الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم الشريعة في بدل الخلو (السرقفلية)
إعداد
فضيلة الأستاذ إبراهيم فاضل الدبو
الأستاذ المساعد بكلية الشريعة – جامعة بغداد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
وبعد: ليست كلمة – السرقفلية – عربية بل هي كلمة فارسية، ترمز إلى ما تعارف في أيامنا الأخيرة بأن يتنازل المستأجر عما تحت تصرفه من إيجار المحل الذي يشغله إلى الآخر، ويتقاضى إزاء هذه العملية مقدارا من المال يتفق عليه الطرفان، وربما سمي ذلك في اللغة الدارجة – الخلو – وهو مأخوذ من تخلية ما تحت اليد إلى الغير، وهي على نوعين:
الأول: أن يتم الاتفاق بين المستأجر القديم والجديد فيتنازل الأول عما تحت تصرفه إلى الثاني لقاء مبلغ من المال كما ذكرنا آنفا، والمالك في هذه الصورة في مجنب عن المعاملة والاستفادة منها.
ولا بدَّ لنا – والحالة هذه – من معرفة الوجه الشرعي في أخذ المال والتصرف به من قبل من كان المحل تحت تصرفه أولا، وكيفية إعطاء المال من قبل المستأجر الجديد.
كما أنه لا بد من تحديد موقف المالك من هذا التنازل من شخص قد استأجر ما هو ملك له وقبول المستأجر الجديد، وهل بإمكانه الوقوف في طريق هذه المعاملة أو لا؟
النوع الثاني: ومن أقسام هذه المعاملة أيضا، ما شاع أخيرا في أيامنا الحاضرة من أن المالك هو الذي يستلم بدل الخلو هذا من المستأجر بعد أن تنبه كثير من الملاك إلى أن موضوع بدل الخلو أصبح أمرا عرفيا شائعا في الأسواق، فبدلا من أن يتمتع بهذا المال غيره، فهو أحق به، فمثلا يأخذ المالك مائتي دينار كبدل خلو وخمسين دينارا كإيجار سنوي، والفرق بين هذا النوع والنوع الأول واضح، ذلك لأن المالك في النوع الأول بعيد عن المعاملة الجديدة بين المستأجر الجديد والقديم، أما في هذا النوع فهو قد قبض مبلغا من المال حين إيجاره للمحل من أول الأمر، فما هو الحكم في هذا المبلغ المأخوذ من المستأجر الأول؟
أقول وبالله التوفيق: إن بيان رأي الشريعة في هذه المعاملة يتطلب منا قبل ذلك معرفة الحقوق وأنواعها عند الفقهاء المسلمين رحمهم الله، لمعرفة ما إذا كان للمستأجر الحق في مثل هذا التصرف أم لا؛ لأنه من المعلوم كما سيظهر لنا ذلك من خلال البحث أن المستأجر في الحالة الأولى لا يملك سوى منفعة العين بدون الرقبة، فمن أجل بيان موقع حق ملكية المنفعة بين تلك الحقوق، ينبغي الرجوع إلى آراء الفقهاء رحمهم الله تعالى.
الحق في اللغة والاصطلاح:
الحق لغة: مصدر حق الشيء يحق إذا ثبت ووجب، وقد ذكر صاحب القاموس المحيط أن الحق يطلق في اللغة على المال والملك والموجود الثابت. ومعنى حق الأمر: وجب ووقع بلا شك (1) .
والحق في استعمالاته المختلفة لغة يفيد الوجوب والثبوت مما يدل على أن أصل معناه هو هذا.
أما في الفقه: فقد استعمله الفقهاء في عدة استعمالات، فهم يستعملونه بمعنى عام يشمل كل ما يثبت للإنسان من ميزات أو مكنات، سواء أكان الثابت ماليا أو غير مالي.
ويستعملونه في مقابلة الأعيان والمنافع المملوكة ويقصدون بذلك المصالح التي ثبتت بأمر من الشارع، وذلك كحق الشفعة وحق الطلاق والحضانة.
وقد يلاحظ الفقهاء عند استعمالهم للحق المعنى اللغوي فقط، من هذا قولهم: حق الدار، ويقصدون بذلك مرافقها، كحق التعلي والشرب والمرور وغيرها، لأنها ثابتة للدار ولازمة لها.
وقد يطلق الحق مجازا على غير الواجب، للحض عليه والترغيب في فعله، إلى غير ذلك من الإطلاقات والاستعمالات (2) .
(1) انظر القاموس المحيط 321/ 1
(2)
الملكية في الشريعة الإسلامية للدكتور عبد السلام العبادي 94/ 1
وبخصوص تعريف الحق لدى فقهاء الشريعة، فإنهم لم يعنوا بإيراد تعريف له مع كثرة استعمالهم للحق وإسهابهم في الكلام عن آحاده، وقيل في ذلك كأنهم رأوه واضحا فاستغنوا عن تعريفه (1) .
ومن الأصوليين: من أراد أن يعرف الحق تعريفا جامعا، فعرفه محمد عبد الحليم اللكنوي بأنه: حكم يثبت (2) إلا أن تعريفه جاء مجملا في بيان ما يتميز به الحق، وواضح أن مراده بالحكم أثر الخطاب لا ذات الخطاب (3) .
وقد وضع الفقهاء المعاصرون عدة تعاريف للحق، منها تعريف الشيخ علي الخفيف، بأنه (مصلحة مستحقة شرعا)(4) .
وتعريف الأستاذ مصطفى الزرقاء بأنه: (اختصاص يقرر به الشرع سلطة أو تكليفا)(5) وذكر أستاذنا أحمد فهمي أبو سنة أن الحق في عرف الفقهاء: (هو ما ثبت في الشرع للإنسان أو لله تعالى على الغير)(6) .
والذي يتضح من هذه التعاريف أن أصحابها اتجهوا ثلاثة اتجاهات في مفهوم الحق:
الاتجاه الأول: ويرى أصحابه بأن الحق مصلحة، ويعنون بالمصلحة، المنفعة ذاتها والواقع كما يذكر الأستاذ العبادي، أن المصلحة هي هدف الحق وغايته، فهي شيء آخر غير الحق، وكأن أصحاب هذا الرأي قد نظروا إلى ما يبتغي بالحق من مصلحة فعرفوه بها (7) .
