الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كيفية مكافحة المفاسد الأخلاقية
إعداد
الشيخ هارون خليف جيلي
عضو مجمع الفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الذي خلق فهدى، وأرسل إلينا رسولا كريما، رؤوفا رحيما، بكتاب كريم. فيه تبيان لكل شيء، وهدى ورحمة للمؤمنين. ومدح فيه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالخُلُق العظيم. بقوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (1) .
والصلاة والسلام على هذا النبي الكريم، والسيد المطاع، سيدنا محمد صاحب الخلق العظيم، القائل:((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) . وعلى آله الكرام وصاحبته الأخيار ومن اهتدى بهديه، وتخلق بخلقه.
وبعد، فلما رأيت في جدول البحوث الفقهية المزمع عرضها في الدورة الرابعة لـ (مجمع الفقه الإسلامي بجدة) هذا العنوان (كيفية مكافحة المفاسد الخلقية) جذبني إليه لأهميته وخطورته في مجتمعنا المعاصر. فاخترته للبحث فيه من بين زملائه قدر ما تسنح لي الفرصة، ويوفقني الله الكريم فيه أنه جواد كريم.
وإن البحث في مثل هذا الموضوع بحثا علميا وفقهيا يحوجنا أولا إلى تعريف الخُلُق، ومنشئه ومقاصده ومكانته وأنواعه وأثره في سلوك الفرد والجماعة. ثم إلى تعريف مفاسد الأخلاق وأسبابها ومظاهرها وأضرارها ثم الإشارة إلى الطرق التي عالجها الإسلام قديما، ثم المحاولة إلى الاهتداء للكيفية الناجحة لمكافحة تلك المفاسد الخُلُقية بإذن الله.
وسيكون بحثي في أكثر نقاطه موجزا وعابرا غير عميق، وربما يكون بعضها أطول من بعض لأهميته أو لنكتة أخرى. كما ستراه – أن شاء الله - في نقطة (الملاهي المحرمة- الأغاني- الاختلاط- التبرج) .
وسأقسم كلامي المتواضع حول هذا الموضوع الحساس الهام المتراطم الأطراف إلى خمسة فصول في كل فصل منها عدة مباحث. كالآتي:
الفصل الأول: (مفاهيم الأخلاق، ومنشؤها ومصدرها) .
الفصل الثاني: (قيمة الأخلاق في الإسلام) .
الفصل الثالث: (الأخلاق وأنواعها) .
الفصل الرابع: (أهم أسباب الانحراف والانحلال) .
الفصل الخامس: (طرق مكافحة المفاسد الخلقية) .
والله أسأل التوفيق والسداد. وهو حسبي ونعم الوكيل.
(1) القلم: الآية (4)
الفصل الأول
المبحث الأول
في مفاهيم الأخلاق ومنشئها ومصدرها
في الأخلاق لغة واصطلاحا
الأخلاق لغة: جمع خُلُق. والخلق بضم الخاء واللام هو: الدين والطبع والسجية، وحقيقته صورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها، وهي بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها. فحقيقة الإنسان وقيمته بصورته الباطنة وما فيها من أخلاق حسنة أو رذيلة. (انظر: ابن الأثير في غريب الحديث. ومختار الصحاح) ص: (206و 309) .
أما في الاصطلاح: فإن الخُلُق: يطلق على الصفة التي تقوم بالنفس على سبيل الرسوخ، فيستحق الموصوف بها المدح أو الذم.
ويطلق على التمسك بأحكام الشريعة الإسلامية السمحة فعلا وتركا.
وقيل: هو قواعد من السلوك التي يلتزمها الإنسان الذي يعيش في جماعة.
فمن الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس ((أن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم، والأناة)) قال: يا رسول الله أخلقين تخلقت بهما أم جبلت عليهما؟ قال: ((بل جبلت عليهما)) . قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله. رواه أبو داود والترمذي والبخاري ومسلم.
ومن الثاني قوله صلى الله عليه وسلم ((البر حسن الخلق)) . رواه: مسلم والترمذي. وقول عائشة رضي الله عنها وهي تصف رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كان خلقه القرآن) . رواه مسلم.
ومن الثالث: ما نسب لبعض العلماء الاجتماعيين، من إنهم يقولون: إن الأمم المتوغلة في البدائية لم تعش من غير سلوك في جماعتها، فالجماعة هي التي وضعت نفسها قواعد لسلوك خاص لتسير عليه وتضمن لنفسها البقاء إذا حرصت على التزام تلك القواعد.
المبحث الثاني: في مفهوم الأخلاق:
أن الأخلاق عند أرسطو وأفلاطون ومن وافقهما لا تخرج عن دائرة السعادة –راحة النفس وسرور الفرد.
وإنها عند الماديين لا تخرج مبادئها من أنها ظواهر اجتماعية تفرض على الأفراد دون أن يكون للفرد دخل في بنائها أو في الإيمان بها. وتقول نظريتهم هذه: (إن الأخلاق تختلف عن الدين، وإنها من استجابة النفس إلى الوسط الذي تعيش فيه، فإذا تغير الوسط تغيرت الأخلاق، وإن الأمم لا تحتاج إلى الدين، ولكنها تحتاج إلى الأخلاق، فالأخلاق هي التي ترفع الأمم إلى مستوي الرقي والتقدم لا الدين، وأن (أوربا) لم تنهض من الحضيض إلى العلياء إلا بالأخلاق، فيمكن الاستغناء عن الأديان اكتفاء بالضمير الإنساني الدافع إلى عمل الخير) إلى آخر ما روي عن أقطابهم.
فمجمل نظريتهم هذه: أن الأخلاق نتاج للبيئة، تختلف من شعب لآخر ومن حقبة لأخرى، فهي مادية الأصل.
ولا ريب أن المفكر المسلم لا يرى لتلك النظرية آية قيمة أساسية، بل يرى فيها خلطا بين الأخلاق والتقاليد، وبين الأصول التي جاءت بها الأديان السماوية والأعراف التي أقامها الناس.
وأما في الإسلام وشريعته المباركة: فإن الأخلاق تقوم على أساس التقوى من الله خالق هذا الكون والذي جعل الناس خلفاء في الأرض. وعلى أساس الجمع بين الدنيا والآخرة. قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (1)
فالأخلاق الإسلامية أخلاق تقوِّي الإنسان وتقومه، بما تحمله من معان سلبية وإيجابية، كالتجنب عن الحرام، والإقبال على الحلال. وكالتجرد عن الرذائل والتحلي على الفضائل
…
فالإسلام يعتبر الأخلاق أنها منهاج عملي، غايته التعاون في الحياة، واحترام القيم الإنسانية، وحسن المعاملة. وأن مبدئها الأساسي يقوم على الإرادة والمسئولية والجزاء.
(1) القصص: الآية (77)
والإسلام ربط بين الدين والأخلاق، فلا انفصام بينهما ولا انفصال، فمن لا خُلُق له لا دِينَ له، ومن لا دين له لا خلق له. فجعل الإيمان بالله وعاء الأخلاق. وفرق بين الأخلاق والتقاليد. فالأخلاق ثابتة ومتصلة بالقيم العليا، لأنها من صنع الله.. وأما التقاليد: فهي وسائل عارضة، وتختلف وتتغير مع تغير الزمان لكونها من صنع البشر
…
ولا شك أن فكرة الالتزام الخلقي هي العنصر الأساسي الذي تدور عليه القيم الأخلاقية، فإذا زالت فكرة الالتزام يضيع جوهر الحكمة العقلية والعملية التي تهدف الأخلاق إلى تحقيقها، وإذا انعدم الالتزام انعدمت المسؤولية حتما، وإذا انعدمت المسؤولية ضاع كل أمل في وضع الحق في نصابه وإقامة العدالة
…
وهذه النتيجة واضحة في واقع المجموعة البشرية الآن إلا ما ندر، فالأخلاق قد فقدت الالتزام من المجتمع إلا ممن قل وندر فانعدمت المسؤولية والأمانة والإحسان والعفة.. فضاع الأمل في إصلاح سلوك الناس عند كثير من المفكرين.
المبحث الثالث: مصدر الأخلاق ومنشؤها:
قيل إن الأخلاق تكونت من تجمع جماعة ما من الجماعات البدائية، حيث تكونت لدى هؤلاء البدائيين مبادئ أربعة هي أصول الأخلاق وأمهاتها. وهي:
1-
منع القتل في القبيلة الواحدة: فقالوا: إن من قتل فردا من أفرادها هدد بالانتقام من شبيه القتيل. وهذا الشبيه هو (العفريت، أو الهامة) ، العقاب اللازم. وتنتقم الروح لصاحبها شر انتقام، فتصب على القبيلة الجوائح حتى تثأر لها.
2-
منع السفاح: فقالوا: إن علاقة الرجل بالمرأة لا بد لها من حفل كبير، تجتمع فيه الأسرتان –أسرة الزوج والزوجة- عند شيخ من شيوخ القبيلة. ويترتب على تلك العلاقة تبادل شيء من ممتلكاتهما.. وأن كل علاقة تتم بغير هذه الطريقة تعتبر سفاحا. وهي جريمة لها عقوبة شديدة حيث تهدد القبيلة كلها في كيانها.. فتصب بها الصواعق والرعود والرياح اللافحة، فتصيب الزرع والضرع، وتستمر تلك المصيبة حتى يتم القبض على المجرم.
3-
منع السرقة: فلا يتعدى أحد على ما في يد غيره من مال، خوفا من العقوبة المنتظرة التي ستهدد القبيلة كلها. وكانوا يضعون علامة على المنزل الذي فيه مال أو الحديقة، ليعلم كل من سولت له نفسه أن يسرقه أن المكان مقدس ومحروس. فمن مس هذا المال أو أخذ منه شيئا ليسرق، فإنه يتعرض للهلاك وتتعرض قبيلته للتهلكة.
4-
حرمة الحاكم مصونة: كانوا يعتقدون أن حكامهم مقدسون لا يخطئون، وأنهم يشعرون بتقديس قبائلهم، وأنهم أصدقاء الكهنة والسحرة، فكان المساس على شرف الحكام جريمة موجبة للجائحة والتهلكة. انظر:(الخلق والدين) د. إبراهيم سلامة.
فعند أصحاب هذا القول (فريزير) ومن على شاكلته من علماء الاجتماع – أن الحضارة الأخلاقية أخذت من المبادئ الأربعة قبل ظهور الأديان السماوية الصحيحة.
ولا شك أن هذه المبادئ الأربعة قررتها الأديان الصحيحة نسبيا.
فالإسلام يحرم كلا من السفاح، والسرقة، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ويعطي الحاكم الذي يحكم بما أنزل الله حقه من الطاعة والقبول.. فالإسلام دين الفطرة. جاء ليحدد لتلك الفطرة سبيلها إلى بارئها تحديدا يرتفع بها إلى ربها راضية مرضية ومطمئنة.
وإن الجوائح أو العقاب الجماعي الذي يهدد القبيلة التي فعل فيها الذنب عقاب أقره الإسلام. قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (1)
وحديث أصحاب السفينة الذين اقترعوا على متنها مشهور بدلالته على ذلك دلالة واضحة. ولكن المسؤولية الجنائية تعود على الفرد. قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (2) . وإذا أمعنا النظر حول هذه القضية في آيات القرآن نجد أن العقوبة الجماعية ومسؤوليتها مع المسؤولية الفردية ملموسة في قوله تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (3) .
فالأمة إذا تركت المذنب فيها بلا عقاب زاجر، فلا شك أنها تكون أمة آثمة وفاسقة، فتستحق التدمير، والعقاب الصارم، والعذاب الأليم..
قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (4) .
(1) الأنفال: الآية (25)
(2)
الأنعام: الآية (164)
(3)
المائدة: الآية (79)
(4)
الإسراء: الآية (16)
فالمسؤولية الفردية مسئولية مقررة. والمسؤولية الجماعية تعود إلى الفردية إذا لم تنهه ولم تعاقبه، فيكون كل فرد من الجماعة سائلا ومسؤولا عن نفسه، وعن غيره. وتصير الأمة كلها أمة قد استوجبت العقاب والعذاب الشامل.
وقيل: إن أمهات الأخلاق وأصولها ومصادر بقينها أربعة: وهي (الحكمة، الشجاعة، والعفة، والعدل) .
فالحكمة: حالة للنفس، فبها يدرك الإنسان الصواب من الخطأ في جميع الأفعال الاختيارية.
والعدل: حالة للنفس وقوة فيها تَسُوس الغضب والشهوة فتحملها على الحكمة، وتضبطها في الاسترسال والانقباض على حسب مقتضاها.
وأما الشجاعة: فهي كون قوة منقادة للعقل، في إقامتها وإحجامها..
،إما العفة: فهي قوة تؤدب قوة الشهوة بتأديب العقل والشرع.
فمن اعتدال هذه الأصول الأربعة تصدر الأخلاق كلها جميلة.. ومن عدم اعتدالها تصدر الأخلاق كلها سيئة وقبيحة.. اهـ. قال الإمام الغزالي في (إحياء علوم الدين)(جـ3/ 53) :
والقول الحق الذي لا نقول غيره هو: إن الدين مصدر الأخلاق ومقيدها، لا الإنسان العادي، ولا الجماعة التي يعيش فيها، ولا الحكام البشرية.
وأن كلا من الحكمة والشجاعة والعفة والعدل كلها من الأخلاق الكريمة المؤثرة في سلوك الإنسان.
وأن الأمم البدائية ما عرفت أصول المحرمات والممنوعات إلا على لسان نبي أو رسول من عند الله، ولو لم نعرفه، لأن القرآن الكريم يدلنا على ذلك. فالله لم يترك أمة إلا وقد أرسل إليها رسولا كريما.. قد عرف لنا رسالتهم جملة من غير تفصيل. قال تعالى:{مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} (1) .
(1) غافر: الآية (78)
الفصل الثاني
قيمة الأخلاق في الإسلام
المبحث في مكانة الأخلاق الفاضلة بالنسبة للحياة ونظمها:
إن مكانة الأخلاق في نظر الإسلام مكانة مرموقة لأنها عنصر أساسي في أي عمل من أعماله، فعلا وتركا. فلا يخلو عنها عمل إسلامي مهما كان نوعه
…
فللإسلام شعب تكليفية كثيرة ومتنوعة، لا يستغني واحد منها من حسن الخلق منها: شعبة العقيدة –الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.. وهذه الشعبة هي الأساس الأول ليكون الإنسان مسلما عند الله. فلا بد لصحة هذه العقيدة من صدق وأمانة.. وفي الحديث:((لا إيمان لمن لا أمانة له)) رواه الطبراني وأحمد. ومنها: شعبة العبادات والتقرب إلى الله تعالى. وهذه الشعبة هي الأثر الظاهر الوحيد للصدق في الشعبة الأولى. وغذاؤها الذي يقويها وينميها، كما لا يخفى..
ومنها: شعبة نظم الحياة والمعاملات وفق ميزان العدل والحكمة.
ومنها: شعبة علاقة الإنسان بالحياة والمعيشة.
ومنها: شعبة الكون الفسيح أمام الإنسان وخلافة الأرض.
فقد أباح الإسلام للإنسان في علاقته بالحياة والمعيشة أن يتمتع بكل نعمة من نعمها على شكل لا يخرجه عن القصد والاعتدال.. قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (1) . وأشعر (شعبة الكون أمام الإنسان) بعبارات واضحة من حيث تسخيره له ليعمل فيه ويكدح، ويؤدي الخلافة، فالله [هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا] فسخر له الشمس والقمر، والليل والنهار والأرض الجبال، والبحار والأنهار وكل ما في الكون.. ووجه إلى البحث والنظر فيه لاستخراج أسراره وكنوزه
…
ولا شك أن قوام الانتفاع بهاتين الشعبتين، وقوام الصدق في الشعب السابقة: العقيدة، والعبادة، والمعاملات إنما هو يتوقف بشعبة أخرى هي شعبة الأخلاق. لما دلت الرسالات الإلهية في جميع مراحلها المختلفة من امتناع تحقيق أي شعبة منها على وجهها الصحيح إلا بالخلق الحسن:
1-
أن السعادة التي جعلت هذه الشعب سبيلا إليها لا بد إلى وصول تلك السعادة من حسن الخلق.
2-
وأن الإيمان الذي يرجع إلى مجرد العلم بوحدانية الله.. لابد لبقائه من حسن الخلق.
3-
وأن العبادة التي ترجع إلى الصور والأشكال الظاهرة لا تستغني عن حسن الخلق.
(1) الأعراف: الآية (32)
4-
وأن النظم الاجتماعية والقانونية والفقهية المحفوظة في صدور الناس لا بد لها من الخلق الحسن.
5-
وأن المتعة بالحياة التي ترجع إلى إصابة لذائذها وتحصيلها لا بد لها من الخلق الحسن.
6-
وأن نظرة الإنسان إلى الكون الفسيح التي ترجع إلى مظاهره العامة لا بد لها من خلق سليم.
وهذا كله معلول: بأن انقطاع هذه الشعب في جوهرها عن شعبة الأخلاق أو انقطاع شعبة الأخلاق عنها لَمَمًا يهدم في النفوس وفي الحياة أثر الحكمة الإلهية في الإنسان على التكليف بهذه الشعب.
ومن هنا نعلم أن الخلق المطلوب لصون هذه الشعب ليس مجرد معرفة (الصدق) مثلا بأنه فضيلة فقط، و (الكذب) بأنه رذيلة. و (الإخلاص) بأنه سمو، و (الخيانة) بأنها انحطاط. ولا هو مجرد الحديث فيما بين الناس من ذلك
…
وإنما الخلق الفاضل هو انفعال النفس وتأثيرها بما ينبغي أن يفعل فيفعل، وبما لا ينبغي أن يحصل فيترك.
فالخلق بهذا المعني [هو صمام تلك الشعوب، والمعتصم الذي يعتصم به كل من أراد أن يكون مسلما] فالعقيدة بلا خلق كشجرة بلا ظل ولا ثمر.. والخلق بدون عقيدة كظل لشبح غير مستقر.
ومن هنا كانت عناية الإسلام بالخلق عناية تفوق كل عناية حتى وصلت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها من متعلقات الرسالة حيث يقول صلى الله عليه وسلم : ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) رواه الإمام مالك في الموطأ وأحمد والبيهقي. وقد كثرت توصياته بها حتى قال: ((أثقل ما يوضع في الميزان حسن الخلق)) أبو داود والترمذي وصححه. حتى وصف الخلق بأنه هو الدين، ففي الحديث:((أن رجلا جاء إليه ذات يوم، وقف أمامه صلى الله عليه وسلم فسأله: ما الدين يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم : (حسن الخلق) ثم جاءه من قبل يمينه فسأله نفس السؤال الأول، فأجاب: بأنه حسن الخلق. ثم من الشمال ومن الخلف والسؤال واحد والجواب واحد)) . رواه: محمد بن نصر المروزي.
وقيل له صلى الله عليه وسلم : إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وهي سيئة الخلق، تؤذي جيرانها بلسانها، فقال:((لا خير فيها أنها في النار)) رواه: ابن حبان والحاكم وصححه.
وقال صلى الله عليه وسلم : ((أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا)) رواه: أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم (الإحياء) .
(1) الأعراف: الآية (33)
فالأخلاق الفاضلة هي ميزة الإنسان الكامل في أمته وهي من صفات سيدنا محمد –عليه الصلاة والسلام فقد قال الله تعالى: في حسن سلوكه وسجيته: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (1) . وكان ذلك برحمة من الله ورعاية منه وحده، قال تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (2) .
فحقا كان صلى الله عليه وسلم كما وصفه الله صاحب الخلق العظيم. متخلقا بكل خلق كريم ومبتعدا عن كل وصف ذميم، فكان أمين الأمة، وأرحم الناس للناس وأنصحهم، وأفصحهم لسانا، وأقواهم بيانا، قبل النبوة وبعدها. بشهادة زوجته أم المؤمنين خديجة –رضي الله عنها حين قالت له:(كلا والله لا يخزيك الله إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتُقْرِي الضيف، وتُعين على نوائب الحق) .
ولا شك أن الأخلاق الفاضلة هي الدعامة الأولى لحفظ كيان الأمم وتقدمها في ميادين الحياة.. فهي عنصر ضروري للفرد. لصالح نفسه، وللمجتمع في جملته.. فكما يضر الفرد ويفسد أعماله أن يكون كذابا مرائيا حسودا شريرا ماكرا إلخ.. فكذلك تفسد الجماعة شيوعها في آحادها..
فالإنسان لا يحفظ إنسانيته عن الانحطاط إلا بالأخلاق الفاضلة، والأمة لا تحفظ كيانها عن التحلل والاضمحلال إلا بها.
ولهذا اتجهت عناية بعض الفلاسفة والمشرعين العاملين على إنهاض الجماعات الأوربية –في أول الأمر- إلى الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، لأنها هي الدعامة الأولى في بناء كل مجتمع سليم.. قال الفيلسوف (شاتوبريان) :(الأخلاق أساس كل مجتمع)(4) . ولكنهم ما طبقوا على ذلك بل عكسوا الأمر كله، فقتلوا كل فضيلة وأقبروها، وفسحوا كل رذيلة ونشروها، مع اعترافهم بأن الأخلاق الفاضلة فيها كمال الإنسان وسعادة المجتمع. كما أن الأخلاق السيئة فيها انهيار الإنسان وخراب الأمة. فماتت الفضيلة لدى تلك الأمم في مهدها لأنهم ما أخذوها من مصدرها الأصيل، فما عرفوها حق معرفتها. وما راعوها حق رعايتها. وما قدروها حق قدرها.. فغيروها وبدلوها كبدلهم (الإحسان) بالضريبة..
(1) القلم: الآية (4)
(2)
آل عمران: الآية (159)
(3)
التوبة: الآية (128)
(4)
انظر روح الدين الإسلامي، العفيفي الدين طبارة (ص 204)
وإن الأخلاق الفاضلة في نظر الإسلام إنما هي تفجير للطاقة في طريقها الصحيح. سواء كانت الطاقة علمية أو عقلية، أو روحية، أو نفسية، أو جسدية. فلا تعطيل لطاقة منها: فالعلم فريضة، ((طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)) البخاري وابن ماجه. والتفكير فرض {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} (1) . والصفاء الروحي فريضة، قال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (2) .والتخلق بالخلق الفطرية فريضة. قال تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (3) وتدريب الجسم فريضة مقدسة قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} (4)
والزواج أفضل من التفرغ للعبادة. ففي الحديث ((لا رهبانية في الإسلام)) . ((ومن استطاع منكم الباءة فليتزوج)) رواه الجماعة.
وإن كثير من أخلاق النفس تموت لعدم تنميتها.. فترتقي الأخلاق الفاضلة عند الإسلام، من الحنان إلى الكرم.. إلى الحلم.. إلى الرحمة.. إلى اللطف.. فهكذا كل خلق في النفس ينمي تنمية صحيحة. وإن الأمراض الخلقية النفسية –كالحسد والغل والكبر تجتث اجتثاثا عند الإسلام.
وإن الإنسان يحقق بخلقه الإسلامية حكمة وجوده، فيكون سيد الكون وعبدا لخالقه. فالأخلاق تجعل الإنسان إنسانا يؤدي كل ذي حق حقه، فيكون في وضعه السليم..
ومن أجل هذا صاغ الله تعالى جوانب الحياة الإنسانية صياغة أخلاقية. كالجانب النظري، والعقلي، والعقائدي، والعبادي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي.. فصيغ كلها بشكل متكامل ومتناسق..
فالأخلاق إذا هي الميزان الذي يوزن به صفة الإنسانية عند البشر فمن أخذ حظا وافرا منها كان الإنسان الكامل، ومن قل حظه منها كان إنسان قليل الفائدة كثير الضرر.
(1) سبأ: الآية (46)
(2)
الشمس: الآيات (9-10)
(3)
الروم: الآية (30)
(4)
الأنفال: الآية (60)
ومن لم يأخذ منها شيئا كان كالحيوان المفترس.. لأن الإنسان إذا لم يتخلق بالأخلاق الفاضلة فلابد أن يكون شريرا أو بهيميا. فإن كان يغلب عليه الجانب البهيمي فيجري وراء الشهوات والملذات.. وإن كان يغلب عليه مزاجه الجانب الشيطاني دبر المكائد وفرق بين الأحبة.. وإن كان عصبيا جعل همه العلو في الأرض والفساد. وعلى كل حال فمكانة الأخلاق الفاضلة مكانة عظيمة، حيث لا يستغني عنها من أعمال الإنسان، مهما كانت نوعيته. سواء كان عملا فرديا كالعبادات، أو جماعيا كالمعاملات.. دنيويا كان أو أخرويا.. قوليا كان أو فعليا.. فلا إيمان لمن لا خلق له، ولا دين لمن لا أمانة له.. ولا عز ولا شرف ولا كرامة ولا وجود لأمة لا خُلق لأفرادها.
قال الشاعر الحكيم:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وإن الحكم في حسنها وسيئها من الله. وتبيينها من الرسل الكرام، قال تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (1) وقال صلى الله عليه وسلم : ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) رواه الإمام مالك وأحمد والبيهقي وقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة.
وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((حسنوا أخلاقكم)) . رواه بكر بن لال في (مكارم الأخلاق) انظر الإحياء جـ3 ص48.
وقد علمنا بفعله وقوله صلى الله عليه وسلم أن كلا من الصدق والأمانة، والوفاء والإخلاص وأدب الحديث، وسلامة الصدر من الأحقاد، وقوة العزيمة، والحلم والأناة والقصد والعفة والطهارة والحياء، والعدل والسخاوة، والإخاء
…
علمنا كلها أنها حسنة وإنها من مكارم الأخلاق. فأرشدنا إلى التخلق بها.
وكذلك علمنا صلى الله عليه وسلم أن كلا من الكذب والخيانة، والخلف والنفاق والبذاءة والحقد والميوعة والإسراف والشره والفحش والخلاعة، والظلم والبخل، والبغضاء.. وغيرها من الخصال الخبيثة. علمنا كلها أنها من سيئات الأخلاق فحذرنا منها بما سنذكره في الفصل الثالث من هذا البحث –إن شاء الله-.
(1) القلم: الآية (4)
المبحث الثاني
في مقاصد الأخلاق الفاضلة
إن للأخلاق الفاضلة مقاصد هامة. منها: (حفظ اللسان، والدين، والعقل، والعرض، والمال، وأداء المسؤولية..)
1-
فلا يحفظ الإنسان نفسه ولا نفوس إخوته من الناس إلا إذا أحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، وأصلح نفسه ونفوس الآخرين ممن في كنفه من أهل وأولاد وأصحاب، ونصح قومه: لله ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، فإذا لم يحب الإنسان لمن يعيش معه ما يحب لنفسه، ولم يكره له ما يكره لنفسه، فلا تسلم نفسه من غائلة.. وإذا لم يصلح نفسه وأهله لا بد أن يصبح فريسة لكل فساد.. وإذا لم ينصح مجتمعه ولم يأخذ يد العابث فلا بد أن يهلك مع الهالكين..
2-
ولا يحفظ الإنسان دينه من الضياع إلا إذا تحلت نفسه بمحافظة أعضائه وأعصابه على أداء ما أوجبه الله عليه باستقامة وإخلاص.. وإلا إذا تخلي عن جميع المخالفات من الأذى والخلف والخيانة والكذب والزنا والفحشاء والمنكر وسوء المعاملة فليحفظ الإنسان دينه –إسلامه- وإيمانه حرم الأذى. والخيانة والزنا لقوله صلى الله عليه وسلم : ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) . متفق عليه.
ولقوله صلى الله عليه وسلم : ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) رواه: البخاري ومسلم والنسائي.
ولحفظ الدين والعقيدة أوجب الله على الإنسان العاقل محافظة أركانه العملية، بإخلاص ومراقبة.. وحرم النفاق والكفر والفسوق والعصيان.. فالإيمان لا يبقي بغير عمل متطلباته العملية من عبادات صحيحة وأعمال صالحة.. والعمل الصالح لا يستقيم بغير إخلاص واستقامة.
3-
ولا يحفظ الإنسان عقله إلا إذا احتفظ نفسه عن تعاطي الخمور والمخدرات والملاهي.. فالعلم المجرد عن العقيدة والخلق لا يقدر أن يحفظ عقول الناس كما هو الواقع اليوم. حيث تري وتسمع التقدم العلمي الهائل في ميادين الحياة ولكنك تجد العلم في جانب، والواقع في جانب آخر، فالعلم يقول: إن الخمر مضرة والواقع يقول: إنها مباحة.. والعلم يقول: إن الزنا مفسد وليس لصالح الجنس البشري
، والواقع يقول: إنه مباح.. وتري وتسمع الأكاذيب تنشر في المجلات والصحف والإذاعات بدون حساب فيساء إلى العقل في الحالتين: حين يفرض عليه أن يكتب أو يقرأ أو يسمع هذا فعليا وحين يفرض عليه أن يصدق هذا واقعيا.. فقد ظهرت نتيجة تضليل العقول وتغطية بصائرها بتراكم تلك الترهات على أفكارها قلة الذكاء، والإرهاق العصبي والعقلي، فالإحصائيات اليوم تثبت أن نسبة الذكاء في العالم قد تناقصت تناقصا هائلا، وأن الأمراض العقلية قد ارتفعت ارتفاعا مذهلا. يقول خبير أخصائي معاصر:(من الحقائق أن نصف عدد الأسرة في مستشفياتنا اليوم يشغلها أناس يثقلهم الإرهاق العصبي والعقلي) .
وقال غيره (1) : (إن شخصا من كل (22) شخصا من سكان (نيويورك) يجب إدخاله إحدى مستشفيات الأمراض العقلية بين آن وآخر) .
(1) والقائل (ديل كارتجي) انظر (الأصول الثلاثة، الفصل الثاني، ج2 ص8 لسعيد حوى.
4-
ولا يحفظ الإنسان (عرضه) وشرفه إلا إذا حفظ أعراض غيره وتدرع هو وأهله بدروع العفة والصيانة من تربية صحيحة، ورعاية، ومراقبة، ومعاشرة سليمة، وستر وإكرام
…
ففي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : ((عفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم)) .
وقال صلى الله عليه وسلم : ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن..)) رواه: البخاري ومسلم والنسائي.
ولصيانة العرض شرع الله النكاح بتراض بين الطرفين مع حسن اختيار رفيق الحياة من كليهما قبل إبرام العقد. فالمعاشرة بمعروف حين قسم الحقوق بينهما حتى تثمر المحبة والمودة والسكن بينهما..
