الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سندات المقارضة والاستثمار
إعداد
فضيلة الدكتور علي أحمد السالوس
أستاذ الفقه والأصول بكلية الشريعة
جامعة قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
سندات المقارضة والاستثمار
الحمد لله تعالى حمدا طيبا مباركا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على رسله الكرام وعلى أولهم الخاتم، وعلى من اهتدى بهديه واتبع سننه إلى يوم الدين.
ونسأل الله عز وجل أن يهدينا سواء السبيل، وأن يجنبنا الزلل في القول والعمل.
أما بعد: فعندما عرض هذا الموضوع على المؤتمر الثالث لمجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي لم يقدم في الموضوع إلا بحث واحد هو بحث فضيلة الأستاذ الدكتور عبد السلام العبادي، لهذا كتبت كلمة موجزة قدمتها للمؤتمر آنذاك، وكان الغرض منها إبداء بعض الملاحظات التي رأيت أنها هامة، وأرجئ النظر في الموضوع للمؤتمر الرابع إن شاء الله تعالى حتى يأخذ حقه من الدراسة المتأنية، وتلبية للدعوة الكريمة التي تلقيتها للكتابة في هذا الموضوع أستعين بالله جلت قدرته لتحقيق ما نهدف إليه من الرجوع إلى الحق الذي يرضيه سبحانه وتعالى.
والأستاذ الدكتور العبادي تحدث عن قانون سندات المقارضة الأردني، وعن شهادات الاستثمار المخصصة التي أعدها مجموعة من الخبراء بتكليف من البنك الإسلامي للتنمية.
غير أنه في حديثه عن القانون الأردني وبيان مشروعيته اعتمد في أكثر من موضوع على بحث للدكتور منذر قحف عنوانه (سندات القراض وضمان الفريق الثالث وتطبيقاتهما في تمويل التنمية في البلدان الإسلامية) .
وعندما دار حوار بيننا حول بعض النقاط التي أخالف سيادته فيها أشرك معنا السيد الدكتور منذر قحف.
لهذا سأبدأ الدارسة بالنظر في بحث الدكتور منذر قحف، يليه القانون الأردني، فشهادات الاستثمار المخصصة.
أولا: سندات القراض وضمان الفريق الثالث:
هذا هو بحث الدكتور منذر قحف الذي أقره واحتج به الأستاذ الدكتور عبد السلام العبادي، ولننظر في هذا البحث.
يقول السيد الباحث:
إن عقد القراض يمنح رب المال الحقوق التالية:
(1- الحق باستعادة ماله الذي أعطاه مضاربة، مضافا إليه حصته من الربح (أو مطروحا منه الخسارة) عند انتهاء أو إنهاء العقد.
2-
الحق بضمان الشريك العامل عند تفريط الأخير أو إساءته. وفي مقابل ذلك فإن الحقوق التي ينالها صاحب العمل في عقد القراض هي:
1-
الحق في التصرف في المال بالشراء والبيع والتجارة وغير ذلك بقصد إنمائه.
2-
الحق بالربح حسب النسبة المشاعة من الربح المتفق عليها في العقد) . ويقول بعد هذا:
(ولا شك أن مقابل هذه الحقوق واجبات أيضا. والمقارض إنما يحرم نفسه – بدخوله بعقد القراض- من حق التصرف بماله الذي وضعه في المضاربة. فالقراض لغة من القرض وهو القطع، أي أنه يقتطع جزءا من ماله ويسلمه للمقارض (العامل) . أما الأخير فواجبه أن يتصرف بأمانة وإخلاص في إنماء هذا المال، لذلك لا يلزم العامل بالضمان سواء نقص مال المضاربة أو فقد سبب النشاط التجاري كالخسارة، أو بسبب غير تجاري كالسرقة أو الضياع، إذا لم يفرط، أو يسيء في استعمال سلطته) .
نرى – مما سبق – أن أقوال السيد الباحث تتفق مع فقه المضاربة فالعامل يتصرف كوكيل عن صاحب رأس المال، وليس بضامن لرأس المال، ويده يد أمانة وليست يد ملك، وليس شريكا إلا بمقدار نسبته من الربح. والوكيل إذا اشترى باسمه فالملكية في الحقيقة للموكل لا للوكيل. وإذا كانت المشتريات لا تزيد قيمتها عن رأس المال فهي كلها ملك لرب المال وليس للعامل أي شيء، وإذا فسخت المضاربة واستحق العامل أجر المثل مثلا، انتقلت الأعيان والحقوق كلها لصاحب رأس المال وحده.