الاتجاه الثاني: ويرى أصحابه بأن الحق اختصاص. ويذكر الأستاذ الزرقاء عند شرحه لتعريفه للحق قائلا: إن الاختصاص، هو علاقة تشمل الحق الذي موضوعه مالي كاستحقاق الدين في الذمة بأي سبب كان، والذي موضوعه ممارسة سلطة شخصية كممارسة الولي ولايته والوكيل وكالته.
(1) انظر التعسف في استعمال حق الملكية للدكتور سعيد الزهاوي ص 16
(2)
انظر حاشيته المسماة: قمر الأقمار على نور الأنوار شرح المنار 216/ 2
(3)
انظر التعسف في استعمال حق الملكية للدكتور سعيد الزهاوي ص 16
(4)
انظر الحق والذمة وتأثير الموت فيهما ص37
(5)
انظر الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد ص10
(6)
انظر النظريات العامة للمعاملات في الشريعة الإسلامية ص 50
(7)
انظر مؤلفه الملكية في الشريعة الإسلامية 98/ 1
وهذه العلاقة لكي تكون حقا، يجب أن تختص بشخص معين أو بفئة، إذ لا معنى للحق إلا إذا تصورنا بأن هناك ميزة مقصورة على صاحبه دون غيره. وبذلك تخرج العلاقة التي لا اختصاص فيها، وإنما هي تعتبر من قبيل الإباحات العامة كالاصطياد والاحتطاب في الصحراء.
واشترط الأستاذ الزرقاء في تعريفه كذلك إقرار الشرع لهذا الاختصاص وما ينشأ عنه من سلطة أو تكليف؛ لأن نظرة الشرع هي أساس اعتبار الحقوق.
وبين بأنه ذكر (سلطة أو تكليفا) لأن الحق تارة يتضمن سلطة وتارة تكليفا. والسلطة نوعان: سلطة على شخص كحق الولاية على النفس، وسلطة على شيء معين كحق الملكية.
والتكليف دائما عهدة على إنسان، وهو إما عهدة شخصية كقيام الأجير بعمله، وإما عهدة مالية كوفاء الدين. ثم بيَّن أن الحق بهذا المعنى لا يشمل الأعيان المملوكة، لأنها أشياء مادية وليست اختصاصا فيه سلطة أو تكليف، وقد عرض رأيه بما حكاه عن الفقهاء من أنهم يذكرون الحقوق في مقابلة الأعيان، بينما يذكره الأحناف في مقابلة الأموال. ويقولون: بأن الحق ليس بمال.
وقد انتقد تعريف الحق بأنه مصلحة، وبيَّن أنه ليس إلا اختصاص الشخص بهذه المصلحة وعلاقته بها، فليست المصلحة في الحقيقة سوى متعلق للحق، أي محل له، فالحق صلة أو علاقة اختصاصية بين الشخص والمصلحة (1) .
الاتجاه الثالث: وقد عرَّف أصحاب هذا الرأي الحق انطلاقا من معناه اللغوي.
فقد ذكر أستاذنا أبو سنة في شرح تعريفه للحق، بأن المقصود (بما) أي شيء. وهو شامل لملك العين ولملك المنفعة وللدين، وللحقوق الفكرية كحق التأليف والصناعة والاختراع، ويشمل كذلك الامتناع عن الفعل الضار، وللحقوق الفطرية أيضا، كالحياة والحرية، لا فرق بين أن يكون الثابت على وجه الاختصاص وهو المعروف بالملك أو على وجه الاشتراك كما في الإباحة العامة (2) .
(1) انظر مؤلفه الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد ص14
(2)
انظر النظريات العامة في المعاملات ص52
والمراد بالثبوت هنا (التمكن والتسلط) بحيث لا يملك أحد رده عما ثبت له ولا الحيلولة دون ممارسته ولو كان فعلا مباحا أو مندوبا.
والمراد بقوله: في الشرع، أن يكون الحق الثابت قد شرعه الله عز وجل ولم تمنع الشريعة منه، لأنها هي مصدر الحقوق كلها (1) .
وقصد الشيخ بقوله: (للإنسان أو لله تعالى) تعميم الحق، ليشمل حق الإنسان كملكه لماله والتصرف فيه، وحق الله تعالى في أن يعبده الناس ويقيموا دينه.
وعنى بقوله: (على الغير) أن كل ما ثبت للإنسان أو لله تعالى هو واجب على الغير سواء كان هذا الغير معينا كحق الإنسان في ثمن ما باع وفي أجرة عمله، فإنه واجب على المشتري ورب العمل، أم كان واجبا على الناس جميعا كملك الإنسان لأرضه وولايته على طفله (2) .
وقد انتقد الشيخ أبو سنة تعريف بعض الفقهاء، للحق بأنه اختصاص يقره الشرع، بمعنى أن يكون الشيء ثابتا لصاحب الحق وحده وممنوعا عن غيره، كالكتاب الذي هو ملك لصاحبه ولا يجوز للغير التصرف فيه، أما ما يشترك فيه الجميع من المباحات العامة كالسير في طريق عام أو الشرب من النهر مثلا، فإن البعض لا يسميه حقا بل يسميه إباحة.
ويمضي في قوله: (بأن هذا التحديد ليس بسديد، لأن الفقه كما يطلق الحق على ما فيه اختصاص، يطلقه كذلك على ما فيه الاشتراك كالأمثلة السابقة)(3) .
ولا أرى مبررا لما ذكره أستاذنا أبو سنة، لأننا إذا عرفنا بأن الاختصاص يقوم على عدم جواز التعرض للمختص في حدود ما وقع عليه الاختصاص فإنه يتصور عندئذ تحققه في الإباحات العامة، لأن الشخص عندما يستعمل حقه في أي مباح من المباحات العامة، فلا يجوز لأحد التعرض له فيه ولا منعه عنه بالقدر الذي وضع المختص يده عليه، وهذا ما أكد عليه الأستاذ الزرقاء عند شرحه لتعريف الحق (4) .