فإن جاء خلل فيما بينهما فلا بد من التريث والتؤدة والتشاور، فإذا انفصم الحبل بينهما وخيف من أضرار تصيب العرض والشرف ففي شرعه الحكيم: الطلاق، ثم الطلاق، ثم الطلاق بإحسان.
ولصيانة العرض أوجب الله التستر والعفة والعفاف والرعاية، وحرم السفاح ومقدماته ومهيجاته فأوجب الحد والتعزير..
5-
ولا يقدر أحد أن يحفظ ثروته المالية عن الخسارة والضياع إلا إذا حفظها في حرزها عن تلاعب أيدي السفهاء، قال تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (1) . وإلا إذا أدى الحقوق التي فيها إلى أهلها من فقير وغريم، وعامل ومجاهد، وإلا إذا حفظها عن التطفيف والسرف والتبذير، والقمار، والميسر..
وقال تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (2)
وقال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} (3)
فوفاء الكيل والميزان عند التبادل واجب شرعي والتطفيف والبخس والغرر الفاحش والغصب والسرقة والتلاعب به حرام والصيانة والحفظ في الحرز من واجبات المالك؛ لأن المال شقيق الروح.
ولحفظه حرم الله السرقة والغصب.. فأوجب قطع يد السارق قال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} (4)
6-
ولا يقدر أحد أداء مسؤوليته –الخاصة والعامة، الدينية والدنيوية، الفردية والجماعية، النفسية والعقلية والمالية، الشخصية والأسرية والشعبية، في منزله وفي مكتبه، وفي الشارع والنادي
…
لا يقدر أحد من أداء تلك المسؤولية المتنوعة إلا إذا عرفها، وعرف قدرها، ومارسها بجد وإخلاص مع احترامه وتقديره ما للآخرين من حقوق.
ومن هذا تعلم: أن مقاصد الأخلاق الفاضلة مقاصد أساسية للكيان البشري وضرورياته وحاجياته، من (نفس وعقل، ودين، ومال، وعرض وشرف وكرامة في فرده، وأسرته، ومجتمعه، وأمته) .
لأن النفس البشرية لا تحيا إلا إذا كان لها: (حياة وعقل ودين ومال وشرف) : حياة تظهر وجودها وعقل تعقل به الخير والشر؛ ودين يحدد لها الأصلح والأسلم وغيره ويوضح لها الطريقين: طريق الخير وطريق الشر؛ ومال تحفظ به وجودها من غائلة الجوع والعطش، والحر والبرد، وتستعين به لبلوغ كل مقصد مطلوب، وتدافع به عنها كل ضرر.. وعرض يتشرف به ويؤهله من أن يستحق المسؤولية والخلافة ويستمد من الشعور به والاعتزاز به القوة والمنعة والشجاعة في الخوض في معترك الحياة.
لأن من لم يكن له عرض مصون وشرف يفتخر به فهو كالحيوان العجم لا يكون له حافز لحفظ شيء، فهو كالأنعام بل هو أضل سبيلا..
(1) النساء: الآية (5)
(2)
الأنعام: الآية (141)
(3)
الأنعام: الآية (152)
(4)
المائدة: الآية (38)
الفصل الثالث
في الأخلاق وأنواعها
تمهيد: في الأخلاق والنفوس البشرية وقابليتها:
إذا أردنا أن نبحث أخلاق الإنسان من حيث أنواعها وأقسامها وتأثيرها في سلوك الفرد والجماعة، ومن حيث مكانتها وغايتها.. فلا بد أن نلاحظ أولا: إلى ما أودع الله في الإنسان من غرائز وميول، وما أسنده إليه من تكاليف.. ليتبين لنا مدى أهمية الأخلاق في السلوك.
فلكل مخلوق في الأرض طابعه وعاداته، فللحيوان الأعجم عاداته وطبائعه، وللإنسان العاقل عاداته وأخلاقه.. فعادات الحيوان قليلة ومحدودة لضآلة مبلغ علمه، وقدرته وإرادته، بخلاف الإنسان، فقد أوتي من العلم والإرادة والقدرة والبيان والكمال الجسدي ما لم يؤتَ غيره، ولذا كانت دائرة عادته وأخلاقه كثيرة جدا..
وإذا لاحظنا تلك الأخلاق نجد بعضها يشترك فيه كثير من الناس، وبعضها يختص به أناس، وبعض منها قريب القبول من الناس وبعضها بعيد القبول.. وبعض منها يقبله العقل السليم والذوق المستقيم. وبعض منها يرفضه ويأباه.. وبعضها يتفق مع سنن الكون، وبعضها يختلف معه تماما.. وبعضها حسن يجتمع الناس على حسنه، وبعضها سيء يتفقون على فحشه وقبحه، وبعضها يتنازعون فيه، وبعضها ثابت، وبعضها متغير.. فبعض من الناس مفكرون وبعضهم مقلدون وبعضهم شهوانيون، وبعضهم أنانيون. إلخ..
ومنهم من عنده استعداد لنوع من السلوك، ومن عنده استعداد لنوع آخر، ومنهم من توصل بتجربته إلى نوع معين من الأخلاق.. وقد قيل: إن أهل البلاد الحارة أكثر كسلا.. وإن أهل البلاد الباردة أكثر هدوءا.. وإن أخلاق النباتيين تختلف عن أخلاق أكلة اللحوم (الإسلام لسعيد حوى ص: 97، 98) .
وهذه الأخلاق منها الحسن والسيئ والطيب والكريم والخبيث واللئيم. فالكذب خلق سيء، وكذلك الغش والخيانة.. والصدق خلق كريم، وكذلك الإخلاص والعفة..
فمن الذي يصدر الحكم على كل خلق بأنه حسن أو قبيح؛ هل يستقل العقل البشري بالحكم؟ أو التجربة الطويلة..؟ أو الله الذي هو أحكم الحاكمين..؟
لا ريب أن العقل السليم لو فكر تفكيرا سليما أنه يصل إلى أحكام صحيحة في الحكم على بعض الأخلاق.. كالتسويف بإنجاز الواجبات.. ولكن العقل والتجربة لا يصلحان للحكم على جميع الأخلاق ألبتة.. لأن أحكامها ليست أحكاما قطعية للأسباب التالية:
1-
لأن العقل البشري ليس محيطا على كل عمل ونتائجه فيصدر أحكاما على كل شيء.
2-
وأن بعض الأخلاق يصعب عليه ترجيح أحد جانبي الخير والشر في الحكم عليها.
3-
وأن نتائج التجربة قد لا تظهر إلا بعد مدة طويلة في كثير من الأخلاق.
4-
وأن شهوات الإنسان وأهواءه يؤثران على الحكم أحيانا.
5-
وأن عقول البشر تتفاوت، وتجاربهم تتغاير، فلا يتفقون على تحسين سيء أو تقبيحه.
6-
ولأن كثيرا من الأخلاق تبدو كأنها سيئة.. فما فيه مصلحة لواحد قد تكون فيه مفسدة للآخرين، وبالعكس.
ومن ثم جعل الله سبحانه أمر إصدار الحكم بتحسين الحسن وتقبيح القبيح إليه وحده، قال تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} (1) . وقال: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (2) لأن الله وحده هو الذي يحيط كل شيء علما. وهو الحكيم الخبير المنزه عن الخطأ، وهو الغني عن خلقه، وهو خالق الإنسان وفعله، فليس لغيره حق الحكم على الإنسان وأخلاقه. قال تعالى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (3) .
فالله وحده هو الذي يحكم سلوك الإنسان بأنه حسن أو قبيح، وهو الذي يزكيه كما بين في كتابه العزيز، حيث حكم خلق نبيه بالعظمة، قال تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4)، ولذا قال صلى الله عليه وسلم :((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) [الإمام مالك وأحمد والبيهقي] .
ومن التتبع في أشكال الأخلاق وآثارها المختلفة نعلم أن نقسمها قسمين:
فالأخلاق من حيث الخير والشر قسمان: فضائل ورذائل، أو محاسن ومفاسد. فالأخلاق الفاضلة هي الأصل في سلوك العاقل المتوازن النزعات والميول، المؤمن المتفكر، الواعي من أين أتي، وإلى أين ينتهي وماذا عليه من حقوق
…
وأما الرذائل: فهي حوادث تأتي من عدم التوازن، أو من عدم الإيمان، أو من عدم التفكير السليم.. والتقليد الأعمى.. أو من هواة النفس.
(1) الأنعام: الآية (57)
(2)
الأعراف: الآية (54)
(3)
الملك: الآية (14)
(4)
القلم: الآية (4)
المبحث الأول
في أهم الأخلاق الفاضلة
هناك أخلاق أساسية هي بمثابة الأصول، وأخرى تعتبر فروعا من الأصول فقد قيل:
أن أصول الأخلاق وأمهاتها أربعة: هي الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.. فمن لم يتصف بهذه الأربعة ولم يتخلق بها فهو في خسارة في كل عمل يمارسه.. قال تعالى:{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) } (1)
1-
فالإيمان: يشتمل على جوانب العقيدة من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.. إلخ فهذا الإيمان هو الحافز الأساسي لطلب كل سلاح نفسي ومالي، ولممارسة كل عمل صالح، كما هو الوازع الأساسي عن فعل كل عمل فاسد، في نفسه، أو مجتمعه في الحال. أو المآل.. فلذا قال صلى الله عليه وسلم ((لا إيمان لمن لا أمانة له)) رواه الطبري وأحمد.
2-
والعمل الصالح: يشتمل كل عمل مثمر في هذه الدنيا –كزرع المأكولات الأساسية والصناعات المفيدة –ومثمر في الدار الآخرة- كأداء الصلوات- ومثمر فيهما –كإصلاح ذات البين- مع مراعاة آداب كل. قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (2)
3-
والتواصي بالحق: يتضمن كلا من النصيحة، والأمر والنهي، والدعوة إلى كل خير، والمنع من كل شر.. فردي، وعائلي وشعبي.. دنيوي وأخروي..
4-
والتواصي بالصبر: يشمل الأمر على أداء المسؤولية الحقة وأدائها، والصبر على مشقة كل عمل صالح وعن كل ما تشتاق إليه نفسه من كل ما يعود عليها أو على المجتمع بالضرر ولو بعد حين.
وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : ((الدين النصيحة قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم..)) [رواه مسلم] .
5-
ومن الأخلاق الكريمة الرئيسية: الإخلاص في كل عمل، قولي أو فعلي، فردي أو جماعي، فهو خلق كريم وشامل، يشجع الإنسان إلى إتقان العمل. ويقيه من الرياء والسمعة.. فيعيش في هذه الدنيا حياة طيبة ومطمئنة.. قال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3)
(1) العصر: الآيات (1-3) .
(2)
فاطر: الآية (10)
(3)
النحل: الآية (97)
6-
والاستقامة بإصلاح النفس: خلق شامل في كل عمل يعمله الإنسان سواء كان العمل دنيويا أو أخرويا وصاحب هذا الخلق فائز، وآمن مطمئن في بحبوحة عيش.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1)
وقال تعالى: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} (2) . وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} (3) .
7-
والصدق: خلق كريم يدخل في كل باب من أبواب العمل، فهو الصدق في كل قول يقوله الإنسان: منشئا أو مخبرا أو ناقلا. عن نفسه، أو عن غيره
…
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (4) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (5)
8-
والأمانة: تشمل حفظ جميع الأمانات من نفس، ومال، وعرض، ودين، وشهادة حق، وقوة وعقل وعلم وعضو.. وجميع المواهب.. وهي فضيلة خلقية يستحق الإنسان بها الثواب الجزيل، قال تعالى:{الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (6) . ومن لا أمانة له لا إيمان له. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له)) ) [رواه الطبراني وأحمد] .
9-
والعفة: هي خلق كريم يشمل العفة عما في أيدي الناس مما لا حق له، وعن الزنا ومقدماته وعن القذف ودواعيه وعن الفسوق ومظانه وعن السرقة وسبلها، وهي منقبة عظيمة تدعو وتؤهل صاحبها للرفعة والسؤدد، والطمأنينة النفسية ويستحق المجتمع الذي سادت في أفراده الأمن والاحترام والشرف والمحافظة والرعاية كما تنعدم فيه –أو تقل- الجرائم والمشاكل الجنسية والعائلية.
قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ} (7) . وقال في الحديث: ((عفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم)) .
(1) الاحقاف: الآية (13)
(2)
الجن: الآية (16)
(3)
الأعلى: الآية (14)
(4)
التوبة: الآية (119)
(5)
الأحزاب: الآية (70-71)
(6)
الأنعام: الآية (82)
(7)
النور: الآية (33)
10-
ومنها: الوفاء وهو خلق رفيع يشمل وفاء العهود والعقود، كما يشمل مراعاة الحقوق، وإعطاء كل ذي حق حقه.. بين الأفراد، والأسر، والأمة وبين العمال وأرباب العمل، وبين الموظفين وأصحاب الوظائف..
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) وقال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (2) . وقال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} (3) .
11-
ومنها الإحسان: فهو الإحسان في العمل –إتقانه- والإنفاق بالمال في المحتاجين وفي المشاريع الخيرية.. وهو باب واسع وعريق في خلق المسلم. وقد ذكر في القرآن كثيرا.. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (4) . وقال: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} (5) .
قال تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (6) . وقال: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (7) .
12-
ومنها: التعاون: وهو يشتمل على التعاون بأداء الأعمال الواجبة والخيرية والتعاون بسد المشاكل وإزالتها وجلب المصالح.. قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (8) .
13-
ومنها: النصيحة: فالنصيحة هي خلق كريم ورفيع. وفي الحديث الشريف: ((الدين النصيحة قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) . [رواة مسلم] .
14-
ومنها: الجد وهو ضد الهزل، واللهو واللعب وضد الكسل والتكاسل.. وهو الحافز الثاني بعد الإيمان لعمل كل ما يصلح ودفع كل ما يضر.. وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم :((اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)) [رواه الحاكم والبيهقي] .
وفي حديث آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بادروا بالأعمال سبعا. هل تنتظرون إلا فقرا منسيا أو غني مطغيا، أو مرضا مفسدا أو هرما مفندا، أو موتا مجهزا أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)) . [رواه الترمذي وابن حبان] .
(1) المائدة: الآية (1)
(2)
(البقرة: الآية (40)
(3)
النحل: الآية (91)
(4)
(النحل: الآية (90)
(5)
الإسراء: الآية (7)
(6)
القصص: الآية (77)
(7)
(لقمان: الآية (22)
(8)
(المائدة: الآية (2)
15-
ومنها البر وهو خلق شامل يشمل الإيمان بجميع أركانه، والأعمال الصالحة من صلاة وزكاة وصدقة وصلة، ووفاء عهد وصبر ومجاهدة، وصدق. وكل خلق كريم. قال تعالى:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (1) .
وفي الحديث: ((البر حسن الخلق)) [رواه مسلم والترمذي] .
16-
ومنها العدل وهو خلق عميم فليس مقصورا بالحكم بين المتخاصمين في المحاكم كما هو المتبادر، بل هو أعم من هذا فيدخل فيه العدل بين الأولاد والأخوة، وبين الزوجات والخدم وبين أرباب العمل والعمال وبين القريب والبعيد، وبين الغني والفقير.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (2) وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : ((اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم..)) [رواه أصحاب السنن وأحمد وابن حبان] .
17-
ومنها الأمن والسلامة منه. فالسلامة خلق أصيل فمنه اسم الإسلام
…
وفي الحديث: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هاجر ما نهى الله عنه)) . [متفق عليه] . وزاد الترمذي: ((والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم)) . وزاد البيهقي: ((والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله)) .
18-
ومنها: الحياء – وهو من صميم ديننا الإسلامي ففي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أن لكل خلقا وخلق الإسلام الحياء)) [رواه الإمام مالك في الموطأ وابن ماجه في سننه] .
والحياء والإيمان قرينان لا ينفك أحدهما عن الآخر. ففي الحديث. ((الحياء والإيمان قرناء جميعا. فإذا رفع أحدهما رفع الآخر)) [رواه الحاكم] وما ذلك إلا أنه شعبة من الإيمان كما في الحديث الذي رواه البخاري ((والحياء شعبة من الإيمان)) . وفي الحديث الآخر: ((الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة والبذاء من الجفاء والجفاء في النار)) [رواه أحمد] وهو لا يأتي إلا بخير. كما رواه البخاري ومسلم. فهو خلق ضروري لحفظ إيمان المرء ومروءته..
(1) البقرة: الآية (177)
(2)
النساء: الآية (58)
المبحث الثاني
في أهم الأخلاق الفاسدة الأساسية
أن من أهم مفاسد الأخلاق الفتاكة المنتشرة في المجتمعات الإسلامية المعاصرة ما يلي:
1-
النفاق: هو ضد الإخلاص. وهو فعل قلبي يفسد جميع الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، لأن صاحب النفاق شخص انطفأ نور قلبه. فلا يري في الأخلاق الفاضلة فضلا ولا في الأعمال الصالحة صلاحا. فالمنافق هو شخص يظهر خلاف ما يبطنه، وهو فاشل في كل عمل، وهو فاسد النية ومفسد.. وفاقد الإيمان وعديم الثقة.
يظهر نفاقه في قوله وفعله، في حديثه ووعده ومخاصمته.. ففي الحديث الصحيح ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر)) متفق عليه.
فالنفاق إيمانه وعمله، فلا بركة في عمله في هذه الدنيا والدار الآخرة.
وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر)) . متفق عليه.
فالمنافق إنسان غير موثوق به عند غيره، وغير واثق بنفسه ولا بعمله، لأنه مذبذب بين أهل الحق وبين أهل الباطل، فهو دائما في خيانة وخديعة، وقوله كذب وافتراء ومخاصمته فجور وثرثرة، وهو مخلف الوعد، وغادر للمعاهدة، فلذا استحق أشد الوعيد من الله. قال تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} . (2) وإن هذا الخلق الفاسد خلق قديم فتاك اليم، فليحذر المسلمون من التخلق به. قال تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . (3)
(1) النساء: الآية (142-143)
(2)
النساء: الآية (145-146)
(3)
النور: الآية (63)
2-
ومنها الكذب: فالكذب مفسدة خلقية خطيرة انتشرت في مجتمعنا الحاضر في جميع طبقاته في كافة الميادين. فانعدمت الثقة بين المتعاملين إلا ما قل وندر، فالكذب ضد الصدق.. وصاحب الكذب شخص ساقط في نظر الشريعة القيمة ومجرم يستحق التأنيب والتأديب. لأنه مسيء لنفسه ولدينه ولمجتمعه فالكذب يأتي من عدم العقيدة الراسخة ومن عدم الإيمان بعلام الغيوب وبالحساب والجزاء. ومن عدم الضمير الحي الذي يقدر نتائج الأقوال والأفعال في المحال والمآل. ومن عدم الاحترام لنفسه وأهله ومجتمعه والشريعة، والقانون والأخلاق كلية والكذب مفسدة أخلاقية تفسد في وقت قصير ما لا تفسده الأمراض الخطيرة في النفوس..
وفي الحديث ((المتبايعان إذا صدقا ونصحا بورك لها في بيعهما وإذا كتما وكذب نزعت بركة بيعهما)) . متفق عليه.
ولا يكون المؤمن كذابا، ففي الحديث:((يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب)) رواه الإمام أحمد. وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: ((أيكون المؤمن جبانا قال: نعم. قيل أيكون المؤمن بخيلا؟ قال: نعم. قيل: أيكون المؤمن كذابا؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا.)) رواه الإمام.
فالكذب والإيمان لا يجتمعان في شخص لأن الكذب يهدي إلى الفجور والشقاق وعدم الإيمان.. كما في الحديث الصحيح.
فلابد للمؤمن أن يتقي عن الكذب حتى إذا مزح..
3-
منها الخيانة: وهي مفسدة خلقية خبيثة، تفسد الأمانة بين المتآمنين.. وهي تشمل كل فعل يخالف ما تعاهد الإنسان مع غيره، أو أخذ ما ائتمن عليه من مال أو منفعة أو عرض، أو تضييع شيء من ذلك، فهي مفسدة قديمة..
وقد فشت هذه المفسدة في مجتمعنا الحاضر، في كل درب من دروب الحياة بين رب البيت وأسرته، والراعي ورعيته، إلا النزر القليل فأفسدت كل شيء، وكل أمانة وكل علاقة، وكل سلوك وكل خلق.
وهي من علامات النفاق كما سبق.. وهي كثيرا ما تأتي من عدم الإيمان بالله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ومن عدم الإيمان بالملائكة الكرام الكاتبين الشهود الذين يعلمون كل ما يفعله الإنسان أو يقوله. ومن عدم الإيمان بالكتاب وما تضمنه من وعد ووعيد لكل إنسان على فعله وقوله. ومن عدم الضمير الحي الذي يقدر نتائج الأعمال.. ومن عدم احترام نفسه ونفس من يخونه هو من فرد ومجتمع.
ومن عدم التقدير والمقارنة بين ما يستفيد من خيانته من متعة قليلة وبين ما ينتج منها من عار وعقاب أليم.. وفي الحديث عن أنس ابن مالك وعبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تقبلوا إلى بست أتقبل لكم بالجنة، قالوا: وما هن قال: إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا وعد لا يخلف، وإذا ائتمن فلا يخن، وغضوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم وكفوا أيديكم)) . [رواه الحاكم بإسناد صحيح وبإسناد أخر فيه مقال]
قال تعالى ناهيا عن الخيانة وعاقبتها الوخيمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) وفي الحديث المرفوع الذي رواه عنه صلى الله عليه وسلم كل من أبي أمامة وسعد ابن أبي وقاص، وابن عمر رضي الله عنه أنه قال:((كل خصلة يطبع أو ينطوي عليها المسلم إلا الخيانة والكذب)) . رواه ابن أبي شيبة في مصنفه. وابن عدي في كامله. والدارقطني في العلل كما في (الأحياء3/132)
4-
ومنها النميمة: وهي ضد النصيحة والصلح والإصلاح وهي نقل كلام بعض لبعض على سبيل الإفساد. أو خلق معايب لبعض ونقلها إلى بعض أخر فهي مفسدة سلوكية خطيرة تفسد المحبة والمودة بين الناس، وتقطع العلاقات وتغري بالعداوة والبغضاء. ونقصد منها ما يشمل كل من النميمة والغيبة والبهتان والافتراء بجميع أنواعها وهي مفسدة خلقية خبيثة وقديمة.
وقد فشت هذه الظاهرة بصورة مذهلة في مجتمعات عصرنا بصفة عامة، وفي مجتمعنا الإسلامي بصفة خاصة حتى عمت وطمت. فأفسدت جميع العلاقات التي بين المرء وزوجة والوالد وولده، والإخوة والأخوات وبين العامل وأرباب العمل.. وبين الحاكم والمحكوم والدولة والدولة.. والشعب والشعب الآخر، والأبيض والأسود..
والنميمة قد تأتي من حقد دفين وحسد كمين في نفسية النمام سواء كان ذلك الحقد كان نتيجة ذنب سابق أم لا. وقد تأتي من توقع غرض ما من عمله هذا وقد تأتي من إغراء طرف أخر.. وقد تأتي من جهل ولآمة أو عصبية أو أنانية.
عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا: بلي. قال: المشاؤون بالنميمة المفسدون بين الأحبة الباغون للبراء العيب)) . رواه الإمام أحمد وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أن من شرار الناس من اتقاه الناس لشره)) . متفق عليه.
(1) الأنفال: الآية (27)
وفي حديث حذيفة رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم : ((لا يدخل الجنة نمام)) متفق عليه.
5-
ومنها: اتباع هوى النفس وشهواتها والجري وراء ملذاتها.
أن اتباع هوى النفس مفسدة خطيرة قد عمت وطمت، فأثرت في سلوك الأفراد.. والانقياد لهوى النفس يأتي من قبل الرغبات والشهوات فيؤثر السلوك والتفكير في شؤون الحياة. فيختار تابع الهوى المصلحة الخاصة الموهومة بتزيين من نفسه.. فيضر غيره بتشبيع رغباته وشهواته أن لم يضر نفسه في عاقبة أمره، فالهوى مفسده للنظام الطبيعي في حياة الإنسان. والانقياد للهوى مفسدة خطيرة لحياة الإنسان وعقله.. لأن الإنسان يعيش في حياته وسط تيارات شتى من النزاعات والشهوات التي تأتي من قبل نفسه.. وكثيرا ما يختار لنفسه ما يظن أن المصلحة فيه لها خاصة. ولو كان فيه ضرر بالغ لغيره أو لنفسه في عاقبة الأمر، فلا يهمه أن تكون أعماله سيئة ما دامت تشبع رغباته وأهواءه.
أن من أهم أهداف الإسلام مواجهة تلك الرغبات والأهواء، والحيلولة بينه وبين الانقياد لها، حفظا لتوازن الميول، وتحقيقا لإبقاء الحق في كفته. قال تعالى:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} (1) .
فالهوى يشوش نظام ميول الإنسان المرتب المتناسق المتوازي فيختل التوازن واتباع الهوى يصرف الإنسان عن حقائق هذه الحياة وما خلق له إلى الأوهام التي تسد سبيل الحق. مثل أوهام الجنس والأنانية وحب التملك، والشره واللهو فلا يستجيب الحق فيهتدي به، بل يتمادى في ضلاله وطغيانه قال الله تعالى:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (2) .
وإن من أهم أسباب اتباع الهوى في هذه الحياة: ضعف أصيل في النفس. ونقص كبير في العقل المعرفة.
وكثرة المثيرات الجنسية والملاهي المعمية وحب المادة المطغية.. والتقليد الأعمى.
فالهوى يملك على العقل فيمنعه من الإدراك والتذكر والتفكر.. وتحوم نفسه حول نقطة واحدة.. فمنظر الهوى مخالف عن منطق العقل السليم فيضل الإنسان بغير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير.. قال تعالى:{وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} . (3) وقال: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} . (4) .
(1) المؤمنون: الآية (71)
(2)
القصص: الآية (50)
(3)
الأنعام: الآية (119)
(4)
الروم: الآية (29)
(5)
القصص: الآية (50)
وإن أكثر أسباب اتباع الهوى في هذه الحياة –قديما وحديثا- هو ضعف في النفوس، ونقص في المعرفة.. وإغراء من المترفين.
ولذا ترى الهوى قد ملك عقل الإنسان –لاسيما عقل إنسان هذا العصر - فلا يدرك ولا يتذكر ولا يفكر.. بل تحوم نفسه حول نقطة واحدة. فمنطق الهوى مخالف عن منطق العقل.. فالهوى يضل الإنسان بغير علم كما هو دأب أكثر الناس في كل وقت –إلا ما شاء الله- قال الله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أن رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} . (1)
وقال تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} . (2) .
وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} . (3)
ومنها: السفور والجري وراء المادة تحت متطلبات الغرائز الجنسية، والأنانية، وحب التملك بغير تحديد.. والسفور هو الخروج عن الحشمة والحياء وهو التملص عن مراعاة المسؤولية عن السلوك، وهو عدو أو ضد للعفة والصيانة والشرف والمروءة..وفي هذا السلوك مفسدة عظيمة لا حد لها. لأنها تجرد الإنسان عن الأخلاق الفاضلة سواء كانت إنسانية محضة أو إسلامية.. وقد فشت تلك الظاهرة في عالمنا الإسلامي.
وهي ظاهرة خبيثة وقديمة قد استأصلها الإسلام بتوجيهاته وتحذيراته وحدوده وتعزيراته في أول عهده، فكان من سولت نفسه أن يفعل نوعا ما من السفور، كان شخصا لا قيمة له في مجتمعه، فكان يلقي من الحد أو التعزير أو الغرامة ما يزجره.
روي أن الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يخشى من فتنة التبرج إذ كان يتعسس ذات ليلة فسمع امرأة تقول: هل من سبيل إلى خمر فأشربها أم من سبيل إلى نصر بن حجاج. فقال: أما في عهد عمر فلا. واستدعي نصرا في الصباح فإذا هو من أجمل الناس وجها، فأمر بحلق شعره، ثم نفاه إلى بادية الشام. (انظر: فقه السنة) .
وروي عنه رضي الله عنه أنه رأي رجلا يمشي خيلاء فضربه، ثم رآه وهو مازال كما كان فضربه ثم رآه كذلك فضربه، فتاب الرجل عن سلوكه وشكر الخليفة.
فلكي يكون الإنسان كاملا متوازن الميول مستقيم الحال طاهر النفس، فليتخلق بالخلق الفاضل التي سبقت الإشارة إليه.. وليتنزه عن الرذائل كلها..
(1) الأنعام: الآية (119)
(2)
الروم: الآية (29)
(3)
لقمان: الآية (6)
الخلاصة
في الإنسان الكامل الموازن المستقيم
أن الإنسان الكامل هو الذي له إيمان صادق كامل راسخ لا يزعزعه شيء، بل يدعو صاحبه إلى كل عمل صالح مثمر لنفسه ومجتمعه، وينفره عن ممارسة كل عمل باطل. ويدعوه إلى الحق. ومحبته والدفاع عنه، وصيانته.
هذا الإنسان المتصف بهذا الإيمان الصادق الكامل الراسخ.. لابد أن ينسجم معه فيعمل الصالحات دائما –قدر الاستطاعة- من كل ما افترضه الله الذي آمن به، وبكتابه، ورسله وملائكته ووعده ووعيده –عليه من العبادات والمعاملات الفردية والأسرية والجماعية، ويحرص على محافظتها ونشرها بين إخوته. ويدعو أهله ومجتمعه بقوله وفعله بحكمة مذكرا لهم ما في هذا العمل الصالح والإيمان الحق من فوائد فردية وجماعية. دنيوية وأخروية ويوصي نفسه وغيره محافظة هذا الحق ومداومته وإروائه ونشره، مشيرا له إلى ما يحيط به من عراقيل وعوائق نفسية وشيطانية وإنسية وجنية.. فيأمر بالصبر على ما في أداء ذلك الحق من مشقة نفسية وبدنية ومالية، كما يأمره بالصبر عن اللذات القليلة وشهوات النفس الأمارة بالسوء متذكرا فيما وعده الله لمن آمن بالحق وعمل به. وصبر عليه من ثواب عاجل وآجل.
هذا الإنسان المؤمن الصالح المحق الصابر الآمر الناهي هو الذي يعمل ذلك كله. بإخلاص قلبي، بلا رياء ونفاق. وبلا منفعة من غير ما ينتجه له عمله.
وهو الذي يستقيم على هذا الطريق دائما ليلا ونهارا في السراء والضراء. والشدة والرخاء، دون اعوجاج ولا ميل ولا ملل..
