حنيفة وصاحباة (3) بل إن أبا يوسف كان قاضي قضاة الرشيد وله وضع كتاب الخراج. ومن أجل الحظوة عنده كان ما كان بينه وبين محمد بن الحسن (4) .

وكان أحمد يدين بالولاء للمعتصم حتى بعد أن امتحن بأمر منه ويدين به للواثق بعد المعتصم بل إنه لما علم بفتح عمورية غفر للمعتصم ما امتحن به بأمر منه (5) . ومن قبل هؤلاء كان بعض أئمة الحديث الكبار ومن أبرزهم سفيان بن عيينة (6) يدخل على العباسيين وينال جوائزهم وكان قبل هؤلاء أيضًا جمهور من التابعين ومن أبرزهم الحسن البصري (7) يقبلون جوائز الأمويين ويدينون لهم بالولاء.

(1) عياض ترتيب المدارك. ج: 2. ص: 20 و95 وما بعدها وانظر أيضًا ما ذكره الذهبي في ثنايا ترجمته لمالك (سير أعلام النبلاء. ج: 8. ص: 48 إلى 135) . وفي ثنايا ترجمته للشافعي (نفس المرجع. ج: 10.: 15 إلى 99) وكذلك غير الذهبي ممن أفاضوا في ترجمة الإمامين الجليلين.

(2)

عياض ترتيب المدارك. ج: 2. ص: 20 و95 وما بعدها وانظر أيضًا ما ذكره الذهبي في ثنايا ترجمته لمالك (سير أعلام النبلاء. ج: 8. ص: 48 إلى 135) . وفي ثنايا ترجمته للشافعي (نفس المرجع. ج: 10.: 15 إلى 99) وكذلك غير الذهبي ممن أفاضوا في ترجمة الإمامين الجليلين.

(3)

انظر ما كتب عن أبي حنيفة وصاحبيه في تاريخ بغداد. ج: 2. ص: 172 إلى 182. ترجمة: 593. وج: 13. ص: 242 إلى 263. ترجمة: 7558.

(4)

انظر ما كتب عن أبي حنيفة وصاحبيه في تاريخ بغداد. ج: 2. ص: 172 إلى 182. ترجمة: 593. وج: 13. ص: 242 إلى 263. ترجمة: 7558.

(5)

انظر سير أعلام النبلاء. ج: 11. ص: 77 1 إلى 358. ترجمة: 58. والأحكام السلطانية. ص: 19 وما بعدها.

(6)

سير أعلام النبلاء. ج: 8. ص: 454 - 475. ترجمة: 120.

(7)

سير أعلام النبلاء. ج: 4. ص: 563 إلى 582. ترجمة: 223.

ص: 1357

ولئن كان بعض كبار التابعين قد أثر عنهم ما يمكن اعتباره اشتباهًا أو جرحًا في شرعية الخلفاء بعد معاوية فإن موقفهم هذا لم يعتمده أئمة الاجتهاد من معاصريهم وممن بعدهم إلا ما كان مصدره الاعتبار السياسي كما هو الشأن في مواقف كل من الشيعة والخوارج على اختلاف بينها. فمصدر تجريح الشيعة لشرعية خلافة الأمويين هو أنهم ليسوا من سلالة رسول الله صلى الله عليه وسلم على تفاوت بينهم في التزام هذا المصدر عمليًا على الأقل أما الخوارج فهم أشد تطرفًا في اعتبار أفضلية الإمام وأن ليس للمفضول أن يتولى الإمامة مع وجود الفاضل إلا في حالات خاصة شاذة وأن العلم بالشريعة الإسلامية المؤهلة للاجتهاد فيها شرط ضروري لصحة الإمامة وإن كان موقفهم هذا ظل نظريًا لم ينسجم معه تصرفهم في عقد الإمامة والولاء لها في جميع البيئات والعصور إلى أن انتهى وجود الإمامة عندهم عمليًا في أوائل هذا القرن.

على أن هذا ليس شأننا في هذا البحث وإنما اضطرنا إلى أن نعرض له ما يترتب من أحكام على وجود إمام ليس مؤهلًا للاجتهاد وفي الشريعة الإسلامية.

ذلك بأن ما أطلقنا عليه أنفًا " ولي الأمر " يشمل الإمام ومن يتولى نيابة عنه أمور المسلمين في قطر من الأقطار الخاضعة له ولاية تفويض أو ولاية تنفيذ. وبالتعبير الحديث من يكون وزيرًا له أو عاملًا أو واليًا ثم من يخولون سلطات أو صلاحيات من الوزراء والولاة والعمال في المدن والقرى والجماعات البدوية على تفاوت بين السلطات والصلاحيات التي تخول لهم تبعًا لمراتبهم في الجهاز الهرمي للدولة وهو تفاوت يترتب عنه تلقائيًا مدى ما يخول لهم شرعًا من حق التصرف الاجتهادي بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة وهذا (المدى) تضبطه وثائق التعيين والتخويل.

والإمام الذي نتحدث عنه جريًا على سنن الفقهاء المتأخرين هو خليفة المسلمين

ص: 1358

عند وجوده أو الملك أو السلطان أو رئيس الجمهورية وبعبارة أشمل رئيس الدولة في التعبير الحديث. وقد ألمعنا آنفًا إلى موقفنا من وجوب وحدة الدولة الإسلامية وواقع تعدد الدول في العالم الإسلامي في الوقت الراهن وهو واقع لا سبيل إلى إغفاله أو تجاهله مهما يكن غير منسجم انسجامًا كاملًا مع مقتضيات الشرع الإسلامي لأن إغفاله وتجاهله من شأنه أن يحدث اضطرابًا خطيرًا في سير ومسار مصالح المسلمين وهذا الاضطراب أشذ خطرًا وأبعد أثرًا من أن يغفل شأنه في تقدير الأحكام الواجب تطبيقها على شؤون المجتمعات الإسلامية بحجة أن الواقع السياسي للمسلمين ليس منسجمًا مع الصيغة التي قررها الشرع الإسلامي.

على حين أن اعتبار هذا الواقع في ضبط الأحكام التي يجب تطبيقها على المسلمين مجتمعات وأفرادًا لا يعني الحكم بشرعيته وإنما يعني التسليم بوجوده تسليمًا ليس معناه القبول باستمراره ولكن معناه اعتباره منطلقًا إلى التحقيق السلمي لتطوير الكيان السياسي للأمة الإسلامية إلى الصبغة الوحدوية التي يقرها ولا يقر غيرها الشرع الإسلامي وعلى هدي هذا الذي بيناه بإيجاز نقرر:

1-

أن من يتولون أمور المسلمين في مختلف أقطارهم يملكون حق الانتزاع بالمصادرة أو التحديد لما يتصرف فيه الأفراد من أموال ثابتة أو منقولة في الأحوال التي يبيح الشرع فيها أو بنسبها مصادرة تلك الأموال أو تحديدها كما أو كيفًا.

2 -

أن هذا الحق غير مخول إلا لولي الأمر الملتزم - وإن نظريا - بمختلف صيغ الالتزام الدستورية باعتبار الإسلام الدين المهيمن على تشريعات الدولة والمتحكم في تقدير شرعية أو عدم شرعية كل تشريع منها سواء كان مجاله الأحوال الشخصية أو المدنية أو الجنائية.

- نقول الملتزم وإن نظريا بصرًا منا بأن الالتزام التطبيقي الكامل يكاد ينعدم في هذه الأيام ولا يمكن لهذه الحال المؤلمة أن تتخذ عائقًا لأي تدبير ألجأت إليه اعتبارات صادقة موافقة للمصلحة العامة في أية دولة من الدول الإسلامية لأن اعتبارها عائقًا يحول دون تحقيق الكثير مما من شأنه تطوير أوضاع المسلمين إلى ما هو أفضل اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا تطويرًا يعلو اعتباره على كل اعتبار.

ص: 1359

إن هذا الحق لا تجوز ممارسته إلا حين تتوفر جميع البينات على توقف تحقيق المصلحة العامة للمسلمين على ممارسته وعند توفر هذه البينات يجب أن تنحصر ممارسته في الإطار الذي ترسمه وألا تتجاوزه بحال من الأحوال وأقل تجاوز لها ظلم تجب مقاومته بجميع الطرق السلمية المشروعة وإن كان لا يجوز الالتجاء في مقاومته إلى الطرق غير السلمية لأن جريمة العصيان من شأنها أن تحدث اختلالًا أو اضطرابًا في الدولة الإسلامية تنجر عنه مفسدة أشد من الظلم الذي قد يحدث من تجاوز مقتضى تلك البينات. فالمصلحة العامة توجب عدم الالتجاء إلى العصيان مهما يبلغ مدى ظلم الولاة إلا أن يصل حد منع المسلمين عن ممارسة الشعائر التعبدية كما نصت عليه السنة النبوية

لا يتسع المجال لإيراد العشرات من الأحاديث الثابتة في هذا الشأن لذلك نقتصر على ثلاث أحاديث أخرجها البخاري في كتاب الأحكام قال (ج: 9. ص: 105 و106) : حدثنا مسدد، حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة عن أبي التياح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)) وقال المزي (تحفة الأشراف. ج:1. ص: 438 و439) : حديث: اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد. وفي حديث غندر: قال لأبي ذر: اسمع وأطع

الحديث. خ في الصلاة (205: 2) عن بندار وفي الأحكام (4: 1) عن مسدد كلاهما عن يحيى - وفي الصلاة (207) عن محمد بن أبان عن غندر كلاهما عن شعبة عنة به. ق في الجهاد (39: 2) عن بندار وأبي بشر بكر بن خلف كلاهما عن يحيى به. حديث: لولا الهجرة لكنت أمرءًا من الأنصار

الحديث. خ في التمني (9 تعليقًا) تابعه أبو التياح عن أنس.

وقال البخاري (نفس المرجع) : حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن الجعد عن أبي رجاء عن ابن عباس ويرويه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من رأى من أميره شيئًا فكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرًا فيموت إلا مات ميتة جاهلية)) . وقال المزي (نفس المرجع. ج: هـ. ص: 192. ح: 6319) في تخريج الحديث: حديث: من كره من أميره شيئًا فليصبر فإنه من خرج من السلطان

الحديث. خ في الأحكام (4: 2) عن سليمان بن حرب وفي الفتن (2: 3) عن أبي النعمان كلاهما عن حماد بن زيد وفيه الفتن (2: 2) عن مسدد عن عبد الوارث كلاهما عن الجعد أبي عثمان عنه به. م في المغازي (66: 7) عن حسن بن الربيع عن حماد بن زيد به. و (66: 8) عن شيبان عن عبد الوارث به

ص: 1360

وقال البخاري (نفس المرجع) : حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله حدثني نافع عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) . وقال المزي (نفس المرجع. ج: 6. ص: 175. ح: 8150) في تخريجه لحديث السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة. خ في الأحكام (4: 2) وفي الجهاد (107: ا) عن مسدد - م في المغازي (61: 19) عن زهير بن حرب - ومحمد بن المثنى - ثلاثتهم عنه به. د في الجهاد (96: 3) عن مسدد به.

4-

إن ممارسة هذا الحق حين تتوفر البينات الموجبة لممارسته يجب أن تنضبط بالمجال والكيفية اللذين تتوفر البينات لوجوب ممارسته في إطارهما وليس هذا تكرارًا للجزء الأخير من الفقرة السابقة وإنما هو نوع آخر. فالذي ألمعنا إليه في الفقرة السابقة هو تجاوز الإطار في نفس المجال والكيفية أما الذي نريد إيضاحه الآن فهو تطبيق الإطار العام للبينات في غير المجال والكيفية اللذين وضع لهما.

وبيان ذلك أنه حين تتوفر البينات بأن المصلحة العامة تقتضي تحديد مجال أو كيفية أو مدى تصرف إنسان فيما خول له التصرف فيه منفعة وانتفاعًا من الأموال الثابتة والمنقولة لا يجوز أن يتجاوز ولي الأمر نطاق " التحديد "، إلى " المصادرة ".

فحين يتبين أن المصلحة العامة للمسلمين تقتضي أن لا تتجمع مساحات من الأرض واسعة أو مجموعة من العمارات السكنية متعددة أو مجموعة من الحيوانات التي تجب فيها الزكاة وفيرة جدًا فإن على ولي الأمر أن يمارس إعادة توزيعها ولكن مع تعويض من كانت مجتمعة تحت يده عما انتزع منه تعويضًا ليس رمزيًا كما تفعله بعض الدول اليوم وإنما هو تعويض كامل أساسه القيمة الواقعية لما انتزع منه كما هي في الأسواق الداخلية للدولة يوم انتزاعه وأي نقص من القيمة الواقعية ظلم يجب العمل على رفعه بالطرق السلمية.

وهنا تبرز مسألة ذات خطر بالغ وهي المبالغ النقدية التي يمكن لولي الأمر أن ينتزعها من مدخريها إذا تبين أن المصلحة العامة للمسلمين تقتضي انتزاعها لصالح الدولة إلى السيولة النقدية أو لحاجتها إلى تدعيم قوتها العسكرية أو إلى دفع ديونها الخارجية وفي هذه الحال كيف يعوض صاحبها؟.

ص: 1361

ذلك أن العملات مهما تبلغ قوة وأيًا كانت دعائمها تظل عرضة في قيمتها للارتفاع والانخفاض طبقًا لتغير الأوضاع الاقتصادية للدولة وطبقًا للتقلبات الاقتصادية العالمية أيضًا. وإذا لم يقع تعويض النقود المنتزعة تعويضًا عاجلًا بقيمتها من الأموال الثابتة أو المتنقلة بل أعطي صبغة دين في ذمة الدولة تدفع أقساطًا أو إلى أجل مسمى بقيمته الاسمية وليس أسهما وسندات خاضعة للتقلبات في سوق القيم المالية فإن من انتزعت منه قد يصيبه الضرر إذا انخفضت العملة عند دفع أقساط الدين أو عند حلول أجل الدفع الكامل وقد يصيب الدولة الضرر عند ارتفاعها إذا كانت العملة المنتزعة ليست عملة الدولة نفسها وإنما هي عملة أجنبية معتمدة عالميًا.

