المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حيا أو ميتافي الفقه الإسلاميإعدادفضيلة الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٤

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الرابع

- ‌كلمةمعالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلاميالأستاذ/ سيد شريف الدين بيرزاده

- ‌كلمةمعالي رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلاميالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌كلمةمعالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدوليالدكتور محمد الحبيب بن الخوجة

- ‌كلمةمعالي الأستاذ سيد شريف الدين بيرزاده

- ‌كلمةمعالي رئيس البنك الإسلامي للتنميةالدكتور/ أحمد محمد علي

- ‌كلمةمعالي الأمين العام بالنيابة لرابطة العالم الإسلاميالأستاذ/ أمين عقيل عطّاس

- ‌كلمةمعالي وزير الأوقاف بدولة الكويتالشيخ خالد أحمد الجسار

- ‌كلمةمعالي رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلاميالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌كلمةمعالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدوليالدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌كلمةالوفود المشاركةألقاها بالنيابة سعادة السفير الدكتور عمر جاه

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادمعالي الدكتور محمد علي البار

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًغرس الأعضاء في جسم الإنسانمشاكله الاجتماعية وقضاياه الفقهيةإعدادمعالي الدكتور محمد أيمن صافي

- ‌التشريح الجثماني والنقل والتعويض الإنسانيإعدادفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادفضيلة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي

- ‌‌‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًفي الفقه الإسلاميإعدادفضيلة الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًفي الفقه الإسلاميإعدادفضيلة الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادالدكتور عبد السلام داود العبّادي

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاًإعدادفضيلة الشيخ آدم عبد الله علي

- ‌انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حيّاً أو ميّتاًإعدادفضيلة الشيخ محمد عبد الرحمن

- ‌صرف الزكاة لصالح صندوقالتضامن الإسلاميإعدادسعادة سيدي محمد يوسف جيري

- ‌صرف الزكاة لصالح صندوقالتضامن الإسلاميإعدادفضيلة الشيخ تيجاني صابون محمد

- ‌صرف الزكاة لصالح صندوقالتضامن الإسلاميإعدادفضيلة الشيخ مولاي مصطفى العلوي

- ‌صرف الزكاة لصالح صندوقالتضامن الإسلاميإعدادسعادة الدكتور عبد الله إبراهيم

- ‌مذكرة تفسيرية بشأن صندوق التضامن الإسلامي ووقفيته

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ عبد الله البسام

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة أ. دكتور وهبه مصطفى الزحيلي

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ محمد عبد اللطيف آل سعد

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ هارون خليف جيلي

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ رجب بيوضي التميمي

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الشيخ محمد عبده عمر

- ‌زكاة الأسهم في الشركاتإعدادفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌المثامنة في العقار للمصلحة العامةإعدادالدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌انتزاع الملكية للمصلحة العامةإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌انتزاع الملكية للمنفعة العامةإعدادأ. د. يوسف محمود قاسم

- ‌نزع الملكية الخاصة للمنفعة العامةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌انتزاع الملك للمصلحة العامةإعدادالدكتور محمود شمام

- ‌الإسلاموانتزاع الملك للمصلحة العامةإعدادفضيلة الشيخ محمد الحاج ناصر

- ‌سندات المقارضةإعدادالصديق محمد الأمين الضرير

- ‌سندات المقارضةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌سندات المقارضةوسندات الاستثمارإعدادالدكتور حسن عبد الله الأمين

- ‌سندات المقارضةإعدادالقاضي محمد تقي عثماني

- ‌ضمان رأس المال أو الربحفي صكوك المضاربةأو سندات المقارضةإعدادالدكتور حسين حامد حسان

- ‌سندات المقارضةوسندات التنمية والاستثمارإعدادفضيلة الشيخ محمد المختار السلامي

- ‌سندات المقارنة وسندات الاستثمارإعدادفضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

- ‌تصوير حقيقة سندات المقارضة والفرق بينها وبينسندات التنمية وشهادات الاستثمار والفرق بينهاوبين السندات الربويةإعدادالدكتور سامي حسن حمود

- ‌سندات المقارضة والاستثمارإعدادفضيلة الدكتور علي أحمد السالوس

- ‌سندات المقارضةإعدادالدكتور عبد السلام داود العبادي

- ‌البيان الختامي وتوصياتلندوةسندات المقارضة وسندات الاستثمارالتي أقامهامجمع الفقه الإسلامي بجدة

- ‌بدل الخلوإعدادالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌ موضوع (بدل الخلو)

- ‌بدل الخلوإعدادالدكتور محمد سليمان الأشقر

- ‌حكم الشريعة في بدل الخلو (السرقفلية)إعدادفضيلة الأستاذ إبراهيم فاضل الدبو

- ‌بدل الخُلُوِّفي الفقه الإسلاميإعدادفضيلة الشيخ محيي الدين قادي

- ‌بدل الخلو وتصحيحهإعدادفضيلة الشيخ حجة الإسلام محمد علي تسخيري

- ‌كيفية مكافحة المفاسد الأخلاقيةإعدادفضيلة الشيخ/ رجب بيوض التميمي

- ‌كيفية مكافحة المفاسد الأخلاقيةإعدادالشيخ هارون خليف جيلي

- ‌مجالات الوحدة الإسلاميةوسبل الاستفادة منهاإعدادالأستاذ مصطفى الفيلالي

- ‌مجالات الوحدة الإسلاميةوسبل الاستفادة منهاإعدادفضيلة الدكتور عمر سليمان الأشقر

- ‌مجالات الوحدة الإسلاميةوسبل الاستفادة منهاإعدادالحاج شيت محمد الثاني

- ‌الوحدة الإسلاميةوالتعامل الدوليإعدادفضيلة الشيخ/ محمد علي التسخيري

الفصل: ‌انتفاع الإنسان بأعضاءجسم إنسان آخر حيا أو ميتافي الفقه الإسلاميإعدادفضيلة الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي

‌‌

‌انتفاع الإنسان بأعضاء

جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً

في الفقه الإسلامي

إعداد

فضيلة الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي

أستاذ وعميد كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

تقوم العقيدة الإسلامية على كلمة جامعة هي (أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم .

أ: تبين الكلمة الأولى منها أن المعبود بحق ـ في عقيدة الإسلام ـ واحد لا يشاركه أحد، فهو واحد في ذاته، وصفاته وأفعاله، لا يماثله أحد، ولا يستحق العبودية أحد سواه، لأنها تضمنت نفياً وإثباتاً، أو قصراً وتخصيصاً، حيث تضمنت نفي الألوهية عن غيره، وتضمنت بالاستثناء بعد النفي إثبات الألوهية له، والألوهية هي استحقاقه العبادة وحده.

فعقيدة الإسلام تقوم على توحيد، أي إفراد المعبود بالعبادة مع اعتقاد وحدته ذاتاً وصفات وأفعالاً، فلا تقبل ذاته الانقسام بوجه من الوجوه، ولا تشبه ذاته الذوات، ولا صفاته الصفات، ولا يدخل أفعاله الاشتراك، أي أن كل ما في الكون كله ـ من إنسان أو حيوان أو طير أو نبات أو جماد أو غيرها ـ من خلق الله جل شأنه، ولا فضل لغيره فيه.

ب: والكلمة الثانية (وأشهد أن محمداً رسول الله) هي تعبير عن الإيمان بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي بنوعيه: الوحي المتلو وهو القرآن الكريم، والوحي غير المتلو، وهو السنة النبوية المطهرة وما احتوت عليه من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته.

والإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يؤدي إلى إيجاب العمل بشريعته واتباع هديه، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} . (59/4)

وقال جل شأنه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (80/ 4) .

وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ} [الآية 21 الأحزاب] أي قدوة حسنة يتبع فيها.

ص: 143

وينبثق عن هذه العقيدة قواعد مسلمة، وأسس ثابتة منها على ضوء ما تقرر في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

أ - أنه جل شأنه الخالق لكل ما في الكون دون سواه، قال تعالى:{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الآية 59 من سورة الفرقان 25] وقال تعالى: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الآية 64 من سورة النمل 27] .

ب - وأنه جل شأنه المالك لكل ما في الكون وحده دون سواه، لا شريك له فيه، وهو المتصرف فيه، بكل أنواع التصرف، إيجاداً وإعداماً، إحياء وإماتة، تغيراً وتبديلا، استقراراً وحركة، تحليلاً وتحريماً، منحا ومنعاً، تخسيراً وحجباً

ت - يقول الله تعالى في أول سورة الملك: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} . [الآية 1، 2 من سورة الملك] .

ويقول جل شأنه: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الآية 11 من سورة الإسراء] .

وإذا كانت عقيدة الإسلام تقرر أن المالك لكل ما في الكون كله ـ عاقلة وغير عاقلة، متحركة وثابتة، سائلة وجامدة ـ هو الله جل شأنه، فقد اقتضت حكمته جل شأنه أن يوجد من بين الكائنات خلقاً يميزه عن غيره من كافة الخلق، ويخصه بنعم لا تحصى ويحمله الأمانة، وينيط به تعمير الكون ويجعله خليفة في الأرض

ألا وهو الإنسان. فقد كرم الله جل شأنه الإنسان، قال تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} [الآية 70 من سورة الإسراء] وصانه وحفظ له ـ بما شرعه من أحكام ـ دينه ونفسه وعقله وعرضه وماله وكل مقومات حياته.

وحمله الأمانة، قال تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الآية 72 من سورة الأحزاب] والأمانة تعم جميع وظائف الدين، وهي الفرائض التي ائتمن الله عليها العباد، يقول ابن عباس رضي الله عنه: الأمانة الفرائض، عرضها الله على السماوات والأرض والجبال. إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيماً لدين الله عز وجل ألا يقوموا به، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها

ص: 144

وجعل الله الإنسان خليفة في الأرض، قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} . [الآيتان 30/ 31 من سورة البقرة](1) .

وأناط الخالق جل شأنه بالإنسان تعمير الأرض:

قال تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}

(الآية 61 من سورة هود)(2) .

وسخر الخالق جل شأنه للإنسان ما في الكون ليعترف بفضل الله تعالى: عبادة وينعم به انتاجاً وتعميراً وأمناً وسلاماً في حدود مقننة، وفي إطار مرسوم، مؤدياً فرائض الدين وملتزماً به أمراً ونهياً وسلوكاً وإرشاداً.

قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} . [الآية 20 من سورة لقمان) (3) . وقد أفاضت الآيات الكريمة في بيان ما سخره الله للإنسان ومنحه إياه وخصه به ومكنه من الانتفاع به في حدود الشرع، وفي إطاره المحكم.

(1) وتراجع الآيات: 26 من سورة ص، 14 من سورة يونس، 165 من سورة الأنعام.

(2)

وتراجع الآيات الآية 9 من سورة الروم، والآية 74 من سورة الأعراف.

(3)

وتراجع الآيات: الآية 2 من سورة الرعد، 32، 33 من سورة إبراهيم، 12، 14، 79 من سورة النحل 65 من سورة الحج، 61 من سورة العنكبوت، 29 من سورة لقمان، 13 من سورة فاطر، 5 من سورة الزمر، 13 من سورة الزخرف، 12، 13 من سورة الجاثية، 36، 37 من سورة الحج، 164 من سورة البقرة، 54 من سورة الأعراف.

ص: 145

وهذا التسخير الذي منحه الخالق جل شأنه للإنسان لكل ما في الأرض وما في السماء هو حق انتفاع أو حق منفعه، وليس حق ملك، حق منحه الخالق جل شأنه للإنسان، لكي يتمكن من تحقيق ما أناطه به من أغراض، وما حمله إياه من أهداف، وحق الانتفاع هذا هو اكتساب للمنافع فقط، وتمكن من استيفائها دون أن يكون للإنسان حقيقة الملك لهذه الأعيان، إذ المالك الحقيقي هو الله جل شأنه، ولا مالك سواه لكل ما في الكون من إنسان أو غيره ـ كما سبق أن وضحنا.

وهذا ما نطق به فقهاء المسلمين في كل موضع تحدثوا فيه عن ذلك:

يقول ابن عرفة: (الملك الحقيقي إنما هو لمالك الملوك، الخالق للذوات والصفات فلا مالك حقيقة إلا الله تعالى)(1) .

هذه الحقيقة انبثقت مما تقرر في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما نطقت به العقول السليمة التي تجد نفسها وهي في محيط هذا التنظيم الكوني البديع الصنع، المنظم المسيرة الدقيق، مقرة معترفة بأن خالقه ومسيره ومنظمة ومدبر شؤونه واحد، ولا شريك له في كل ذلك، له الملك وهو على كل شيء قدير ـ جل شأنه وتعالى ذكره، فحق الانتفاع يخول للإنسان أن ينال هذا الحق ويباشره ويحصله بنفسه، وليس له أن يملكه لغيره، لا بعوض ولا بغير عوض، فإذا استوفى هذا الحق نعم به، وإن لم يستوفه ضاع عليه.

(1) يقول الشاطبي: ج3 ص 110 (إن العلماء قالوا: إن الرقاب ـ وبالجملة الذوات لا يملكها إلا الله تعالى ـ وإنما المقصود في التملك شرعاً منافع الرقاب، لأن المنافع هي التي تعود على العباد بالمصالح، لا أنفس الذوات. وفي أنواء الفروق: ص 194 عند شرح الفرق 30 ج 1: ولأن القاعدة أن الأصل بقاء الأملاك على ملك أربابها، والنقل والانتقال على خلاف الأصل، فمتى شككنا في رتب الانتقال حملناه على أدنى المراتب استصحاباً للأصل في الملك السابق) .

ص: 146

وإذا كان للإنسان حق الانتفاع بما منحه الله إياه، فإن هذا الانتفاع الممنوح قد وضع له مانحه (جل شأنه) الإطار الذي يحقق الانتفاع به على الوجه الأكمل، في إطار أمن الجماعة ومصلحة كل فرد من أفرادها.

وهذا الإطار حدده وبين معالمه رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، رسولاً بعد رسول إلى أن ختم الله هذه الرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء مصدقاً لما بين يديه من الكتاب، ومهيمناً عليه، قال تعالى مخاطباً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الآية 48 من سورة المائدة] وقد جاءت هذه الرسالة كاملة تامة، قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [الآية 3 من سورة المائدة) .

ففرقت شريعة الإسلامي بين الحق والباطل، وأعطت كل ذي حق حقه، ومن أجل مصالح الناس حرمت أشياء وأباحت أشياء، كما نوعت حق الانتفاع بتنوع الشيء الممنوح والمسخر، فمن المنتفع به ما يكون الانتفاع به باستهلاكه.. ومنه ما يكون باستعماله.. ومنه

ونظمت الحقوق في كل ذلك في حال الاختيار

وكذا في حال الضرورة

في تنسيق تام وتنظيم محكم يحقق الخير للبشرية جمعاء، ويضمن لها السعادة في الدارين.

وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد وضعت الضوابط لحدود الانتفاع بما خلق الله تعالى ومعرفة ما يحل ويحرم من التصرفات في كل ما منحنا الله جل شأنه إياه، فإن أول الأشياء الممنوحة لنا، والمسخرة لمصلحتنا، هذا الجسم الإنساني الذي يعايشنا ويصاحبنا منذ بدء وجودنا ـ لحظة لحظة ـ حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

ولقد أحاط المشرع الحكيم هذا الكائن المكرم بكل ما يحفظه من كل سوء، ويدرأ عنه كل الشرور، حتى يحقق الأهداف المنوطة به، ويحقق الحكمة من إيجاده وخلقه.

فشرع له ما يحفظ له دينه، ونفسه، وعقله، وعرضه، وماله، أي ما يحفظ عليه كل مقومات الحياة، وكل مقومات العطاء والتقدم، وكل مقومات المسيرة المؤمنة الآمنة المطمئنة حتى يرى نتيجة عمله {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الآية 7، 8 من سورة الزلزلة] .

والذي يعنينا إبرازه في هذا المبحث هو أن نذكر بعضاً من الآيات والأحاديث التي تضبط علاقتنا بالجسم الإنساني، سواء أكان جسم الإنسان نفسه، أو جسم غيره، ثم نبين بعد ذلك ما يصلح وما يحرم من الانتفاع به، وبالله التوفيق.

أستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي

ص: 147

المبحث الأول

حرمة دم الإنسان

بسم الله الرحمن الرحيم

قررت الشريعة الإسلامية عصمة دم الإنسان، وحرمته، ومنعت الاعتداء عليه بأي نوع من أنواع الاعتداء سواء كان هذا الإنسان مسلماً أو غير مسلم، كانت نفس الإنسان أو نفس غيره، بذلك نطق الكتاب الكريم والسنة النبوية، وآية ذلك:

أولاً ـ في حرمة قتل الغير:

من القرآن الكريم:

قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الآية 32 من سورة الإسراء] .

وقال جل شأنه: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [الآية 93 من سورة النساء] وقال جل شأنه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [الآية 92 من سورة النساء] .

وقال علا ذكره: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [الآية 32 من سورة المائدة] .

من السنة النبوية الشريفة:

- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وأن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث ـ كان مسترضعاً في بني سعد فقتله هذيل)) .

- جزء من حديث طويل ـ في صحيح مسلم ـ في حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

- وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) قيل: يا رسول الله، وما هي؟ قال:((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.

ص: 148

- وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)) رواه البخاري والحاكم.

- وروي عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق)) رواه ابن ماجة بإسناد حسن ورواه البيهقي (1) .

- كما ورد النهي عن قتل الذميين والمعاهدين:

- فبجانب دلالة الآيات القرآنية التي أوردناها آنفاً على قتل النفس، مطلقاً، مؤمنة أو غير مؤمنة، فقد صرحت السنة النبوية بحرمة قتل الذميين والمعاهدين:

- فقد روي عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً)) رواه البخاري وأحمد والنسائي وابن ماجة (2) .

- ومن هذا يتبين لنا روعة الشريعة الإسلامية وسمو تعاليمها، ورحابة آفاقها وتقديرها لذات الإنسان الذي نزلت الرسالات لهدايته وإرشاده إلى ما يصلح حاله ويدفع الأذى عنه، وأخذها بيده إلى سفينة النجاة، مع الحفاظ عليه وعدم المساس بدمه أو ماله أو عرضه إلا بالحق، حتى تتفتح براعمه في المجتمع إلى أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. صلى الله عليه وسلم.

- قصر القتل في الحروب على المحاربين

كما أرست السنة النبوية القواعد التي يجب تطبيقها في الحروب

سواء من حيث بيان من يجوز قتالهم ومن لا يجوز

وحدود القتال وضوابطه، وكيفيته، وبدايته ونهايته

ومن بين ما قررته في هذا السبيل:

- النهي عن قتل النساء والصبيان والشيوخ في الحروب:

فقد روي عن ابن عمر أنه قال: وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم و ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان)) .

وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً صغيراً ولا امرأة

)) رواه أبو داود

- النهي عن قتل الأجراء:

كما روي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عندما وجد امرأة مقتولة في غزوة: ((ما كانت هذه لتقاتل)) فقال لأحدهم: ((الحق خالداً فقل له: لا تقتلوا ذرية ولا عسيفاً)) رواه أحمد وأبو داود (والعسيف هو الأجير) .

(1) والأحاديث كثيرة في هذا الشأن ـ أوردتها في كتابي (الجنايات في الفقه الإسلامي) : 46 ـ 52

(2)

ولقد وردت عدة أحاديث بهذا المعنى ويمكن الرجوع إليها في الترغيب والترهيب للمنذري: ج3 ص 298

ص: 149

- النهي عن قتل الرهبان:

- كما روي عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال: ((اخرجوا باسم الله تعالى تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع)) رواه أحمد..

والنهي عن قتل كل أولئك هو احترام للنفس الإنسانية التي لا تقدم على الإضرار بغيرها أو التي لا يتأتى منها الإضرار، النفس الإنسانية التي تمشت مع الفطرة السليمة والطبيعة المستقيمة فلم تحارب الله ورسوله، ولم تؤازر المحاربين لله ولرسوله واكتفت بمسيرة حياتها في أمن

وهذا ما ينشده المشرع الكريم ويحرص عليه ويهيئ كل الظروف لإنمائه حتى يحس الناس بالأمن، وتزكو في عقولهم ومداركهم الرغبة في معرفة الحق جل شأنه، فيؤمنون به عن قناعة تامة ورؤية واضحة جلية

فيعم الخير رحابهم، وتزكو وتتفتح براعمه في كل مكان.

ومن الطبيعي، أن يعاقب الخارج على هذه الفطرة، والمقلق للمجتمع والمهدد للأمن والمحارب لله ولرسوله، والمعرض لمسيرة الشريعة التي أنزلها الله تعالى على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم خاتمة للرسالات السماوية، ومصدقة لما بين يديها من الشرائع السابقة. وعقاب هذا الناد المشارك في الحرب، أو المؤازر، أو المخطط لها هو من جنس ما أقدم عليه، فقد أقدم يبغي قتلاً للمؤمنين وصد الدعوة لله فارتدت نيته إليه، وتحقق قصده في نفسه هو، سواء كان رجلاً أو امرأة أو شيخاً أو أجيراً أو كاهناً

لأنه بخروجه محارباً أباح دمه وأهدر حرمته.

وتظهر عالمية الشريعة الإسلامية، وسماحتها، وسعة أفقها في هذا المجال وفي غيره بصورة واضحة حينما تراجع نصوص ما جاء عن الحضارات الأخرى ـ كاليونانية والرومانية، بل وحتى في كتب بعض الديانات

التي تجعل دم غير المؤمنين بها في كل الأحوال وفي كل الأزمان (1) هدراً، وتجعل أموالهم مباحة، وتجعل شريعتهم دائماً تؤول إلى ما يحقق له مصلحة ولو على حساب أرواح وأموال غير المنتمين إلى شريعتهم.

فالنفس الإنسانية مكرمة، والنفس الإنسانية معصومة، ومحقونة الدم، ولا تنال إلا بحق، والنفس الإنسانية يحرم الاعتداء عليها، أو الإضرار بها، إلا إذا أخلت بما وجب عليها، وخرجت عن إطار الشرع، وعاقت مسيرة الحياة.

(1) راجع كتاب العلاقات الدولية في الإسلام للأستاذ الدكتور/ حسن الشاذلي

ص: 150

ثانياً: حرمة قتل الإنسان أو الإضرار بها:

- جناية الإنسان على نفسه من أدق أنواع الجنايات وأعقدها تركيباً، وأعمقها دوافع، وأكثرها تعبيراً عن الظروف الاجتماعية التي تحيط بالجاني، وتضطره إلى أن يقدم على الجناية على أعز الكائنات عليه وأحب المخلوقات إليه، وأولاها ظفراً بحرصه ورعايته، وامتداداً لآماله

وقد كانت هذه الجناية وستظل مقياساً لما عليه المجتمع من دأب في رعاية أفراده، وحدب على حل مشكلاتهم، وتفاعل مع تطورات الأزمنة وتعاقب التطورات

، وتعبيراً عن الآفاق الصحيحة السليمة التي تظلل الدولة من جميع نواحي اختصاصاتها وأنشطتها، ثقافية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية

إذ سلامة كل ذلك يعمل بدافعية وجدية على سلامة المستوى الفكري للفرد، وإذا سلم هذا المستوى وصح كان الفرد راضياً عن نفسه وعن مجتمعه

وإذا رضي عن ذلك حرص على البقاء حرصاً لا يعادله حرص، ودأب على حماية نفسه دأباً لا يعادله دأب، وصمد للتيارات صموداً لا يعرف الشك ولا التردد ولا اليأس

والشريعة الإسلامية جاءت بالقواعد الأساسية، والمبادئ المستقرة الثابتة التي تدعم مسيرة الحياة جميعها، وتوطد أركانها، وترسي بين جوانبها معاني المحبة والعدالة والتسامح والرضا، وتعمل على حماية الإنسان وحماية حقوقه في إطار تكافل اجتماعي سليم، وتكافل اقتصادي هادف وحماية للمقدسات والحقوق ورعاية للمصالح جميعاً، ضرورية كانت أو حاجية أو تحسينية، كانت تخص الفرد أو الأسرة أو الجماعة أو الدولة، كانت تخص العقلاء أو ما خلق الله من أجل العقلاء من كائنات حية، أو جمادات أو نباتات

ص: 151

والمتتبع للنصوص الواردة في الكتاب والسنة يتضح له منها هذه الرعاية، ويتبين له أن صلة الإنسان بجسمه ليست صلة مالك يتصرف في ملكه كيفما يشاء وبما يشاء، ولا تسلط يخضع المسلط عليه لرغباته دون حساب ودون رقيب..، ولكنها صلة كصلة المودع بالوديعة التي وضعت تحت يده، فهو أمين عليها، ومطالب بأن يحوطها بكل مقومات الحفظ والصيانة، وبكل ما يدرأ عنها الأضرار حتى ترد إلى صاحبها، وصلة كصلة المنتفع بما وهب له الانتفاع به، فيجب أن يباشر انتفاعه به على الوجه الذي رسمه له مالكه، وعلى المنهج الذي ارتضاه له، وفي الحدود التي ارتضاها وشرعها، فإذا جاوز الحد حق عليه الجزاء.

وقد سبق أن بينا أن المالك لكل ما في الكون من إنسان وغيره هو الله سبحانه وتعالى.

وعلى ضوء هذا حرم الله تعالى تعريض الإنسان نفسه للهلاك، وعاقب عليه أشد العقاب، وفي تقرير ذلك يقول الله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) ويقول جل شأنه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} . (2)

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا الإنسان بنيان الله، ملعون من هدم بنيانه)) . ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلدا فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)) رواه البخاري ومسلم.

وروي عن جندب البجلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كان ممن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكيناً، فجز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة)) أخرجه البخاري ومسلم.

(1) الآية 195 من سورة البقرة

(2)

الآية: 29 من سورة النساء

ص: 152

ولم تكتف الشريعة الإسلامية بتقرير هذا المبدأ العام مع وضوحه ودلالته بل زادت ذلك بالنص على منع كل ما يضر الإنسان، ومن ذلك:

1-

النهي عن أن يرهق الإنسان نفسه بالأعمال ولو كانت عبادة.

وحسبنا في تقرير هذا المبدأ ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أني أسرد الصوم، وأصلي الليل، فإما أرسل إليَّ، وإما لقيته، فقال:((ألم أخبر أنك تصوم ولا تفطر، وتصلي الليل؟ فلا تفعل، فإن لعينك حظًّا، ولنفسك حظا ولأهلك حظا، فصم وأفطر، وصل ونم، وصم من كل عشرة أيام يوماً، ولك أجر تسعة)) قال: إني أجدني أقوى من ذلك يا نبي الله. فقال: ((فصم صيام داود عليه السلام) قال: وكيف كان داود يصوم يا نبي الله؟ قال: ((كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يفر إذا لاقى)) قال: من لي بهذه يا نبي الله؟ قال عطاء: فلا أدري كيف ذكر صيام الأبد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((لا صام من صام الأبد، لا صام من صام الأبد)) رواه مسلم (1) .

وما روي عن أنس أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال بعضهم: لا أتزوج. وقال بعضهم: أصلي ولا أنام. وقال بعضهم: أصوم ولا أفطر. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) . متفق عليه.

2-

النهي عن التقتير والبخل: وأشد أنواعه أن يقتر الإنسان على نفسه ويبخل عليها بما أنعم الله عليه

ومن يفعل ذلك يستحق أشد العقاب.

يقول الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (2) ويقول جل شأنه: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية (3)

(1) صحيح مسلم

(2)

الآيات: 8، 9، 10 الليل.

(3)

الآية 180 من سورة آل عمران، واقرأ الآيتين 34، 35 من سورة التوبة

ص: 153

وينظم الرسول صلى الله عليه وسلم أوجه إنفاق الإنسان من ماله (فيما رواه جابر بن عبد الله) فيقول: ((ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا)) . يقول: ((فبين يديك وعن يمينك وعن شمائلك)) . رواه مسلم.

3-

النهي عن أن يحجب الإنسان عقله ويعطل فكره عن العمل بشرب المسكرات، فحرم عليه المسكرات، فقال صلى الله عليه وسلم:((كل مسكر خمر وكل خمر حرام)) . وعاقب من يسكر اعتداء فقال عليه الصلاة والسلام: ((من شرب الخمر فاجلدوه)) فإذا كان هذا هو موقف الشريعة ممن يعطل جزءاً عن العمل، وهو تعطيل مؤقت فإن موقفها ممن يفعل مثل ذلك، أو أكثر من ذلك، يقاس عليه، في التحريك، وفي العقاب، مع شدة فيه حين يكون الجرم أكبر. (1)

(1) ورعاية الشريعة الإسلامية لجسم الإنسان ـ بجانب رعاية روحه ـ رعاية وردت تفصيلاً في الكتاب والسنة، فقد بينت الشريعة ما يحل وما يحرم من الأكل والشرب والزينة، راجع الآيتين 31، 32 من سورة الأعراف، والآيات 3، 4، 5 من سورة المائدة، وراجع في كتب الفقه باب الأطعمة والأشربة واللباس.

ص: 154

المبحث الثاني

حكم التداوي

حكم التداوي بالمحرمات

حكم التداوي بالجراحات

حكم التداوي في الفقه الإسلامي

التداوي من الأمراض أمر مطلوب شرعاً، كما نص عليه المحققون من علماء الشريعة استنباطاً من نصوص الكتاب والسنة، ولما كان التداوي تارة يكون بتناول شيء مباح، وتارة يكون بتناول شيء قد حرم الله تناوله

وتارة يكون بالجراحة، وتارة يكون بالكي

فإن الفقهاء قد بينوا حكم الشرع في كل ذلك، ونعرض فيما يلي ما يكشف لنا عن هذا الحكم، متوخين عرض نصوص الكتاب فالسنة، ثم آراء العلماء ثم الترجيع في مواطن الاختلاف.

أ: النصوص من الكتاب الكريم:

أرست بعض الآيات الكريمة القواعد التي تحفظ على النفس البشرية حياتها، والتي تنهى عن تعريضها لأي هلاك، والتي توجب على الإنسان الأخذ بكل الأسباب التي تحقق للنفس البشرية صحتها.

ومن ذلك:

قال تعالى في النهي عن قتل النفس: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] وقال تعالى في النهي عن تعريضها للهلاك: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] . وفي اتخاذ الأسباب للوصول إلى حال القوة والصحة نورد قصتين:

ففي قصة أيوب عليه السلام لما أصابه السقم وأعياه المرض فنادى ربه: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} فأمره الله تعالى بما كان سبباً في شفائه، وهو القادر على أن يشفيه دون سبب.

قال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ} (1){وعذاب اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب} [الآيتان 41، 42 من سورة ص] .

فقد أمره جل شأنه بالركض ـ وهو الدفع بالرجل ـ فركض فنبعت عين ماء فاغتسل به، فذهب الداء من ظاهره، ثم شرب منه فذهب الداء من باطنه، وعاد أيوب عليه السلام سليماً معافى من كل داء.

(1) النصب: الشر والبلاء، وقد قيل في معنى {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} أي ما يلحقه من وسوسته لا غير، والله أعلم، ذكره النحاس. وقيل: النصب ما أصابه في بدنه، والعذاب ما أصابه في ماله، وفيه بعد. القرطبي: 15/ 208.

ص: 155

ومما ذكر في كتاب الله تعالى نأخذ أن اتخاذ الأسباب للوصول إلى النتائج المرجوة أمر قرره الشرع، ومنهج مشروع ارتضاه لنا الخالق جل شأنه

فقد تحققت النتيجة المرجوة هنا ـ وهي شفاء أيوب عليه السلام إثر أمر الله تعالى له بأن يركض برجله، فما خرج نتيجة الركض من الماء فعليه أن يغتسل منه، وعليه أن يشرب، فكان الشفاء ظاهراً وباطناً إثر ذلك، تلك إشارة كريمة من المشرع الكريم لربط الأسباب بالمسببات، وترتب المسببات على أسبابها بإذنه تعالى، وهو القادر جل شأنه أن يقول:(كن فيكون) دون ركض أو شرب، ولكنها حكمة عالية، وإشارة حكيمة من قادر حكيم لخلقه، كي يبحثوا ويتخذوا من الأسباب ما يوصل إلى النتائج بإذنه تعالى وتوفيقه.

وفي قصة يونس عليه السلام:

فقد قال تعالى في شأن يونس عليه السلام حينما التقمه الحوت، وهو مليم، ثم نبذه بالعراء وهو سقيم:

{فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} [الآيتان 145، 146 من سورة الصافات] .

وورد فيما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه (1) قال: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} قال: كهيئة الفرخ الممعوط ليس عليه ريش، قال: وأنبت عليه شجرة من يقطين، فنبتت، فكان يستظل بها ويصيب منها....

وقد روي عن أبي هريرة أن اليقطينة هي (شجرة الدباء) وقيل: هي (شجرة التين) وقيل: شجرة الموز تغطى بأوراقها، واستظل بأغصانها، وأفطر على ثمارها، والأكثر على أنها شجرة اليقطين، واليقطين ما لا ساق له كشجر القرع والبطيخ والحنظل والدباء.... وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحب القرع ويقول:((إنها شجرة أخي يونس)) (2) .

(1) القرطبي: 15/ 130

(2)

القرطبي: 15/ 130

ص: 156

ومن هذه أيضاً نأخذ أن الله سبحانه وتعالى أراد أن ينقل يونس عليه السلام من حالة الضعف إلى حالة القوة بأسباب عقلية طبيعية، ولم يشأ جل شأنه أن يقول له:(كن قوياً فيكون) إشارة لنا وبياناً لما يجب علينا من اتخاذ الأسباب وانتظار النتائج من الخالق جل شأنه.

ب: النصوص من السنة النبوية المطهرة: في إباحة التداوي.

روي عن أسامة بن شريك أنه قال: جاء أعرابي فقال: يا رسول الله، أنتداوى؟ قال:((نعم، فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله)) رواه أحمد. وفي لفظ آخر: قالت الأعراب: يا رسول الله، ألا نتداوى؟ قال:((نعم، عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو دواء، إلا داء واحداً)) قالوا: يا رسول الله، وما هو؟ قال:((الهرم.)) رواه ابن ماجة وأبو داود والترمذي وصححه ـ وفي لفظ: ((إلا السام وهو الموت)) .

وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله تعالى)) رواه أحمد ومسلم.

وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من عمله، وجهله من جهله)) رواه أحمد.

وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء)) رواه أحمد والبخاري وابن ماجة.

وعن أبي خزامة قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال:((هي من قدر الله)) رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن ولا يعرف لأبي خزامة غير هذا الحديث.

ص: 157

ويعلق الشوكاني في نيل الأوطار على هذه الأحاديث بقوله: (وفي أحاديث الباب كلها إثبات الأسباب، وأن ذلك لا ينافي التوكل على الله لمن اعتقد أنها بإذن الله، وبتقديره، وأنها لا تنجح بذواتها، بل بما قدره الله فيها، وأن الدواء قد ينقلب داء إذا قدر الله ذلك، وإليه الإشارة في حديث جابر، حيث قال: ((بإذن الله تعالى)) فمدار ذلك كله على تقدير الله وإرادته، والتداوي لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالأكل والشرب، وكذلك تجنب المهلكات والدعاء بالعافية ودفع المضار وغير ذلك.

وفي قوله: ((جهله من جهله)) ـ في حديث أسامة المتقدم ـ فيه دليل على أنه لا بأس بالتداوي لمن كان به داء قد اعترف الأطباء بأنه لا دواء له، وأقروا بالعجز عنه (1) .

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((هي من قدر الله)) ـ في حديث أبي خزامة المتقدم ـ أي لا مخالفة بينهما، لأن الله هو الذي خلق تلك الأسباب وجعل لها خاصية في الشفاء) .