وهو يصدق في أقواله وأفعاله خبره وإنشائه فيطابق لسانه على الحق وفعله على قوله، فلا يخلطه بكذب ولا افتراء أو بهتان.
وهو الأمين الذي يأمن الناس بوائقه، ويأمنون من لسانه ويده، فلا يخون أحدا في ماله أو عرضه، بل يأتمنونه على ودائعهم وأماناتهم وعهودهم وعقودهم فيؤديها لهم في أوقاتها كاملة غير ناقصة، وفي مكانها المحدد.
وهو العفيف الذي يعف عن أعراض الناس، يعف عن الزنا ومقدماته، ويعف عما في أيدي الناس، يعف عن السرقة والغصب ومقدمات كل منهما. ويعف عن النفس البريئة، فيعف عن قتل الأنفس ومسبباته من سب وقذف وبغي وقطع طريق.. كما يعف عن تعاطي كل مخدر مفتر ومسكر، ومن كل ما يغير عقله أو صحته الروحية أو الجسدية.
وهو الوفي الذي يوفي كل ذي عهد عهده، وكل ذي عقد عقده، فيكمل الكيل إذا كال لأحد، ويتم الوزن إذا وزن له، فلا بخس لديه ولا غش..
وهو المحسن الذي يحسن العمل الذي يعمله، فيتقنه، ويحسن لأهله وإخوته، وأمته، فينفق ماله على المنكوبين والمحتاجين ويبذله في المشاريع الخيرية ويساعد أهل الخير بما لديه من علم ومال.. فلا يسيء معاملة أحد من مجتمعه.
وهو مع ذلك صاحب تعاون وتجاوب في الأعمال الخيرية، فهو رجل اجتماعي فيتعاون مع المتعاونين في المشاريع الخيرية ذات النفع الجماعي، مثل بناء المدارس والمساجد والملاجئ والمستشفيات فلا يتخاذل وليس بخائن ولا متكبر ولا أناني.. وهو البر الرحيم، يطيع والديه في غير المعاصي ويحترمهما ويدعو لهما، يوقر الكبير من قومه ويرحم الصغير.
وهو الأخ الكريم العدل الرؤوف، يعدل بين المتخاصمين أن أصبح حاكما، وبين أفراد الرعية أن كان راعيا، فلا ينجذب مع القرابة أن كان مستشهدا في قضية بين قرابته وبعدائه. ولا يميل إلى الغني لغناه.. بل دائما قوله الحق وحكمه الفصل، لا يأتي من طرفه ظلم ولا جور، وهو اليقظ، المجد، المجاهد، الذي تراه دائما في يقظة وجد واجتهاد قد قسم أعماله ونظمها في الأوقات، تراه مرة في عبادة ربه المحضة، ومرة في عمل وظيفته، ومرة في أعمال تنفع مجتمعه، وطورا تراه بين أولاده وأزواجه يدربهم للأعمال الجدية.
ولا تراه أبدا في خوض، ولا في مجون، ولا في تيه ولهو، ولا في قمار وميسر، ولا تراه أبدا يستمع إلى أغاني الغانيات وأناشيد المطربين العازفين، ولا تراه أبدا وهو يلهو ويشاهد رقصات الراقصات والأفلام الخليعة والمجلات الخرافية والمسرحيات الماجنة.
وربما تراه بقلة وهو يتجول مع أهله وأولاده في الحدائق لمشاهدة الطبيعة. أو تراه في سواحل البحار، يعلمهم السباحة وطبائع البحار، أو على قمم الجبال، ليطلعهم على طبائع هذا الكون.
وربما تراه طورا –في هذا العصر - وقد جلس مع أولاده أمام شاشة يرى ما عليها كأن جيشا مسلما يقاتل الأعداء ويدافع عن الإسلام والمسلمين والوطن ببسالة فيحببهم إليه. ولا تراه في هزل ولعب –إلا إذا كان طفلا- ولا في تكاسل وأسباب الغفلة وكيف تراه في ذلك اللهو واللعب.. إلا في حالة نسيان.. فيتوب منها ويستغفر فليس لذلك المؤمن وقت فاضل يقضيه في الملاهي..
فالمؤمن الكامل هو الذي يحفظ نفسه دائما عن الضلالة وهواها، ويحفظ دينه الحق عن أن يشوبه ضلال ويحفظ عرضه عن أن يمسه دنس أدنى مساس، فلا يسمح لأهله وأولاده ما يؤديهم إلى الانحراف أو التميع والانحلال ويحفظ عقله وماله عن كل ما يفسدهما في الحال والمآل.
وهو السخي الذي يبذل المال ويعطي، بلا تبذير ولا إسراف. في الطرق الخيرية والمباحة. فلا تراه يبخل بماله. كما لا تراه وهو يرابي به. وكما لا تراه مترفا مترفها.
فإذا: شخصية المسلم المؤمن المتصف بما سبق شخصية متميزة. متميزة في عقيدتها فلا تستقي هذه الشخصية المسلمة الصادقة عقيدتها من غير عقيدة الإسلام. ولا تأخذ مبادئها من غير مبادئ الإيمان. لأنها شخصية قد آمنت بقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} . (1) .
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . (2) .
وتأثرت بمثل قوله صلى الله عليه وسلم حينما أتاه عمر رضي الله عنه بكتاب من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه. فغضب ((أتتهوكون –أي أتشككون ملتكم- فيها يا بن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لو أن موسي كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني)) رواه الإمام أحمد.وبمثل قوله صلى الله عليه وسلم حينما جاءه أناس من المسلمين بكتف كتبوا فيها ما سمعوا من اليهود: ((كفي بقوم حماقة أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم)) أبو داود. فنزلت الآية: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . (3) .
(1) آل عمران: الآية (19)
(2)
آل عمران: الآية (85)
(3)
العنكبوت: الآية (51)
وهي –أيضا- شخصية متميزة في عبادتها في صلاتها وصيامها، وحجها وذبحها..
قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} . (1)
وقال صلى الله عليه وسلم : ((صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا فيه اليهود وصوموا يوما قبله أو يوما بعده)) . رواه أحمد.
وهي –أيضا- متميزة في أخلاقها، في حرصها على التكوين والتربية، على الصدق والأمانة على التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، لغيرها قدوة صالحة. تتحلي بالفضائل التي تدعوا إليها أولا، لأنها تستقذر العتاب والوعيد الذي في مثل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} . (2) ومثل قوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} . (3) . واستنارت بموقف الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه من التخلق والتطبيق بكل ما يقول. فقد روي أنه كان يجمع أهل بيته ليقول لهم: (إني سأدعو الناس إلى كذا وكذا، وأنهاهم عن كذا وكذا، وإني أقسم بالله العظيم لا أجد واحدا منكم أنه فعل ما نهيت الناس عنه، أو ترك ما أمرت الناس به إلا نكلت به نكالا شديدا..) ثم كان رضي الله عنه يخرج ويدعو الناس إلى الخير، فلم يتأخر أحد عن السمع والطاعة لإعطائهم القدوة بفعله قبل إعطائهم إياها بقوله..
(1) البقرة: الآية (144)
(2)
الصف: الآية (2-3)
(3)
البقرة: الآية (44)
تنبيه
اعلم يا أخي القارئ أن ما سبق لنا في هذا البحث من عرض حول مفاهيم الأخلاق، ومنشئها ومصدرها وقيمها وأنواعها.. إلخ إنما كان قصدنا منه الإشادة بمكانة الأخلاق الفاضلة في سلوك الإنسان والتنبيه والتذكير إلى شمولها بجميع شعب الإسلام.
وإن الأخلاق الفاسدة التي ذكرناها في الفصل الثالث منه من (نفاق وكذب وخيانة ونميمة) وغيرها.. إنما عرضتها عرضا سريعا بغير إشارة إلى كيفية لمعالجتها مع كونها من أخبث المفاسد الخلقية الأساسية في المجتمع المعاصر. وذلك للأسباب الآتية:
أنها مفاسد قديمة، ومنشؤها من النفس الخبيثة وقد حذرنا الله تعالى من مغبتها في كتابه الكريم مرارا، كما وضحها لنا الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الشريفة فليس في قبحها وحرمتها غموض ولا شائبة.
وأن حرمتها والتحذير منها لما اتفق عليه جميع عقلاء الناس قديما وحديثا، فليس لها مشجع.
وإنها ليست مقصودة في موضوع البحث المطلوب دراسته المقدم من شعبة التخطيط –حسب نظريتي-.
وإنما ذكرتها في هذا البحث كتوطئة لما بعدها من المفاسد الخلقية الآتية التي انتشرت في مجتمعنا الحاضر بصفة ذريعة، والتي اختلق لها معاذير ومبررات ومشجعات.
وهي: الملاهي المحرمة من أغان ماجنة ومسكرات وما صاحبهما من مثيرات الغريزة الجنسية: من تبرج جاهلي واختلاط بين الجنسين وإلى آخر ما سيأتي –إن شاء الله-.
الفصل الرابع
الملاهي المحرمة
المبحث الأول
الأغاني والمعازف وأحكامها في الإسلام
أن من أهم الأسباب التي أفسدت الأخلاق وأتت بالانحراف والانحلال والميوعة لكثير من أبنائنا وبناتنا ورجالنا ونسائنا في هذا العصر كثرة الملاهي المحرمة شرعا. كما سنبين فيما بعد إن شاء الله.
وإن من أهم تلك الملاهي المشؤومة هذه الأغاني المائعة الماجنة مع ما يصاحبها من المعازف والموسيقي المطربة. التي تبثها الإذاعات والتلفزة المحلية والمستوردة بأساليب مختلفة منفردة، أو ضمن مسرحيات وقصص غرامية، وأفلام خليعة.. وقد اكتظت بتلك الظاهرة السيئة جميع الأندية ودور السينما في جميع أقطار عالمنا الإسلامي –إلا ما قل وندر- حتى دخلت تلك المفسدة الخطيرة الفنادق السياحية وكثيرا من البيوت العائلية المتحضرة عن طريق الفيديو.
وقد تسبب عن هذه الظاهرة الخبيثة انهيار خلقي رهيب، بسرعة مذهلة في جميع طبقات الأمة لا سيما الشباب والمراهقين الذين لم يتربوا تربية إيمانية صحيحة وخلقية صالحة فأفسدت عفتهم فلا ترى شابا عفيفا غيورا يصون شرفه وعرضه عن الضياع إلا من عصمه الله ولا شابة تحفظ شرفها وعفتها من أماكن الريبة إلا من عصمها الله. ولا ترى أكثر الآباء والأمهات في كثير من مجتمعاتنا إلا وقد أهمل تربية أولاده. في تلك الناحية، فماتت غيرته نحو صبيانه وعرضه شيئا فشيئا. بل أصبح كثير من شبابنا مضحكين وممثلين ومغنيين ومطربين وهكذا يظهرون في كل مكان في مشيتهم ولبستهم.. حتى ضاعت اللياقة والاتزان والتعقل والتمييز بين الحق والباطل. وبين الحسن وبين القبيح، وبين المفيد وغير المفيد فأصبحوا إمعة مع أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك ((لا يكن أحدكم إمعة
…
)) كما سيأتي..
كم ترى منهم من لم يحفظ القرآن الكريم غير فاتحة الكتاب وقد حفظ عشرات من الأغاني الخمرية. وكم تلاقي من امتلأت خزانته من عجلات الأغاني المائعة والألحان المطربة وليس لديه كتاب واحد من الكتب الإسلامية الصحيحة أو العلمية النافعة؟
وكم تشاهد من لم يتعرف اسم راو من رواة الحديث المشهورين مع أنه يذكر لك عشرات من المغنين والمطربين عن ظهر قلب.؟
وقد أفسدت تلك الأغاني: العقل، والدين، والشرف، والمال، والأمل، ، بعدما أماتت الأخلاق الفاضلة وأقبرتها فأصبح الإنسان الذي اعتاد بممارسة تلك الأغاني الماجنة، والقصص الخرافية الجنسية، والأفلام الفاجرة باستماعها ومشاهدتها، أصبح إنسانا فاقد العقل والوازع الديني والخلقي.
هذا هو الواقع المرير، وهو الوضع الذي نحاول تغييره بأسلوب حكيم غير مثير، فلا بد لنا من عرض هذا الموضوع، بشيء من التفصيل مع شيء من أدلة تحريمية من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين والأئمة والفقهاء المعتبرين في هذا الميدان فنقول: تعريف الغناء: -الغناء بالمد- هو رفع الصوت مطلقا. قال ابن الأثير في (نهاية الأرب: 3/390) . وابن منظور في (اللسان) . وقيل: أنه يطلق على الترنم وعلى الحداء وعلى الإنشاد ويطلق على (التمطيط والتلحين بالأشعار على النغمات الموسيقية. وإذا أفرد –عن الإضافة- فالمراد به هذا الأخير) وفاعله يسمى مغنيا، لأنه يحرك به الساكن ويبعث به الكامن، ويعرض بالفواحش) . انظر:(الفتح جـ2 ص: 442 وجـ: 3 ص: 393) .
ومنشؤه كان من دولة الفرس قبل الإسلام فكانت الملوك تحصر لسماعه ومشاهدته ثم انتقل إلى العرب عن طريق اختلاطهم بالعجم عند الفتح الإسلامي في العصر الأموي فالعباسي، واقترنت معه آلات الطرب (المزامير، والطنابير، والعيدان....) ثم انتقل هذا النوع من الغناء إلى (الأندلس) في أوائل العهد العباسي، وقد انخرط وانحرف فيه بعض من الخلفاء العباسيين. كـ (الرشيد.. والواثق بالله، والمنتصر،
…
) .
كما قاله كل من ابن الأثير في (النهاية) والأصفهاني في (الأغاني) . وابن خلدون في (المقدمة) .
وقد افتتن به بعض فقهاء ذلك العصر. (كإبراهيم بن سعد الزهري) و (عبيد الله العنبري) وبعدهما (محمد بن حزم الظاهري) . انظر: ما رواه الخطيب في (تاريخ بغداد: 6 /83) و (التقريب 1 /35 وذم الملاهي.) .
وقد امتد الغناء وازداد عشاقه حتى وصل في عصرنا هذا الغاية القصوى، فغمر الأندية والمحافل. وأصبح الشغل الشاغل عند كثير من الناس بصفة لا مثيل لها، كما سبقت الإشارة إليه.
موقف الإسلام منه بصفة عامة أن الغناء انفعال يشترك فيه جميع الأمم. فكل أمة لها غناء لأنه من خصائص البشر، فلكل حاسة من حواسه مستلذ. فالعين تستلذ المناظر الجميلة، والأذن تستلذ الأصوات العذبة.. انظر: مقدمة كتاب السماع لأبي الوفاء المراغي (ص12) .
لذا يري الإسلام أن الصوت الطيب من حيث هو طيب لا حرمة فيه، بل هو حلال فليست حرمة الأصوات الطيبة لكونها طيبة أو لكونها موزونة، وإنما حرمتها لأسباب أخرى. أهمها ثلاثة كما نقله الأستاذ (أحمد مصطفى) في (مفتاح السعادة: 3/385) .
وهي:
1-
أن الأغاني من شعار أهل الفسق وعادتهم فيمتنع التشبه بهم، (الإحياء: 2/269 ومفتاح السعادة 3/385) .
2-
وإنها تذكر مجالس الفجور، فتدعو إليه وكل ما يدعو إلى الفجور فهو حرام. (ذم الملاهي 83) .
3-
وإنها تطرب الإنسان فتخرجه من حد الاعتدال والاتزان. انظر إغاثة اللهفان ص (267) .
فكان تحريم الغناء من قبيل تحريم الجار إلى الحرام. كتحريم الخلوة مع الأجنبية لكونها مقدمة إلى الزنا. وكتحريم النظر إلى الفخذ لأن التساهل فيه يؤدي النظر إلى السوأتين فلهذه العلل وغيرها حرمت الأصوات المطربة بالأوتار والمزامير والموسيقي.
وخلاصة القول فيه أن: الغناء المعروف –قديما وحديثا- ينقسم من حيث الحل والتحريم إلى قسمين:
قسم لا خلاف في جوازه بين أهل العلم، ومن هذا القسم الأغاني المعروفة في صدر الإسلام بالأشعار الحماسية وما شاكلها في كل زمان من الأشعار المشجعة في الجهاد والبناء والعمل، إذا سلمت من كل فحش وفسق وفجور، ومن هذا القسم أيضا ما يقال في مناسبة العيد والعرس، وقدوم الغائب.. إذا خلا –أيضا- من الفحش والفجور.. وعلى هذا القسم يحمل كل ما ورد من الأحاديث والآثار التي وردت في إباحته، سواء كان مع الدف أو بغيره.
وقسم منه اتفق الجمهور على تحريمه وهو (الغناء المعروف بالتلحين والتمطيط والترنم على النغمات الموسيقية) . فقد اتفقوا على تحريم هذا النوع من الغناء لأمور عديدة. منها: اقترانه بالمعازف والمزامير الشيطانية، التي وردت الأدلة الصحيحة على تحريمها. كما سيأتي.
ومنها: ورود الأحاديث في ذم الغناء المعروف بهذه الصفة، وما نلمسه من بعض الآيات القرآنية. وما يؤيد ذلك من الآثار الثابتة عن الصحابة والتابعين كما سيأتي.
وخالف الجمهور في حكم هذا النوع ابن حزم الظاهري ومن تبعه على شذوذه.
فذهبوا إلى إباحة الأغاني وآلات الطرب.
فلننظر إلى ما استدل به الجمهور على قولهم من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين، وإلى ما تشبث به ابن حزم لتأييد ما قاله.
المبحث الثاني
أدلة تحريم الأغاني والمعازف
لقد استدل الجمهور على تحريم الغناء المذكور بكل من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين:
فمن الكتاب:
1-
استدلوا من الكتاب قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (1) وقالوا: إن أصح ما فسرت به الصحابة (لهو الحديث) هو (الغناء) فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه: أنه قال: هو (الغناء وأشباهه) . كما رواه البخاري في الأدب المفرد ص 432 والبيهقي في السنن: 10/ 223. وابن جرير في تفسيره (21/ 60) . (وإغاثة اللهفان: 1/ 238) .
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه قال: (هو والله الغناء) كما رواه: الحاكم (2/ 411) . والبيهقي (10/ 223) وابن أبي شيبة بإسناد صحيح: انظر: (تلخيص الحبير 4/ 200) و (الإغاثة) جـ1 ص: 240) .
وروي عن جابر رضي الله عنه قوله: (إنه الغناء والاستماع له) كما أخرج الطبري في تفسيره: 21 / 61.
وروي عن مجاهد قوله: (إنه الغناء) . كما رواه البيهقي 10/ 223 وابن جرير في التفسير: 21/ 62.
(1) لقمان: الآية (6)
وكذلك روي عن عكرمة قوله: (إنه الغناء) . رواه البيهقي في السنن الكبرى: 10/ 223.
وروي عن قتادة قوله: (إن لهو الحديث كل لهو ولعب) . أخرجه الطبري في التفسير: 21/ 21.
وروي عن الواحدي قوله: إن أكثر المفسرين ذهبوا على أن المراد بلهو الحديث (الغناء) .
فمن هذا نعلم أن الآية تدل على تحريم الغناء المعروف الآن بلا شك.
2-
وقوله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} (1) . فقد قالوا: أن لفظة (سامدون) معناها: المغنون واللاهون اللاعبون، والمستكبرون الأشرون البطرون، والغافلون المعرضون المشتغلون عن أمورهم بالهموم والأفراح. كما روي عن بعض الصحابة والتابعين والمفسرين..
فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه: (أن السمود هو الغناء باللغة الحميرية) .
(الإغاثة) 1/ 258) وفسره –أيضا- (باللهو) أخرجه الطبري في (التفسير: 17/ 82) .
وقال الضحاك (هو اللهو واللعب) كما أخرجه الطبري في (التفسير: 17/ 82) . وقال مجاهد: (هو البرطمة) والبرطمة هي (الانتفاخ غضبا) كما في القاموس –أخرجه الطبري 870.
(1) النجم: الآية (59-61)
وقال المبرد: (السمود هو الاشتغال عن الشيء بهم وفرح يشاغل به) انظر (الإغاثة: 1/ 258) .
وقال الأنباري: (السامد: اللاهي والساهي والمتكبر.) .
وقال ابن عباس رضي الله عنه: ( {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} : أنتم مستكبرون)(الإغاثة: 1/ 258)
وقال الضحاك: ( {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} : أشرون بطرون) انظر (إغاثة اللهفان: 1/ 258) .
وقال غيرهم: (أنتم سامدون: لاهون غافلون معرضون)(الإغاثة 1/ 258) .
والمعلوم أن الغناء يجمع تلك المعاني كلها فلا تناقض بين المعاني كما لا يخفي.
انظر: (الأغاني والمعازف وآلات الملاهي. للمحقق كتاب الآجري: ص380-381) .
3-
وقوله تعالى في سورة الإسراء: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} (1) . قال الله تعالي هذا القول في خطابة إبليس عدوه وعدو بني آدم بصفة عامة، فما هو صوت إبليس –عليه اللعنة- في هذه الآية؟
فقد قال مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: صوت الشيطان: هو (الغناء والمزامير واللهو) .
وقال الضحاك: (صوت الشيطان في الآية هو صوت المزمار) .
وقال مجاهد في تفسير هذه الآية: صوته –أي صوت إبليس- (الغناء والباطل) رواه عنه ابن أبي حاتم. وقال –أيضا-: (صوته هو المزامير) رواه ابن أبي حاتم.. ثم روى بإسناده عن الحسن البصري قال: (صوته هو الدف) انظر (الإغاثة: 1/ 356) .
ومن هذا كله نعلم علما أكيدا: أن الغناء المعروف المنتشر مع ما يصاحبه من آلات الطرب واللهو هو من صوت إبليس وندائه إلى طريقته. فلا بد من تحريم ذلك إذن بهذه الآيات الثلاثة وغيرها من الآيات القرآنية.
(1) الإسراء: الآية (64)
ومن الحديث:
مما استدل لتحريم الأغاني والمزامير والموسيقي أحاديث كثيرة ومروية في كتب الحديث المعتمدة. فلنأخذ منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
1-
عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)) أخرجه البخاري في صحيحه محتجا به وعلقه تعليقا مجزوما به. ورواه أبو داود في سننه مختصرا وابن حبان في صحيحه والبيهقي في السنن الكبرى. والطبراني في المعجم. والذهبي في تذكرة الحفاظ، وابن القيم في إغاثة اللهفان.. فالحديث ثابت وصحيح، قد اتفق على صحته جمهور المحدثين وما خالف في ذلك إلا ابن حزم الظاهري ومن اقتدي به.
والحديث من معجزاته الخبرية لأن مضمونه قد تحقق، فقد استحل كثير من الأمة (الحر) –وهو الفرج والمراد الزنا، و (الحرير) . (والمعازف) وهي: آلات الملاهي كالعود والدف، والعازف هو اللاعب بها، قال الذهبي في التذكرة:(المعازف اسم لكل ما يعزف به، كالطنبور والزمر والشبابة وغير ذلك من آلات الملاهي) .
ووجه الدلالة منه: أن المعازف هي آلات اللهو كلها ولا خلاف بين أهل اللغة في ذلك. ولو كانت حلالا لما ذمهم على استحلالها. ولما قرن استحلالها باستحلال (الخمر والزنا) .
2-
وعن عبد الرحمن بن غنم الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير)) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في التاريخ، وأبو داود في سننه، وابن ماجه في سننه –واللفظ له- والبيهقي في السنن، وابن حبان في صحيحه. والطبراني في الكبير، وقال البيهقي بعد أن أخرجه في السنن الكبرى 10/ 221: ولهذا شواهد من حديث علي وعمران بن حصين، وعبد الله بن بسر، وسهل بن سعد، وأنس بن مالك وعائشة، رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم . فدرجة الحديث: أنه حسن لغيره، وقد صححه ابن حبان.
ووجه الدلالة منه: أن فيه توعد مستحلي المعازف والمغنيات بالخسف والمسخ.
3-
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((تبيت طائفة من أمتي على أكل وشرب ولهو ولعب، ثم يصبحون قردة وخنازير باستحلالهم الخمور وضربهم بالدفوف واتخاذهم القينات)) [رواه الإمام أحمد والطبراني، وأبو نعيم وابن أبي الدنيا] .
4-
وعن على بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل عليها البلاء قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: إذا كان المغنم دولا. والأمانة مغنما. والزكاة مغرما، وأطاع الرجل زوجته، وعق أمه، وبر صديقه، وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وشربت الخمور، ولبس الحرير واتخذ القينات، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليترقبوا عند ذلك ريحا حمراء، أو خسفا أو مسخا)) . رواه الترمذي وابن أبي الدنيا. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي مثله. وحسنه الترمذي.
من هذه الأحاديث وغيرها نعلم: أن الأغاني المطربة الحالية وما رافقها من المعازف والموسيقي محرمة كالخمر والزنا، لما في هذه الأحاديث المتعاضدة من وعيد شديد. بوقوع الخسف والمسخ في هذه الأمة، المقيد بأصحاب الأغاني والمعازف وشاربي الخمور.
وقد قيل عن بعض أهل العلم (إذا اتصف القلب بالمكر والخديعة والفسق، ثم انطبع بذلك انطباعا تاما صار صاحبه على خلق الحيوان الموصوف بذلك. من القردة والخنازير، وغيرهما ثم لا يزال يتزايد ذلك الوصف فيه شيئا فشيئا، حتى يبدو على صفحات وجهه بدوا خفيا.. ومن له فراسة تامة يرى على صورة الناس مسخا من صورة الحيوانات التي تخلقوا بأخلاقها في الباطن.. فقلَّ أن تري رجلا محتالا مكارا إلا وعلى وجهه مسخة قرد. وقَلَّ أن تري رجلا شَرِهًا نَهِمًا، نفسه نفسا كَلْبِيَّةَ إلا على وجهه مسخة كلب
…
) انظر (إغاثة اللهفان)(جـ1 ص267) .
4-
من أقوال الصحابة والتابعين التي قد استدل على تحريم الأغاني الخليعة وآلاتها المطربة ممارسة واستماعا ما يلي:
1-
عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أنه قال:(الغناء والعزف مزمار الشيطان) . كما نقل عن كتاب: مدارج السالكين. ولا شك في نكارة عمل نسب للشيطان كهذا.
2-
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (الغناء ينبت النفاق في القلب) رواه: أبو داود. والبيهقي وابن أبي الدنيا، وإسناده صحيح، وقد قال كل من ابن القيم في (الإغاثة: 1/ 266) .
والأذرعي كما في (كف الرعاع) : إن هذا حجة لأنه لم يخالفه أحد من الصحابة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((رضيت لأمتي ما رضي به ابن أم معبد)) . كما رواه: البخاري في الصحيح والحاكم.
3-
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لمغن: (أف. شيطان أخرجوه أخرجوه..) رواه البخاري في الأدب المفرد. والبيهقي في السنن الكبرى بسند رجاله ثقات. فما هذا التأفف الشديد والطلب الملح بالإخراج من أم المؤمنين إلا أنها تكره الغناء وتحرمه
…
4-
وعن أنس رضي الله عنه أنه قال: (أخبث الكسب كسب الزمارة) رواه ابن أبي الدنيا في (ذم الملاهي) بسند حسن فلا شك أن هذا من الأدلة الدالة على تحريم الزمارة التي يتغنى بها الدعاة. وأن ما اكتسب منها خبيث وسحت وحرام.
5-
وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال –وقد رأى صغيرة تغني- (إن الشيطان لو ترك أحدا لترك هذه..) رواه البخاري في الأدب. وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي.
فلا شك أن في هذا الحديث دليلا على قبح الغناء وكراهته لأن الاشتغال به من عمل الشيطان وتسليطه.
6-
وعن فضالة بن عبيد بن قيس الأنصاري رضي الله عنه (أنه كان بمجمع –أي حي من الأحياء- من المجامع. فبلغه أن قوما يلعبون بالكوبة –أي الطبل- وقيل: النرد، والشطرنج، والطبل الصغير – (فقام غضبانا ينهى عنها أشد النهي) . ثم قال: (ألا أن اللاعب بها ليأكل ثمرها كالآكل لحم الخنزير ومتوضئ بالدم) رواه البخاري في الأدب المفرد بسند رجاله ثقات. لا ريب أن هذا –أيضا- من أدلة التحريم إذ إنك تري أن الصحابي الجليل غضب من ذلك أشد الغضب. ونهى عنه أشد نهي، وشبه بكسبه بأخبث شيء.
7-
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: (ما تغنيت ولا تمنيت ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه ابن ماجه في سننه وفي سنده: الصلت بن دينار. قيل: هو صبي متروك الحديث.
8-
وعن سعيد بن المسيب أنه قال: (إني لأبغض الغناء وأحب الرجز) رواه عبد الرازق الصنعاني في (المصنف) بسند صحيح (وهو من أقوي الأدلة في الرد على من زعم أن سعيد بن المسيب كان يبيح الغناء) . فنقول: إنما كان يسمع الرجز فقط، وشتان ما بين الرجز والغناء فالرجز نوع من الشعر العادي. وزنه (مستفعلن) ست مرات سمي بذلك لتقارب أجزائه. أما الغناء: فهو –كما سبق- نغمات تلحن وتمطط بتكسير وتقطيع. والله أعلم.
9-
وعن قتادة أنه قيل له: فما صوته –أي ما صوت إبليس-؟ فقال: (المزمار، ومصائده النساء) . رواه ابن أبي الدنيا في (مكائد الشيطان) وابن القيم في (إغاثة اللهفان) والطبراني كما في مجمع الزوائد. وروي رفعه، ولكن الصحيح هو الموقوف إلا أنه مرسل ومعلوم أن لهذا الأثر شواهد كثيرة.
10-
وعن الضحاك بن مزاحم الهلالي: أنه قال (الغناء مفسدة للقلب مسخطة للرب) . ذكره ابن الجوزي في (تلبيس إبليس) ص: 235.
11-
وعن يزيد بن الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين العادل المعروف بالناقص أنه قال: (يا بني أمية إياكم والغناء، فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعله السكر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء، فإن الغناء رقية الزنا) . رواه ابن أبي الدنيا في (ذم الملاهي) وابن كثير في (البداية والنهاية) وابن القيم في (إغاثة اللهفان) .
12-
وعن الفضيل عن عياض أنه قال: (الغناء رقية الزنا) رواه ابن أبي الدنيا في (ذم الملاهي) وابن الجوزي في (تلبيس إبليس) .