لذلك نعتقد أن الوضع السليم للتعويض في مثل هذه الحال يجب أن يرتبط بالعملة " المقياس " المعتبرة عالميًا فبذلك وحده يمتنع الإضرار بحق الدولة وبحق المنتزع منه. وقضية اضطراب سوق النقد وأسعار العملات ذات أبعاد خطيرة وآثار بالغة في جوانب من التشريع الإسلامي المتصل بمعاملات مثل تماثل النقد في المعاملات المؤجلة عند من يقول بأن لا ربا إلا في النسيئة والمعجلة أيضًا عند من يقول بربا الفضل ومثل سداد الديون وما شاكل ذلك بل إنها تؤثر حتى فيما تجتمع فيه الاعتبارات التعبدية الصرفة والاعتبارات المالية الصرفة أو بالأحرى ما يجتمع فيه حق الله وحق العباد

مثل الزكاة في موضوع تحديد النصاب المالي لها من مختلف العملات وتحديده في الذهب والفضة بعد أن أصبح النقد اعتباريًا وزال حكم انفرادهما بالتقييم النقدي إذ لم يعودا المرجع التقييمي الوحيد للنقد الاعتباري وليس هذا مجال بحث هذه القضية إنما ألممنا بها عرضًا لعلاقتها بما يجوز انتزاعه من النقود المدخرة بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة.

ثم إن اضطراب أسعار العملات لا يؤثر فيما نسميه اليوم العملات العالمية أو العملات الصعبة فحسب بل يؤثر أيضًا في العملات المحلية غير المتعامل بها في الأسواق العالمية للقيم أو تلك المتعامل بها فيها باعتبارها معترفًا بها ولكنها ليست مراجع للتقييم العالمي للعملات.

ص: 1362

وهذان النوعان من العملات المحلية أو العملات الخاصة بدولها بتعبير أوضح ينجم إشكال جدير بالملاحظة والاعتبار من انتزاع المدخرات منها انتزاع تسخير لا انتزاع مصادرة - وسيأتي تفصيل الفرق بين الانتزاعين - إذا لم يكن تعويض من انتزعت منه عاجلًا بأموال ثابتة أو منقولة غير نقدية. ذلك بأن العملة المحلية شأنها شأن العملة العالمية عرضة للاضطراب القيمي فقد ترتفع قيمتها بالقياس إلى العملات العالمية أو إلى الطاقة الشرائية المحلية لها وقد تنخفض وفي كلا الحالتين ينتج ضرر فإن ارتفعت قيمتها لحق الدولة ضرر عند الأداء لأنها تؤدي مبلغًا من المال إن يكن مماثلًا لما انتزعته من قبل من حيث العدد فهو أكثر منه باعتبار القيمة التي أصبحت لذلك العدد وإن انخفضت قيمتها كان الدائن هو المتضرر لأنه عندما تقضيه الدولة ما تدين له به كامل العدد فهي فعلًا قد دفعت المبلغ المنتزع كاملًا باعتبار العدد بيد أنها دفعته ناقصًا باعتبار القيمة الشرائية وذلك ضار عمليا بمن انتزعه منه انتزاع تسخير ما يدخره من النقد.

ولا سبيل إلى تلافي هذا الضرر بأن يحتسب النقد أو الازدياد عددًا فيضاف أو يقتطع عند الأداء لأن ذلك فيه شبهة ربا وهي شبهة قوية يجب التحرج منها أيًا كان الرأي في علاقة التعامل بالنقد الاعتباري مع المعاملات الربوية.

وإنما السبيل في رأينا - هو أن تعتبر قيمة النقد المنتزع عند التزامه في العملة أو العملات العالمية التي يرتبط بها عالميًا تقييم العملات وأن يسدد دينه على أساس تلك القيمة المعتبرة عند انتزاعه وليس على أساس المبلغ العددي للنقود المنتزعة وبذلك لا يلحق الضرر بالدولة لو ارتفعت قيمة تلك العملة ولا بمن انتزعت منه لو انخفضت. ومع أن ما يلحق الأفراد من الأضرار عند التصرف بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة غير ملتفت إليه عامة إذ أن المصلحة العامة يعلو اعتبارها عن أي مفسدة تتعلق بفرد معين فإن اجتناب حدوث المفسدة أولى - وقد يكون واجبًا إذا أمكن - من عدم اجتنابه اعتبارًا لرجحان المصلحة العامة.

ص: 1363

ثم إن هذه القاعدة التي قررناها تفيد المصلحة العامة كما تفيد المصلحة الفردية إذ أن احتمال خسارة الدولة تماثل احتمال خسارة الفرد في الاعتبار فلا سبيل - في أغلب الحالات - إلى التأكد من أن الخسارة ستكون على الفرد لا على الدولة من تقلبات الأسواق الدولية.

على أن انتزاع المدخرات النقدية قد يكون في بعض الحالات معتمدًا فيه على المصلحة المرسلة وليس على دليل شرعي قاطع أو راجح، وبذلك يكون أساسه أقل ثباتًا وأدعى إلى التحرج من أساس ما كان معتمدًا فيه على دليل شرعي قاطع أو راجح.

ويتجلى ذلك في حال لجوء الدولة إلى انتزاع الفائض من النقد في أيدي الأفراد أو مؤسسات القطاع الخاص ليس لأنها بحاجة إليه ولكن لمجرد الحد من التضخم المالي وارتفاع الأسعار الناتج عن وفرة السيولة النقدية وذلك اجتنابًا للوقوع في المحظور الذي تقع فيه الدول غير الإسلامية أو غير الملتزمة بتطبيق الشريعة الإسلامية من معالجة هذا الوضع برفع الفوائد الربوية من المعاملات.

وفي هذه الحال يكون الإضرار بالفرد لو نزلت قيمة العملة المنتزعة منه أشد إيلامًا وأبرز مفسدة إذ أنه في حال الانتزاع منه لحاجة الدولة اقتصاديًا أو عسكريًا يمكن أن يعتبر نفسه في حال انخفاض قيمة العملة المنتزعة منه مسهمًا بنصيب في تحقيق مصلحة عامة يناله منها حظ. أما في حال الانتزاع لمجرد الحد من السيولة النقدية ومنع التضخم المالي المؤدي إلى ارتفاع الأسعار فإن شعور الفرد بالإسهام في تحقيق مصلحة عامة إن نقصت قيمة العملة المنتزعة منه يكون أقل وأضأل من شعوره بذلك في الحال المشار إليها آنفًا وقد لا يتأتى مثل هذا الشعور للفرد العادي وقد ينتج عن عدمه ما يجب التحرج منه من شيوع النقمة بين العامة من تصرفات الدولة شيوعًا قد يتطور إلى ما لا تحمد عقباه.

واعتبار تباين سعر العملة وخاصة طاقتها الشرائية تجب ملاحظته - عندنا - في مجال جباية الزكاة ممن امتنع عن دفعها وتجمعت في ذمته مقادير منها بمرور الزمن.

ص: 1364

لكن هل يلاحظ هذا الاعتبار في تحديد النصاب الواجب اعتماده عند محاسبته على الزكاة المتجمعة في ذمته أم في تحديد العقوبة التي يمكن للإمام أن يعاقبه بها نكالًا له إن امتنع من أدائها؟

واضح أن كلا الوجهين ممكن التنفيذ الذي نطمئن إليه هو أن يقدر نصًا كل سنة من السنوات التي لم يؤد الزكاة فيها على حدة وأن يحاسب في واجبه المترتب عنه بسعر العملة في ذلك العام سواء انخفضت أو ارتفعت حسب ما كان عليه في سوق القيم المالية ثم للإمام بعد ذلك أن ينزل عليه العقوبة التي يراها رادعة له ويراه مستوجبًا لها لامتناعه أو لغفلته عن أداء الزكاة.

ومثل هذا الاعتبار هو الصالح للاعتماد في محاسبة من يمارس المعاملات الربوية لمصادرة ما تأثله منها إذ إن عدم اعتماد هذا الاعتبار من شأنه أن يبقي له جانبًا من الفوائد الربوية التي تأثلها في حال انخفاض سعر العملة التي يحاسب بها عند محاسبته عما كانت عليه أثناء ممارسته للمعاملات الربوية أو في بعض فتراتها وعلى هذين المثالين تقاس أية حالات متشابهة لهما.

ونخلص من كل ما سبق إلى أن الانتزاع المخول لولي الأمر أن يمارسه بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة يتمثل في ثلاثة أشكال:

1-

المصادرة: وهي انتزاع كل ما في يد فرد أو مؤسسة خاصة من مال ثابت أو منقول ثبت أنه حاصل من طرق غير مشروعة كالغصب والاحتيال والرشوة والأجرة المحرمة والمكافأة من حاكم غير مسلم أو من حاكم مسلم غير ملتزم، لاسيما إذا كانت المكافأة من مال ليس خاصا بالدولة وإنما هو مغتصب من أفراد أو مؤسسات أو جماعات بقوة السلطان وينطبق هذا حتى على ما بيع لمن يقع انتزاعه منه سعر رمزي كما حدث كثيرًا في عدد من الأقطار الإسلامية خلال الحكم الأجنبي لها مما مارسه الحاكمون عندئذ مع عملائهم من أبناء تلك الأقطار.

وكالمال الذي يتأكد أنه حصيلة ممارسات ربوية وإن كان. أساسها رأس مال حلال إذا تبين أن من يتصرف في ذلك المال قد استهلك رأس ماله في نفقاته الخاصة وأن ما يتصرف فيه الآن هو حصيلة الممارسات الربوية الصرفة كما ألمعنا منذ قريب.

ص: 1365

2 -

التسخير: وهو انتزاع حق التصرف في مال ثابت أو منقول تكون الدولة بحاجة إليه اقتصاديًا أو عسكريًا وتستحيل تحقيق تلك الحاجة بنوع من التعامل أو التعاون مع من يتصرف في ذلك المال وقد يكون هذا التسخير لوقت معين وذلك في بعض الأموال الثابتة أو المتنقلة مثل أن تكون الدولة بحاجة إلى مساكن لإيواء من أصابتهم كوارث طبيعية أو لإسكان فقراء بحاجة إلى السكن ولم يتيسر للدولة عندئذ إنشاء مساكن لهم ومثل تسخير وسائل النقل لحاجة الدولة عند الكوارث الطبيعية أو في حالة الحرب وقد يكون التسخير دائما وهذا يتمثل في تسخير المدخرات النقدية التي تكون الدولة في حاجة دائمة إليها اقتصاديًا أو عسكريًا مثل توظيف تلك المدخرات في صناعات أو مشاريع فلاحية وتجارية علمية لتيسير العمل للعاطلين أو لتنشيط صناعة الدولة أو لتطوير تقنيتها أو لتوفير صادراتها ابتغاء تحقيق الموازنة لميزان أداءاتها أو توفير الفائض في تجارتها ليتيح لها نفوذ أو هيمنة على أسواق دول غير إسلامية تمكينًا لهيبتها وتدعيما لسلطانها.

وقد يكون التسخير لحاجة لا تتصل بالدولة مباشرة وإنما تتصل بالمجتمع الذي ترعاه وتضطلع بحفظ مصالحه وإقرار العدل بين أفراده ويتمثل هذا النوع في منع الاحتكار وتسعير المواد التي تتوقف عليها الحياة الضرورية - وحتى الحاجية أحيانًا - لعامة أفراد المجتمع وقد يتعين هذا التصرف في حالات استثنائية كأحوال القحط اجتنابًا لاضطرار الدولة اضطرارًا تامًا أو جزئيًا إلى استيراد ما يكفل الاستجابة لضرورات أبنائها أو في حال حروب إقليمية أو عامة تجعل الاستيراد أمرًا متعذرًا لما يكتنفه من تعرض وسائل النقل للخطر فتكون الدولة مضطرة إلى ضمان التوزيع العادل لما في أيدي أفرادها أو لما يتاح لهم استيراده من المواد والوسائل المتصلة بضرورة الناس وحاجاتهم توزيعًا يكفل حظا عادلًا من الربح لمن لديهم تلك المواد مستوردة أو متزنة لقاء ما بذلوه من جهد ويمنعهم من المغالاة في السعر استغلالًا لظروف الحاجة الطارئة ولإقبال الناس على الشراء.وقد يتعين في حالات غير استثنائية وهذا يمكن تصوره في الدول التي تأخذ بمبدأ الاقتصاد الحر إذا تواطأ التجار فيها أو الفلاحون على الاتفاق على أسعار ثابتة مبالغ في تقديرها لمواد مما ينتجون أو يستوردون وتتوقف عليها ضرورات عامة الأفراد أو حاجاتهم إذ يتعين على ولي الأمر أن يكبح جشع المستغلين ورغبتهم في الربح الوفير بأن يوفر لهم ربحًا معقولًا فيما يكفل لعامة الناس الحصول على حاجاتهم وضروراتهم بسعر عادل دون أن يتحكم فيهم المحتكرون من منتجين أو تجار.

ص: 1366

ثم إن التسخير لا ينحصر بالضرورة في المال العيني بل قد يشمل المال الاعتباري، ونعني بالمال الاعتباري الدراية التقنية والمهارة الصناعية والطاقة الإنتاجية لمختلف وسائل الإنتاج كالمصانع والأراضي الفلاحية والوسائل الإنتاجية مثل أدوات الصناعة جماعية كانت أم فردية والأيدي العاملة العادية والخبرة الفردية لأية حرفة أو مهنة يمارسها صاحبها بنفسه أو مع غيره من الفعلة كالحلاقة والحدادة والنجارة الصغيرة وحتى تنظيف الشوارع والأزقة وجمع القمامة وقيادة السيارات العامة والخاصة وشاحنات النقل والقطارات والبواخر والطائرات والمراقبة الجوية والإرشاد الملاحي في الأنهار الكبرى والمضايق وما إلى ذلك من الأعمال التي يمارسها الفرد أو الجمهور كل ذلك إذا احتاجت الدولة إليه حاجة دائمة أو عارضة وامتنع أصحابه من أدائه طمعًا منهم في أجور أعلى يعملون على تحقيقها باستغلال ظرف حاجة الدولة أو لأسباب سياسية أو غير سياسية امتناعًا من شأنه أن يلحق الضرر بسير الشؤون العامة والخاصة إذا كانت هذه الشؤون ذات علاقة بحالة الحرب أو ينتج عن تعويقها اعتلال في اقتصاد الدولة أو اختلال في مواجهة متطلبات الحياة العامة للمواطنين كتوزيع المؤونة أو جلبها أو تفريغها من البواخر والشاحنات وكضمان استمرار توزيع الماء والنور واستمرار السير العادي لوسائل النقل وما إلى ذلك مما يلحق المصلحة العامة بتعويقه ضرر يرجح ما قد يصيب الممتنعين عن الاضطلاع بواجبهم من مفاسد يمكن أن تبلغ حد الإساءة إلى مصالحهم الشخصية المادية ولكنها مهما بلغت لا توازي ما ينجر عن امتناعهم عن أداء واجبهم من الإضرار بالمصلحة العامة لاسيما إذا كانت تتصل مباشرة بسلامة الدولة عسكريًا أو باتصال نموها وتطورها اقتصاديًا اتصالًا ينتج عن الإخلال به أو تعويقه وإن لفترة قصيرة إضرار بنفوذ الدولة الخارجي أو بالتزاماتهم الدولية أو بمركزها الاقتصادي العالمي أو يحدث اضطرابًا ومصاعب في التزاماتها الداخلية. ففي جميع هذه الأحوال وما شاكلها تعلو المصلحة العامة على كل اعتبار لمصلحة أو مفسدة فردية أو متعلقة بجزء من المجتمع مثل طائفة بعينها أو أرباب مهنة أو صناعة.