ويقول الشوكاني في الرد على من قال بالتوكل على الله في دفع الداء وعدم التداوي، قال بعد أن أورد آراء العلماء في فهم الحديث الذي روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب، هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون)) ..

قال: (والحق أن من وثق بالله وأيقن أن قضاءه عليه ماض لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب اتباعاً لسنته، وسنة رسوله، فقد ظاهر صلى الله عليه وسلم بين درعين، وليس على رأسه المغفر، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجر هو، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوته، ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء، وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك، وقال للذي سأله: أيعقل ناقته أو يتوكل: ((اعقلها وتوكل)) . فأشار إلى أن الاحتراز لا يمنع التوكل) .

(1) نيل الأوطار: 8/ 201

ص: 158

حكم التداوي بالمحرمات

ولما كانت دماء الناس وأموالهم وأعراضهم حراماً عليهم بنص الحديث الشريف ((:إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)) .

وقوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه)) .

فإن التداوي بنقل عضو من إنسان حي أو ميت إلى آخر هو تداو بمحرم

لذلك نورد فيما يلي ما جاء من الأحاديث في حكم التداوي بالمحرمات.

فقد روي عن وائل بن حجر الحضرمي أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر، فنهاه عنها، فقال: إنما أصنعها للدواء، قال:((إنه ليس بدواء، ولكنه داء)) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه.

وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تتداووا بحرام)) رواه أبو داود (1) .

وقال ابن مسعود في المسكر: (إن الله لم يجعل شفاءكم فيها حرام عليكم) ذكره البخاري.

وعن أبي هريرة قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث ـ يعني السم)) رواه أحمد ومسلم وابن ماجة والترمذي.

وقال الزهري في أبوال الإبل: (قد كان المسلمون يتداوون بها فلا يرون بها بأساً) رواه البخاري.

(1) حديث أبي الدرداء في إسناده إسماعيل بن عياش، قال المنذري: وفيه مقال، ومن المعلوم أنه إذا حدث عن الشاميين فهو ثقة، وهو هنا يحدث عن ثعلبة بن مسلم الخثعمي وهو شامي ـ ذكره ابن حبان في الثقات عن أبي عمران الأنصاري مولى أبي الدرداء وقائدها وهو أيضاً شامي (نيل الأوطار: 8/ 204) .

ص: 159

ثم أورد الشوكاني آراء العلماء في جواز التداوي بالمحرمات فقال: قوله صلى الله عليه وسلم عن الخمر: ((إنه ليس بدواء، ولكنه داء)) فيه التصريح بأن الخمر ليست بدواء، فيحرم التداوي بها كما يحرم شربها، وكذلك سائر الأمور النجسة أو المحرمة، وإليه ذهب الجمهور (جمهور الفقهاء) . وقوله صلى الله عليه وسلم:((ولا تتداووا بحرام)) أي: لا يجوز التداوي بما حرمه الله من النجاسات وغيرها مما حرمه الله، ولو لم يكن نجساً.

قال ابن رسلان في شرح السنن: والصحيح من مذهبنا ـ يعني الشافعية ـ جواز التداوي بجميع النجاسات، سوى المسكر، لحديث العرنيين في الصحيحين، حيث ((أمرهم صلى الله عليه وسلم بالشرب من أبوال الإبل للتداوي)) .

ثم قال: وحديث الباب محمول على عدم الحاجة بأن يكون هناك دواء غيره يغني عنه، ويقوم مقامه من الطاهرات.

قال البيهقي: هذان الحديثان (حديث وائل، وحديث أبي الدرداء) إن صحا محمولان على النهي عن التداوي بالمسكر والتداوي بالحرام من غير ضرورة ليجمع بينهما وبين حديث العرنيين) . انتهى.

ثم يقول الشوكاني معلقاً: (ولا يخفى ما في هذا الجمع من التعسف، فإن أبوال الإبل الخصم يمنع اتصافها بكونها حراماً أو نجساً، وعلى فرض التسليم فالواجب الجمع بين العام، وهو تحريم التداوي بالحرام، وبين الخاص، وهو الإذن بالتداوي بأبوال الإبل: بأن يقال: يحرم التداوي بكل حرام إلا الإبل، هذا هو القانون الأصولي) الترجيح ولكننا يمكن أن نرد على الشوكاني قائلين: إما أن يقاس على الخمر ـ الوارد بشأنها التحريم ـ كل المحرمات والنجاسات فيكون بالتداوي بها حراماً أو أن تخص الخمر بالحرمة ـ لمخاطرها، وأولها الخطر من إدمانها بعكس غيرها من المحرمات ـ ويبقى التداوي بغيرها حلالا.

وأيضاً حديث أبوال الإبل: إما أن يقاس على أبوال الإبل كل المحرمات، فيكون التداوي بها حلالا، أو أن تخص أبوال الإبل بهذا الحكم ويبقى التداوي بغيرها حراماً بناء على الحديثين الواردين بشأن الخمر.

ص: 160

وإزاء ذلك وإعمالاً للأحاديث جميعاً، وعلى ضوء سبر علة التحريم في كل هذه المحرمات، وانطلاقاً من مبدأ انفراد الخمر بخواص تخالف غيرها من المحرمات أرى أن رأي الشافعية هو الرأي الراجح، وهو جواز التداوي بجمع النجاسات ـ سوى المسكر ـ وذلك عند عدم وجود دواء غيره يغني عنه، ويقوم مقامه من الطاهرات، فإذا لم يوجد غير المسكر دواء جاز التداوي به للضرورة، إنقاذاً للنفس البشرية من الهلاك

(1){فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [الآية 173 من البقرة] .

وتطبيقاً لذلك يجوز تداوي النفس البشرية بما أحل الله تناوله والتداوي به، وكما يجوز تداويها بالمحرم إذا تعين علاجاً لها على يد طبيب مسلم حاذق.

جاء في العناية للبابرتي هامش تكملة فتح القدير ج8 ص 134 قوله: (ولا بأس بالحقنة يريد به التداوي إلا أنه لا ينبغي أن يستعمل المحرم كالخمر ونحوها؛ لأن الاستشفاء بالمحرم حرام، قيل: إذا لم يعلم أن فيه شفاء، فإن علم أن فيه شفاء وليس له دواء آخر غيره يجوز له الاستشفاء به، ومعنى قول ابن مسعود رضي الله عنه: (إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم) يحتمل أن عبد الله قال ذلك في داء عرف له دواء غير محرم؛ لأنه يستغنى بالحلال عن الحرام، ويجوز أن يقال: تنكشف الحرمة عند الحاجة، فلا يكون الشفاء بالحرام، وإنما يكون بالحلال) .

ومثله في (رد المحتار لابن عابدين ج4 ص224 في مطلب في التداوي بالمحرم فقال: (إن صاحب الخانبة والنهابة اختارا جواز بيع الحيات إن انتفع بها في الأدوية، إن علم أن فيه شفاء ولم يجد دواء غيره. قال في النهاية وفي التهذيب يجوز للعليل شرب البول والدم والميتة للتداوي إذا أخبره طبيب مسلم أن فيه شفاء ولم يجد من المباح ما يقوم مقامه، وإن قال الطبيب: يتعجل شفاؤك به فيه وجهان، كذا ذكره الإمام التمرتاشي، وكذا في الذخيرة، وما قيل: إن الاستشفاء بالحرام حرام غير مجرى على إطلاقه، وأن الاستشفاء بالحرام إنما لا يجوز إذا لم يعلم أن فيه شفاء، أما إذا علم وليس له دواء غيره يجوز. ومعنى قول ابن مسعود رضي الله عنه: لم يجعل شفاءكم فيما حرام عليكم (يحتمل أن يكون قال ذلك في داء عرف له دواء غير محرم، لأنه حينئذ يستغنى بالحلال عن الحرام، ويجوز أن يقال: تنكشف الحرمة عند الحاجة فلا يكون الشفاء بالحرام وإنما يكون بالحلال)(2)

(1) ويراجع سبل السالم: 4/ 52 في تحريم التداوي بالخمر لما يتولد عن شربها من أدواء كثيرة

(2)

ويراجع رد المحتار: 5/ 283 في (فصل في البيع) .

ص: 161

ويؤكد دور الطبيب المسلم في وصف الشيء المحرم دواء ما جاء في رد المحتار جـ 5 ص 383 (وفي التهذيب يجوز للعليل شرب البول والدم والميتة للتداوي إذا أخبره طبيب مسلم أن شفاءه فيه، ولم يجد من المباح ما يقوم مقامه، وإن قال الطبيب: يتعجل شفاؤك به، فيه وجهان، وهل يجوز شرب القليل من الخمر للتداوي فيه وجهان، كذا ذكره التمرتاشي.

قال في الدر المنتقى بعد نقله ما في النهاية (من أنه لا يجوز التداوي إلا بطاهر) وأقره في المنح وغيرها، وقدمنا في الطهارة والرضاع أن المذهب خلافه.

أي أنه يجوز للعليل (عند الحنفية) التداوي بالطاهر، وكذا بالنجس إذا أخبره طبيب مسلم أن شفاءه فيه، ولم يجد من المباح ما يقوم مقامه كما ذكرنا آنفاً.

حكم التداوي بالجرح أو الكي

ولما كان نقل الأعضاء يحتاج إلى جراحة فمن المناسب أن نعرض لبيان حكم الشرع فيما كان التداوي فيه بطريق الجراحة.

فقد وردت في ذلك عدة أحاديث منها:

ما روي عن جابر قال: ((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بن كعب طبيباً، فقطع منه عرقاً، ثم كواه)) رواه أحمد ومسلم.

وعن جابر أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم ((كوى سعد بن معاذ في أكحله (1) مرتين)) رواه ابن ماجه ومسلم بمعناه.

وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم ((كوى سعد بن زرارة من الشوكة)) (2) رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.

وروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنهى أمتي عن الكي)) رواه أحمد والبخاري وابن ماجه (3) .

(1) الأكحل عرق في اليد، يفصد. مختار الصحاح

(2)

الشوكة: مرض معروف قال في النهاية: هي حمرة تعلو الوجه والجسد

(3)

وفي نيل الأوطار أحاديث أخرى 8/ 205 في هذا المعنى. وعن المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه. وعن عمران بن حصين أن رسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الكي فاكتوينا فما أفلحنا، ولا نجحنا رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي وقال: فما أفلحنا ولا أنجحنا.

ص: 162

أما التداوي بالجراحة.

فقد أورد الشوكاني آراء العلماء في هذا الموضوع عند شرحه للحديث الأول فقال: (استدل بذلك الحديث)(فقطع منه عرقاً) على أن الطبيب يداوي بما ترجح عنده، قال ابن رسلان: وقد اتفق الأطباء على أنه متى أمكن التداوي بالأخف لا ينتقل إلى ما فوقه فمتى أمكن التداوي بالغذاء لا ينتقل إلى الدواء، ومتى أمكن بالبسيط لا يعدل إلى المركب، ومتى أمكن بالدواء لا يعدل إلى الحجامة، ومتى أمكن بالحجامة لا يعدل إلى قطع العرق.

وقد روى ابن عدي في الكامل من حديث عبد الله بن جواد ((قطع العروق مسقمة)) كما في الترمذي وابن ماجة ((ترك العشاء مهرمة)) .

وإنما كواه بعد القطع لينقطع الدم الخارج من العرق المقطوع (1)

ومن ذلك يتبين لنا أن العلاج بالجراحة هو آخر أنواع العلاج، وهو جائز شرعاً أخذاً من هذه الأحاديث.

(1) نيل الأوطار: 8/ 205

ص: 163

وأما التداوي بالكي (1) .

فقد ((ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاذ)) ، وورد النهي عن الكي ـ كما ورد في الأحاديث المتقدمة، ولذلك قال العلماء: إنه قد جاء النهي عن الكي ـ فحرم الكي ـ وجاء الرخصة فيه بحديث سعد بن معاذ ـ فحرمته عزيمة، وجوازه رخصة، وذلك حيث لا يقدر الإنسان أن يداوي العلة بدواء آخر.

يقول الشوكاني: (وقد جاء النهي عن الكي، وجاءت الرخصة فيه، والرخصة لسعد لبيان جوازه حيث لا يقدر الرجل أن يداوي العلة بدواء آخر، وإنما ورد النهي حيث يقدر الرجل على أن يداوي العلة بدواء آخر، لأن الكي فيه تعذيب بالنار، ولا يجوز أن يعذب بالنار إلا رب النار، وهو الله تعالى، ولأن الكي يبقى منه أثر فاحش.. (2) وهذا ما نرجحه.

إلا أن هذا النوع من العلاج لا يتصل بموضوعنا، ولذلك نؤثر أن ننتقل إلى ما يتصل بموضوع نقل الأعضاء من إنسان لآخر، بعد أن انتهينا إلى قاعدة شرعية.

(وهو جواز التداوي عن طريق الجراحة إذا دعت الضرورة أو الحاجة إلى ذلك) .

(1) وهو أن يحمى حديد ويوضع على عضو معلوم ليحرق ويحبس دمه ولا يخرج أو لينقطع العرق الذي خرج منه الدم.

(2)

نيل الأوطار: 8/ 204 وما بعدها

ص: 164

• المبحث الثالث

• الضرورات تبيح المحظورات

• حقيقة الضرورة وآثارها

• أنواع المحرمات

• حكم الانتفاع بمال الغير بغير إذنه.

• حكم الانتفاع بالميتة.

الضرورات تبيح المحظورات

هذه قاعدة شرعية أخذت من قوله تعالى عقب ذكر المحرمات في سورة المائدة الآية 3: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

ومن قوله تعالى أيضاً من سورة البقرة الآية 193: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .

ومن قوله تعالى جل شأنه أيضا في سورة الأنعام الآية 145: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .

ومن قوله أيضاً جل شأنه في النحل: 115 {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .

فالمضطر أبيح له في حال الضرورات أن ينال من المحرم بقدر ما يدفع عنه الضرورة غير باغ في أكله (أو استعماله) فوق حاجته، ولا عاد بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة ويأكلها (أو يستعملها) قاله قتادة والحسن والربيع وابن زيد وعكرمة.

وقال السدي: غير باغ في أكلها شهوة وتلذذاً، ولا عاد باستيفاء الأكل إلى حد الشبع.

(ويرى الجمهور من الفقهاء والعلماء أن معنى قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ} هو من صيره الدم والغرث ـ وهو الجوع ـ إلى ذلك (1) أي إلى النيل من هذه المحرمات

(وقيل: معناه أكره وغلب على أكل هذه المحرمات) قال مجاهد: يعني أكره عليه كالرجل يأخذه العدو فيكرهونه على لحم الخنزير وغيره من معصية الله تعالى. وعقب القرطبي على هذا الرأي بقوله: (إلا أن الإكراه يبيح ذلك له إلى آخر (حالة) الإكراه.

أي أنه يريد أن يقول: إن الاضطرار غير الإكراه، فالإكراه له حكم، والاضطرار له حكم، فلا يفسر أحدهما بالآخر. فالمكره يباح له الأكل من المحرم الذي أكره عليه إلى أن تزول حالة الإكراه، أما المضطر فإنه يجب عليه أن يأكل من هذه المحرمات لدفع الهلاك عن نفسه، ولكن غير باغ ولا عاد، غير متجاوز حد الضرورة.

(1) القرطبي ج2 ص 225 ـ في مختار الصحاح: (الغرثان) بوزن العطشان، الجائع، والمرأة غرثى، وبابه طرب.

ص: 165

تعريف الضرورة:

عرف بعض العلماء الضرورة (بأن يبلغ الإنسان حداً إن لم يتناول الممنوع هلك، أو قارب الهلاك (1))

وعرفها الحنفية بأنها: (خوف الضرر أو الهلاك على النفس أو بعض الأعضاء بترك الأكل)(2) .

وعرفها المالكية بأنها: (الخوف على النفس من الهلاك علماً أو ظناً)(3) .

وعرفها الحنابلة بأنها (خوف الإنسان التلف إن لم يأكل المحرم غير السم)(4) .

فالضرورة أن يتعرض الإنسان لظروف تصيره إلى حد يعلم ـ أو يظن ـ أو يخاف أنه إن لم يتناول المحرم ـ غير السم ـ هلك، أو قارب الهلاك ـ هلك جميعه، أو هلك بعضه

أو قارب الهلاك أي منهما.

والمعيار في تقدير الوقوع في الضرورة هو معيار شخصي، كما هو واضح من تعبير الفقهاء بـ (العلم) أو (الظن) وكذا تعبيرهم (بالخوف) إذ خوفه على نفسه في هذه الحالة إنما يكون إثر علمه بأنه إن لم يتناول هذا المحرم هلك كلا أو بعضاً أو إثر ظنه هذه النتيجة، بأن كان احتمال الهلاك راجحاً عن احتمال النجاة عنده.

فمن بدأ التعريف بالخوف.. بدأه بأثر العلم أو الظن بوقوع الهلاك، والخوف حالة نفسية تعتري الإنسان إثر علمه بذلك فتحدث له آثاراً عضوية من اصفرار وجه وارتعاش أعضاء، وأرق وما إلى ذلك وهي تختلف من شخص إلى شخص طبقاً لما يحيط به من ظروف، وما يدركه من أبعاد للآثار الناجمة عن ابتعاده عن تناول المحرم وما يتميز به من معارف لآثار هذا الابتعاد وهذا الامتناع

وإذا توافر ذلك للإنسان كان الإنسان في هذه الحالة مضطراً، وآثار وقوعه في هذه الحالة نبينها فيما يلي:

أثر الضرورة: لا خلاف بين أهل العلم في أن الضرورة

تبيح تناول المحرم لأن ذلك ثابت بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين.

قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [الآية 173 من سورة البقرة وتقدمت] إلا أن المحرمات معدودة ومتنوعة، ومنها ما هو مال، ومنها ما ليس بمال.. ولذلك يحسن أن نبين موقف المضطر من هذه الأنواع.

(1) الأشباه للسيوطي ص 85 والحاجة: كالجائع الذي لو لم يجد ما يأكله لم يهلك، غير أنه يكون في جهد ومشقة، وهذا لا يبيح الحرام ويبيح الفطر في الصوم، والمنشور من القواعد للزركشي الشافعي ج2 ص 219

(2)

أحكام القرآن للجصاص: ج1 ص 159

(3)

الشرح الكبير: ج2 ص 103

(4)

الروض المربع: ج2 ص 356 ـ 357

ص: 166

أنواع المحرمات: والمحرمات أنواع:

النوع الأول: تناول مال الغير دون إذنه، فمال الغير محرم إلا بإذنه. قال صلى الله عليه وسلم:((كل مسلم على المسلم حرام دمه، وماله، وعرضه)) رواه مسلم في صحيحه (1776 مختصر) وقد قسم الفقهاء هذا المال إلى نوعين:

- (نوع لا يجب في أخذه حد السرقة وهو القطع) .

- ونوع يجب فيه.

فأما الأول: فكالتمر المعلق على الشجر، وحريسة الجبل (1)(وهي الشاة التي ليست في حرز، وإنما يحرسها الجبل) ونحو ذلك مما لا قطع فيه، فإن المضطر يلزمه أن يتناول من هذه الأموال أولاً إذا وجدت ووجد معها النوع الثاني (وهو ما فيه قطع) وهذا مما لا اختلاف فيه بين العلماء لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر إذ رأينا إبلا مصرورة (2) بعضاة الشجر فثبنا إليها، فنادانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعنا إليه، فقال:((إن هذه الإبل لأهل بيت من المسلمين هو قوتهم ويمنهم (3) بعد الله، أيسركم لو رجعتم إلى مزاودكم فوجدتم ما فيها قد ذهب به، أترون ذلك عدلاً؟)) قالوا: لا، فقال:((إن هذه كذلك)) قلنا: أفرأيت إن احتجنا إلى الطعام والشراب؟ فقال: ((كل ولا تحمل، واشرب ولا تحمل)) أخرجه ابن ماجة رحمه الله، وقال: هذا الأصل عندي.

وذكره ابن المنذر قال: قلنا: يا رسول الله، ما يحل لأحدنا من مال أخيه إذا اضطر إليه؟

قال: ((يأكل ولا يحمل، ويشرب ولا يحمل)) . قال ابن المنذر: وكل مختلف فيه بعد ذلك فمردود إلى تحريم الله الأموال.

(1) الحريسة: الشاة تسرق ليلاً، وفي الحديث: لا قطع في حريسة الجبل أي ليس فيما يحرس بالجبل قطع؛ لأنه ليس بحرز

(2)

مصرورة: مربوطة الضروع

(3)

ويمنهم ـ كذا في سنن ابن ماجة ـ أي بركتهم وخيرهم، وفي الأصول:(قيمهم) القرطبي ج2 ص 225.

ص: 167

وأما الثاني: وهو المال الذي يجب في أخذه عقوبة القطع فقد نقل القرطبي عن أبي عمر بأنه يجب أن يرد رمقه، وتنقذ حياته (أي المضطر) فقال: قال أبو عمر: (وجملة القول في ذلك أن المسلم إذا تعين عليه رد رمق مهجة المسلم وتوجه الفرض في ذلك، بأن لا يكون هناك غيره قضى عليه بترميق تلك المهجة الآدمية، وكان للممنوع منه ماله من ذلك محاربة من منعه ومقاتلته، وإن أتى ذلك على نفسه، وذلك عند أهل العلم إذا لم يكن هناك إلا واحد لا غير، فحينئذ يتعين عليه الفرض.

فإن كانوا كثيراً أو جماعة وعدداً كان ذلك عليهم فرضاً على الكفاية، والماء في ذلك وغيره مما يرد نفس المسلم ويمسكها سواء إلا أنهم اختلفوا في وجوب رد قيمة ذلك الشيء على الذي ردت به مهجته، ورمق به نفسه، فأوجبها موجبون، وأباها آخرون، وفي مذهبنا (المالكية) القولان جميعاً.

(ولا خلاف بين أهل العلم متأخريهم ومتقدميهم في وجوب رد مهجة المسلم عند خوف الذهاب والتلف بالشيء اليسير الذي لا مضرة فيه على صاحبه، وفي البلغة)(1) .

ومن هذا النص يتبين لنا أن المضطر إلى الأكل من مال الغير عليه أن يرد رمقه، وينفذ نفسه بالأكل من مال الغير، وعلى الغير أن يقدم ذلك له. وأن المضطر يجوز له أن يقاتل من لديه مال زائد عن حاجته يمتنع عن تقديمه له حتى ينقذ نفسه، إلا أنه لا يقاتله بسلاح لمكان حق الملكية الثابتة له على ماله.

- كما يقول الحنفية

وإن حق صاحب المال ينتقل بعد ذلك إلى قيمة ما أكله المضطر من ماله فيلزمه فيمته عند جمهور الفقهاء احتراماً لحق الملكية

(1) القرطبي ج2 ص 225 - 226 والبلغة ـ بضم وسكون اللام ـ ما يتبلغ به من العيش، وتبلغ بكذا أي اكتفى به.

ص: 168

وجاء في رد المحتار ج5 ص 331 (الأكل) للغذاء، والشرب للعطش ولو من حرام أو ميتة أو مال غيره، وإن ضمنه (فرض) يثاب عليه بحكم الحديث (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إن الله ليؤجر في كل شيء حتى اللقمة يرفعها العبد إلى فيه)) ولكن مقدار ما يدفع الإنسان الهلاك عن نفسه، فإن ترك الأكل والشرب حتى هلك فقد عصى، لأن فيه إلقاء النفس إلى التهلكة وأنه منهي عنه في محكم التنزيل بخلاف من امتنع عن التداوي حتى مات إذ لا يتيقن بأنه يشفيه كما في الملتقى وشرحه) وجاء في الاختيار ج3 ص 129:

(ومن اشتد جوعه حتى عجز عن طلب القوت ففرض على كل من علم به أن يطعمه أو يدل عليه من يطعمه؛ صوناً له عن الهلاك، فإن امتنعوا من ذلك حتى مات اشتركوا في الإثم، قال عليه الصلاة والسلام: (ما آمن بالله من بات شبعان، وجاره إلى جنبه طاو) . وقال عليه الصلاة والسلام: ((أيما رجل مات ضياعاً بين أقوام أغنياء فقد برئت منهم ذمة الله، وذمة رسوله)) . وإن أطعمه واحد سقط عن الباقين.

وكذا إذا رأى لقيطاً أشرف على الهلاك، أو أعمى كاد أن يتردى في البئر، وصار هذا كإنجاء الغريق) .

النوع الثاني: تناول الميتة والانتفاع بها:

لقد نص القرآن الكريم على إباحة تناول الميتة وغيرها من المحرمات عند الضرورة، قال تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . [الآية 3 من سورة المائدة](1) .

(1) وتراجع الآية 173 من سورة البقرة، والآية 145 من سورة الأنعام، والآية 115 من سورة النحل.

ص: 169

حكم أكلة الميتة للمضطر

- وقد اتفق الفقهاء على أن المضطر إلى أكل الميتة يحل له الأكل منها، ولكن لا يأكل منها إلا مقدار ما يسد الرمق (1) ـ كما هو رأي الحنفية ورواية عن مالك، والشافعية، والهادوية ـ أو يتناول منها إلى أن تأخذ النفس حاجتها من القوت ـ وهو رواية عن مالك، وقول للشافعي ثان (2) .

- وقيل: يجوز أكل المعتاد للمضطر في أيام عدم الاضطرار ـ قال الحافظ: وهو الراجح عندي (3) .وقد نقل ابن رشد عن مالك أنه قال: (حد ذلك الشبع والتزود منها حتى يجد غيرها)(4) .

- وفي ترجيح الرأي الأول يقول الشوكاني: (والآية الكريمة قد دلت على تحريم الميتة، واستثني ما وقع الاضطرار إليه، فإذا اندفعت الضرورة لم يحل الأكل كحالة الابتداء، ولا شك أن سد الرمق يدفع الضرورة)

ومن ثم أخذت القاعدة الشرعية (الضرورة تقدر بقدرها) .

وإذا كان هذا هو حكم الأكل من الميتة في حالة الاضطرار، فإننا نتساءل عن حكم التداوي بالميتة، ومن المعلوم أن التداوي لإزالة علة أو مرض أمر مطلوب شرعاً كما سبق أن بيناه، ونوضح حكم التداوي بالميتة في الفقه الإسلامي فيما يلي:

(1) القرطبي ج2 ص 229، والأشباه للسيوطي 3ص 84، ولابن نجيم ص 85، 86 والروض المربع ج2 ص 357

(2)

نيل الأوطار: ج8 ص 151، ويراجع الأحاديث الواردة في هذا الشأن.

(3)

بداية المجتهد ج1 ص 461

(4)

بداية المجتهد ج1 ص 461

ص: 170

- المبحث الرابع

- التداوي بالميتة

- حكم التداوي بها قبل تغيرها

- حكم التداوي بها بعد تغيرها

- حكم الانتفاع بميتة الإنسان

حكم التداوي بالميتة

التداوي بالميتة: يحتاج إلى تفصيل:

وذلك أن التداوي بها إما أن يكون باستعمالها قائمة العين لم تمسها يد التغيير والتحويل، أو أن تمسها يد التغيير والتحويل.

فأما الحالة الأولى: وهي ما إذا كانت الميتة قائمة بعينها فقد اختلف في حكمها، فيرى البعض جواز التداوي بها، وقد احتجوا بإباحة النبي صلى الله عليه وسلم الحرير لعبد الرحمن بن عوف لمكان حكة به، فقد روي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف، والزبير في لبس الحرير لحكة كانت بهما، رواه الجماعة (1) . فإذا أبيح لبس الحرير لعبد الرحمن بن عوف من أجل ما ألم به من مرض ـ والحرير حرام على الرجال لبسه ـ فإنه يقاس عليه التداوي بالميتة طلباً للبرء والشفاء مما ألم بالإنسان من أمراض.

- ويرى البعض الآخر منع التداوي بالميتة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها)) والميتة محرمة بكتاب الله تعالى. فلا يجوز التداوي بها.

- الترجيح: قد سبق أن بينا آراء العلماء في حكم التداوي بالمحرمات تفصيلاً ورجحنا رأي الشافعية في أنه يجوز التداوي بها إلا التداوي بالخمر فإنه لا يجوز إلا عند الضرورة.

ومن بين المحرمات (الميتة) ورجحنا رأي الحنفية أنه يجوز التداوي بالمحرم إذا تعين علاجاً لها على يد طبيب مسلم حاذق.

(1) إلا أن لفظ التمرمذي (أن عبد الرحمن بن عوف والزبير شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم القمل، فرخص لهما في قمص الحرير في غزاة لهما) نيل الأوطار: ج2 ص 88 ـ 89

ص: 171

وأما الحالة الثانية: وهي استعمال الميتة بعد تغييرها وتحويلها إلى مادة أخرى، هذه الحالة قد أشار إليها القرطبي فقال:(فإن تغيرت (الميتة) بالإحراق فقال ابن حبيب يجوز التداوي بها والصلاة، وخففه الماجشون بناء على أن الحرق تطهير لتغير الصفات، وفي العتبية من رواية مالك في المرتك (ضرب من الأدوية) يصنع من عظام الميتة إذا وضعه في جرحه لا يصلي به حتى يغسله.

الترجيح: والظاهر أن الرأي الأول هو الراجح، لأنها تحولت إلى مواد آخرى، ولم تبق فيها خواصها، بل أصبحت رماداً، أو مواد أخرى لها خواصها، ومن ثم لا يظهر تعلق الحرمة بها، فيجوز التداوي بها.

الخلاصة:

ومن هذا المبحث نأخذ أنه يجوز التداوي بالميتة سواء كانت قائمة العين ولم تمسها يد التغيير والتبديل، أو غير قائمة العين بأن مستها يد التغيير والتبديل فحولتها من حالة إلى حالة أخرى.

ص: 172

حكم الانتفاع بميتة الإنسان

لما كانت الميتة تارة تكون ميتة حيوان يحل أكله أو لا يحل أكله، وتارة تكون ميتة إنسان، فإنه من المتفق عليه أنه إذا توافرت هذه الأنواع من الميتة جميعها فإنه يبدأ بالانتفاع بميتة الحيوان الذي يحل أكله، ويأتي بعد الحيوان الذي لا يحل أكله وأخيراً ميتة الإنسان.

ونبسط الحديث عن النوع الأخير مبينين آراء الفقهاء في الانتفاع بميتة الإنسان في حالة الاضطرار. ثم نتبع بما نرى ترجيح الأخذ به:

1-

آراء الفقهاء في الانتفاع بميتة الإنسان عند الاضطرار.

الحنفية: جاء في الأشباه لابن نجيم ص 87: (ولا يأكل المضطر طعام مضطر آخر ولا شيئاً من بدنه)(وجاء في رد المحتار على الدر المختار ج5 ص (331) : (الأكل للغذاء والشرب للعطس ولو من حرام أو ميتة أو مال غيره وإن ضمنه فرض يثاب عليه بحكم الحديث (1) . ولكن مقدار ما يدفع الهلاك عن نفسه، ومأجور عليه، وهو مقدار ما يتمكن به من الصلاة قائماً، ومن صومه....

ثم علق عليه ابن عابدين على قوله: (ولو من حرام) بقوله: (ولو خاف الهلاك عطشاً وعنده خمر له شربه قدر ما يدفع العطش إن علم أنه يدفعه (بزازية) ويقدم الخمر على البول (تاترخانية) ثم علق على قوله: (وإن ضمنه (بقوله: لأن الإباحة للاضطرار لا تنافي الضمان، وفي البزازية خاف الموت جوعاً، ومع رفيقه طعام أخذ بالقيمة منه قدر ما يسد جوعه، وكذا يأخذ قدر ما يدفع العطش، فإن امتنع قاتله بلا سلاح، فإن خالف الرفيق والموت جوعاً أو عطشاً ترك له البعض، وإن قال له آخر: اقطع يدي وكلها، لا يحل، لأن جسم الإنسان لا يباح في الاضطرار لكرامته..) .

وجاء في البدائع ج5 ص 132: (ولو سقط سنه يكره أن يأخذ سن ميت فيشدها مكان الأولى بالإجماع، وكذا يكره أن يعيد تلك السن الساقطة مكانها عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، ولكن يأخذ سن شاة ذكية فيشدها مكانها.

وقال أبو يوسف رحمه الله: لا بأس بسنه، ويكره سن غيره، قال، ولا يشبه سنه سن ميت. استحسن ذلك، وبينهما عندي فصل، ولكن لم يحضرني (ووجه) الفصل من وجهين أحدهما أن سن نفسه جزء منفصل للحال عنه لكنه يحتمل أن يصير متصلاً في الثاني، بأن يلئتم فليتئم بنفسه فيعود إلى حالته الأولى، وإعادة جزء منفصل إلى مكانه ليلتئم جائز، كما إذا قطع شيء من عضو فأعاده إلى مكانه، فأما نفس غيره فلا يحتمل ذلك.

والثاني أن استعمال جزء منفصل عن غيره من بني آدم إهانة بذلك الغير، والآدمي بجميع أجزائه يكرم ولا إهانة في استعمال جزء نفسه في الإعادة إلى مكانه.

(وجه) قولهما: إن السن من الآدمي جزء منه إذا انفصل استحق الدفن ككله، والإعادة صرف له عن جهة الاستحقاق فلا تجوز وهذا لا يوجب الفصل بين سنه وسن غيره.

(1) قال صلى الله عليه وسلم: إن الله ليؤجر في كل شيء حتى اللقمة يرفعها العبد إلى فيه

ص: 173

المالكية:

وجاء في الشرح الكبير للدسوقي ج2 ص 103: وأما الآدمي فلا يجوز تناوله

) .

أي سواء كان حياً أو ميتاً، ولو مات المضطر، هذا هو المنصوص لأهل المذهب، وتقدم آخر الجنائز أن بعضهم صحح أكله للمضطر إذا كان ميتاً، ولا فرق بين المسلم والكافر فيما ذكر.

وقد بين أن الذي صحح أكله هو ابن عبد السلام فقال (ج1 ص 345) : (والنص المعول عليه (عدم جواز أكله) أي أكل الآدمي الميت، ولو كان كافراً (لمضطر) ولو مسلماً لم يجد غيره، إذ لا تنتهك حرمة آدمي لآخر

(وصحح أكله) أي صحح ابن عبد السلام القول بجواز أكله للمضطر.

وعلق على قوله: (لم يجد غيره) بقوله: هذا محل الخلاف أما لو وجد غيره فلا يجوز أكله قولاً واحداً.

الشافعية: جاء في مغني المحتاج ج4 ص 307: (وله أي للمضطر أكل آدمي ميت) إذا لم يجد ميتة غيره.. لأنه حرمة الحي أعظم من حرمة الميت، ويستثنى من ذلك ما إذا كان الميت نبيا فإنه لا يجوز الأكل منه جزماً ـ كما قاله إبراهيم المروزي وأقره، وما إذا كان الميت مسلماً والمضطر كافراً، فإنه لا يجوز الأكل منه لشرف الإسلام، بل لنا وجه أنه لا يجوز أكل الميت المسلم. ولو كان المضطر مسلماً) .

الحنابلة: جاء في المغني مع الشرح الكبير ج11 ص 79: (وإن وجده ـ أي مباح الدم كالحربي والمرتد ـ ميتاً أبيح أكله، لأن أكله مباح بعد قتله، فكذلك بعد موته معللاً ذلك بأنه لا حرمة، فهو بمنزلة السباع) .

وإن وجد معصوماً ميتاً لم يبح أكله في قول أصحابنا (أي الحنابلة) .

وقال الشافعي وبعض الحنفية: يباح، وهو أولى، لأن حرمة الحي أعظم، وقال أبو بكر بن داود: أباح الشافعي أكل لحوم الأنبياء.

واحتج أصحابنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كسر عظم الميت ككسر عظم الحي)) .