(1) انظر النظريات العامة في المعاملات ص52
(2)
انظر النظريات العامة في المعاملات ص52
(3)
انظر النظريات العامة في المعاملات ص52
(4)
انظر الملكية في الشريعة الإسلامية للدكتور العبادي 103/ 1 وكذا الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد ص14
أقسام الحق:
ينقسم الحق باعتبارات مختلفة، فهو ينقسم باعتبار صاحب الحق إلى: حق الله تعالى، وحق الإنسان، وما اجتمع فيه الحقان. وقد تكفلت كتب الفقه وأصوله ببيان تلك الحقوق مما لا مجال للكلام عنها هنا، حيث إننا سنقتصر في الكلام عن الحقوق المالية فقط، لأنها هي المقصودة في موضوع بحثنا هذا.
وقد قسم ابن رجب الحنبلي حقوق العباد التي تتعلق بالأموال إلى خمسة أنواع وهي: (1)
1-
حق الملك: ومثَّل له بحق السيد في مال عبده.
2-
حق التملك: وذلك كحق الأب في مال ولده وحق العاقد للعقد إذا وجب له، وحق الشفيع في الشفعة (2) .
3-
حق الانتفاع: وقد بين أنه يدخل فيه صور منها:
(أ) وضع الجار خشبة على جدار جاره إذا لم يضر به للنص الوارد فيه.
(ب) إجراء الماء في أرض غيره إذا اضطر إلى ذلك في رواية عن الإمام أحمد.
(جـ) لو باع أرضا فيها زرع يحصد مرة واحدة ولم يبد صلاحه أو شجرا عليه ثمر لم يبد صلاحه، كان ذلك مبقى في الشجر والأرض إلى وقت الحصاد والحذاذ بغير أجرة ولو أراد تفريغ الأرض من الزرع لينتفع بها إلى وقت الحذاذ أو يؤجرها، لم يكن له ذلك.
(1) انظر القاعدة الخامسة الثمانين ص 200 –208 من القواعد
(2)
وذكر بعد ذلك صورا قد اختلف فيها: هل يثبت فيها المِلك أو حق التملك؟ منها الموصى له بعد موت الموصي وبيَّن أن فيها وجهين أحدهما: أنه يثبت له الملك والثاني: أنه يثبت له حق التملك بالقبول، ومنها من بنت في أرضه كلأ أو نحوه من المباحات أو توحل فيها صيد أو سمك ونحوه، فهل يملك بذلك؟ في المسألة روايتان معروفتان وأكثر النصوص عن أحمد تدل على الملك، وعلى الرواية الأخرى إنما يثبت حق التملك وهو مقدم على غيره بذلك إذ لا يلزمه أن يبذل من الماء والكلأ إلا الفاضل عن حوائجه ومنها متحجر الموات، المشهور أنه لا يملكه بذلك، ونقل صالح عن أبيه ما يدل على أنه يملكه وعلى الأول فهو أحق بتملكه بالإحياء
4-
حق الاختصاص: (وهو عبارة عما يختص مستحقه بالانتفاع به ولا يملك أحد مزاحمته فيه وهو غير قابل للشمول والمعاوضات) . وقد ذكر جملة من صور حق الاختصاص منها:
(أ) الكلب المباح اقتناؤه كالمعلم لمن يصطاد به، فإن كان لا يصطاد به أو كان جروا يحتاج إلى التعليم فوجهان:
(ب) مرافق الأملاك كالطرق والأفنية ومسيل المياه، ونحوها، فهل هي مملوكة أو ثبت فيها حق الاختصاص، رأيان في المسألة: أحدهما ثبوت حق الاختصاص فيها من غير ملك، وبه حزم القاضي وابن عقيل.
والرأي الآخر أنه يفيد الملك، وصرح به الأصحاب في الطرق.
(جـ) مرافق الأسواق المتسعة التي أعدت للبيع والشراء، كالدكاكين المباحة ونحوها فالسابق إليها أحق بها، وهل ينتهي حقه بانتهاء النهار أو يمتد إلى أن ينقل قماشه عنها؟ على وجهين.
(د) الجلوس في المساجد ونحوها لعبادة أو مباح، فيكون الجالس أحق بمجلسه إلى أن يقوم عنه باختياره قاطعا للجلوس، أما لو قام لحاجة عارضة ونيته العودة فهو أحق بمجلسه.
5-
حق التعلق لاستيفاء الحق، وقد مثل له بعدة صور منها:
(أ) تعلق حق المرتهن بالرهن، ومعناه أن جميع أجزاء الرهن محبوس بكل جزء من الدين حتى يستوفى جميعه.
(ب) تعلق حق الجناية بالجاني، ومعناه أن حقه انحصر في ماليته وله المطالبة بالاستيفاء منه، ويتعلق الحق بمجموع الرقبة لا بقدر الأرش على ظاهر كلام الأصحاب.
(جـ) تعلق حق الغرماء بالتركة هل يمنع انتقالها بالإرث؟
على روايتين، وهل هو كتعليق الجناية أو الرهن؟ اختلف كلام الأصحاب في ذلك، وصرح الأكثرون بأنه كمتعلق الرهن.
ويفسر بثلاثة أشياء:
أحدها: أن تعلق الدين بالتركة وبكل جزء من أجزائها، فلا ينفك منها شيء حتى يوفى الدين كله.
الثاني: أن الدين في الذمة ويتعلق بالتركة، وهل هو ذمة الميت أو الورثة؟ على وجهين.
الثالث: أنه يمنع صحة التصرف، وفي ذلك وجهان أيضا.
(د) تعلق حق الموصى له بالمال، هل يتبع الانتقال إلى الورثة؟ جعل طائفة من الأصحاب حكمه حكم الدين، وجزم القاضي بعدم انتقاله إلى الورثة، مفرقا بين الدين والوصية بأن حق الموصى له في عين التركة ولا يملك الورثة إبدال حقه، بخلاف الدين، فإن حق صاحبه في التركة والذمة، وللورثة التوفية من غيره.
أقسام الحق عند فقهاء القانون:
قسم رجال القانون الحقوق المالية إلى ثلاثة أنواع هي:
الحقوق العينية والحقوق الشخصية والحقوق الذهنية أو المعنوية.
فعرفوا الحق العيني بأنه: سلطة معينة يعطيها القانون لشخص معين على شيء معين فصاحبه يستطيع أن يباشره دون وساطة أحد.