ص: 1367

ويتبين من هذا أن إجبار العمال على العمل وإجبار أرباب الصناعات والمصانع والفلاحين ومن شاكلهم على الإنتاج إذا تبين أن إضرابهم يلحق بالدولة ضررًا محققًا واجب على ولي الأمر أن يمارسه بمقتضى تصرف الإمامة وأن أوامر التسخير التي يصدرها ذات صبغة شرعية واجبة التنفيذ بشرط أن يكون في تقديره لمدى الاضطرار إلى هذا التصرف صادرًا عن موازنة دقيقة وموازاة للاعتبارات السياسية والإدارية بالاعتبارات الشرعية الدينية وهذا يعني أنه يجب قبل أن يتخذ قرار التسخير في هذا المجال أن يستشير المجتهدين من الفقهاء وأن يشرح لهم ظروفها ونتائجها شرحًا واضحًا دقيقًا نزيهًا فإن اتفقوا على موقف فعليه أن ينزل عند اتفاقهم وإن اختلفوا كان له حق الترجيح لما يميزه عنهم من الخبرة التي يملكها نتيجة للممارسة المبصرة له ما قد لا يبصره غيره من الملابسات والعقبات ويشمل هذا الحكم تسخير الكفايات التقنية لجميع وسائل التسخير فلولي الأمر أن يجبر ما وجد منها داخل الدولة على العمل في جهاز الدولة نفسها إذا توقفت حاجة الدولة إليه وأن يمنعه من العمل المستقل أو في القطاع الخاص وإن كان ذلك يمنعه من أجر أعلى مما تسمح له به القوانين التنظيمية للدولة كما أن لولي الأمر أن يتخذ جميع الوسائل والتشريعات الممكنة له لإرغام ذوي الكفايات من مواطنيه على العودة إلى بلادهم والعمل في إطار الدولة ابتغاء الأجر الوفير أو إذا كان عملهم خارج الدولة يضر بها أو بالإسلام والمسلمين أو ينشًا عنه ما من شأنه نفع أعداء الدولة وخاصة إذا كانوا من غير المسلمين أو من المسلمين اسمًا ذوي الأهواء والنحل المنحرفة وإن لم يكونوا مع الدولة في حالة حرب بل وحتى إن كانوا معها في حلف أو صداقة مما تقتضيه اعتبارات سياسية متواضع عليها بين الدول ولا يعني التضامن العملي الذي لا يستقيم إلا في حال تماثل المبادئ والمناهج والأهداف.

3 -

تحديد الملكية وهو يشمل تحديد ما يمكن أن نسميه بـ" الملكية الاعتبارية" ونعني به ما شرحناه منذ قريب من تسخير الكفايات التقنية وطاقات الإنتاج على اختلافها كما يشمل تحديد الملكية المادية وهي ما دأبنا على تسميته بـ: "حق المنفعة والانتفاع".

ص: 1368

وقد سبق أن ألمعنا إلى حق ولي الأمر " بمقتضى الإمامة " اعتبارًا للمصلحة العامة في أن يمنع في تجميع المساحات الكبيرة من الأرض الفلاحية أو المهيأة للعمارة أو وسائل الصناعة الكبرى أو الصغرى أو العمارات السكنية وما شاكل ذلك في يد واحدة أو في أيد قليلة تيسرت لها الأسباب المالية لتجميعها.

كما سبق أن أوضحنا أن من حق ولي الأمر بل من واجبه "بمقتضى الإمامة" اعتبارًا للمصلحة العامة، وهنا أيضًا نضيف قيامًا بتنفيذ الأحكام الشرعية الإسلامية أن يصادر كل مال ثابت أو منقول تأثله صاحبه أو أصحابه - وإن شكل مؤسسة ذات شخصية معنوية - من طرق مخالفة لما يبيحه الشرع الإسلامي.

وفضلًا عن هذين النمطين من الامتلاك الذي قد يوفر لصاحبه أو أصحابه أرباحًا طائلة يعود توفيرها لهم على عدد أكبر منهم من الناس - مثل عمال الأرض وعمال المصانع - بالإجحاف بما يحرمهم من توزيع عادل لعوائد ما يبذلون من جهد أو كفاية تقنية أو مهارة صناعية أو خبرة فلاحية. هناك نوع من الملكية قد يتعين تحديده على ولي الأمر بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة وهو الملكيات الصناعية والفلاحية والعقارية الواسعة التي يكون منشأها حلالًا طيبًا ويكون أصحابها يحسنون استثماره إحسانًا يجعله ينتج أقصى طاقته الإنتاجية بيد أنهم لا ينفقون عوائدهم منه طبقًا لما رسمته الشريعة الإسلامية من طرائق وحدود نتيجة لذلك تنشًأ عن تصرفاتهم طبقة من المترفين من شأنها أن تحدث انقسامًا في المواطنين متباعد الآماد متمادي التفاوت لدرجة لا يمكن معها الاعتماد على التكييف الأخلاقي وحده لتلافي نتائجها النفسية ثم ما يسمى اليوم بالتفاوت الاجتماعي والصراع الطبقي.

على حين أن ولي الأمر إذا تصرف بمقتضى الإمامة في تلك الملكيات الواسعة بإعادة التوزيع يتلافى تلك النتائج الخطرة على السلم الاجتماعي للدولة دون أن يضر بالمستوى الاقتصادي للإنتاج.

ففي مثل هذه الحال وإذا رجح لدى ولي الأمر أنه إذا لم يعد توزيع تلك الملكيات سيواجه اختلالًا داخليًا خطيرًا وإذا وافقه المجتهدون من الفقهاء في تقدير ما يتوقعه من الاختلال ومعقباته له - وقد يكون واجبًا عليه - أن يعيد توزيعها وأن يعوض مالكيها عن الأقساط التي ينتزعها منهم ليوزعها على الآخرين بسعرها الحقيقي يوم انتزاعها في السوق الداخلية تعويضًا عاجلًا أو مقسطًا في الإطار الذي رسمناه آنفًا من ربط القيمة المؤجلة بسعرها من العملة أو العملات المستدل بها في أسواق القيم المالية العالمية على قيم العملات الخاصة والمؤثرة في قيم الأسهم والسندات.

ص: 1369

ذلك بأن صيانة جميع أنواع الأمن الداخلي والخارجي وحمايتها من أسباب الاعتلال والاختلال مصلحة عامة تعلو على كل اعتبار.

يتحصل من كل ما سبق أن انتزاع الملك أو بالأحرى انتزاع حق المنفعة والانتفاع انتزاعًا كاملًا أو جزئيًا اعتبارًا للمصلحة العامة قد يكون واجبًا على ولي الأمر وقد يكون مندوبًا إليه تبعًا لاختلاف الحوافز والدواعي إليه والنتائج المترتبة عنه.

وعمادنا في ذلك أمران:

أحدهما هو ما سبق أن ألمعنا إليه أكثر من مرة أن علاقة الإنسان بما تحت يده من الأموال الثابتة والمنقولة إنما هي علاقة الخليفة بوظيفة الخلافة ومناطها تحقيق المنفعة والانتفاع باعتباره جزءًا من المجتمع الإسلامي وتحقيقهما للمجتمع الإسلامي أفرادًا وجماعات ومجتمعًا وكيانًا سياسيًا، فإذا أخل بهذه الوظيفة عن قصور أو تقصير أو انحراف عن قواعد الشرع الإسلامي فقد حقه أو بعض حقه وكان لولي الأمر - وقد يكون واجبًا عليه - بمقتضى الإمامة أن يتصرف التصرف الذي يعينه ويحدد مداه اعتبارالمصلحة العامة مقدرة بمقادير الشرع الإسلامي ومحددة بحدوده ومعالمه غير معتمدة في ذلك على اجتهاده وحده بل مستعينًا باجتهاد كل من الخبراء المتخصصين والفقهاء المجتهدين فنازلًا على حكمهم عند اتفاقهم متصرفًا باجتهاده في ترجيح أحد الآراء عند اختلافهم على أن يخالف آراءهم جميعًا وعلى أن لا يكون متأثرًا في اجتهاده بأي مؤثر خارجي من جدليات وأهواء ليست في أساسها ومصدرها على شيء من العلاقة بالإسلام وإن تراءت بعض مظاهرها غير غريبة عنه، فإن تأثر بشيء من تلك الجدليات وإن تأثرًا لم يتجاوز مجرد الإعجاب أو الاستحسان كان ذلك جارحًا في أهليته للاجتهاد يحظر عليه أن يقيم لاجتهاده أي اعتبار ويحتم عليه أن لا يعتمد إلا اجتهاد الخبراء التقنيين والفقهاء المجتهدين، فإن اختلفوا تعين عليه اعتماد ما قال به الجانب الأغلب إلا أن يكون الجانب الأقل معتمدًا على نصوص صريحة من الكتاب والسنة لا تتعارض في جوهرها مع الخبرة التقنية بينما يعتمد الجانب الأغلب على مفاهيم واجتهادات وطرائق من الأقيسة

ص: 1370

والاستحسان والاستصحاب أو تقدير المصالح المرسلة. ففي هذه الحال عليه أن يأخذ برأي الجانب المعتمد على صريح نصوص الكتاب والسنة أو نصوص أحدهما ما لم تتعارض مع مقتضيات الخبرة التقنية المجمع عليها من الخبراء التقنيين وإن تكن هذه المقتضيات مرجوحة بالقياس إلى مقتضيات أخرى تساند رأي الفقهاء المجتهدين المستندين إلى مفاهيم واجتهادات مرجحين لها على بعض النصوص.

وثانيهما حديث "لا ضرر ولا ضرار".

وقد روي بأسانيد مختلفة بعضها متصل وبعضها مرسل وراق لبعضهم أن يريب فيه كما راق لآخر أن ينحرف بدلالته انحرافًا عجيب الشذوذ ونؤثر أن نسوق طائفة من ألفاظه وأسانيده قبل أن نقف عند تمحيص بعض ما تقول فيه المتقولون.

قال مالك (1) :

"حدثني يحيى عن مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر ولا ضرار)) .

وقال الشافعي (2) :

"روى الشافعي أن مالكًا أخبره عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر ولا ضرار)) .

وقال أحمد (3) :

"حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن جابر عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار وللرجل أن يجعل خشبة في حائط جاره والطريق الميتاء سبعة أذرع)) .

(1) الموطأ. ص: 638. ح: 36.

(2)

ترتيب مسند الإمام الشافعي ج: 2. ص: 134 و. ح: 442.

(3)

الفتح الرباني. ج 15. ص: 110. ح: 354.

ص: 1371

وقال أبو داود (1) : ((عن واسع بن حيان قال: كانت لأبي لبابة عذق في حائط رجل فكلمه فقال: إنك تطأ حائطي إلى عذقك فأنا أعطيك مثله في حائطك وأخرجه عني. فأبى عليه فكلم النبي صلى الله عليه وسلم فيه فقال: يا أبا لبابة خذ مثل عذقك فحزها إلى مالك واكفف عن صاحبك ما يكره فقال: ما أنا بفاعل فقال: اذهب فاخرج له مثل عذقه إلى حائطه ثم اضرب فوق ذلك بجدار فإنه لا ضرر في الإسلام ولا ضرار)) .

وقال ابن ماجه (2) : "حدثنا عبد ربه بن خالد النميري أبو المغلس، حدثنا فضيل بن سليمان، حدثنا موسى بن عقبة، حدثنا إسحاق بن يحيى بن الوليد عن عبادة بن الصامت ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن لا ضرر ولا ضرار)) .

وحدثنا محمد بن يحيى، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) .

وقال الدارقطني (3)

حدثنا محمد بن عمرو البختري، حدثنا أحمد بن الخليل حدثنا الواقدي، حدثنا خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لا ضرر ولا ضرار)) .

وحدثنا أحمد بن محمد بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن عثمان بن كرامة، حدثنا عبيد الله بن موسى عن إبراهيم بن إسماعيل عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((للجار أن يضع خشبته على جدار جاره وإن كره والطريق الميتاء سبع أذرع ولا ضرر ولا إضرار)) .

(1) المراسيل. ص: 207.

(2)

السنن. ج: 2. ص: 784. ح: 0 234 و1 234

(3)

السنن. ج: 4. ص: 227. ح: من 83 إلى 86.

ص: 1372

حدثنا إسماعيل بن محمد الصفار، حدثنا عباس بن محمد حدثنا عثمان بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لا ضرر ولا إضرار)) .

وحدثنا أحمد بن محمد بن زياد، حدثنا أبو إسماعيل الترمذي، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا أبو بكر بن عياش قال: أراه قال: عن ابن عطاء عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر ولا ضرورة ولا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبة على حائطه)) .

وقال البيهقي (1)

"أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المقري، أنبأنا الحسن بن محمد بن إسحاق، حدثنا يوسف بن يعقوب، حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا فضيل بن سليمان عن موسى بن عتبة بن أبي عياش، حدثني إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال:((إن من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قضى أن لا ضرر ولا ضرار)) .

أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أنبأنا أبو عمرو بن نجيد، حدثنا محمد بن إبراهيم، حدثنا أبو بكير، حدثنا مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا ضرر ولا ضرار)) - وتعقبه البيهقي بقوله: هذا مرسل (وقد رويناه) في كتاب الصلح موصولًا -.

وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن وأبو محمد بن أبي حامد المقري وأبو صادق بن أبي الفوارس قالوا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأ العباس بن محمد الدوري حدثنا عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن الرأي، حدثنا عبد العزيز بن محمد الداروردي عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا ضرر ولا ضرار من ضار ضره الله ومن شاق شق الله عليه)) .

(1) السنن الكبرى. ج:10. ص: 133 وج: 6. ص: 69 و70 و56 1 و57 1.

ص: 1373

وتعقبه بقوله: تفرد به عثمان بن محمد عن الدراوردي ورواه مالك بن أنس عن عمرو بن يحيى عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر ولا ضرار)) مرسلًا ".

لكن علق عليه بن التركماني بقوله: لم يتفرد به - يعني عثمان بن محمد عن الداروردي بل تابعه عبد الملك بن معاذ النصيبي فرواه كذلك عن الدراوردي كذا أخرجه أبو عمر - يعني ابن عبد البر - في كتابيه التمهيد والاستذكار.

ولم يتيسر لنا الإطلاع على الجزء الخاص بالعين مع الميم من تمهيد ابن عبد البر لأنه لم يكن قد طبع عند تحريرنا لهذا البحث وبذلنا غاية الجهد للإطلاع على النسخة الخطية أو صورة منها فلم يسعفنا الحظ.

ثم قال (1)

"أخبرناه أبو أحمد المهرجاني، أنبأ أبو بكر بن جعفر حدثنا محمد بن إبراهيم، أنبأ ابن بكير، أنبأ مالك فذكره.

أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن علي المقري، أنبأ الحسن بن محمد بن إسحاق، حدثنا يوسف بن يعقوب، حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا فضيل بن سليمان عن موسى بن عقبة حدثني إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن عبادة بن الصامت قال:((إن من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قضى أن لا ضرر ولا ضرار)) .

وأخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأ الربيع ابن سليمان، أنبأ الشافعي أن مالكًا أخبره عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا ضرر ولا ضرار)) .

ونقل الطبراني عن الهيثمي في الأوسط (2) :

"وحديثًا عن جابر بن عبد الله قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)) وتعقبه بقوله: وفيه ابن إسحاق وهو ثقة ولكنه مدلس.

(1) السنن الكبرى. ج:10. ص: 133 وج: 6. ص: 69 و70 و56 1 و57 1.

(2)

مجمع الزوائد. ج: 4. ص: 110.

ص: 1374

وحديثًا عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر ولا ضرار)) وتعقبه بقوله: وسمر ابن أحمد بن رشدين وهو بن محمد وهو بن محمد بن الحجاج بن رشدين وقال ابن عدي: كذبوه ".

قلت: لم أقف على هذا الاسم في الكامل لابن عدي.

وذكر بعض المعلقين أن الحاكم أخرجه كما ذكر آخر أنه في سنن أبي داود ولم أقف عليه رغم شدة البحث في المستدرك ولا في السنن ولعل الحاكم رواه في غير المستدرك أو في غير مظانه من المستدرك وكذلك أبو داود أو لعله في بعض الروايات لسننه وقد يكون بعضهم التبست عليه "المراسيل""بالسنن" أو أن في بعض روايات (السنن) إدراجًا لرواية " المراسيل ".

ونقله المزي (1) :

"عن النسائي عن محمد بن يحيى عن عبد الرزاق عن معمر عن عكرمة عن ابن عباس ".

وذكر أن النسائي أخرجه في الأحكام (الباب: 17. ح: 2) لكنا لم نجده في السنن ويظهر أنه نقله من "السنن الكبرى" إذ سبق أن نقل عنه حديثين قبل هذا ووضع المحقق أمام الحديث الأول كلمة الكبرى بين قوسين واللفظ الذي نقله المزي هو "لا ضرر ولا ضرر ".

ولقد أبدأ وأعاد كل من نقدة الحديث ومقلدة الفقهاء وشذاذ المبتدعة الذين يحكمون العقل البشري في التشريع ويرجحون الأحكام العقلية على النصوص الشرعية المقطوع بها وعلى غيرها من الأدلة المعتمدة شرعًا إذا تعارضت تلك الأحكام معها.

(1) تحفة الأشراف. ج: 5. ص: 119. ح: 6016.

ص: 1375

ومرد هذا الإبداء والإعادة وذلك الاضطراب والالتباس أو الانحراف إلى خطر القاعدة التي يقرها الحديث الشريف، إذ يظهر أن المتمسكين بحرفية قواعد "الجرح والتعديل " وشكلية مناهجه الذين لم تبلغهم بعض طرق الحديث حاولوا أن يغمزوا فيه بالإرسال والانقطاع دون أن يميزوا بين الطرق المرسلة أو المنقطعة والقرائن التي ترجحها أو تضعفها، ومن هؤلاء من يترجح من الاستدلال بالحديث المرسل أو يرفضه وهو موقف ليس هذا مجال مناقشته وإن كنا لا نقرة ومنهم من يؤرجح بين (المراسيل) فيأخذ بالبعض ويترك البعض حسب اجتهاده في توثيق بعض المرسلين والتحرج من غيرهم وذلك شأنه فله اجتهاده.

بيد أننا نعتمد الحديث المرسل إذا أرسله تابعي ثقة أيًا كان فكيف بمن هو بمنزلة رجال مالك أو في مقام الحسن بن أبي الحسن ومن على شاكلة هؤلاء؟ ذلك بأن توثيقهم يقتضي تلقائيًا اعتماد ما وثقوا به إذ أن أصحاب "الجرح والتعديل" أنفسهم كانوا يتشددون في التوثيق أو كذلك كان الجيل الأول منهم فلا يصفون أحدًا منهم بأنه ثقة لمجرد أنه مشهود له بالصدق بل لأنه فضلًا عن ذلك ممن يرتضون دينه بل إن بعضهم يشترط أيضًا أن لا يكون ممن يعتمد على الكتابة إذ كانوا يرون أن الذين يعتمدون على الكتابة يمكن أن لا يكون سماعهم مباشرة وإنما يحدثون عن طريق النقل وهذا جارح عند هؤلاء وما من أحد من أهل "الجرح والتعديل"، يستطيع أن يغمز وإن في سريرته في

أمثال الحسن بن أبي الحسن ومالك وأحمد رضوان الله عليهم جميعًا فكيف يجوز أن نتحرج من مراسيلهم لا سيما من التزم منهم بمثل ما التزم به مالك من التحرج الشديد فيما يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنقيحه مرة بعد مرة لكتابه الجليل "الموطأ" من مآثره التي تداولتها بإجماع ألسنة النقلة ومدونات السير وتراجم الرجال.

ويحيى بن عمارة المازني وابنه عمرو اللذان أسند اليهما مالك وغيره هذا الحديث روى عنهما الجماعة وممن أجمعوا على توثيقهم فلماذا يحاول البعض أن يريب في الحديث لمجرد أن يحيى لم يذكر عمن رواه من الصحابة مع أن ممن روى عنهم أبا سعيد الخدري (1) وقد رفع إليه غيره الحديث.

أما نحن فنعتمد رواية مالك "المرسلة" لما يشهد لها من رواية غيره "المرسلة" أكثر مما نعتمد الرواية الموصولة وإن كنا لا نرى فيها مغمزًا.

(1) انظر ابن حجر تهذيب التهذيب. ج: 11. ص: 259. ح: 520.

ص: 1376

ثم إننا لا نعجب من تضعيفهم لبعض الأسانيد التي أسند بها هذا الحديث لمجرد أن من رجالها من تكلموا فيه بما لا يبلغ حد الغمز في دينه أو في حفظه عامة مع أن هذه الأسانيد تدعمها الأسانيد التي لم يغمزوا فيها إلا بالإرسال أو الانقطاع دعما نعتبره وأمثاله شهادة دامغة على صحة الحديث صحة لا يغمز فيها أن وجد بين بعض من أسندوه من قال فيه النقدة كلامًا لم يبلغ درجة الاتهام بالوضع والكذب أو بالدعوة الجاهرة إلى بدعة أو نحلة ذلك بأن المبالغة في تقصي أحوال الرجال لو طبقناها في جميع المحدثين ومنهم بعض التابعين لكان لنا مقال في نفر من كبار من وثقوه من الطبقة الأولى والثانية والثالثة من التابعين ولكنا نبرأ إلى الله من أن نجرِّح أحدًا لشيء قد يثبت عنه وقد لا يثبت مما يتصل بحياته الخاصة وسلوكه الشخصي أو برأي شخصي له لم يتخذ الدعوة إليه دأبًا ومهمة مما لا يتصل بالصدق في النقل وبالدقة والضبط لما ينقل.

ومن عجب أنهم ربما لم يتحرجوا من بعض النقلة الذين عرفوا باللحن أو بعدم التدقيق في ضبط ما ينقلون واعتذروا لهم بأنهم أخطأوا في سماع بعض الألفاظ أو في قراءته من "الكتاب" أمام المؤلف أو بالإجازة أو المناولة منه واعتمادًا على هذا العذر يقبلون حديثه مع أن الخطأ في قراءة شكلة أو رواية نقطة فضلًا عن حرف قد تؤثر في المعنى وقد تغيره جوهريا وقد ينشأ عنه اختلاف في الدلالة أو قرينة المناط.

مهما يكن فليس هذا مجال بسط القول في رأينا وموقفنا من بعض "مقولات " نقدة الحديث ولعلنا سنبسطه في مجال آخر نفرده له، إنما عرضنا له الآن ونحن في أواخر مراحل هذا البحث لنوضح معالم منهجنا في الاستدلال ببعض الأحاديث التي قد يلتبس استدلالنا بها على بعض مقلدة النقدة وليس خطر هؤلاء على السنة وفهمها والاستدلال بها واستنباط الأحكام منها بأقل من خطر المتفقهة المقلدة ولأمر ما كان أحمد رحمه الله يفضل الأخذ بالحديث الضعيف على الأخذ بالرأي.

ص: 1377

وآخرون اتخذوا من هذا الحديث أساسًا لأقيسة فيها حتى لأوشكوا أن يبلغوا إلى تعطيل الحدود وغيرها من الأحكام المنصوص عليها لأتفه الأسباب وخطر هؤلاء هو أن النهج الذي سلكوه يجعل من هذا الحديث أداة لتعطيل حدود وأحكام يؤدي تعطيلها إلى اعتبار جوانب من التشريع الإسلامي كما لو أنها تجاوزتها الأحداث فأصبحت مجرد نمط من تاريخ التشريع وجل هؤلاء من متأخري المتفقهة المقلدة إذا لم نقل "المتفيقهة" الذين استهوتهم نزعات تظاهرت على غزو الأمة الإسلامية من يمين ويسار منشأ فلسفات بعضها عقلي مجرد وبعضها ذرائعي انتهازي وصعب على بعضهم أن يندفع معها متجردًا صراحة من الإسلام وحسن لآخرين أن يحاولوا التوفيق بينها وبين الإسلام رغبة منهم في أن لا يظهر الإسلام كما لو أنه غير قابل للتطبيق في هذا العصر فاتخذ هؤلاء وأولئك معًا هذا الحديث قاعدة لمحاولات توفيق من هؤلاء وتسويغ من أولئك بين الإسلام وتلك النزعات والجدليات إذا لم نقل تلك النزوات والنزعات فضلوا وأضلوا ومرد ضلالهم إلى أنهم لم يعايشوا السنة النبوية فضلًا عن النصوص القرآنية معايشة خالصة ووعي واستيعاب ومنهم من يرجع إلى القرآن الكريم حين يضطر إلى الرجوع إليه مهتديًا بمعاجم ألفاظه أو ببعض مؤلفات وضعها المستشرقون لتصنيف آياته الشريفة طبقًا لموضوعاتها وفاتهم أن دلالة الآية لا تتم ولا تنجلي إلا في ارتباطها بما قبلها وبما بعدها في أغلب الأحيان.

ويرجع إلى السنة النبوية - إذا رجع إليها في غير كتب الفقهاء - معتمدًا على بعض المختصرات التي تعتمد في الاختصار على تجريد الحديث من السند ولم يدركوا أن الحديث المجرد من السند لا يصلح للاستدلال به لأن دلالته تعتمد على رتبة السند قوة وضعفًا كما تعتمد على المقارنة بين متونه التي يغفل أصحاب المختصرات إيرادها جميعًا مقتصرين على واحد منها وقد يكون طرفًا من حديث طويل لا يستقيم الاستدلال به إلا بفهمه في إطار الحديث كله وهذا أيضًا مجال من القول في طريقة الاستدلال بالحديث مما قعد الأصوليون بعضه وقعد المحدثون بعضه وأغفل المقلدة المتفقهة خفه ليس بسطه من شأن هذا البحث.

ص: 1378

وأخطر من كل من سبقت الإشارة إليهم ممن اضطربوا في الاستدلال بهذا الحديث أو جنحوا به ضال مضل ما كنا لنعرض له أو نقيم له وزنًا لولا أن بعض المعاصرين - نرجح أن منهم من في موقفه من الإسلام دخل - أهمهم أمره فخبوا وأوضعوا في عرض وتحليل آرائه ومن أسف أن منهم من اعتمدها.

هذا الضال المضل هو سليمان بن عبد القوي الطوفي أحد الذين كتبوا في أصول الفقه وفروعه وفي التصوف في أوائل النصف الثاني من القرن السابع الهجري ومن عجب أن ينسب أو ينتسب إلى مذهب أحمد والله يشهد أن أحمد رحمه الله ومن اعتصم بمنهجه من الفقهاء والمحدثين براء منه وتدل القرائن والشواهد على أنه شيعي رافضي وهو بالشيعة الروافض أشبه.

وقد كان حريًا بهذا الدعي لأهل السنة وما هو منهم أن يطويه النسيان وما كتب لولا أن فتن به بعض المعاصرين وفي طليعتهم الدكتور مصطفى زيد الذي ابدأ وأعاد في الترجمة له وتحليل مزاعمه وأباطيله ونشر جانبًا منها في كتابه " المصلحة في الشريعة الإسلامية ونجم الدين الطوفي". ومعاذ الله أن يكون الطوفي نجمًا من نجوم الدين.