واختار أبو الخطاب أن له أكله، وقال: لا حجة في الحديث ههنا، لأن الأكل من اللحم لا من العظم، والمراد بالحديث التشبيه في أصل الحرمة لا في مقدارها بدليل اختلافهما في الضمان والقصاص ووجوب صيانة الحي بما لا يجب به صيانة الميت) فالراجح في مذهب الحنابلة هو جواز أكل المضطر من لحم الميت المعصوم، ويجوز بالاتفاق الأكل من غير المعصوم عندهم.

ص: 174

الزيدية: جاء في التاج المذهب ج3 ص 473:

(والمباح من أكل الميتة عند الضرورة لمن خشي التلف حالاً أو مآلا، إنما هو سد الرمق منها

ويقدم وجوباً الأخف فالأخف عند الاضطرار، ولا يعدل إلى الأغلظ تحريماً مع وجود الأخف، فمن أبيح له الميتة قدم ميتة المأكول، ثم ميتة غيره، ثم ميتة الكلب، ثم ميتة الخنزير، ثم ميتة الدب، ثم الحربي حياً المكلف الذكر بعد الذبح بضرب العنق الشرعي، أو ميتاً، ثم ميتة الذمي، ثم ميتة المسلم، ثم مال الغير بنية الضمان ثم دابة حية له غير المأكولة بعد ذبحها، ثم دابة لغيره بنية الضمان.

إلى بضعة منه ـ أي من نفسه حيث لا يخاف من قطعها ما يخاف من الجوع) . وجاء في القرطبي ج2 ص 229 عن تفسير قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [الآية 173 من سورة البقرة]

ثم إذا وجد المضطر ميتة وخنزيراً ولحم ابن آدم أكل الميتة لأنها حلال في حال، والخنزير وابن آدم لا يحل بحال، والتحريم المخفف أولى أن يقتحم من التحريم المثقل، كما لو أكره أن يطأ أخته أو أجنبية، وطئ الأجنبية لأنها تحل له بحال، وهذا هو الضابط لهذه الأحكام.

ولا يأكل ابن آدم ولو مات، قاله علماؤنا، وبه قال أحمد وداود.

واحتج أحمد بقوله عليه السلام: (كسر عظم الميت ككسره حياً) .

وقال الشافعي: (يأكل لحم ابن آدم، ولا يجوز له أن يقتل ذمياً؛ لأنه محترم الدم، ولا مسلماً ولا أسيراً؛ لأنه مال الغير. فإن كان حربياًَ أو زانياً محصناً جاز قتله والأكل منه.

وشنع داود على المزني بأن قال: (قد أبحت أكل لحوم الأنبياء) فغلب عليه ابن شريح بأن قال: (فأنت قد تعرضت لقتل الأنبياء إذ منعتهم من أكل الكافر) .

ص: 175

قال ابن العربي: (الصحيح عندي ألا يأكل الآدمي. إلا إذا تحقق أن ذلك ينجيه ويحييه، والله أعلم.

المقارنة والترجيح: ومن هذه النصوص الفقهية يتضح لنا ما يأتي:

أولاً: يجب التفرقة بين الانتفاع بأجزاء الآدمي الحي، وأجزاء الآدمي الميت.

ونخص البحث في هذه الفقرة بأجزاء الآدمي الميت.

ثانياً: أن الانتفاع بأجزاء الآدمي الميت في حالة الاضطرار قد اختلف الفقهاء في إباحته إلى رأيين:

الرأي الأول: يرى الحنفية والمالكية (خلافاً لابن عبد السلام) والظاهرية، عدم جواز الانتفاع بأجزاء الإنسان الميت، منعاً من انتهاك حرمة الآدمي. ولقوله عليه الصلاة والسلام:((كسر عظم الميت ككسر عظم الحي)) .

الرأي الثاني: يرى جمهور الفقهاء (بعض الحنفية، وبعض المالكية، والشافعية والحنابلة والزيدية) جواز الانتفاع بأجزاء ميتة الآدمي، وقد عللوا ذلك بأن حرمة الآدمي الحي أعظم من حرمة الميت.

وقد رد أبو الخطاب من علماء الحنابلة على الحديث المتقدم (كسر عظم الميت

) بأن المراد بالحديث التشبيه في أصل الحرمة، لا في مقدارها، بدليل اختلافهما في الضمان، والقصاص، ووجوب صيانة الحي بما لا يجب به صيانة الميت) .

ص: 176

الترجيح:

والذي أرجحه هو جواز الانتفاع بأجزاء الآدمي الميت عند الضرورة، سواء كان معصوماً أو غير معصوم، إحياء للنفس الآدمية ومداً لأسباب البقاء لها

وبخاصة أن النفس الميتة إن لم ينتفع بها تحللت وصارت تراباً

فإنقاذ نفس حية بشيء من نفس ميتة حفاظ على النفس، وإحياء لها، هو هدف مشروع ومصلحة مقررة شرعاً ومعتد بها فضلاً عن أن رعاية مصلحة الحي في امتداد حياته، أولى من رعاية مصلحة الميت في عدم المساس بجسمه، إذ جسمه إلى تحلل وإلى فناء.

ثالثا: أنه على القول بإباحة الانتفاع بالآدمي الميت عند الاضطرار فإنه قد وضعت شروط هذا الانتفاع وهي:

1-

ألا توجد ميتة أخرى غير ميتة الآدمي، فإذا وجدت ميتة أخرى لا يحل الانتفاع بميتة الآدمي.

2-

أن يكون المضطر معصوم الدم، وذلك لأنه لو كان مستحق القتل شرعاً، كان دمه غير معصوم، وحياته إلى زوال بتنفيذ حكم الشرع فيه، ومن ثم فلا يجوز شرعاً العمل على مد أسباب حياته في الوقت الذي فيه يرى الشرع إنهاء حياته حقاً لله تعالى فكان ذلك معارضة للشرع، ومضادة لأحكامه، وهو ما لا يجوز ولا يحل

3-

أنه يجب أن يكون المنتفع مضطراً إلى هذا الانتفاع، وقد سبق أن أوضحنا المقصود بالاضطرار وبينا أنه لم يتناول المحرم هلك كله أو بعضه.

ويلزم هنا أن نتعرض لبيان ما إذا كانت الحاجة تبيح للإنسان أن يتناول أو ينتفع بالمحرمات..، قياساً على حالة الضرورة.

ص: 177

وللإجابة عن ذلك نقول: إن القرآن الكريم قد عبر عن ذلك بأوضح تعبير وبينه أوفى بيان، إذ أنه بعد ذكر المحرمات: قال {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} فالمستثنى من الوقوع في المحرم هو من وقع في حالة الاضطرار لا في أي حالة غيرها، حاجية أو تحسينية.

ومن ثم فلا يجوز هذا الانتفاع إلا في حالة الضرورة، وإلا لضاعت الحكمة من تحريم هذه المحرمات باتساع دائرة الإباحة عند الحاجة مما يفقد التحريم حكمته والغاية منه.

4-

كذلك يجب أن يكون هناك إذن بالانتفاع بأجزاء الميت وهذا الإذن، يمكن أن يكون صادراً من الميت قبل موته، باعتبار أن له ولاية على نفسه، ويمكن أن يكون صادراً من ورثته بعد موته، وهم من لهم الحق في ميراث تركته شرعاً، ولهم المطالبة بالقصاص في حالة الجناية عليه عمداً، فإذا اتفقا على التبرع بجزء منه فلا إشكال، وكذا إذا اتفقنا على المنع فلا يؤخذ شيء منه، أما إذا اختلفت وصية الميت عن رأي الورثة، فإن كان الميت قد أوصى بالانتفاع ببعض أجزائه، وهم لم يوافقوا فإنني أرى أن نعتد بوصيته؛ لأن ولايته على نفسه مقدمة على ولايتهم، ولذلك شبيه في الفروع الفقهية، وذلك فيما إذا عفا المجني عليه قبل موته من الجاني، فإن فقهاء الحنفية اعتبروا عفوه وأخذوا به وجعلوه مقدماً على رأي الأولياء فيما إذا طالبوا بالقصاص، وأسقطوا القصاص أخذاً بعفوه

وأما إذا رفض هو التبرع بأجزاء منه بعد وفاته، ثم وافق الورثة على هذا الانتفاع، فإنني أرى ترجيح جانب الورثة هنا تحقيقاً لمصلحة راجحة، وهي بقاء نفس إنسانية حية، ودرء المفسدة محققة، وهي دفع الهلاك عن هذا الإنسان الذي يراد نقل العضو الميت إليه، وفي الوقت نفسه ليس هناك ضرر على الإطلاق بالنفس المراد أخذ العضو منها لأنها هي وأعضاؤها لا تلبث أن تفنى وتصير تراباً، ولا شك أن الانتفاع بها قبل تحويلها إلى هذا المصير أولى بالاعتداد وأرجح في الاعتبار ومن ثم كان العمل بإرادة الولي هنا أرجح من العمل بإرادته هو، وهذا يتمشى مع رأي الظاهرية الذين يجعلون الرأي للولي أخذاً من قوله تعالى:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} الإسراء: 33.

ص: 178

المبحث الخامس

حكم

الانتفاع ببعض أجزاء الإنسان الحي

لمنفعة نفسه في حال الضرورة

حكم الانتفاع ببعض أجزاء الإنسان الحي

لمنفعة نفسه في حال الضرورة

في هذه الفترة من البحث يلزمنا أن نفصل حالات هذا الانتفاع سواء من ناحية الشخص المنتفع، أو من ناحية حال الشخص المنتفع منه، ومن ناحية الجزء المنتفع به وآثاره على الشخص المأخوذ منه، ومن ناحية المنهج والأسلوب الذي يمكن به أخذ هذا العضو، سواء كان من نفسه إلى نفسه أو من نفسه إلى غيره.

المبحث الأول

انتفاع الشخص بجزء من نفسه لنفسه في حالة الضرورة

وهنا يلزمنا أن نوضح أن ما يحتاج الإنسان إليه من أجزاء بدنه تارة يكون للتصحيح والتعويض، وتارة يكون لإنقاذ حياته ونوضح حكم كلا النوعين فيما يلي:

النوع الأول: أن يكون ما يحتاج إليه من نفسه للتصحيح والتعويض كأن يكون به عيب ظاهر فيحتاج إلى إصلاح هذا العيب الظاهر ـ كما يحدث عقب الحروق والحوادث التي قد تبتر عضواً أو تحدث به منظراً غير مألوف ـ كالأذن أو الأنف ـ أو قد يولد الإنسان بهذه الكيفية ويمكن عن طريق الجراحة إصلاح هذا العيب.

فهذا النوع من الجراحات التصحيحية يمكن القول بجوازه قياساً على جواز أخذ شيء من بدنه ليأكله إذا كان مضطراً ـ كما هو رأي الشافعية والزيدية - وسيأتي إيضاحه.

ولا يعتبر ذلك تغييرا للخلقة بل هو إعادة لها إلى حالتها الطبيعية، إعادة لها إلى حالتها المألوفة ونسقها وهيئتها المعتادة، وإبعاد لما قد يصاحب بقاءها من منظر متغير، أو شكل غريب ملفت للنظر وهيئتها المعتادة، وكل ذلك غرض وهدف لا يأباه الشرع الحكيم.

أما الجراحات التجميلية والتي يقصد بها الغلو في مقاييس الجمال، كترقيق الأنف أو تفليج الإنسان أو نحو ذلك فهذا النوع من الجراحات يدخل في دائرة المنهي عنه في الحديث الشريف، وهو ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في الحديث الشريف، قال:((لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)) قال: (فبلغ ذلك امرأة من بني أسد، يقال لها: أم يعقوب، وكانت تقرأ القرآن، فأتته، فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات والمتلفجات للحسن المغيرات خلق الله؟ فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله عز وجل؟ فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته. فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدته؛ قال الله عز وجل: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}

صحيح مسلم.

النوع الثاني: أن يكون ما يحتاج إليه الإنسان من نفسه تتوقف عليه حياته، وقد صور الفقهاء ذلك في صورة أن يشتد به الجوع ولا يجد ما يأكله، فيلجأ إلى قطع جزء من نفسه ليأكله فتمتد به حياته بعض الوقت إلى أن يجد مخرجاً من حالة الاضطرار أو المخمصة.

ص: 179

ونعرض فيما يلي بعضاً من النصوص الفقهية:

الحنفية: يرى الحنفية أنه لا يجوز أن يقطع الإنسان جزءاً من بدنه في حالة اضطراره.

جاء في الأشباه لابن نجيم ص 87 عند شرح قاعدة الضرر لا يزال بالضرر (أنه لا يأكل المضطر طعام مضطر آخر، ولا شيئاً من بدنه) .

فهذا يدل على أن الحنفية لا يجيزون للإنسان في حالة الضرورة أن يتناول شيئاً من بدنه؛ لأن الضرر لا يزال بالضرر.

وقال محمد بن الحسن: (ولا بأس بالتداوي بالعظم إذا كان عظم شاة أو بقرة أو بعير أو فرس، أو غيره من الدواب، إلا عظم الخنزير والآدمي، فإنه لا يمكن التداوي بهما، ولا فرق بين أن يكون ذكياً أو ميتاً أو رطباً أو يابساً)(1) .

الشافعية:

أجاز الشافعية انتفاع المضطر بجزء من بدنه ـ على الأصح ـ بشرط عدم وجود غير هذا السبيل، وأن يكون الخوف في قطع هذا الجزء أقل من الخوف في ترك الأكل، فإن كان مثله أو أكثر حَرُمَا جزماً.

جاء في مغنى المحتاج ج4 ص 310: (والأصح) حيث لم يجد المضطر شيئاً يأكله (تحريم قطع بعضه) كجزء من فخذه (لأكله) لأنه قد يتولد منه الهلاك.

قلت: أخذاً من الرافعي في الشرح (الأصح جوازه) لأنه إتلاف بعضه لاستبقاء كله، فأشبه قطع اليد بسبب الأكلة.

وشرطه ـ أي الجواز ـ أمران:

أحدهما: فقد الميتة ونحوها مما مر.

والأمر الثاني: أن يكون الخوف في قطعه أقل من الخوف في ترك الأكل، فإن كان مثله أو أكثر حَرُمَ جزماً.

فإن قيل: قد تقدم في قطع السلعة (2) الجواز عند تساوي الخطرين فلا كان هذا كذلك؟ أجيب بأن السلعة لحم زائد على البدن، وفي قطعها إزالة الشين، وتوقع الشفاء، ودوام البقاء، فهو من باب المداواة، بخلاف هذا، فإن فيه إفساداً وتغييراً لبنيته، وليس من باب المداوة.

ولهذا قيد البلقيني محل القطع هذا بما إذا لم يكن ذلك المقطوع يجوز قطعه في غير الأضرار، فإن كان كالسلعة واليد المتآكلة حيث جاز قطعها، فيجوز ذلك في حال الاضطرار ـ قطعاً.

الحنابلة:

جاء في المغني مع الشرح الكبير ج11 ص 79:

فإن لم يجد المضطر شيئاً لم يسمح له أكل بعض أعضائه.

وقال بعض أصحاب الشافعي له ذلك، لأن له أن يحفظ الجملة بقطع عضو، كما لو وقعت فيه الأكلة.

ولنا (الحنابلة) أن أكله من نفسه ربما قتله، فيكون قاتلا نفسه، ولا يتيقن حصول البقاء بأكله، أما قطع الأكلة فإنه يخاف الهلاك بذلك العضو، فأبيح له إبعاده ودفع ضرره المتوجه منه بتركه، كما أبيح قتل الصائل عليه ولم يكن له قتله ليأكله.

(1) الفتاوى الهندية: ج5 ص 354

(2)

السلعة: المتاع، وهي أيضاً زيادة في البدن كالغدة تتحرك إذا حركت وقد تكون من حمصة إلى بطيخة ـ مختار الصحاح

ص: 180

الزيدية:

جاء في شرح الأزهار ج4 ص 97:

ويقدم الأخف فالأخف عند الاضطرار، ولا يعدل إلى الأغلظ تحريماً مع وجود الأخف، فمن أبيح له الميتة، قدم ميتة المأكول، ثم ميتة غيره، ثم ميتة الكلب، ثم ميتة الخنزير، ثم الحربي حيا (1) . أو ميتاً ثم ميتة الذمي، ثم ميتة المسلم، ثم مال الغير، ثم دابة حية له، ثم لغيره بعد ذبحها، إلى بضعة منه أي من نفسه، حيث لا يخاف من قطعها ما يخاف من الجوع؛ كقطع المتآكلة حذراً من السراية) .

المقارنة والترجيح:

يتضح لنا مما تقدم أن الفقهاء قد اختلفوا فيما لو اضطر الإنسان إلى الانتفاع بجزء منه لإنقاذ حياته إلى رأيين:

الرأي الأول: يرى الحنفية وبعض الشافعية والحنابلة أنه لا يجوز للإنسان أن يقطع شيئاً من بدنه لينتفع به في إنقاذ حياته، وقد عللوا ذلك بأمرين:

أولاً: أن ما أبين من الحي فهو ميت، وإن الميت يجب مواراته التراب، فالانتفاع به تغيير لما وجب بشأنه، ويستفاد هذا من كلام الحنفية.

ثانياً: أنه قد يتولد الهلاك من قطع جزء من بدنه، والضرر لا يزال بالضرر؛ إذ ربما قطع هذا الجزء أدى إلى قتله فيكون قاتلاً نفسه، وقاتل النفس عمداً خالد مخلد في نار جهنم أبداً.

الرأي الثاني: يرى الشافعية على الأصح والزيدية جواز أن يقطع إنسان شيئاً من بدنه إنقاذاً لحياته، وقد عللوا لهذا الرأي بأمرين:

الأول: أن قطع هذا الجزء لإنقاذ حياة يشبه قطع (السلعة) أو اليد المتآكلة إنقاذاً لنفسه، فكما أنه جاز في الثانية يجوز في الأولى بجامع إنقاذ الحياة في كل.

الثاني: أن جواز ذلك يدخل في باب إتلاف البعض لإنقاذ الكل، أو التضحية بالبعض لإنقاذ الكل، وجواز ذلك مقرر بالإجماع.

والذي أرجحه هو الرأي الثاني؛ وذلك لما أبرزته من أدلة له، ولما يأتي:

أولاً: أن ما قطع منه ليعود إليه يجوز قياساً على من قطع منه عضو ثم أعيد إليه، فإنه في هذه الحالة يجوز؛ لأنه إعادة جزء نفسه إلى نفسه، وهذا إكمال للنفس وإعادة لها إلى حالتها الطبيعية، فما بالك بما نحن فيه حيث يخشى أن تهلك النفس جميعها إذا لم تنقذ بمثل هذا الجزء، كما إذا احتاج مريض القلب إلى نقل بعض الشرايين من مكان آخر من جسمه ترقيعاً لما تلف في القلب.

ثانياً: أنه إذا كان النقل من مكان إلى مكان من باب المداواة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالتداوي ـ وقد سبق أن نقلنا النصوص من السنة المطهرة في ذلك

، فحينئذ إذا قرر الطبيب المسلم الحاذق ذلك، جاز أن يؤخذ من الجسم ويرد إليه إنقاذاً لحياته ودفعاً للضرر عنه.

ثالثاً: أنه إذا كان خطر القطع أعلى من خطر البقاء على ما هو عليه، فحينئذ لا تجوز هذه الجراحة؛ لأنها مغامرة وإهلاك للنفس غالباً، وذلك لا يجوز شرعاً، فلا بد من أن تكون نسبة النجاح أعلى، وكفة السلامة أرجح في حال إجراء هذه الجراحة.

أما عند تساوي الأمرين فأرجح ما ذهب إليه الشافعية من أنه يحرم إجراء هذه الجراحة.

(1) المكلف الذكر بعد الذبح بضرب العنق الشرعي، وفيما يقتل من الحربيين كالصبي والمجنون والمرأة والشيخ الفاني وجهان: أحدهما جواز قتله لأن ندفع به ضرر المسلمين، قلت: وظاهر المذهب عدم جواز قتلهم؛ لأن الشارع حجر قتلهم بصفهم، كما حجر قتل الذمي لصفته التي هي الذمة

ص: 181

المبحث السادس

حكم انتفاع الإنسان بجزء من إنسان آخر

حي في حال الضرورة

حكم انتفاع الإنسان بجزء من إنسان آخر

بينا آنفاً الضوابط عند انتفاع الإنسان بجزء من ميتة الإنسان، ولكن هذا الضوابط تزداد هنا وتتعقد؛ نظراً لمكانة الروح في جسم الإنسان ولمكانة عصمة دمه، ومنع النيل منه، كلا أو بعضاً، ووضع العقوبات الرادعة لمن يعتدي عليه أو على جزء منه.

وإذا أردنا أن نبرز هذه الضوابط فإننا نذكر في هذا المقام أيضاً أننا نتحدث هنا عن حالة الضرورة فقط {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (1) فالمضطر فقط هو الذي أبيح له التناول من المحرم؛ دفعاً للهلاك عن نفسه، أما ذو الحاجة، وهو من وقع في جهد ومشقة فقط، كالجائع الذي لو لم يجد ما يأكله لم يهلك، فإنه لا يباح له تناول المحرم أو الانتفاع به؛ سداً لحاجته ودفعاً للمشقة عنه، وإن كان يباح له الفطر في الصوم وفي السفر {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (2) .

فالضرورة غير الحاجة، والفارق بينهما أنه إن لم يتناول الممنوع هلك كلا أو بعضاً في حالة الضرورة، وأصابه جهد ومشقة في حالة الحاجة، ونظراً لأن المشرع الحكيم يهدف إلى استمرار حياة النفس البشرية وإبعادها عن الهلاك، أباح لها ما يحقق ذلك، ولو أدى هذا إلى تناول ما حرمه عليها في حال الاختيار، فالانتقال من الحرمة إلى الإباحة يشترط فيها أعلى الرتب ـ كما يقول القرافي ـ أما الانتقال من الإباحة إلى الحرمة فيكفي فيها أيسر الأسباب (3) .

وأعلى الرتب في ترتيب المصالح هي الضرورة، وأدناها التحسين، وأوسطها الحاجة، فالضرورة وحدها هي التي تبيح تناول المحرم حسبما ذكرنا.

(1) البقرة الآية: 173

(2)

الآية: 184 من سورة البقرة

(3)

القرافي: الفرق الحادي والثلاثون والمائة ج3 ص73

ص: 182

الإنسان الحي المراد الانتفاع بجزء منه في حالة الضرورة.

يفرق الفقه الإسلامي بين الإنسان المعصوم الدم، وهو الذي لا يباح قتله، وبين الإنسان المهدر دمه، أو المباح قتله.

والأسباب المبيحة لقتله كردة وقتل عمد أو زنا إحصان أو حربي.

ونرى أن نعرض آراء الفقهاء في كل منهما، ثم نتبعه بالترجيح في مواطن ـ الاختلاف.

حكم الانتفاع بجزء من إنسان معصوم الدم:

أجمع الفقهاء على أنه لا يجوز قطع شيء من جسم إنسان حي معصوم الدم لينتفع به إنسان مضطر. وإليك بعض ما نص عليه الفقهاء:

الحنفية: يرون أنه لا يصح انتفاع الإنسان المضطر بجزء من إنسان آخر محقون الدم.

جاء في الأشباه ابن نجيم ص 87 عند شرح قاعدة (الضرر لا يزال بالضرر) أمثلة تطبيقية لها منها قوله:

(ولا يأكل المضطر طعام مضطر آخر، ولا شيئاً من بدنه) .

المالكية:

جاء في الشرح الكبير ج2 ص 103: (والمباح

للضرورة

غير آدمي وغير خمر من الأشربة.

وأما الآدمي فلا يجوز تناوله، وكذا الخمر إلا لغصة، فيجوز إزالتها به عند عدم ما يسيغها به من غيره) .

ثم يقول تعليقاً على قوله: (وأما الآدمي فلا يجوز تناوله) بقوله: أي سواء كان حياً أو ميتاً، ولو مات المضطر، هذا هو المنصوص في المذهب) . وسبق أن بينا أن ابن عبد السلام صحح القول بجواز أكله للمضطر، إذا كان ميتاً. أما الحي فلا، باتفاق علماء المذهب.

ص: 183

الشافعية:

جاء في مغني المحتاج ج4 ص 310:

(ويجزم) جزماً على شخص (قطعه) أي بعض نفسه (لغيره) من المضطرين، لأن قطعه لغيره ليس فيه قطع البعض لاستبقاء الكل.

تنبيه: هذا إذا لم يكن ذلك الغير نبيا، وإلا لم يحرم بل يجب

ويحرم على مضطر أيضاً أن يقطع لنفسه قطعة من حيوان معصوم ـ والله أعلم ـ لما مر. وجاء في ج1 ص 191 حين بيان حكم وصل شعر الآدمي بشعر آدمي وأنه حرام للحديث (لعن الله الواصلة والمستوصلة..) لأنه مستعمل لشعر آدمي يحرم الانتفاع به وبسائر أجزائه لكرامته) .

الحنابلة: جاء في المغني مع الشرح الكبير ج11 ص 79:

(إن لم يجد (المضطر) إلا آدمياً محقون الدم لم يسمح له قتله إجماعاً ولا إتلاف عضو منه؛ مسلماً كان أو كافراً؛ لأنه مثله، فلا يجوز أن يبقي نفسه بإتلافه، وهذا لا خلاف فيه) .

الظاهرية: يرى الظاهرية تحريم لحوم الناس وتحريم الانتفاع بها، جاء في المحلى لابن حزم ج4 ص 468: (ولا يحل أكل العذرة ولا الرضيع، ولا شيء من أبوال الخيول ولا القيء، ولا لحوم الناس ولو ذبحوا، ولا أكل شيء يؤخذ من الإنسان إلا اللبن وحده

) .

وبعد أن ذكر وجه التحريم في الأمور الأربعة الأولى بدأ بذكر وجه التحريم في لحوم الناس فقال: (وأما لحوم الناس فإن الله تعالى قال: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} (1) ولأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قد ذكرناه في كتاب الجنائز، بأن يوارى كل ميت من مؤمن أو كافر، فمن أكله فلم يواره، ومن لم يواره فقد عصى الله تعالى، ولقول الله تعالى:{إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} (2) فحرم تعالى آكل الميتة وأكل ما لم يذك، والإنسان قسمان: قسم حرام قتله، وقسم مباح قتله، فالحرام قتله إن مات أو قتل فلم يذك فهو حرام، وأما الحلال قتله فلا يحل قتله إلا لأحد ثلاثة أوجه: إما لكفره ما لم يسلم، وإما قوداً، وإما لحد أوجب قتله، وأي هذه الوجوه كان فليس مذكى؛ لأنه لم يحل قتله إلا بوجه مخصوص، فلا يحل قتله بغير ذلك الوجه، والتذكية غير تلك الوجوه بلا شك، فالقصد إليها معصية، والمعصية ليست ذكاة، فهو غير مذكى فحرام أكله بكل وجه، وإذ هو كله حرام، فأكل بعضه حرام؛ لأن بعض الحرام حرام بالضرورة، ويدخل في هذا المخاط والنخاعة والدمع والعرق والمذي والمني والظفر والجلد والشعر والقيح والسن إلا اللبن المباح بالقرآن والسنة والإجماع، وقد أباح عليه السلام لسالم ـ وهو رجل ـ الرضاع من لبن سهلة بنت سهيل، والريق لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حنك الصبيان بتمر مضغه، فريقه في ذلك الممضوغ، فالريق حلال بالنص فقط، وبالله تعالى التوفيق) .

(1) الآية: 12 من سورة الحجرات.

(2)

الآية: 3 من سورة المائدة.

ص: 184

الزيدية: جاء في شرح الأزهار ج4 ص 407:

(والإباحة لا تسقط القود (القصاص) عن القاتل، فإذا قال لغيره: اقتلني، واقتل ابني، أو اقطع يدي، ففعل، لزمه القصاص، ولا حكم لهذا الإذن) .

حكم الانتفاع بجزء من إنسان غير معصوم الدم:

بينا آنفاً أن غير معصوم الدم هو من ارتكب جرماً استحق من أجله القتل، من هؤلاء الحربي: وهو من رفع راية الحرب ضد المسلمين.

القاتل للنفس عمداً، ولم يعف عنه ولي الدم.

الزاني المحصن

المرتد عن دين الإسلام.

المحارب.

فهؤلاء قد استحقوا القتل بسبب ما ارتكبوا من جرائم، وعقوبة هذه الجريمة هي القتل، فإذا صدر ضد شخص حكم بقتله، إما لكونه حربياً، أو قاتلاً عمداً دون عفو ولي الدم، أو زانياً محصناً، أو مرتداً، أو محارباً

ومن ثم فإن الفقهاء قد اختلفوا في جواز الانتفاع بشيء من أجسامهم لمصلحة المضطر من الأحياء المعصومين.

فيرى جمهور الفقهاء عدم جواز الانتفاع بشيء من أجسامهم.

وهم فقهاء الحنفية والمالكية والظاهرية.

الحنفية:

وقد نقلنا آنفاً رأي الحنفية في الانتفاع بجزء من الإنسان الميت.

ص: 185

المالكية:

قال الدسوقي في شرحه: (وأما الآدمي فلا يجوز تناوله؛ أي: سواء كان حياً أو ميتاً، ولو مات المضطر، هذا هو المنصوص لأهل المذهب) .

(والنص المعول عليه عدم جواز أكله ـ أي أكل الآدمي الميت، ولو كافراً، لمضطر ولو مسلماً لم يجد غيره، إذا لا تنتهك حرمة آدمي آخر) .

وقد سبق نقل هذا النص، ومنه يتبين أن المالكية لا يجيزون الانتفاع بأي جزء من أجزاء الإنسان لإنسان آخر مضطر، ولو كان المضطر مسلماً، ولو مات هذا المضطر من عدم الأكل.

الظاهرية:

وقد نقلنا آنفاً ما نص عليه هذا المذهب من حرمة الانتفاع بأي جزء من أجزاء الآدمي مسلماً كان أو كافراً إلا اللبن والريق.

ويرى الشافعية والحنابلة جواز الانتفاع بجزء من نفس الشخص المستحق للقتل. وإليك بعض النصوص الفقهية الدالة على ذلك:

الشافعية: جاء في مغنى المحتاج ج4 ص 307:

(وله قتل مرتد وأكله، وقتل حربي بالغ وأكله؛ لأنهما غير معصومين، وله قتل الزاني المحصن، والمحارب، وتارك الصلاة، ومن عليه قصاص، وإن لم يأذن الإمام في القتل؛ لأن قتلهم مستحق، وإنما اعتبر إذنه في غير حال الضرورة تأدباً معه، وحال الضرورة ليس فيها رعاية أدب، لا قتل ذمي ومستأمن ومعاهد، وصبي حربي وحربية لحرمة قتلهم. قلت: الأصح حل قتل الصبي والمرأة الحربيين للأكل ـ والله أعلم ـ أنهما ليسا معصومين، ومنع قتلهما في غير الضرورة لا لحرمتها بل لحق الغانمين، ولهذا لا يتعلق بقتلها الكفارة.

ص: 186

(تنبيه: حكم مجانين أهل الحرب وأرقائهم وخناثاهم كصبيانهم، قال البلقيني: ومحل الإباحة إذا لم نستول على الصبي والمرأة ونحوهما، وإلا صاروا أرقاء معصومين لا يجوز قتلهم قطعاً لحق الغانمين) .

والحنابلة: جاء في المغني مع الشرح الكبير ج11 ص 79:

(وإن كان مباح الدم كالحربي والمرتد فذكر القاضي أن له قتله وأكله؛ لأن قتله مباح، وهكذا قال أصحاب الشافعي؛ لأنه لا حرمة له، فهو بمنزلة السباع، وإن وجده ميتاً أبيح أكله

) .

الترجيح:

وأرى ترجيح رأي الشافعية والحنابلة من حيث إنه إذا كان إنسان قد استحق القتل بسبب جرم ارتكبه، وكان هذا الحكم باتا، واجب التنفيذ، ولا طريق إلى إنقاذه من هذه العقوبة، لا بتوبة ولا بغيرها، فإنه يمكن عقب تنفيذ الحكم الانتفاع بأجزاء من هذا الإنسان ونقلها إلى إنسان آخر يوشك على الهلاك ـ كلًّا أو بعضاً ـ بشرط ألا تؤخذ هذه الأجزاء أثناء حياته ـ لأنها مُثلة، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة، وإنما تؤخذ عقب تنفيذ الحكم فيه مباشرة.

ولا مانع من إجراء الفحوص اللازمة قبل تنفيذ الحكم لمعرفة ملاءمة هذا الانتفاع لإنسان ما، أو لغيره، أو عدم ملاءمته.

ويجب أن يكون هذا الأخذ في حال الاضطرار إلى إنقاذ نفس توشك على الهلاك كما سبق القول ـ وليس في حال الاختيار.

ويجب أن يكون كل ذلك تحت رقابة السلطة التنفيذية وتحت رقابة نخبة من الأطباء المسلمين الحاذقين.

وإجازة ذلك في حال الضرورة يحقق هدفاً كبيراً، وهو إحياء نفس توشك على الهلاك ببعض أجزاء نفس هالكة لا محالة.

وأن يوضع لذلك قانون ينظم كل ذلك ويعلن للناس جميعاً.

وقد يكون النص فيه على أن ولي الأمر يعتبر إذنه في أخذ هذا الجزء بمثابة الإذن من ولي الدم أكثر تحقيقاً للهدف حتى لا تضيع فرصة الانتفاع بهذا الجزء، ونظراً لتحلل بعض أجزاء الإنسان عقب موته بسرعة كبيرة.

وفي هذه الحالة إن لم يكن هناك إذن بذلك تضيع فرصة الانتفاع بهذا الجزء، وتضيع فرصة إنقاذ نفس من الهلاك.

وأيضاً فإن القول بجواز ذلك عند الضرورة لا يجعل للإذن دوراً كبيراً من الناحية الفقهية، فالضرورات تبيح المحظورات، ويتغاضى عن الإذن في هذه الحالة ـ كما إذا لم يجد سوى مال غيره لينقذ به حياته، فإن عليه أن يأكل منه أو يشرب ولو دون إذن ثم عليه الضمان على الخلاف في هذا الضمان وقد سبق التعرض لذلك.

وبترجيحنا هذا فإن الاختلاف بين الانتفاع بجزء الميت، وهذا الانتفاع بجزء من المستحق بجزء منه وملاءمته وعدم ملاءمته للحالات الاضطرارية الموجودة، أما في الحالة الأولى فلا يتيسر فيها ذلك؛ إذ قد تحدث فجأة، أو لا يرضى صاحبها بمثل هذه الفحوص، فضلاً عن أنها غير معروفة الأشخاص غالباً، أما الأخيرة فهم معروفون ويمكن تحديد زمن معين لتنفيذ الحكم فيهم بشرط ألا يضاروا من هذا الإرجاء، وألا يتخذوا مخازن للأعضاء الحية يلجؤون إليها متى شاؤوا

بل هم لهم كل الحق في أن يكون تنفيذ الحكم فيهم في وقت لا يضر بهم.

ص: 187

المبحث السابع:

حكم بيع الآدمي في الفقه الإسلامي

حكم بيع الآدمي في الفقه الإسلامي

لقد تناول الفقه الإسلامي بيان حكم التصرف في الإنسان، أو التصرف في جزء من أجزائه، سواء أكان الجزء متجدداً، أم غير متجدد.

ونعرض فيما يلي حكم كل حالة من هذه الحالات الثلاث من مباحث متتالية:

الأول: حكم بيع الآدمي.

نعرض فيما يلي جانباً من الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة، ثم نتبعها بآراء الفقهاء في هذا الحكم.

أولاً: الكتاب الكريم:

قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (1) .