13-
وقال على بن الحسين (زين العابدين) : (ما قدست أمة فيها البربط) رواه: ابن أبي الدنيا في (ذم الملاهي) . وابن الأثير في (النهاية) وابن القيم في (الإغاثة) بإسناد رجاله ثقات.
14-
وعن قاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أنه قال لمن سأله عن الغناء: (أنهاك عنه وأكرهه لك، قال: أحرام هو؟ قال: انظر يا أخي إذا ميز الله الحق من الباطل في أيهما يجعل الغناء؟) رواه ابن أبي الدنيا والبيهقي في السنن. وابن الجوزي في التلبيس وله شاهد من حديث عباس الذي ذكره ابن القيم في (الإغاثة) .
15-
وعن عمر بن عبد العزيز –رحمه الله أنه قال: (الغناء بدؤه من الشيطان وعاقبته سخط الرحمن) .
16-
وعن محمد بن الفضل الأزدي أنه قال: (نزل الحطيئة برجل من العرب، ومعه ابنته (مليكة) فلما جنه الليل سمع غناء، فقال لصاحب المنزل: كف هذا عني، فقال: وما تكره من ذلك؟ فقال: إن الغناء رائد من رادة الفجور. ولا تسمعه هذه –يعني ابنته- فإن كففته وإلا خرجت عنك) ذكره ابن أبي الدنيا في (ذم الملاهي) . كما نقله ابن القيم في كتابه (إغاثة اللهفان عن مكائد الشيطان)(جـ1 ص246) .
17-
وعن أبي عبيدة معمر بن المثني، أنه قال (جاور الحطيئة قوما من بني كلب –فتشاور القوم في شأنه- فأتوه في فناء خبائه. فقالوا: يا أبا مليكة، إنه قد عظم حقك علينا بتخطيك القبائل إلينا، وقد أتيناك لنسألك عما تحب فنأتيه وعما تكره فنزدجر عنه، فقال: جنبوا ندي مجلسكم، ولا تسمعوني أغاني شبيبتكم، فإن الغناء رقية الزنا) . رواه ابن أبي الدنيا بسند مقبول لكن فيه انقطاع. وفي هذا الأثر والذي قبله دلاله واضحة على قبح الغناء وشناعته، وأن خطره معروف حتى عند الشعراء الذين اشتهروا بالهجاء والسب والسفه..
وقد قال ابن القيم في (إغاثة اللهفان) : إذا كان هذا الشاعر المفتون الذي هابت العرب هجاءه خاف عاقبة الغناء، وأن تصل رقيته إلى حرمته، فما الظن بغيره؟ انظر (جـ1/ 246) .
ومن هذه الأقوال نعلم علما أكيدا: أن كثيرا من الأغاني الحالية التي يتغنى بها كثير من أبنائنا وبناتنا، ونسمعها عن قصد أو من غير قصد –هي من عمل الشيطان، يفسد بها القلوب والعقول ويغضب الله، فالغناء إذًا هو نفسه حرام، وكسبه حرام.
المبحث الثالث
من أقوال علماء المذاهب الأربعة في حكم
الأغاني والموسيقي ما يلي
لقد اتفق جمهورهم على تحريم الغناء المقترن بآلات الطرب. والمشتمل على ذكر أوصاف النساء، والخمور، والكذب، والافتراء ونحوها.
1-
وهذا التحريم هو مذهب أبي حنيفة وسائر أهل الكوفة في ذلك الزمن كالثوري والشعبي، والنخعي فقد ذكر الحافظ ابن الجوزي في (تلبيس إبليس) عن أبي الطيب أنه قال: (كان أبو حنيفة يكره الغناء، ويجعل سماعه من الذنوب، وكذلك سائر أهل الكوفة
…
) .
وذكر الألوسي في تفسيره (روح المعاني) تحريمه عن أبي حنيفة، وأنه حرام في جميع الأديان. وأن كلا من صاحب الهداية والذخيرة سمياه كبيرة.
وقال (صاحب الدر المختار شرح تنوير الأبصار) : لا تقبل شهادة من يغني للناس؛ لأنه يجمعهم على كبيرة، وكذلك لا تقبل شهادة من يستمع الغناء، أو يجلس بمجلس الغناء أو مجلسا آخر من مجالس الفجور.
وبهذا جزم الزيلعي في (تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق)(جـ4 ص120) . وكذلك جزم به صاحب الفتاوى الهندية في فتاويه.
فمذهب أبي حنيفة في ذلك أشد المذاهب. وقوله فيه أغلظ الأقوال قاله ابن القيم في (الإغاثة) . وقال فيه –أيضا- (وقد صرح أصحاب أبي حنيفة بتحريم سماع الملاهي كلها، كالمزمار، والدف، حتى ضرب القضيب، كما صرحوا بأنه معصية توجب الفسق فترد به الشهادة كما قالوا: إن سماعه فسق والتلذذ به كفر) .
وقال أبو يوسف في دار يسمع منها المعازف والملاهي: (ادخل عليهم بغير إذن للنهي، لأن النهي عن المنكر فرض، فلو لم يجز الدخول إذن لامتنع الناس من إقامة الفرض) انظر (إغاثة اللهفان) .
2-
وهو مذهب الإمام مالك وسائر أهل المدينة في ذلك الوقت سوى إبراهيم بن سعد الزهري وعبيد الله بن الحسن العنبري. فقد قال الإمام مالك حينما سئل عن الغناء (إنما يفعله عندنا الفساق) يعني بذلك إبراهيم ومن شاركه.
وعن أبي الطيب الطبري: أن مالك بن أنس (نهى عن الغناء وعن استماعه) وقال: (إذا اشتري-إنسان- جارية فوجدها مغنيه كان له ردها بالعيب –يقصد بذلك العيب (كونها مغنية) . وقال: وهذا مذهب سائر أهل المدينة) .
وذكر ابن عبد البر في كتاب (الكافي في فقه أهل المدينة المالكي) : (إسقاط شهادة من يستمع الغناء أو يغشى المغنين) انظر (الكافي)(2/ 205) .
وذكر الحطاب في (شرح مختصر خليل) عن ابن عبد الحكم (أن سماع الغناء بغير آله إذا تكرر منه يكون قادحا في المروءة وأما الغناء بآلة: فإن كانت ذات أوتار كالعود، والطنبور، والمزمار فممنوع) انظر (6/ 153) .
والحاصل: أن مذهب الإمام مالك وسائر أهل المدينة المعتبرين متفقون على كراهة الغناء ومنعه إلقاءً واستماعا.
وإن ما يدعيه ابن حزم الظاهري في ذلك المضمار فهو باطل. كما سنذكره إن شاء الله.
3-
والتحريم –أيضا- هو مذهب الشافعي كما هو معروف لدى العلماء فقد صرح في (كتاب الأم) : 6/ 214، (بأن الرجل الذي يغني فيتخذ الغناء صناعة لا تجوز شفاعته؛ لأنه من اللهو الذي يشبه الباطل، وأن من يتخذ الغلام والجارية المغنين ويجمع عليهما أي يجتمع هو والناس على استماعهما والنظر إليهما –فهذا سفيه ترد به شهادته) قال: (وفي الجارية أكثر –سفها وأشد نكارة- لأن فيه سفاهة ودياثة..) .
(وإنما جعل هذا الرجل سفيها فاسقا، لأنه دعا الناس إلى الباطل، ومن دعا إلى باطل كان سفيها وفاسقا) . قال ابن الجوزي في (تلبيس إبليس) :
وعن أبي الطيب الطبري: (أن من أضاف إلى الشافعي إباحة الغناء والضرب بالقضيب فقد كذب عليه) حكاه عنه ابن الجوزي.
وحكي ابن الصلاح: (الإجماع على تحريم السماع الذي جمع الدف والشبابة والغناء فالخلاف المنقول عن بعض أصحاب الشافعي إنما نقل الشبابة منفردة والدف منفردا..) .
وقال ابن القيم في (الإغاثة) : (إن أصحاب الشافعي العارفين بمذهبه صرحوا بتحريم الغناء، وأنكروا على من نسب إليه حله كالقاضي أبي الطيب وابن الصباغ) .
انظر: ملحق كتاب (تحريم النرد والشطرنج والملاهي) ص317.
وحكي عن أبي إسحاق في التنبيه: (أنه لا تصح الإجارة على منفعة محرمة كالغناء والزمر ولم يذكر فيه خلافا) .
قد تضمن كلام الشيخ أمورا: أحدهما: أن منفعة الغناء بمجرده منفعة محرمة.
الثاني: أن الاستئجار عليها باطل.
الثالث: أنه لا يجوز للرجل بذل ماله للمغني ويحرم عليه ذلك، فإنه بذل ماله في مقابل محرم، وأن بذله في ذلك كبذله في مقابلة الدم والميتة.
فهذا قول علماء الشافعية وأهل التدين منهم، وإنما رخص في ذلك من قل حياؤه وغلبه هواه قاله ابن الجوزي.
وذكر الهيتمي في الزواجر: (أن الشافعية استدلوا على تحريم المزامير بأنها شعار شربة الخمور) . انظر (الزواجر) ص2/ 278.
فخلاصة القول: أن الأغاني المطربة بالمعازف وآلات الطرب محرمة عند المذهب الشافعي. وأن كل ما حكي عن الشافعية من إباحة المزامير والأوتار فهو غير صحيح.
4-
أما مذهب الإمام أحمد بن حنبل في مسألة حكم الأغاني فهي لا تخالف كثيرا مما سبق.
فلننظر قليلا فيما نقل عن ذلك الإمام.
فقد قال ابنه عبد الله: سألت أبي عن الغناء فقال: (الغناء ينبت النفاق في القلب؛ فلا يعجبني) .
وروي عنه يعقوب الهاشمي (أن التغبير بدعة محدثة) وروى عنه أبو الحارث، أنه قال:(التغبير بدعة. فقيل له: إنه يرقق القلب فقال: هو بدعة) . وروي عن يعقوب بن غياث. أنه قال: (أكره التغبير وأنه نهى عن استماعه) .
وقد قيل: إن الغناء الذي كان موجودا في زمانه هو إنشاد القصائد الزهدية وكان الزهاد يلحنونها لذا اختلفت الروايات عنه.
والتغبير: قيل هو الطقطقة بالقضيب أي الضرب به على المخدة وهي نوع من الجلد يتخذ وسادة بعد نفخه بالهواء كالقربة.
ومعلوم أن هذه الروايات كلها تدل على كراهية الغناء عند أحمد.
وروي عن المروزي عن الإمام أحمد أنه قال: (كسب المخنث خبيث يكسبه بالغناء) .
وقد نص الإمام أحمد (في أيتام ورثوا جارية مغنية ورثوا جارية مغنية وأرادوا بيعها أن لا يبيعوها إلا على أنها ساذجة غير مغنية) ، لأنها بوصفها مغنية قد يزيد ثمنها، فيفهم من هذا أنه لو كان بيع المغنية حلالا والغناء مباحا عند أحمد لم يأمر بتضييع مال اليتامى، لأن تضييع مالهم من أشد الحرام.. فدل هذا على أن الإمام أحمد كان يحرم الغناء ولا يبيحه.
ونص –أيضا في كتب المذهب الحنبلي (أن تكسر آلات اللهو والطرب كالطنبور وغيره، إذا رئيت مكشوفة وأمكن كسرها) .. لأنها من المنكرات كما نص فيها –أيضا- (أنه لو علم هناك آله مستورة تحت ثوب لكشف عنها وكسرت) .
فالحاصل من ذلك أن الغناء المطرب وآلاته ممنوعان في مذهب الإمام أحمد. وأن ما حكي عنه في الكراهة وعدمها إنما هو في القصائد الزهدية.
نضيف إلى ذلك بعض ما قاله علماء هذا المذهب حول هذه المسألة: فقد قال ابن عبد البر: (من مكاسب المجمع على تحريمها أخذ الأجرة على النياحة والغناء واللعب، والباطل كله) نقله القرطبي في تفسيره. 7/ 3.
وحكي عن ابن المنذر أنه قال: (أجمع كل من حفظ عنه من أهل العلم على إبطال إجارة النائحة والمغنية) . وقال ابن قدامة (كل ما قصد به الحرام كبيع السلاح لأهل الحرب أو لقطاع الطريق، وكبيع الأمة للغناء أو إجارتها.. حرام، والعقد باطل (.
ففي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : ((أن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه)) . رواه أحمد وأبو داود في سننه، والدارقطني.
ومن هذا كله نعلم أن الأئمة الأربعة متفقون على تحريم الأغاني المطربة، والمعازف الملهية والمزامير الشيطانية والله أعلم.
وقد ذكرنا الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين فلا نكررها هنا.
المبحث الرابع
في غير الجمهور وأقوالهم
وأما غير الجمهور –وهم إبراهيم بن سعد، وعبيد الله العنبري ومحمد بن حزم الظاهري، ومن تبعهم من أهل الظاهر وأصحاب الأهواء- فهؤلاء قد فارقوا الجماعة، فذهبوا إلى إباحة الأغاني وآلات الملاهي والطرب من غير قيد ولا استثناء حتى ادعى واحد منهم – محمد بن طاهر المقدسي القيسراني - إجماع أهل المدينة والصحابة والتابعين على إباحة الغناء بالعود، وهو قول باطل يخالفه النقل كما سبقت الإشارة إليه.
فإليك بعض ما استدلوا على إباحة ذلك من:
1-
استدلوا على إباحة الأغاني مطلقا، بحديث عائشة رضي الله عنها، وهو أنها قالت (دخل عليَّ أبو بكر رضي الله عنه وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقولت الأنصار يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وذلك يوم عيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يا أبا بكر أن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا.)) ) . رواه البخاري. ومسلم وأحمد والنسائي وابن ماجه وفي لفظ رواية أحمد: (قال أبو بكر: عياذ الله أمزمور الشيطان؟ قالها ثلاث مرات) . وفي رواية مسلم والنسائي وابن ماجه: (وعندها جاريتان تضربان بدف) .
قال ابن حزم في استدلاله بهذا الحديث: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقره بحضرته وأنكر على الصديق إنكاره، وأن قولها:(وليستا بمغنيتين) –معناه- ليستا بمحسنتين فلا حجة في قولها ولا في إنكار الصديق.. وإنما الحجة في إنكاره صلى الله عليه وسلم على أبي بكر رضي الله عنه.. فصح أنه مباح مطلقا لا كراهية فيه، وأن من أنكره فقد أخطأ اهـ بتصرف انظر المحلي (9/ 75) .
2-
واستدلوا على إباحة سماع الغناء بالعود وبيع المغنية بقصة غير صحيحة وهي ما روي بسند منقطع عن محمد بن سيرين (أن رجلا قدم المدينة بجوار فأتى إلى عبد الله بن جعفر فعرضهن عليه، فأمر جارية منهن فأحدث حتى ظن ابن عمر أنه قد نظر إلى ذلك، فقال ابن عمر: حسبك سائر اليوم من مزمار الشيطان، فساومه، ثم جاء الرجل إلى عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن إني غبنت بسبعمائة درهم فأتي ابن عمر إلى عبد الله بن جعفر فقال: أنه غبن بسبعمائة درهم، فإما أن تعطيها إياه، وإما أن ترد عليه بيعه، فقال: بل نعطيها إياه) .
قال ابن حزم بعد ما روى هذه القصة في (المحلى)(فهذا ابن عمر قد سمع الغناء وسعى في بيع المغنية..) انظر (المحلى 9/ 77) .
3-
احتج ابن الطاهر القيسراني على إباحة الغناء بحديث مكذوب رواه في (صفوة التصوف) وهو قوله (–روي- عن أنس رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((هل فيكم من ينشدنا؟)) فقال بدو: نعم يا رسول الله. فقال: ((هات)) فأنشأ:
قد لسعت حية الهوى كبدي فلا طبيب لها ولا راقي
إلا الحبيب الذي شغفت به فعنده بقيتي وترياقي
قال: فتواجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواجد معه أصحابه حتى سقط رداؤه عن منكبيه فتقاسمها فقراء الصفة، وجعلوها رقعا في ثيابهم، فقال معاوية: ما أحسن لهوكم؟ فقال: ((مهلا يا معاوية ليس بالكريم من لم يتواجد عند ذكر الحبيب)) . ذكره ابن تيمية في (الرسائل المنبرية) والسهروردي في (عوارف المعارف) .
4-
واستدل ابن حزم على إباحة بيع المغنيات وشرائهن، وبيع آلات الملاهي كالمزامير، والمعازف، والطنابير.... بقوله تعالى:{خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (1) .
وبقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} . (2) .
وبقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (3)
وقال: ولم يأت نص بتحريم شيء من ذلك.
وقال: ورأى أبو حنيفة الضمان على من كسر شيئا من ذلك (انظر المحلي: 9/ 66-76) .
(1) البقرة: الآية (29)
(2)
الأنعام: الآية (119)
(3)
البقرة: الآية (275)
وهذا خلاصة ما وقفت عليه مما احتجوا على تأييد رأيهم.. فإليك أجوبة الجمهور عن تلك الحجج الواهية.
أولا: إن حديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه الذي استدلوا به إباحة الغناء ليس لهم فيه حجة، بل هو حجة عليهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الجاريتين بالغناء لأمور عدة:
منها: أنها يوم عيد، فقد علل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله:((دعهما فإنه يوم عيد)) فدل على أن أيام العيد ليست كذلك فلا يدل على جواز الغناء إلا في يوم العيد وما شاكله. وهذا الجواب نورده إذا قيل: إن الجاريتين كانتا تغنيان بالغناء المعروف عن أهل اللهو واللعب.
وإن كان غناؤهما مجرد إنشاد للأشعار – كما هو الأصح - فليس فيه دليل على إباحته لا في يوم عيد ولا غيره، لأن الجاريتين غنتا بأشعار الشجاعة والحروب التي قيلت يوم بعاث، فلم يقل أحد من الفقهاء بمنع مثله، انظر فصل الخطاب (ص3 (الأغاني والمعازف وآلات الملاهي) (لمحمد سعيد عمر إدريس) ص: 278) .
ومنها: أن غناءهما لم يبلغ إلى درجة الكراهة لأنهما، لم تكونا مغنيتين ففي شرح النووي على مسلم، وشرح الكرماني على البخاري: قال القاضي عياض في شرح هذا الحديث: (أي ليستا ممن يغني بعادة المغنيات من التشويق والهوى والتعريض بالفواحش، والتشبه بأهل الجمال وما يحرك النفوس.. وليستا ممن اشتهر بإحسان الغناء الذي فيه التمطيط والتكسير، وتحريك الساكن.. ولا من اتخذه صنعة وكسبا) .
وقال النووي في شرحه على مسلم: معناه (ليس الغناء عادة لهما، ولا معروفتان به) .
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بكر رضي الله عنه بتسمية الغناء مزامير الشيطان بل أقره على التسمية –أي لم يقل: (ليس من مزامير الشيطان ولا ما يماثله) بل أمره بترك التغليظ في الإنكار على الجارتين وعلل ذلك بأنها أيام عيد.. فقول ابن حزم في هذه النقطة بعيد كل البعد؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه ليس الذي بدأ بهذه التسمية على الغناء. وإنما النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سماه باسم مزامير الشيطان، كما في حديث جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين، صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير الشيطان)) . رواه: الترمذي، والحاكم، والبيهقي، وأبو داود الطيالسي في مسنده.
ومنها: أن في إنكار الصديق رضي الله عنه على عائشة رضي الله عنها والجاريتين وانتهارهن دليلا على المنع من الغناء
…
وخلاصة القول: أن حديث عائشةرضي الله عنها للجمهور لا لابن حزم وأتباعه كما نص عليه أبو الطيب الطبري حين قال: (أن هذا الحديث حجتنا
…
) .
وكما نص ابن القيم في (مدارج السالكين) بقوله: (إن هذا الحديث من أكبر الحجج عليهم فإن الصديق رضي الله عنه سمى ذلك مزمورا من مزامير الشيطان....) .
ثانيا: وأما الجواب عن قصة الجارية التي قال ابن حزم: إنها غنت بالعود أو الدف على مسمع ومرأى ابن عباس وابن جعفر رضي الله عنهما: فقد أجابوا عنها من وجوه عدة:
منها: أن القصة التي ساقها ابن حزم منقطعة السند في مرحلتين: بينه وبين حماد، وبين ابن سيرين وبين الرجل المجهول، وفيها رجل مبهم مجهول.
ومها: أنه ثبت عن ابن عمر رضي الله عنه ((أنه سد أذنيه ونأى عن الطريق حينما سمع زمارة راع. كما في حديث نافع.. فقد روى عنه (أنه رضي الله عنه كان مع ابن عمر رضي الله عنه في طريق، فسمع زمارة راع، فعدل عن الطريق. ثم قال لنافع: هل تسمع؟ فلم يزل يقول: يا نافع أتسمع؟ حتى قلت: لا فأخرج أصبعه من أذنه ثم رجع إلى الطريق، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع)) . رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه. وابن حبان في صحيحه والبيهقي في السنن الكبرى والطبراني في المعجم الصغير. وهو حديث صحيح وثابت ومشهور فهو يناقض القصة..
ومنها: أن فيما رواه البخاري في الأدب المفرد من حديث عبد الله بن دينار ما ينقض القصة: وهو أنه قال: خرجت مع عبد الله بن عمر رضي الله عنه إلى السوق، فمر على جارية صغيرة تغني، فقال:(إن الشيطان لو ترك أحدا لترك هذه لجارية) ..
ثالثا: وأما الجواب عن الحديث الذي احتج به ابن طاهر على إباحة الغناء: فإنه يقال: إن هذا الحديث باطل ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم إطلاقا بل هو موضوع. فقد قال الذهبي في (الميزان)(عمار بن إسحاق الضبي كأنه واضع هذه الخرافة لأنه من الأحاديث المكذوبة. انظر) ص77.
وقال محمد المنيحي الحنبلي في كتاب (الرقص والسماع)(إن هذا –هو حديث مكذوب وموضوع باتفاق أهل العلم) . انظر (مجموعة الرسائل المنبرية)(3/169) .
وأما قولهم في بيع المزامير والمعازف وآلات الطرب (أنه حلال كله) فالجمهور يقولون (إن قولهم هذا باطل ومردود بالأحاديث الصحيحة وإجماع من يعتد بهم من فقهاء السلف والخلف) .
،أما الأحاديث فمنها ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري المرفوع:((ليكونن من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)) كما سبق. وقد قيل: (إن الحر هو الفرج)، والمراد به في هذا الحديث (الزنا) .. وأن المعازف: جمع معزف كمنبر ومنابر وهي آلات الملاهي كالعود والدف ونحوه.
والعازف: اللاعب بها. وقيل: (المعازف اسم لكل ما يعزف به كالطنبور والمزمار، والشبابة وغير ذلك من آلات الملاهي) كما في التذكرة للذهبي.
ومحل الشاهد في هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : ((يستحلون)) لأنه دليل على أن هذه الأشياء المذكورة محرمة كلها ومن ضمنها المعازف ثم يأتي أقوام يحلونها..
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : ((نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين، صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير الشيطان)) رواه الترمذي وحسنه، والحاكم في المستدرك. والبيهقي في السنن والبزار، والطيالسي في مسنده وابن أبي شيبة وأبو يعلى الموصلي وإسحاق بن راهويه، وعبد بن حميد كما في (نصب الراية)(4/ 84) .
وأما الإجماع على خلاف ما ذهب إليه ابن حزم: فقد قال ابن عبد البر (من المكاسب المجمع على تحريمها أخذ الأجرة على النياحة والغناء والزمر واللعب والباطل) . كما في تفسير القرطبي.
وممن حكى الإجماع الحافظ في (فتح الباري) فقد قال: قد حكي قوم الإجماع على تحريم المعازف.
وحكى ابن قدامة المقدسي في (المغني) الإجماع على أن الطنبور والمزمار والشبابة من آلات المعصية.
وأما قول محمد بن حزم الظاهري في كتابه (المحلى) : ومن كسر شيئا من ذلك –أي المزامير والمعازف والطنابير –ضمنه- لأنها مال من مال مالكها. فهو قول غير صحيح؛ لأن الشارع الحكيم قد أمر وحث على إزالة المنكر ومحاربته، حيث قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه:((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) .
ولا شك ولا ريب أن من أشد المنكرات وأخطرها على المجتمع تلك الآلات آلات اللهو والطرب فتغبيرها واجب عظيم وإزالتها أمر لازم.
وإن تعليله بأنها (مال مالكها) فمردود لأنها ملعونة وقد وصفها صلى الله عليه وسلم بأنها صوت أحمق وفاجر. والفاجر الملعون لا يجوز اقتناؤه، كما لا يثبت الملك فيه لأحد فهي مثل الخمر في قبحها وعدم جواز اقتنائها. وفي عدم ثبوت ملكيتها لأحد. بل يجب إتلافها حيثما وجدت، وإراقتها كما أراقها النبي صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه.. وكذلك تلك الآلات، فيجب إتلافها ولا يجوز تركها مع القدرة على إتلافها لأنها منكر يجب إزالته.
وفي حديث أبي أمامة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((بعثت رحمة وهدى للعالمين وبمحق الأوثان والمعازف وأمر الجاهلية)) رواه أحمد والطيالسي وابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان والحميدي في مسنده.
وأما استدلاله على تحليل بيع آلات اللهو بقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (1) . مع قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (2) فغير مسلم به لأن عموم الآيتين مخصوص بما ثبت تحريمه في الكتاب والسنة. وآلات الملاهي قد ثبت تحريمها بهما كما سبق. فتكون مخصصة من عموم الآيتين كما لا يخفي.
(1) البقرة: الآية (29)
(2)
البقرة: الآية (275)
المبحث الخامس
إن من الأسباب التي أدت إلى انهيار الأخلاق الإسلامية في هذا العصر الحاضر خطط أعداء الإسلام والمسلمين التي تنفذ وتنتشر بصفة مباشرة وغير مباشرة في العالم الإسلامي.
فقد تبنت الماسونية واليهودية مذهب (فرويد) الذي فسر كل شيء في سلوك الإنسان بالإباحة والانطلاق في طريق الغريزة الجنسية والشهوة واللذة.
وآراء (كارل ماركس) الذي دعا إلى إلغاء الأديان السماوية وهاجم عقيدة الألوهية، ونادى إلى المسرح كبديل عنها، قائلا: اشغلوهم عن عقيدة الألوهية بالمسرح.
ولبوا بآراء (نيتشه) الذي ألغي الأخلاق وأباح لكل أحد أن يفعل ما تمليه إليه ميوله من كل ما يؤدي إلى استمتاعه فهؤلاء يجتهدون دائما لتنهار الأخلاق في كل مكان بجميع الطرق والوسائل وقد قالوا في (بروتوكولاتهم) يجب علينا أن نكسب المرأة المسلمة، فأي يوم مدت إلينا يدها نفوز بالحرام، وتتبدد جيوش المنتصرين للدين.
وتبنوا بآراء (داروين) الخبيثة الذي أعلن نظرية التطور المرفوضة وقالوا: إن فرويد منا –نحن اليهود- وسيظل دوما يعرض العلاقات الجنسية في ضوء الشمس، لكي لا يبقي في نظر الشباب شيء مقدس، ويصبح همه الأكبر وشغله الشاغل إرواء غرائزه الجنسية وعندئذ تنهار الأخلاق..
وقال (زويمر) أحد القساوس المبشرين في مؤتمر المبشرين في القدس ما يلي:
(إنكم أعددتم نشئا في ديار المسلمين لا يعرف الصلة بالله.. وبالتالي جاء النشء طبقا لما أراد له الاستعمار، فلا يهتم بالعظائم، ويحب الراحة والكسل، فلا يصرف همه في الدنيا إلا في الشهوات فإن تعلم فللشهوات، وإن جمع المال فللشهوات، وإذا تبوأ أسمى المراتب والمراكز ففي سبيل الشهوات.
(وقال أحد أقطاب المستعمرين) : كأس وغانية تعملان في تحطيم الأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع. فأغرقوها في حب المادة والشهوات
…
ونقل الأستاذ محمود العقاد في كتابه (الإسلام والشيوعية) عن وثيقة من الوثائق الشيوعية ما خلاصته: (نجحنا في المجتمعات الدينية في تعميم ما يهدم الدين، من القصص، والمسرحيات والمحاضرات، والصحف والمجلات، والمؤلفات التي تدعو وتروج الإلحاد وتهزأ بالدين ورجاله، وتدعو للعلم وحده، وتجعله الإله المسيطر) .
وهذا نزر قليل من مخططات أعداء الإسلام اتخذوها لهدم حصون الإسلام والمسلمين ويتسللوها إليهم ويغيروا كل ما لديهم من خلق ودين وعقيدة. وها قد نالوا مرادهم من كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام.
وقد اتضح لنا من هذا الذي نقلناه منهم أن كلا من اليهودية والماسونية والشيوعية، والصليبية، والمستعمرين وقوى الشر كلها متعاونون ومتساندون على إفساد الأمة المحمدية عن طريق الخمر والمسرح والأغاني الماجنة، والتبرج الخليع، والاختلاط الفاحش، وترويج القصص الغرامية، والأفلام الوقحة، والصور العارية، على صورة ترويج بعض البضائع، أو على صورة التجميل والتزين والصحف والمجلات، وقد وصلوا بعض مراميهم من شبابنا بهذه الوسائل..
فعلى المسلمين أن يتنبهوا إلى ذلك. وأن ينتهوا عن هذا التقليد الأعمى لهؤلاء المضلين، من الناحية الخلقية والسلوكية..كالاختلاط بين الجنسين والتبرج الجاهلي والخمر والخَنَا.. وكممارسة الملاهي المحرمة من كل ما يصد عن ذكر الله، أو يغري بينهم البغضاء، أو يثير الغريزة الجنسية أو يميت الغيرة.. وأن يتميزوا عن غيرهم في العقيدة والعبادة والسلوك، وأن يغيروا ما بهم من الميوعة والخلاعة والانحلال، لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن يزيلوا هذا الجهل المطبق.
وفي الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وسلم : ((لا يكن أحدكم إمعة يقول: أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا أن تجتنبوا إساءتهم
…
)) رواه الترمذي.