وكان من مزاعم هذا الضال ما تقوله حول حديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) من أنه قاعدة ينطلق منها إلى ترجيح المصلحة المجردة على النص الصريح أو الإجماع إذا تعارضت معهما.

وجلي أنه ما من عالم واع يدرك سرائر الفروق بين ما مرجعه إلى هداية الله وإرشاده وما مرجعه إلى إدراك العقل واجتهاده يسيغ له وعيه أن يحكم نتاج العقل المجرد وهو بعض ما خلق الله على شريعة الله اللطيف الخبير بما خلق العليم الحكيم فيما شرع الذي لا تحده الحدود الزمنية ولا المكانية ولا البيئوية. فلو كان للعقل المجرد أن يتحكم في شرع الله لكان للإنسان أن يصبح في غنى عن شرائع الله إذا بلغ مرحلة معينة من التطور العقلي وهل يقول بهذا مسلم؟ بل هل يقول بهذا عالم واع وإن كان غير مسلم؟

ص: 1379

ونحن إذ نعرض لكل هذا الذي عرضنا له في الفقرات السابقة إن نريد إلا أن نرسم المعالم الدقيقة للنهج الذي نعتمد في تقرير أن لولي الأمر بما له من حق التصرف بمقتضى الإمامة أن يتحكم كليًا أو جزئيًا اعتبارًا للمصلحة العامة فيما في أيدي الناس من الأموال الثابتة أو المنقولة في نطاق الضوابط والقيود التي أوضحناها فيما سبق بما نعتقد أن فيه كفاية التحديد والتبيان.

وللمزيد من رفع الألباس التي أوقعت في المحاذير الخطرة بعض المتفيقهين المعاصرين ومن قبلهم بعض المتفقهة المقلده حول الاعتماد على حديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) في تقدير وضبط العلاقة بين المصلحة والنص نقتبس كلامًا شريفًا للعلامة المحقق المعاصر الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه البديع الجامع ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية" (1) :

"

على أن الباحث في أمر تخالف المصلحة مع النص أن ينتبه إلى حقيقتين مهمتين:

الأولى: أن المصلحة التي تخالف النص تنقسم إلى مصلحة مجردة لا شاهد لها في أصل المعتبر وهي "المرسلة" وإلى مصلحة لها شاهد معتبر وهي ما استند إلى دليل القياس.

الثانية: أن التخالف بينهما إما أن يكون تخالف معارضة بحيث لا يمكن الجمع بينهما وإما أن يكون تخالفًا جزئيًا بحيث يمكن الجمع بينهما بتخصيص ونحوه.

فأما المصلحة التي لا شاهد لها من أصل تقاس عليه فلا يجوز اعتبارها عند مخالفة النص لها سواء كانت مخالفة كلية أو جزئية أو غيره وسواء كان النص قطعيا أو غير قطعي أجمع على هذا كافة (2) الصحابة والتابعون وأئمة المذاهب ومثلها المصلحة القائمة على أساس القياس إذا عارضت نصا قطعيا كأية صريحة من القرآن أو سنة متواترة فهو قياس فاسد لا يؤخذ به، أجمع على ذلك أيضًا عامة المسلمين ".

وعندي أن القياس يكون فاسدًا أيضًا إذا عارض نصًا راجحًا أحديًا لا سيما إذا كان مستفيض الشهرة.

(1) ص:200 و201.

(2)

التعبير السليم الذي يتفق مع تواضيع عليه أئمة البيان أن يقال: أجمع على هذه الصحابة والتابعون وأئمة المذاهب كافة.

ص: 1380

ثم قال:

"وأما المصلحة التي لها شاهد من أصل معتبر تقاس عليه وكان بينها وبين النص تخالف يمكن إزالته من طريق التخصيص أو كان بينهما وبين النص تعارض ولكنه نص غير قطعي كخبر الآحاد ".

قلت: وقد أوضحت منذ قليل رأييَّ فيه.

" فالأمر في هذا خاضع لاجتهاد العالم المتثبت لأنه في حقيقته اجتهاد في توفيق النصوص مع بعضها لا في ترجيح مصلحة مجردة على نص.

وكل ما استند إليه بعض الكاتبين لتجويز تقديم المصلحة المجردة على النص في بعض الحالات من اجتهادات وفتاوى الأئمة فإنما هو من هذا النوع وليس فيه أي شاهد على ما يريدون ".

قلت: وقد بينا فيما سبق أن الاجتهاد في مسائل المعاملات وما شاكلها مما لا يتصل بشؤون العبادة غير المعقولة المعنى يجب أن يكون اجتهادًا جماعيا يشترك فيه الخبراء في الموضوع الذي يتصل به الاجتهاد مع الفقهاء المؤهلين للاجتهاد لأن ظروف الحياة الإنسانية أو بالأحرى الطور الذي صارت إليه الحضارة الإنسانية جعلت حياة الإنسان المادية على حال من التشعب والتعقيد يتعذر معها وقد يستحيل على الفرد الواحد مهما بلغ علمه من السعة والشمول أن يحيط بكل الدقائق والملابسات والعواقب التي يجب اعتبارها عند الاجتهاد لإصدار حكم في شأن مما يتصل بها، وهذا مظهر آخر من مظاهر رأينا في تحكم الظرفية فيما يتعين من الاجتهاد في الشؤون الحضارية المعاصرة. وقد عرض عدد من الأصوليين والفقهاء إلى الجانب الزماني من موضوع "الظرفية " وقل منهم من عرض عرضًا بوضوح للجانب البيئوي وهو في رأينا أبعد خطرًا وأعمق أثرًا من الجانب الزماني. فقد يمتد الزمان بقطر أو جماعة أحقابًا وأعصرًا ولا يكون تطورها الحضاري مواكبًا لذلك الامتداد بل قد يكون متوقفًا أو شبه متوقف فينعدم تأثير الظرفية الزمنية في تكييف أي اجتهاد يتصل بشؤونها الحياتية أو يكاد. على حين قد يسرع التطور الحضاري بأقطار أو جماعات أخرى بما يشبه مسابقة الزمن حتى لا تشبه أطوارها "الانقلابات" أو ما يقرب منها وحتى تصبح حياتها في فترات قصار شبه مقطوعة الصلة بما كانت عليه كلما أعقبت فترة غيرها.

ص: 1381

وفي مثل هذه الحال يكون للظرفية البيئوية أن تتحكم في تعيين طرق الاجتهاد وأساليبه كلما عرضت قضية أو استجد أمر يتعين معها أو معه الاجتهاد في حكمه أساسًا أو في طريقة تطبيقة الحكم عليه وفي كيفية التطبيق.

وقد أبدع ابن القيم رحمه الله فشفى وأعجز في بيان تأثير الظرفية - بيئوية وزمنية - في تحديد وتكييف طرائق استنباط الأحكام وتطبيقها فقال (1) وهو يشرح مسألة الطلاق الثلاث وما استحدثه عمر رضي الله عنه من موقف بشأنها وكيف أن هذا الموقف لا ينبغي اعتباره أساسًا لا محيد عنه حين يتبين أن الأسباب المؤدية أو المناطات المعتبرة له لم تعد قائمة:

"والذي ندين الله به ولا يسعنا غيره وهو القصد في هذا الباب أن الحديث إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنًا من كان لا راويه ولا غيره إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث أو لا يحضره وقت الفتيا أولا يتفطن بدلالته على تلك المسألة أو يتأول تأويلًا مرجوحًا أو يقوم في ظنه عما يعارضه ولا يكون معارضًا في نفس الأمر أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه ولو قدر انتفاء ذلك كله ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه لم يكن الراوي معصومًا ولم توجب مخالفته لما رواه سقوط عدالته حتى تغلب سيأته حسناته وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك".

ثم قال:

" إذا عرفت هذا فهذه المسألة - يعنى إيقاع الطلاق الثلاث باللفظ به مرة واحدة - مما تغيرت الفتوى بها بحسب الأزمنة كما عرفت لما رأته الصحابة من المصلحة لأنهم رأوا مفسدة تتابع الناس في إيقاع الثلاث لا تدفع إلا بإمضائها عليهم فرأوا مصلحة الإمضاء أقوى من مفسدة الوقوع ولم يكن باب التحليل الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله مفتوحًا بوجه ما، بل كانوا أشد خلق الله في المنع منه وتوعد عمر فاعله بالرجم وكانوا عاملين بالطلاق المأذون فيه وأما في هذه الأزمان التي قد شكت الفروج فيها إلى ربها من مفسدة التحليل وقبح ما يرتكبه المحللون مما هو رمد بل عمى في عين الدين وشجى في حلوق المؤمنين من قبائح تشمت أعداء الدين به وتمنع كثيرًا ممن يريد الدخول به في سببه بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب ولا يحصرها كتاب يراها المؤمنون كلهم من أقبح القبائح ويعدونها من أعظم الفضائح فقد قلبت من الدين رسمه وغيرت منه اسمه وضخ التيس المستعار فيها المطلقة بنجاسة التحليل وقد زعم أنه طيبها للحليل".

إلى أن قال (2) :

"

فألزمهم عمر بالطلاق الثلاث إذا جمعوها ليكفوا عنه إذ أن المرأة تحرم به وأنه لا سبيل إلى عودها بالتحليل، فلما تغير الزمان وبعد العهد بالسنة وآثار القوم وقامت سوق التحليل ونفقت في الناس فالواجب أن يرد الأمر إلى ما كان عليه في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته من الإفتاء بما يعطل سوق التحليل أو يقللها ويخفف شرها، إذا عرض على من وفقه الله وبصره بالهدى وفقهه في دينه مسألة كون الثلاث واحدة ومسألة التحليل ووازن بينهما تبين له التفاوت وعلم أي المسألتين أولى بالدين وأصلح للمسلمين".

(1) أعلام الموقعين. ج: 3. ص: 52.

(2)

أعلام الموقعين. ج: 3. ص: 52.

ص: 1382

وواضح لكل ذي عقل بصير وإدراك سليم وذوق في شؤون الشريعة قادر على النفاذ إلى سرائرها ومكامن المناط منها أن ملاك الأمر في هذا الشأن وفي كل شأن من شؤون الاجتهاد هو اعتبار المصلحة في نطاق المعايير الشرعية سواء كانت عامة أو فردية وأن اعتبار المصلحة مرده إلى أولي الأمر ممن إليهم المرجع في تبيان الحكم إن كان مما يتصل بالفتوى أو ممن إليهم المرجع في تنفيذه وتحديد موجباته وتقدير ظروفه إن كان مما يتصل بالشؤون العامة وهذا النوع خاصة هو ما يعنينا في هذا البحث وقد أطلق عليه في العصور المتأخرة لفظ "سياسة"، أو " السياسة الشرعية " ولا نذكر أننا عثرنا على هذه العبارة في تعابير الصحابة والتابعين وأئمة الاجتهاد الأول ولكنا نجدها آخذة في الشيوع من حوالي القرن الخامس الهجري حتى أصبحت بابًا جليلًا من أبواب الفقه، وقد عقد لها ابن القيم فصلًا جليلًا وقال فيه كلامًا شريفًا تدعو الحاجة إلى استكمال عناصر التبيان لموقفنا في هذا البحث إلى أن نقتطف منه ما يلي:

قال رحمه الله (1) :

" في معرض العمل بالسياسية".

(1) أعلام الموقعين. ج: 4. ص: 373 و375.

ص: 1383

" وجرت في ذلك مناظرة بين أبي الوفاء بن عقيل وبين بعض الفقهاء فقال ابن عقيل: العمل بالسياسة هو الحزم ولا يخلو منه إمام وقال الآخر: لا سياسية إلا ما وافق الشرع فقال ابن عقيل: السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي فإن أردت بقولك لا سياسة إلا ما وافق الشرع أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح وإن أردت ما نطق به الشرع فغلط وتغلط للصحابة- لعل الصواب وتغليط للصحابة- فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والمثل ما لا يجحده عالم بالسير ولو لم يكن إلا تحريق للمصاحف- لعل صوابه: إلا تحريق عثمان للمصاحف – كان رأيًا اعتمدوا فيه على مصلحة وكذلك تحريق علي كرم الله وجهه الزنادق في الأخاديد ونفي عمر نصر بن حجاج.

قلت – القائل ابن القيم -: هذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام وهو مقام ضنك في معترك صعب فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود وجرأوا أهل الفجور على الفساد وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد وسدوا على أنفسهم طرقًا صحيحة من الطرق التي يعرف بها الحق من الباطل وعطلوها مع علمهم وعلم الناس بها أنها أدلة حق ظنًا منهم منافاتها لقواعد الشرع والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة حقيقة الشريعة والتطبيق بين الواقع وبينها، فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة فأحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها مصالح العالم فتولد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شر طويل وفساد عريض وتفاقم الأمر وتعذر استدراكه وأفرط فيه طائفة أخرى فسوغت منه ما يناقض حكم الله ورسوله وكلا الطائفتين أتيت من قبل تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله، فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض فإذا ظهرت أمارات الحق وقامت أدلة العقل وأسفر صبحه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وأماراته في نوع واحد وأبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدل وأظهر بل قد بين مما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذواتها وإنما تراد غاياتها التي هي المقاصد ولكن نبه بما شرعه من الطرق على أسبابها وأمثالها ولن تجد طريقًا من الطرق المثبتة للحق إلا وهي شرعة وسبيل للدلالة عليها وهل يظن بالشريعة الكاملة خلاف ذلك ولا نقول إن السياسة العادلة مخالفة للشريعة الكاملة بل هي جزء من أجزائها وباب من أبوابها وتسميتها سياسة أمر اصطلاحي وإلا فإذا كانت عدلًا فهي من الشرع ".