لقد تناول المفسرون تفسير هذا التكريم قائلين: إن الله تعالى قد كرمهم بالنطق والتمييز، وباعتدال القامة وامتدادها، وبحسن الصورة، وبتسليطهم على سائر الخلق وتسخير سائر الخلق لهم، وبالكلام والخط وبالعقل الذي هو عمدة التكليف، وبه يعرف الله ويفهم كلامه، ويوصل إلى نعيمه وتصديق رسله

وبتخصيصهم بما خصهم به من المطاعم والمشارب والملابس، وهذا لا يتسع فيه حيوان اتساع بني آدم؛ لأنهم يكسبون المال خاصة دون الحيوان، ويلبسون الثياب، ويأكلون المركبات من الأطعمة، وغاية كل حيوان يأكل لحما نيئاً أو طعاماً غير مركب.

ثم قال جل شأنه: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} قال المفسرون: فضلناهم على البهائم والدواب، والوحوش والطير بالغلبة والاستيلاء، والثواب والجزاء، والحفظ والتمييز، وإصابة الفراسة.

فالإنسان مكرم لكل ذلك؛ لأنه متحمل الأمانة، وخليفة الله في أرضه، والمطالب بالتعمير والإصلاح، والتطور والتقدم في ظل شرع الله تعالى.

ومن أجل ذلك سخر الله جل شأنه له سائر الخلق في السماء وفي الأرض، وجعله مسلطاً على غيره من المخلوقات، ينتفع بها ويحيا عليها

وميزه عنها بأنه جعل له حق تملكها والانتفاع بها، وجعلها موضع ملكه ومنتفعاً بها

، والملك قدرة والانتفاع حق، جعلهما في يده فأصبح مالكاً منتفعاً، وأصبح غيره مملوكاً منتفعاً به، ومن هنا لم يخضع الإنسان شرعاً لما يخضع له الحيوان من جواز بيعه والتصرف فيه؛ لأن فعل ذلك في الإنسان إذلال، وقلب للحقيقة الشرعية والحكمة الإلهية التي حبته بكل هذه الصفات.

(1) الآية: 70 من سورة الإسراء

ص: 188

ثانياً: السنة النبوية المطهرة:

ورد في الحديث القدسي أن الله تعالى يخاصم من يخضع الإنسان لما يخضع له الحيوان من بيعه والتصرف فيه.

روى البخاري بإسناده (1) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خاصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجره)) (2) .

وزاد ابن خزيمة وابن حبان والإسماعيلي في هذا الحديث: ((ومن كنت خصمه فقد خصمته)) قال ابن التين: هو سبحانه وتعالى خصم لجميع الظالمين إلا أنه أراد التشديد على هؤلاء (الثلاثة) بالتصريح

. وقال العسقلاني في ((باع حراً فأكل ثمنه)) : خص الأكل بالذكر لأنه أعظم مقصود، والمراد به كما هو واضح النهي عن إخضاع الإنسان الحر للتصرفات التي تخضع لها سائر الحيوانات والكائنات المسخرة لخدمة الإنسان، والتي أبيح له تملكها والتصرف فيها بالبيع وغيره من التصرفات الناقلة للملكية أو للانتفاع. قال ابن الجوزي: الحر عبد الله فمن جنى عليه فخصمه سيده) .

ونقل ابن حجر (الإجماع على منع بيع الحر (3) كما سنوضح ذلك في الفقرة التالية، وقد وردت أحاديث تبين حرمة دم الإنسان على أخيه.

روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن دماءكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام))

ورواه أحمد.

وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحاسدوا ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناًً)) . ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ههنا)) ويشير إلى صدره ثلاث مرات ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) .

(1) سنده في البخاري: حدثني يحيى بن سليم، عن إسماعيل بن أمية، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم (الحديث) تحت باب (إثم من باع حرا)

(2)

وفي رواية أبي داود من حديث عبد الله بن عمر: (ثلاثة لا تقبل لهم صلاة. فذكر فيهم: ورجل اعتبد محرراً) .

(3)

فتح الباري لابن حجر العسقلاني: ج4 ص 346، 347 طبعة أولى سنة 1300

ص: 189

ثالثاً: الفقه الإسلامي:

يحرم بيع الإنسان الحر باتفاق العلماء، وكل عقد يرد عليه يكون باطلاً، ومجري هذا العقد يكون آثماً، وإليك النصوص الفقهية الدالة على ذلك:

(أ) الحنفية ينصون على أن:

(الآدمي مكرم شرعاً، وإن كان كافراً فإيراد العقد عليه، وابتذاله به، وإلحاقه بالجمادات إذلال له. أي وهو غير جائز

) (1) . أي لأن الله تعالى قد كرمه وفضله كما نص عليه في الكتاب، ولابن نجيم في القاعدة السابعة:(إن الحر لا يدخل تحت يد أحد فلا يضمن بالغصب ولا صبياً) ص 119.

(ب) المالكية: يرون أن لحم ابن آدم محرم، والمحرم لا يجوز بيعه ولا التصرف فيه (2) .

(ج) : الشافعية: ينصون على أن بيع الحر حرام (3) . للحديث: ((ثلاثة أنا خصمهم)) وقال النووي: (بيع الحر باطل بالإجماع) .

(د) الحنابلة: ينصون على أنه:

(لا يصح بيع الحر؛ لقوله عليه السلام: ((ثلاثة أنها خصمهم يوم القيامة)) وذكر منهم ((رجلاً باع حراً وأكل ثمنه)) وقد تقدم نص الحديث (4) .

والظاهرية: يقررون أن (كل ما حرم أكل لحمه فحرام بيعه..)(5) .

(1) ابن عابدين: ج4 ث 110 وفتح القدير: ج5 ص 202

(2)

بداية المجتهد: ج2 ص 177

(3)

مغني المحتاج: ج2 ص 40، المجموع: ج9 ص 262

(4)

كشف القناع: ج3 ص11، والشرح الكبير: ج4 ص14

(5)

المحلى: ج4 ص 481.

ص: 190

والزيدية: ينصون على أنه (لا يجوز مطلقاً بيع الحر (ولو شعراً بعد انفصاله) باع نفسه أو باع غيره، فيؤدب العالم ـ بنظر الحاكم ـ لحريته، من البائع أو المشتري، أو هما جميعاً، إذا علما. والبيع باطل ولو جهلا، والثمن كالغصب لا في جميع وجوهه إلا في أربعة (1) سواء كان المشتري عالماً أو جاهلاً له (قرز) .

ويرد القابض للثمن ما قبضه إلى المشتري إن كان الثمن باقياً بعينه، كبيراً كان القابض أو صغيراً، إلا الصبي إذا باع نفسه، أو باع حراً غيره ثم قبض الثمن وأتلفه فلا يرد ما قد أتلف

) (2) .

والإمامية: ينصون على أنه: (لو باع ما لا يملكه مالك كالحر وفضلات الإنسان

لم ينعقد) .

ومن هذا تبين لنا أن الفقهاء قد اتفقوا على أن الحر لا يباع ولا يشترى، وإذا لم يصح هذا التصرف فيه مع أنه بمقابل، وهو الثمن، فمن باب أولى لا يصح هبته أو التبرع به؛ لأن الشرع الحكيم أبطل التصرف فيه بمقابل فمن باب أولى يبطله إذا لم يكن هناك مقابل، ولأن المشرع الحكيم لم يجعله ملكاً لأحد سواه، فلا يحق لأي كائن أن يتصرف فيه؛ لأن التصرف ـ معاوضة أو تبرعاً ـ إنما يكون فيما يملكه الإنسان، والإنسان غير مملوك للإنسان وإنما هو مملوك لخالقه وموجده جل شأنه.

ويجب أن ننوه هنا إلى أن (الرقيق) وقد انتهى أمره بعد أن اتفقت الدول والمجتمعات الإنسانية إلى منع الرق بجميع أنواعه، وهو ما يهدف إليه المشرع الحكيم، وما يشير إليه في حكم كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أن انتهاء الرق في هذا العصر لا يثير أي تساؤل بشأن الأحكام التي كانت تطبق عليه وقت وجوده.. وحتى في أثناء وجوده لا سلطان لأحد على جسمه وأجزاء جسمه إلا بحق. قال صلى الله عليه وسلم:((من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه)) رواه أحمد. وفي رواية أبي داود والنسائي بزيادة: ((ومن خصى عبده خصيناه)) .

فأهلية الرقيق موجودة، وعصمة دمه قائمة، وصيانة أعضائه مقررة، وإنما الرق أثر على أهليته للتملك، وعلى جعله سلعة يباع ويشترى ـ كلا أو جزءاً ـ قائماً لا مقطعاً

والآن ـ والحمد لله ـ قد تحقق هدف الشرع، وهو منع الرق بكل أنواعه من جميع العالم.. ومن ثم لا يثور أي تساؤل بشأنه في موضعنا هذا، ولا يصح أن يجعل ركيزة لشيء في موضوع بحثنا هذا (3) .

(1) شرح الأزهار: ج3 ص 30، والتاج المذهب: ج2 ص 340

(2)

يراجع هذه الفروق في التاج المذهب: ج2 ص 455

(3)

راجع كتاب الجنايات في الفقه الإسلامي: ج 1 ص200

ص: 191

المبحث الثامن

حكم بيع جزء من أجزاء الآدمي المتجددة

- حكم بيع لبن الآدمي

- حكم بيع شعر الآدمي

حكم بيع جزء من أجزاء الآدمي

لما كانت أجزاء النفس الإنسانية منها ما يتجدد شياً فشيئاً، أو ينمو إذا أخذ منه شيء ـ كاللبن والشعر والدم.

ومنه ما لا يتجدد إذا أخذ، كاليد والرجل والأذن والأنف، والعين، من الأجزاء الظاهرة، والقلب والرئة، والكلى، والطحال

من الأجزاء الباطنة.

ونعرض فيما يلي آراء الفقهاء في كلا النوعين:

النوع الأول: حكم بيع الأجزاء المتجددة من الإنسان:

- حكم بيع لبن الآدمي

لقد تعرض الفقهاء لحكم بيع هذه الأجزاء، وكان من أبرز هذه الأشياء المتجددة بيع لبن المرأة الحرة ـ إذا حلب ـ ونعرض فيما يلي بعض النصوص الفقهية ثم نتبعها بالرأي:

الحنفية:

ففي فتح القدير: (ولا يجوز بيع لبن امرأة في قدح) وقال الشافعي رحمه الله: يجوز بيعه لأنه مشروب طاهر.

ولنا (أي الحنفية) أنه جزء الآدمي، وهو بجميع أجزائه مكرم مصون عن الابتذال بالبيع

وعلق الكمال على ذلك بقوله: إن قوله: (في قدح) هذا القيد لبيان منع بيعه بعد انفصاله عن محله، فإنه لا يكون في قدح إلا بعد انفصاله، أما عين القدحية فليس قيداً، بل سائر الأواني سواء، وإنما هو قيد باعتبار لازمه، وهو انفصاله عن مقره، كي لا يظن أن امتناع بيعه ما دام في الضرع، كغيره، بل على سائر أحواله لا يجوز بيعه ولا يضمن متلفه، وهو مذهب مالك وأحمد.

ثم علق على قول الشافعي: وأنه (مشروب طاهر) فيجوز بيعه بقوله: (ونحن نمنع أنه مشروب مطلقاً، بل للضرورة، حتى إذا استغنى عن الرضاع لا يجوز شربه، والانتفاع به يحرم، حتى منع بعضهم صبه في العين الرمداء، وبعضهم أجازه إذا عرف أنه دواء عند البرء.

ونقول: هو جزء من الآدمي مكرم ومصون عن الابتذال بالبيع

ثم يقول: (وجواز البيع يتبع المالية ولا مالية للإنسان إلا ما كان محلاً للرق

فإن قيل: أجزاء الآدمي مضمونة فيجب كون اللبن كذلك يضمن بالإتلاف

أجيب بمنع ضمان أجزائه مطلقاً. بل المضمون ما انتقص من الأصل

ص: 192

ولابن عابدين أيضاً:

(ولا يجوز بيع لبن امرأة ولو في وعاء، ولو أمة على الأظهر، لأنه جزء آدمي، والرق يختص بالحي، ولا حياة في اللبن فلا يحله الرق.

قوله: (على الأظهر) أي ظاهر الرواية.

وعن أبي يوسف جواز بيع لبن الأمة لجواز إيراد البيع على نفسها، فكذا على جزئها، قلنا: الرق حل نفسها، فأما اللبن فلا رق فيه؛ لأنه يختص بمحل تتحقق فيه القوة التي هي ضده، وهو الحي، ولا حياة في اللبن. فلا يكون محلاً للعتق ولا للرق فكذا البيع، وأشار إلى أنه لا يضمن متلفه لكونه ليس بمال، وإلى أنه لا يحل التداوي في العين الرمداء، وفيه قولان، قيل بالمنع وقيل بالجواز، إذا علم فيه الشفاء ـ كما في الفتح هنا ـ وقال في موضع آخر: إن أهل الطب يثبتون نفعاً للبن البنت للعين، وهي من أفراد مسألة الانتفاع بالمحرم للتداوي كالخمر، واختار في النهاية والخانية الجواز إذا علم فيه الشفاء ولم يجد دواء غيره (بحر)(1) .

المالكية:

جاء في الفروق للقرافي في الفرق الخامس والثمانين والمائة بين قاعدة ما يجوز بيعه وقاعدة ما لا يجوز بيعه.

فقاعدة ما يجوز بيعه: ما اجتمع فيه شروط خمسة، وقاعدة ما لا يجوز بيعه: ما فقد منه أحد هذه الشروط الخمسة، فالشروط الخمسة هي الفرق بينهما وهي:

الشرط الأول: بقوله عليه السلام في الصحيحين: ((إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)) فقيل له: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويستصبح بها، فقال:((لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها)) .

الشرط الثاني: أن يكون منتفعاً به ليصح مقابلة الثمن له.

الشرط الثالث: أن يكون مقدوراً على تسليمه حذراً من الطير في الهواء، والسمك في الماء، ونحوهما، لنهيه عليه السلام عن بيع الغرر.

الشرط الرابع: أن يكون معلوماً للمتعاقدين، لنهيه عليه السلام عن أكل المال بالباطل.

الشرط الخامس: أن يكون الثمن والمبيع مملوكين للعاقد والمعقود له، أو من أقيما مقامه.

فهذه شروط في جواز البيع دون الصحة؛ لأن بيع الفضولي وشراءه محرم.

(1) ابن عابدين: جـ4 ص 118

ص: 193

وفي الشروط مسألتان:

المسألة الأولى: في الشرط الثاني قال صاحب الجواهر: يكفي أصل المنفعة وإن قَلَّت، وقلت قيمتها، فيصح بيع التراب والماء ولبن الآدميات، وقاله الشافعي وابن حنبل قياساً على لبن الغنم.

وقال أبو حنيفة رضي الله عنهم أجمعين: لا يجوز بيعه ولا أكله؛ لأنه جزء حيوان منفصل عنه في حياته فيحرم أكله فيمتنع بيعه.

وجوابه القياس المتقدم، وفرق هو بشرف الآدمي، وإباحة لبنه هو أنه استثنى منه الرضاع للضرورة، وبقي ما عداه على الأصل بخلاف الأنعام، بدليل تحريم لحمه تشريفاً له.

ويندفع الفرق بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أرضعت كبيراً فحرم عليها، فلو كان حراماً لما فعلت ذلك. ولم ينكر عليها أحد من الصحابة، فكان ذلك إجماعاً على إلغاء هذا الفرق.

وعلق على ذلك صاحب إدرار الشروق بقوله: (قلت ما قاله من أن فرق الحنفية يندفع بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أرضعت كبيراً فحرم عليها، لقائل أن يقول: لا يندفع بذلك، لجعل رضاع الكبير لقصد ثبوت التحريم، داخلاً فيما استثني للضرورة..) .

الشافعية: جاء في المجموع جـ9 ص 276:

(فرع) بيع لبن الآدميات جائز عندنا لا كراهة فيه، هذا هو المذهب، وقطع به الأصحاب إلا الماوردي والشاشي والروياني، فحكوا وجهاً شاذا عن ابن القاسم الأنماطي من أصحابنا أنه نجس لا يجوز بيعه، وإنما يربى به الصغير للحاجة، وهذا الوجه غلط من قائله، وقد سبق بيانه في باب إزالة النجاسة، فالصواب جواز بيعه، قال الشيخ أبو حامد: هكذا قاله الأصحاب، قال: ولا نص للشافعي في المسألة، هذا مذهبنا.

وقال أبو حنيفة ومالك: لا يجوز بيعه. وعن أحمد روايتان كالمذهبين.

واحتج المانعون بأنه لا يباع في العادة، وبأنه فضلة آدمي فلم يجز بيعه، كالدمع والعرق والمخاط، وبأن ما لا يجوز بيعه متصلاً لا يجوز بيعه منفصلاً، كشعر الآدمي، ولأنه لا يؤكل لحمها فلا يجوز بيع لبنها كالأتان.

واحتج أصحابنا بأنه لبن طاهر منتفع به، فجاز بيعه كلبن الشاة، ولأنه غذاء للآدمي فجاز بيعه كالخبز (فإن قيل) : هذا منتقض بدم الحيض فإنه غذاء للجنين ولا يجوز بيعه.

قال القاضي أبو الطيب في تعليقه: (فالجواب) أن هذا ليس بصحيح ولا يتغذى الجنين بدم الحيض، بل يولد وفمه مسدود لا طريق فيه لجريان الدم، وعلى وجهه المشيمة، ولهذا أجنة البهائم تعيش في البطون ولا حيض لها، ولأنه مائع يحل شربه فجاز بيعه كلبن الشاة. قال الشيخ أبو حامد:(فإن قيل) : ينتقض بالعرق (قلنا) : لا نسلم بل يحل شربه، (وأما) الجواب عن قولهم: لا يباع في العادة، فإنه لا يلزم من عدم بيعه في العادة أن لا يصح بيعه، ولهذا يجوز بيع بيض العصافير، وبيع الطحال، ونحو ذلك مما لا يباع في العادة، والجواب عن القياس على الدمع والعرق والمخاط أنه لا منفعة فيه بخلاف اللبن، وعن البيض بأنه لا يجوز الانتفاع به بخلاف اللبن، وعن لبن الأتان بأنه نجس بخلاف لبن الآدمية، والله تعالى أعلم) .

ص: 194

الحنابلة:

جاء في كشف القناع ج2 ص 8:

(ويصح بيع لبن آدمية ولو كانت حرة، أي: المنفصل منها، لأنه طاهر منتفع به كلبن الشاة، ولأنه لا يجوز أخذ العوض عنه في إجازة الظئر فيضمنه متلفه.

ويكره للمرأة بيع لبنها نص عليه.

ولا يصح بيع لبن رجل، فلا يضمن بإتلاف) .

وجاء في الشرح الكبير ج4 ص 12: (فأما بيع لبن الآدميات فرويت الكراهة فيه عن أحمد، واختلف أصحابنا في جوازه، وهو قول أبي حامد ومذهب الشافعي.

وذهب جماعة من أصحابنا إلى تحريم بيعه، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، ولأنه مائع خارج من آدمية، فلم يجز بيعه كالعرق ولأنه جزء من آدمي فلم يجز بيعه أشبه سائر أجزائه.

ثم تابع ابن قدامة تحليلاً مرجحا بأحد الرأيين فقال:

والأول أصح؛ لأنه ظاهر منتفع به، فجاز بيعه كلبن الشاة، ولأنه يجوز أخذ العوض عنه في إجارة الظئر، فأشبه المنافع، ويفارق العرق فإنه لا نفع فيه ولذلك لا يباع عرق الشاة ويباع لبنها، وسائر أجزاء الآدمي يجوز بيعها فإنه يجوز بيع العبد والأمة، وإنما حرم بيع الحر لأنه غير مملوك، وحرم بيع العضو المقطوع منه لأنه لا نفع فيه) .

الظاهرية:

جاء في المحلى لابن حزم جـ4 ص 481:

(وكل ما حرم أكل لحمه فحرام بيعه ولبنه؛ لأنه بعضه ومنسوب إليه وبالله تعالى التوفيق، إلا ألبان النساء فهي حلال كما ذكرنا قبل وبالله تعالى التوفيق) .

وجاء في بداية المجتهد جـ2 ص 127:

(ومن مسائلهم المشهورة في هذا الباب اختلافهم في جواز بيع لبن الآدميات إذا حلب؛ فمالك والشافعي يجوزانه، وأبو حنيفة لا يجوزه) .

وعمدة من أجاز بيعه أنه لبن أبيح شربه، فأبيح بيعه قياساً على سائر الأنعام. وأبو حنيفة يرى أن تحليله إنما هو لمكان ضرورة الطفل إليه، وأنه في الأصل محرم، إذ لحم ابن آدم محرم، والأصل عندهم أن الألبان تابعة للحوم، فقالوا في قياسهم: هكذا الإنسان حيوان لا يؤكل لحمه، فلم يجز بيع لبنه، أصله لبن الخنزير والأتان) .

ص: 195

المقارنة والترجيح:

المقارنة: اختلف الفقهاء في حكم بيع لبن الآدمية الحرة إذا حلب إلى رأيين:

الرأي الأول: يرى الحنفية والمالكية (1) وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة، والزيدية أنه لا يجوز بيعه، وقد استندوا في ذلك إلى الأدلة التالية:

1-

أن الآدمي مكرم شرعاً (2) لا مبتذل، فلا يجوز أن يكون شيء من أجزائه مهاناً مبتذلاً ـ وبيعه، أو بيع جزء من أجزائه إهانة وابتذال له ـ وهذا لا يجوز شرعاً ـ أو نقول: هو جزء من الآدمي مكرم مصون عن الابتذال بالبيع.

2-

أن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيحين: ((لعن الواصلة والمستوصلة)) والواصلة هي التي تصل الشعر بشعر النساء، والمستوصلة المعمول بإذنها ورضاها.

وهذا اللعن إنما كان بسبب الانتفاع بما لا يحل الانتفاع به شرعاً، ألا ترى أنه رخص في اتخاذ القراميل، وهي ما يتخذ من الوبر ليزيد في قرون النساء للتكثير، فظهر أن اللعن ليس للتكثير مع عدم الكثرة، وإلا لمنع القراميل، ولا شك أن الزينة حلال، قال الله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32 ـ ولولا لزوم الإهانة بالاستعمال لحل وصلها بشعور النساء أيضاً.

3-

أن جواز البيع يتبع المالية ـ أي أن يكون الشيء مالا ـ ولا مالية للإنسان الحر.

4-

أنه مائع خارج من آدمية، فلم يجز بيعه كالعرق.

5-

أنه جزء حيوان منفصل عنه في حياته، فيحرم أكله، فيمتنع بيعه.

- وفي هذا الاستدلال إشارة إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه قوله: ((ما أبين من الحي فهو ميت)) و ((ما قطع من حي فهو ميتة)) رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين، وإذا كان ميتاً فإنه لا يجوز بيعه ولا الانتفاع به ـ على الوجه والرأي الذي يجري على الميتة.

(1) سبق نقل النص

(2)

سبق ذكر الآيات والأحاديث الدالة على ذلك.

ص: 196

الرأي الثاني: يرى مالك (1) والشافعية في رأي آخر وبعض الحنابلة (2) والظاهرية جواز بيع لبن الآدمية الحرة إذا حلب، وقد استدلوا على ذلك بما يأتي:

1-

أن هذا اللبن هو لبن أبيح شربه، فأبيح بيعه قياساً على لبن سائر الأنعام.

2-

أو هو مشروب طاهر ننتفع به، وما كان كذلك يجوز بيعه قياساً على المشروبات الطاهرة المنتفع بها.

3-

أن في اللبن منفعة، فهو شيء منتفع به، وأنه يكفي في جواز بيع الشيء وجود أصل المنفعة وإن قلَّت وقلَّت قيمتها، فيصح بيع التراب والماء ولبن الآدميات قياسا على لبن الغنم.

الترجيح: والناظر في الأدلة التي استند إليها كل من الرأيين يجد رجحان الرأي الأول الذي يرى عدم جواز بيع لبن الآدمية الحرة وذلك للاعتبارات التالية:

أولاً: لا ينكر أحد من العلماء ـ سواء من منع أو من أجاز ـ أن الآدمي مكرم شرعاً وأنه غير مبتذل، وأن البيع وما شابهه من التصرفات إهانة وابتذال للشيء المبيع وإخضاع له لإرادة بائعه والمتصرف فيه

) وأن الإهانة والابتذال للإنسان لا تجوز شرعاً بالاتفاق.

ثانياً: أن الآدمي الحر ليس مالاً يباع ويشترى، ويوهب ويتصدق به. ويؤكل

وهذا بالاتفاق أيضاً ـ ومن ثم لا يجري عليه ما يجري على الأموال

، وإذا نظرت في تعريف الفقهاء للمال عرفت حقاً أن الإنسان ليس مالاً عند جميع الفقهاء.

فالمال عرفه بعض الحنفية بأنه (ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره للانتفاع به وقت الحاجة)، وعرفه بعضهم بأنه:(اسم لغير الآدمي خلق لصالح الآدمي، وأمكن إحرازه والتصرف فيه على وجه الاختيار) وعرفه آخرون بأنه: (ما يميل إليه الطبع ويجري فيه البذل والمنع، فخرج التراب ونحوه) .

(1) نقل الحنفية والشافعية والحنابلة أن مالكاً لا يجوز بيعه، ونقل ابن رشد أن مالكاً يجوز بيعه، ومثله ما أورده القرافي في فرقه 185. وإن كان قد اقتصر على رأي القائلين بعدم جواز بيعه، وقد سبق نقل النص.

(2)

ورد في كشف القناع: جـ2 ص8 (ويصح بيع لبن آدمية ولو كانت حرة.. ويكره للمرأة بيع لبنها نص عليه، ولا يصح بيع لبن رجل فلا يضمن بإتلاف

ص: 197

وعرفه الزركشي (1) الشافعي بتعريف يحصر دائرة المال في:

(المال ما كان منتفعاً به، أي مستعداً لأن ينتفع به، وهو إما أعيان أو منافع) أي منافع الأعيان.

والأعيان قسمان: جماد وحيوان.

فالجماد مال في كل أحواله.

والحيوان ينقسم إلى قسمين: ما ليس له بنية صالحة للانتفاع، فلا يكون مالاً كالذباب والبعوض والخنافس والحشرات.

وإلى ما له بنية صالحة (للانتفاع به) ، وهذا ينقسم إلى ما جبلت طبيعته على الشر والإيذاء كالأسد والذئب، وليست مالا، وإلى ما جبلت طبيعته على الاستسلام والانقياد كالبهائم والمواشي، فهي أموال.

والسر فيه أن استعمال الجمادات ممكن على سبيل القهر، إذ ليس لها قدرة وإرادة يتصور منها الامتناع.

وأما الحيوان فهو مختار في الفعل، فلا يتصور استعمالها إلا بمساعدة منها، فإذا كانت مجبولة على طبيعة الاستسلام أمكن استعمالها واستسخارها في المقاصد، بخلاف ما طبيعته الشر والإيذاء، فإنها تمتنع وتستعصي، وتنتهي إلى ضد غرض المستعمل، ولهذا إذا صالت تلك الحيوانات التحقت بالمؤذيات طبعاً في الإهدار) .

كما بين أيضاً اختلافهم في كون المنفعة مالا، ثم بين أن الشافعية اتفقوا على أن المنافع لا تندرج تحت مطلق اسم المال، لكن قالوا: يطلق عليها أنها مال، أما على طريق الحقيقة فلا يطلق عليها أنها مال.

وعرف الحنابلة المال شرعاً بأنه ما فيه منفعة مباحة لغير حاجة أو ضرورة، أو بأنه ما يباح بيعه مطلقاً ـ أي في كل الأحوال ـ أو يباح اقتناؤه بلا حاجة، فخرج ما لا نفع فيه كالحشرات ـ وما فيه نفع محرم كخمر، وما لا يباح إلا عند الاضطرار كالميتة، وما لا يباح اقتناؤه إلا لحاجة كالكلب.

(1) الزركشي: جـ3 ص 222

ص: 198

ومن هذه التعريفات للأموال يتضح لنا أن الإنسان ليس من الأعيان التي يقال عنها: إنها مال، أو أنه يجري عليها الملك، أو أنه يجوز التصرف فيها كما يتصرف في الأموال.

ثالثاً: أن قول المجيزين لبيع لبن الآدمية الحرة: إن اللبن مشروب طاهر منتفع به فيحل بيعه قياساً على حل بيع المشروبات الطاهرة المنتفع بها

يمكن أن يراد عليهم بما يرد عليهم به الحنفية حيث قالوا:

(نحن نمنع أنه مشروب مطلقاً، بل للضرورة، حتى إذا استغنى الطفل عن الرضاع لا يجوز شربه، والانتفاع به يحرم) .

ثم بين المذهب أن خلافاً جرى في كونه يصح الانتفاع به في التداوي فقالوا: (إن بعض العلماء منع صبه في العين الرمداء، وبعضهم أجازه إذا علم فيه الشفاء، وقد نقل ابن عابدين عن فتح القدير أن أهل الطب يثبتون نفعاً للبن البنت للعين، وهي من أفراد مسألة الانتفاع بالمحرم للتداوي كالخمر، واختار في النهاية والخانية الجواز إذا علم فيه الشفاء، ولم يجد دواء غيره.

فالقول في الاستدلال بأنه مشروب طاهر إلى آخره، منعه بعض الفقهاء ولم يجعلوه مشروباً طاهراً جائزاً بيعه، بل قالوا: إنه ليس مشروباً وإنه أبيح استثناء رضاعه للطفل حفاظاً على حياته

وفيما عدا ذلك يحرم، فهذا الدليل غير مسلم عند كل الفقهاء فهو استدلال بمختلف فيه، ومثله لا يصلح للاستدلال، وتبقى الأدلة الأخرى سالمة عن المعارضة.

رابعاً: أن القول بأنه منتفع به، وإن ما كان منتفعاً به وإن قلت منفعته يجوز بيعه، غير مسلم على إطلاقه؛ إذ كل المحرمات لا تعدم نوعاً من النفع، وحسبنا قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] .

ص: 199

فالمشرع قد أهدر المنفعة هنا حين حرم تناول الخمر ولعب الميسر

، ومثل ذلك يجري في كل المحرمات.

فلا بد لإباحة التصرف في الشيء أن يكون أصل الشيء حلالاً في ذاته، مباحاً في ذاته له، فإذا وجد فيه منفعة وإن قلت أبيح بيعه والتصرف فيه لمن ملكه، فمن ملك شيئاً ولو قل نفعه، أبيح له بيعه أو بيع جزء منه. فهل ملك الإنسان نفسه، أو ملك أحد إنساناً حراً حتى نقول بجواز أن يبيعه أو يبيع جزءاً منه، الإجابة على ذلك: لا؛ لأن الحر غير مملوك، وأنه يحرم المساس به كلا أو بعضاً إلا بحق

ومن هان يفترقان.

وحسبنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة أنا خصمهم.. منهم رجل باع حراً وأكل ثمنه)) .

خامساً: أن قياس لبن الآدميات في جواز بيعه على لبن الغنم قياس مع الفارق وذلك لما يأتي:

1-

أن الإنسان مالك للغنم والغنم مملوكة له، وشتان بين الأمرين.

2-

أن لحم الإنسان محرم، ولحم الغنم حلال.

3-

أن الإنسان مكرم غير مبتذل، والغنم مسخرة للإنسان ومبتذلة له. وشتان بين الأمرين.

4-

أن لبن الآدميين تتعلق به أحكام دقيقة وخطيرة، حيث قال عليه الصلاة والسلام:((يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)) . ولا تتعلق بلبن الغنم أحكام، ومثل ذلك يجعل القياس مع الفارق ويوجب علينا عدم التوسع في أحكام هذا النوع من اللبن، بحيث يحلب ويباع ويشترى.

سادساً: أن قولهم بأن أجزاء الآدمي مضمونة ـ يعني عند التعدي عليه ـ سواء بالقصاص أو الدية أو حكومة العدل، فيجب أن يكون اللبن مضموناً بالإتلاف.

أجاب عنه الحنفية بمنع ضمان أجزاء الإنسان مطلقاً، بل المضمون ما انتقص من الأصل حتى لو نبتت السن التي قلعت لا ضمان، إلا ما يستوفى بالوطء فإنه مضمون وإن لم ينتقص شيئاً، تغليظاً لأمر البضع، فجعل ما يستوفى بالوطء في حكم النفس، بخلاف من جز صوف شاة، فإنه يضمن وإن نبت غيره، وبإتلاف اللبن لا ينتقص شيء من الأصل، ولأن حرمة المصاهرة تثبت بشربه، ففي إشاعته ببيعه فتح لباب فساد الأنكحة، فإنه لا يقدر على ضبط المشترين والبائعين فيشيع فساد الأنكحة بين المسلمين.

ثم قال الكمال بن الهمام: وإن كان هذا يندفع إذا كانت حرمة شربه شائعة بالدار (دار الإسلام) فيعلم أن شراءه ليس إلا لمنفعة أخرى ـ كشراء الأمة المجوسية بعد اشتهار حرمة وطئها شرعاً، لكنهم يجيزون شربه للكبير.

هذا ولقد روي عن محمد بن الحسن أنه قال: (جواز إجارة الظئر دليل على فساد بيع لبنها؛ لأنه لما جازت الإجارة ثبت أن سبيله سبيل المنافع، وليس سبيله سبيل الأموال؛ لأنه لو كان مالاً لم تجز الإجارة، ألا ترى أن رجلاً لو استأجر بقرة على أن يشرب لبنها لم تجز الإجارة، فلما جاز إجازة الظئر ثبت أن لبنها ليس مالاً.

لكل هذه الاعتبارات أرى عدم جواز بيع لبن الآدمية الحرة ولا الآدمي، كما لا يجوز بيعهما ولا بيع شيء من أجزائهما.

ص: 200

حكم بيع شعر الآدمي

ولقد أبرز بعض الفقهاء حكم بيع شعر الإنسان، ونصوا عليه مبينين ما استندوا إليه من أدلة، وأغفل ذكره البعض معتمدين على أنه جزء الإنسان فيسري عليه ما يسري، على بقية أجزائه من حرمة بيعها، وكان من أبرز الموضحين لحكمه فقهاء الحنفية، والظاهرية، والزيدية إذ نصوا عليه صراحة:

ونورد فيما يلي بعضاً من النصوص الفقهية في هذا الموضوع.

أولا: الحنفية.

جاء في البداية:

(ولا يجوز بيع شعور الإنسان ولا الانتفاع بها؛ لأن الآدمي مكرم لا مبتذل، فلا يجوز أن يكون شيء من أجزائه مهاناً ومبتذلاً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((لعن الله الواصلة والمستوصلة)) الحديث.

وإنما يرخص فيما يتخذ من الوبر فيزيد في قرون النساء وذوائبهن.

وقال الكمال تعليقاً على ذلك: (لا يجوز بيع شعور الإنسان مع قولنا بطهارته، ولا الانتفاع بها

وفي بيعه إهانة له، وكذا في امتهانه بالانتفاع، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيحين:((لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة)) فالواصلة هي التي تصل الشعر بشعر النساء، والمستوصلة المعمول بها بإذنها ورضاها، وهذا اللعن للانتفاع بما لا يحل الانتفاع به، ألا ترى أنه رخص في اتخاذ القراميل، وهي ما يتخذ من الوبر ليزيد في قرون النساء للتكثير، فظهر أن اللعن ليس للتكثير مع عدم الكثرة، وإلا لمنع القراميل، ولا شك أن الزينة حلال قال الله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} (1) فلولا لزوم الإهانة بالاستعمال لحل وصلها بشعور النساء أيضاً) .

(1) الآية: 32. من سورة الأعراف

ص: 201

وجاء في العناية: (بيع شعور الآدميين والانتفاع بها لا يجوز، وعن محمد أنه يجوز الانتفاع بها، استدلالا بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين حلق رأسه قسم شعره بين أصحابه، فكانوا يتبركون به، ولو كان نجساً لما فعله، إذ النجس لا يتبرك به.