وعرفوا الحق الشخصي: بأنه مطلب يقره الشرع لشخص على آخر وهذا الحق يكون متعلقه تارة قياما بفعل ذي قيمة لمصلحة صاحب الحق وتارة امتناعا عن فعل مناف لمصلحته، وذلك كحق كل من المتبايعين على الآخر (1) .
وقسموا الحقوق العينية إلى حقوق أصلية وحقوق تبعية، وعرفوا الحقوق العينية الأصلية بأنها: الحقوق التي تقوم بذاتها مستقلة لا تتبع حقا آخر، وبموجب هذا الحق تصبح لصاحبه سلطة تخوله إحدى أو جميع المكنات الثلاث التالية:
(1) انظر الأستاذ الزرقاء في مؤلفه الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد ص17، وكذا محاضرات في النظرية العامة للحق للدكتور إسماعيل الغانم ص31 وما بعدها
1-
استعمال العين محل الحق.
2-
واستغلالها.
3-
والتصرف بها.
وهذه المكنات الثلاث إذا اجتمعت شرعا في حق عيني، كونت فيه أوسع سلطة يمكن أن يكسبها صاحب حق عيني، ولكنها لا تجتمع كلها إلا في حق عيني واحد، هو ملكية الشيء ولذلك توصف الملكية بأنها أوسع الحقوق العينية مدى، وتوجد إلى جانب حق الملكية حقوق متفرعة عنه لا تخول صاحبها إلا بعض هذه المكنات كحق الاستعمال وحق الانتفاع وحق السكنى وحقوق الارتفاق القانونية (1) .
وعرفوا الحقوق العينية التبعية بأنها: الحقوق التي لا توجد مستقلة، إنما تتبع حقا شخصيا لضمان الوفاء به كما في الرهن. وسلطة هذا الحق لا تخول صاحبه شيئا من هذه المكنات أو المزايا، لأن غايته توثيق حق شخصي لصاحبه كما قلنا، فسلطته تنحصر في ضمان استيفاء ذلك الحق الشخصي من المال المقرر عليه هذا الحق العيني التبعي بطريق الأولوية على غيره من الدائنين الآخرين (2) .
أما الحق المعنوي فهو: (سلطة مقررة لشخص على شيء معنوي أي على شيء لا يدرك بالحواس. وذلك كالأفكار والمخترعات، فهو سلطة على شيء غير مادي، هو ثمرة فكر صاحب الحق أو نشاطه (3) .
وقد نحا قريب من هذا أستاذنا أبو سنة عندما قسم الحق باعتبار علاقته البارزة إلى حق متعلق بالعين وحق ثابت في الذمة، فعرف الحق المتعلق بالعين) بأن يكون للإنسان حق في ذات شيء من الأشياء (وذلك كحق الملك في الدار، وحق سقي الزرع من جدول معين ومنه كل ما هو أمانة في يد حائزه كالوديعة والعارية والعين المستأجرة في يد المستأجر والموصى له بالمنفعة في المنافع الموصى بها.
(1) انظر الأستاذ الزرقاء في مؤلفه الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد ص17، وكذا محاضرات في النظرية العامة للحق للدكتور إسماعيل الغانم ص20 وما بعدها
(2)
انظر الأستاذ الزرقاء في مؤلفه الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد ص17، وكذا محاضرات في النظرية العامة للحق للدكتور إسماعيل الغانم ص21
(3)
انظر الدكتور العبادي في مؤلفه الملكية في الشريعة الإسلامية 112/ 1
كما اعتبر الحقوق الفكرية من جملة الحقوق المعنوية، فهي أموال ذات مميزات خاصة اختص بها صاحبها دون غيره.
فالعلاقة البارزة ثابتة بين المالك وهذا المال المعنوي. أما الحق الثابت في الذمة، فهو إما أن يكون دينا ماليا أو غير مالي، وإما عمل كبناء دار وخياطة ثوب أو منفعة كما في إجارة الدار وإجارة الأجير الخاص، وقد يكون امتناعا عن عمل كتكليف الزوجة ألا تدخل أحدا من الأجانب بيت الزوج إلا بإذنه. (1)
وبعد أن عرض الشيخ أبو سنة أقسام الحقوق في الشريعة الإسلامية أراد منها بتقسيم الحقوق عند فقهاء القانون، ثم أضاف قائلا:) والشريعة لا تعارض في هذا الاصطلاح لأنه مجرد تنظيم ما دام يفصل في كل حق بحكم الله غير أن الأقسام التي ذكرها علماء الشريعة مبنية على اختلاف الخصائص والأحكام الشرعية لكل قسم وهي وافية بالأغراض القضائية والديانية (2) .
وقال الشيخ الخفيف بعد عرضه لأنواع الحق لدى فقهاء القانون: (وإذا كان الفقه الإسلامي لم يشر إلى هذه الأنواع، ولم يعرض لهذه القسمة، فإنه مع القسمة. ذلك أنه قد عرف هذه الأنواع بأسماء أخرى، ولم يغفل بيان أحكامها غير مجموعة تحت عنوان واحد في مواضع متفرقة، حيث عرض لبيان أسبابها. وكان له في الحق قسمة أخرى نظر فيها إلى ما للحق من ارتباط بما يعني به، من حيث إنه شريعة وضعت لتنظيم الصلات بين العبد وربه وبين العبد وأمثاله من الناس، فقسم إلى حق لله وحق للعبد وحق مشترك بينهما وغير ذلك من القسمات الخاصة به الكاشفة عن جوانب أخرى من جوانب الحق لم يعن الفقه الوضعي بها لعدم حاجته إليها)(3) .
حق الملكية:
بعد أن تبين لنا أن حق الملكية يعد أكمل وأوسع الحقوق العينية الأصلية، وذلك من حيث السلطات التي يمنحها الفقه الإسلامي والقانون الوضعي للمالك على الشيء الذي يملكه، نقف الآن على ما ذكره الفقهاء المسلمون بخصوص أنواع الملكية، وما يجوز للمالك من التصرف في كل نوع منها.