ص: 1384

ثم ساق أمثلة من أحكام وأقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم تدعم هذا الذي قرره، ثم قال:

" وتقسيم بعضهم طرق الحكم إلى شريعة وسياسة كتقسيم غيرهم الدين إلى شريعة وحقيقة وتقسيم آخرين الدين إلى عقل ونقل وكل ذلك تقسيم باطل بل السياسة والحقيقة والطريقة والعقل، كل ذلك ينقسم إلى قسمين صحيح وفاسد، فالصحيح قسم من أقسام الشريعة لا قسيم لها والباطل ضدها ومنافيها وهذا الأصل من أهم الأصول وأنفعها وهو مبني على حرف واحد وعموم رسالته صلى

الله عليه وسلم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه العباد في معرافهم وعلومهم وأنه لم يحوج أمته إلى أحد بعده وإنما حاجته من يبلغهم عنه ما جاء به فلرسالته عمومان محفوظان لا يتطرق إليهما تخصيص عموم بالنسبة إلى المرسل إليهم وعموم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه من بعث إليه في أصول الدين وفروعه فرسالته كاملة شافية عامة لا تحوج إلى سواها ولا يتم الإيمان به إلا بإثبات عموم رسالته في هذا وهذا فلا يخرج أحد من المكلفين عن رسالته ولا يخرج نوع من أنواع الحق الذي تحتاج إليه الأمة في علومها وأعمالها عما جاء به ".

وقد التبس على بعض المعاصرين من أساتذة وأصدقاء نجلهم ونقدر صدق إخلاصهم وسلامة إصدارهم وإيرادهم فيما يتخذون من مواقف التمييز بين اعتماد الشارع للمصلحة أساسًا ومناطًا ما ورد في جزئيات الشرع من النهي عن أشياء قد يبلغ البعض منها حد المنكرات مع أنه لا مناص من إغفال اعتبارها لتحقيق بعض ما يقره مبدأ اعتبار المصلحة الأساس المهيمن والقاعدة المحكمة في تطبيق مبدأ التصرف بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة.

ص: 1385

وقد واجه الشاطبي رحمه الله - وربما من بعض معاصريه مثل هذا الالتباس فأوضح في رفعه - أبدع إيضاح وأروعه وذلك دأبه - حقيقة موقف الشرع منه وكيفية مواجهته له فقال وهو يشرح القواعد المتفرعة عن أصل أن "النظر في مآلات الأشياء معتبر مقصود شرعًا " إلى آخره مما سبق أن نقلناه عنه (1) :

" ومن هذا الأصل أيضًا تستمد قاعدة أخرى وهي أن الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية والتكميلية إذا اكتنفتها من خارج أمور لا ترضي شرعًا فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج كالنكاح الذي يلزمه طلب قوت العيال مع ضيق طرق الحلال واتساع أوجه الحرام والشبهات وكثيرًا ما يلجئ إلى الدخول في الاكتساب لهم بما لا يجوز ولكنه غير مانع لما يؤول إليه التحرز من المفسدة المربية على توقع مفسدة التعرض ولو اعتبر مثل هذا في النكاح في مثل زماننا لأدى إلى إبطال أصله وذلك غير صحيح وكذلك طلب العلم إذا كان في طريقه مناكير يسمعها ويراها وشهود الجنائز وإقامة وظائف شرعية إذا لم يقدر على إقامتها إلا بمشاهدة ما لا يرتضى فلا يخرج هذا العارض تلك الأمور من أصولها لأنها أصول الدين وقواعد مصالح وهو المفهوم من مقاصد الشارع فيجب فهمها حق الفهم فإنها مثار اختلاف وتنازع وما ينقل عن السلف الصالح مما يخالف ذلك قضايا أعيان لا حجة في مجردها حتى يعقل معناها فتصير إلى موافقة ما تقرر إن شاء الله والحاصل أنه مبني على اعتبارات مآل الأعمال فاعتبارها لازم في كل حكم على الإطلاق. والله أعلم".

ولابن القيم رحمه الله كلام شريف في هذا الشأن قال (2) :

(1) الموافقات. ج: 4. ص: 210 و211.

(2)

أعلام الموقعين. ج: 3. ص: 147 وما بعدها.

ص: 1386

" لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن بها بحسب إفضائها إلى غاياتها فوسيلة المقصر تابعة للمقصود وكلاهما مقصود ولكنه مقصود قصد الغايات وهي مقصودة قصد الوسائل، فإذا حرم الرب تعالى شيئًا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقًا لتحريمه وتثبيتًا له ومنعًا أن يقرب حماه ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضًا للتحريم وإغراء للنفوس به وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه لعد مناقضًا وحصل من رعيته وجنده ضد مقصودة وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه عن الطرق والذرائع الموصلة إليه وإلا فسد

عليهم ما يرومون إصلاحه فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟ ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها والذريعة ما كان وسيلة أو طريقًا إلى شيء".

ثم ذكر أن الفعل أو القول المفضي إلى المفسدة قسمان: أحدهما، أن يكون وضعه الإفضاء إليها والثاني، أن تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب فيتخذ وسيلة إلى المحرم إما بقصده أو بغير قصد منه وساق أمثلة للقسمين ليس هذا مجالها.

ثم قال:

"ثمن هذا القسم - يعني الثاني - من الذرائع نوعان: أحدهما: أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته والثاني: أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته فها هنا أربعة أقسام. الأول: وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة.

الثاني: وسيلة موضوعة للمباح يقصد بها التوصل إلى المفسدة. الثالث: وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوصل إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالبًا ومفسدتها أرجح من مصلحتها. الرابع: وسيلة موضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها.

ص: 1387

ثم قال:

" فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم - يعني الرابع - أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة وجاءت بالمنع من القسم الأول كراهة أو تحريما بحسب درجاته في المفسدة بقي النظر القسمين الوسط هل هما مما جاءت الشريعة بإباحتهما أو المنع منهما؟ ".

ثم ساق تسعة وتسعين وجهًا في بيان منع القسم الثاني والثالث وهما وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوصل إلى المفسدة ووسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوصل إلى المفسدة ولكنها مفضية إليه غالبًا ومفسدتها أرجح من مصلحتها.

ثم قال (1)

"وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف فإنه أمر ونهي. والأمر نوعان: أحدهما مقصود لنفسه والثاني وسيلة إلى المقصود. والنهى نوعان: أحدهما ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه والثاني ما يكون وسيلة إلى المفسدة فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين ".

ولعل الأشواط التي قطعناها في هذا البحث قد رسمت بأبين ما يكون الرسم وأوضحه وأدقه تحديدًا لمعالم موقفنا من قضية " انتزاع الملكية للمصلحة العامة! من أنها قضية قد تكون ضرورية في هذا العصر وقد تكون حاجية وقد تكون تكميلية تعين اعتبارات المصلحة العامة صفة كل واقعة من وقائعها على هدى المعايير الشرعية وقد لا تدعو الحاجة إليها إذا كان الالتجاء إليها لمجرد مسايرة الغير ومشاكلته وقد تكون منكرًا ظلما إذا كان الداعي إليها تسليط تطبيق جدلية لا علاقة لها بالشرع الإسلامي على المسلمين وربما كانت قاعدتها مناهضة للشرائع السماوية وتسفيهها ومحاولة تدمير كياناتها وملاك التمييز بين كل واقعة وأخرى هو الصبغة المهيمنة على تصرف ولي الأمر وعلى طبيعة سياسته التشريعية والتطبيقية فإذا كان مسلما ملزمًا باعتبار الشريعة الإسلامية مصدرًا لفكره التشريعي ومعيارًا لسلوكه لا ينحرف عنها ولا يحيد كان تصرفه بمقتضى الإمامة إذا التزم فيه اجتهادًا جماعيًا من الخبراء التقنيين والفقهاء المجتهدين ومن بصره هو بملابسات الأمر ودواعيه وعواقبه تصرفًا مشروعًا تجب الاستجابة له ولا يجوز أن يخالف أو ينكر عليه من أي كان حتى وإن كان من بعض الفقهاء والمجتهدين الذين لم يتفق معهم في الرأي ووافق على غيرهم من أقرانهم لأن المخالفة والإنكار في هذه الحال على ولي الأمر قد تؤدي إلى الفتنة أو حتى إلى مجرد التشكيك في شرعية تصرفه مما ينجم عنه اختلال أو اعتلال في وحدة الرأي والسلوك الضروريين لرسوخ الأواصر بينه وبين الرعية.

ولعل من تمام الفائدة في إيجاز المجالات التي يتعين في أغلب الأحوال على ولي الأمر أن يتدخل بالتصرف كليًا أو جزئيًا فيما في أيدي الأفراد مما استخلفهم الله تعالى فيه للتصرف والتصريف ابتغاء المنفعة والانتفاع لهم وللمجتمع الإسلامي أن ننقل كلامًا

شريفًا لابن تيمية أوجز فيه أغلب الدواعي والموجبات لهذا النمط من تصرف ولي الأمر.

قال رحمه الله (2) :-

" بذل المنافع والأموال سواء كان بطريق التعوض أو بطريق التبرع ينقسم إلى واجب ومستحب وواجبها ينقسم إلى فرض على العين وفرض على الكفاية. فأما ما يجب من التبرعات - مالًا ومنفعة - فله موضع غير هذا وجماع الواجبات المالية بلا عوض أربعة أقسام مذكورة في الحديث المأثور ((أربع من فعلهن فقد برئ من البخل: من آتى الزكاة وقرى الضيف ووصل الحرم وأعطى في النائبة)) (3) . ولهذا كان حد البخيل من ترك هذه الأربعة في أصح القولين لأصحابنا اختاره أبو بكر وغيره ".

ثم قال:

" وأما الواجبات المنفعية بلا عوض فمثل تعليم العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصر المظلوم وهي كثيرة جدًا وعامة الواجب في منافع البدن".

(1) أعلام الموقعين. ج: 3. ص: 147 وما بعدها.

(2)

مجموع الفتاوى. ج: 29. ص: 185 إلى 196.

(3)

لم أقف على حديث بهذا اللفظ.

ص: 1388

ثم قال:

" وأما المنافع المالية وهي كمن اضطر إلى منفعة مال الغير كحبل ودلو يستقي به ماء يحتاج إليه وثوب يستدفئ به من البرد ونحو ذلك فيجب بذله لكن هل يجب بذله مجانًا أو بطريق العوض كالأعيان فيه وجهان. وحجة التبرعة متعددة كقوله تعالى {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (1) ففي سنن أبي داود عن ابن مسعود قال: كنا نعده عارية

القدر والدلو والفأس (2) وكذلك إيجاب بذل منفعة الحائط للجار إذا احتاج إليه على أصلنا المتبع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من المواضع، ففي الجملة ما يجب إيتاؤه من المال أو منفغة أو منفعة البدن بلا عوض له تفصيل آخر في موضع آخر ولو كان كثير من الفقهاء مقصرين في علمه بحيث ينفون وجوب ما صرحت الشريعة بوجوبه ويعتقد الغالط منهم أن لا حق في المال سوى الزكاة أن هذا عام ولم يعلم أن الحديث المروى في الترمذي عن فاطمة أن في المال حقا سوى الزكاة (3) ومن قال بالأول أراد الحق المالي الذي يجب بسبب المال فيكون راتبًا وإلا فنحن نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله قد أوجب إيتاء المال في غير الزكاة المفروضة في مواضع مثل الجهاد بالمال عند الحاجة والحج بالمال ونفقة الزوجة والأقارب والمماليك من الآدميين والبهائم ومثل ما يجب من الكفارات من عتق وصدقة وهدي، كفارات الحج وكفارات الأيمان والقتل وغيرها وما يجب من وفاء النذور المالية إلى غير ذلك بل المال مستوعب بالحقوق الراتبة أو العارضة بسبب من العبد أو بغير سبب منه وليس هذا موضع تفصيل هذه الجملة".

ثم قال:

"ونحن نعلم قطعًا أنه إذا كان إيتاء المال أو المنفعة بلا عوض واجبًا بالشريعة في مواضع كثيرة جدا لأسباب اقتضت الإيجاب الشرعي وليس ذلك من الظلم الذي هو أخذ حق الغير بغير حق فلأن يكون إيتاء المال والمنفعة بعوض واجبًا في مواضع أولى وأحرى بل إيجاب المعاوضات أكثر من إيجاب التبرعات وأكبر فهو أوسع منه قدرًا وصفة. ولعل من استقراء الشريعة تبين له أن المعاوضة إذا احتاج المسلمون إليها بلا ضرر يزيد على حاجة المسلمين وجبت، فأما عند عدم الحاجة ومع حاجة رب المال الكافية لحاجة المعتاض فرب المال أولى فإن الضرر لا يزول بالضرر والرجل أحق بماله من ولده ووالده والناس أجمعين و"ابدأ بنفسك ثم بمن تعول "

(1) الآية الأخيرة من سورة الماعون.

(2)

لفظه عند أبي داود (السنن. ج: 2. ص: 124. ح: 1657) : حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا أبو عوانة عن عاصم بن أبي النجود عن شقيق عن عبد الله قال: كنا نعد – الماعون على عهد رسول الله عارية الدلو والقدر.

(3)

انظر البند (12) .

ص: 1389

هذا الحديث روي عن عده طرق حتى لقد بلغ رتبة المتواتر أو كاد.

وقد ارتأينا أن نقتصر على حديثين رواهما البخاري في كتاب الزكاة مع ذكر من أخرجهما غيره نقلًا عن المزي. قال البخاري (ج: 2. ص: 117) : حدثنا عبدان، أخبرنا عبد الله عن يونس عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول)) . وقال المزي (تحفة الإشراف. ج:.1. ص: 68. ح: 13340) : حديث: خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول. خ في الزكاة (18: 1) عن عبدان عن عبد الله – س فيه (الزكاة 60: 3) عن عمرو بن بن سواد عن ابن وهب - كلاهما عنه به. وقال البخاري (نفس المرجع) : حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب، حدثنا هشام عن أبيه عن حكيم بن حزام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول وخير الصدقة عن ظهر غنى ومن يستعف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله)) . وعن وهيب قال: أخبرنا هشام عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه بهذا. وقال المزي (نفس المرجع. ج: 3. ص: 78. ح: 3433) : حديث: اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول

الحديث. خ في الزكاة (18: 2) عن موسى بن إسماعيل عن وهيب عن هشام بن عروة عن أبيه. روى عن هشام بن عروة عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وسيأتي (ح 14131) . .