وجه ظاهر الرواية أن الآدمي مكرم شرعاً غير مبتذل، وما هو كذلك لا يجوز أن يكون شيء من أجزائه مبتذلاً مهاناً، وفي البيع والانتفاع كذلك، ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:((لعن الله الواصلة والمستوصلة)) والواصلة من تصل الشعر والمستوصلة من يفعل بها ذلك

) (1) .

(1) فتح القدير: جـ5 ص302، وقد أورد البابرتي اعتراضاً هادفاً، وقام بالرد عليه، ونورده في ما يلي نظراً لما يؤكده من النظرة التكريمية للآدمي حيث يقول:(فإن قيل جعل المصنف (المرغيناني) رحمه الله بيع شعر الخنزير إعزازاً له فيما تقدم وجعل بيع شعر الآدمي إهانة له، والبيع حقيقة واحدة، فكيف يجوز أن يكون موجباً لأمرين متنافيين؟؟ وأجيب بأن البيع مبادلة (مال بمال) فلا بد فيه من المبيع، فإن كان مما حقره الشرع فبيعه ومبادلته بما لم يحقره إعزاز له، فلا يجوز لإفضائه إلى إعزاز ما حقره الشرع، وإن كان ما كرمه وعظمه فبيعه ومبادلته بما ليس كذلك إهانة له، فلا يجوز لإفضائه إلى تحقير ما علمه الشرع، فليس ذلك من البيع في شيء، وإنما هو من وصف المحل شرعاً. ثم إن عدم جوازهما ليس للنجاسة على الصحيح؛ لأن شعر غير الإنسان لا ينجس بالمزابلة، فشعره وهو طاهر أولى، ولأن في تناثر الشعر ضرورة، وهي تنافى النجاسة. وقال الشافعي: نجس لحرمة الانتفاع به، وهو محجوج للضرورة. ولا بأس باتخاذ القراميل، وهي ما يتخذ من الوبر ليزيد في قرون النساء، أي في أصول شعرهن بالتكثير، وفي ذوائبهن بالتطويل. وقد علق قاضي زاده على قول البابرتي: (واجيب بأن البيع مبادلة فلا بد فيه من البيع

إلخ) بقوله: (أقول: فيه بحث؛ إذ لو تم ما ذكره لكان البيع بما يماثله في التحقير والتعظيم جائزاً، وليس كذلك، إلا أن يقال: لا نظير لذلك في الشرع وفيه تأمل. أو يقال ما ذكرته كلام على السند، ولعل الأولى أن يقال في جواب أصل السؤال: إن بعض الأشياء خلق مالكاً فجعله مملوكاً إهانة له، لكونه حطاً عن درجته، وبعض الأشياء أخرجه الله تعالى عن دائرة الانتفاع والمملوكية، فجعله مملوكاً رفع له عن درجته، ولا بعد في إيجاب الشيء الواحد أمرين متنافيين في محلين مختلفين، ألا يرى أن الشمس تبيض الثوب، وتسود وجه القصار، وتعقد الملح وتذيب الشمع، فليتأمل) .

ص: 202

وجاء في ابن عابدين: (مطلب الآدمي مكرم شرعاً ولو كافراً. ويبطل بيع شعر الإنسان لكرامة الآدمي، ولو كافراً، ذكره المصنف وغيره) حيث قال: والآدمي مكرم شرعا، وإن كان كافرا، فإيراد العقد عليه، وابتذاله به، وإلحاقه بالجمادات إذلال له. اهـ. أي وهو غير جائز وبعضه (أي بعض الإنسان) في حكمه، وصرح في فتح القدير ببطلانه ط. قلت: وعليه أنه يجوز استرقاق الحربي وبيعه وشراؤه وإن أسلم بعد الاسترقاق؟ إلا أنه يجاب بأن المراد تكريم صورته وخلقته، ولذا لم يجز كسر عظام ميت كافر، وليس ذلك محل الاسترقاق، والبيع والشراء، بل محله النفس الحيوانية، فلذا لا يملك بيع لبن أمته في ظاهر الرواية كما سيأتي) (1) .

الظاهرية:

لقد أوردنا آنفاً قول الظاهرية: (وكل ما حرم أكل لحمه فحرام بيعه ولبنه؛ لأنه بعضه ومنسوب إليه - وبالله تعالى التوفيق - إلا ألبان النساء فهي حلال كما ذكرنا قبل وبالله تعالى التوفيق) .

وهو دل دلالة واضحة على أن بيع شعر الإنسان، أو أي عضو منه حرام إلا ألبان النساء عندهم فقط.

الزيدية:

وما نقلناه عن الزيدية فيما سبق يدل على تحريم بيع شعور الآدميين حيث قالوا: (لا يجوز مطلقاً بيع الحر ولو شعراً بعد انفصاله، باع نفسه أو باعه غيره

) .

ومن هذه النصوص يتضح لنا عدم جواز بيع شعر الآدمي؛ لأنه بعض الإنسان، وبعضه منسوب إليه، وقد كرم الله الإنسان وحرم بيعه، فيكون بيع شعره حراماً كحرمته هو.

(1) ابن عابدين: ج4 ص 110

ص: 203

المبحث التاسع

حكم بيع جزء من أجزاء الآدمي غير المتجددة

حكم بيع جزء من أجزاء الآدمي

غير المتجددة

لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان فأبدع خلقه، وسواه فأحسن تسويته،

قال تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (1) .

وقال: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} (2)

وقال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (3)

فالإنسان هو أمارة القدرة الإلهية، ودليل الإبداع الإلهي، فكل ما فيه خلق لحكمة، وكل ما فيه خلق لغاية، ولم يوجد شيء فيه خلق عبثاً، أو دون حكمة أو هدف؛ إذ كل ما يصدر عنه جل شأنه كمال، وكل ما يخلقه هو قمة الإبداع.

ومن ثم كانت أجزاء الإنسان الظاهرة والباطنة هي مكوناته، وهي حقيقته، وهي المؤلفة لوحدة هذا الجسم وتناسقه وحمايته على المدى القريب والبعيد، وهي المؤدية لغاياته، والمناط بها استمرار حياته إلى نهاية الأجل الذي كتبه الله جل شأنه له

هذه حقيقة أولى.

أما الحقيقة الثانية فهي أن كل جزء من أجزاء الإنسان خلق ليؤدي وظيفة معينة في الجسم الآدمي، ويقوم بمهام محددة ضمن الإطار العام

ولم يخلق أي جزء فيه عبثاً، أو دون هدف، أو زائداً عن الحاجة.

وأما الحقيقة الثالثة فهي أن الشريعة الإسلامية حرمت بيع الإنسان أو التصرف فيه، كما سبق أن أوضحناه.

ومن ثم انبثق عن هذه الحقيقة حرمة بيع أي جزء من أجزائه غير المتجددة ظاهراً كان العضو أو باطناً، كان مكرراً كالكلى أو الخصية أو الرئة، أو غير مكرر، كالقلب أو الطحال أو الكبد.

(1) الآية: 14 من سورة المؤمنون

(2)

الآيتان7، 8 من سورة الانفطار

(3)

الآية: 4 من سورة التين.

ص: 204

إذ هذه الأجزاء جميعها هي مكونات الآدمي من لحم وعظم، وإن أخذ كل عضو من أعضائه اسماً معيناً إلا أنها أجزاء الحقيقة، فما تأخذه الحقيقة الكلية من حكم يأخذه كل جزء من أجزائها؛ لأنها نفس واحدة، وروح واحدة، فإذا حرم التصرف في الآدمي حرم التصرف في كل جزء من أجزائه.

(ومن ثم رأينا الحنفية لا يجوزون بيع شعر الإنسان ولا الانتفاع به

، ولا بيع لبن امرأة إذا حلب

كما سبق أن ذكرنا ـ وعللوا ذلك بأن الآدمي مكرم شرعاً وإن كان كافراً، فإيراد العقد عليه، وابتذاله به، وإلحاقه بالجمادات إذلال له، وإذلاله غير جائز، وبعض الإنسان في حكمه، وصرح في فتح القدير ببطلان بيعه.

فسائر أجزاء الآدمي لا يجوز بيعها سواء كانت متجددة أو غير متجددة عندهم.

المالكية: ولقد بين القرافي في النص المنقول آنفاً أن الأصل حرمة أجزاء الآدمي، وأن إباحة اللبن هو أنه استثنى منه الرضاع للضرورة، وقيس ما عداه على الأصل، بخلاف الأنعام بدليل تحريم لحمه تشريفاً له

الشافعية: وقد نطق فقه الشافعية بذلك أيضاً.

فقد نص الشافعية على قاعدة عامة في التصرف في الحر وهي: (الحر لا يدخل تحت اليد والاستيلاء)(1) . ومؤاده أنه لا يملك، وإذا كان الحر لا يملك، فإنه لا يجري عليه بيع ولا هبة ولا أي تصرف من التصرفات التي تجري على الشيء المملوك.

كما ينصون على أنه: (يحرم جزماً على شخص قطعه (أي بعض نفسه) لغيره من المضطرين، لأن قطعه لغيره ليس فيه قطع البعض لاستيفاء الكل

) وقد سبق النص. ثم ينصون على قاعدة شرعية تمنع التصرف فيما لا يحل للإنسان، ولا يدخل في ملكه وهي:(من لا يملك التصرف لا يملك الإذن فيه)(2) .

(1) المنشور من القواعد للزركشي الشافعي: جـ2 ص 43

(2)

المنشور من القواعد للزركشي الشافعي: ج3 ص 211

ص: 205

وفي قاعدة أخرى: (ما حرم أخذه حرم إعطاؤه)(1) .

ومن ثم كان محرماً على أي شخص أن يقلع جزءاً من نفسه لغيره، وإذا كان ذلك حراماً فلا يصح حينئذ أخذ عوض عنه، أو التبرع به، لأن ما لا يجوز بيعه لا يجوز هبته، وما جاز بيعه جاز هبته كما هي القاعدة الشرعية أيضاً التي نصوا عليها.

وإذا كان هناك رأي للشافعية في صحة بيع لبن الآدمي إذا حلب، فإنه خاص بهذا فقط، دون غيره من أجزاء الإنسان؛ إذ يحرم عندهم التصرف فيها كلا أو بعضا.

والحنابلة: يرون حرمة بيع أجزاء الإنسان، ولقد وضحوا رأيهم هذا صراحة عند عرضهم اختلاف الفقهاء في حرمة بيع لبن الآدمي إذا حلب، فالإمام أحمد روي عنه كراهته وجماعة من الحنابلة يحرمون بيعه، كالحنفية والمالكية ويعللون ذلك (بأنه جزء من آدمي فلم يجز بيعه

) أشبه سائر أجزائه.

وأما الرأي المخالف لذلك من بينهم والذين رأوا تصحيحه وهو جواز بيع لبن الآدمي لأنه طاهر منتفع به

قالوا: (وإنما حرم بيع الحر، لأنه غير مملوك، وحرم بيع العضو المقطوع منه، لأنه لا نفع فيه) .

والظاهرية: يرون ـ كما سبق أن نقلناـ: (أن كل ما حرم أكل لحمه فحرام بيعه ولبنه؛ لأنه بعضه ومنسوب إليه - وبالله تعالى التوفيق - إلا ألبان النساء فهي حلال

) . ومنه يتبين حرمة بيع أجزاء الآدمي غير اللبن عندهم.

والزيدية: يقولون بأبلغ تعبير: (لا يجوز مطلقاً بيع الحر ولو شعراً بعد انفصاله، باع نفسه أو باعه غيره (2) .ثم أوجبوا تأديب من يفعل ذلك أو تعزيزه بما يراه الحاكم.

والإمامية: أيضاً لا يجوزون بيع ما لا يملك كالإنسان الحر، ومقتضاه أنهم لا يجوزون بيعه كلا أو بعضاً؛ لأن ما لا يدخل تحت ملك الإنسان لا يجوز له التصرف فيه.

(1) الأشباه للسيوطي: ص 150

(2)

سبق ذكر النص جميعه

ص: 206

والإنسان وأجزاؤه لا يدخل تحت ملك الإنسان فلا يملك نفسه، ولا يملكه غيره، وقد فهم بعض الباحثين من قول صاحب المغني:(وحرم بيع العضو المقطوع منه لأنه لا نفع فيه) تقدم النص آنفاً: أنه يريد مطلق النفع، وقال: إن الفقهاء لو رأوا نفع نقل الأعضاء كما في العصر الحديث لوافقوا على بيعها، وجعل ذلك أساساً لقوله بجواز بيع الأعضاء الآدمية.

وهذا الفهم مجاف للصواب؛ لأن المحرم مهدر النفع شرعاً، ولا يعتمد بنفعه، وإلا فكل ما في الكون من المحرمات فيها نفع، وفيها ضرر، ولكن الشرع أهدر ما فيها من نفع ولم يعتد به رغم وجوده عقلاً وحسا.

انظر إلى الخمر والميسر، يقول الله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (1) ومع ذلك حرم الشرع شرب الخمر وبيعها والانتفاع بها، (وحرم الميسر ما قد يكون فيه من منافع) ويقول الشاطبي في موافقاته: جـ3 ص 120.

(ومن الفوائد في ذلك أن كل ما لا منفعة فيه من المعقود عليه في المعاوضات لا يصح العقد عليه، وما فيه منفعة أو منافع لا تخلو من ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يكون جميعها حراماً أن ينتفع بها، فلا إشكال في أنه جار مجرى ما لا منفعة فيه البتة) .

والثاني: أن يكون جميعها حلالا، فلا إشكال في صحة العقد به وعليه

والثالث: أن يكون بعض المنافع حلالا، وبعضها حراماً، فههنا معظم نظر المسألة، ثم يقول ص 122:(وما سوى ذلك مما يقصد بالبيع ولا يقصد في نفسه عادة إلا بالتبعية لا حكم له (وقد ورد تحريم الميتة وأخواتها، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم في شحم الميتة: إنه تطلى به السفن ويستصبح به الناس، فأورد ما دل على منع البيع، ولم يعذرهم بحاجتهم إليه في بعض الأوقات؛ لأن المقصود وهو الأكل محرم، وقال: ((لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها)) وقال في الخمر: ((إن الذي حرم شربها حرم بيعها، وإن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه)) .

(ولا شك أن الإنسان حرام دمه، بنصوص شرعية، وحرام بيعه بنصوص شرعية أيضاً، كما سبق أن ذكرنا ـ فلا عبرة بما في جميع أعضائه من نفع إطلاقاً؛ لأن ما حرم كله حرم بعضه؛ إذ لا عبرة بأي نفع قد أهدره الشرع؛ لأن الله تعالى وضع لنا من الضوابط لما يحل ويحرم ما يحقق مصالح الناس في عاجلهم وآجلهم، ومنافعهم الحقيقة لا منافعهم الوهمية أو الظنية.

فمنافع الإنسان منها ما أجاز الشرع الحكيم وورد العقد عليه، كعقد اجارة الأشخاص، وحينئذ وضع الضوابط اللازمة لصحة هذا العقد. ومنها ما لم يجز الشرع وورد العقد عليه، ولا التصرف فيه، كبيع الآدمي الحر، أو بيع جزء منه

، وحينئذ يكون العقد عليه باطلاً، لا ينتج آثاراً، فضلاً عن الإثم الواقع على من يتصرف فيما لم يبح الشرع التصرف فيه.

(1) الآية: 219 من سورة البقرة

ص: 207

المبحث العاشر

حكم تبرع الإنسان بجزء من أجزائه لمنفعة شخص آخر

حكم تبرع الإنسان بجزء من أجزائه لمنفعة شخص آخر

بينا آنفاً حرمة بيع إنسان لعضو من أعضائه لينتفع به شخص آخر، ونوضح هنا رأي الفقه الإسلامي في حكم التبرع بأي عضو من أعضائه، على النحو التالي:

بينا فيما سبق أن قواعد الفقه الإسلامي تقرر ما يلي:

القاعدة الأولى: (ما جاز بيعه جازت هبته، وما لا فلا)(1) .

وأصل هذه القاعدة واضح أن البيع هو مبادلة مال بمال، وأن الذي يجوز بيعه هو ما يدخل تحت ملك الإنسان، أي ما يكون مملوكاً له، وما يكون مالا، أي ما يدخل تحت سلطته.

والإنسان ليس مالاً وليس مملوكاً للإنسان، بل لله تعالى، فليس لأحد سواه حق التصرف فيه ببيع أو غيره.

والهبة: تمليك مال بلا عوض، فمحل الهبة هو المال، ومالك هذا المال كما يملك بيعه، يملك هبته.

فإذا لم يكن الشيء مالاً فلا يجري عليه بيع ولا هبة ولا غيرهما من التصرفات الناقلة للملكية..

القاعدة الثانية: (من لا يملك التصرف لا يملك الإذن فيه)(2) .

وهذا واضح لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن ليست له ولاية على الشيء لا يملك التصرف فيه، وإذا لم يملك التصرف فيه فكذلك لا يملك الإذن لغيره في التصرف فيه، فالعدم لا ينتج إلا العدم، وانعدام الأصل يترتب عليه انعدام فروعه ومنتجاته وما يترتب عليه

فالإنسان لا يملك التصرف في الإنسان ـ لا نفسه، ولا غيره ـ وإذا لم يملك ذلك لا يملك أن يأذن لغيره في اقتطاع جزء منه لا على سبيل الهبة، ولا على سبيل البيع.

(1) القواعد للزركشي جـ3 ص 138

(2)

المنثور من القواعد للزركشي جـ3 ص 211

ص: 208

الحياة حق لله تعالى وليس للإنسان خيار في هذا الحق

- الحق هو كل ما استحقه الإنسان شرعاً طبقاً لما قررته الشريعة وما أرسته من أحكام وما جاءت به من نظام، فالحق مصدره الشرع، وموضوعه ومحله هو ما قرره الله للإنسان وما أثبته له، في صورة فردية أو في صورة جماعية.

إذ الحقوق منها ما يتعلق به النفع العام للناس جميعها، وتسمى (حقوق الله تعالى) وقد سميت بذلك تشريفاً لها وتعظيماً حتى لا يجرؤ على انتهاكها أو المساس بها، وتدور هذه الحقوق حول العبادات بأنواعها، وموارد الدولة المالية والعقوبات؛ حفظاً للدين والنفس والعرض والمال والعقل. ومنها ما يتعلق به مصلحة خاصة بالعبد، فالأصل في هذا النوع من الحق أن منفعته الغالبة تعود إلى الشخص فقط، كما فيما ملكه من أموال ـ عيناً أو منفعة ـ ويسمى هذا النوع من الحق (حق العبد) .

ولكل حق من هذين الحقين آثاره وخصائصه المستقاة من نصوص الشريعة (من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومنها:

(أن حق الله تعالى لا يجري فيه عفو ولا صلح ولا إبراء، ولا يورث ويستوفيه الإمام، وأن حق العبد يجري فيه العفو والصلح والإبراء، ويورث ويستوفيه صاحبه

) .

ص: 209

إذا عرفنا الفرق بين هذين الحقين فإننا نتساءل:

هل جسم الإنسان وحياته هي حق من حقوق الله تعالى؟ أو هي حق من حقوق العبد؟ فإذا حددنا من أي نوع هي، ثبت لنا خصائص هذا الحق وما تميز به عن غيره.

للإجابة على ذلك نقول:

إن حياة الإنسان وجسمه، وكافة ما يتصل بهذا الجهاز الآدمي هي حق من حقوق الله تعالى، وليست حقاً من حقوق العبد، فليس للإنسان أن يتنازل عن حياته، أو عن جزء من أجزائه، وليس له أن يتصرف فيه بأي تصرف ناقل للملكية، ومعاوضة أو تبرعاً

والدليل على ذلك ما يأتي:

أولاً: سبق أن بينا أن المالك لكل ما في الكون ـ ومنه الإنسان ـ هو الله تعالى، فليس للإنسان ولاية على هذا الجسم إلا في حدود ما رسمه الشرع وما أباحه وأجازه له، أو عليه

ثانياً: أن هذا الإنسان قد أوجب الله تعالى حفظ حياته، وحفظ كل جزء من أجزائه، وقرر عقوبة رادعة لكل من اعتدى على هذا الجسم كلا أو بعضاً، كما سبق بيانه.

ثالثاً: أن الشرع الحكيم قد أوجب عقوبة رادعة لكل من يعتدي على نفسه ـ كلا أو بعضاً ـ كما سبق بيانه.

رابعاً: أن الشرع الحكيم قد أوجب على كل من عطل جزءاً من جسمه عن العمل ولو في وقت محدود ـ وهو العقل ـ عقوبة، فشارب الخمر معاقب بعقوبة (حد شارب الخمر) .

خامساً: أن إرادة الإنسان ليس لها عمل في إضاعة الحياة أو تعطيل جزء من أجزاء النفس البشرية، أياً كان هذا الجزء.

ص: 210

يقول القرافي: وكذلك تحريمه تعالى المسكرات صوناً لمصلحة عقل العبد عليه، وحرم السرقة صوناً لماله، والزنا صوناً لنسبه، والقذف صوناً لعرضه، والجرح صوناً لمهجته وأعضائه ومنافعها عليه، ولو رضي العبد بإسقاط حقه من ذلك لم يعتبر رضا، ولم ينفذ إسقاطه، فهذه كلها وما يلحق بها من نظائرها، مما هو مشتمل على مصالح العباد حق الله تعالى؛ لأنها لا تسقط بالإسقاط، وهي مشتملة على حقوق العباد، لما فيها مصالحهم، ودرء مفاسدهم،.. (1) ولقد قرر الشاطبي في موافقاته (2) هذا المعنى بصورة باتة فقال: (كل ما كان من حقوق الله فلا خيرة فيه للمكلف على حال، وأما ما كان من حق العبد في نفسه فله فيه الخيرة.

أما حقوق الله تعالى فالدلائل على أنها ساقطة ولا ترجع لاختيار المكلف كثيرة، وأعلاها الاستقراء التام في موارد الشريعة ومصادرها، كالطهارة على أنواعها والصلاة والزكاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أعلاه الجهاد، وما يتعلق بذلك من الكفارات والمعاملات والأكل والشرب واللباس، وغير ذلك من العبادات والعادات التي ثبت فيها حق الله تعالى أو حق الغير من العباد، وكذلك الجنايات كلها على هذا الوزن جميعاً لا يصح إسقاط حق الله فيها البتة، فلو طمع أحد في أن يسقط طهارة للصلاة أي طهارة كانت، أو صلاة من الصلوات المفروضات، أو زكاة أو صوماً أو حجا، أو غير ذلك، لم يكن له ذلك، وبقي مطلوباً بها أبداً حتى يتفصَّى عنه عهدتها، وكذلك لو حاول استحلال مأكول حي مثلاً من غير ذكاة، أو إباحة ما حرم الشارع من ذلك، أو استحلال نكاح بغير ولي أو صداق أو الربا أو سائر البيوع الفاسدة، أو إسقاط حد الزنا أو الخمر أو الحرابة أو الأخذ بالغرم والاعتداء على الغير بمجرد الدعوى عليه وأشباه ذلك، لم يصح شيء منه، وهو ظاهر جداً في مجموع الشريعة. حتى إذا كان الحكم دائراً بين حق الله وحق العبد لم يصح للعبد إسقاط حقه إذا أدى إلى إسقاط حق الله، فلأجل ذلك لا يعترض هذا بأن يقال مثلاً: إن حق العبد ثابت له في حياته وكمال جسمه وعقله وبقاء ماله في يده، فإذا أسقط ذلك بأن سلط يد الغير عليه، فإما أن يقال بجواز ذلك له أو لا، فإن قلت: لا، وهو الفقه، كان نقضاً لما أصلت؛ لأنه حقه، فإذا أسقطه اقتضى ما تقدم أنه مخير في إسقاطه، والفقه يقتضي أن ليس له ذلك، وإن قلت: نعم خالفت الشرع؛ إذ ليس لأحد أن يقتل نفسه ولا أن يفوت عضواً من أعضائه ولا مالا من ماله، فقد قال تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (3) ثم توعد عليه وقال: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (4)

(1) الفروق: جـ1 ص 140 الفرق الثاني والعشرون، وص 157

(2)

الموافقات للشاطبي: جـ4 ص 277

(3)

النساء: 29

(4)

البقرة: 188

ص: 211

وقد جاء الوعيد الشديد فيمن قتل نفسه، وحرم شرب الخمر لما فيه تفويت مصلحة العقل برهة، فما ظنك بتفويته جملة، وحجر على مبذر المال، ونهى عليه الصلاة والسلام عن إضاعة المال، فهذا كله دليل على أن ما هو حق للعبد لا يلزم أن تكون له فيه الخيرة.

لأنا نجيب بأن إحياء النفوس وكمال العقول والأجسام من حق الله تعالى في العباد، لا من حقوق العباد، وكون ذلك لم يجعل إلى اختيارهم هو الدليل على ذلك، فإذا أكمل الله تعالى على عبد حياته وجسمه وعقله الذي به يحصل له ما طلب به من القيام بما كلف به فلا يصح للعبد إسقاطه، اللهم إلا أن يبتلى المكلف بشيء من ذلك من غير كسبه ولا تسببه، وفات بسبب ذلك نفسه أو عقله أو عضو من أعضائه، فهنالك يتمحض حق العبد، إذ ما وقع مما لا يمكن رفعه، فله الخيرة فيمن تعدى عليه؛ لأنه قد صار حقاً مستوفى في الغير كدين من الديون، فإن شاء استوفاه وإن شاء تركه، وتركه هو الأولى إبقاء على الكلي، قال تعالى:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} وقال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} وذلك أن القصاص والدية إنما هي جبر لما فات المجني عليه من مصالح نفسه أو جسده، فإن حق الله قد فات ولا جبر له، وكذلك ما وقع مما يمكن رفعه كالأمراض إذا كان التطبب غير واجب ودفع الظالم عنك غير واجب على تفصيل في ذلك مذكور في الفقهيات، وأما المال فجار على ذلك الأسلوب، فإنه إذا تعين الحق للعبد فله إسقاطه، وقد قال تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} بخلاف ما إذا كان في يده فأراد التصرف فيه وإتلافه في غير مقصد شرعي يبيحه الشارع فلا، وكذلك سائر ما كان من هذا الباب.

وأما تحريم الحلال وتحليل الحرام وما أشبهه فمن حق الله تعالى؛ لأنه تشريع مبتدأ وإنشاء كلية شرعية ألزمها العباد، فليس لهم فيها تحكم؛ إذ ليس للعقول تحسين ولا تقبيح، تحلل به أو تحرم، فهو مجرد تعد فيما ليس لغير الله فيه نصيب، فلذلك لم يكن لأحد فيه خيرة.

ص: 212

فإن قيل: فقد تقدم أيضاً أن كل حق للعبد لا بد فيه من تعلق حق الله به، فلا شيء من حقوق العباد إلا وفيه لله حق، فيقتضي أن ليس للعبد إسقاطه، فلا يبقى بعد هذا التقرير حق واحد يكون العبد فيه مخيراً، فقسم العبد إذا ذاهب، ولم يبق إلا قسم واحد.

فالجواب: أن هذا القسم الواحد هو المنقسم؛ لأن ما هو حق للعبد إما يثبت كونه حقاً له بإثبات الشرع ذلك له، لا بكونه مستحقاً لذلك بحكم الأصل، وقد تقدم هذا المعنى مبسوطاً في هذا الكتاب، وإذا كان كذلك فمن هنا ثبت للعبد حق ولله حق، فأما ما هو لله صرفاً فلا مقال فيه للعبد، وأما ما هو للعبد فللعبد فيه الاختيار من حيث جعل الله له ذلك، لا من جهة أنه مستقل بالاختيار.

وقد ظهر بما تقدم آنفاً تخيير العبد فيما هو حقه على الجملة، ويكفيك من ذلك اختياره في أنواع المتناولات من المأكولات والمشروبات والملبوسات وغيرها مما هو حلال له، وفي أنواع البيوع والمعاملات والمطالبات بالحقوق، فله إسقاطها، وله الاعتياض منها، والتصرف فيما بيده من غير حجر عليه إذا كان تصرفه على ما ألف من محاسن العادات، وإنما الشأن كله في فهم الفرق بين ما هو حق الله وما هو حق للعباد، وقد تقدمت الإشارة إليه في آخر النوع الثالث من هذا الكتاب، والحمد لله) .

ومن هنا يتبين لنا أن حياة الإنسان، وأن أجزاء النفس الآدمية هي جميعها من حقوق الله تعالى، وأن ما كان حقاً لله تعالى فلا يملك فيه الإنسان تصرفاً، بيعاً أو شراء أو تبرعاً، أو بعبارة أخرى لا يجري فيه عفو ولا صلح ولا إبراء ولا بيع ولا شراء ولا تبرع..) .

ص: 213

المبحث الحادي عشر

حكم أخذ الطبيب أجرة على قطع

عضو صحيح من أعضاء الإنسان

لا تدعو الحاجة إلى قطعه

حكم أخذ الطبيب أجرة على قطع

عضو صحيح من أعضاء الإنسان

لا تدعو الحاجة إلى قطعه

لقد تناول الفقه الإسلامي بدقة بيان الحكم إذا استؤجر الطبيب على قطع عضو صحيح من أعضاء الإنسان دون حاجة إلى قطعه، أو دون ضرر من بقائه على صاحبه، ونعرض فيما يلي آراء الفقهاء في هذا الموطن ثم نتبعها بالمقارنة والترجيح:

أولاً: النصوص الفقهية:

(1)

الحنفية: جاء في رد المحتار جـ5 ص 76:

(تفسخ الإجارة بعقد لزوم ضرر لم يستحق بالعقد، إن بقي العقد، كما في سكون ضرس استؤجر لقلعه

) ثم علق ابن عابدين على: (بعذر) بقوله: (فلا تفسخ الإجارة بدون العذر) وعلى قوله: (كما في سكون ضرس..) التقييد بسكون الضرس

يفهم منه أنه بدونه لا يكون له الفسخ، قال الحموي: وفي المبسوط إذا استأجره ليقطع يده للأكلة

ثم بدا له في ذلك كان عذراً؛ إذ في إبقاء العقد إتلاف شيء من بدنه أو ماله، وهذا صريح في أنه لو لم يسكن الوجع يكون له الفسخ اهـ. أقول: وفي جامع الفصولين: كل فعل هو سبب نقص المال أو تلفه فهو عذر لفسخه، كما لو استأجره ليخيط له ثوبه، أو ليقصر، أو ليقطع، أو يبني بناء، ثم ندم، له فسخه اهـ.

(زاد في غاية البيان عن الكرخي: أو ليفصد، أو ليحجم، أو يقلع ضرساً له، ثم يبدو ألا يفعل فله في ذلك كله الفسخ؛ لأن فيه استهلاك مال، أو غرماً، أو ضرراً اهـ.) .

ويتضح من هذا أن الإجارة تفسخ إذا سكن ألم الضرس، لزوال سبب قلعه، فإذا لم يكن هناك ألم إطلاقاً فلا يصح قلعه، بل إن المؤجر له أن يفسخ عقد الإجارة ولو لم يسكن الألم؛ لأن في بقاء العقد إتلاف شيء من بدنه أو ماله، وإتلاف شيء من بدنه أو ماله لا يجوز) .

(ب) المالكية: جاء في حاشية الدسوقي جـ5 ص 30:

(وفسخت الإجارة على سن لقلع فسكنت، أي فسكن ألمها قبل القلع، ووافقه الآخر على ذلك، وإلا لم يصدق إلا لقرينة، وفائدة عدم التصديق لزوم الأجرة، لا أنه يجبر على القلع، وما ذكرناه من عدم تصديق ربها إذا نازعه الحجام، وقال له: إنه سكن ألمها، هو قول ابن عرفة، واستظهر بعض المشايخ عج خلاف ما قاله ابن عرفة فقال: إنه يصدق في سكون الألم إلا لقرينة تدل على كذبه، لأنه أمر لا يعرف إلا منه..) .

ويتضح من كلام المالكية أن الإجارة تفسخ إذا سكن الألم الذي من أجله اتفق مع الطبيب على قطع العضو موضع الألم، فإذا لم يكن هناك ألم أو مرض يوجب قطعه فلا تصح الإجارة، وهذا ما صرح به الشافعية فيما يلي:

ص: 214

(ج) نص الشافعية: (الرملي جـ5 ص 270، وقليوبي جـ3 ص 70، 78) على ذلك فقالوا:

(لا يجوز الاستئجار على خلع سن صحيحة، بخلاف الوجيعة التي يقرر أهل الخبرة زوال ألمها بالقطع. وشرط الطبيب عند الشافعية أن يكون ماهراً، بمعنى أن يكون خطوه نادراً، وإن لم يكن ماهراً في العلم فيما يظهر، فإن لم يكن كذلك لم يصح العقد، ورجع عليه بما أخذه من أجرة أو غيرها..) .

(د) كما نص الحنابلة: على ذلك، فقد جاء في كشف القناع: جـ3 ص 565: (ولا تصح إجارة لقلع سن سليمة، أو قطع يد سليمة، وكذا سائر الأعضاء) .

كما جاء أيضاً في نفس المرجع في مبحث الإجارة جـ4 ص 300 ـ 302: (وتصح الإجارة على قطع شيء من الجسد للحاجة للقطع؛ لأن ذلك منفعة مباحة، ولا يكره أكل أجرته.

(ويحرم قلع شيء من الجسد عند عدم الحاجة للقطع، ولا يصح الاستئجار له) .

وجاء في المغني مع الشرح الكبير جـ6 ص 126: (ويجوز أن يستأجر من يقلع ضرسه؛ لأنها منفعة مباحة مقصورة، فجاز الاستئجار على فعلها كالختان، فإن أخطأ فقلع غير ما أمر بقلعه ضمنه؛ لأنه من جنايته، وإن برأ الضرس قبل قلعه انفسخت الإجارة؛ لأن قلعه لا يجوز، وإن لم يبرأ، لكن امتنع المستأجر من قلعه لم يجبر عليه؛ لأن إتلاف جزء من الآدمي محرم في الأصل، وإنما أبيح إذا صار بقاؤه ضرراً، وذلك مفوض إلى كل إنسان في نفسه إذا كان أهلاً لذلك، وصاحب الضرس أعلم بمضرته ومنفعته وقدر المدة) .

ص: 215

(هـ) الزيدية: وأيد هذا الزيدية:

جاء في التاج المذهب جـ3 ص 118: أن الإجارة الصحيحة يثبت فيها الفسخ بـ (العذر الزائل معه الغرض بعقدها من المستأجر، أو العين المستأجرة، نحو أن يستأجر من يقلع له سناً، أو يقطع عضواً حصلت به علة، ثم شفي، فإنها تبطل الإجارة) .

وجاء في شرح الأزهار: جـ3 من 250 عند بيان شروط المنفعة التي يصح عقد الإجارة عليها (أن يكون في منفعة مقدورة للأجير

، وإلا لم يصح، كالطير في الهواء والحوت في البحر، ومنه ما يتعذر لمانع شرعي كالحائض لكنس المسجد، أو لقلع السن الصحيح

) .

(ومن هذا يتبين أن العضو لا يصح إجراء عقد على قطعه؛ إذ يوجد مانع شرعي يمنع من صحة هذا العقد؛ لأن الشرع صان الأجزاء الصحيحة من الإنسان، كما صان الإنسان كله.

(و) الإمامية: جاء في المختصر النافع ص 176:

أن من شروط صحتها: (أن تكون المنفعة مباحة) .

(ولا شك أن قطع عضو صحيح من الإنسان لا يكون مباحاً إلا إذا وجد دليل شرعي من قرآن وسنة يوجب قطعه، كما في القصاص فيما دون النفس، أو في حد السرقة أو الحرابة، فإذا لم يوجد دليل يوجب ذلك فحرمة النفس قائمة وأجزاؤها مصونة، ولا تنال إلا بحق.