(1) انظر النظريات العامة للمعاملات ص 70
(2)
انظر النظريات العامة للمعاملات ص 77
(3)
انظر الملكية في الشريعة الإسلامية 13 – 14/ 1
وقبل البدء بتقسيم الملكية أود أن أشير باختصار إلى بعض تعاريف الفقهاء لها فإنهم يعبرون في كتبهم عن حق الملكية بالملك، ولأهمية هذا الحق وشموله عنوا بتبيينه ولهم في ذلك تعريفات تختلف إيجازا وإسهابا، كما تتفاوت في إبراز الخواص المميزة لهذا الحق والجهات الملحوظة فيه.
فقد عرفه الكمال بن الهمام بقوله: (قدرة يثبتها الشارع ابتداء على التصرف إلا لمانع)(1) . وذكر السيد الشريف الجرجاني أن الملك في اصطلاح الفقهاء هو: (اتصال شرعي بين الإنسان وبين شيء يكون مطلقا لتصرفه وحاجزا عن تصرف غيره فيه)(2) .
وعرفه القرافي بقوله: (حكم شرعي مقدر في العين أو المنفعة تمكن من يضاف إليه من انتفاعه بالمملوك والعوض عنه من حيث هو كذلك)(3) .
وعرَّف ابن الشاط الملكية بقوله: (تمكن الإنسان شرعا بنفسه أو نيابة من الانتفاع بالعين أو المنفعة ومن أخذ العوض أو تمكنه من الانتفاع خاصة)(4) .
ويلاحظ في معظم التعريفات المتقدمة الحرص على إدراج الشرعية في تعريف الحق، أو التصريح بإثبات الشارع كما فعل الكمال، وكل ذلك إفصاح عن مصدر الحق كما يقول الأستاذ الزهاوي (5) .
وذكر الشيخ الخفيف في تعريف الملكية (بأنها وصف شرعي يثبت لصاحبه نتيجة حيازته للمملوك حيازة ناشئة عن سبب من أسباب الملك)(6) . والمقصود بالوصف الشرعي بأنه المكنة أو الإباحة التي أعطاها الشارع للحائز من أجل أن ينتفع بالمال أو يتصرف فيه أو يستحق عوضه.
(1) انظر فتح القدير 456/ 5
(2)
انظر تعريفات سيد شريف ص155
(3)
انظر الفروق 209/ 3 وفي مكان عرف الملك بقوله: (إباحة شرعية في عين أو منفعة تقتضي تمكن صاحبها من الانتفاع بتلك العين أو المنفعة أو أخذ العوض عنهما من حيث هي كذلك) . انظر 216/ 3 من نفس المرجع
(4)
انظر حاشيته على الفروق 209/ 3
(5)
انظر مؤلفه التعسف في استعمال حق الملكية ص 64
(6)
انظر مؤلفه الحق والذمة ص 61
أنواع الملك:
يقسم الملك إلى عدة تقسيمات باعتبارات مختلفة، فبالنظر إلى خصائصه، قسم إلى ملك خاص، وهو ما يثبت لصاحبه على سبيل الاستئثار، وملك عام، وهو ما كان لمجموع أفراد الأمة أو لجماعة من الجماعات، وذلك كالأنهار والطرق وأفنية المدن (1) .
وبالنظر إلى صورته يقسم الملك إلى مفرز، وهو ما اختص به مالك واحد دون اختلاط بملك الآخرين.
وملك شائع، وهو ما كان محله يختص به أكثر من مالك من غير تعيين الأجزاء التي تعود لكل منهم، وإنما لكل منهم نسبة معنية في كل جزء (2) ، وهذه القسمة خاصة بملكية الأعيان.
وأما بالنظر إلى محلها حسب ورودها على العين أو المنفعة فقد قسم ابن رجب الحنبلي الملك إلى أربعة أنواع وهي:
أولا: ملك عين ومنفعة، ويشمل عامة الأملاك الواردة على الأعيان المملوكة بالأسباب المقتضية لها من بيع وهبة وإرث وغير ذلك.
ثانيا: ملك العين بدون منفعة، وقد مثل له بالوصية بالمنافع لجهة وبالرقبة لجهة أخرى، أو تركها للورثة.
ثالثا: ملك المنفعة بدون عين، وهو ثابت بالاتفاق، وهو على ضربين، أحدهما: ملك مؤبد كالوصية بالمنافع، وكالأرض الخراجية المقرة في يد من هي في يده بالخراج يملك منافعها على التأبيد.
والآخر: ملك غير مؤبد، ومنه الإجارة ومنافع المبيع المستثناة في العقد مدة معلومة.
(1) انظر الملكية للشيخ الخفيف 73/ 1
(2)
انظر الملكية للشيخ الخفيف أيضا 81/ 1
رابعا: ملك الانتفاع المجرد، وله صور متعددة، منها:
(أ) ملك المستعير فإنه يملك الانتفاع لا المنفعة على رواية.
(ب) المنتفع بملك جاره من وضع خشب وممر في دار ونحوه، وإن كان بعقد صلح فهو إجارة.
(ج) إقطاع الإرفاق كمقاعد الأسواق ونحوها (1) .
وقد وردت هذه الأنواع في كتب القواعد لمذاهب أخرى مع إفراد النوع الرابع وتمييزه عن سائرها. فبعد أن ذكر السيوطي من الشافعية الأنواع الثلاثة الأولى قال: وقد يملك الانتفاع دون المنفعة، وعقب على قوله هذا، بأن ذلك إباحة لا تمليك (2) .
وكذلك ذكر العلامة ابن نجيم الحنفي الأنواع الثلاثة، وأفاد أن المراد بالنوع الرابع عند غيرهم ما يقابل إباحة الانتفاع عندهم (3) .
حكم الملك:
المقصود بحكم الملك هنا، هو الأثر الذي يترتب عليه، وقد سبق لنا عند كلامنا عن أقسام الحق عند فقهاء القانون أن قلنا: إن لصاحب الحق العيني الأصلي سلطة تخوله إحدى أو جميع المكنات الثلاث، التي هي: استعمال العين محل الحق، واستغلالها والتصرف بها.
وفي الواقع هذه هي عناصر حق الملكية كما سماها رجال القانون، فللمالك أن يفعل في ملكه ما يشاء ما لم يرد قيد هذا التصرف.
وهذه القدرات والمكنات المذكورة، هي التي عناها فقهاء المسلمين بقولهم: حق الملك، ومرادهم به كما ذكرنا، الأثر الذي يترتب عليه.