ثم قال:

"وبالجملة فوجوب المعاوضات من ضرورات الدنيا والدين أن الإنسان لا ينفرد بمصلحة نفسه بل لا بد له من الاستعانة ببني جنسه، فلو لم يجب على بني آدم أن يبذل هذا لهذا ما يحتاج إليه وهذا لهذا ما يحتاج إليه لفسد الناس

وفسد أمر دنياهم ودينهم فلا تتم مصالحهم إلا بالمعاوضة وصلاحها بالعدل الذي أنزل الله له الكتب وبعث به الرسل ".

ص: 1390

ثم قال:

" وعلى هذا فإذا احتاج المسلمون إلى الصناعات كالفلاحة والنساجة والبناية فعلى أهلها بذلها لهم بقيمتها كما عليهم بذل الأموال التي يحتاج إليها بقيمتها إذ لا فرق بين بذل الأموال وبذل المنافع بل بذل المنافع التي لا يضر بذلها أولى بالوجوب معاوضة ويكون بذل هذه فرضًا على الكفاية وقد ذكر طائفة من العلماء ومن أصحابنا وغيرهم أن أصول الصناعات كالفلاحة والحياكة والبناية فرض على الكفاية والتحقيق أنها فرض عند الحاجة إليها وأما مع الإمكان عن الاستغناء عنها فلا تجب، وهذه حكينا بيعها فإن من يوجبها بالمعاوضة لا تبرعًا فهو إيجاب صناعة بعوض لأجل الحاجة إليها وقوله عند الحاجة فإن المسلمين قد يستغنون عن الصناعة بما يجلبونه أو

يجلب إليهم من طعام أو لباس والأصل أن إعانة الناس بعضهم لبعض على الطعام واللباس والسكنى أمر واجب وللإمام أن يلزم بذلك ويجبر عليه ولا يكون ذلك ظلما بل إيجاب الشارع للجهاد الذي فيه المخاطرة بالنفس والمال لأجل هداية الناس في دينهم أبلغ من هذا كله فإذا كانت الشجاعة التي يحتاج المسلمون إليها والكرم الذي يحتاج المسلمون إليه واجبًا فكيف بالمعاوضة التي يحتاج المسلمون إليها ولكن أكثر الناس يفعلون هذا بحكم العادات والطباع وطاعة السلطان غير مستشعرين ما في ذلك من طاعة الله ورسوله وطاعة أولي الأمر فيما أمر الله بطاعتهم فيه ".

ثم ختم هذا الكلام القيم بقوله:

" والإمام العدل تجب طاعته فيما لم يعلم أنه معصية وغير العدل تجب طاعته فيما علم أنه طاعة".

ونعتقد أنه ليس بعد كل ما أسلفناه من نقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وكبار أئمة الاجتهاد مجال للريب أو التردد في أن استحقاق الإنسان لخلافة الله فيما لديه من الثابت والمنقول رهن بقيامه بوظيفة الخلافة في تحقيق المنفعة والانتفاع للمجتمع الإسلامي بالتصرف فيه وتصريفه في نطاق ضوابط الشرع الإسلامي وطبقًا لمقتضياته.

وفي أن من صميم واجبات ولي الأمر رعاية ذلك وحسن توجيهه بالإرشاد وبالتدخل لتصحيح سيره وتقويم مساره عند الحاجة إلى مثل هذا التدخل ثم بالتدخل لتحويل التصرف والتصريف إذا تعين تحويلهما اعتبارًا للمصلحة العامة

لعجز من كان في يده أو لانحرافه عن مقتضيات الشرع الإسلامي إصراره على الانحراف.

ص: 1391

وهذا النمط الأخير من التدخل، على ولي الأمر أن يلتزم فيه بمبدأ التعويض بالمثل أو بالسعر الحقيقي في السوق الداخلية إلا إذا كان موجب التدخل هو إقامة حدود الله في مال اكتسبه صاحبه بطريقة غير مشروعة أو امتنع فيه من أداء حقوقه المشروعة وقد سبق بيان ذلك من قبل.

وشهد الله لقد استفرغت الجهد في استقراء النصوص واستقصاء الاجتهادات وإعمال الفكر في الموازنة والتقدير والتمحيص وأرجو من الله الحكيم الخبير الغفور الرحيم أن لا أكون قد أخطأت الفهم أو أخطأت التقدير.

" {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (1){رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} (2){قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (3) .

(1) الآية رقم (88) سورة هود.

(2)

الآية رقم (8) سورة آل عمران.

(3)

الآية رقم (108) سورة يوسف.

ص: 1392

المناقشة

بسم الله الرحمن الرحيم

الرئيس:

الحمد لله.. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد.

نفتتح مستعينين بالله تعالى هذه الجلسة الصباحية والتي سيعرض فيها موضوع انتزاع الملك للمصلحة العامة. وقد وزعت الأبحاث في هذا الموضوع ويكون العرض من فضيلة الأستاذ محمد قاسم والمقرر هو الشيخ عبد الله محمد عبد الله. الشيخ عبد الله موجود؟ تفضل بعرض الموضوع.

عرض الشيخ عبد الله محمد عبد الله:

بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

في الواقع أنا فوجئت بهذا التكريم أو التشريف لأنه لم يكن اسمي واردًا في جدول الأعمال الذي وزع علينا بالأمس ولهذا سأحاول بقدر الإمكان إضافة إلى أن بعض البحوث وزعت علينا أخيرًا في آخر النهار فسأحاول بقدر الإمكان أن أعطي إلمامًا من واقع البحوث التي وصلتنا سابقًا. والظاهر على هذه البحوث أنها تتفق من حيث المبدأ على جملة أمور ولم أر بينها تباينًا في الرأي من حيث النتيجة وإن كانت تجمع على أن الانتزاع بدون وجه حق محظور شرعًا ولا ينزع عن أحد ملكه إلا لمصلحة عامة وحاجة عامة أيضًا. وهذه البحوث أخذت في بادئ الأمر تتكلم عن المصطلحات أو مفردات العنوان " الملك والمنفعة العامة " ثم أخذت تبحث عن الحالات التي يجوز فيها نزع الملك. وهذه الحالات بعضها يصدق عليه التعريف أي أنها للمنفعة العامة وبعضها ليست لهذا الغرض وإنما لمنفعة أفراد معروفين كبيع المال جبرًا عن صاحبه لسداد ديونه وكبيع الشفيع والشريك وهكذا.

ص: 1393

فالمقصود إذن من العنوان الملك الذي ينزع لأجل منفعة عامة كإنشاء مسجد أو توسعة مسجد أو طريق أو نحو ذلك، في هذه الحالات اشتدت الحاجة واحتاج الطريق العام من تنظيمه إلى أملاك الأفراد فهنا أجاز الفقهاء على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم لنزع الملك ولكنهم يشددون على ضرورة ألا ينزع عن أحد ملكه إلا بعد تعويضه تعويضًا عادلًا هذا الاتفاق الفقهي القديم هو ما أخذت به القوانين والتشريعات الحديثة في مختلف البلاد لأن نزع الملك الآن أصبح له طابع خاص فإننا ننشيء مدنًا على أنقاض مدن وننشيء مدنًا كبيرة على أنقاض تلك المدن كما في بلاد الخليج. وفي المملكة التي شاهدت اتساع العمران واتساع النهضة العمرانية فيها هناك أيضًا أمر مهم يلفت النظر إليه وهو أن نزع الملك الأصلي يتم عن طريق الاتفاق بين أصحاب عقارات وبين الدولة أو السلطة في الدولة، فإذا تم هذا الاتفاق فإن الأصل أن نخضع القواعد في نزع الملك للأحكام والمعاملات من حيث الاتفاق على الثمن وطريقة الدفع للتعجيل أو التأجيل. أما إذا رفض هؤلاء البيع فهنا تقوم السلطة بما لها من قوة بانتزاع الملك وتدفع الثمن في هذه الحالة قبل الاستيلاء على العقار أو قبل طرد صاحبه أو أخذه من صاحبه. أما إذا تم الاتفاق بينهما فإنه تنطبق الاتفاقات التي تمت بينهم وهذا شيء اتفق عليه الذين كتبوا في هذا الموضوع، لم أر من خالف في ذلك.

ثم إن السند الذي اتجه إليه أو استدل إليه الباحثون فعل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وما اتخذه سيدنا عمر رضي الله عنه عندما وسع المسجد الحرام وكذلك عندما وسع مسجد النبي عليه الصلاة والسلام فإن سيدنا عمر وسيدنا عثمان رضي الله عنهما قاما بنزع الأملاك ودُفع لأربابها الثمن الذي قدروه فتمثل تقريبًا القيمة الحقيقية. وأريد أن أشير إلى ناحية إلى أنه يجوز أن يكون التعويض أو المقابل أكثر من القيمة الحقيقية لأن فيه أيضًا نوعًا من التعويض عن هذا الحال كما تم في عهد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم والتابعين. وأشير أيضًا إلى نقطة ربما انفردت بها في بحثي وهو أن المقابل لا يتعين أن يكون بالنقد بل يجوز أن يكون مقايضة بان يعطي عقارًا بدل عقار أو أن يعطي عقارًا ونقدًا بدل عقاره وقد تم ذلك في أيام السلف الصالح عند توسعة المسجد النبوي وحالات أخرى. وأرجو في هذه العجالة أو هذا الإيجاز الشديد أن أكون قد أعطيت صورة عن هذا الموضوع. وشكرًا.

ص: 1394

الشيخ محمد على التسخيري:

شكرًا سيدي الرئيس.. أود قبل أن أتحدث أن أهنئكم على بدء هذه الدورة وأعتذر من تأخري لظروف قاهرة. أما الحديث حول هذا الموضوع أعتقد أن المسألة تبتنى على مقدمة يجب أن نتفق عليها أو ربما كانت هذه المقدمة بعد شرحها واضحة من حيث الاتفاق. المسألة مسألة دور ولي الأمر في المجتمع ولي الأمر حسب ما يمكن أن ينتهي إليه الاستقراء عليه أن يقوم أولا بتطبيق الأحكام الأولية الإسلامية وعليه أيضًا أن يوحد الموقف في بعض الأمور كمسألة الأهلة، وعليه أيضًا أن يقوم بتوجيه الأموال العامة للصالح العام، وعليه أيضًا أن يحقق المصلحة العامة التي يمكن أن يعبر عنها بالتعبيرات الحديثة بالسير المتوازن للمجتمع أو ما يمكن أن يقال عنه كل ما يحقق للمجتمع مسيرة طبيعية في مثل هذا الجو المعين. إذا لاحظنا هذه الوظائف ولاحظنا أن هناك أحكامًا أولية ثبتت للأشياء بعناوينها الأولية كالملكية والصوم والصلاة. هذه ثبتت للأشياء بعناوينها الأولية وأن هناك أحكاما ثانوية تفرضها الضرورة كمقتضى قاعدة لا ضرر ولا حرج وأمثال ذلك. وأن هناك أحكاما يصدرها الولي يمكن أن نطلق عليها أحكامًا حكومية أو أحكامًا ولائية وما إلى ذلك ليقوم الولي بتحقيق أهدافه وواجباته كولي أمر وقائد للمجتمع. بالنسبة إلى موردنا هذا، الملكية حق مضمون في الشريعة، والناس مسلطون على أموالهم وبالعنوان الأولى الملكية لا ينتزعها مطلقًا نحتاج إذن إلى عنوان ثانوي أو مصلحة يراها الولي فيصدر في مجالها حكمًا ولائيًا في هذا المعنى.

لا أرى سبيلًا إلا أن نطرح هنا قاعدة التزاحم بين الأحكام عندما تتزاحم الأحكام تارة يكون التزاحم فرديا فالفرد يعين أهمية التحكم عندما يجب عليه أن ينقذ غريقين، وأحدهما أهم من الآخر، أحدهما له أهمية كبرى ولا يستطيع إلا أن ينقذ أحدهما، ليس عليه إلا أن يقدم الأهم ويتأخر عن المهم. بالنسبة للأمور الاجتماعية الذي يحقق الأهمية أو الذي يحكم بأن الأهمية هنا موجودة وهو ولي الأمر على ضوء خبرته بالمجتمع عندما يتنافى حق الملكية مع مصلحة المجتمع المتوازن فتكون الأهمية هنا لصالح النظام وحفظ النظام وحفظ المجتمع المتوازن وولي الأمر هو الذي يحقق ذلك، هو الذي يكتشف ذلك، وهو الذي يحكم بذلك حينئذٍ يمكن تقديم الأهم على المهم وهي قاعدة وافق عليها الجميع وعرف الاستحسان أحيانًا بتقديم الأهم على المهم، وعلى هذا التعريف إذا كان هو على تعريف الاستحسان

ص: 1395

لا أتصور أن هناك مسلمًا يخالف فيه أو عاقلًا حتى يخالف في تقديم الأهم على المهم عند التزاحم. ولي الأمر هو الذي يعين الأهمية في هذا المجال طبعًا هذا المعنى لا يتنافى مع مسألة التعويض. يجب أن يعوض لأن تقديم الأهم على المهم لا تنافي له مع مسألة تعويض هؤلاء وحتى التعويض بقيمة أعلى أو التعويض بثمن مالي أو غير مالي هذا أمر آخر ولا تنافي مع التوافق تحقيق توافق معين اللهم إن هناك ظروفا استثنائية للمجتمع يلجأ فيها ولي الأمر إلى عدم التعويض عندما يرى المصلحة العامة ذلك. لا أرى مانعًا في ذلك وأعتقد أننا لو طرحنا المسألة على أساس التزاحم بين حفظ النظام العام وبين الحكم الأول لكان الحكم فيها واضحًا. وشكرًا.

الرئيس:

شكرًا.. في الواقع يا أصحاب الفضيلة إن هذا الموضوع يظهر أنه ليس بحاجة إلى كثير من المداولات والمناقشات لأنه في حكم المسلمات في الشريعة سواء كان من حيث النص كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الخليفة الراشد عمر رضي الله تعالى عنه والخليفة الراشد عثمان رضي الله تعالى عنه وعدد من الولاة، وتابع العلماء على ذلك في مصنفاتهم وفي مؤلفاتهم الفقهية والحديثية، أو كان من باب طرد قاعدة الشريعة التي تفضل بها الشيخ علي، وهي تزاحم المصالح وتقديم الأهم كي تتقدم المصلحة العامة والأبحاث التي قدمت لكم هي تتفق على هذه النتيجة وهي على وفق ما قرره أهل العلم في مسألة نزع الملك للمصلحة العامة ويمكن أن يصنف في عدة ضوابط:

الأول: أن الأصل حرية المالك في ملكه وأنه مسلط على ملكه لا سلطان لأحد عليه وأنه لا يسوغ انتزاع ملكه منه بغير حق.