ولي ملحظ هنا يتصل بحق العامل في التصرف، وحرمان صاحب رأس المال من هذا الحق.
فتصرف العامل واجب استحق به المشاركة في الربح، فليس له وظيفة هنا إلا هذا العمل، وعمله أساسا لصالح صاحب رأس المال وإن عاد النفع عليه متى حقق ربحا، وقد يقيد بقيود وشروط يراها موكلة فيخضع تصرفه لهذه القيود. وتميكن العامل من التصرف لا بد منه حتى يستطيع القيام بعمله. فهذا العبء والتكليف يعبر عنه بأنه حق حرم منه صاحب رأس المال؟ ولو أراد التصرف في ماله فما حاجته إلى العامل؟.
قد يقال: إن العبارة لا تبرر مثل هذه الوقفة ما دام الكلام في جملته صحيحا، غير أني ذكرت هذا الملحظ هنا لأن السيد الباحث مهد بهذا الوصول إلى أن هذا الحق كالعقود الناقلة للملكية!! فبعد كل البعد عن فقه المضاربة، ووقع في تناقض بين يظهر قريبا.
يرى السيد الباحث أن بحثه يقوم على التمييز بين القراض والشركة وليس على تشابههما. وبعدما ذكره عن القراض مباشرة قال: (أما في عقد الشركة فإن الشريك لا يتنازل عن حق التصرف بالمال! دون أن يمنع ذلك من أن يفوض بعض الشركاء بعضا بهذا الحق) . وبالتالي فإن حق الشريك في الشركة هو حق ملكية كاملة ينصب على العين التي تملكها الشركة وعلى التصرف بها معا، بحيث يملك منها ما يتناسب مع حصته بين سائر الشركاء.
ويلاحظ أن عقود الودائع بالمضاربة التي تمارسها جميع المصارف الإسلامية اليوم إنما تقوم على المفهوم المفصل أعلاه من حيث الحقوق والواجبات المتعلقة بعقد القراض. في حين أن حملة الأسهم في المصرف الإسلامي يعتبرون هم الشركاء الذين يملكون أعيان واستثمارات المصرف، ويتصرفون بها. كما أن قانون سندات المقارضة الأردني
…
إلخ.
ومن أقواله بعد ذلك:
(لو كان – أي القراض – شركة لكان ينبغي أن يشتركا في التصرف، ولكان ينبغي أيضا أن يشتركا في الربح والخسارة معا بحيث تتكافأ طريقة توزيع الخسارة مع طريقة توزيع الربح.
واستدل هنا بقول الحنفية: لو شرط خلوص اليد لأحدهما لم تنعقد الشركة) .
وقال أيضا:
(فكما أن المرابي ليس شريكا في مال مدينه فكذلك ليس المقارض شريكا في القراض ولا يتمتع بأي حق من حقوق التصرف والأدارة التي يتمتع بها الشريك) .
ثم قال:
(واعتبار القراض تمويلا ينسجم مع ما رتبه الفقهاء على القراض من نتائج، فهو يفسر اشتراط أن يكون رأس مال القراض مالا حاضرا، لا عرضا ولا دينا) .
هذه بعض أقوال السيد الباحث، وبالنظر فيها نجد ما يأتي:
1-
ما ذكره من حق الشريك في الملكية والتصرف معا ليس شرطا في كل شركة في الإسلام، وما ذكره عن الحنفية لا ينطبق على كل الشركات، وكان يستطيع أن يرجع إلى أنواع الشركات عند الحنفية أنفسهم ليجد شركة المضاربة بين الشركات ومن اليسير أن يجد هذه الأنواع في مجلة الأحكام العدلية مثلا والقانون المدني الأردني ذكر المضاربة تحت أنواع الشركات وعندما تحدث عن المساقاة في المادة (736) قال: (المساقاة عقد شركة على استغلال الأشجار والكروم بين صاحبها وآخر يقوم على ترتيبها وإصلاحها بحصة معلومة من ثمرها
…
) .
ومن المعلوم أن المساقي لا يملك الأرض ولا الشجر، وإنما شركته في الثمر، وهو الذي يقوم بالعمل.
ومن ذهب إلى أن المضاربة ليست شركة نظر إلى أن العامل ليس شريكا في رأس المال. ولا في الأعيان والحقوق إلا بعد تحقق الربح فما لم يتحقق ربح لا تبدأ المشاركة، ويبقى الكل ملكا لرب المال.