والنصوص الفقهية التي توضح ما يثبت للمالك من سلطات أو قدرات أو مكنات على الشيء المملوك كثيرة، وهي مبثوثة في الأبواب الفقهية هنا وهناك.
من هذه النصوص: ما جاء في حاشية ابن عابدين: (الانتفاع بالمال يعتمد في كل شيء بما يصلح له)(4) . وفي قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام (يثبت التصرف بحصول الملك ويزول بزواله)(5) .
ومن هنا يمكن القول بأن فقهاء الشريعة وإن لم يتعرضوا لتفصيل مكنات الحق على النحو الذي ذكره فقهاء القانون، إلا أنها مسلم بها عندهم كمظهر للملكية التامة (6) .
(1) انظر القاعدة السادسة والثمانين ص208
(2)
انظر الأشباه والنظائر ص381
(3)
انظر الأشباه والنظائر ص351
(4)
انظر حاشية ابن عابدين 502/ 4
(5)
انظر قواعد الأحكام 6/ 2
(6)
انظر الأستاذ الزهاوي في مؤلفه: التعسف في استعمال حق الملكية ص69
أسباب الملك:
قلما يفرد الفقهاء فصولا خاصة تجمع أسباب الملك، وإنما يتكلمون عنها ضمن أبواب الفقه، وغالبا ما يذكرها فقهاء الأحناف عند بيانهم لأسباب شركة الملك، فيذكرون منها الشراء والهبة والوصية والإرث والاستيلاء والخلط والاختلاط (1) .
إلا أن العلامة ابن نجيم عند بيانه القول في الملك أفرد المسألة الأولى لبحث أسباب التملك وعنون لها بذلك، وذكر من تلك الأسباب ما تقدم وأضاف أسبابا كثيرة أخرى على سبيل يشبه الاستيعاب (2) .
وكذلك قليلا ما يتعرض فقهاؤنا رحمهم الله لرد أسباب الملك إلى أنواع تجمعها، وقد أشار الحافظ ابن رجب إلى ذلك إشارة عارضة بقوله:(إن الملك يقع تارة بعقد وتارة بغير عقد)(3) .
أما العلامة ابن نجيم فقد فصل القول في ذلك حيث رد أسباب الملك جميعها إلى ثلاثة أنواع: ما هو مثبت للملك من أصله (أي ابتداء) وناقل للملك، وخلافه.
وحصر الأول بالاستيلاء على المباح، فشرطه خلو المحل عن الملك، ومثل للثاني بالبيع والهبة، وللثالث بملك الوارث (4) .
(1) انظر ابن نجيم في الأشباه والنظائر ص346 وما بعدها
(2)
انظر ابن نجيم في الأشباه والنظائر ص346 وما بعدها
(3)
انظر القاعدة الحادية والخمسين ص74
(4)
انظر الأشباه والنظائر ص346 وما بعدها
ومن الفقهاء من تعرض لقسمة الأسباب إلى قولية وفعلية، وإذا لوحظ أن المراد بالأسباب الفعلية ما يعود إلى فعل الإنسان وما لا يعود إلى فعله، وأنها أسباب لما يترتب عليها بجعل الشارع، أي أنها أسباب شرعية، وأن مراد الفقهاء بالأسباب القولية التصرفات الشرعية، اتضح لنا كما يقول الأستاذ الزهاوي التقاء الفقه الإسلامي مع القانون في رد أسباب الملك وأسباب الحقوق بصورة عامة إلى الوقائع الشرعية والتصرفات الشرعية التي تقابل الوقائع القانونية والتصرفات القانونية (1) .
وأما أسباب الملك الناقص ففي ملك الرقبة الوصية والميراث، والوصية تدخل في الأسباب الناقلة والميراث خلافة، وإن كانت الوصية أيضا تفيد خلافة عند فريق من الفقهاء وإلى هذين الأصلين ترجع أيضا أسباب ملك المنفعة وهي: الإجارة والإعارة عند المالكية وأكثر الحنفية. والوصية والوقف والوراثة سبب لملك المنفعة في حقوق الارتفاق التي تعد من قبيل ملك المنفعة عند فقهاء الشريعة وتورث اتفاقا، وكذلك في الإجارة عند من لا يقول بانفساخها بموت المستأجر، وفي الوصية بالمنافع عند من لا يقول بانقضائها بموت الموصي له قبل انتهاء المدة (2) .
(1) انظر الأستاذ الزهاوي في بحثه التعسف في احتمال حق الملكية ص71
(2)
انظر الأستاذ الزهاوي في بحثه التعسف في احتمال حق الملكية ص72، الشيخ علي الخفيف أحكام المعاملات المالية ص51، 52 – 63 – 66 وكذا الملكية 142/ 1
مدى انتفاع المستأجر بالعين المستأجرة:
لقد تبين لنا من خلال البحث أن الإجارة سبب من أسباب الملك الناقص، وأن المستأجر مالك لمنفعة العين المؤجرة خلال مدة الإجارة، وأن هذا الحق قد ثبت للمستأجر بطريق المعاوضة المالية، وهو ما دفعه من مال لصاحب العين، ونريد هنا أن نتعرف ماهية الحقوق التي أجازها له الشارع مدة انتفاعه بالعين المستأجرة:
لقد اتفق الفقهاء على أن ما يملكه المستأجر بالعقد، هي المنفعة، لأن الإجارة كما عرفوها بقولهم: عبارة عن تمليك المنافع بعوض، فالعين ليست مملوكة بالإجارة كالمبيع (1) .
ويلزم المؤجر تمكين المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة، فإن كانت دارا وجب على المالك تسليمها وعمارة ما يحتاج فيها إلى تعمير (2) .
والمقصود بانتفاع المستأجر، استغلال منفعة العين في الحدود المتعارف عليها ويجب عليه العناية بالعين المنتفع بها وردها إلى المالك عند نهاية الانتفاع (3) .