الترجيح:

يتضح لنا مما تقدم اتفاق الفقهاء على بطلان عقد الإجارة إذا كان محل هذا العقد قطع عضو صحيح من الإنسان، دون علة أو مرض؛ صيانة لنفس الإنسان وحفاظاً عليه، ومنعاً للأيدي أن تمتد إليه، بل أوجب المشرع الحكيم عقوبة لمن ينال من هذه النفس كلاً أو بعضاً كما سيأتي بيانه..

ص: 216

المبحث الثاني عشر

أثر رضا المقطوع عضوه

على درء العقوبة عن القاطع

أثر رضا المقطوع عضوه

على درء العقوبة عن القاطع

- إذا رضي الشخص بأن يقطع منه عضو من أعضائه، أو تزهق روحه، فهل هذا الرضا يؤثر في درء عقوبة القصاص على من باشر قطع هذا العضو أو أزهق هذه الروح؟

لقد اختلف الفقهاء في موجب هذا العمل إلى رأيين:

الرأي الأول: يرى الحنفية (غير الإمام زفر) والشافعية أنه لا قصاص على الجاني في هذه الحالة؛ لأنه لما أذن له في قتله أو قطع عضو من أعضائه فقد تمكنت في عصمة دمه شبهة الإباحة، والشبهة في باب القصاص لها حكم الحقيقة.

وإذا قيل بسقوط القصاص فالأظهر عند الشافعية أنه لا تجب الدية، وهو رواية عن أبي حنيفة وقول لأبي يوسف ومحمد لوجود الإذن بقتله، (أو قطعه) ويرى أبو حنيفة في رواية صححها عند فقهاء المذهب أنه تجب الدية في القتل، ولا تجب في القطع، وفي رواية عند الشافعية: تجب الدية في القتل والقطع؛ وذلك لأن القصاص قد سقط لوجود الشبهة، والشبهة تمنعه، ولكنها لا تمنع وجوب المال، فتجب الدية عمن باشر القتل أو القطع.

الرأي الثاني: يرى المالكية، والإمام زفر من الحنفية، والزيدية والظاهرية وجوب القصاص على الجاني ولا عبرة برضا المجني عليه؛ لأن الحق بعد الموت انتقل إلى ورثة المجني عليه

ولأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فقد روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((على المرء السمع والطاعة فيما أحب أو كره، إلا أن يؤمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة)) وعن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما الطاعة في المعروف)) فإذا أمره بقتله أو قطع عضو من أعضائه لا يحل له أن يفعل، وإن فعل اقتص منه في النفس عندهم جميعاً، وإن كانت الجناية على ما دون النفس، أي: على عضو من أعضائه، اقتص منه عند الزيدية والظاهرية.

ص: 217

وإيجاب القصاص في الجميع هو الذي نراه راجحاً شرعاً؛ لأن أمره لا يحل ما حرم الله تعالى للحديث: ((المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) وإذا كان الله تعالى قد شدد عقوبة قاتل نفسه، وهو حين يقتل إنما يقتل نفسه، فكيف نعتد بأمره للغير بالنيل من نفسه أو عضو من أعضائه، وهو لا يملك من نفسه شيئاً، ولذلك عوقب بجنايته.

جاء في المحلى لابن حزم: فيمن أمر آخر بقطع يده أو يقتل ولده أو عبده أو بقتله نفسه: حدثنا عبد الله بن ربيع، نا عبد الله بن محمد بن عثمان، نا أحمد بن خالد، نا علي بن عبد العزيز، نا الحجاج بن المنهال، نا حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار قال: (إن رجلاً قال لعبده: اقطع أذني وأنت شريكي في الدية. ففعل، فاختصموا إلى ابن الزبير، فقامت البينة على قوله، فأبطل ديته.

قال علي: قد أوجب الله تعالى في النفس الدية إن أرادها ولي المقتول على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وأوجب الله تعالى أيضاً كذلك دية الأصابع على ما ذكرنا قبل، وحرم الله طاعة أحد من الناس في معصية الله تعالى. وقد ذكرنا كل ذلك بإسناده فيما سلف من ديواننا: حدثنا عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، نا قتيبة، نا ليث - هو ابن سعد - عن عبد الله - هو ابن عمر - عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) وبه إلى مسلم: نا محمد بن المثنى، نا محمد بن جعفر غندر، نا شعبة، عن زبيد، عن سعيد بن عبيد، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إنما الطاعة في المعروف)) .

قال أبو محمد: فحرام على كل من أُمر بمعصية أن يأتمر لها، فإن فعل فهو فاسق عاص لله تعالى، وليس له بذلك عذر، وكذلك الآمر في نفسه بما لم يبح الله تعالى له فهو عاص لله تعالى فاسق، ولا عذر للمأمور في طاعته، بل الأمر والذي يؤمر سواء في ذلك، فالواجب أن يجب للآمر إنساناً بقطع يد الآمر نفسه بغير حق، أو بقتل عبده أو بقتل ابنه، ما يجب له لو لم يأمر بذلك من القود أو الدية؛ لأن وجود أمره بذلك باطل لا حكم له في الإباحة أصلاً، وكذلك من أباح لآخر أن يقتله ففعل، فلأولياء المقتول القود أو الدية، وقد قال مالك: من أمر آخر بقتل عبده فقتله فلا شيء على المأمور. وقال الشافعي: من أمر آخر بقطع يد الآمر فلا شيء على القاطع.

قال علي: وهذان القولان في غاية الفساد لما ذكرناه، والعجب أنهم أصحاب قياس بزعمهم، وهم لا يختلفون فيمن أمر إنساناً بأن يزني بأمته نفسه ففعل، أن الحد عليه، فإن قالوا: إن له بعد قطع يده وقتل أبيه، أن يعفو وليس له بعد الزنا بأمته، قبل وقت العفو لم يأت بعد، فليس له أن يعفو، وهم لا يختلفون فيمن قال: من قتل ابن عمي فلان بن فلان فقد عفوت عنه فقتله قاتل، فإن له القود، فبطل نظيرهم. وبالله تعالى التوفيق) .

ص: 218

المبحث الثالث عشر

الإيثار

- تفسير الآية التي ورد فيها الإيثار.

- حقيقة الإيثار.

- المفسرون ومعنى الآية.

- الإيثار بالقرب.

- الإيثار بالمال.

- الإيثار بالنفس.

الإيثار

قد يحتج بعض الناس عند الاستدلال لقولهم بجواز نقل عضو من إنسان حي إلى آخر إنقاذاً لحياته بأنه من باب (الإيثار)، والإيثار خلق محمود وصفة مشروعة مدح الله تعالى بها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى بشأن الأنصار:{وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) .

فهذه الآية تحدثت عن الأنصار ووصفتهم بأربع صفات:

1-

أنهم الذين اعتقدوا الإيمان وأخلصوه من قبل كثير من المهاجرين.

2-

وأن الأنصار من كرمهم وشرف أنفسهم يحبون المهاجرين ويواسونهم بأموالهم.

3-

وأن الأنصار لا يجدون في أنفسهم حسداً للمهاجرين فيما فضلهم الله به من المنزلة والشرف والتقديم في الذكر والرتبة، وما خصوا به من أموالهم الفيء وغيرها. قال الحسن البصري:{وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً} يعني الحسد {مِمَّا أُوتُوا} قال قتادة: فيما أعطي إخوانهم من المهاجرين مما أفاء الله عليهم وقسمه الرسول صلى الله عليه وسلم من أموال بني النضير.

4-

وأنهم {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أي يؤثرون على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم، لا عن غنى، بل مع احتياجهم إليها.

(1) الآية: 9 من سورة الحشر.

ص: 219

ونورد فيما يلي بعضاً من الأحاديث الواردة في سبب النزول:

في الترمذي عن أبي هريرة: أن رجلاً بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: نومي الصبية وأطفئي السراج وقربي للضيف ما عندك. فنزلت هذه الآية: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} قال: هذا حديث حسن صحيح. خرجه مسلم أيضاً. وخرج عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود. فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى أخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. فقال: ((من يضيف هذا الليلة رحمه الله؟)) فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني. قال: فعلليهم (1) بشيء، فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه.

قال: فقعدوا وأكل الضيف. فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((قد عجب الله عز وجل من صنيعكما بضيفكما الليلة)) (2) وفي رواية عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضيفه فلم يكن عنده ما يضيفه. فقال: ((ألا رجل يضيف هذا رحمه الله) ؟ فقام رجل من الأنصار يقال له: أبو طلحة. فانطلق به إلى رحله

وساق الحديث بنحو الذي قبله، وذكر فيه نزول الآية (3) . وذكر المهدوي عن أبي هريرة أن هذا نزل في ثابت بن قيس ورجل من الأنصار، نزل به ثابت، يقال له: أبو المتوكل، فلم يكن عند أبي المتوكل إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: أطفئي السراج ونومي الصبية. وقدم ما كان عنده إلى ضيفه.. ذكر النحاس قال: قال أبو هريرة: نزل برجل من الأنصار، يقال له: أبو المتوكل، ثابت بن قيس ضيفاً، ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: أطفئي السراج ونومي الصبية. فنزلت {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقيل: (إن فاعل ذلك أبو طلحة. وذكر القشيري أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم: وقال ابن عمر أهدى لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال: إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منا. فبعثه إليهم، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها سبعة أبيات، حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} ذكره الثعلبي عن أنس قال: أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة وكان مجهوداً، فوجه به إلى جار له، فتداولته سبعة أنفس في سبعة أبيات، ثم عاد إلى الأول، فنزلت:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية.

وقال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم بني النضير: ((إن شئتم قسمت للمهاجرين من دياركم وأموالكم وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم نقسم لكم من الغنيمة شيئا)) . فقالت الأنصار: بل نقسم لإخواننا من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة. فنزلت: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} . الآية. والأول أصح.

وإذا عرفنا سبب النزول فإنه يلزمنا الآن أن نبين حقيقة الإيثار ومتى يكون أو بأي شيء يكون؟ ثم حكمه

(1) علله بكذا، شغله ولهاه به

(2)

أي: عظم ذلك عنده وكبر عليه، وإطلاق العجب على الله مجاز؛ لأنه لا يخفى عليه أسباب الأشياء

(3)

وهناك روايات أخرى، تراجع كتب التفسير ومنها القرطبي: ج18 ص 24

ص: 220

حقيقة الإيثار لغة واصطلاحاً:

الإيثار لغة: مأخوذ من آثر، يقال: آثرته به، أي: خصصته به وفضلته (1) .

الإيثار اصطلاحاً: عرف بتعريفات منها:

(أ) هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية؛ رغبة في الحظوظ الدينية

(2)

(ب) الإيثار: هو أن يجود بالمال مع الحاجة إليه (3) .

والإيثار أرفع درجة في السخا؛، إذ السخاء هو بذل ما يحتاج إليه لمحتاج أو لغير محتاج، والبذل مع الحاجة أشد، وليس بعد الإيثار درجة في السخاء، وقد أثنى الله تعالى على الصحابة رضي الله عنهم فقال:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .

منشأ الإيثار: ينشأ الإيثار عن (قوة اليقين بالله، وغاية المودة، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة) ، وذلك يختلف باختلاف أحوال المؤثرين، كما روي في الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل من أبي بكر ماله، ومن عمر نصف ماله، ورد أبا لبابة وكعب بن مالك إلى الثلث، لقصورهما عن درجتي أبي بكر وعمر؛ إذ لا خير له في أن يتصدق ثم يندم فيُحْبِط أجرَه ندمُه.

- هذا هو المنشأ الحقيقي للإيثار في نظر الإسلام.

أما الإيثار من أجل الحصول على المال، أو الجاه، أو الذكر الحسن وما إلى ذلك من أسباب النفع الدنيوي، فإنه لا يكون إيثاراً، ولكنه يكون بيعاً وتجارة، وهو بيع وتجارة فيما حرم الله بيعه أو التجارة فيه، فيكون حراماً.

(1) في المعجم الكبير ج1 ص 292 (أثره إيثار) : اختاره وقدمه وآثر فلاناً على فلان: فضله عليه وقدمه، ومنه قوله تعالى على لسان إخوة يوسف:{تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} . وفي مختار القاموس ص 13: (

آثره أكرامه، وآثر اختار، واستأثر بالشيء استبد به.

(2)

القرطبي: ج18 ص 26، وابن العربي: ج2 ص 246، وحاشية الصاوي على الجلالين.

(3)

إحياء علوم الدين ج3 ص 222.

ص: 221

رأي المفسرين في معنى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .

1-

القرطبي: (أي يؤثرون على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم، لا عن غنى، بل مع احتياجهم إليها)(1) .

2-

ابن كثير: (أي يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدؤون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك) وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أفضل الصدقة جهد المقل)) . وهذا المقام أعلى من حال من وصف الله تعالى بقوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (2) وقوله: {وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} (3) فإن هؤلاء تصدقوا وهم يحبون ما تصدقوا به، وقد لا يكون لهم حاجة إليه، ولا ضرورة به، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم إلى ما أنفقوه) (4) .

3-

الطبري: (يعطون المهاجرين أموالهم إيثاراً لهم بها على أنفسهم){وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} يقول: (ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم)

4-

الألوسي: ( {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} . (أي يقدمون المهاجرين على أنفسهم في كل شيء من الطيبات، حتى إن من كان عنده امرأتان كان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحداً منهم {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أي حاجة)(5) .

5-

الخطيب الشربيني: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} (فيبذلون لغيرهم كائناً من كان ما في أيديهم، فإن الإيثار تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الأخروية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين وتوكيد المحبة والصبر على المشقة، وذكر النفس دليل على أنهم في غاية النزاهة عن الرذائل؛ فإن النفس إذا طهرت كان القلب أطهر {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أي فقر وحاجة إلى ما يؤثرون به) .

(1) تفسير القرطبي: ج18 ص 26

(2)

الآية 8 من سورة الإنسان.

(3)

تفسير ابن كثير: ج4 ص 338.

(4)

الآية 177 من سورة البقرة.

(5)

تفسير الألوسي: ج28 ص 27

ص: 222

{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .

القرطبي: (الشح والبخل سواء، وجعل بعض أهل اللغة الشح أشد من البخل، وفي الصحاح: الشح البخل مع حرص.

ثم ساق تفسير بعض الصحابة وبعض التابعين لمعنى الشح، بعد أن ذكر أن من يؤثر على نفسه مع حاجته فقد وقي شح نفسه وأفلح فلاحاً لا خسارة بعده

والمراد بالآية: الشح بالزكاة وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام والضيافة، وما شاكل ذلك، فليس بشحيح ولا بخيل من أنفق في ذلك وإن أمسك عن نفسه. ومن وسع على نفسه ولم ينفق فيما ذكرناه من الزكوات والطاعات فلم يوق شح نفسه، وروى الأسود عن ابن مسعود أن رجلاً أتاه فقال له: إني أخاف أن أكون قد هلكت؟ قال: وما ذاك؟ قال سمعت الله عز وجل يقول: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وأنا رجل شحيح لا أكاد أن أخرج من يدي شيئاً. فقال ابن مسعود: ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن، إنما الشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً، ولكن ذلك البخل وبئس الشيء البخل. ففرق رضي الله عنه بين الشح والبخل، وقال طاوس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشح أن يشح بما في أيدي الناس يحب أن يكون له ما في أيديهم بالحل والحرام، لا يقنع. ابن جبير: الشح منع الزكاة وادخار الحرام. ابن عيينة: الشح الظلم. الليث: ترك الفرائض وانتهاك المحارم. ابن عباس: من اتبع هواه ولم يقبل الإيمان فذلك الشحيح.

ابن زيد: من لم يأخذ شيئاً (لشيء) نهاه الله عنه ولم يدعه الشح (على أن يمنع شيئاً من شيء) أمره الله به، فقد وقاه الله شح نفسه. وقال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((برئ من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة)) . وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو: ((اللهم إني أعوذ بك من شح نفسي وإسرافها ووساوسها)) . وقال أبو الهياج الأسدي: رأيت رجلاً في الطواف يدعو: اللهم قني شح نفسي. لا يزيد على ذلك شيئاً، فقلت له فقال: إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل. فإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف.

قلت: يدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)) . وقد بيناه في آخر (آل عمران)(1) . وقال كسرى لأصحابه: أي شيء أضر بابن آدم؟ قالوا: الفقر. فقال كسرى: الشح أضر من الفقر؛ لأن الفقير إذا وجد شبع، والشحيح إذا وجد لم يشبع أبداً.

(1) راجع: ج4 ص 293

ص: 223

ما يكون فيه الإيثار

على ضوء ما أورده العلماء فيما يؤثر الإنسان به غيره، نجدنا في حاجة إلى أن نقسم هذا البحث إلى ثلاث فترات: الأولى حكم الإيثار بالقرب أي ما يتقرب به إلى الله. الثانية الإيثار بالمال، والثالثة الإيثار بالنفس.

الإيثار بالقرب:

تناول هذه الموضوعات الإمام السيوطي فقال:

(الإيثار في القرب مكروه، وفي غيرها محبوب، قال تعالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .

قال الشيخ عز الدين: لا إيثار في القربات، فلا إيثار بماء الطهارة، ولا بستر العورة ولا بالصف الأول؛ لأن الغرض بالعبادات التعظيم والإجلال، فمن آثر به فقد ترك إجلال الله وتعظيمه.

وقال الإمام: لو دخل الوقت، ومعه ماء يتوضأ به، فوهبه لغيره ليتوضأ به، لم يجز. لا أعرف فيه خلافاً؛ لأن الإيثار إنما يكون فيما يتعلق بالنفوس، لا فيما يتعلق بالقرب والعبادات.

وبعد أنقل آراء فقهاء الشافعية في الإيثار بالقرب هل هو مكروه، أو خلاف الأولى، أو حرام، قال:

(قلت: ليس كذلك، بل الإيثار إن أدى إلى ترك واجب فهو حرام، كالماء، وستر العورة

وأشباه ذلك، وإن أدى إلى ترك سنة، أو ارتكاب مكروه فمكروه، أو لارتكاب خلاف الأولى ما ليس فيه نهي مخصوص فخلاف الأولى، وبهذا يرتفع الخلاف.

الإيثار بالمال:

اتفق العلماء على أن الإيثار بالمال فضيلة من الفضائل، وكمال مروءة، وقوة في الإيمان والاعتقاد، واحتراز عن حظ النفس ولذائذها وهو منق لها، ورافع درجاتها إلى أعلى درجات السخاء.

ولقد رأينا فيما مضى من البحث في تفسير الآية الكريمة: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} أن المفسرين جعلوا هذا الإيثار في حظ الدنيا، من مأكل أو ما شابهه، وآية ذلك سبب نزول الآية؛ فإن سبب نزولها وإن تعددت الروايات بشأنه إلا أنها جميعها تدور حول الإيثار بالمال مع الحاجة إليه.

كما رأينا أن العلماء حينما عرفوا الإيثار جعلوه (تقديم الغير على النفس في حظوظ الدنيا أو الجود بالمال مع الحاجة إليه) ، وبذلك اعتبروه أعلى درجات السخاء والجود؛ إذ السخاء هو بذل مال إلى إنسان آخر، محتاج أو غير محتاج، لكن الإيثار هو بذل ما يحتاج إليه لمحتاج آخر.

ص: 224

حكم الإيثار بالمال:

- الإيثار بالمال تارة يكون مستحباً، وتارة يكون مكروهاً

يفصل ذلك ويقرر الأحوال التي يكون فيها الإيثار مرغوبا، والأحوال التي يكون فيها مكروهاً.

الجصاص يقول: قال الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} الخصاصة: الحاجة، فأثنى الله على الأنصار بإيثارهم المهاجرين على أنفسهم فيما ينفقونه عليهم، وإن كانوا هم محتاجين إليه.

فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال له: معي دينار. فقال: ((أنفقه على نفسك)) فقال: معي دينار آخر. فقال: ((أنفقه على عيالك)) فقال: معي دينار آخر. قال: ((تصدق به)) .

(وروي أن رجلاً جاء ببيضة من ذهب فقال: يا رسول الله، أتصدق بهذه، فإني ما أملك غيرها. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه من الشق الآخر، فأعرض عنه، إلى أن أعاد القول، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورماه بها، فلو أصابته لعقرته، ثم قال: ((يأتيني أحدكم بجميع ما يملك، فيتصدق به، ثم يقعد يتكفف الناس، إنما الصدقة عن ظهر غنى)) .

(وروي أن رجلا دخل المسجد، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، والرجل بحال بذاذة، فحث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فطرح قوم ثياباً ودراهم، فأعطاه ثوبين ثم حثهم على الصدقة، فطرح الرجل أحد ثوبيه، فأنكره النبي صلى الله عليه وسلم .

ففي هذه الأخبار كراهة الإيثار على النفس والأمر بالإنفاق على النفس، ثم الصدقة بالفضل.

قيل له: إنما كره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأنه لم يثق منه بالصبر على الفقر، وخشي أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه، ألا ترى أنه قال: يأتيني أحدهم بجميع ما يملك فيتصدق به، ثم يقعد يتكفف الناس، فإنما كره الإيثار لمن كانت هذه حاله، فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم بالإيثار على النفس فلم يكونوا بهذه الصفة، بل كانوا كما قال الله تعالى:{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} فكان الإيثار منهم أفضل من الإمساك. والإمساك ممن لا يصبر، ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار.

ص: 225

ويقول السيوطي: الإيثار في القرب مكروه، وفي غيرها محبوب، {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ومعنى هذا أن الإيثار بالمال محبوب، ومرغوب فيه، أي (مستحب) .

ويقول الشيخ أبو محمد في الفروق: من دخل عليه وقت الصلاة، ومعه ما يكفيه لطهارته، وهناك من يحتاجه للطهارة لم يجز له الإيثار، ولو أراد المضطر إيثار غيره بالطعام لاستبقاء مهجته، كان له ذلك، وإن خاف فوات مهجته. والفرق أن الحق في الطهارة لله، فلا يسوغ فيه الإيثار، والحق في حال المخمصة لنفسه.

وقد علم أن المهجتين على شرف التلف، إلا واحدة تستدرك بذلك الطعام فحسن إيثار غيره على نفسه.

ويقوي هذا الفرق مسألة المدافعة، وهي أن الرجل إذا قصد قتله ظلماً وهو قادر على الدفع، غير أنه يعلم أن الدفع ربما يقتل القاصد فله الاستسلام (1) . وهذا رأي الشافعية في مسألة المدافعة خالفهم فيه جمهور الفقهاء الذين يرون أن الدفاع عن النفس واجب، وليس جائزاً وحينئذ ما رأى السيوطي أنه يقوي قول الشافعية في جواز أن يقدم الإنسان الطعام الذي ينقذ حياته لغيره إنقاذاً لحياة ذلك الغير، ليس على إطلاقه، بل هناك رأي في المذهب في مسألة المدافعة يتفق مع جمهور الفقهاء في ضرورة أن يحافظ الإنسان على حياته، قال تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} وقال صلى الله عليه وسلم: ((ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا)) .. رواه مسلم

(1) وهذا الذي يقرره السيوطي في مسألة المدافعة مبني على أن المذهب الشافعي وكذا الحنابلة في رأي لهم يرى أن الدفاع عن النفس جائز، وليس واجباً لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة: اجلس في بيتك، فإن خفت أن يبهرك شعاع السيف فغط وجهك. وفي لفظ: فكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل.. وعلى ذلك اعتمد عثمان بن عفان رضي الله عنه على أحد الأقوال في ترك القتال عندما هوجم في داره مع إمكان قتال المعتدين وردهم)

ويرى جهور الفقهاء (الحنفية والمالكية والشافعية في رأي ثان لهم، والحنابلة والزيدية والإمامية) وجوب دفعه ورده، ولو أدى ذلك إلى قتله؛ لقوله تعالى:{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهِ} [الآية: 9 من سورة الحجرات) . فأمر الله تعالى بقتال الفئة الباغية، ولا بغي أشد من قصد إنسان بالقتل بغير استحقاق، فاقتضت الآية قتل من قصد قتل غيره بغير حق

وأدلة أخرى كثيرة تدل على رجحان هذا الرأي بسطتها في كتابي الجنايات في الفقه الإسلامي ص 261

ص: 226

وقد أورد ابن نجيم الحنفي، ما يشهد لهذا الرأي الراجح، ويؤيد ما قيده الجصاص فيقول:(رأيت في الهبة من منية المفتي: فقير محتاج معه دراهم، فأراد أن يؤثر على نفسه، إن علم أنه يصبر على الشدة فالإيثار أفضل وإلا فالإنفاق على نفسه أفضل، انتهى)(1) .

الترجيح: من كل هذا يتبين لنا ما يأتي:

أن الإيثار بالمال، والمال الأصل فيه البذل والعطاء، والتسامح والتساهل، قال صلى الله عليه وسلم:((رحم الله رجلاً سهلاً إذا باع وإذا اشترى وإذا قضى وإذا اقتضى)) وإذا كان الأصل في المال هو هذا، فإن الإيثار بالمال يكون مرغوباً فيه ومحبوباً، إذا كان الإنسان يستطيع الصبر على الفقر ويأمن ألا يسأل الناس أعطوه أو منعوه، بأن كان له من أسباب الكسب ما يجعله مطمئناً إلى غده.

أما إذا كان لا يستطيع الصبر على الفقر، ويخشى أن يتعرض للمسألة وأن يتكفف الناس فيكره له أن يتصدق.

وقد رأينا في الأحاديث المتقدمة كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم رد صدقة من تصدق بجميع ماله، ثم قال:((يأتيني أحدهم بجميع ما يملك، فيتصدق به، ثم يقعد يتكفف الناس، إنما الصدقة عن ظهر غنى)) ، وأنكر صلى الله عليه وسلم صدقة من تصدق بأحد ثوبين، ففي هذه الأخبار كراهة الإيثار على النفس، والأمر بالإنفاق على النفس، ثم الصدقة بالفضل.

فإمساك المال ممن لا يصبر على الفقر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار، ويمكن أن نقول في هذه الحالة: إنه مكروه، والكراهة نوع من الحرمة، وما ذلك إلا لأنه عرض نفسه لما يذلها ويحوجها، وهي النفس التي كرمها الله تعالى، وأوجب تكريمها حية أو ميتة.

كما يتبين لنا أن هذا الحكم، وهو كون الإيثار تارة يكون مرغوباً وتارة يكون مكروهاً محوره المال، وحظوظ النفس الدنيوية بالجود ببعض أو كل ما يملك الإنسان من متاع الدنيا وزينتها، وليس المال إلا مطية للإنسان، وأمراً عارضاً يغدو ويروح، يكثر ويقل، والإنسان نفسه باق ما شاء الله له البقاء يحصل من المال ما وفقه الله إلى تحصيله وجمعه، وكان الإنفاق والتصدق والعطاء منه وبه أمراً مطلوباً شرعاً {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} فالأصل في المال البذل والعطاء كما سبق أن ذكرنا، وذلك بخلاف النفس؛ إذ الأصل فيها الحرمة، لا تنال كلا أو بعضاً إلا بحق، قال تعالى:{وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} ومن هنا يفترقان.

(1) وجاء في القرطبي ج18 ص 27، أثناء شرح آية الإيثار: فإن قيل: وردت أخبار صحيحة في النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء، قيل له: إنما كره ذلك في حق من لا يوثق منه الصبر على الفقر وخاف أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه، فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم بالإيثار على أنفسهم فلم يكونوا بهذه الصفة، بل كانوا كما قال الله تعالى:{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ} وكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك، والإمساك لمن لا يعتبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار. وروي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة من الذهب، فقال: هذه صدقة. فرماه بها وقال: يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به، ثم يقعد يتكفف الناس. والله أعلم.

ص: 227

الإيثار بالنفس:

تعرض بعض العلماء للإيثار بالنفس، ونورد فيما يلي بعضاً من ذلك ثم نورد تحليلاً لما ورد بشأنه:

يقول ابن العربي ومثله القرطبي (1) : (الإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس، ومن الأمثال السائرة: والجود بالنفس أقصى غاية الجود (2) ومن عبارات الصوفية في حد المحبة: أنها الإيثار، ألا ترى أن امرأة العزيز لما تناهت في حبها ليوسف عليه السلام آثرته على نفسها بالتبرئة، فقالت:{أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} ثم قال: وأفضل الجود بالنفس الجود على حماية الرسول صلى الله عليه وسلم ففي الصحيح أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، ((وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم، فيقول له أبو طلحة: لا تشرف يا رسول الله، لا يصيبونك، نحري دون نحرك. ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فَشَلَّتْ)) .

وكلام هذين العالمين الجليلين في هذا المقام هل يعني أن الإنسان يحل له أن يؤثر غيره على نفسه بحياته، أو بعضو من أعضائه؟؟

وأقول للإجابة على ذلك:

أولاً: إن الآية الكريمة كانت في الإيثار بالمال، أي: بحظوظ الدنيا ولذائذها ـ كما قال المفسرون، وكما عرفوا به الإيثار ـ طلباً ورغبة في النعيم الأخروي، ولم تكن في تقديم عضو من أعضاء الإنسان لغيره.

(1) أحكام القرآن للقرطبي: ج 18، ص 28، ولابن العربي: جزء 2 ص 246، والجصاص: ج3 ص 434.

(2)

هو بيت من الشعر لمسلم بن الوليد صدره (تجود بالنفس إذ أنت الضنين بها) . يقول: تجود بالنفس في الحرب إذ أنت الضنين بها في الدم، ويروى أن صدره:(يجود بالنفس إذ ضن الجواد بها) وهذا البيت من الشعر لا يصلح دليلاً على حكم شرعي فإيراده هنا لا محل له حين الاستدلال على الأحكام الشرعية

ص: 228

ثانياً: إن ما ورد في الحديث الشريف من أن أبا طلحة ترس للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، هذا موضوع آخر، فالجهاد في سبيل الله يكون بالمال، ويكون بالنفس، وكونه بالنفس معناه تقديمها حماية لحرمات الإسلام والذود عنه، ورد الأعداء مهزومين، ويكون ذلك بأمور، منها الهجوم على الأعداء، ومنها حماية القادة والوقوف سدا منيعاً أمام النيل منهم، وإبعاداً للأعداء عنهم، حتى يتم التخطيط السليم للمعركة وإدارتها الإدارة المحكمة. وقد كان ما فعله أبو طلحة من هذا النوع رضي الله عنه.

ثالثاً: أن حفظ الحياة هدف عظيم، ومصلحة من المصالح الضرورية، كما سبق أن ذكرنا، فالحياة لا يعرضها الإنسان للتهلكة، قال تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وقال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} .

وأما في أثناء الجهاد، فيجب أن يتقدم الإنسان نحو الأعداء، ويقتحم جمعهم اقتحاماً لا يعرف التردد، ويقدم روحه فداء لدينه ووطنه، فإن لم يفعل كان من العصاة الآثمين المرتكبين لكبيرة من الكبائر، وهي:" التولي يوم الزحف "، فإذا تراجع إلى الخلف، لغير خدعة أو مكيدة حل قتله؛ لأنه آثر حياته على حياة دينه ووطنه، وفي ذلك شر عظيم، فالأرواح في الجهاد مبذولة، وفي السلم والأمن مصانة، وشتان بين الحالتين.

ولذلك أرى أن دائرة الإيثار ليست مطلقة في كل شيء، فهي في الحظوظ الدنيوية.

ولذلك وجدنا الإمام السيوطي يقول في الإيثار في القرب وفي العبادات:

(بل الإيثار إن أدى إلى ترك واجب فهو حرام، كالماء وساتر العورة والمكان في جماعة لا يمكن أن يصلي فيه أكثر من واحد، ولا تنتهي النوبة لآخرهم إلا بعد الوقت وأشباه ذلك.

وإن أدى إلى ترك سنة أو ارتكاب مكروه فمكروه، أو لارتكاب خلاف الأولى، مما ليس فيه نهي مخصوص فخلاف الأولى.

إذن لا بد من البحث في حكم الشيء المأثور به الغير، هل يؤدي الإيثار به إلى ترك واجب، فإن أدى إلى ذلك كان حراماً.

ونعلم جميعاً أن حفظ النفس أمر واجب، وإبعاد الضرر عنها أمر واجب، وهذا بالإجماع، وتعريضها للخطر أو للتهلكة أمر منهي عنه، فهو حرام.

ومن ثم يكون الإيثار بالنفس ذاتها وبجسم الإنسان أو أعضائه حراماً ولا يجوز الإقدام عليه ما عدا ما ذكرناه في أمر الجهاد في سبيل الله تعالى.

ص: 229

أقسام الضرر

يقول العز بن عبد السلام ج2 ص 85: (وأسباب الضرر أقسام:

أحدها: ما لا يتخلف سببه عنه ـ إلا أن يقع معجزة لنبي أو كرامة لولي ـ كالإلقاء في النار وشرب السموم المذففة، والأسباب الموجبة، فهذا ما لا يجوز الإقدام عليه في حال اختيار ولا في حال إكراه؛ إذ لا يجوز للإنسان قتل نفسه بالإكراه، ولو أصابه مرض لا يطيقه لفرط ألمه لم يجز قتل نفسه....

والقسم الثاني: ما يغلب ترتب مسببه عليه، وقد ينفك عنه نادراً فهذا أيضاً لا يجوز أيضاً الإقدام عليه؛ لأن الشرع أقام الظن مقام العلم في أكبر الأحوال.

القسم الثالث: ما لا يترتب مسببه إلا نادراً، فهذا لا يحرم الإقدام عليه لغلبة السلامة من أذيته، كالماء المشمس في الأواني المعدنية في البلاد الحارة، فإنه يكره استعماله مع وجدان غيره خوفاً من وقوع نادر ضرره، فإن لم يجد غيره تعين استعماله لغلبة السلامة من شره؛ إذ لا يجوز تعطيل المصالح الغالبة بوقوع المفاسد النادرة.

كذلك فإن بقاء الحياة مع الإيثار أمر لا بد من أن يكون مراعى، فإذا أقدم إنسان في مخمصة على إعطاء ما ينقذ حياته إلى غيره، لينقذه من مخمصة كان آثماً؛ لأنه ألقى نفسه في التهكلة، وذلك منهي عنه بنص الآية الكريمة.

فالإيثار يكون فيما يمكن للإنسان الصبر عليه مع بقاء حياته، لا بما ينقذ حياته. والأحاديث الشريفة السابقة تدل على ذلك، وهو بصيغة الأمر:(ابدأ بنفسك) .

ص: 230

ويؤيد هذا ويدعمه ما ورد في تفسيره الآيتين التاليتين:

الآية الأولى هي قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} الآية. النساء: 29. يقول القرطبي: (أجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهي عن أن يقتل بعض الناس بعضاً، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل في الحرص على الدنيا وطلب المال، بأن يحمل نفسه على الضرر المؤدي إلى التلف. ويحتمل أن يقال: ولا تقتلوا أنفسكم في حال ضجر أو غضب، فهذا كله يتناوله النهي، وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد حين أجنب في غزوة ذات السلاسل خوفاً على نفسه منه، فقرر النبي صلى الله عليه وسلم احتجاجه، وضحك عنده ولم يقل شيئاً. أخرجه أبو داود وغيره (1) .

(1) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال (لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عام (ذات السلاسل) قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال: فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال: يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب؟ قال: قلت: يا رسول الله، إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرودة، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فذكرت قول الله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} . فتيممت ثم صليت. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً) رواه أحمد وأبو داود.

ص: 231

وأورد ابن مردويه عند هذه الآية الكريمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)) . وفي الصحيحين: ((من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة)) . وفي الصحيحين أيضاً عن جندب بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان رجل ممن كان قبلكم، وكان به جرح فأخذ سكيناً فجر بها بيده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله عز وجل:عبدي بادرني بنفسه، حرمت عليه الجنة)) (1) .