المبحث السادس
في التبرج والاختلاط
إن التبرج والاختلاط وما صاحبهما من كشف وعري.. لظاهرة رذيلة ومفسدة خطيرة للأخلاق والأعراض والأموال والأبدان والأرواح وجميع مقومات الحياة الإنسانية.. وقد فشا ذلك كله في كثير من المجتمعات الإسلامية المعاصرة، فلم يسلم منه إلا من قل وندر. وذلك عن طريق التقليد الأعمى للأعداء، والجهل عن مخططاتهم، والتناسي عن الدين الحنيف وتوجيهاته القوية القويمة نحو هذا التبرج.. فلنبحث صفحات ما كتب حول هذا الموضوع قليلا:
1-
التبرج: أصله الخروج من البرج –أي القصر- ومعناه التكلف بإظهار ما يجب ستره، وقد استعمل في خروج المرأة من الحشمة والحياء. وإبراز محاسنها.
وقد جاء لفظ التبرج في القرآن الكريم. قال الله تعالى في سورة الأحزاب {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1)
وفي سورة النور: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} . (2)
فالتبرج المذكور في الآيتين هو عين التبرج الذي نرى في نسائنا اليوم، كما لا يخفي ولا شك أن هذا التبرج ينافى الخلق، والدين، والمدنية معا، لأن أهم ما يتميز به الإنسان عن الحيوان الأعجم هو اتخاذ الملابس وأخذ الزينة. وقد امتن الله سبحانه وتعالى على الإنسان أن خلق له ما يستر به عورته، وما يتزين به ويتجمل قال تعالى:{يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} . (3)
وقال تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} . (4)
والملابس والزينة من مظاهر الإنسانية الكاملة والمدنية الحقة. والتجرد عنها رجوع إلى الانحطاط والحيوانية، والحياة البشرية لا تسير إلى الوراء والتقهقر إلا إذا أصابتها نكسة تغير الأفكار والآراء كما هو واقع اليوم.
واتخاذ الملابس والزينة بالنسبة للمرأة قد قيل إنه من ألزم اللوازم، لأنه هو الحافظ الوحيد، الذي يحفظ دينها، وشرفها، وعفافها، وإن أعز ما تملكه المرأة هو الشرف والعفة والحياء. فليس من صالح المرأة والمجتمع أن تتخلي عن الصيانة والاحتشام لأن الغريزة الجنسية هي من أشد الغرائز وأعفها على الإطلاق. والتبرج مثير لتلك الغريزة الجموحة.
(1) الأحزاب: الآية (33)
(2)
النور: الآية (60)
(3)
الأعراف: الآية (26)
(4)
الأعراف: الآية (31)
ولذا أعطي الإسلام عناية فائقة نحو ملابس المرأة وصيانتها. وتناولها كل من القرآن والسنة. فنهى الله عن التبرج في الآيتين السابقتين.
وأمرهن بالاحتجاب وسدل الجلباب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} . (1)
وفي قوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} . – الجسدية - {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} . (2) –كالكفين والوجه- {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} . (3) إلى أن قال: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا} . (4) .
وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح لها أن يرى منها إلا هذا وهذا. وأشار إلى وجهه وكفيه)) أو كما قال. رواه البخاري.وفي حديث آخر قوله صلى الله عليه وسلم : ((صنفان من أهل النار لم أرهما، رجال بأيديهم سياط كأذناب البقر، ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات لا يدخلن الجنة..)) مسلم.
وقد قيل: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يخشى من فتنة التبرج العارمة في زمنه، فيقمعها قبل أن تقع، لأن الوقاية خير من العلاج فقد روى (أنه كان يتعسس ذات ليلة فسمع امرأة تقول: هل من سبيل إلى خمر فأشربها أم من سبيل إلى نصر بن حجاج. فقال رضي الله عنه: أما في عهد عمر فلا. فلما أصبح استدعي نصرا فوجده من أجمل الناس وجها، فأمر بحلق شعره فإزداد جمالا. فنفاه إلى بادية الشام) .
وأما في الوقت الحاضر: فقد أصبح من المعتاد أن يجد الرجل المسلم –ولو كان رئيس القوم- المرأة المسلمة متبرجة مبتذلة، عارضة مفاتنها، كاشفة عن صدرها ونحرها، وظهرها، وخاصرتها وفخذيها –وربما تظهر بطنها- متعطرة.. ومغنية ومترنمة بنغماتها.. فلا تجد أية غضاضة من صنيعها. لأنه أصبح من الضروري وضع المساحيق المتنوعة. والتطيب واختيار الملابس المغرية المثيرة.. والأغاني المطربة.. فترى المرأة المسلمة وقد اعتادت أماكن الفجور والفسق والملاهي، والملاعب والمسارح، والأندية والسينما، والفنادق. بالزي الذي ذكرناه بمرافقة أقرانها من الرجال الأجانب.. إلخ.. إلى آخر ما هو معروف من الرقص والتمثيليات كما يقولون.
ما ذلك إلا بسبب الجهل العميق عن أوامر الدين ونواهيه. وعن عاقبة هذا الانحراف والانحلال أو التجاهل والتناسي عنهما وإلا بسبب التقليد الأعمى للأعداء، وتنفيذ مخططاتهم الشنيعة {الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا} . (5) .
(1) الأحزاب: الآية (59)
(2)
النور: الآية (31)
(3)
النور: الآية (31)
(4)
النور: الآية (31)
(5)
النور: الآية (19)
وأصبحت النتيجة من هذا الانحراف أن كثيرا من الفسوق بكافة أشكاله في الأمة وانتشر الزنا بصورة رهيبة. وفشت المخدرات في الجيل الجديد فانهدم كيان الأسر.
وأهملت الواجبات الدينية والدنيوية، فتركت العناية بأطفال كثيرة. وتأزم قانون الزواج في كثير من البلدان. فصعب التطبيق عليه فرارا من مسؤولياته. حتى أصبح الحرام أسهل وأيسر حصولا من الحلال.. وضاعت الأخلاق الفاضلة والآداب الإسلامية من صدق وأمانة، وإخلاص وعفة واستقامة.. إلخ.. فتأزمت الحياة والمعيشة من كل جانب.. وماتت الفضيلة في تلك البيئة الفاسدة العفنة المتأزمنة إلا من عصمه الله..
وإن هذا الوضع السيئ لما نتأسف منه كثيرا.. وإن تلك الظاهرة –ظاهرة التبرج- لظاهرة سيئة تحتاج منا إلى علاج حاسم يقطع شأفتها بحكمة شيئا فشيئا. فلكي نصل إلى نتيجة حاسمة من هذه الناحية فلننظر إليها من الجانب الآخر، وهو ما يعبر عنه (بظاهرة الاختلاط بين الجنسين) .
2-
في ظاهرة الاختلاط وما قيل فيها من آراء وأحكام:
إن ظاهرة الاختلاط بين الجنسين –الرجال والنساء في جميع الميادين- في المدارس والمعاهد والجامعات والمكاتب والمصانع والنوادي في مظهر مريب، هي ظاهرة من مظاهر هذه الحضارة المادية. وهي ظاهرة خطيرة قد ركز عليها الأعداء المضلون في مخططاتهم الماكرة. كما سبقت الإشارة إليه.
ونعني بظاهرة الاختلاط ذلك الاختلاط المشبوه المثير للغريزة الجنسية الجامحة. الذي يروجه دعاة الإباحة.
فقد تري في كثير من مجتمعات هذا العصر من يدعو إلى الاختلاط والسفور بقوله أو بفعله، قائلا:(إن الاختلاط بين النساء والرجال فيه تهذيب للغريزة وتصريف وتنظيف لكوامن الشهوة) كما يقولون، فيجعل اجتماع النساء بالرجال والشباب بالشابات أمرا مألوفا وعاديا. ولا شك أن هذا القول كلام فارغ بل هو ادعاء كاذب ومرفوض لأن كلا من الفطرة والواقع والتجربة يكذبه ويرفضه.
أما الفطرة فالله سبحانه وتعالى لما خلق الرجل والمرأة ركب في كل منهما الميل إلى الآخر. قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} . (1)
وقال: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} . (2)
لا سيما إذا كان كل منهما مائعا خلقيا وجائعا جنسيا، فتلك المودة وميل كل منهما إلى الآخر غريزة فطرية لا تبديل لها..
(1) الروم: الآية (21)
(2)
الروم: الآية (30)
وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما خلا رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما)) . رواه الترمذي.
وأما تكذيبه بالتجربة فحدث عنه ولا حرج، فقد قيل: إن نسبة الحبالى من جراء هذا الاختلاط قد زاد زيادة سريعة في المجتمعات المتقدمة –كما يقولون- يقولون: إن نسبة الحبالى من تلميذات المدارس الأمريكية قد بلغت 48 % ثمان وأربعون بالمائة.
ونقل عن جريدة (الأحد) اللبنانية من عددها 650: (أن الفضائح الجنسية في الجامعات والمعاهد الأمريكية بين الطلاب والطالبات تتجدد وتزداد عاما بعد عام، وأن الطلاب يقومون بمظاهرة في –بعض- جامعات أمريكا. ويهتفون فيها: نريد فتيات، نريد أن نرفه أنفسنا. وأن هجوما ليليا وقع من الطلاب على غرف نوم الطالبات وسرقن ثيابهن الداخلية) .
وقال عميد الجامعة معقبا على ذلك الحدث: (إن معظم الطلاب والطالبات يعانون جوعا جنسيا رهيبا. ولا شك أن الحياة العصرية الراهنة لها أكثر الأثر في تصرفات الطلاب الشاذة) . انظر: ما نقل من جريدة الأحد اللبنانية عدد650.
(ودلت الإحصائيات في العام الماضي على أن (120) ألف طفل أنجبتهم فتيات بصورة غير شرعية –لا تزيد أعمارهن على العشرين، وأن كثيرا منهن من طالبات الجامعات) .
(وأن الطالبة لا تفكر إلا بعواطفها، وبالوسائل المتجاوبة مع العاطفة) .
(وأن أكثر من (60 %) ستين بالمائة من الطالبات سقطن في الامتحانات وتعود أسباب فشلهن إلى أنهن يفكرن في الجنس أكثر من دروسهن ومستقبلهن
…
وأن (10 %) عشرة بالمائة فقط ما زلن محافظات) انظر ما نقل من جريدة الأحد اللبنانية عدد650.
فأين تهذيب الاختلاط للغريزة الجنسية؟ وأين تصريفها عن الميل؟ وأين تنظيفه وتطهيره لكوامن الشهوة؟
وأما تكذيبه بالواقع –فإن الحوادث المذهلة منتشرة من جراء الاختلاط كما اعترف بها الأعداء المروجون في الربع الأخير من هذا القرن. (والحق ما شهدت به الأعداء) .
منها: ما كتبه (جورج بالوش) في كتابه (الثورة الجنسية)(صرح الرئيس (كيندي) في سنة 1962م بأن مستقبل أمريكا في خطر لأن شبابها مائع منحل غارق في الشهوات، فلا يقدر عبء المسؤولية الملقاة على عاتقه، وأن من كل سبعة شبان يتقدمون للجندية يوجد ستة منهم غير صالحين لها؛ لأن الشهوة التي أغرقوا فيها أفسدت..) وإن قيل: إن هذا الادعاء لم يتحقق فأمريكا ما زالت من إمامة العالم (نقول: ومنها: ما صرح به (خروشوف) سنة 1962 (بأن مستقبل (روسية) في خطر، لأن شبابها لا يؤمن على مستقبلهم، لأنه مائع منحل غارق في الشهوات) .
ومنها: ما كتبته (جريدة الأهرام) المصرية في عددها الصادر 7/ 5/ 1965م (أن الجمعية البريطانية أصدرت لمعالجة الشذوذ الجنسي تقريرا اليوم قالت فيه: إن مليون رجل في بريطانيا –وربما أكثر- مصابون بالشذوذ الجنسي.)
ومنها: ما ذكره (جورج بالوش) في نيسان سنة 1964م من أنه (أثيرت في (السويد) ضجة كبرى عندما وجه (140) من الأطباء المرموقين مذكرة إلى الملك والبرلمان، يطلبون فيها اتخاذ إجراءات حاسمة للحد من الفوضى الجنسية التي هددت الأمة –حيويتها وصحتها- وطالب الأطباء بقوانين زاجرة ضد الانحلال الجنسي)
ومنها: ما نشرته صحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية في عددها الصادر 15/ 7/ 1979 من (أن: 75 % بالمائة من الأزواج يخونون زوجاتهم في أوربا وأن نسبة أقل من ذلك من المتزوجات يفعلن الشيء ذاته، وأن في كثير من الحالات يعلم الزوج بخيانة زوجته، وتعلم الزوجة بخيانة زوجها.. ومع هذا قد تستمر العلاقات الزوجية الشكلية دون أن يطرأ عليها انفصام) من باب المثل (أسكت عني أسكت عنك) .
ومنها: ما كتبته الكاتبة الأمريكية (هيلسبيان ستانسيري) في صحيفة (الجمهورية) يونيو 1962م تحت عنوان كاتبة أمريكية تقول: (امنعوا الاختلاط وقيدوا حرية المرأة) –كما نقله (السيد سابق) في (فقه السنة) - وخلاصته ما يلي: أن المجتمع العربي مجتمع كامل وسليم.
ومن الخليق به أن يتمسك بتقاليده التي تقيد الفتاة والشاب في حدود المعقول. وهذا المجتمع يختلف عن المجتمع الأوربي والأمريكي. فعندكم تقاليد تحتم تقييد المرأة، واحترام الأب والأم.. وتحتم عدم الإباحية الغربية، التي تهدد اليوم المجتمع والأسرة في (أوربا) و (أمريكا) .. وهذه القيود صالحة ونافعة.. لهذا أنصح بأن تتمسكوا بتقاليدكم وأخلاقكم.. وامنعوا الاختلاط، وقيدوا حرية الفتاة. بل ارجعوا إلى عصر الحجاب. فهو خير لكم من إباحية وانطلاق ومجون (أوربا) و (أمريكا) . امنعوا قبل العشرين. فقد عانينا منه في أمريكا الكثير. لقد أصبح المجتمع الأمريكي مجتمعا معقدا، مليئا بكل صور الخلاعة. وإن ضحايا الاختلاط والحرية قبل سن العشرين يملأن السجون والبارات السرية.
وقالت الكاتبة: (إن الاختلاط والإباحية والحرية –المطلقة- فينا هدد الأسر وزلزل القيم والأخلاق. فالفتاة الصغيرة فينا تخالط الرجال، وترقص وتشرب الخمر، والسجائر وتتعاطى المخدرات ومن هذا العرض السريع حول التبرج والاختلاط المشين، وما في ذلك من مأساة ونتائج وخيمة، وما أوردنا حوله من آيات ناهية وأحاديث فيها الوعيد الشديد اللهجة نعلم أن كلا من التبرج والاختلاط مظهر خطير لا يليق بالأمة المسلمة ولا يجوز لها) .
ومما أوردنا في العرض من أقوال الأعداء المخططين نتأكد من أن هذه المفسدة مدروسة ومرسلة إلينا من غزاة الفكر الإسلامي ليحطموا أخلاقنا وشرفنا. فأصابوا منا المقاتل كما اعترفوا به.
وإن ذلك التبرج والاختلاط الجاهليين وما صاحبهما من خلاعة وميوعة وانحلال هو مما اكتوى به غيرنا من الأمم المادية فذاقوا وباله قبلنا، كما نرى ونسمع مثل الحوادث التي نقلناها عن أصحابها.
وأن ذلك الوباء تسرب إلينا من تلك الأمم الغارقة بكيفية مخططة من قساوستهم وطواغيتهم. وقد فشا في مجتمعنا بسبب التقليد الأعمى.
وأن ما ادعوه من أن الاختلاط بين الجنسين فيه تهذيب للغريزة وتنظيف لها هو ادعاء باطل، يكذبه كل من الفطرة والواقع والتجربة.
وهذا مما لا يختلف فيه اثنان إلا من تجاهل عن الحقيقة أو تناسي عنها. أو من اغتر بما وصلت إليه تلك الأمم من تقدم مادي ولم يهتد إلى أن التقدم المادي له سبب مغاير عن تلك الخلاعة.
إذا عرفنا العلة وخطورتها وعرفنا السبب.
فلا بد لنا من أن نبحث عن علاج ودواء ناجع.
فأولاه: ترك أسباب الوباء وسد طرقه.
ولكن قبل الإشارة إلى طرق العلاج فلنكمل مبحثنا هذا بمبحث آخر وهو من نتائج التبرج ودواعيه وهو: الخمر والمخدرات وأضرارها وأسباب انتشارها وأحكامها.. فإليك ما يلي:
المبحث السابع
في الخمور ومظهرها وضررها في الأخلاق
وشيئ من أحكامها
الخمر: ما خامر العقل. رطبا كان أو يابسا. مأكولا أو مشروبا أو مشموما.. (فكل مسكر خمر، وكل مسكر حرام) . أخرجه مسلم، وابن حبان في صحيحه، وعبد الرزاق والدارقطني (نصب الراية للزيلعي) .
والخمر ظاهرة خبيثة قد عمت وطمت في كثير من مجتمعاتنا المنتسبة للإسلام، مع أن الجميع يعرفون ضررها على (العقل، والدين والمال والبدن) وتقتل الأخلاق قتلا فهي تغتال العقل، وتخرج منه تعظيم المحارم، وتذهب الغيرة منه، وتدعو شاربها إلى الزنا ولو من المحارم، وتهون له ارتكاب القبائح والآثام، كما يشهده الواقع. وهي رجس من عمل الشيطان العدو اللدود، وسلاحه الفتاك الذي يصد به عن ذكر الله، وإقام الصلاة ويوقع به العداوة والبغضاء بين الناس.. قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} . (1) كما هي تصدع الرأس وتسبب القتل، وتتلف الكبد والكلي. وتسبب الضعف العقلي والعصبي والجسمي. كما يشهده الأطباء وكما قاله كل من ابن القيم والذهبي.
وهي تنزف المال. وتورث الندامة والفضيحة، وتهتك الأستار وتفشي الأسرار وتلحقه بالمجانين، وتسلبه عن السمات الحسنى، فتكسوه أخبث الصفات..
(1) المائدة: الآية (90-91)
كما أنها توجب على شاربها ثمانين جلدة. وتمنعه من الإيمان حين يشربها. وتمنع شاربها غير التائب دخول الجنة، وتجعل مدمنها كعابد الوثن وملعون من الله ورسوله إذا لم يتب لما في الأحاديث الشريفة..
منها: قوله صلى الله عليه وسلم : ((اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث
…
)) أخرجه ابن أبي الدنيا. والبيهقي.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : ((مدمن الخمر كعابد الوثن)) . رواه ابن ماجه. وابن حبان في صحيحه – والبزار.
ومنها قوله صلى الله
عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) .
وفي رواية: "
…
فإذا فعل ذلك خلع ربقة الإسلام من عنقه، فإن تاب تاب الله عليه ". البخاري، مسلم في صحيهما.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((من شرب الخمر خرج نور الإيمان من جوفه)) . رواه: مسلم والنسائي.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم : ((اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، وهي مفتاح كل شر)) الحاكم وقد انعقد الإجماع على تحريمها لما في الآية الكريمة والآحاديث الشريفة السابقة..
ولما في تناولها من أضرار بالغة كما سبق الإشارة إليه –أيضا-.
وقد قيل: (إن الحكمة من تحريم الخمر هي المحافظة على سلامة دين المسلم وعقله وبدنه، وماله) .
ولذا حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر والاقتراب منها أو الاستفادة من إنتاجها فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وآكل ثمنها)) رواه أحمد والحاكم، وأبو داود، وابن ماجه، وصححه: السيوطي والألباني.
وفي لفظ آخر ((إن الله لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها وبائعها ومبتاعها وشاربها، وآكل ثمنها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، ومستسقاها)) . رواه أحمد بسند صحيح.
ومن أهم أسباب انتشار الخمر والمخدرات التي غيرت أخلاق كثيرة من شبابنا وأفسدت صحة كثير منهم، وتسببت لكثير من الحوادث.. ما يلي:
1-
إرسال شبابنا –وهو في عنفوان شبابهم- إلى بلدان (أوربا) و (أمريكا) وغيرها من البلدان اللادينية، ليتعلموا في جامعاتها قبل أن يتعلموا في بلداننا من الدين وعقيدته الراسخة وأخلاقه الفاضلة ما يكون لهم درعا متينا وحصنا حصينا من تسرب عوائد أهل تلك البلدان الإباحية. وغوائل أخلاقهم الشيطانية.. فعاشوا مع هؤلاء الإباحيين.. فتأثر أكثرهم بتلك الحياة الماجنة والشره العاتي. فتسربت العوائد والأخلاق الماجنة إلى قلوب أولادنا الغرباء، تحت تأثير مظاهر الحياة المادية المتقدمة هناك..
فعادوا إلينا وهو متعودون باستعمال هذا الشراب الخبيث فأصبحوا معلمين للآخرين من أجيالهم على ممارسة ما يمارسونه من هذا الإثم إلا من عصمه الله.
2-
وقبل ذلك جاء المستعمرون إلى بلداننا ليستعمروها ويجعلوها أسواقا لمنتجاتهم فمهدوا لها من يستهلكها في بلداننا.
3-
ومن أسباب انتشار الخمور والمخدرات في العالم الإسلامي، استيراد المستخدمين المتعودين على استعمال تلك المواد المسكرة من بلدان (أوربا) و (أمريكا) وغيرها من البلدان المتقدمة ماديا، المتحللة خلقيا.
4-
ومن تلك الأسباب التقليد الأعمى على هؤلاء الأجانب الوافدين المضلين، والتشبه بهم من هذه الناحية التقليدية السلوكية، فتأثر المسلمون بهم كما يتأثر الضعيف بالقوي.
5-
ومنها: الجهل المطبق أو التجاهل والتسامح المستمر في خطورة هذا الداء والوباء المتسرب من هؤلاء الماديين وانتشاره في المجتمع المغلوب عليه ماديا المهزوم فكريا..، وإرخاء العنان أو التسهيلات المادية والمعنوية لمريدي انتشار ذلك الشر المستطير.
6-
ومنها: فتح الأندية والمرافق السياحية التي شكلت وأسست على إطار شبيه وملائم بأوضاع عوائد الأجانب الذين لا يحترمون أوامر الدين والأخلاق وتلك المرافق موجودة في كثير من مدن العالم الإسلامي في الآونة الأخيرة بصورة جذابة.
ولا أقصد بهذا القول الأندية الرياضية كميدان الكرة والسباحة والفروسية، وغيرها من ميادين الألعاب الرياضية، التي تقوي الجسد أو تشحذ الذهن.. لأن تلك الألعاب وأنديتها مباحة ومفيدة شرعا، إن سلمت من مفسدة غير مقصودة منها.
وإنما نقصد بتلك الأندية والمرافق المحذورة شرعا، تلك الأندية التي أسست للهو، والقمار، والميسر، والخمر، والتقاء الجنسين.. لأن المقصود منها مفسدة محرمة شرعا.. هذه هي أهم الأسباب لانتشار تلك المفسدة في العالم الإسلامي في العصر الحاضر.. فإذا عُرفت العلة وخطورتها، والأسباب ومصادرها، فلا شك أن علاجها سيعود وهو إيقاف سير الأسباب ومنعها وسد مصادرها بحكمة ومداواة الجروح بأدوية مضادة لجراثيمها، وتغيير الجو الموبوء بتهيئة جو مناسب ونقي وطاهر ونظيف.. وسأذكر أسهل كيفية لمكافحة هذه المفاسد الخلقية الخطيرة –حسب نظريتي- في الفصل القادم، إن شاء الله.
الفصل الخامس
وفيه خلاصة ما توصلت إليه
المبحث الأول
لقد تبين لنا مما سبق من عرض المفاسد الخلقية المنتشرة من الملاهي الخطيرة. كالأغاني وآلاتها المطربة، ومرافقها من تبرج جاهلي واختلاط فاحش وما أردفناه خلفها من خمور مسكرة ومخدرات مشينة.
إن هذه كلها أمراض فتاكة قد اجتاحت مجتمعنا بصورة خطيرة من كل باب حتى أصبحت شيئا مألوفا عند كثير من أبنائنا وبناتنا.
وأن مفسدة كل من الأغاني المائعة، والتبرج، والاختلاط، والخمور، والمخدرات هي مفسدة ظاهرة لكل ذي عقل نير.
وأن الغناء المعروف بالتلحين والتمطيط على النغمات الموسيقية والمعازف والمزامير حسب أكثر الاستعمالات العصرية –قد اتفق على تحريمها جمهور علماء المسلمين من السلف والخلف كما اتفق على تحريمها أئمة المذاهب الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية والحنبلية. وذلك كله بأدلة من الشريعة من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين.
وأن من خالف الجمهور في ذلك من العلماء قلة قليلة قد أسقط دليلهم عن ميزان الأدلة وقيمها.
وأن كلا من التبرج الجاهلي والاختلاط والخمور محرم عند فقهاء المسلمين قديما وحديثا، بأدلة شرعية لا غموض فيها.
وأن انتشار هذه المفاسد في العالم الإسلامي بصورتها الحالية إنما هو من مخططات أعداء المسلمين والإسلام أولا، ومن وجودهم وممارستهم بها في المسلمين ثانيا. ومن الجهل المطبق وحاجتهم الماسة إلى ما عند هؤلاء من تقدم مادي ثالثا ومن التقليد الأعمى لهؤلاء والتشبه بمظاهرهم وعاداتهم ولهوهم تحت تأثير التفوق المادي في المتخلف المحتاج.. مع أن الشريعة تأمر أهلها بالتميز عن غيرهم بعقيدتهم، وعباداتهم وأخلاقهم، ومظاهرهم وغايات أعمالهم
…
ومن الفراغ الرهيب.
فلا بد لنا من الإشارة إلى شيء من أساليب الشريعة لمعالجة هذا الوضع، ومسؤولية تغييره.
إن الشريعة الإسلامية إذا حرمت فعلا من الأفعال على المسلمين فعلى كل واحد من أفرادهم البالغين أن يتركه إثر علمهم بذلك التحريم.
وإذا حرمت شيئا من الأشياء فالواجب على كل من بلغه هذا التحريم وعنده ذلك الشيء أن يتخلى عنه فورا.
وإنها إذا حرمت عادة من العادات المألوفة فيهم فعلي كل واحد منهم الاقتلاع عن ممارسته تلك العادة.
لأن ترك الحرام والتخلي عن المحرم وتغيير المنكر المفسد يكون على الأمة من جميع طبقاتها من غير استثناء في جميع الأوقات والأحوال إلا للتعذر والضرورة. والضرورة تقدر بقدرها.
فمسؤولية تغيير تلك المفاسد مسؤولية شاملة على أفراد المجتمع الإسلامي بدليل من الكتاب والسنة.. فمسؤوليته قبل كل شيء على الأئمة والحكام، كما هو المعروف ففي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم :((الإمام راع وهو مسئول عن رعيته)) إلى آخر الحديث، رواه الخمسة إلا النسائي.
وهي على عاتق المجتمع إذا قصرت الأئمة وطلبت معاونتهم ففي الحديث الآخر قوله صلى الله عليه وسلم : ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على متن سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم وقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا لم نؤذ من فوقنا؟ فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا)) رواه البخاري.
- وهي على عتق رب الأسرة والزوجة والخادم أو العامل بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : ((والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها والخادم في مال سيده راع ومسئول عن رعيته)) رواه الخمسة إلا النسائي.
-وهي على عتق كل أحد بقدر طاقته وخيلته إذا علم.. لما في الحديث المشهور قال صلى الله عليه وسلم : ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) رواه مسلم.
وفي الحديث: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته..)) . رواه الخمسة إلا النسائي.
من هذا كله نعلم علما أكيدا أن المسؤولية على جميع الأمة، فالكل متعاونون ومتكاتفون ومتساندون على تغيير كل مفسدة ومنكر، وعلى تنظيف وتطهير المجتمع من تلك المفاسد والمفاتن وعلى دفع كل ضرر عن الأنفس والأموال والأخلاق والأعراض.
وقد حدد الله سبحانه وتعالى لكل مؤمن ومسلم في هذه الحياة وظيفته الاجتماعية.. ومسؤوليته في حراسة مجتمعه بقدر وسعه ومكانته ومؤهلاته.. كما سبق فبأداء تلك المسؤولية يستحقون الرحمة والرضوان.. كما قال تعالى في سورة التوبة: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} . (1)
هذا وقد حدد الإسلام وفصل ورتب أمورا كثيرة لأداء الواجبات الأساسية وصيانة الأخلاق الأساسية، كما جعل لجماح كل غريزة من الغرائز الإنسانية ما يكبحها من القيود الشرعية، كما هذب كلا من غريزة حب التملك، والأنانية، وحب البقاء والبغض. في الحديث:((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) . متفق عليه.
وكما جعل حدا لكبح الغريزة الجنسية الجموحة. وهي من أعتى الغرائز على الإطلاق وذلك مثل غض البصر عن المحرمات: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} . (2) ومنع الخلوة لقوله صلى الله عليه وسلم : ((لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم)) رواه الشيخان.
ومنع التبرج.. قال تعالى لنساء النبي صلى الله عليه وسلم : {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} . (3) .
ومنع إبداء الزينة للأجانب لقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} . (4) وغير ذلك من المظاهر التي تثير الغريزة.
وكثيرا ما أشار الإسلام إلى كيفية المعالجة لكثير من المفاسد من غير بيان وتحديد فترك للناس اختيار الأسلوب كتحديد بعض الزواجر والتعازير المتنوعة مع أنه رسم قواعد أساسية عامة لا تخرج الحلول الشرعية عنها بحال من الأحوال.
(1) التوبة: الآية (71)
(2)
النور: الآية (30)
(3)
الأحزاب: الآية (33)
(4)
النور: الآية (31)
المبحث الثاني
في طريقة مكافحة المفاسد الخلقية
إن طريقة معالجة هذه المفاسد الخلقية الموبقة تكون في إطار القواعد الإسلامية التالية: (دفع الضرر مقدم على جلب المصالح) – و (المفاسد تدرأ وذرائعها تسد) و (الأرواح والعقول والأعراض والأموال محروسة) .
إن أقوم الطرق لمعالجة تلك المفاسد بصفة عامة وأسهلها وأوفقها لمبادئ الشريعة الإسلامية في هذه البيئة الموبؤة –حسب نظريتي- اتخاذ الخطط الآتية بصورة حازمة وبحكمة متناهية وهي:
1-
نشر الوعي الإسلامي في جميع الشعوب الإسلامية وترسيخ العقيدة في شبابها بصورة مدروسة مبسطة ومقننة ومدللة بأدلة مقنعة.