(1) انظر روضة الطالبين وعمدة المفتين للإمام النووي 211/ 5
(2)
جاء في مرشد الحيران مادة 637 ما يلي: (لا يجوز للمؤجر أن يتعرض للمستأجر في استيفائه المنفعة مدة الإجارة ولا أن يحدث في العين المؤجرة تغييرا يمنع من الانتفاع بها أو يخل بالمنفعة المعقودة عليها)
(3)
ذكر صاحب المرشد الحيران في المادة 654 مايلي (يجب على المستأجر أن يعتني بالعين المؤجرة كاعتنائه بملكه ولا يجوز له أن يحدث بها تغييرات بدون إذن مالكها) وفي المادة 658 ذكر بأنه يجب على المستأجر تفريغ الدار أو الحانوت المؤجرة ويسلمها لصاحبها، ولا حاجة للتنبيه عليه بالتخلية.
هل يجوز للمستأجر تمليك المنفعة لغيره؟
لو كانت العين المؤجرة عقارا، كأن تكون دارا أو دكانا أو ما أشبه ذلك، فإذا أراد المستأجر تأجير العقار المذكور لشخص آخر من دون الرجوع إلى رأي صاحب العقار فهل يجوز له ذلك شرعا أم لا؟
الجواب على هذا: يجوز لمالك المنفعة أن يستوفيها بنفسه أو بغيره كمستأجر أو مستعير، فإن كانت العين دارا، فله أن يسكن فيها بنفسه ومع غيره، وله أن يسكن فيها غيره بالإجارة والإعارة، وله أن يضع فيها متاعا وغيره، غير أنه لا يجعل فيها حدادا ولا قصارا ولا طحانا ولا ما يضر البناء ويوهنه، لأن ذلك قد يعرض العين للتلف وذلك لا يجوز لأن مطلق العقد ينصرف إلى المعتاد، والحانوت الذي يكون في صف البزازين لا يؤجر لعمل الحداد والقصار والطحان فلا ينصرف مطلق العقد إليه، إذ المطلق محمول على العادة فلا يدخل غيره في العقد إلا بالتسمية أو الرضا، وإنما جاز للمستأجر أن يؤجر من غيره ويعير، لأنه ملك المنفعة، فكان له أن يؤجر من غيره بعوض أو بغير عوض (1) .
وبخصوص تأجير المستأجر للعقار بأكثر مما استأجره، للفقهاء في المسألة قولان:
أحدهما: ويقضي بجواز ذلك مطلقا سواء أضاف المستأجر إلى العين المؤجرة شيئا من ماله أم لا، دليل هذا الرأي هو:
أن المنافع لها حكم الأعيان، فتصير مملوكة للمستأجر بالعقد مسلمة إليه بتسليم الدار، فكان بمنزلة من اشترى شيئا وقبضه ثم باعه وربح فيه، فالربح يطيب له لأنه ربح على ملك حلال له. هذا ما ذهب إليه الشافعية (2) . وهو الصحيح من مذهب الحنابلة أيضا (3) .
والرأي الثاني: وقد ذهب فيه أصحابه إلى القول: أنه لا يجوز للمستأجر أن يؤجر العين بأكثر مما استأجرها به، وإذا فعل ذلك، تصدق بالفضل إلا أن يكون أصلح منها بناء أو زاد فيها شيئا، فحينئذ يطيب له الفضل، دليل هذا القول: أن المنافع لم تدخل في ضمان المستأجر وإن قبض العين المؤجرة، بدليل أن العين المذكورة لو انهدمت لم يلزمه الأجر، فهذا ربح حصل لا على ضمانه، ((ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن)) ، هذه وجهة نظر الحنفية (4) ورواية للحنابلة أيضا (5) .
(1) انظر القاعدة السابعة والثمانين من القواعد لابن رجب الحنبلي ص210 وانظر المبسوط للسرخسي 130/ 15. مصادر الحق للدكتور عبد الرزاق السنهوري 72/ 6
(2)
انظر الخطيب الشربيني في مغني المحتاج 350/ 2
(3)
انظر ابن رجب في القاعدة السابعة والثمانين ص210 فقد ذكر فيها ما يقبل النقل والمعارضة من الحقوق المالية والأملاك وقد فرع منها إجارة المستأجر فذكر بأنها جائزة على المذهب الصحيح بمثل الأجرة وأكثر وأقل.
(4)
انظر السرخسي في المبسوط 130/ 15
(5)
انظر القواعد ص210
وما ذهب إليه أصحاب الرأي الأول هو المختار لما ذكروه من تدليل.
حكم ما إذا أحدث المستأجر في العين عمارة أو شيئا آخر:
إذا كانت العين المؤجرة دارا أو دكانا مثلا، فأضاف إليها المستأجر بناء أو أجرى عليها تحسينا، فما هو حكم الشيء المضاف في هذه الحالة؟
الجواب على ذلك: أن المسألة تحتمل الوجوه التالية:
1-
إذا كانت الإضافة مما لا يمكن قلعها من البناء الأول، وقد فعل المستأجر ذلك بموافقة مالك العقار، فله الرجوع على المالك بما بذله من مال، إلا أن ذلك لا يمنع من إخراجه من الدار عند انتهاء العقد، بعد أن يستوفي المستأجر ما أنفقه على العقار من مال، إلا في حالة واحدة وهي: ما إذا اتفق المتعاقدان على أن تكون نفقة الإضافة من الأجرة، فعندئذ تكون بمثابة نقد بمقدارها، لا يحق للمؤجر طلب تخلية العقار قبل مضي المدة المقابلة لذلك. ولو أراد المستأجر أن يسكن معه آخر مقابل مبلغ من المال في نظير الكلفة التي أنفقها على العقار لا يجوز له ذلك (لأن المكان وما فيه ملك لصاحبه – أعني الدار والعمارة) والذي يستحقه المستأجر هو ما أنفقه من مال على الدار في ذمة صاحبها فقط.
2-
إذا كانت الإضافة مما تنقل أو تحول كأن تكون خشبا أو نحاسا أو ما أشبه ذلك وقد وضعت بإذن من المالك، فإن الشيء المضاف يبقى في هذه الحالة على ملك المستأجر، فإذا انقضت مدة الإجارة، فله أخذ ما أضافه من مواد أو مطالبة المالك بدفع قيمة الشيء المضاف، ولو أراد المستأجر أن يسكن معه غيره مقابل مبلغ يدفعه الساكن له، جاز له أخذ ذلك، لأنه في المعنى باعه ما يستحق، ويصح حكم المستأجر الثاني مع مالك العقار كحكم المستأجر الأول.