ومن هذه التفاسير للآية الكريمة نأخذ ما يلي:

أولاً: أن الإنسان يجب عليه أن يحافظ على حياته، ويجب عليه ألا يقدم نفسه بقصد منه للقتل في الحرص على الدنيا وطلب المال.

(فإذا قصد ذلك كان فعله حراماً، وكان آثما وكان قاتلاً لنفسه، وإننا نرى الآن أن تقديم الأعضاء للآخرين احتوى غالباً على نظر دنيوي عماده ما يقدمه الآخذ للمعطي من مال أو ما يحرزه من وراء ذلك من كسب.

ثانياً: أن حمل النفس على الغرر المؤدي إلى الهلاك ممنوع شرعاً أخذاً من هذه الآية الكريمة.

والغرر في اصطلاح العلماء، هو ما تردد بين السلامة والعطب) (2) .

وهل استئصال عضو من إنسان لينتفع به شخص لا يجعل المتبرع في مرحلة التردد بين السلامة والعطب؟

نعم المتبرع، مهما تقدم الطب، هو في أثناء استئصال عضوه، هو في مرحلة الغرر المؤدي للهلاك، أي مرحلة التردد بين السلامة والعطب، فيكون هذا العمل ممنوعاً أيضاً ومحرماً، وفاعله يكون آثماً، وإنه إن مات بسبب ذلك في الحال أو في المآل كان قاتلاً لنفسه، أو ملقياً لنفسه في التهلكة، وبعد استئصاله أيضاً يكون معرضاً لفشل العضو الباقي.

(1) ابن كثير ج1 ص 379، القرطبي ج5 ص 156، والجصاص: جـ2 ص 221 والنسفي: ج1 ص 172

(2)

يراجع نظرية الشرط أ. د/ حسن الشاذلي في الشرط المؤدي إلى الغرر.

ص: 232

ثالثاً: إن قتل الإنسان نفسه محرم بنص الآية، سواء كان الإنسان في حال ضجر أو غضب، كما ذكر آنفاً، وكذلك يقاس عليه إذا كان في حال حب أو مودة بالغة، فإن كل ما يعتور النفس من عواطف وما يصاحبها من انفعالات كل هذا لا يؤثر في حرمة نيل الإنسان من نفسه أو الإضرار بها؛ لأنها ملك لخالقها، وليس لك عليها إلا حق الانتفاع بها فقط، طبقاً لما حدده الشرع لك، وما أباحه لك عليها، فهي نفسك، ولكنها غيرك، نفسك تنتفع بها حسب شرع الله تعالى، وغيرك، حين تضر بها أو تنتفع بها في غير ما شرع الله تعالى، فتكون عقوبتك حينئذ أشد من عقوبة المعتدي على غيره.

رابعاً: إن تعريض النفس للهلاك محرم شرعاً، وذلك أخذاً من هذه الآية، فقد رأينا عمرو بن العاص رضي الله عنه يمتنع عن الاغتسال بالماء البارد، حين أصبح جنباً؛ خوفاً على نفسه من برودة الماء، مستدلاً بهذه الآية، وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على هذا التفسير، بل وسره صلى الله عليه وسلم ذلك، ولم يقل له شيئاًَ.

فهذا يدل على أن هذه الآية يدخل في مدلولها والمراد بها عدم تعريض النفس للهلاك، ولو كان ذلك من أثر استعمال الماء البارد، الذي يخشى الإنسان من أنه لو استعمله لأدى إلى هلاكه، فيكون ذلك ممنوعاً ومحرماً أيضاً.

خامساً: إن هذه الآية: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} جاء بعدها قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} الآية 30 من سورة النساء.

ص: 233

يقول القرطبي أيضاً: (ذلك) إشارة إلى القتل؛ لأنه أقرب مذكور، قاله عطاء، وأضيف إلى ذلك أن كل ما أخذناه من الآية من معان، وما أفادته من أحكام، كل من يفعله عدواناً وظلماً أي قصداً وعمداً، لا سهواً وخطأ يحق عليه أن يصلى النار.

يقول ابن كثير: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا} أي ومن يتعاطى ما نهاه الله عنه معتدياً فيه، ظالماً في تعاطيه، أي عالماً بتحريمه متجاسراً على انتهاكه فسوف نصليه ناراً، وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، فليحذر منه كل عاقل لبيب ممن ألقى السمع وهو شهيد) .

الآية الثانية: قال الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (1) .

قال البخاري: حدثنا إسحاق أخبرنا النضر، أخبرنا شعبة عن سليمان سمعت أبا وائل عن حذيفة {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال:

نزلت في النفقة

وروي عن ابن عباس ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وعطاء، والضحاك، والحسن، وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان نحو ذلك.

وقال الليث بن سعد: عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية، إنما نزلت فينا، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهدنا معه المشاهد، ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار تحبباً فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونصره، حتى فشا الإسلام، وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما، فنزل فينا {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد) (2) .

إلا أنه من المعلوم أن سبب النزول لا يخصص عموم النص، وإنما النص يشمل سبب النزول، كما يشمل غيره.. ومن هنا وجدنا عدة تفسيرات لهذه الآية.

ونبرزها فيما يلي:

(1) يراجع القرطبي جـ2 ص 363 والطبري: جـ2 ص 112 وابن كثير جـ1 ص 228 والجصاص ج1 / ص 326، وابن العربي: جـ1 ص 49

(2)

رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وعبد بن حميد في تفسيره، وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه، والحافظ أبو يعلى في مسنده وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، كلهم من حديث يزيد بن أبي حبيب به، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، وقال الحاكم: على شرط الشيخين ولم يخرجاه، يراجع ابن كثير.

ص: 234

ثانياً: معنى قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} .

(أ) يقول الماوردي: (في الباء قولان: أحدهما أنها زائدة وتقديره: ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة، ونظيره قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} (1) .

وقال المبرد: {بِأَيْدِيكُمْ} أي: بأنفسكم، فعبر بالبعض عن الكل، كقوله تعالى:{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} .

وقيل: هذا ضرب مثل، تقول: فلان ألقى بيده في أمر كذا إذا استسلم؛ لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيده، فكذلك كل عاجز في أي فعل كان، ومنه قول عبد المطلب:(والله إن إلقاءنا بأيدينا للموت لعجز) .

والقول الثاني: إن الباء غير زائدة، أي: ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة، كما تقول: لا تفسد حالك برأيك.

(ب) والتهلكة (بضم اللام) مصدر من هلك يهلك هلاكاً وهلكاً وتهلكة، أي: لا تأخذوا فيها يهلككم، قاله الزجاج وغيره.

(جـ) ما ورد من تفسير للآية:

الآية فيها ستة تأويلات:

أحدها: إن لم تنفقوا في سبيل الله تعالى عصيتم الله تعالى فهلكتم بالإثم، أي: لا تتركوا النفقة في سبيل الله؛ فإن الله يعوضكم منها أجرا ويرزقكم عاجلاً، وهذا قول ابن عباس وحذيفة، وسبيل الله طريقه الذي أمر أن يسلك فيه إلى عدوه من المشركين بجهادهم وحربهم، فقد روي عن ابن عباس قال في هذه الآية: قال ليس ذلك في القتال، إنما هو في النفقة، أن تمسك بيدك عن النفقة في سبيل الله، ولا تلق بيدك إلى التهلكة.

وقال الضحاك بن أبي جبير: كانت الأنصار يتصدقون وينفقون من أموالهم، فأصابتهم سنة، فأمسكوا عن النفقة في سبيل الله فنزلت:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (2) .

وعن ابن عباس فإن لم يكن لك إلا سهم أو مشقص أنفقه.

التأويل الثاني: أي لا تخرجوا بغير زاد فتهلكوا بالضعف، يشهد له قوله تعالى:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} .

وهو قول زيد بن أسلم، قال:(لا تسافروا في الجهاد بغير زاد، وقد كان فعل ذلك قوم فأداهم ذلك إلى الانقطاع في الطريق، أو يكون عالة على الناس) .

(1) الآية: 14 من سورة العلق.

(2)

ابن كثير: ج1 ص 229، والماوردي

ص: 235

التأويل الثالث: أي لا تيأسوا من المغفرة عند ارتكاب المعاصي، فلا تتوبوا، وهذا قول البراء بن عازب، وقال محمد بن سيرين وعبيدة السلماني: الإلقاء إلى التهلكة هو القنوط من رحمة الله تعالى. قال أبو قلابة: هو الرجل يصيب الذنب فيقول: قد هلكت، ليس لي توبة. فييأس من رحمة الله وينهمك في المعاصي فنهاهم الله تعالى عن ذلك، كما قال الله تعالى:{إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (1) .

التأويل الرابع: أي لا تتركوا الجهاد في سبيل الله فتهلكوا، وهذا قول أبي أيوب الأنصاري، وقد تقدم ما روي بشأنه.

التأويل الخامس: إنها التقحم في القتال من غير نكاية في العدو، وهو الذي تأوله القوم الذين أنكر عليهم (2) . أبو أيوب الأنصاري، وأخبر فيه بالسبب، وهذا قول أبي القاسم البلخي (3) . وبين ابن العربي أن معنى الآية على هذا الرأي:(لا تدخلوا على العساكر التي لا طاقة لكم بها) .

وقد اختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو وحده إلى آراء:

الأول: وهو رأي القاسم بن مخيمرة، والقاسم بن محمد وعبد الملك من علماء المالكية، قالوا: لا بأس بأن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة، وكان لله بنية خالصة، فإن لم يكن فيه قوة فذلك من التهلكة.

الرأي الثاني: قيل إنه طلب الشهادة وخلصت نيته فليحمل على العدو؛ لأن مقصوده واحد منهم، وذلك بين في قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} .

الرأي الثالث: يقول ابن خويز منداد: فإما أن يحمل الرجل على مائة، أو على جملة العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج، فلذلك حالتان:

الأولى: إن علم وغلب على ظنه أن سيقتل من حمل عليه وينجو فحسن، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أن يقتل، ولكن سينكي نكاية أو سيبلي، أو يؤثر أثراً ينتفع به المسلمون فجائز أيضاً (4) .

(1) الآية: 87 من سورة يوسف.

(2)

أحكام القرآن للجصاص: جـ1 ص 327

(3)

تفسير الماوردي: جـ1 ص 212

(4)

ج1 ص 128 ولم ينص القرطبي على الحالة الثانية ولكنها واضحة، وهي أنه في غير هاتين الصورتين الجائزتين لا يجوز إلقاء النفس في الهلكة

ص: 236

وقد علق القرطبي على هذا الرأي بقوله:

(قلت: ومن هذا ما روي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً؟ قال: ((فلك الجنة)) . فانغمس في العدو حتى قتل. وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال:((من يردهم عنا وله الجنة؟)) أو ((هو رفيقي في الجنة؟)) فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((ما أنصفنا أصحابنا)) هكذا الرواية ((أنصفنا)) بسكون الفاء ((أصحابنا)) بفتح الباء، أي لم ندلهم للقتال حتى قتلوا) ، وروي بفتح الفاء ورفع الباء، ووجهها أنها ترجع لمن فر عنه من أصحابه والله أعلم) .

الرأي الرابع: قال محمد بن الحسن في السير الكبير: إن رجلاً لو حمل على ألف رجل وهو وحده، لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية فإني أكره له ذلك؛ لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين، وإنما ينبغي للرجل أن يفعل ذلك إذا كان يطمع في نجاة أو منفعة للمسلمين، فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية ولكنه يجرئ المسلمين بذلك حتى يفعلوا مثل ما فعل، فيقتلون وينكون في العدوِّ فلا بأس بذلك إن شاء الله؛ لأنه لو كان على طمع من النكاية في العدو، ولا يطمع في النجاة، لم أرَ بأساً أن يحمل عليهم، فكذلك إذا طمع أن ينكي غيره فيهم بحملته عليهم فلا بأس بذلك، وأرجو أن يكون فيه مأجوراً.

وإنما يكره له ذلك إذا كان لا منفعة فيه على وجه من الوجوه، وإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية، ولكنه مما يرهب العدو فلا بأس بذلك؛ لأن هذا أفضل النكاية، وفيه منفعة للمسلمين) .

وقد علق الجصاص على قول محمد بن الحسن هذا قائلاً: (والذي قال محمد من هذه الوجوه صحيح لا يجوز غيره، وعلى هذه المعاني يحمل تأويل من تأول في حديث أبي أيوب أنه ألقى بيده إلى التهلكة بحمله على العدو، إذ لم يكن عندهم في ذلك منفعة، وإذا كان كذلك فلا ينبغي أن يتلف نفسه من غير منفعة عائدة على الدين، ولا على المسلمين، فأما إذا كان في تلف نفسه منفعة عائدة على الدين فهذا مقام شريف مدح الله به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} (1) .

وقال: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (2) . وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} (3) في نظائر ذلك من الآي التي مدح الله فيها من بَذَلَ نفسه لله.

(1) الآية 111 من سورة التوبة

(2)

الآية: 169 من سورة آل عمران

(3)

الآية 207 من سورة البقرة

ص: 237

خلاصة هذه الدراسة:

هذه الآراء جميعها تدور حول محور واحد، وهو أنه إذا كان اقتحام الواحد في الجيش العظيم يحقق مصلحة للدين ومنفعة للمسلمين فإنه يجوز، وإلا فلا يجوز.

(أ) وإذا تتبعنا حالات جواز أن يلقي الواحد بنفسه في التهلكة كانت على حسب الآراء هي:

(1)

إذا كان في المقتحم قوة، وكان لله بنية خالصة.

(2)

إذا طلب الشهادة، وكان لله بنية خالصة وحكي بقيل.

(3)

إذا علم أو غلب على ظنه نجاته، وأنه سيقتل من حمل عليه.

(4)

إذا علم أو غلب على ظنه نجاته، وأنه سينكي العدو، ويؤثر تأثيراً ينتفع به المسلمون.

(5)

إذا كان يطمع في نجاة، أو نكاية في العدو، أو يجرئ المسلمين بذلك حتى يفعلوا مثل ما فعل.

(ب) وإذا تتبعنا الحالات التي لا يجوز فيها إلقاء النفس في التهلكة كانت على حسب الآراء السابقة هي:

(1)

إذا لم يكن في المقتحم قوة، ولم يكن لله بنية خالصة.

(2)

إذا لم يطلب الشهادة، ولم يكن لله بنية خالصة.

(3)

إذا علم أو غلب على ظنه أنه لن ينجو، وأنه لن يقتل من حمل عليه.

(4)

إذا علم أو غلب على ظنه أنه لن ينجو، وأنه لن ينكي العدو، ولن يؤثر تأثيراً ينتفع به المسلمون.

(5)

إذا كان لا يطمع في نجاة، ولا نكاية في العدو، ولا يجرئ المسلمين بذلك. وكل حالات عدم الجواز يجمعها ضابط واحد كما قال الجصاص:

(إنه لا ينبغي أن يتلف الإنسان نفسه من غير منفعة عائدة على الدين، ولا على المسلمين، فإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت نفسه لإعزاز دين الله، وتوهين الكفر، فهذا المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} . الآيةَ.

أما في غير هذا فيكون إلقاء للنفس في التهلكة، وهو منهي عنه بنص الآية الكريمة.

ص: 238

التأويل السادس: وهو سادس التأويلات في الآية الكريمة، وآخرها، وهو رأي ابن جرير الطبري، حيث يقول بعد أن ذكر الآراء جميعها ممَّا يراه صواباً.

(والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمر بالإنفاق في سبيله بقوله: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وسبيله طريقه الذي شرعه للعباد وأوضحه لهم، ومعنى ذلك: وأنفقوا في إعزاز ديني الذي شرعته لكم بجهاد عدوكم الناصبين لكم الحرب على الكفر، ونهاهم أن يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، فقال:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وذلك مثل، والعرب تقول للمستسلم للأمر: أعطي فلان بيديه، وكذلك يقال للممكن من نفسه مما أريد به: أعطي بيديه، فمعنى قوله:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} : ولا تستسلموا للهلكة فتعطوها أزمته فتهلكوا.

والتارك النفقة في سبيل الله عند وجوب ذلك عليه مستسلم للهلكة بتركه أداة فرض الله عليه في ماله، وذلك أن الله جل ثناؤه جعل أحد سهام الصدقات المفروضات الثمانية في سبيله فقال:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} إلى قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} فمن ترك إنفاق ما لزمه من ذلك في سبيل الله على ما لزمه كان للهلكة مستسلماً، وبيديه للهلكة ملقياً، وكذلك الآيس من رحمة الله لذنب سلف ملق بيديه إلى التهلكة؛ لأن الله قد نهى عن ذلك فقال:{وَلَا تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلَاّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} ، وكذلك التارك غزو المشركين وجهادَهم في حال وجوب ذلك عليه في حال حاجة المسلمين إليه مضيع فرضاً ملق بيديه إلى التهلكة، فإذا كانت هذه المعاني كلها محتملها قوله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ولم يكن الله عز وجل خص منها شيئاً دون شيء فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله نهى عن الإلقاء بأيدينا لما فيه هلاكنا، والاستسلام للهلكة، وهي العذاب بترك ما لزمنا من فرائضه غير جائز لأحد منا الدخول في شيء يكرهه الله منا، مما يستوجب بدخلونا فيه عذابه، غير أن الأمر وإن كان كذلك فإن الأغلب من تأويل الآية: وأنفقوا أيها المؤمنون في سبيل الله، ولا تتركوا النفقة فيها فتهلكوا باستحقاقكم بترككم ذلك عذابي، كما حدثني المثنى قال حدثنا أبو صالح قال لنا معاوية عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال: التهلكة عذاب الله، قال أبو جعفر: فيكون ذلك إعلاماً منه لهم بعد أمره إياهم بالنفقة ما لمن ترك النفقة المفروضة عليه في سبيله من العقوبة في المعاد، قال قائل: فما وجه إدخال الباء في قوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} وقد علمنا أن المعروف من كلام العرب: ألقيت إلى فلان درهماً دون ألقيت إلى فلان بدرهم؟ قيل: قد قيل: إنها زيدت نحو زيادة القائل الباء في قوله: جذبت بالثوب وجذبت الثوب، وتعلقت به وتعلقته، وتنبت بالدهن وإنما هو تنبت الدهن. وقال آخرون: الباء في قوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} أصل للكلمة؛ لأن كل فعل واقع كني عنه فهو مضطر إليها؛ كنحو قولك في رجل: كلمته، فأردت الكناية عن فعله فإذا أردت ذلك قلت: فعلت به، قالوا: فلما كان الباء هي الأصل جاز إدخال الباء وإخراجها في كل فعل سبيله سبيل كلمته، وأما التهلكة فإنها التفعلة من الهلاك.

ص: 239

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} يعني جل ثناؤه بقوله: {وَأَحْسِنُوا} أحسنوا أيها المؤمنون في أداء ما ألزمتكم من فرائضي وتجنبوا ما أمرتكم بتجنبه من معاص، ومن الإنفاق في سبيلي، وعود القوي منكم على الضعيف في الخلة؛ فإني أحب المحسنين في ذلك، كما حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا زيد بن الحباب قال: أخبرنا سفيان عن أبي إسحاق، عن رجل من الصحابة في قوله:{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قال: أداء الفرائض. وقال بعضهم: معناه أحسنوا الظن بالله. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة:{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قال: أحسنوا الظن بالله ببركم، وقال آخرون: أحسنوا بالعود على المحتاج. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (عودوا على من ليس في يده شيء) .

النتيجة العامَّة لهذا البحث:

(كل هذا يدلنا على أنه تفسير الآيتين الكريمتين يَمْنَعُ أن يقتل الإنسان نفسه، ويمنع أن يُعَرِّض الإنسان نفسه للهلاك في كل الأحوال، وفي جميع الحالات سوى في حالة واحدة، بضوابط محددة، وهي حالة اقتحام الواحد على الجيش العظيم، عالِماً أن اقتحامه يُحقق مصلحة الدين ومنفعة جميع المسلمين، وفي غير ذلك يكون ممنوعاً إلقاء النفس في التهلكة، حتى ولو كان إيثاراً؛ لأن الإيثار إنما يكون بالمباحات، ولا يكون بالمحرمات، والله أعلم.

ص: 240

المبحث الرابع عشر

سد الذرائع

سد الذرائع

إن القول بجواز نقل الأعضاء بين إنسان حي إلى إنسان آخر يؤدي إلى فتح باب شر عظيم، حيث يفتح باب التجارة في الأعضاء الآدمية، فمَن لديه المقدرة المادية اشترى ممن ليس لديهم هذه المقدرة، ويصبح الآدميُّ كُلًّا أو بعضاً سلعة من السلع تباع وتُشترى، تغلو وترخص في ميدان العرض والطلب، ويصبح للغني ما يريد، وللفقير الهلاك والضياع، وتتحول هذه المعاني التي ينثرونها وروداً في ميدان نقل الأعضاء مضار جسيمة الآدمية جمعاء، ويتحول سوقها إلى سوق خزي وعار للإنسانية

إن تدفق الشر من فتح هذا الباب يجعلنا نقول: إنه ممنوع شرعاً سدا للذرائع. وهو دليل آخر يضاف إلى الأدلة التي أفضنا في بيانها.

ولنتتبع معاً ما طفا وظهر من الأخبار العالمية حول التجارة في الإنسان، والتجارة في أعضائِه، وما خفِي كان أعظم، فإن العلم بها يعطينا فكرة واضحة حول ما يجري داخل أسواق بيع الكُلى في العالم أجمع.

جاء في الأهرام بتاريخ 4/11/ 1987 م تحت باب أخبار قصيرة ما يلي:

أ - الأطفال

قطع غيار:

تيجو سيجاليا ـ كشف مسؤول بارز في هندوراس أن بعض الأجانب يشترون أطفالا من هندوراس للحصول على أعضاء حيوية من أجسامهم لاستخدامها في عمليات زراعة الأعضاء، وقال المسؤول في حديث صحفي: إن معظم الأطفال الذين يتم شراؤهم من المعوقين جسدياً.

ص: 241

ب - كما جاء في الأخبار بتاريخ 20/ 11/ 1987 م تحت باب حكايات عربية بقلم وجيه أبو ذكري ما يلي:

الخطر القادم بدأ في الخرطوم:

شاهد مسؤول في مطار الخرطوم سيدة شقراء جميلة ومعها طفل أسمر في الرابعة من عمره، ولما سألها عنه أخرجت له جواز سفرها، وقالت: إنه ابنها، واسمه مُدَوَّن على جواز السفر، ولكن مسؤول المطار شك في الأمر، إذ كيف الطفل الأسود ابن السيدة الشقراء. فحاولت أن تقضي على الشك فأخبرته بأنها جاءت به سِفاحاً من أب سوداني.

وعندما لم يقتنع بذلك حاولت أن تقدم له رشوة نظير أن يتركها تأخذ ابنها وتصعد إلى الطائرة المتجهة إلى أثينا.، ورفض الرشوة وقادها إلى الشرطة.

وفي شرطة مطار الخرطوم ضاق الخناق عليها، وبعد ساعات من الأسئلة المتواصلة اعترفت السيدة اليونانية بأبشع قصة إنسانية.

فالسيدة عضو في عصابة دولية، لها مراكز في الكثير من دول العالم (المتقدم) ، ومهمة هذه العصابة سرقة أطفال الدول (المتخلفة) من آسيا وأفريقيا وكانت مهمتها سرقة أطفال سوادنيين وخاصة من الجنوب

ويعيش الأطفال بعد ذلك في مراكز معدة لذلك، وتحت رعاية طبيبة جيدة.. ورعاية غذائية جيدة.

والعصابة على اتصال مستمر بكافة المستشفيات الكبرى في كل عواصم العالم (المتحضر) ، وهذه المستشفيات تحتاج إلى أعضاء بديلة للمرضى الأثرياء، وعندما يطلب من العصابة عضو بشري بديل، يأتون بطفل من ذلك المركز السري، ويتم خنقه بغاز ثاني أكسيد الكربون ثم يتم تشريحه، وتباع بعض أجزائه لتلك المستشفيات بمبالغ طائلة.

وقالت الشقراء اليونانية لشرطة مطار الخرطوم: لقد بدأت هذه العصابة عملها ذلك مند عام 1979، وهي تفكر في شراء طائرات خاصة بها، وربما تصبح هذه العصابات أخطر وأهم من عصابات بيع السلاح والاتجار في المخدرات.

كدت لا أصدق ما أسمع، لولا أن محدثي هو الشاعر السوداني الكبير مصطفى سند.

وسألته: هل نشرت الصحف هذا النبأ الخطير؟ وقال: لقد نشرتْه عن استيحاء. لماذا؟ لقد حدث ذلك أيام الحكم الشمولي، وكانت الرقابة على الصحف السودانية صارمة أيام حكم (نميري) إلا أن الخرطوم كلها كانت تتحدث عن هذه الحادثة البشعة.

ص: 242

وماذا تم في الطفل والشقراء؟ الطفل أعادوه إلى أسرته، والشقراء رحلت دون محاكمة.

هذه الحادثة، وأعتقد أنها صحيحة، بل وأجزم أن الخطر القادم على البشرية قبل المخدرات والإيدز والسلاح هو التجارة في أعضاء جسد الإنسان الحي، وهي تجارة أقسى من تجارة الرقيق الأبيض، وهو يؤكد أننا نعيش في زمن ردئ اغتيل فيه الضمير الإنساني.

ولقد جرت في القاهرة شائعة ـ لا أساس لها من الصحة ـ قريبة من هذه الواقعة.

ومعنى ذلك أن هناك خطراً قادم وأن خير وسيلة للعلاج من أي خطر هي الوقاية منه، ولكي ندفع عن مجتمعاتنا هذا الخطر القادم لا محالة، فأتصور أن تَصدر تشريعات تجرم هذا. بل وتنظم نقل الأعضاء من الإنسان لآخر، فحتى في مصر ظهرت إعلانات خلال السنوات الماضية عن طلب شراء كُلى مع الاستعداد لدفع الثمن وبالآلاف. بل وليس سراً أن هناك مستشفيات في مصر يرقد فيها أثرياء المرضى انتظاراً لشراء كلى.

فأنقذوا مصر من خطر قادم. نعم فالخطر قادم لا محالة. وظهرت جرائمه في دولة عربية شقيقة هي السودان.

عقدت كلية الطب بجامعة عين شمس بالقاهرة ندوة حول رأي الدين في التبرع بالأعضاء، وأرى أن أنقل ما نشرته الأهرام عن وقائع هذه الندوة وما صرح به الأطباء مما رأوه من مآس حتى نتيقن أن خطراً جسيماً يطل برأسه على الإنسانية جمعاء. نشر في الأهرام بتاريخ 26/8/ 1987م

تحقيق تحت عنوان (سوق الكلى في مصر

من يبيع.. ومن يشتري؟) .

ما الذي يجري الآن داخل سوق الكلى في مصر؟

فقد تحولت بالفعل إلى تجارة ووساطات وربح وسمسرة، بل إنها وصلت إلى حد الاختطاف وإجراء عملية نزع كلية في الظلام لتركيبها لإنسان مريض، طال انتظاره لها؟ لسنا على أي حال نتهم أحداً.. ولا نوجه اللوم لمجرد اللوم إلى أحد

ولكن وقد فاض الكيل بنا قبل من يريد الكلية ولا يجد بائعاً لها إلا بشق الأنفس.. لا بد لنا من مواجهة هذه الظاهرة الجديدة، والتي أطلق عليها الأطباء والمرضى (سوق الكلى في مصر) . من يشتري ومن يبيع؟

ص: 243

إن تحقيقات الأهرام، وهي تفتح ملف مرضى الكلى في مصر يهمها في المقام الأول أن نعثر على حل حاسم للقضية.. وأن يساعدنا الأطباء ورجال الدين في حلها، خصوصاً مشكلة أحلال أم حرام التبرع بكلية إلى إنسان آخر؟

المنصة تزدحم بباقة من أطباء مصر طرحوا مشكلة على جانب كبير من الأهمية، هي (رأي الدين في التبرع بالأعضاء) ، ضمت المنصة عميد طب عين شمس د. علي عبد الفتاح، ومفتي الجمهورية د. سيد طنطاوي، والأساتذة الدكاترة عبد المنعم حسب الله، ووحيد السعيد، إبراهيم راجي، وسالم نجم، حلمي مراد، نعمت نور الدين.

في البداية عرض الأطباء.. صور تكريم الإنسان في القرآن الكريم

وقد جاء ذكر آدم وبني آدم في القرآن الكريم في خمس وعشرين آية كريمة

كما جاء تكريم الإنسان في الكتب السماوية بأجمعها

وكانت هذه المقدمة من د. علي عبد الفتاح، الذي دعا لعقد ندوة، مريحة للنفس البشرية، ومطمئنة.

ص: 244

أتبرع

بكلية زوجتي!

وقد سبق هذا العرض.. حوادث مؤلمة عن (سوق بيع الكلى البشرية) ، وقد عكست (السوق) مظاهر غير إنسانية وقواعد لا آدمية

وظهر فوق السطح (معاملات) غريبة، ومساومات أغرب تشير إلى أن سوق بيع الأعضاء البشرية سوف تتعرض بالضرورة إلى دروب اللاأخلاقيات، وكان لا بد من وقفة أسرعت إليها كلية الطب.

تحكي د. نعمت نور الدين واقعة عاشتها بحكم عضويتها لجمعية أصدقاء المرضى بالفشل الكلوي في مستشفى كوبري القبة، وهي أستاذة بكلية الزراعة.. وهي تعيش المشكلة بكل وجدانها

وتقول: عشت تجربة تجارية.. جرت فيها مساومات لا إنسانية في سوق بيع قطع الغيار البشرية وعرضت المشكلة أمام كل الحاضرين، في أسلوب درامي حزين مؤسف.. وقالت: عندما طلبت شراء كلية لمريض أصيب بفشل في الكليتين جاءتني أعداد كبيرة من المتطوعين. جاءوا وكلهم رغبة في التبرع بإحدى الكليتين، وقد حمل كل متطوع شروطه ومبرراته.

قالت: جاءني أحد المتطوعين.. وقال: إن الكلية جاهزة.. وهو يود أن ندفع له مبلغ 30 ألف جنيه عداً ونقداً، ولا ينقص هذا المبلغ مليماً واحداً، وهو جاهز ومستعد للبدء في إجراءات الاختبارات الخاصة بالدم والأنسجة، وعندما يتأكد تطابق أنسجته مع أنسجة المريض سوف أكون جاهزاً لدخول حجرة العمليات لنزع كليتي وزرعها في كلية مريضكم.

ص: 245

وتستمر د. نعمت في روايتها وتقول: فرحنا بهذا العرض، وحاولنا أن نخفض هذا المبلغ لأنه ضخم، وقد لا يكون متوفراً، كما أنه مبالغ فيه ولا سيما وإن هناك عروضاً أقل من هذا الرقم لمتبرعين بكليتهم.

ولكن المتبرع أجاب: إن هذا المبلغ لم يضعه اعتباطاً ولكنه موضوع تحت شروط، أن هذا المبلغ لن يضعه في جيبه.. إن هذا المبلغ مطلوب

وإلا دخل السجن؟ وقال: إنني أعمل سائقاً لسيارة أجرة أرتزق منها، وأكسب منها قوتي وقوت أولادي وزوجتي، وبينما كنت أقود سيارتي الأجرة فوجئت أمامي بأحد المارة يعبر الطريق.

صدمته بسيارتي صدمة قوية.. وتم نقله إلى المستشفى وهناك لفظ أنفاسه

ودخلت السجن. ورفعت ضدي قضية، وكسب أهل المتوفى القضية التي حكمت بدفع تعويض قدره 30 ألف جنيه، وكان أمامي حلان لا ثالث لهما. إما أن أدفع التعويض أو السجن

وأنا عائل أسرتي الوحيد، وقد قفز أمامي الحل

بأن أبيع الكلية لأي مريض مقابل هذا المبلغ.. وإلى هنا. وقد تركت القصة أثراً مؤلماً وكان المبرر واضحاً.

ورضخت الأسرة للثمن من منطق واحد، وهو أن هذا مبلغ يحل مشكلتين ويضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، إننا بهذا المبلغ ننقذ أسرة من التشرد. وننقذ إنساناً من السجن، وننقذ مريضاً من حالة الموت.

وتم الاتفاق هكذا وقبل أن نبدأ أول خطوة لتناسق الأنسجة والاختبارات بين المريض وواهب الكلية، فوجئت بالسائق وقد جاءني في الموعد المحدد، وقد جر خلفه زوجته وقال: نسيت أقول لكم: إن الذي سوف يتبرع بالكلية هو زوجتي وليس أنا

لأني ضعيف.

وتعلو المفاجأة وجوه الحاضرين

وتستمر الدكتورة نعمت قائلة: وللأسف فإن زوجته كانت نحيلة الجسم ضعيفة البنيان، وكان هو مكتمل الصحة والعافية ذا بنيان ضخم لا يتجاوز الـ 28 ربيعاً

ورفضنا طبعاً لأن كل العناصر الإنسانية هنا فقدت قيمتها، وعادت د. نعمت إلى دراستها مرة أخرى.. في البحث عن متطوع في (سوق بيع الأعضاء البشرية) .

ص: 246

وجاءنا عرض آخر من متطوع آخر، قال: إنه مستعد للتبرع بكليته. وكان شاباً في عز شبابه، وبدأنا الحوار الحزين والمبادلة.. والمساومة.. قلنا له: وكم تساوي؟ ويدور الفصال، ولكن هذا الشاب كان مجاملاً

لطيفاً، أبدى استعداداً طيباً للتبرع ولم يفاصل في ثمن بيع كليته.. وقد عطفنا عليه جدا.. وكانت له مطالب تبدو ساذجة جداً، أنه يود أن يأكل جيداً؛ لأن صحته معتلة وضعيفة، وأنه في حاجة إلى أكل جيد وأنه يشتهي أطباق الكباب والكفتة، وفعلاً تعاطفنا حول طلبه وقدمنا له كل مطالبه، وقام مع الأيام باستنزافنا وطلب منا نقوداً للسفر إلى أهله، بطول مصر وعرضها لتوديع أهله.. وتبين لنا أنه ينتمي إلى أسرة عريضة النسب، وبلغ الأمر أنه طلب تليفزيوناً ملوناً لأسرته لأنها محرومة من التليفزيون. وجاء وقت الجد

وطلبناه لبدء التحاليل، وتحليل الأنسجة، ومهمة المعامل، وعند الانتهاء من كل هذا.. فوجئنا بأن كل التحاليل سليمة والأنسجة مطابقة والحمد لله. وعندما بدأنا إجراء الأشعة.. فوجئنا بأن إحدى كليتيه في حالة ضمور

والكلية الأخرى سليمة

وإنسانياً..فإنه لا ينبغي أن يتبرع هذا المريض بكليته لأنه فعلاً يعيش على كلية واحدة.

واعتذرنا له.. ونحن آسفون بعد رحلة طويلة من التحاليل المكلفة.. وعطفنا عليه؛ لأنه فوجئ بمشكلته المرضية هذه، وطلبنا من الطبيب عدم إخباره بهذه المأساة التي ظهرت في حياته، وتبين لنا في النهاية أن هذا الإنسان يعلم بكل شيء وأنه نصاب وأنه يتخذها تجارة له في ابتزاز الناس المحتاجين إلى من يتبرع بكليته

ولكنه يظل يبتز الناس لمدة 6 شهور كاملة

إلى أن يجيء موعد إجراء الأشعة باعتباره آخر إجراء يتم قبل الجراحة، وهنا يكون قد حصل على ما يريده من أموال وهدايا ثم يدعي أنه جاهز لولا مشكلته

وأصبح هذا الشاب من أشهر النصابين في (سوق بيع قطع الإنسان البشرية)

في أحد مستشفيات مصر الجديدة.. والحكاية لا تنتهي.