وتبصير الناس بخطورة الاندفاع وراء هذا التيار المادي الجارف القاتم، الذي هدد الأخلاق الفاضلة فهدمها في كثير من أمم العصر، والذي أهدر العفة والطهارة والكرامة فأقبرها. وأسقط الشرف والمروءة الإنسانية فسوى الإنسان بالحيوان العجم، بحيث يعم نشر هذا الوعي جميع طبقات المجتمع الإسلامي، كتربية إسلامية شاملة، ضمن التعاليم المختلفة والتوجيهات المتنوعة، حتى يكون للشخص المسلم شخصية متميزة من غيره في عقيدته وعبادته وأخلاقه وسلوكه، قبل الأخذ بالإجراءات، حتى لا يكون هناك حرج أو إكراه محظور، ولكي يتبين الحق من الباطل لدى الجميع، فيتضح أمامهم معني قوله تعالى:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} . (1) .
(1) البقرة: الآية (256)
2-
سن قانون موحد وشامل، إسلامي وإنساني في أن واحد لحماية الأخلاق والآداب.. ومعاقبة كل من لم يحفظه ولم يقف عند حده من جماعة المسلمين بشدة وحزم بعد إعلامه وذلك إما بحد صارم.. وإما بتعزير زاجر..
يشرط أن يتضمن ذلك القانون الأمور التالية بصفة واضحة.
3-
اختيار ملابس مناسبة لكل من الرجال والنساء أثناء وجودهم في غير منازلهم الخاصة.
وذلك كأن يختار للنساء لباسا يستر أجسامهن إلا الوجه والكفين –أو الذراعين- والقدمين. شريطة أن لا يكون مهلهلا ولا رقيقا في صنعه، ولا ضيقا ولا فضفاضا جدا في لبسه وتصنيفه. ولا مشوها للمنظر العام في صورته، ولا مانعا أو معوقا من ممارسة الأعمال من مشي وجري، وقيام وقعود، وأخذ ومد..
تمسكا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} . (1)
وبقوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} . (2)
وبقوله صلى الله عليه وسلم : ((إن المرأة إذا بلغت الحلم لا ينبغي أن يري منها غير وجهها وكفيها)) . البخاري.
(1) الأحزاب: الآية (59)
(2)
النور: الآية (31)
وبقوله صلى الله عليه وسلم : ((كل عين زانية، وإن المرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا)) يعني زانية، رواه أصحاب السنن.
ويترك تعيين ألوان تلك الملابس وأشكالها للشعوب وقادتها المحليين، تقديرا لرغباتها وتيسيرا لها ودفع الحرج عنها.
4-
تكليف التزام اللباس الموصوف على كل من يعمل عملا رسميا بصفة عامة.
وذلك التكليف ليس فيه تضييق في حريات الناس، بل فيه تعزيز وتشريف وتجميل وليس هو محظورا شرعا.
5-
والإشادة بالفضيلة والحشمة والعفة بجميع وسائل النشر والإعلام –كالإذاعة والتلفزة والصحف والمجلات، وكالأندية والمجاميع العلمية والعملية- وتنزيه جميع وسائل نشراتنا وإعلامنا بث الرذائل.
بشرط أن يلتزم ذلك الداعي والمذيع، والمخرج، وأصحاب الأندية والمنتزهات بالفضيلة والتزام الخلق الكريم لتكون دعوته إلى الأخلاق الفاضلة دعوة ناجحة، لمطابقة أقواله وأفعاله لما يدعو إليه.
قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} . (1){يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} . (2) .
وقال الشاعر الحكيم:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
6-
منع الصحف والمجلات المحلية عن أن تنشر الصور العارية أو القصص الغرامية ووضع الرقابة الآمنة الشديدة على مصممي الأزياء ومخرجي البرامج الثقافية والرياضية، والسياحية، وأصحاب النوادي الحرة، والمتنزهات وعلى مستوردي الأفلام والصحف والمجلات الأدبية والرياضية من الخارج؛ لأن إبراز تلك الصور مع ما يفعله المغرضون والعابثون حول هذه الميادين، لا شك أنه من الغش المحرم شرعا وعقلا. ففي الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وسلم :((من غشنا فليس منا)) رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
(1) البقرة: الآية (44)
(2)
الصف: الآية (2)
7-
منع الرقص الفاحش وما يتصل به من أغان وألحان وآلات مطربة وألعاب ساقطة، وملاهٍ محرمة
…
لأن هذه كلها محرمة شرعا –كما سبق- وأن مفاسدها جسيمة كما أسلفنا. فهذه والتي قبلها تستوجب المنع والحظر من كل الشعوب الإسلامية المتحضرة سدا للذرائع.
فإن قيل في تلك الأغاني والألحان وآلات الطرب والموسيقي
…
وتلك الصحف والمجلات المصورة (الصور الخليعة) كسب لأصحابها ورواج لتجارها وترفيه وتسلية وترويض لمشتريها ومستمعيها ومستهلكيها.. نقول: إن إثمها أكبر من نفعها، ومفاسدها أكثر من منافعها والقاعدة الشرعية الفقهية تقول:(درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) وإن هذا الكسب لكسب خبيث جدا لما في الحديث المروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (أخبث الكسب كسب الزمارة) . رواه ابن ماجه وابن أبي الدنيا بإسناد حسن. ولما في الحديث المرفوع عنه صلى الله عليه وسلم وهو أن ((بعثت بكسر المزامير والمعازف)) ثم قال: ((كسب المغنية حرام، وكسب الزانية سحت. وحق على الله أن لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت)) . رواه ابن الجوزي.
ولما في حديث صفوان بن أمية، قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء عمرو بن مرة. فقال: يا رسول الله، إني قد كتب على الشقوة، فما أراني أرزق إلا من دفي بكفي، فأذن لي في الغناء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا آذن لك
…
كذبت أي عدو الله، لقد رزقك الله طيبا حلالا. فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه عما أحل الله لك من حلاله. ولو كنت تقدمت إليك لفعلت بك وفعلت، فقم عني وتب إلى الله. أما إنك إن فعلت بعد التقدمة إليك ضربتك ضربا وجيعا، وحلقت رأسك مثلة ونفيتك من أهلك، وأحللت سلبك نهبة لفتيان أهل المدينة
…
)) رواه ابن ماجه وابن الجوزي في (تلبيس إبليس) والذهبي في (الميزان) وضعفوه.
ونقول –ايضا-: إن الإسراف في إنفاق المال أو القوة والتفكير، أو الوقت والصحة والترفيه المطغي لمما يحرمه الشرع. قال تعالى:{وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} ؟ (1) وقال: {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} . (2)
فمن هذه الآيات وغيرها نعلم تحريم كل من التبذير بأنواعه، والإسراف بأنواعه. وكذلك الترف، لأنه منكر في الإسلام وشريعته، لما يخلفه من انهيار وانحراف وانحلال وترهل في بنية الفرد وسلوكه، ولما يبثه من فساد وتعفن في كيان الفرد والجماعة فالمترفون كانوا –وسيكونون دائما- أسباب انهيار المجتمعات، كما هو الواقع، وكما أخبرنا الله تعالى في كتابه:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} . (3)
وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم : ((إن شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم، ونبتت عليه أجسامهم)) البزار.
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((إن القوم لما شبعت بطونهم سمنت أبدانهم فضعفت قلوبهم وجمحت شهواتهم)) رواه: البخاري.
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((إنما أخشي عليكم شهوات الغي في بطونكن، وفروجكم ومضلات الهوى)) رواه المنذري وأحمد.
ومن هذا كله نفهم أن الأمة قد أصيبت من هذا الجانب بتلك الأدواء المهلكة أمة مهزومة ومهددة الكيان خلقيا وعقليا بطوفان الوقاحة وجموح الشهوات من كل جانب وفي كل قطر من أقطار الأمة الإسلامية –إلا ما شاء الله-.
الهيجان الجنسي الخطير قد انبعث من تأثير الآداب المنحرفة، والصور المكشوفة والرقص والمسرحيات، فأضرمت نار الشهوة في العوام ثم الجرائد والمجلات المغرية أظهرت القصص الجنسية والصور العارية.. فنتج من ذلك الأمراض الفتاكة كمرض الزهري.
(1) الإسراء: الآية (26-27)
(2)
الأعراف: الآية (31)
(3)
الإسراء: الآية (16)
وفساد النظام العائلي. والاجتماعي والمالي.. وخلاصة القول منع تلك المظاهر المفسدة منعا باتا من جميع أقطار الأمة الإسلامية. لحرمتها بالنصوص السابقة، وردا لمفاسدها الخطيرة والتعزير الرادع على كل من لم يمتنع عنها بعد تحذيره عنها بشرط. أن يكون التعزير زاجرا عن ممارسة تلك المفسدة.
تنبيه في تعزير المجرم
" إن تعزير المجرم أمر مشروع، وهو تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود، وقد يكون تأديبا زائدا على حد ذنب له حدود مقدرة.
وهي أنواع وأشكال مختلفة، ويترك للحاكم أن يختار من بينها النوع الملائم للجريمة وحال المجرم، وهي تبتدئ بالإنذار والتهديد. وتنتهي بأشد العقوبات وقد تصل إلى القتل كقعوبة مدمن الخمر في المرة الرابعة، فعن معاوية بن أبي سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شارب الخمر:((إذا شرب فاجحلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب الرابعة فاضربوا عنقه)) . رواه أبو داود والترمذي، وابن ماجه برواة ثقات، وقد روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنه نحو هذا.
وعد من أنواعها تحريق البيت على من تخلف عن حضور الجماعة إذا لم يكن معه فيه من لم يستحقها من النساء والذرية. ففي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لهممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلا فيؤم بالناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم)) . رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية لأحمد: أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت صلاة العشاء، وأمرت فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار)) . رواه: الإمام أحمد.
ومنها عقوبة الحبس والتغريب والإبعادو التوبيخ والتهديد والتشهير.
ومنها: الغرامة وتضعيف الغرم، والغرامة المالية.
ومنها: الهجر والتهديد ومنع الاقتران بالنساء.
ومنها: العزل عن الوظيفة، والحرمان من بعض الحقوق، كالحرمان من تولي الوظائف العامة،، ومن تولي أداء الشهادات وكإسقاط النفقة ونصيبه في التركة.
ومنها: المصادرة والإزالة كمصادرة أدوات الجريمة وما حرمت حيازته وكهدم ما بني في مكان محظور، وكإعدام أواني الخمر وأدوات اللهو المحرم.... ولكل نوع من أنواع تلك التعاذير أدلة من الكتاب والسنة وعمل الصحابة والسلف الصالح. كما أن لكثير منها أمثلة وأقيسة. فمن ذلك ما يلي:
1-
أما تحريق البيت على المتخلف عن الجماعة: فقد سبق لنا حديث الصحيحين الدال على العزم الأكيد بالتحريق. وقد بينت الرواية الثانية على وجود المانع.... فمحمد صلى الله عليه وسلم لم ينفذ تلك العقوبة. ولكن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه نفذ شبه هذه العقوبة. فقد روي: " أن عمر رضي الله عنه أحرق قصر سعد بالكوفة لما احتجب فيه عن الرعية ".
وفعل عمر رضي الله عنه مثل هذا الفعل ببيت وجد فيه الخمر تعزيرا لصاحب البيت فقد روي أن عمر رضي الله عنه حرق بيت رجل من ثيف وجد فيه شرابا مسكرا وكان يقال لهذا الرجل: " رُوَيْشِد " فقال له: " فُوَيْسِق ". انظر " كتاب الأموال " لأبي عبيد ص: 102 وما بعدها.
وقد قيل: إن لهذا الخليفة العادل رضي الله عنه في التعزير اجتهادا وافقته عليه الصحابة لكمال نصحه ويقظته لمصلحة أمته. ووفور عقله وحسن اختياره للأمة وحدوث أسباب اقتضت تعزيره لهم تعزيرا زاجرا. ولم يكن مثلها في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم. أو زاد الناس عليها فمن ذلك أنهم لما زادوا في شرب الخمر وتتابعوا فيه بعد أن كان قليلا في عهده صلى الله عليه وسلم جعل حد الشارب ثمانين جلدة ونفي فيه ". انظر " إغاثة اللهفان " (1 / 333) .
2-
وأما عقوبة الحبس: فهي عقوبة تعزيرية ثانوية والحبس إما أن يكون محدود المدة وإما أن يكون غير محدودها: فالنوع الأول تعاقب به الشريعة على المجرمين غير المعتادين للإجرام. وأقل مدته " يوم وليلة " وحده الأعلى غير متفق عليه: فقيل: " بستة أشهر " وقيل " بسنة " وقيل: يترك تحديده لأولى الأمر: وهذا القول الأخير أقرب إلى الصواب، وإلى محاسن الشريعة ومرونتها ولكن يشترط فيه: أن يؤدي إلى إصلاح الجاني وتأديبه.
والنوع الثاني من الحبس يعاقب به المجرمون المعتادون على الإجرام. ومن لا تردعه العقوبات العادية فيكون المجرم محبوسا حتى يتوب. ويظهر صلاحه. وإلا يبقى محبوسا مكفوفا شره عن الناس.
وروري " أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة ". رواه: أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه وزاد الأخيران: " ثم خلى عنه ".
3-
وأما عقوبة التغريب فهي عقوبة تعزيرية يلتجأ إليها إذا تعددت أفعال المجرم وتعدت إلى اجتذاب غيره إليها أو إلى استضراره بها أيا كانت نوعية الجريمة وذهب أغلب الفقهاء إلى جواز زيادة التغريب عن سنة واستحسنوا ترك تحديدها لأولى الأمر. ويرى بعض منهم أن يوضع المغرب تحت المراقبة في المكان الذي غرب إليه.
وقد عاقب النبي صلى الله عليه وسلم بالتغريب على الرجال المتشبهين للنساء حيث أمر بإخراج المخنثين من المدينة. ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء. فقال صلى الله عليه وسلم : ما بال هذا؟ قالوا: يتشبه بالنساء. فأمر به فنفي إلى النقيع –بالنون-. فقيل: يا رسول الله ألا تقتله؟ فقال: إني نهيت أن أقتل المصلين)) رواه أبو داود. وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج المخنث)) أخرجه الطبراني. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء، وقال: أخرجوهم من بيوتكم، فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلانة، وأخرج عمر رضي الله عنه فلانا)) . رواه: الإمام أحمد والبخاري.
وعاقب بالتغريب –أيضا- كل من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما في الحديث الآنف الذكر، وكما في الحديث (أن أبا بكر الصديق أخرج مخنثا) . رواه البيهقي.
وفي الحديث الآخر: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخرج واحدا من المخنثين) رواه البيهقي.
وفي الأثر: (أن عمر رضي الله عنه عاقب نصر بن الحجاج بالنفي من المدينة) كما سبق.
وعاقب به –أيضا- صبيغا، مع الجلد والهجر عن كلامه حتى تاب، وكتب عامل البلد الذي غرب إليه إلى عمر رضي الله عنه بتوبته فأذن للناس في كلامه.
4-
وأما عقوبة الغرامة: ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((في كل إبل سائمة، في كل أربعين ابنة لبون لا تفرق إبلها عن حسابها، من أعطاها مؤتجرا فله أجرها. ومن منعها فإنا آخذها وشطر إبله
…
)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي. وقال ابن معين: إسناده صحيح كما في (زاد المعاد)(3/ 229) . فدل هذا الحديث على تعزير مانع الزكاة بأخذ شطر ماله.
وفي الحديث الآخر قوله صلى الله عليه وسلم : ((من خرج بشيء فعليه غرامة مثليه والعقوبة..)) رواه أبو داود والنسائي.
5-
وأما العقوبة بالهجر والتهديد والمنع من اقتران النساء (فقد عزر النبي صلى الله عليه وسلم بها على الثلاثة الذين خلفوا عنه صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك. كعب، ومرارة، وهلال) كما رواه البخاري ومسلم. وكذلك (عاقب بها عمر رضي الله عنه صبيغا) كما سبق.
6-
وأما عقوبة التهديد: فهي عقوبة تعزيزية شرعية، بشرط أن لا يكون التهديد تهديدا كاذبا، وأن يرى الحاكم صلاحه في تأديب الجاني، وذلك مثل: أن القاضي أن عاد المجرم إلى جريمة أنه سيعاقبه بالحبس، أو بأقصى العقوبة.. وقيل (إن من التهديد الشرعي حكمه بالعقوبة ثم توقيف تنفيذها إلى مدة معينة) .
7-
وأما عقوبة التشهير: فهي عقوبة تعزيرية شرعية تعاقب بها على المجرم فتحرمه من ممارسة الأعمال المدنية والاجتماعية.. ويحصل التشهير بالإعلان عن جريمة المحكوم عليه –ككذبه، وخيانته. وغشه، وسلوكه الخبيث- بجميع وسائل الإعلام.
8-
وأما عقوبة العزل عن الوظيفة والحرمان عن بعض الحقوق.. فهي صارمة يفقد المجرم بسببها كثيرا. فتفقد الزوجة الناشزة نفقتها واحترامها ويفقد الزوج الخؤون سكنه واحترامه.. ويعدم العامل المضيع أو الخائن.. عمله ووظيفته..
ويفقد التاجر الكذاب الغشوش
…
ثروته
…
ويفقد الصانع والمحترف والطبيب صنعته وحرفته
…
وهكذا هذه العقوبة تنطبق على جميع الموظفين، سواء كان عاملا رسميا أو مؤقتا.. وعلى أصحاب الحقوق فقاتل المورث يحرم من نصيبه في تركة المقتول تعزيرا له.
والغانم المجاهد يحرم من نصيبه من الغنيمة لغشه أو لتواطئه مع غيره، كما في حديث عوف بن مالك الأشعري في قصته مع خالد بن الوليد والمددي في غزوة تبوك
…
التي رواها مسلم في صحيحه وأبو داود في سننه. تركتها لطولها، وقلة جدواها لموضوعنا.
9-
وأما عقوبة المصادرة والإزالة فهي عقوبة شرعية رادعة. وهي تحصل بالمصادرة بأدوات الجريمة، كالبندق والمسدس، والخنجر
…
إلخ
…
وكمصادرة كل ما حرمت حيازته أو حظر لمصلحة المجتمع.
وتحصل بإزالة وهدم البناء الذي بني في مكان محظور أو بني لممارسة المحرمات فيه، كحوانيت الخمارين.. وبإعدام أواني الخمر وغيرها من آلات الملاهي والمخدرات والمواد المضرة المحظورة: انتهي التنبيه.
10-
الفصل بين الرجال والنساء –من غير مفاضلة بين الجنسين- في المدارس والمكاتب، والمتنزهات والأندية.. إلا فيما دعته الضرورة لأن الضرورات تبيح المحظورات ولكنها تقدر بقدرها –لما أسلفناه من الأضرار الجسيمة الناجمة من الخلطة الفاحشة. لا سيما المراهقين والمراهقات. ومن فوق هذه المرحلة من تلاميذ المدارس والمعاهد العلمية؛ لأن الاختلاط في المدارس في تلك المرحلة قد أضر كلا من البنين والبنات، بل تضرر البنات به أكثر وأشد من تضرر البنين به، كما هو الواقع، وشهد به دعاة الاختلاط أنفسهم في البلدان المتقدمة..
فالفصل بين الجنسين ضرورة حتمية لكل مجتمع يريد صيانة أعراضه وشرفه ودينه الحق من الضياع، ولكل مجتمع يريد التقدم العلمي والعقلي والأخلاقي لا بد له من مراقبة شبابه وصيانتهم من كل ما يدعوهم إلى الميوعة والانحلال.
ومعلوم أن الاختلاط قد عاق كثيرا من شباب هذا العصر المادي، وأفقدهم التوازن العقلي، ففشلوا في التعلم والتكسب، والتنمية الجسمية والصحية بسبب هيجان الغريزة الجنسية التي يثيرها داما ذلك الاختلاط والاحتكاك مع ما يصاحبه من الهيجان، كما سبقت الإشارة إليه.
فالشاب الذي وجد الفرصة للتعليم العالي لا يقدر ممارسة دراسته إلى تلك المرحلة، إلا النزر القليل، وما ذلك إلا من شؤم الاختلاط والاحتكاك الجنسي. فتراه وقد سقط فريسة لهذا الطوفان وقل في الشابة كذلك
…
فماذا ترجو ممن قلت فرصته من فرصة ذلك الذي كان من إمكانه أن لا ينشغل ولا ينجذب إلى لذة جنسية لولا هذا الاختلاط المثير
…
لأنه قد قيل: إن لذة العلم في المرحلة العليا من مراحل التعليم بل وفي مرحلة التفتح العلمي يعمي ويغني عن النكاح والتفكر فيه
…
وتري كذلك كثيرا من الشباب اليوم لا يقدرون ممارسة التجارة الخاصة، أو تنمية الثروة التي ورثها من والده.. وما ذلك إلا بسبب الاختلاط والتبرج المثير
…
وقل كذلك في فقدان القوة العقلية والفكرية والجسمية عند كثير من شبابنا فلنجزم الفصل بين الجنسين في الميادين التي ذكرناها. ولنجاوز كل ما أثاره الإباحيون حول الفصل والستر والحجاب.. بصفة لا تنقص المرأة ولا تخلفها عن الركب.. وقد يحتاج حل هذه المشكلة إلى تدابير عديدة قبل تقريرها.
أحسنها أن تكون محاولة الفصل بينهما بالنسبة للمتعلمين والمتعلمات كالآتي:
1-
تدريب معلمات متفوقات وتكوينهن تكوينا علميا وخلقيا لجميع مراحل التدريس لا سيما بما بعد الابتدائية، ولا بد للتغلب على الصعوبات أن لا يقل عدد هؤلاء المعلمات بالنسبة للمعلمين الذكور قدر ثلثهم. وذلك لكي يتغلب التعلل بقلة المعلمات.
2-
تكثير المدارس والمعاهد والجامعات في البلدان الإسلامية حتى يفحم المتعللون بقلة المدارس فيها واقعيا.
3-
ثم الفصل بين البنين والبنات على نحو الترتيب التالي: يكون الفصل بينهما:
أولا: في فصول التعليم.. ثانيا: في بناياتها. ثالثا: في ساحات الاستراحة والملاعب أو الساعات. رابعا: في تعيين المعلمات لفصول البنات والمعلمين لفصول البنين.. والأحسن أن يكون البدء بذلك: بالفصول الإعدادية –حتى يبلغ أعمار تلاميذها الرابع عسر أو الخامس عشر- ثم الثانوية ثم الكليات. وأخيرا في المدارس الابتدائية.. بشرط مساواة أكثر المواد المدروسة للبنين والبنات بصفة عامة ولكل نقطة من تلك النقط عللها، ومسوغاتها، وأسبابها وغاياتها
…
تركتها مخافة طول الكلام فيها.
ملاحظة:
قد يقول بعض من العلماء الغيورين: إن تعليم البنات مقصور ببعض سور القرآن وببعض أحاديث كلها تتعلق بعبادتهم وإطاعتهن لأزواجهن. وأما المعاملات بالتجارة والصناعة والزراعة وغيرها من المعاملات فلا تحتاج إليها.. إلخ لقلة مسؤوليتهن.. وقد يقول آخر: إن النساء مثل الرجال في كل عمل، فلهن ما لهم، وعليهن ما عليهم، فلهن أن يمارسن كل عمل تمارسه الرجال كالجندية والسياسة والهندية.. وغيرها مما سهل وصعب.. فنقول: إن كلا القولين مرفوض لما فيهما من التشدد والتساهل فأنا لا أوافق هذا في جميع ما قاله، ولا ذاك.. بل أقول: خير الأمور أوسطها.
وإن أصل طلب العلم وتعلمه فرض أو مندوب أو مباح. أو محرم أو مكروه. كما هو معروف، ففي الحديث المشهور قوله صلى الله عليه وسلم :((طلب العلم فريضة على كل مسلم)) . وفي رواية ((ومسلمة)) رواه البخاري في الصحيح. وابن ماجه في السنن. فمن هذا نفهم أن طلب العلم فرض وواجب على الرجل والمرأة المسلمين.
وقد قال الفقهاء (إن تعلم العلم يكون (فرض عين) بقدر ما يحتاجه الإنسان لإصلاح دينه ويكون (فرض كفاية) بما زاد عليه لنفع غيره.. ويكون (مندوبا) كالتبحر في علم الفقه وعلم القلوب.. ويكون (حراما) كعلم الموسيقي والشعوذة، والسحر، والتنجيم.. ويكون (مكروها) كأشعار المولدين من الغزل والبطالة، إلا لحاجة بلاغية علمية. ويكون (مباحا) كأشعارهم التي لا سخف فيها ولا كذب إذا سلمت من إضاعة الوقت) .
فلنكتف من هذه الأنواع بالنوع الأول وهو (فرض العين) : فمنه:
(معرفة حق الخالق، وحق المخلوقين علي مقتضي الشريعة. فيدخل في هذا القسم معرفة الله ورسوله.. والإسلام بصفة عامة، ومعرفة الطريق لإصلاح القلب والنفس.
ويدخل فيه تعلم الفقه المحتاج إليه بأنواعه: كالعبادات والمعاملات والأخلاق.. ومعرفة النواحي الأساسية في التربية الإسلامية ومعرفة شيء من السيرة وحياة الصحابة.. ومعرفة تجويد القرآن الكريم.
ومعرفة نواقض الإسلام وعلم رد الضلالات المنتشرة في كل وقت وما يناسبه.. وتعلم القتال أحكامه وأدواته وأساليبه بصفة عامة، والتعرف على أحوال المسلمين بقدر المستطاع.. فكل هذا فرض عين على الرجال والنساء من غير فرق) انتهي.
ومن هذا نعلم أن علوم العقيدة وعلم النفس والقلوب والفقه بأنواعه –ما عدا الحدود والفرائض والقضاء- وعلوم التربية والتاريخ، وعلوم القرآن، والأخلاق والدعوة والدفاع كلها تدخل في هذا القسم الذي يستوي في أصل تعلمه الرجال والنساء.
وأما العمل في نظر الشريعة فإنه عماد الحياة وأساس السعادة في كل أمة في جميع الميادين لذا حض الإسلام عليه ورغب فيه، ونوه به فقال تعالى:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} . (1) وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} . (2) . وقال: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} . (3)
وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} . (4) .
وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : ((ما من مسلم يغرس غرسا –أو يزرع زرعا- فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة)) .
وفي حديث آخر قوله صلى الله عليه وسلم : ((إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها)) البزار بسند ثقات، وأحمد وإسناده صحيح.
وفي حديث آخر قوله صلى الله عليه وسلم : ((إن الله يحب العبد المحترف)) .
وفي الحديث الآخر: ((اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا)) .
وقال عمر رضي الله عنه: (إني لأكره أن أرى الرجل، لا في أمر دنياه ولا في أمر آخرته) .
وقال فقهاء المسلمون: (لو احتاج المسلمون إلى صناعة إبرة ولم يوجد بينهم من يحسن صناعتها فكل المسلمون آثمون) .
فمن هذا نأخذ أن العمل واجب في جميع الميادين. فمن قصر فيه فعليه ذنب لا يغتفر إلا إذا عمله آخرون
…
كما هو واضح.
وإن العمل مطلقا حق لكل مسلم: ذكر أو أنثى، غني وفقير، صغير وكبير، عالم وجاهل. فلا يمنع منه إلا إذا ثبت ضرره له أو للآخرين. فيمنع عنه دفعا للضرر؛ لأن دفع الضرر مصلحة يرعاها الإسلام. لقوله صلى الله عليه وسلم :((لا ضرر ولا ضرار)) . رواه الإمام مالك وأحمد وابن ماجه والبيهقي والدارقطني.
(1) التوبة: الآية (105)
(2)
البقرة: الآية (29)
(3)
هود: الآية (61)
(4)
النساء: الآية (124)
فالعمل إذًا واجب على القادر في حدود قدرته لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} . (1)، ولقوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} . (2) .
وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : ((فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) متفق عليه.
فالعمل إذًا هو حق لكل من الرجل والمرأة على حد سواء فللمرأة أن تبيع وتشتري كما كان ذلك للرجل تماما، إذا لم يكن في ذلك ضرر لأحد.
ولها أن تمتهن العمل الذي تريده ما لم تضر به أحدا –كما كان للرجل- فإذا أضرت به أحدا منعناها منه.. وذلك: كالعزف على أدوات اللهو.. الذي يسهر الناس ويمنعهم من النوم أو يحرك الشهوة أو الطرب.. وكصنع الخمر أو شربه..
ولكن هناك أعمال معينة قد تكون المرأة أصلح من الرجل.. مثل:
تربية النشء والحضانة.. لما فطرت عليه من العطف والحنان والصبر.
كما أن للرجل أعمال معينة تناسبه فيكون أصلح وأحسن من المرأة كالقيادة، والملاحة العملاقة، والجندية..
وقال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} . (4)
وقال: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} . (5) .
فمجال العمل واسع ومفتوح أمام كل من الرجال والنساء. وكذلك العلوم بصفة عامة.. ((طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)) رواه البخاري وابن ماجه.
ولكن قد تكون بعض المهن أنسب للرجال دون النسائي بسبب الفطرة والخلقة. كما قد يكون بعضها أليق وأسهل للنساء دون الرجال بمقتضي الفطرة والميول.
(1) البقرة: الآية (286)
(2)
آل عمران: الآية (97)
(3)
النساء: الآية (34)
(4)
النساء: الآية (19)
(5)
البقرة: الآية (228)
فالجندية بحذافيرها هي أنسب للرجل بسبب مرونة أجسامهم وأعصابهم وعروقهم. وبسبب ميولهم الغريزية إليها. لذا ترى الأطفال يختارون اللعب بأدوات الفروسية كالبندق والرمح والحراب بخلاف الطفلات فلا تراهن إلا وقد اخترن الدمية واللعبة الجميلة المنظر والناعمة الملمس. فالبنات ألطف وأرحم وأحب للجمال والنظافة منذ طفولتهن من البنين. كما هن أصبر على مساعدة الضعفاء والمرضي وحضانة الأطفال والدواجن وتنظيف الأدوات إذا عقلن من الرجال.. والبنون أغلظ وأشد وأميل إلى مقابلة الشدائد من النساء وأصبر على ممارسة الأعمال البطولية والحربية.. فلذا نقول لم يبتعد عن الصواب بل هو في بحبوحة الحق والعدل من يقول: إن الله قسم ممارسة الأعمال بين الرجال والنساء نسبيا.