3-
إذا كانت الإضافة المذكورة قد قام بها المستأجر بلا إذن من المالك، فلا رجوع له عليه بشيء، ويخير صاحب العقار بين أن يلزم الساكن بأخذ عين شيئه أو دفع قيمته له مقلوعا (1) .
جواب السؤال مدار البحث:
بعد أن وقفنا على رأي فقهائنا رحمهم الله فيما يملكه المستأجر من حقوق في العين المؤجرة، تبين لنا ما يأتي:
أولا: يجوز للمستأجر بحكم تملكه لمنفعة العين المؤجرة أن يؤجرها للغير مدة إيجاره لتلك العين المعقود عليها مع المالك الأصلي، على أن تلاحظ الشروط التي ذكرها الفقهاء بخصوص عدم إلحاق الضرر بالعين المؤجرة من قبل المستأجر الجديد.
وللمالك طلب تخلية الدار من المستأجر الجديد بعد انتهاء مدة عقد الإجارة مع المستأجر الأول.
ثانيا: فيما عدا ذلك لا يجوز للمستأجر أن يتصرف بالعقار بأية حال من الأحول، فما يأخذه من مال لقاء تخليته العقار لشخص آخر، لا يجوز له شرعا، لأن حقه ينتهي بانتهاء عقد الإجارة مع المالك، وما يطلبه من مال في مقابل عين ولا منفعة.
وما يفعله البعض من ترك بضاعة أو شيء من الأثاث على أساس أن ما يؤخذ هو في مقابل هذه العين، أن ذلك يعتبر من قبيل التحايل على أكل أموال الناس بالباطل، إذ لا من مسوغ له شرعا التصرف بالعين المؤجرة بعد انتهاء العقد.
(1) انظر فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك لأبي عبد الله محمد أحمد عليش، 230/ 2
ثالثا: أما موقف الشريعة من النوع الثاني من بدل الخلو، فالجواب عنه كما يلي:
أ - إن أخذ المالك للمبلغ الإضافي من المستأجر على أساس أنه بدل الخلو، لا يجوز له شرعا لأنه لا مبرر لأخذه، فإن قيل: لِمَ لا يعتبر المبلغ المذكور من قبيل الهبة؟
فالجواب على هذا: أن وجود مثل هذا الشرط أمر مخل بعقد الإجارة، لأنه شرط يتنافى مع مقتضى العقد.
ب - يجوز لمالك العقار من دار أو دكان أو ما أشبه ذلك، تأجير عقاره ببدل إيجار لمدة سنة بمبلغ من المال ولسنة أخرى ببدل إيجار أقل أو أكثر سواء كان لذات المستأجر الأول أو لغيره، لأنه تصرف في خالص حقه.
والله تعالى أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
مصادر البحث
بعد القرآن الكريم.
1-
الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة تأليف زين العابدين بن إبراهيم بن نجيم مؤسسة الحلبي 1387هـ - 1968م.
2-
القواعد في الفقه الإسلامي للحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي – الطبعة الأولى – مكتبة الكليات الأزهرية.
3-
الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية – تأليف جلال الدين عبد الرحمن السيوطي – عيسى البابي الحلبي.
4-
روضة الطالبين وعمدة المفتين – للإمام النووي، المكتب الإسلامي – الطبعة الثانية 1405هـ - 1985م. بيروت.
5-
الملكية في الشريعة الإسلامية – للدكتور عبد السلام داود العبادي/ القسم الأول مكتبة الأقصى/ عمان. الطبعة الأولى 1394- 1974م.
6-
مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج لشيخ محمد الشربيني الخطيب مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1377- 1958م.
7-
فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك لأبي عبد الله محمد أحمد عليش وبهامشه تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام لابن فرحون المالكي/ الطبعة الأخيرة – مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1378هـ - 1958م.
8-
محاضرات في النظرية العامة للحق- الطبعة الثالثة – القاهرة – تأليف الدكتور إسماعيل غانم – الناشر – مكتبة عبد الله وهبة. تاريخ الطبع 1966م.
9-
الحق والذمة وتأثير الموت فيهما – للشيخ علي الخفيف – الناشر مكتبة عبد الله وهبة في 1364هـ - 1945م.
10-
مصادر الحق في الفقه الإسلامي – للدكتور عبد الرزاق السنهوري – الطبعة الثالثة 1968 معهد البحوث والدارسات العربية.
11-
الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد – للأستاذ مصطفى الزرقاء/ مطبعة طربين في دمشق 1384هـ - 1965م.
12-
النظريات العامة للمعاملات في الشريعة الإسلامية للأستاذ أحمد فهمي أبو سنة. مطبعة دار التأليف بالقاهرة 1387- 1967م.
13-
التعسف في استعمال حق الملكية – تأليف الدكتور سعيد أمجد الزهاوي. الطبعة الأولى دار الاتحاد العربي بالقاهرة.
14-
كشف الأسرار ونور الأنوار. حاشية الشيخ عبد الحليم اللكنوي المسماة قمر الأقمار على نور الأنوار شرح المنار/ دار الطباعة بالأستانة 1306هـ.
15-
الفروق – للإمام القرافي وبهامشه تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية. دار المعرفة للطباعة والنشر – بيروت لبنان.
16-
حاشية ابن عابدين على الدر المختار – رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار- للعلامة محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز الشهير بابن عابدين. مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1327.
17-
المبسوط لشمس الأئمة لأبي بكر محمد بن أبي سهل السرخسي وهو شرح لما تتضمنه كتب ظاهر الرواية – الطبعة الأولى – مطبعة السعادة مصر.
18-
فتح القدير – حاشية على الهداية شرح البداية وفتح القدير للإمام الكمال بن الهمام – الطبعة الأولى – المطبعة الخيرية 1326هـ.
19-
مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان لمحمد قدري باشا وقد صاغه في مواد على غرار المجلة. الطبعة الثانية – مطبعة المعارف بغداد 1375هـ - 1955م.
20-
قواعد الأحكام – العز بن عبد السلام – دار الكتب العلمية – بيروت لبنان.
21-
الملكية في الشريعة الإسلامية مع مقارنتها بالقوانين العربية للشيخ علي الخفيف/ مطبعة الجبلاوي بالقاهرة 1969م.