الثاني: المبدأ الثاني هو جواز نزع الملك للمصلحة العامة وأن المصلحة العامة هي التي يقدرها ولي الأمر على ضوء ما هو مقرر في كتب الشريعة.

والثالث: أنه لا يجوز نزع الملك إلا بتعويض عادل مهما يلحق مع ذلك من ضوابط ثنائية.

فإذا رأيتم أن يقصر بحث الموضوع لنأخذ الموضوع الذي بعده ونؤلف له لجنة من الباحثين ومن بعض أصحاب الفضيلة وندخل في الموضوع الذي بعده فهو مناسب لأني لا أرى فيه مجالًا للخلاف والنزاع طالما أنه في حكم المسلمات واللجنة بين يديها الأبحاث وستستخلص مشروع قرار أرجو أن يكون وافيًا بالمطلوب.

ص: 1396

الشيخ إبراهيم فاضل الدبو:

بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين.

في الواقع كما تفضل السيد رئيس المجمع أن الفقهاء قد أغنوا هذا البحث ووضعوا له الضوابط الكفيلة بحماية حق الفرد وحماية حق الدولة في هذا المجال إلا أنني أضيف إلى ما ذكره فضيلة الأستاذ أنه ينبغي أن لا تنزع الملكية من شخص وتملك لشخص آخر وإنما يقيد نزع الملكية للمصلحة العامة. فلا يجوز أن ينتزع ملك زيد ويعطى لعمرو. وشكرًا.

الشيخ محمد عطا السيد:

بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين. اللهم صل على محمد عبدك ورسولك.

السيد الرئيس في جلساتنا السابقة كنا إذا اتضح الأمر بمثل هذه الصورة التي أمامنا الآن كنا نتخذ قرارًا ونصوغه ونعرضه على الأعضاء ويوافقون عليه. وأرى عدم جدوى تكوين لجنة لهذه الحالة ويمكن للرئيس أن يصوغ كما فعل في الماضي قرارا ثم نتفق عليه وننتهي من هذه المسألة.

الرئيس:

ما فيه مانع إذا رأيتم هذا الشيء نعمله. موافقون.

مناقشة مشروع القرار

الشيخ عبد الستار أبوغدة:

قرار رقم 4 بشأن انتزاع الملكية للمصلحة العامة.. بعد الإطلاع على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع انتزاع الملك للمصلحة العامة. وفي ضوء ما هو مسلم في أصول الشريعة من احترام الملكية الفردية حتى أصبح ذلك من قواطع الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، وإن حفظ المال أحد الضروريات الخمس التي عرف من مقاصد الشريعة رعايتها، وتواردت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة على صونها، مع استحضار ما ثبت بدلالة السنة النبوية وعمل الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم من نزع ملكية العقار للمصلحة العامة، تطبيقًا لقواعد الشريعة العامة في رعاية المصالح وتنزيل الحاجة منزلة الضرورة وتحمل الضرر الخاص لتفادي الضرر العام.

ص: 1397

قرر ما يلي:

أولا: يجب رعاية الملكية الفردية وصيانتها من أي اعتداء عليها، ولا يجوز تضييق نطاقها أو الحد منها، والمالك مسلط على ملكه وله في حدود المشروع التصرف فيه بجميع وجوهه وجميع الانتفاعات الشرعية.

ثانيًا: لا يجوز نزع ملكية العقار للمصلحة العامة إلا بمراعاة الضوابط والشروط الشرعية التالية:

1-

أن يكون نزع العقار بمقابل تعويض فوري عادل.

2-

أن يكون نازعه ولي الأمر أو نائبه في ذلك المجال.

3-

أن يكون النزع للمصلحة العامة التي تدعو إليها ضرورة عامة أو حاجة عامة تنزل منزلتها كالمساجد والطرق والجسور.

4-

أن لا يؤول العقار المنزوع من مالكه إلى توظيفه في الاستثمار العام أو الخاص، وألا يعجل نزع ملكيته قبل الأوان.

فإن اختلت هذه الشروط أو بعضها كان نزع ملكية العقار من الظلم في الأرض والغصوب التي نهى الله عنها ورسوله صلى الله عليه وسلم. على أنه إذا صرف النظر عن استخدام العقار المنزوعة في المصلحة المشار إليها تكون أولوية استرداده لمالكه الأصلي، أو لورثته بالتعويض نفسه.

الشيخ علي المغربي:

رقم واحد في ثانيًا: لا يجوز نزع ملكية العقار للمصلحة العامة إلا بمراعاة الضوابط والشروط الشرعية التالية: أن يكون نزع العقار مقابل تعويض فوري عادل. هذا التعويض الفوري والعادل بالنسبة لمن؟

ص: 1398

الرئيس:

هذه جيدة ولهذا قد ترون مناسبًا: بتعويض فوري عادل لا يقل عن ثمن المثل.

الشيخ علي المغربي:

هنا تختلف الجهات. فهناك من يرى كلمة العادل بالنسبة للواقع أو بالنسبة للدولة. فإذا جئنا لقطعة تراب، الدولة ترى أن قطعة التراب للمتر الواحد يساوي عشرة ريالات مثلا بالنسبة إليها ولكنه في السوق الواقعي الذي يباع به يساوي الألف. هل نعتبر ما تقدمه الدولة عدلًا أو نعتبر واقع الأمر هو العدل وهنا يكون الظلم على صاحب العقار.

الرئيس:

المهم هذه العبارة ألا تحل الإشكال إذا قلنا: مقابل تعويض فوري عادل لا يقل عن ثمن المثل بواسطة أهل الخبرة؟.

الشيخ على المغربي:

لأن أهل الخبرة في الواقع تخرجهم الدولة.

الرئيس:

هذا قرار شرعي يا شيخ ونريد أهل الخبرة على ضوء الشريعة.

الشيخ محمد المختار السلامي:

أعتقد أن تنزيل الحاجة منزلة الضرورة يعني هذا التنزيل مثلًا عندنا ضرورة. بعد الإطلاع وفي ضوء وعند الأولى بعد الإطلاع آخر الفقرة.

الرئيس:

تنزيل الحاجة منزلة الضرورة.

ص: 1399

الشيخ محمد المختار السلامي:

أصوليا عندنا الحاجة حاجة والضرورة ضرورة. أما أن ينزل الحاجة منزلة الضرورة.

الشيخ عبد الستار أبو غدة:

قاعدة حنفية هذه والشيخ تقي يشرحها.

الشيخ محمد تقي العثماني:

الحاجة العامة.

الشيخ عبد الستار أو غدة:

أو حاجة عامة تنزل منزلة الضرورة.

الشيخ محمد المختار السلامي:

يا سيدي الحاجة العامة حاجة عامة، الضروري ضروري.

الرئيس:

قد ترون لا هذا ولا هذا:

الشيخ عبد الستار أبو غدة:

أن يكون النزع للمصلحة العامة التي تدعو إليها ضرورة عامة أو حاجة عامة تنزل منزلتها.

الرئيس:

هذه قاعدة يا شيخ تنزيل الحاجة منزلة الضرورة.

الشيخ عبد الستار أبو غدة:

نضيف العامة.

الشيخ محمد المختار السلامي:

لقد قرأت بين الدفتين أول من بسط بسطا علميا هذه القواعد وهي قاعدة الضروريات والحاجيات والتحسينات وأفضل من بسطها وهو الشاطبي ولم أر تنزيل الحاجة منزلة الضرورة.

ص: 1400

الرئيس:

هل كلامكم في رقم 3.

الشيخ محمد المختار السلامي:

فقط في الأولى.

الرئيس:

وتنزيل الحاجة منزلة الضرورة. قيدناها وقلنا تنزيل الحاجة العامة.

الشيخ محمد المختار السلامي:

شكرًا، الله يحفظك، الله يبارك فيك.

الشيخ محمد هشام البرهاني:

في آخر عبارة عندما يصرف النظر عن استخدام هذا العقار ويرد إلى مالكه قد تختلف الأسعار فإذا قلنا بنفس السعر قد يكون فيه ظلم إما للمالك وإما للجهة. فلا بد أن يكون السعر الذي يعود إليه السعر الحالي لأن الزمن قد يتباعد. في آخر العبارة بالتعويض نفسه.

الشيخ محمد المختار السلامي:

بالتعويض العادل.

الشيخ عبد الستار أبو غدة:

بالتعويض العادل. في آخر سطر رقم 1: أن يكون نزع العقار مقابل تعويض فوري عادل يقدره أهل الخبرة بما لا يقل عن ثمن المثل.

الشيخ خليل محي الدين الميس:

كلمة في الصياغة. إذا ممكن رقم 3 أن يكون رقم 1 لأنا وضعنا المشروط قبل الشرط لأن رقم 3 يكون نزع الملكية بالشروط التالية.

ص: 1401

الرئيس:

الحقيقة يظهر أن الإخوان راعوا شيئًا واحدًا وهو أن أهم هذه الشروط هو الأول فاجعلوا الأول في الواجهة للاهتمام.

الشيخ إبراهيم بشير الغويل:

سيدي في هذا الموضوع انتزاع الملكية للمصلحة العامة كل الأمور ماشية تماما إلا أنه لا يراعى أي قيد على أن هذه الملكية تكون قد اكتسبت بطرق مشروعة كما هو شريعة الله. دائمًا رعاية الملكية الفردية وصيانتها من أي اعتداء. نحن نصون ونمنع الاعتداء على ملكية اكتسبت بطرق مشروعة وفقًا لشريعة الله.

الرئيس:

يا شيخ إبراهيم. الديباجة فيها ما شاء الله ما يغطي هذا وزيادة، ارجع إليها.

الشيخ محمد علي التسخيري:

أنا أعتقد أننا تقريبًا أطلقنا اليد إلى حد ما في الملكية الفردية فحبذا لو حذفنا عبارة جميع الانتفاعات الشرعية وأضفنا في ذيل هذه الفقرة: يجب رعاية الملكية الفردية وصيانتها من أي اعتداء عليها ولا يجوز تضييق نطاقها أو الحد منها والمالك مسلط على ملكه وله التصرف فيه بجميع وجوهه كل ذلك في الحدود الشرعية.

الرئيس:

والله – يا شيخ الشرعية ما تقررت في قرار مثل تكررها في هذا القرار.

الشيخ محمد علي التسخيري:

لا يجوز تضييق نطاقها. ما أكثر مجالات تضييق نطاق الملكية، على الأقل ولي الأمر يستطيع أن يمنع كثيرًا من المباحثات. فإذا حكمنا حكمًا شرعيًا في هذا المعنى اجعلوا هذا العنوان. احذفوا كل مكان حدود المشروع والانتفاعات الشرعية وأعطوا القيد لكل المقيدات. قولوا كل هذه الأمور في الأطر الشرعية.

ص: 1402

الشيخ محمد المختار السلامي:

بسم الله الرحمن الرحيم..

أمران. الأمر الأول هو أن المعدوم شرعًا كالمعدوم حسا. فإذا قلنا: شيء ملكية شرعية بمعنى أنها الملكية الحقيقية في الشرع مع أنها ملكية ونصف ملكية شرعًا.

الأمر الثاني: أنه كثيرا ما استمعت إلى قضية ولي الأمر هذا. عندنا أن ولي الأمر معزول عن غير المصلحة وأنه لا يستطيع بذاته أن يعلم كل شيء وعليه أن يستشير وإذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يشاور، فإنما ذلك سُن لكل ولي أمر أن يشاور، فليس لنا في الإسلام أن ولي الأمر هو كل شيء وأنه هو المرجع وهذا لا أريد أن أعود إليه.

الرئيس:

هل عندكم اعتراض على قرار نزع الملكية.

ص: 1403

قرار رقم (4) د 4/ 08 /88

بشأن

انتزاع الملكية للمصلحة العامة

إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18- 23 جمادى الآخر 1408هـ، الموافق 6-11 فبراير 1988م، بعد الإطلاع على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع " انتزاع الملك للمصلحة العامة"

وفي ضوء ما هو مسلم في أصول الشريعة، من احترام الملكية الفردية، حتى أصبح ذلك من قواطع الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، وأن حفظ المال أحد الضروريات الخمس التي عرف من مقاصد الشريعة رعايتها، وتواردت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة على صونها، مع استحضار ما ثبت بدلالة السنة النبوية وعمل الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم من نزع ملكية العقار للمصلحة العامة، تطبيقًا لقواعد الشريعة العامة في رعاية المصالح وتنزيل الحاجة العامة منزلة الضرورة وتحمل الضرر الخاص لتفادي الضرر العام.

قرر ما يلي:

أولا: يجب رعاية الملكية الفردية وصيانتها من أي اعتداء عليها، ولا يجوز تضييق نطاقها أو الحد منها، والمالك مسلط على ملكه، وله في حدود المشروع التصرف فيه بجميع وجوهه وجميع الانتفاعات الشرعية.

ثانيًا: لا يجوز نزع ملكية العقار للمصلحة العامة إلا بمراعاة الضوابط والشروط الشرعية التالية:

1-

أن يكون نزع العقار مقابل تعويض فوري عادل يقدره أهل الخبرة بما لا يقل عن ثمن المثل.

2-

أن يكون نازعه ولي الأمر أو نائبه في ذلك المجال.

3-

أن يكون النزع للمصلحة العامة التي تدعو إلى ضرورة عامة أو حاجة عامة تنزل منزلتها كالمساجد والطرق والجسور.

4-

أن لا يؤول العقار المنزوع من مالكه إلى توظيفه في الاستثمار العام أو الخاص، وألا يعجل نزع ملكيته قبل الأوان.

فإن اختلت هذه الشروط أو بعضها كان نزع ملكية العقار من الظلم في الأرض والغصوب التي نهى الله تعالى عنها ورسوله صلى الله عليه وسلم.

على أنه إذا صرف النظر عن استخدام العقار المنزوعة ملكيته في المصلحة المشار إليها تكون أولوية استرداده لمالكه الأصلي، أو لورثته بالتعويض العادل.

ص: 1404