فالجندية ومهنة البنايات وممارسة المصانع الثقيلة وقيادة الناقلات العملاقة والخوض في قاع البحار المتلاطمة الأمواج. وغيرها من الأعمال التي يحتاج صاحبها إلى صلابة جأش وأعصاب قوية.. كل ذلك من خصوصيات الرجال بطبيعة الحال. ولو لم يمنع النساء من ممارسة تلك الأعمال، كما في حديث ربيع بنت معوذ رضي الله عنها ((لقد كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم لنسقي القوم ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة)) رواه البخاري.
وتمريض النساء الحاملات منذ العلوق إلى الوضع وما يعقب ذلك مما يتعلق بمعالجة مشاكل النساء الداخلية.. التي هي أعمال وأعراض ضرورية دائمة الحصول.. كلها أعمال من خصوصيات النساء.
وكذلك حضانة الأولاد –ذكورا وإناثا- وترتيب الأدوات والأثاث المنزلية وصيانتها وكثير مما يخص المنزل بداخله وما يخص الأطفال.. كل ذلك –أيضا- من الأعمال الخاصة بالنساء. فينبغي لهن التخصص بهذه الأمور علميا وعمليا، لأن مهارتهن في هذا المجال أكثر بكثير من غيره.
وما عدا ذلك من الأعمال فهو مشترك بين الجنسين، فكل منهما يمكن أن يكون معلما، أو طبيبا، أو فقيها، أو مهندسا، أو تاجرا أو كاتبا
…
إلخ.. ولو كان البعض منها أنسب للرجال من النساء والعكس صحيح.
ولو هيئ للرجال علميا ما يناسبهم من الأعمال والوظائف وللنساء ما يناسبهن من الوظائف منذ المرحلة الإعدادية أو الثانوية بصفة خاصة لكان أولى وأسلم. اهـ.
ونضيف إلى ما سبق من الأمور التي فرضناها لدرء تلك المفاسد الخلقية ما يلي:
9-
منع تصنيع الخمر في بلد ما من البلدان الإسلامية تمسكا بالقاعدة الفقهية القائلة: (الضرر يزال) لأن في الخمر ضرر محض لكل من العقل والمال. والنفس والنسل والدين والشرف والخلق. وإنها هي الداء بعينه كما في الحديث الشريف، فقد قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حينما سمع أن بعض الناس يقولون –بغير علم- أن فيها شيء من الدواء. ((ليس فيها دواء بل هي الداء)) أو كما قال.
ومن لم يقتنع بهذا وزعم أن فيها شيئا من المنفعة والفائدة المالية للبائع مع ما سبق أن أوردناه في مبحث الخمر السابق من الوعيد الشديد لكل من البائع والمشتري
…
فلا بد أن يقتنع الأطباء، وبالتجربة التي تشهد لصدق قول الرسول صلى الله عليه وسلم السالف الذكر، وإن القاعدة الشرعية العامة تقول:(دفع الضرر مقدم على جلب المصالح) .
10-
إيقاف ومنع استيرادها من الخارج بصورة قاطعة، ولو كان في البلد الإسلامي أناس غير المسلمين ولو كان ذلك الغير هو المستورد وحده لأنه لا حق له في إنشائها في المجتمع الإسلامي ومن منع هذه المادة المضرة منهم من المسلمين –خصوصا الحكام- فهو محسن ومأجور من الله. وما في بعض كتب الفقه الإسلامي من أن الخمر مباح لغير المسلمين في بلد إسلامي غير صحيح لأن ضررها ليس للدين فحسب بل هو ضرر للعقل وغيره.. مع أن الوضع قد تغير.
وأن هذا الضرر ضرر أصيل يعترف به الجميع ولذا حاولت الحكومة الأمريكية منعها عن بلدها سابقا فلم تنجح، وكذلك بعض الدول الأوربية في أوائل هذا القرن. بخلاف الإسلام فإنه نجح بمنعه سابقا.. وسينجح به الآن إذا عزم أهله –إن شاء الله-.
11-
ومعاقبة كل من يحاول إدخال الخمر ونحوه في بلد إسلامي عقابا شرعيا أقله التعزير بأنواعه المختلفة التي سبقت.
* فيؤخذ منه حاملته وجميع ما اكتسب من تجارة نلك المادة الخبيثة بعد إعلان الحظر..
* ويحرق حانوته إن كان خصيصا لهذه المادة، ولم يمكن الانتفاع لغيرها.
* ويحبس إذا لم ينته عن ذلك. فيبقي في الحبس حتى يتوب.
* ويطرد عن العمل والوظيفة الاجتماعية إن كان موظفا..
وذلك كله استنادا لما سبق من الأحاديث النبوية والآثار العمرية من تحريق الحانوت وتفسيق صاحبه. والقواعد الفقهية.
12-
ومعاقبة كل من يتعاطاها من المسلمين، عقابا أقله:
* الطرد عن العمل الحكومي وغيره من الوظائف الرسمية، لأنه أصبح غير مأمون.
* ومنعه عن العمل الرسمي إن لم يكن عاملا إلى أن يتوب لأنه أصبح فاقد الأهلية للأعمال.
* ثم طرده عن المدن إلى القرى مع التعذيب الجسدي إلى أن يتوب من تعاطيها.
*ثم الحبس المحدد المدة: من (يوم كامل) ثم (أسبوع) ثم (شهر)(فشهرين)(فأربعة أشهر)(فسنة كاملة) .
* ثم الحبس غير المحدد فيبقي في السجن حتى يتوب أو يموت.
ذلك كله عملا بما سبق في التعازير من الأحاديث والآثار. على سبيل التدرج في العقوبات.
13-
منع إرسال الشباب المسلمين إلى البلدان الإباحية إلا من يوثق به، ويؤمن عليه من التأثير بأخلاق الإباحيين وعاداتهن –مهما كان المقصود من إرساله- عملا بالقاعدة الفقهية الحكيمة التالية:(درء المفاسد أولى من جلب المصالح) .
14-
منع استيراد المستخدمين من تلك البلدان اللاأخلاقية. إلا من لا يمارس تلك المادة المفسدة. أو يستغني عنها، بشرط أن يلتزم العفة أثناء وجوده عندنا.
15-
معاقبة المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء. بعد إعلان منع تلك الظاهرة. وهي ظاهرة يستند لمعرفتها إلى العرف. فمتي حصلت مشابهة الرجل بامرأة في لباسه وشعره بتفاعل منه، فإن هذا الرجل متخنث غشوش، فاستوجب العقاب لزجره عن ذلك التمويه. وكذلك المرأة المترجلة تستوجب العقاب. تعزيرا لكل منهما:
وعقاب كل من المتخنث والمترجلة التهديد والتنكير وإزالة الشبهة والنفي أو التغريب. لما سيق من الأحاديث الواردة في ذلك.
فعن أنس رضي الله عنه قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء. وقال: أخرجوهم من بيوتكم، فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلانة، وأخرج عمر فلانا.)) رواه أحمد والبخاري.
وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج المخنث)) . أخرجه الطبراني.
وعن يعلي بن مرة رضي الله عنه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا متخلقا. فقال له: اذهب فاغسله، ثم لا تعد)) رواه الترمذي والنسائي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه (أنه لعن الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل) . رواه الحاكم.
وعنه رضي الله عنه ((أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء فقال: ما بال هذا؟ قالوا: يتشبه بالنساء. فأمر به فنفي إلى النقيع
…
)) رواه أبو داود.
وعن أنس رضي الله عنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل)) . رواه الجماعة إلا مالكا.
وروي (أن أبا بكر أخرج مخنثا، وأخرج عمر واحدا من المخنثين) رواه البيهقي.
16-
سد الفراغ المخيم على ساحة المجتمع المسلم المعاصر بصفة عامة وشبابه غير المتدين بصفة خاصة بتوجيهات حكيمة ومكثفة على الأعمال الجدية النافعة، وبفتح مجالات العمل في الأقطار الإسلامية جمعاء.. وبالرياضيات النزيهة التي من شأنها التقوية للأجساد. والتشحيذ للأذهان، والتعارف بين الشباب في الشعوب الإسلامية. كالمسابقات المباحة كالمسابقة بالأقدام وبالخيول، والمصارعة، وبالرمي ورفع الأثقال. وبالكرة وأنواعها المعروفة من غير هيجان المتفرجين.
وخلاصة القول ونهاية المطاف:
إننا إذا أردنا أن نطهر أخلاق أمتنا وسلوكها من المفاسد الخطرة، وندافعها من الفواحش والرذائل، وننقذ أبنائنا وبناتنا من الميوعة والخلاعة والانحلال، ونحصنهم بحصن حصين من كل ما يتسرب إليهم من الأعداء.. من كل ما يضعف القوة ويعدم العزة والمنعة ويمزق الجماعة ويبدد كلا من العقل والعِرض، والصحة والمال، والخلق والدين
…
فلا بد لنا من تنفيذ تلك الأمور السابقة. وأمثالها في أسرع وقت
…
حتى نصل الهدف المنشود من بحوثنا، ألا وهو إنقاذ أخلاقنا الإسلامية وتنظيف مجتمعنا من المفاتن والمثيرات الجنسية.. ولا يمكن هذا التنظيف إلا بتنظيف كل من البيت والشارع والسوق والمؤسسة والمدرسة، والجامعة والنادي، والشاطئ والمسرح والملعب والإذاعة والتلفزة.. من كل متبرجة، أو صورة عارية متحركة أو ساكنة، أو أغنية فاجرة، أو قصة ساقطة مهيج للشهوة والغضب، ومن كل مثير للغريزة الجنسية سواء كان هذا المهيج أو ذاك المثير امرأة ساقطة أو مسرحية آثمة أو تمثيلية مائعة، أو بيتا داعرا أو أفلاما خليعة أو آلات مطربة أو مزامير شيطانية.
كما أنه لا بد لذلك من إنشاء برامج نظيفة من كل تلك الرذائل ومتنوعة لسد الفراغ المخيم في أمتنا.
بشرط أن يكون بعضها رياضيا، وبعضها ثقافيا وبعضها علميا.
ومسؤولية ذلك التنظيف والتطهير لَمِنْ واجبات الحكام والشعوب والأفراد وكذلك إنشاء البدائل..
وإلى هنا آخر ما توصلت إليه من نتائج في بحث هذا الموضوع. وأسأل الله الكريم أن يجعل هذا البحث خالصا لوجهه، وأن ينفع به المسلمين..
وصلي الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
هارون خليفة جيلي
المناقشة
بسم الله الرحمن الرحيم
كيفية مكافحة المفاسد الأخلاقية
الرئيس:
الحمد لله رب العالمين، وصلي الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الموضوعات المطروحة في جدول أعمال هذه الدورة موضوع كيفية مكافحة المفاسد الأخلاقية في العالم الإسلامي وقد أعدت في هذه الموضوع عدة أبحاث والعرض لسعادة الطبيب محمد على البار ليتفضل بإعطائنا عرضا عن هذا الموضوع.
الدكتور محمد على البار:
سماحة الرئيس، أصحاب الفضيلة العلماء الأجلاء، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله الذي نهى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن والقائل:
{وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} . (1) . والقائل سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} . (2) وقال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} . (3)
وقد أمر المولى سبحانه وتعالى نساء النبي ونساء المؤمنين بأن يقرن في بيوتهن قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} . (4) وأمرهن بالحجاب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} (5) . وقد مدح المولى سبحانه وتعالى الحافظين لفروجهم والحافظات وأخبر أن الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وهدد كل الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا بأفظع تهديد وأرعبه. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ} . (6) وفرض سبحانه عقوبة شديدة على الزناة قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . (7) .
(1) الأنعام: الآية (151)
(2)
الاسراء: الآية (32)
(3)
النور: الآية (30-31)
(4)
الأحزاب: الآية (33)
(5)
الأحزاب: الآية (59)
(6)
النور: الآية (19)
(7)
النور: الآية (2)
والصلاة والسلام على أفضل خلقه وأكرمهم عليه الذي حذر من الزنا وعواقبه الوخيمة وأول تلك العواقب وأخطرها بالنسبة للمسلم ذهاب الإيمان. قال صلى الله عليه وسلم : ((إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان فكان كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه الإيمان)) وقال صلى الله عليه وسلم ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) . وفي رواية النسائي (فإذا فعل ذلك، خلع ربقة الإسلام من عنقه، فإن تاب تاب الله عليه) .
وثاني تلك العواقب الوخيمة: عذاب الله تعالى يوم القيامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :((إن الزناة تشتعل وجوههم نارا وفي النار نهر يجري من فروج المومسات يؤذي أهل النار ريح فروجهم)) .
وثالث تلك العواقب الوخيمة: عذاب الله في الدنيا: ((إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله)) .
((ولا تزال أمتي بخير ما لم يفشو فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا فأوشك الله أن يعمهم الله بعذاب)) .
((وما نقض قوم العهد إلا كان القتل بينهم، ولا ظهرت الفاحشة في قوم إلا سلط الله عليهم الموت ولا منع قوم الزكاة إلا حبس عنهم القطر)) .
((ولم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)) .
وهذه الأحاديث من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم .. وها هو الموت ينتشر بانتشار الفاحشة وها هي الأوجاع والطواعين التي لم تكن معروفة من قبل تنتشر كلما انتشرت الفاحشة، والطاعون يطلق في اللغة مجازا على كل وباء. وإلا فهو وباء مخصوص وكلما انتشرت الفاحشة ظهرت معها مجموعة من الأمراض الجنسية التي لم تكن معهودة من قبل.
وأول ظهور لمرض الزهري المعروف باسم (السفيلس) أو داء الفرنجي، كان في عام 1494م، عندما انتشر الزنا في الجنود بصورة واسعة أثناء الحرب الإيطالية الفرنسية وسماه الإيطاليون الداء الفرنسي وسماه الفرنسيون الداء الإيطالي.. وسماه أهل الشام الداء الفرنجي. وقد قتل هذا المرض في خلال القرون الأربعة الماضية عشرات الملايين وأصاب مئات الملايين بأمراض فادحة.
وفي العصور الحديثة ظهرت أمراض جديدة لم تكن معهودة من قبل: أشهرها وأكثر تسببا للرعب مرض الإيدز أو مرض فقد المناعة المكتسبة الذي لم يعرف بهذا الاسم إلا عام 1981م وسرعان ما تضاعف عدد الحالات بسرعة رهيبة وعلى هيئة متواليات هندسية حتى بلغ العدد بنهاية 1987م أكثر من مائة ألف حالة مرضية لا يرجى لها شفاء وما بين خمسة و10 ملايين شخص يحملون الفيروس ويتوقع أن يظهر في 50 % منهم، هذا المرض اللعين خلال السنوات الخمس القادمة. وهناك مرض الهربس (العقبولة) التناسلي الذي انتشر انتشارا مرعبا منذ بداية الثمانينات ويبلغ عدد ضحاياه في الولايات المتحدة فقط أكثر من عشرين مليون شخص ولا علاج له حتى الآن.
ما هو مدى انتشار الأمراض الجنسية؟
يقول مرجع مرك الطبي (إن الأمراض الجنسية هي أكثر الأمراض المعدية انتشارا في العالم اليوم، ويزداد في كل عام عدد المصابين بها، وتقدر منظمة الصحة العالمية الإصابات التالية سنويا:
250 مليون شخص مصابون بالسيلان ما يسمى (التعقيبة) أو الجدنوريا.
400 إلى 500 مليون شخص مصابون بمرض يسمى الكلاميديا وهو (التهاب مجرى البول الجنسي من غير سيلان) وناتج عن طريق الزنا أو اللواط.
وهناك 50 مليون حالة شخص الزهري الأولي أو الثانوي في كل عام.
كما أن هناك عشرات الملايين من المصابين بالهربس، والإصابة السنوية في الولايات المتحدة نصف مليون شخص.
وهناك عشرات الأمراض الأخرى المنتشرة بين الزناة والشاذين جنسيا مثل التهاب الكبد الفيروسي من نوع B وثاليل التناسل والاتهاب الجيبي المغبني والورم البلغمي الزهري والقرحة الرخوة، وجرب التناسل وقمل التناسل..
ويقول قرار منظمة الصحة في الاجتماع الثامن والعشرين وهو قرار قديم (1975)(إن الأمراض الجنسية هي من أكثر الأمراض المعدية انتشارا في العالم. وتشكل تهديدا خطيرا على الصحة العامة في العالم اليوم. وللأسف فإن كثيرا من الدول لم تدرك بعد أبعاد هذه المشكلة) .
ويشهد العالم أجمع زيادة كبيرة من الأمراض الجنسية، ورغم أن الإحصائيات المرعبة تركز على هذه الزيادة في الولايات المتحدة وأوربا إلا أن الدراسة المتأنية توضح أن الأمراض الجنسية ربما كانت أكثر انتشارا في أفريقيا الاستوائية وشرق آسيا ودول أمريكا اللاتينية ففي إحصائيات عام 1975 ظهر أن 470 شخصا من كل مائة ألف شخص مصابون بالسيلان في الولايات المتحدة بينما كانت النسبة 8.9 بالمائة من الذكور و18.3 بالمائة من الإناث في أوغندا. وينتشر في المناطق الاستوائية بالإضافة إلى الإيدز والسيلان والكلاميديا والزهري. أمراض أخري تعتبر نادرة الوقوع نسبيا خارج المناطق الاستوائية وهي الالتهاب الجيبي المغبني والورم البلغمي الزهري والقرحة الرخوة.
ما هي أسباب انتشار الأمراض الجنسية؟
من أهم أسباب انتشار هذه الأمراض:
- انتشار الشذوذ الجنسي: وخاصة في الغرب. ففي الولايات المتحدة قرابة 20 مليون شاذ جنسيا ويفاخرون بذلك. وقد خرج الشذوذ الجنسي من دائرة السرية إلى العلنية وهناك كنائس ومعابد تزوج الرجال على الرجال والنساء على النساء في الولايات المتحدة وغيرها. ولا يقتصر الشذوذ الجنسي على طبقة معينة في المجتمع وإنما يشمل كافة الطبقات.. بما في ذلك الرهبان والقساوس والربيون والأحبار من اليهود وقد ذكرت صحيفة (الديلي ميل) و (الديلي ميرر) أن 40 % من الرهبان مصابون بالشذوذ الجنسي وأن 80 % منهم زناة.
2-
موجة الإباحية والثورة الجنسية: والتحلل من الأخلاق والقيم في الغرب وتصدير ذلك إلى كافة بقاع العالم.
3-
السبب الأهم في رأينا هو (سيطرة اليهود على أجهزة الإعلام) ومراكز التوجيه بحيث أصبح الجنس أمرا عاديا لا يخجل منه وبحيث أصبحت العفة والطهارة تثير الخجل في كثير من المجتمعات. وقد عمل اليهود من خلال أجهزة الإعلام والجامعات ومراكز التوجيه على نشر الزنا واللواط على نطاق واسع ثم قاموا بعد ذلك بنشر نكاح المحارم والاعتداء على الأطفال جنسيا.
وكمثال لنشر اللواط قام ضابط يهودي في الجيش الأمريكي بتعليق لافته على مكتبه كتب عليها أنا شاذ جنسيا وعندما قام الجيش بطرده، قامت أجهزة الإعلام بحملة ضخمة ضد الجيش التي اضطرت صاغرة إلى إعادته. وطلب الرجل لإلقاء محاضرات في كثير من الجامعات الأمريكية.
وقامت مدرسة يهودية شابة بخلع جميع ملابسها وممارسة الجنس مع طلبتها في المرحلة الثانوية أثناء تدريس مادة الجنس وهي مادة تدرس في جميع المدارس ولما أوقفتها إدارة المدرسة عن هذا التدريس العملي نشرت الصحف البريطانية وبخاصة (الديلي ميل) و (الديلي ميرر) التي يملكها مردرخ اليهودي صورتها عارية مع الطالبة بإعادتها وقامت المظاهرات الضخمة واضطرت إدارة المدرسة صاغرة لإعادتها لتقوم بواجبها المقدس كما سمته المجلة في تعليم الطلبة الجنس واقعيا.
وقام فرويد العالم النفسي اليهودي بنشر تلفيقاته التي روجها اليهود بحيث أصبحت تدرس في معظم جامعات العالم.. ومنها أن الطفل عندما يلتقم الثدي إنما يقوم بعملية جنسية مكثفة وأن الطفل الذكر يحب أمه جنسيا ويكره أباه وسمي ذلك عقدة أوديب، وأن البنت تحب أباها جنسيا وتكره أمها، وسمي ذلك عقدة أليكترا.. وتحدث عن أن الشذوذ الجنسي مرحلة مهمة في حياة الإنسان ولا بد أن يمر بها وإلا أصابه الكبت.. والعقد النفسية.
وقد نشرت التايم في 14 أبريل 1980م تحقيقا واسعا عن ما يسمى نكاح المحارم وقال فيه أحد الباحثين الإنثربولوجي يسمى يهودية كوهين والاسم واضح أمامكم: (إن منع نكاح المحرمات ليس إلا من مخلفات الإنسان البدائي الذي احتاج لإجراء معاهدات خارج نطاق الأسرة فقام عند ذلك بمنع نكاح المحارم. وبما أن ذلك لم يعد له أهمية فإن هذا المنع أصبح أمرا قد عفى عليه الزمن.
ويقول الباحث جون موني من جامعة هوبكنز وهي من أشهر الجامعات الأمريكية وأحد الباحثين في الجنس في الأمة الأمريكية كما تقول التايم يقول: إن تجارب الطفل الجنسية مع أحد أقاربه الكبار أو غيرهم من البالغين لا يشكل بالضرورة ضررا على الطفل.. ويهاجم هو وعشيقته جيرترود وليامز المجتمع الأمريكي الذي لا يزال يعتبر من يمارس الجنس مع أمه أو أخته أو ابنته، وكأنه مارق على الدين في مجتمع من مجتمعات العصور الوسطي.
ويقول الباحث الجنسي وادل بومري: لقد آن الأوان لكي نعترف بأن نكاح المحرمات ليس شذوذا ولا دليلا على الاضطراب العقلي بل إن نكاح المحرمات وخاصة بين الأطفال وذويهم أمر مفيد لكليهما.
ويطالب سيمور باركر من جامعة يوتاه: بإزاحة الشعور بالذنب عندما يقوم شخص ما بنكاح ابنته أو أخته أو أمه ويسأل: ما هي الجدوى التي ستعود من ربط نكاح المحرمات بهذا الشعور من عدم الارتياح بدلا من المحبة والدفء الذي يشعه نكاح المحرمات؟
وتقول التايم: إن مجلس المعلومات والتثقيف الجنسي في الولايات المتحدة وهي مؤسسة ضخمة قد أصدر تقريرا طالب فيه بقوة نشر نكاح المحرمات على نطاق واسع في المجتمع الأمريكي.
ونتيجة لذلك فإن 10 % على الأقل من العائلات الأمريكية المحترمة تمارس نكاح المحارم كما تذكر صحيفة الهيرالد تربيون الأمريكية.. وتقول دائرة المعارف البريطانية الطبعة الخامسة عشر 1982م، إن الاتصال الجنسي بين الأخ وأخته واسع الانتشار جدا في الدول الغربية.. وفي الواقع لا يشكل ذلك أي ضرر ولا ينبغي الاهتمام به.
ويقول الباحثون الجنسيون وأغلبهم من اليهود كما تنقله عنهم التايم: إن جميع الاتصالات الجنسية مفيدة ولو كانت بين الأب وابنته أو بين الأم وابنها أو بين الأخ وأخته. نعم كلها مفيدة جدا. ولكن الضار فقط هو الشعور بالذنب والإحساس بالخوف.. وأخطر شيء هو الكبت. نعم هو الكبت.
وقد ذكرت وكالة الأنباء الفرنسية (نقلا عن الاتحاد الأسبوعي) في 12 يناير 1984م أن عدد الفتيات اللائي كانت لهن علاقة جنسية مع آبائهن في الولايات المتحدة تقدر بـ12 إلى 15 مليون فتاة.
وإننا نستطيع أن ندرك دور اليهود في نشر الفواحش جميعا إذا ما طالعنا التوراة المحرفة. والتوراة تسمى العهد القديم ويتعبد بها اليهود والنصارى وهي ضمن ما يسمى الكتاب المقدس الذي يشمل الأناجيل ويسمون الأناجيل العهد الجديد والتوراة العهد القديم.
وقد جاء في التوراة المحرفة أن لوطا عليه السلام –كذبًا وافتراءً- شرب الخمر وزنى بابنتيه وولدت له الكبرى ولدا سماه مراب وهو أبو المرابيين، وولدت له الصغرى ابن عمي وهو أبو بني عمون. (سفر التكوين الإصحاح 30-38) .
وزنى يهودا بن يعقوب عليه السلام بزوجة ابنه، كما أن راوبين الابن الأكبر ليعقوب زنى بزوجة أبيه. مرجع (سفر التكوين الإصحاح 35) .
وفي التوراة المحرفة أن إبراهيم عليه السلام اشتغل قوَّادا وعرض زوجته على فرعون مصر من أجل الذهب. وأن إسحاق ابنه فعل ذلك مع ملك الفلسطينيين أبي مالك مرجع (سفر التكوين الإصحاح 12) .
كما جاء في التوراة المحرفة أن الأنبياء ابتداء من نوح عليه السلام كانوا يشربون الخمر ويسكرون حتى يتعروا دون أن يشعروا. وقد ورد أن يعقوب سرق وقتل غيلة وكذب وحمل الأوثان. ذلك المرجع (سفر التكوين الإصحاح 28-30) .
كما ورد أن داود عليه السلام –كذبا وافتراء- زنى بخليلة جاره واحتال لقتله حتى يتخلص منه. أما سليمان فتكذب عليه التوراة المحرفة وتدعي أنه كان زانيا وعابدا للأوثان. وكذلك اتهمت التوراة المحرفة هارون عليه السلام بأنه هو الذي صنع العجل وأمر بني إسرائيل بعبادته.
وزني آمون بن داود بأخته حسب نصيحة الحكيم يوناداب. المرجع سفر صموئيل رقم (2) الإصحاح 13 وفي التلمود ما هو أفظع من ذلك بكثير وفيما ذكرناه غنية.
4-
من الأسباب المهمة في رأينا إخراج المرأة متبرجة إلى ميادين العمل، وقد أدى ذلك إلى نشر الإباحية بصورة مضطردة وقد ذكرت الباحثة (لين فارلي) في كتابها: ابتزاز المرأة العاملة جنسيا قصصا مرعبة وهو بحث مقدم للجامعة نالت به درجة الدكتوراة قصصا مرعبة من ابتزاز المرأة العاملة جنسيا ابتداء من أماكن اللهو والفنادق والمصانع وانتهاء بإدارات البوليس والقضاء ورئاسة الجمهورية والكونجرس الأمريكي ومنظمات الأمم المتحدة.
5-
أدي خروج المرأة للعمل إلى فقدان الأطفال لرعاية أمهاتهم.. وبالتالي إلى نشوء جيل بلا محاضن فاقد للحنان ودفء الحياة العائلية. وتذكر التقارير الطبية أن خروج المرأة إلى العمل أدى إلى الاعتداءات الرهيبة على الأطفال، ففي الولايات المتحدة يعتدى سنويا على ما يقرب 5 مليون طفل اعتداءات جسدية وجنسية من ذويهم وأقاربهم. ويعتبر أهم ثاني سبب لوفيات الأطفال من الولادة إلى سن الخامسة هناك الأمهات العذارى (بالملايين) في الولايات المتحدة.
نشر المعلومات الجنسية في أجهزة الإعلام والمدارس.
انتشار تجارة البغاء على نطاق عالمي. وخاصة في العالم الثالث.
السياحة من أهم أسباب انتشار الأمراض الجنسية وخاصة في مناطق البلاد العربية وفي منطقة الخليج.
السفر من أجل العمل. وهناك ملايين من الأشخاص يسافرون بدون زوجاتهم وتضطرهم فترة العزوبة الطويلة في بعض الأحيان مع فقدان العامل الديني والوعي الديني إلى ممارسة الزنا.
الهجرة من الريف إلى المدينة.
دور الخمور والمخدرات.
القوانين الوضعية التي تسمح بالزنا ما دام بين شخصين بالغين عاقلين بدون إكراه وخارج نطاق الزوجية وتسمح جميع القوانين الوضعية للأسف الشديد بما فيها بعض البلاد العربية والإسلامية الأخرى بممارسة الزنا ولا تعاقب عليه إذا كان خارج منزل الزوجية بالنسبة للرجل حتى ولو كان متزوجا وتسمح كذلك للمرأة بالزنا إذا لم تكن متزوجة أو عند انفصام عقد الزوجية إذا انفصم عقد الزوجية بموت أو طلاق لا تعاقب إذا مارست الزنا.
هناك أيضا مشاكل بالنسبة للخمور والمخدرات وبعض الإحصائيات التي أحب أن أوردها لكم. التقارير في الحقيقة كثيرة في هذا الباب للأسف الشديد.
تنتشر الخمور وتعتبر الخمور حسب تقرير منظمة الصحة العالمية رقم 650 لعام 1980م أن الخمور تعتبر أكثر المواد المسببة للإدمان انتشارا في العالم.
وقد تفاقمت مشكلة الخمور وبلغت الزيادة خلال العشرين عاما الماضية في بعض مناطق آسيا 500 بالمائة وفي بعض مناطق أفريقيا 400 ووصلت الخمور إلى أعماق الأرياف قبل أن تصل المياه النظيفة وخدمات المجاري. وتنتشر الخمور في كثير من مناطق العالم. وفي الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة والدول الأوربية. هناك نسب عالية من الإدمان تذكر منظمة الصحة العالمية أن الخمور مسؤولة عن:
86 % من جميع جرائم القتل تحت تأثير الخمور.
وأن 50 % من جميع حوادث الطرق تحت تأثير الخمور.
وأن 50 % من جميع حوادث الاغتصاب تحت تأثير الخمور.
وتذكر دائرة المعارف البريطانية أن معظم حوادث الاعتداء على المحرمات إنما يقع أساسا تحت تأثير الخمور.
عدد الذين يلاقون حتفهم بسبب الخمور في الولايات المتحدة فقط 70.000 شخص سنويا كالآتي:
30.
000 (50 % من حوادث المرور) .
20.
000 (الأمراض الناتجة عن الخمور) .
20.
000 جرائم قتل وانتحار تمت تحت تأثير الخمور.
وتبلغ الخسائر الاقتصادية للخمور في الولايات المتحدة أكثر من 50 ألف مليون دولار، أما الاتحاد السوفيتي فإن الخسائر أفدح من ذلك بكثير مما أدي بالرئيس جورباتشوف إلى أن يقوم بأضخم حملة عرفها الاتحاد السوفيتي.