ص: 247

لقد جاءني أحد الأطباء - هكذا يقول د. رشاد برسوم - وكان مصاباً بفشل كلوي، وقد سحب خلفه أحد المتطوعين المزمع بيع كليته، وقال لي: إن هذا المتبرع سوف يحصل على نصيبه وأرجو أن تسرع بالموافقة، ولكني رفضت (الكلام ما زال للدكتور رشاد) وقلت له: إنني أرفض إجراء جراحة تتم على أساس بيع الكلية، هل لك أشقاء؟

أجاب: نعم. قلت: إن المفروض أن الأشقاء يتبرعون بكلاويهم لأشقائهم بدون مقابل.

(إننا نعيش في مستنقع

ساعدونا للخروج منه) .. دوت هذه الجملة في قاعة المؤتمرات الكبرى، في مستشفى جامعة عين شمس التخصصي، وسط جمع من الأطباء، يمثلون الصفوة في تخصصات أمراض الكلى، وجراحات الكلى وزراعة الأعضاء، والمعامل، وتحليل الأنسجة من أساتذة الجامعات.

شدت هذه الجملة، التي بدأ بها د. عبد المنعم حسب الله أستاذ الأمراض الباطنية والكلى بطب القاهرة حديثه في جمع الأطباء، واستمر في كلمته يقول: إننا أيها السادة أمام مشكلة إنسانية اجتماعية معقدة جوانبها الإنسانية دامية، إننا نعيش كل يوم دراما عنيفة.. وحواراً لم يسمعه بشر، ما بين مريض فقد كليتيه، وفشلتا في أداء مهمتيهما ومعرض للموت، وبين إنسان يملك كليتين سليمتين وفي كامل صحته ومستعد لبيع واحدة منهما، إن الحوار غريب ومؤلم وحزين، إن المريض يقول: إنه لا يملك سوى 20 ألف جنيه سوف يقدمها هبة، وصاحب الكلية السليمة يقول للمريض: إن هذا المبلغ لا يكفي، ويتطور الحوار حتى يصل إلى.. وهنا انفجر الطبيب صائحاً هائجاً تأثراً

لماذا تحكم علي بالإعدام ببطء؟ لماذا تجعلني أندم عمري كله، وأعيش مذلولاً لشقيقي ولزوجته وأولاده؟

ص: 248

إن الحواديت لا تنتهي.. وكم من متبرعين ابتزوا المرضى، وعندما يحين موعد إجراء الجراحة يذهبون إلى العنوان فلا يجدون أي أثر لأي اسم في هذا العنوان! والمآسي كثيرة

وبعد أن يكون المريض وأهله قد تكرموا وأكرموا وبالغوا في الكرم، والعطف على التبرع الذي رحمهم كلهم من هذه المشكلة

وبعد ذلك يختفي المتبرع!

وواحدة من هذه المآسي عندما أصيب أخ بفشل كلوي، وكان له أربعة أشقاء وشقيقة واحدة، وتطوع كل الأشقاء بأن يهبوه كلياتهم، وكانوا كلهم صالحين ولكن الطبيب الجراح اختار الشقيقة الوحيدة لعدة اعتبارات، وجاءت الشقيقة الوحيدة للتبرع بكليتها لشقيقها، وفجأة وجدت نفسها على سرير المرضى ويتم تجهيزها لجراحة الغد

وتأملت هذه الفتاة حياتها عندما تشرع في الزواج

وعندما تجد ابنها في حاجة إلى كلية وهي لا تملك أن تعطيه شيئاً لأنها تبرعت لشقيقها

وظلت تفكر

وهداها تفكيرها إلى حل، لقد طلبت من الأشقاء قبل منتصف ليلة إجراء الجراحة.. بأن يتبرعوا لها بنصف ما تملكه الأسرة

وهو عبارة عن منزل يضم عشر شقق.. واحتارت الأسرة في هذا القرار. وأصرت الفتاة على قرارها وإلا الرفض؛ لأنها شعرت في لحظة أنها افتدت كل الأشقاء بتضحيتها، فلا أقل أن يفدي الأشقاء ويضحوا، ولم تجد الأسرة أي قرار سوى أنهم ذهبوا وحملوا والدهم الكهل إلى المستشفى ليوقع على ملكية الشقيقة لنصف المنزل وحدها!.

ص: 249

ماذا قال (مؤتمر التطور الإسلامي) وقضية نقل وزراعة الأعضاء البشرية، الذي تنظمه كلية طب عين شمس؟

وقال د. علي عبد الفتاح عميد الكلية

إن الجراح قد يضطر إلى استئصال عضو مريض من جسم الإنسان.. ولكن هل يسمح له باستئصال عضو سليم تحقيقاً لمصلحة علاجية لإنسان مريض؟

إذا كان هذا يترتب عليه إنقاذ مريض من الموت

فإنه في تقديري يعتبر عملاً مميزاً للتضامن الإنساني.. إلا إذا استهدف غاية مادية!!

د. عبد المنعم حسب الله: لا يمكن الخروج من هذا المستنقع إلا إذا كان هناك بديل واضح

وهو أن تكون الكلية مجاناً. إذا وفرناها لن يجد أحد فرصة للاتجار بها. وتوفيرها يكون من الموتى حديثاً والمصابين في الحوادث والتبرع بعد الوفاة.

د. رشاد برسوم: إن بيع الكلية أصبح أسهل طريق للحصول على عدة آلاف من الجنيهات بدون عرق، إن 90 % من زراعة الكلى في العالم من متوفين حديثاً أو من حوادث الطرق!.

د. وحيد السعيد: إن تجارة الأعضاء البشرية عمل لا أخلاقي.. واستنزاف مادي، إنها سوق للابتزاز والنصب والاتجار غير المشروع.

د. إبراهيم راجي: نجد صعوبة جمة عندما يحين موعد إجراء الجراحة وننتظر طويلاً إلى أن نجد متبرعاً، وأي وسيط في هذه المشكلة يصيبه التلوث؛ لأن الماديات تلعب دوراً علنياً أو من تحت لتحت.

د. حلمي مراد: هي مشكلة اجتماعية بالدرجة الأولى

والتشريع لا يسمح بنزع عضو من جسم المتوفى.

د. سالم نجم: إن التوافق مطلوب بين العلم والإسلام.

ص: 250

ومآس أخرى كثيرة

!

قصص إنسانية طلعت علينا من مشكلة (سوق بيع قطع غيار البشرية) مريض وافق على استضافة المتبرع في حجرته الوحيدة مع أسرته يأكل ويشرب ويتنزه على حساب المريض ويشاركه النوم في الحجرة، وعندما يحين موعد الجراحة يهرب. وهذه الإقامة قد تطول لعدة شهور

وهي إقامة باهظة، ولكنها تجارة النصب!

بينما قصص أخرى تقول: إن رجلاً تبرع ببيع الكلية لأن والدته مريضة ويود علاجها، ومصاريف العلاج باهظة. وشاب باع كليته لأنه يود أن يتزوج. وقد طالت فترة الخطوبة، وحصل على 20 ألف جنية وتزوج. وزوجة فقدت عائلها وليس لها أي مورد، وأمامها أطفالها جياع، فباعت كليتها واشترت بها قطعة أرض ترتزق منها..

ومريض تطوع لبيع شقة بالمجان لأحد المتطوعين في المنزل الذي يمتلكه

وصاحب مصنع مريض قبل أن يدخل المتطوع بالكلية شريكاً له في المصنع. وقصة أخرى لإنسان محتاج جداً وفقير جداً، رفض بتاتاًَ التكلم في موضوع ثمن الكلية وقال: لن أقدم يدي لاستلام النقود إلا بعد أن أطمئن على سلامة المريض.

هذا بعض ما تناقلته أجهزة الإعلام، وما ردده الأطباء والعلماء وهو أمر خطير، وينذر البشرية بشر مستطير، يكون حصاده نفوساً بريئة، وقواده ورواده ذئاب من البشر تتاجر تحت ستار الرحمة بالإنسان وبأجزائه، وتتصيد تحت ظلال كثيفة، وظلام دامس، ما تستطيع اصطياده من البلاد الفقيرة من أنفس، إما شراء وإما خطفاً وقرصنة، وإما تدليساً، بأن توهم الضحية برحلة هانئة، وبصحة وارفة، وفي موطن ووكر المؤامرة تسرق بعض أعضائه، وتعطي لمن يدفع أكثر، وهو لا يدري حين يفيق ما حدث له، وما سلب منه، وإن درى ماذا يفيد، وماذا يجدي؟!

إنني أرى حرمة نقل أي عضو من أعضاء إنسان حي معصوم الدم إلى إنسان آخر يحتاج إلى هذا العضو. للأدلة التي بسطتها فيما تقدم، وأيضاً لأن الضرر لا يزال بالضرر كما قضت بذلك القاعدة الشرعية، وإليك نبذة موجزة عنها.

ص: 251

(الضرر لا يزال بالضرر)

إن القاعدة الشرعية (الضرر يزال) المأخوذة من قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) لا ضرر أي لا ضرر ابتداء، فلا يحل أن يبدأ الإنسان غيره بإيقاع ضرر عليه، (ولا ضرار) أي لا يحل لإنسان أن يرد الضرر بضرر مثله، أي لا يضر الرجل أخاه ابتداء ولا جزاء.

وهذه القاعدة (الضرر يزال) يتعلق بها قواعد منها (الضرر لا يزال بالضرر) قال ابن السبكي في معناها: وهو كعائد يعود على قولهم: (الضرر يزال ولكن لا بضرر) فشأنهما - أي شأن القاعدتين - شأن الأخص، وهو هذه القاعدة، مع الأعم. ولكن السيوطي وابن نجيم ذكرا أن هاتين القاعدتين سواء، وليس بينهما عموم وخصوص؛ لأنه لو أزيل الضرر بالضرر لما صدق (الضرر يزال) .

وقد ذكروا لهذه القاعدة فروعاً نورد منها قولهم:

(ولا يأكل المضطر طعام مضطر آخر، إلا أن يكون نبيا؛ فإنه يجوز له أخذه ويجب على من معه بذله.

ولا يجوز له قطع فلذة من فخذه، ولا قتل ولده، أو عبده، ولا قطع فلذة من نفسه إن كان الخوف من القطع، كالخوف من ترك الأكل أو أكثر، وكذا قطع السلعة المخوفة) نص عليه السيوطي

وقال ابن نجيم: من فروعها (أنه لا يأكل المضطر طعام مضطر آخر ولا شيئاً من بدنه) .

ص: 252

المبحث الخامس عشر

عقوبة من يعتدي على نفسه

عقوبة الجناية على النفس أو على ما دونها

إذا جنى الإنسان على نفسه جناية أدت إلى إزهاق روحه، أو إلى بتر جزء من جسده فإن الفقه الإسلامي يبين لنا عقوبة هذه الجناية في كلتا الحالتين، أن العقوبة في شريعة الله تعالى نوعان: عقوبة أخروية، وعقوبة دنيوية، ونوضح فيما يلي هاتين العقوبتين بإيجاز:

العقوبة الأخروية في الجناية على النفس أو ما دونها:

العقوبة دائماً تكون حيث تكون الجناية عمداً، فإن وقعت الجناية خطأ، فالخطأ مرفوع إثمه، وآية ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:((عفوت عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) .

أما إن كانت جناية الإنسان على نفسه عمداً، فإن أدت إلى زهوق روحه ـ حالاً أو مالاً ـ كانت عقوبتها: الخلود في النار أبداً، وآية ذلك ما روي عن أبي هريرة أنه قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً. ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالداً مخلداً أبداً)) (1) وقيد التأبيد هذا لم يرد في العقوبة الأخروية لقاتل غيره التي نص عليها قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (2)

وأما إن كانت الجناية على جزء من نفسه عمداً، فإنه يكون آثماً معذباً في الآخرة، ولكن مدة عذابه فيها وكيفيته موكولة إلى ربه جل شأنه.

أما أنه آثم، فلأنه فعل أمراً نهاه المشرع الحكيم عن فعله فقال:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وأما أنه معذب في الآخرة، فلأن الله تعالى يقول:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} .

يقول ابن كثير: (ومن يتعاطى ما نهاه الله عنه معتدياً فيه ظالماً في تعاطيه، أي عالماً بتحريمه متجاسراً على انتهاكه، فسوف نصليه ناراً.

(1) رواه البخاري ومسلم، وقد بيناه في كتابنا (الجنايات في الفقه الإسلامي، ص 137

(2)

الآية 93 من سورة النساء

ص: 253

العقوبة الدنيوية في الجرائم على النفس أو ما دونها:

تختلف العقوبة الدنيوية في هذا النوع من الجرائم باختلاف نوع الجريمة إذ هي إما جريمة عمدية أو جريمة شبه عمدية. أو جريمة خطأ، فإذا قصد الفعل والنتيجة كانت عمداً، وإذا لم يقصدهما كانت خطأ، وإذا قصد الفعل ولم يقصد النتيجة كانت شبه عمد. ونوضح فيما يلي بإيجاز بالغ حكم كل نوع فيها إذا وقعت الجناية من الإنسان على نفسه.

عقوبة الجناية عمداً على النفس أو على ما دونها.

العقوبة في هذا النوع من الجناية تدور بين القصاص أو الدية والكفارة، والحرمان من الميراث، والتعزير في بعض الحالات، فأما القصاص: فإنه لا يتأتى توقيعه على قاتل نفسه؛ لأن محل القصاص قد فات بموته، وكذلك في جنايته على جزء نفسه، مثل قطع كليته أو غيرها؛ لأن محل الاستيفاء قد فات أيضاً، لأن الذي يجب فيه القصاص هو العضو المماثل للعضو المقطوع، فاليد اليمنى باليمنى، واليسرى باليسرى، وكذا العين، وأيضاً فإن الجرائم التي تقع على أجزاء الإنسان الداخلية ليس فيها القصاص (1) ؛ لأن الجائفة ليس فيها القصاص، كما نعلم، لكن عقوبة التعزيز هنا تظهر، وهي عقوبة، وكل تقديرها للإمام أو من ينوب عنه من القضاة، فحيث ينتفي القصاص يمكن أن نوجب عقوبة تعزيرية منعاً من إضرار الإنسان بنفسه من الميراث، وهذا واضح، وكذلك لا تتأتى عقوبة حرمان القاتل.

وأما الدية: وهي اسم للضمان المالي الذي يجب بالجناية على الآدمي، أو على جزء منه.

فإن الفقهاء قد اختلفوا في إيجابها في جناية الإنسان على نفسه عمداً، وبخاصة أنه لا يمكن أن تطبق عقوبة القصاص هنا، وإذا قلنا بوجوبها فهل تجب على الجاني وعلى العاقلة؟

(1) يراجع كتاب الجنايات في الفقه الإسلامي للمؤلف: ص 461

ص: 254

أما إيجابها على الجاني، فيقرر الفقهاء أنها لا تجب على الجاني، وإذا أردنا أن نعلل لهذا الرأي أمكننا أن نقول: إن إيجابها عليه بعد موته يستدعي بقاء ذمته لتتعلق بها الدية، وقد فاتت هذه الذمة، وفواتها يفوت ما يتعلق بها وهو الدية.

وإذا قلنا: إن ذمته لا تنعدم بموته بل تضعف، ويقوبها ما يتركه من مال.. (1) .

فيمكن إيجابها في ماله، فإن الرد على ذلك ميسور، وهو أن الإنسان لا يستحق لنفسه حقاً على نفسه، وأيضاً فإن الوارث للدية هم ورثة المال، فلا فائدة عملية في إيجابها في ماله أولاً، ثم ردها إلى ورثته المستحقين لأمواله بعد ذلك، ويضاف إلى ذلك أن معنى الردع والزجر ـ وهو المقصود من العقوبة ـ لا يتحقق هنا، وإذا فات المعنى الذي شرعت من أجله العقوبة لم تجب هذه العقوبة (2) .

(1) وإذا قلنا بذلك بالنسبة لسداد ديون الغير، فهذا القول له وجهه، وهو أن ينتفع الميت بوفاء ديونه من أمواله بدلاً من أن يأخذها الورثة لتعلق حق الدائنين بها، وهذا الوفاء يفيده، أما ما معنا هنا فليس فيه فائدة ملحوظة، والعاري عن الفائدة لا يشرع

(2)

كما في إسقاط العقوبة عن الجاني إذا كان صبياً أو مجنوناً لفوات المقصود من توقيع العقوبة عليهما

ص: 255

- وأما إيجابها على العاقلة ففيه رأيان:

الرأي الأول: يرى جمهور الفقهاء أنها لا تجب على العاقلة أيضاً، وذلك لما روي عن عمر أنه قال:(العمد والعبد والصلح والاعتراف لا تعقله العاقلة) رواه الدارقطني، وحكى أحمد عن ابن عباس مثله.

وقال الزهري: (مضت السنة أن العاقلة لا تحمل شيئاً من دية العمد أن يشاؤوا) رواه عنه مالك في الموطأ.

وهذه الآثار تدل بعمومها على أن العاقلة لا تحمل شيئاً من دية الجناية عمداً، فيندرج تحت مدلولها جناية الإنسان على نفسه عمداً، أو على غيره

ولأنه لا عذر للقاتل في القتل العمد، وإذا لم يكن له عذر فإنه لا يستحق التخفيف، والعاقلة إنما تحمل عن الجانبي ما يستدعي التخفيف عنه؛ لأنها تتحمل عنه مواساة ومعاونة وتآزراً معه فيما وقع منه خطأ ودون قصد، أما ما كان عمداً فإنه لا يتلاءم مع المعنى الذي يهدف إليه المشرع من وراء معنى العاقلة وما تتحمله.

الرأي الثاني: يرى الأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق (كما نقله الشوكاني)(1) أن جناية العمد على نفس الجاني مضمونه على عاقلته.

وهذا الرأي لا يوافق الآثار المروية آنفاً، كما لا يساير أيضاً الحكمة التي شرع من أجلها إيجاب الدية على العاقلة، وهي أنها لمساعدة الإنسان الذي ارتكب جناية خطأ في حق العباد، إذ إيجاب كل الدية عليه فيه عدم اعتداد بعذره، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) كما يعارض الأصل القاضي بألا يتحمل الإنسان جرم غيره، قال تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (2) .

وقال جل شأنه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (3) . هذا هو الأصل، والاستثناء من هذا الأصل لا يكون إلا بدليل، والدليل وجد بشأن القتل الخطأ دون العمد. وهذا يرجح عدم إيجاب هذا النوع من الدية على العاقلة. كما لا يجب على الجاني، أي في ماله، كما ذكرنا آنفاً.

وأما الكفارة (4) فقد اختلف الفقهاء في إيجابها على من قتل نفسه عمداً، فيرى جمهور الفقهاء أنها لا تجب، وبخاصة من يرون عدم إيجاب الكفارة في قتل الغير عمداً، وهم (الحنفية والحنابلة والزيدية، والثوري، وأبو ثور) للأدلة التي سبق النص عليها، ويرى الشافعية إيجاب الكفارة في القتل العمد أو شبهه أو الخطأ، سواء قتل نفسه أو غيره، فقد جاء في مغني المحتاج:(وتجب الكفارة بقتل المسلم ولو بدار الحرب، وذمي وجنين، وعبد نفسه، وبقتل نفسه؛ لأنه قتل نفساً معصومة، فتجب فيه كفارة لحق الله تعالى، فتخرج من تركته، أما إذا لم تكن نفسه معصومة بأن كانت مهدرة، فينبغي كما قال الزركشي، ألا تجب، وفي قتل نفسه وجه: أنه لا يجب لها الكفارة كما لا يجب ضمانها بالمال) .

(1) نيل الأوطار: جـ7 ص85

(2)

الآية 164 من سورة الأنعام، 15 من سورة الإسراء، 28 من سورة فاطر، 7 من سورة الزمر، 38 من سورة النجم.

(3)

الآية 38 من سورة المدثر.

(4)

الكفارة هي: ما أوجب الشرع فعله بسبب حنث في يمين أو قتل أو ظهار..، وهي عقوبة فيها معنى العبادة شرعت تكفيراًَ للذنب، ومحواً للجرم، وتقرباً إلى الله تعالى، وشرعت في جريمة القتل

لا في ما دون القتل، وهي عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد فإطعام ستين مسكيناً بالآية 92 من سورة النساء.

ص: 256

عقوبة الجناية شبه العمد على النفس أو ما دونها:

إذا جنى الإنسان على نفسه جناية شبه عمد، فإنه يلزمنا أن نذكر بعض الأمثلة التي أوردها الفقهاء لمثل هذا القتل، ثم نتبعها ببيان ما يجب فيه من دية أو كفارة، أما الأولى فمن صوره:(إمساك الحية مع الظن أنها لا تقتل، أو أن يأكل كثيراً حتى يبشم، أو المشي على الحبال في الهواء، والجري في المواضع البعيدة كما يفعله أرباب البطالة والشطارة (كل ذلك يعتبر قتلاً شبه عمد إذا لم يقصد بشيء من ذلك قتل نفسه) ؛ لأن هذه الأفعال تقتل غالباً، ويمكن أن يقاس على ذلك كل ما يغلب على الظن الهلاك منه. وأما ما يجب في هذه الجناية من عقوبة، فإنها تدور بين الدية والكفارة، فأما الدية، فقد اختلف الفقهاء في إيجابها.

فيرى البعض إيجابها على العاقلة (في أي الشافعية (غير المشهور) ورأي للحنابلة) معتبرين أن هذه الجناية تساوي جناية الإنسان على غيره خطأ أو شبه عمد، فكما وجبت على العاقلة دية قاتل غيره خطأ أو شبه عمد فكذلك تجب هنا في الحالتين.

ويرى جمهور الفقهاء أنه لا تجب الدية في هذه الجناية؛ لأن لا عذر له في اقترافه الفعل الموجب لها، وإذا لم يكن معذوراً، فإنه يشبه العمد المحض، والعمد المحض لا تجب فيه الدية فكذلك هنا. وهو رأي الحنفية والمالكية والشافعية (المشهور) والحنابلة.

والناظر إلى هذين الرأيين على ضوء التطور الصناعي في هذا العصر يجد أن كثيراً من الناس يباشرون بعض الأعمال التي تكتنفها بعض المخاطر: كعمال المناجم، ومصانع الحديد والصلب، وما شاكل ذلك من الصناعات والأعمال، طلباً لرزقهم وسداً لحاجتهم، وتنمية لاقتصاد دولتهم.

وقد يترتب على مباشرتهم لهذه الأعمال ذهاب أرواحهم أو أعضائهم أو حدوث أضرار جسمانية فما الموقف من هؤلاء في ظل الفقه الإسلامي؟

إنني أرى أن هذا العمل الذي يقوم به العامل والذي يحتاج إليه الفرد والدولة لا بد من أن يكون محاطاً ببعض الضمانات الكفيلة بسد الثغرات التي تنتج عن استمرار العمل والإنتاج، وهذه الضمانات هي إيجاب الدية لمن قتل منهم أثناء تأديته عمله، وتكون هذه الدية على العاقلة؛ لأن قتل شبه عمد، إذ العمل قد يؤدي إلى القتل، والقتل غير مقصود، وفي شبه العمد الدية على العاقلة فكذلك هنا.

فإن لم تكن له عاقلة كانت ديته من بيت المال، ولا يمكن قياس هذا القتل على القتل العمد، حتى لا تجب الدية على العاقلة؛ لأن العمد أن يقصد الفعل

ويقصد به القتل، ويمكن التوسع في مدلول العاقلة في الفقه الإسلامي، من العصبة إلى المحلة، إلى اعتبار كل العاملين في مصنع من المصانع عاقلة، كل منهم يعقل عن الآخر إذا ما توافرت شروط العاقلة فيهم وفي كل فرد منهم.

وأما إيجاب الكفارة فيرى بعض الفقهاء (الحنابلة) إيجابها في ماله. وقد يستدل لهذا الرأي بأن القتل هنا قد وقع خطأ؛ لأنه لم يرد قتل نفسه، والله تعالى يقول:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وهو قد وقع قتله لنفسه خطأ، بينما يرى جمهور الفقهاء عدم إيجابها عليه؛ وذلك لانعدام خطابه بها بسبب موته، وإذا انعدم خطاب الشرع له بها، بسبب الموت، لم تجب عليه كسائر الأحكام.

ص: 257

عقوبة الجناية خطأ على النفس وما دونها:

وأما إن قتل إنسان نفسه خطأ أو قطع عضواً من أعضائه، فقد اختلف في إيجاب الدية والكفارة أيضاً:

فأما إيجاب الدية على العاقلة، كما هو الشأن في الجناية خطأ على الغير، فيرى بعض الحنابلة (القاضي) أن على عاقلته ديته لورثته إن قتل نفسه، أو أرش جرحه إذا كان أكثر من الثلث، وهو قول الأوزاعي وإسحاق، وذلك لما روي أن رجلاً ساق حماراً فضربه بعصى كانت معه، فطارت شظية ففقأت عينه، فجعل عمر ديته على عاقلته وقال:(هي يد من أيدي المسلمين لم يصبها اعتداء على أحد) ولم نعرف لعمر مخالفاً في عصره، ولأنها جناية خطأ، فكان عقلها على عاقلته كما لو قتل غيره، فعلى هذا الرأي إن كانت العاقلة الورثة لم يجب شيء؛ لأنه لا يجب للإنسان شيء على نفسه، وإن كان بعضهم وارثاً سقط عنه ما يقابل نصيبه، وعليه ما زاد على نصيبه، وله ما بقي إن كان نصيبه من الدية أكثر من الواجب عليه.

ويرى أكثر أهل العلم (الحنفية والمالكية والشافعية وقول للحنابلة، وربيعة والثوري) أن جنايته هدر؛ وذلك لأن عامر بن الأكوع بارز مرحباً يوم خيبر فرجع سيفه على نفسه فمات ولم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بدية، ولا غيرها، ولو وجبت لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه جنى على نفسه فلم يضمنه غيره كالعمد، ولأن وجوب الدية على العاقلة إنما كان مواساة للجاني وتخفيفاً عنه، وليس على الجاني ههنا شيء يحتاج إلى الإعانة والمواساة فيه، فلا وجه لإيجابه، ويفارق هذا ما إذا كانت الجناية على غيره؛ فإنه لو لم تحمل العاقلة موجب الجنابة خطأ على الغير لأجحف به وجوب الدية لكثرتها.

وهذا الرأي هو الذي أرى رجحانه لرجحان أدلته.

ص: 258

وأما الكفارة فيرى الحنفية والمالكية ووجه عند الشافعية: أنه لا يجب هنا في النفس كفارة، كما لا يجب ضمانها بالمال (الدية) .

ويرى الشافعية والحنابلة: أن من قتل نفسه خطأ وجبت الكفارة في ماله؛ لعموم قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا} الآية، ولأنه آدمي مؤمن مقتول خطأ، فوجبت الكفارة على قاتله، كما لو قتله غيره.

الترجيح: رجح ابن قدامة المقدسي (الحنبلي) الرأي الأول قائلاً: (إنه الأقرب إلى الصواب إن شاء الله؛ فإن عامر بن الأكوع قتل نفسه خطأ) ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم فيه بكفارة، وقوله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} إنما أريد بها إذا قتل غيره بدليل قوله: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ، وقاتل نفسه لا تجب فيه دية بدليل قتل عامر بن الأكوع.

ولكن ما ذكره من الأثر يمكن الرد عليه، بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين بغرة، ولم يقض بالكفارة، وقد قال الفقهاء: إن الغرة ثابتة بالحديث، والكفارة ثابتة بالقرآن، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي وضحت الديات لم تذكر الكفارة اعتماداً على هذا، ومن هنا يمكن أن نقول: إنه قتل إنسان نفسه تجب في ماله الكفارة.

إلا أن المعاني التي شرعت من أجلها الكفارة، إن كانت عبادة وتقرباً، فلا بد من وجود الشخص؛ لأنه لا عبادة بدون النية، وإن كانت زجراً وتنبيهاً إلى التحرز عن الوقوع في الخطأ، فإن كان هذا بالنسبة للشخص نفسه، فقد فات المحل الذي يمكن أن يستجيب لذلك، وإن كان هذا بالنسبة للغير، فإن المحل موجود، ويمكن أن يتحقق بالنسبة له هذا الغرض، فيعلم الإنسان القاتل لنفسه أن عليه حين يرتكب هذه الجناية خطأ كفارة تؤخذ من ماله كما تؤخذ بقية الحقوق.

ولعل النظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ((الأدمي بنيان الرب، ملعون من هدم بنياته)) يجعلنا ننظر إلى نفس الإنسان المعتدى عليه، على أنه غير، سواء كان المعتدى عليه هو نفس هذا الإنسان المعتدي أم غير نفسه، ويؤيد هذا أنه معاقب على اقتراف هذا الجرم في الآخرة على كلا الحالين، بل بعقوبة أشد في الحالة الأولى كما سبق أن أوضحنا.

ومن هنا نرى ترجيح الرأي الثاني، خاصة وأن حق الأرقاء في الحرية حتى يتشوف الشرع إلى تحقيقه، وهو حق للغير، يلزم الوفاء به كسائر الحقوق، وكذلك حق المحتاجين في الإطعام إن لم يجد رقبة يعتقها، كما هو الحال الآن بعد أن اتفق العالم على منع الرق، وهو ما يهدف إليه المشرع الحكيم.

ومن هذا العرض الموجز لنظرة الفقه الإسلامي لجناية الإنسان على نفسه عمداً أو شبه عمد أو خطأ، نخرج بنتيجة هامة، وهي أن من يعتدي على نفسه - كُلًّا أو بعضاً - تناولته العقوبات المقررة في الفقه الإسلامي لمن يعتدي على غيره على الوجه الذي يتلاءم مع توقيع هذه العقوبات على هؤلاء الجناة، سواء في الآخرة أو في الدنيا.

والله أعلم.

ص: 259

الخاتمة: نتائج هذه الدراسة:

- يمكننا على ضوء هذه الدراسة أن نستخلص القواعد التالية:

من البحث الأول: تأخذ القواعد التالية:

1-

أن الإنسان، روحاً وجسماً، كلا أو بعضاً، مملوك لله تعالى، وحده دون سواه، وليس للإنسان من نفسه إلا ما أجازه الشرع له من حق انتفاع يحصله ويستوفيه على المنهج والأسلوب الذي ارتضاه له خالقه.

2-

أن دم الإنسان معصوم بحكم إنسانيته، ولا يحل دمه ولا يحل شيء منه إلا بحق، وقد حددت الشريعة ذلك تحديداً قاطعاً.

3-

يحرم على الإنسان الاعتداء على نفسه أو الإضرار بها، أو تعريضها للهلاك.

ومن المبحث الثاني: نأخذ القواعد التالية:

1-

التداوي من الأمراض أمر مطلوب شرعاً، ويجب على الإنسان أن يتخذ الأسباب المشروعة التي قد توصله إلى حال القوة والصحة.

2-

يجوز تداوي النفس البشرية بما أحل الله تناوله والتداوي به، وكذا يجوز تداويها بالمحرم إذا تعين المحرم علاجاً لها دون غيره من المباحات على يد طبيب مسلم حاذق.

3-

يجوز أن يكون التداوي والعلاج عن طريق الجراحة، أو الكي إذا دعت الضرورة أو الحاجة إلى ذلك، وهو آخر أنواع العلاج.

ومن المبحث الثالث: نأخذ القواعد التالية:

1-

الضرورات تبيح المحظورات.

2-

يباح للمضطر تناول مال الغير بغير إذنه، ولو باستعمال القوة دون سلاح، إذا كان هذا المال زائداً عن حاجته.

3-

يباح للمضطر تناول الميتة والانتفاع بها، بمقدار ما يسد رمقه؛ إذ الضرورة تقدر بقدرها.

4-

يجوز للمضطر التداوي بالميتة، سواء كانت قائمة العين لم تمسها يد التغيير والتبديل، أو غير قائمة العين بأن مستها يد التغيير والتبديل فحولتها من حالة إلى حالة أخرى.

5-

يجوز الانتفاع بأجزاء الآدمي الميت، سواء كان معصوماً أو غير معصوم، إحياء للنفس الآدمية ومدا لأسباب البقاء لها ـ إذا توافرت الشروط التالية:

أ - ألا توجد ميتة أخرى غير ميتة الآدمي، فإذا وجدت لا يحل الانتفاع بميتة الآدمي.

ب - أن يكون المضطر معصوم الدم.

جـ- أن يكون الانتفاع بها حالة الاضطرار، أما في حالة الحاجة، أو التتمة فلا يجوز.

د- أن يكون هناك إذن بالانتفاع به من الميت قبل موته، أو من ورثته بعد موته، فإذا اختلف الإذنان: أحدهما أجاز والآخر منع، يؤخذ برأي المجيز؛ إنقاذاً للنفس البشرية من الهلاك.

ص: 260

المبحث الخامس: يؤخذ منه القواعد التالية:

يجوز للإنسان أن ينتفع ببعض أجزاء نفسه في حالة الضرورة، أو في حالة تصحيح أو تعويض ما نقص أو تشوه من أعضائه؛ رجوعاً به إلى حالته المعتادة، وذلك بشرط ألا يكون خطر القطع أعلى من خطر البقاء على ما هو عليه (أو مساوياً) منعاً من تعريض النفس للتهلكة.

المبحث السادس: تؤخذ منه القاعدتان التاليتان:

1-

يحرم قطع جزء من جسم إنسان حي معصوم الدم لينتفع به إنسان آخر مضطر إلى هذا الجزء، وذلك باتفاق الفقهاء.

2-

يجوز للمضطر المعصوم الانتفاع بجزء من إنسان غير معصوم الدم استحق القتل بسبب جرم ارتكبه عقب تنفيذ حكم القتل عليه مباشرة؛ وذلك لإنقاذ هذه النفس البشرية من الهلاك، تحت رقابة السلطة التنفيذية، وتحت رعاية نخبة من الأطباء المسلمين الحاذقين، وبناء على قانون ينظم ذلك الانتفاع من جميع جوانبه.

المبحث السابع: تؤخذ منه القاعدة التالية:

يحرم بيع الآدمي الحر مطلقاً، وقد أجمع الفقهاء على ذلك.

المبحث الثامن: تؤخذ منه القاعدة التالية:

يحرم بيع جزء من أجزاء الآدمي المتجددة.

المبحث التاسع: تؤخذ منه القاعدة التالية:

يحرم بيع جزء من أجزاء الآدمي غير المتجدد.

المبحث العاشر: تؤخذ منه القاعدة التالية:

لا يصح أن يتبرع الإنسان بجزء من أجزائه لغيره.

المبحث الحادي عشر: يؤخذ منه القاعدة التالية:

يبطل عقد الإجارة إذا كان محله قطع عضو صحيح من جسم الإنسان، لا تدعو صحة الإنسان إلى قطعه، وكل أجر يأخذه الطبيب إزاء ذلك يكون باطلاً.

المبحث الثاني عشر: تؤخذ منه القاعدة التالية:

لا أثر لرضا المقطوع عضوه الصحيح في درء العقوبة المستحقة على من تولى قطعه.

المبحث الثالث عشر: تؤخذ منه القاعدة التالية:

الإيثار إنما يكون في المال، أما الإيثار بالقربات، أو بالأنفس أو الأعراض فممنوع شرعاً.

المبحث الرابع عشر: يؤخذ منه ما يأتي:

أن ما يترتب على القول بجواز نقل الأعضاء من إنسان إلى آخر يؤدي إلى مخاطر كثيرة، فيحرم سدا للذرائع.

المبحث الخامس عشر: يؤخذ منه ما يأتي:

1-

جناية الإنسان على نفسه، عمدا كان أو شبه عمد، أو خطأ، معاقب عليها شرعاً في الدنيا وفي الآخرة.

هذا ما أردت إبرازه في هذا الموضوع الشائك الدقيق، وأرجو الله تعالى أن يلهمنا الصواب ويجنبنا الخطأ.

{ {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أو أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} .}

تحريرا في: 25 من ربيع الثاني 1408 هـ.

17 من ديسمبر 1987 م.

الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي

ص: 261