البلاد العربية: رغم أن الخمور ليست منتشرة في البلاد العربية والإسلامية بصورة واسعة لكن القوانين الوضعية تبيح استخدام هذه الخمور.
وذكر الدكتور الباقر في دراسة عن تعاطي الخمور بالسودان عام 75/ 76 أن 47 % من سكان الخرطوم الذكور البالغين تعاطوا الخمر وأن 13 % من هؤلاء كانوا يتعاطونها يوميا. وأن 52 % من حوادث المرور كانت بسبب الخمور.
وذكر الدكتور على التويجري مجلة رسالة الخليج العربي أن شاربي الخمور في عاصمة عربية لم يذكر اسمها يدفعون 3195 مليون جنيه. وأن دولة عربية محدودة السكان شربت عام 1981م تسعة ملايين لتر من الخمور.
المخدرات: تقرير منظمة الصحة العالمية:
ما تنفقه دول العالم على المخدرات أكثر من 300 ألف مليون دولار والولايات المتحدة 60 ألف مليون دولار.
أما البلاد العربية: فذكر د. على التويجري أن ما تنفقه البلاد العربية على الخمور والمخدرات يبلغ 64 ألف مليون دولار سنويا.
ذكرنا أن القوانين الوضعية في البلاد العربية وكثير من البلاد الإسلامية تبيح موضوع الزنا وللأسف أيضا تبيح هذه القوانين شرب الخمور طالما أنها كانت في أماكن محدودة في بعض البلاد ورغم أن الخمور هي أشد ضررا من المخدرات من الناحية الصحية ومن الناحية الاجتماعية ومن الناحية الشرعية إلا أن القوانين الوضعية تسمح:
أ- بصناعة الخمور وترويجها.
ب- بيع الخمور في محلات مرخصة.
ج- بتناول الخمور وتعاطيها بشرط عدم قيادة السيارات وعدم تسبب إزعاج للغير.
وللأسف الشديد تقوم بعض الدول ومنها دول مسلمة أو عربية بتصنيع هذه الخمور مثل مصانع البيرة وتمتلكها الدولة وتقوم الدولة بذاتها بالترويج لها. وتعتبرها أحد إنجازاتها الثورية.
وفي الجانب الآخر نجد كثيرا من الدول الإسلامية عربية وأعجمية بدأت تخطو خطوات سليمة في تحريم تعاطي الخمور. ولكنها مع ذلك لا تعتبرها مثل المخدرات فعقوبة تجارة المخدرات تصل في كثير من الأحيان إلى الإعدام.
وأما عقوبة التجارة في الخمور فتصل في بعض البلاد المتشددة كما يسمونها إلى السجن أو الغرامة المالية أو كلاهما معا.
وعقوبة حمل شجيرة القات أو بعض كمية من الحشيش قد تصل إلى الإعدام أو السجن بينما حمل كرتونة من الويسكي لا تزيد عن السجن بضعة أشهر.
ولست أدري ما هو المسوغ في التفريق بين الخمور والمخدرات.
إذ إن التحريم جاء نصا في الخمور وتدخل المخدرات ضمنا في ذلك.
وأضرار الخمور صحيا واجتماعيا أكثر بكثير من أضرار المخدرات وكما يقول تقرير منظمة الصحة العالمية فإن أضرار الخمور تفوق دون ريب أضرار المخدرات الأخرى مجتمعة.
تبقي مشكلة أخري بالنسبة للتدخين، التدخين لا يسبب سكرا ولا ضياعا للعقل ولكنه يقتل أكثر من مليون شخص نتيجة تعاطي التبغ بطرقه المختلفة وتدفع شركات التبغ أكثر من 2000 مليون دولار سنويا. فما هي المكاسب التي تكسبها؟ للأسف تذكر شركات التبغ في استراليا في تقرير حديث نشرته مجلة لانس الطبية في نوفمبر 1987م وهذا التقرير شجاع لمدة ربع قرن من الزمن تقول الشركات: (ونحن نحاول أن نخفي الحقيقة أو نخفف من وقعها. وقد عملنا بشتى الوسائل الخفية والعلنية للتقليل من الأضرار الصحية لتدخين التبغ. إننا نعترف الآن بأننا نقوم بقتل 23 ألف مواطن من سكان استراليا سنويا. ونحن نشعر بثقل المسؤولية ولا نستطيع أن نواصل الإعلان والترويج لمادة تسبب هلاك هذا العدد من البشر. ومنذ عام 1962 وحتى عام 1984م قمنا نحن أصحاب شركات التبغ بقتل 470.000 مواطن استرالي. ثم ذكرت بعد ذلك بالتفصيل كم قتلت كل شركة من الشركات.
لقد أثبتت الأبحاث الطبية أن أهم سبب للوفيات هو تدخين التبغ ومع هذا فإن شركات التبغ هذه تقوم بحملات دعائية ضخمة لتزيد من مبيعاتها وخاصة في العالم الثالث. وفي الوقت الذي انحسرت فيه مبيعاتها في الدول الغربية ازدادت هذه المبيعات في دول العالم الإسلامي، وكمثال فقط فقد زادت المبيعات في المملكة العربية السعودية من 4.000.000 كيلوجرام سنة 1972م إلى 36.000.000 كيلوجرام سنة 1981م بزيادة قدرها قرابة 900 بالمائة.
أكتفي بهذه المعلومات وأترك لأصحاب الفضيلة والسماحة كيفية مكافحة هذه الرذائل مجتمعة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته) .
الرئيس:
وعليكم السلام ورحمة الله.
كانت أمانة المجمع قد عهدت إلى بعض أصحاب الفضيلة أعضاء المجمع بإعداد ورقة يمكن أن يستخلص منها التوصية التي ستصدر من هذا المجمع. وهي الآن مع فضيلة الشيخ عمر الأشقر فليتفضل بقراءتها.
الشيخ عمر الأشقر:
بسم الله الرحمن الرحيم.
تقويم الانحراف الخلقي – التفاعل بين العقل وبين نتائجه:
إن الظاهرة المميزة لاندفاع الحركة العقلية منذ عصر النهضة تبدو في الربط الوثيق بين الحركة الفكرية وأدوات الكون للكشف عن قوانين المادة، ولقد أثر هذا المسار في العقل ذاته وفي القيم والمعايير. وفي السلوك الفردي والجماعي.
التفاعل بين الإنجاز العلمي والأخلاق:
إن التحول المستمر للبشرية وهي تكسب كل يوم كشفا جديدا يمكن لها من الانتفاع بخيرات الكون الظاهرة والكامنة، تراكم منه على المعايير الخلقية المأثورة من نتائج الكشف العلمي ما غطَّى كل ما سبق، وأبرز للحياة صور جديدة، محورها الذي تدور حوله كل اهتمامات الفرد وهو الانتفاع بهذه المكاسب التي تجعل الحياة المادية أكثر متعة.
وبرزت في السطح الذرائعية والوجودية والشيوعية كفلسفة وكتطبيق خلقي.
المعايير الخلقية – المعايير الاقتصادية:
إن دخول الطاقة المادية في الإنتاج بجانب الطاقة البشرية والحيوانية تراكم منه فيض من المصنوعات التي تدعو إلى تكوين أسواق تستهلك ما يقدم لها حتى تستمر حركة النمو في اطراد ومن هنا نشأت المعايير الخلقية الاقتصادية وإذا أردنا أن نجملها نجد أنها تشتمل:
1-
ضمان السوق مفتوحة لاستهلاك ما تنتجه المعامل وهذا يفرض:
أ- أن يكون المنتج منضبطا في مواعيده.
ب- أن يكون صادقا في وصفه.
ج- أمينا في تعامله.
وهذه صفات خلقية رفيعة جعلت كثيرا من الناظرين في شؤون المجتمعات يقولون: إن الغربيين كفرة في الباطن مسلمون في التعامل عكس المنتسبين إلى بلاد الإسلام مع أن الحقيقة هو أن الدافع لذلك ليس التسامي الخلقي ولكن بقاء السوق ملتهما لما تخرجه المصانع هو الذي طبعهم على هذا السلوك.
د- أن يكون ماهرا في الدعوة إلى منتجاته وهذا ما فتح سوق الدعاية المبنية على إبراز إيجابيات السلع وكتمان عيوبها وتولد منها أيضا أنانية تعرف حدا في سوق التنافس وتحطيم الخصم ما دام ذلك الطريق يحقق نتائج أفضل أو التكتل وفرض قرارات على السوق إن كان هذا المنزع أفضل. فكانت الشراهة والجشع صفات خلقية لازمة للحضارة الصناعية.
هـ- التسلط على الضعيف أفرادا أو شعوبا ضمانا للسوق فكان ما قاساه العمال وثوراتهم وتمزق المجتمعات في كثير من الدول. وكان ما قاساه العالم من استعمار توطيني وعسكري قم ما يقاسيه اليوم من تحكم اقتصادي وامتصاص لخيراته امتصاصا يبقي على التبعية ويجعل الأنظمة كلها هشة لا تصمد تحت القبضة الحديدة الماسكة.
العالم الإسلامي:
إن انهزام العالم الإسلامي أمام التطور والقوة للعالمين الأول والثاني جعله في واقعه يتبع أحد الخيارين:
1-
التحلل من كل القيم الخلقية الاقتصادية إلا قيمة واحدة تحقيق الربح العاجل السريع فكانت مظاهر الكذب والخداع وخلف الوعد ظواهر مزرية ومخزية في العالم الإسلامي.
2-
التقليد للتعامل الاقتصادي للعالم المتقدم في إيجابياته وسلبياته ولم يظهر لحد الآن نشاط اقتصادي إسلامي حقيقة يستطيع في آن واحد أن يفرض نفسه على السوق العالمية بمنجزاته وبقيمه الخلقية.
إن التجربة التي أخذت بها منظمات مالية في السنوات العشر الأخيرة من إحداث البنوك الإسلامية لهي تجربة يجب أن تلقي من التأييد والدعم والتجويد ما يجعلها صورة جديدة تقدم للعالم ممكنة من السيولة المالية نظيفة من الجشع المادي. كما أن الوحدة الإسلامية الاقتصادية تعتبر شرطا حيويا لتطور العالم الإسلامي.
إن الاتحاد كقيمة خلقية إسلامية وإن التنازع والأنانية كتنكر للمنهج الإسلامي في تكوين الجماعة، احترام ذلك هو المخلص الوحيد للعالم الإسلامي في فرض قيم حقيقية للمواد الأولية التي غنت بها أرض الإسلام كما أن الجباية السوقية للعالم الإسلامي في وحدة هو الذي يجعل الاقتصاد في العالم الإسلامي وهو يمثل خمس سكان المعمورة عدديا يجعل الاقتصاد الإسلامي قوة تفرض نفسها على حماية لذاتها من الذوبان والتبعية.
3-
وبهذا تكون القيم الخلقية الاقتصادية نابعة من قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} . (1)
ومن قوله {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} . (2)
4-
كما أنه لا بد من توجيه التربية في المدارس إلى غرس القيم الخلقية الاقتصادية في الناشئة بتدريبهم عليها عمليا بالانضباط والصدق والأمانة والشجاعة في سبيل الهدف النبيل ولو كان في ذلك تحديد للمغانم.
المعايير الاجتماعية:
إن المعايير الاجتماعية في عصرنا الحاضر تنقسم إلى قسمين:
1) المعيار المدني 2) المعيار الذاتي.
المعيار المدني:
إن الكثافة السكانية لأوربا وسبقا في التطور الاقتصادي والانفجار الصناعي الضخم عرض حلولا تلائم تلك المعطيات.
(1) آل عمران: الآية (103)
(2)
الأنفال: الآية (60)
1-
التوسع خرج حدودها الإقليمية بما استعمرته من شعوب وأرض وخاصة في استبدال شعب القارة الأمريكية بأبنائها.
2-
التوسع العمودي في بناء المدن مما حرم الأسرة والفرد من الاستقلال في سكنه. وهذه فرضت جملة من الأخلاق:
أ- النظافة واحترام الممتلكات العامة فكان الفرد يطوع حياته للحياة الاجتماعية، يحافظ على نظافة الشارع وعلى الممتلكات العامة وعلى حقوق الجوار في العمارة والانتظام التلقائي كلما اتحدت الرغبة في الشيء الواحد بتقديم السابق إلخ.
إنه لولا الالتزام بهذه الأخلاق لكانت الحياة ثقيلة وشاقة بل مستحيلة.
ب- إن الشعور بالتنازل الدائم عن حرية الفرد ليتلاءم مع غيره كانت إحدى الأسباب القوية التي ولدت عشقا للحرية الفردية في أشياء كثيرة وفرض على المجتمع قبول أنماط من السلوك والمظاهر ما كانت مقبولة من قبل ومن هنا برز المعيار الذاتي.
المعيار الذاتي:
لقد ضخمت الحضارة الغربية بصفة خاصة من تقديس الحرية الفردية وجعلت هذه القيمة هي عنوانها الذي يميزها وتعيش من أجله وتكافح بكل الوسائل وغيرها لتضمن الحرية لجميع الأفراد.
إن الحرية فرضت نفسها كمارد يعبث بكل القيم ويهدم كيانها حتى عاد على الحرية ذاتها بالتدمير.
أولا: الحرية الجنسية: كانت الحرية الجنسية أقسى الأوبئة فتكا بالبشرية من نواح عديدة:
1) قتل الحياء كقيمة من القيم وقبل المجتمع كل مظاهر التهييج الجنسي وإبراز مواطن الإثارة الجنسية –إباحة الملاعبة في الأماكن العامة الشارع وعربة النقل العام والحديقة وساحة المعهد والكلية.
2) تجريد الاتصال الجنسي من قداسته التي هي ضمان استمرار الجنس البشري واعتباره رغبة بيولوجية تشبع كما يشبع الإنسان نفسه من الطعام والشراب. وبهذا أصبح الاختلاط الجنسي لا يخضع إلا لأمر واحد هو رضا الطرفين. فكانت الفوضى الجنسية. لقد جرت هذه الفوضى ويلات على البشرية.
3) تضخم عدد الأطفال اللقطاء نتيجة الاتصالات غير الشرعية وجبن الأبوين عن تحمل تبعات فعلهما.
4) تضخم عدد النساء اللاتي يلتجئن إلى الطبيب للإجهاض أو قتل المولود بمجرد نزوله إلى الأرض.
5) انتشار الأمراض التناسلية وإن استطاع الطب أن يتغلب على آثارها بواسطة المضاعفات الحيوية بعد الحرب العالمية الثانية إلا أنها ما تزال تؤثر على التركيب النفسي والجسمي لكثير من المصابين.
6) ظهور مرض فقد المناعة وانتشاره انتشارا خطيرا؛ إذ هو يبلغ في البلدان المجموعة الأوربية 100 % كل تسعة أشهر.
7) التجاهر بالشذوذ الجنسي تجاهرا جعل المنحرفين يكونون نقابات للدفاع عن حقوقهم وما ترتب عنه من تضاعف المصابين بفقد المناعة.
8) تولد عن الإثارة زيادة حوادث الاغتصاب وما يقارنها من جرائم قتل أو مضاعفات نفسية تلازم المعتدى عليه طول حياته.
9) تزعزع البيت فأصبح الوفاء لعقد الزوجية وفاء ضعيفا مما اضطر المشرع الفرنسي مثلا إلى اعتبار ولد الخليلة ابنا شرعيا وارثا.
10) استخدمت وسامة المرأة استخداما ماديا حطم قيمتها الإنسانية فإذا نهدها وفخذها وعينيها وأنفها وفمها وأسنانها ورقبتها وقوامها وبطنها أجزاء وكل تستخدم لترويج السلع وزيادة الإقبال على المستهلك؟
ثانيا: تحرر الزوجين من واجبات التربية:
العلة الأولى التي أخذت في الانتشار هي مركبة بيولوجية ونفسية أعني انصراف الأم عن إرضاع ولدها حفاظا على وسامتها، وإما لأن العوامل النفسية سلبت الأم القدرة على الرضاعة وتنازلت الأم عن مركزها كمصدر للحنان والعطف والغذاء وتلبية الحاجات، تنازلت عنه إلى البقرة في لبنها المجفف والتقم الرضيع رأس المطاط والقارورة اليابسة الباردة بدل النهد المعطاء الدافئ.
أصبح كل واحد من الزوجين يجد في البيت ثقلا تحديدا لحريته وانقسم رد الفعل من جهة إلى قسمين تبعا لمركز العائلة في الثراء أو العادات.
1-
العائلة المرفهة ماديا شغلت الأم عن البيت باللقاءات والاجتماعات وقسمت اهتماماتها بين حضور الحفلات وبين الإعداد لها والعناية بها. والمزايدة في إبراز قوة الثروة والقدرة على الإسراف والتبذير.
2-
العائلة ذات الدخل المحدود الأمر الذي دفع الأم إلى الخروج إلى سوق العمل وبذل المجهود كامل اليوم خارج البيت.
النتائج: هو أنه في القسم الأول أوكل تربية الأطفال إلى الخدم الذين ينشؤونهم على ما ربوا عليه من تحلل خلقي أو نقمة على المجتمع وبغض للآخرين.
وفي القسم الثاني أوكل تربية الأطفال لدور الحضانة أولا ثم المبيتات أو إهمال الأطفال تحتضنهم مدرسة العراء –الشارع- وما يعج به من مشاكل وانحراف.
كما أن الأب انصرف عن البيت لأن مغناطيس البيت عديم الفاعلية مشغول بذاته عن استقطاب العائلة فانصرف إما إلى الحضن الذي يهتم به ويجد فيه الدفء أو إلى الاجتماعات التي تملأ عليه فراغ يصرف فيها وقته أو إلى المخدر الذي ينسيه همومه ويحوله من عالم الحقيقة المرة إلى عالم الخيال يستمتع فيه بالرؤى ويهدم بدنه وماله.
وشارك الشباب الصاعد الكهول في البحث عما يلهيهم عن مجابهة صرامة الحياة وعبوسها فالإحصائيات تدل دلالة قاطعة على أن الإقبال على المخدرات والكحول يتضاعف ويشتد خطره مع الزمن.
العالم الإسلامي:
لقد قلد العالم الإسلامي العالم الصناعي في معاييره الخلقية وهو يجري لاهثا ليلتحق به حتى يكون صورة طبق الأصل وبهذا نجد كل يوم اقترابا من تلكم الصورة وإن كانت المحاسن لا تبرز بروز السلبيات؛ لأن المحاسن تقتضي الجد وصرامة الإرادة والقوة الذاتية الدافعة للخير، وذلك مرتقى أصعب منالا من السوالب التي تدعو إلى الدعة وتساعد أنانية الفرد على الطغيان والتحكم.
إننا اليوم في أشد الحاجة إلى إحياء جملة من قيمنا العليا التي نخرها التقليد ووهنها الضياع. إنه من ضرورات البقاء أن نرفع من قيمة الحياء والعفاف والوفاء للرابطة العائلية والقيام في شجاعة وصبر على ما يتطلبه مواصلة حمل أمانة الاستمرار البشري فوق هذه الأرض.
إن دور التربية من رياض الأطفال إلى الجامعة هي التي لا بد من أن ننظر فيها نظرة جديدة تخرج بها من التعليم المعرفي إلى التربية المتكاملة.
إنه إذا كان المخبر ضرورة من ضرورات التعليم بجانب القاعة للنظريات فإن السلوك والعناية به هو المخبر الذي يزكي النظريات الخلقية.
أن الأخلاق التي لا تجد مددا من روح الإنسان وريًّا من منابع الدين هي أخلاق جافة مهتزة لا قرار لها.
أثر المعايير الثلاثة:
إن المعايير الثلاثة مجتمعة قد ولدت ظاهرة خطيرة هددت حياة الأفراد والجماعات أعني ظاهرة العنف.
إن التحدي الذي يزداد عنفا كل يوم بإشعار الفرد أنه محروم: محروم أولا من امتلاك ما تهيجه الداعية لامتلاكه عاجز عن مسايرة سوق العرض، ومحروم ثانيا من المفاتن التي تغريه فتمثل أمامه لاهبة عواطفه وغرائزه في كل لحظة، ومحروم ثالثا من توازنه النفسي إذ ضخمت الحضارة حسه المادي وقتلت قلبه وروحه.
هذه التحديات الثلاث ولدت العنف في شكله الجماعي والفردي فالحربان العالميتان وذيول الحرب العالمية الأخيرة والسطو لامتلاك المال والتمييز العنصري والاغتصاب وتحكم القوى الصناعية في اقتصاد العالم وجشع رأس المال في تكبيل العالم الساعي نحو الرفع من مستواه بالربا وخنق إنتاجه والمؤامرات المحبوكة لتوهين قيم المواد التي يعتمدها. كل ذلك خطوط كبرى ترينا شقاء العالم بهذه الحضارة وتدعو ذوي النفوس الصالحة الخيرة إلى إنقاذه مما تردى فيه اعتمادا على قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الحكيم الترمذي: ((رأس الحكمة مخافة الله)) . وابن عدي: ((رأس الدين الورع)) . والطبراني: ((رأس العقل بعد الإيمان التودد إلى الناس)) .
ويجمع ذلك كله قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . (1)
وصلي الله وسلم على عبده ورسوله.
(1) الحجرات: الآية (13)
الرئيس:
الشيخ أحمد. مع ملاحظة أن هذا الموضوع تعلمون أنه ليس ولله الحمد محلا للبحث أو محلا للتردد فالكل متفقون عليه وهي منكرات ومفاسد بإجماع المسلمين وإنما تأخذ مناقشتين أو ثلاث من باب التطعيم وإلا فإن الموضوع في نظري إذا رأيتم ذلك مناسبا يؤلف له لجنة من الشيخ أحمد جمال، والشيخ عطا السيد والأستاذ الطيب محمد على البار ويعدوا القرار اللازم لهذا الموضوع وبه ينتهي لأجل أن يشخصوا المفاسد بكلياتها ويشخصوا طرق المكافحة الشرعية لها. عندئذ ألا ترون أن نكتفي بهذا الشيء؟ لأن إذا أراد أحد أن يتكلم فليس أمامنا إلا خمسة دقائق ثم صلاة المغرب.
الشيخ أحمد محمد جمال:
كلمتي هذه أخيرة ووجيزة، أخيرة ووجيزة لأنها تتعلق بنظام المجمع وإدارة الحوار فيه أرجو أن تغفروا لي هذه الصراحة. والملاحظ على نظام المجمع وإدارة الحوار فيه أمران:
الأول: أن أصحاب الفضيلة عندما يتحدثون عرضا أو تعليقا يطلبون الرد أو التعليق أو الحوار ويخرجون عن الموضوع المطروح أو القضية المطروحة بعيدا جدا. وهذا أضاع علينا وقتا كثيرا وأجل النظر في قضايا ومشكلات أهم. فهذا ينبغي أن ينظر في نظام الكلمات في المجلس، يعطي للعضو دقيقتين أو ثلاثة أو خمسا لا يستعرض كل البحث ويتحدث حديثا إنشائيا أو شعريا أو فكريا. نريد هذه القضية مطروحة ما رأيك فيها موافق أو معارض ما دليلك على المعارضة وما دليلك على الموافقة. في أسلوب علمي مختصر هذا رأيي أقوله.
الثاني: فيما يبدو لي أن المجمع يريد أن يحول اختصاصه الأساسي وهو النظر في المشكلات والقضايا العصرية التي لا تجد حلا شرعيا فيبدي رأيه فيها ويصدر حكمه فيها يريد المجمع الآن فيما يبدو لي في هذه الدورة أن يحول هذا الاختصاص الأساسي إلى أن يكون مجمعا سياسيا أو مجمعا أخلاقيا أو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لا يؤاخذني الإخوان أن قضية الأخلاق ومكافحة المفاسد الأخلاقية ليست من اختصاص المجمع فهي من اختصاص هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الوحدة الإسلامية ليست من اختصاص المجمع من اختصاص منظمة المؤتمر الإسلامي وجامعة الدول العربية ومجلس الخليج التعاوني. وإذا كانت هذه المؤسسات القوية الأساسية لم تستطع أن تحقق وحدة إسلامية ولا عربية اسمحوا لي ولا خليجيا. هل يستطيع المجمع أن يحقق وحدة إسلامية؟
إذن نحن نضيع وقتنا في أمور ليست أولا من اختصاصنا، وثانيا ليست في استطاعتنا أنتم علماء ينبغي أن نفهم اختصاصنا ما هو، وما هو المطلوب منا ونترك السياسة ومكافحة الجرائم لغيرنا؛ لأنهم اقدر منا عليهما ولأنهم أصحابها. هذه كلمة صريحة أرجوت عفوا عني فيها والسلام عليكم وأنا أعتذر عن أن أكون عضوا في أي لجنة من اللجان.
الرئيس:
شكرا. أما من حيث النقطة الأولى، فأظن أننا نادينا فيها عدة مرات. ونحن لا بد أن نغتفر كثيرا من الأمور وكل إنسان ينفق مما يملك، فهذه أمور لا يمكن أن يحكمها نظام، وإلا فنظام المجمع صريح وإدارة الجلسات في هذا صريحة، أن لا يخرج الإنسان عن الموضوع وأن تترك الأمور الإنشائية إلى آخره وأن يبين المدرك الفقهي للمسألة. وبين رأيه فيها وتكون بكلمات معدودات ليس فيها تشديد عضلات وإن أسأت التعبير، لكن نحن لا نستطيع أن يتحكم الإنسان وأنتم أكثر مني قد حضرنا عدة من المجامع وعدة من المؤتمرات يحصل فيها من أمثال هذه الرتوش الجانبية التي لا يمكن للإنسان أن يتحكم في عقول البشر وفي أفكارهم لكن تحجم بقدر الإمكان.
والحمد لله أن هذه لم تطغ على القيمة الجوهرية للمداولات وللقرارات التي سترونها إن شاء الله تعالى والتي توصلتم إليها وهي نرجو من الله سبحانه وتعالى أن تكون مبرئة للذمة وموصلة إلى ما هو الحق والصواب.
أما من ناحية الفقرة الثانية التي أشار إليها أحمد فإن هذا الموضوع هو من عام 1405هـ، وتحت وطأة الإلحاح من عدد كبير من الأعضاء وهو واجب إسلامي شرعي تربوي ووظيفة أهل العلم ووظيفة أهل الإسلام هي أمثال هذه الأمور، ونحن لن نتعرض لدولة بعينها حتى نكون سياسيين، ولن نتعرض لفئة بعينها أو لشخص بعينه وإنما نتعرض إلى هذه الأمور التي طرحت نفسها ليقول أهل العلم كلمتهم فيها على سبيل العموم. ولهذا فنحن في بحثنا هذا وفي بحث الوحدة الإسلامية وفي بحث إسلامية التعليم لن نتعرض على سبيل القطع لأية جهة من الجهات لا في بحثنا ولا في مناقشتنا ولا في مداولاتنا، وإنما نذكر الأمور العامة التي ينبغي لأهل الإسلام أن يلتزموها في جانب الوحدة الإسلامية في جانب مكافحة المفاسد الأخلاقية في الجوانب التعليمية، وهذا من الأمور المحمودة والشيخ أحمد قريب حديث عهد بما سمعه في المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي يصدر منه قرارات على هذا المنوال وهكذا على سنة وظيفة أهل العلم في أمثال هذه الأمور. ثم نعطي الكلمة لفضيلة الأمين.
الأمين العام.
بسم الله الرحمن الرحيم.. صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم حقيقة إن التدخل الذي قام به أخونا الأستاذ أحمد محمد جمال هو تدخل كنت أنتظره وهو جيد، جيد لأنه يذكرنا بالمنهج الذي ينبغي أن نسير عليه في المداولات وفي المناقشات إلى آخره. وما من أحد من المسؤولين في المجمع إلا يشارك الدكتور أحمد جمال في هذا المعني. وبالأمس وزعنا تذكيرا بالموضوع الذي وضعته شعبة التخطيط وفيه ما ينبغي على كل إنسان في إعداده للموضوع وفي مناقشته له وفي إجراء الحوار بحدود معروفة مرسومة لدى المجتمعين وفيها ورقة وزعت بالأمس. أما أن يطغى الحوار وأن نقطع على الناس كلامهم فإنهم إذا ما عرفوا أو علموا أن هناك قواعد فعليهم هم أن يلتزموا بها. ولا نستطيع كل مرة أن نقطع على الناس كلامهم، فهذا لا يليق.
ثانيا: أهداف المجمع في الباب الثاني المادة الرابعة تفرض علينا أن نعيش مشاكل عصرنا وأن نعيش القضايا الأخلاقية والاجتماعية والسياسية وما إليها.
أولا: يعمل المجمع على تحقيق الوحدة الإسلامية نظريا وعمليا عن طريق السلوك الإنساني ذاتيا واجتماعيا وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية.
فنحن إذا ما بحثنا قضية الوحدة الإسلامية أو المسالك التي تستطيع أن تحقق هذه الوحدة فقد خدمنا الإسلام والمسلمين. والإسلام جزء مما يتعلق بالفقه فيه يرجع إلى السياسة الشرعية وما كتب الفقه والسياسة الشرعية إلا متناولة لهذا الغرض.
الأمر الثاني: أن شد الأمة الإسلامية لعقيدتها ودراسة مشكلات الحياة المعاصرة والاجتهاد فيها اجتهاد أصيلا.. إلخ. هذه تتصل بالقضايا التي نعيشها. القانون الجنائي في الدول هو جزء من القانون. وقضية الحدود أو التعزير وما إلى ذلك يترتب على مثل هذه المساوئ الأخلاقية التي نعيشها لا بد أن يثار في مثل هذا الاجتماع.
ثم بجانب الفقه الجنائي إذا صح التعبير الذي ينبغي أن ننبه إليه وأن نأخذ به وقد تم والحمد لله الأخذ به في كثير من البلاد، هناك الجانب التربوي الذي ينقصنا في المجتمع الإسلامي لو أننا نركز على التربية الإسلامية في مدارسنا وفي بيوتنا وبين أطفالنا وفي أهلينا لخرجنا من كثير من هذه الأمراض التي تكاد تزحف على المجتمع الإسلامي، فإنكار مثل هذه الموضوعات ليس من حقنا أولا. ثم ثانيا هناك لجنة تخطيط هي التي تضع الموضوعات وما على الإنسان إذا وجد شيئا لا يرضاه ولا يقبله أن يصبر لحكم الله فيما ابتلي به من مثل هذه الأحاديث.
الرئيس:
شكرا، وبهذا ترفع الجلسة، وصلى الله وسلم نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.