2-
المساهمون في المصرف الإسلامي لا يملكون من أعيان واستثمارات المصرف إلا بقدر رأس المال الذي يملكونه، وهو ما يقابل حق المساهمين. أما استثمارات الودائع فلا يملكون منها شيئا إلا بعد تحقق الربح، وتصرفهم تصرف الوكيل المضارب الذي يتصرف في مال غيره بإذنه. وما قال أي فقيه بأن المضارب يتصرف في مال أصبح ملكا له.
3-
جعله حق التصرف يعني ملكية العين بعيدا كل البعد عن فقه المضاربة، ويتعارض مع ما ذكره في البداية من أن العامل غير ضامن، وواجبه أن يتصرف بأمانة وإخلاص
…
إلخ.
4-
قوله بأن رب المال كالمرابي ليس شريكا في المال قول عجيب غريب، يدرك خطأه كل من يفقه القراض والفرق بينه وبين القرض الربوي.
5-
لو قرأ الشرائط المختصة بشركة الأموال لوجد على سبيل المثال في مجلة الأحكام العدلية:
(المادة 1338) يشترط أن يكون رأس المال من قبيل النقود، فالعروض والوكيل والموزون والعددي المتقارب لا تصلح رأس مال للشركة.
(المادة 1341) يشترط أن يكون رأس المال عينا، فلا يجوز أن يكون الدين، يعني ما يثبت في ذمم الناس، رأس مال للشركة.
(المادة 1342) لا يصح عقد الشركة على الأموال التي لا تعد من النقود كالعروض والعقار، أي لا يجوز أن تكون هذه رأس مال للشركة.
هذه بعض أقوال السيد الباحث وأخطائه، والبحث مليء بالأخطاء وعدم الفقه، وما كان لنا أن نقف أمامه هذه الوقفة لولا أن الأستاذ الدكتور العبادي ذكره مرجعا محتجا به في البحث الذي قدمه للمجمع.
ثانيا: قانون سندات المقارضة الأردني
بعض نصوص هذا القانون:
المادة 2- أ – تعني (سندات المقارضة) الوثائق المحددة القيمة التي تصدر بأسماء مالكيها مقابل الأموال التي قدموها لصاحب المشروع بعينه بقصد تنفيذ المشروع واستغلاله وتحقيق الربح.
ب - يحصل مالكو السندات على نسبة محددة من أرباح المشروع، وتحدد هذه النسبة في نشرة إصدار السندات. ولا تنتج سندات المقارضة أي فوائد، كما لا تعطي مالكها الحق في المطالبة بفائدة سنوية محددة.
المادة 7- ب يعين في نشرة الإصدار بنك مرخص أو مؤسسة مالية وكيلا للدفع يتولى شؤون دفع القيمة الاسمية للسندات وأرباحها بالقيمة المستحقة وفي المواعيد المقررة.
المادة 12- تكفل الحكومة تسديد قيمة سندات المقارضة الاسمية الواجب إطفاؤها بالكامل في المواعيد المقررة، وتصبح المبالغ المدفوعة لهذا السبب قرضا ممنوحا للمشروع بدون فائدة مستحق الوفاء فور الإطفاء الكامل للسندات.
المادة 14 – يحق للشخص الطبيعي أو المعنوي من رعايا الدول العربية والإسلامية الاكتتاب في سندات المقارضة، كما يحق تحويل الأرباح المتأنية والقيمة الاسمية لاكتتابه عند البيع أو الإطفاء إلى الخارج بالعملة الأجنبية وفق أحكام القانون ونشرة الإصدار.
هذه بعض نصوص السندات، ومنها نرى ما يأتي:
1-
أن هذه السندات تختلف تماما عن نظام المقارضة المشروع، ففي المضاربة – كما هو معلوم بغير خلاف – أن المال في يد المضارب أمانة، يستثمرها لصاحب رأس المال مقابل نسبة من صافي الربح، فإذا لم يتحقق ربح فلا شيء له، وإذا خسر بغير تفريط أو مخالفة للشروط فلا شيء عليه.
والمضارب إذا استثمر المال في أي مشروع فإنه لا يملك منه إلا بقدر نسبته من الربح، والملكية الحقيقية للمشروع كله – بعد معرفة المقدار الذي يستحقه المضارب إنما هي للموكل أي صاحب رأس المال، وليس للوكيل المضارب.
وإذا اشترك المضارب بمبلغ من المال فهو كأصحاب رأس المال، له ما لهم، وعليه ما عليهم، بالإضافة إلى ما يقابل عمله فإذا فرضنا مثلا أن مال المضاربة مائة ألف، اشترى به مصنع. فإن أرباح المصنع توزع بالنسبة المتفق عليها، أما المصنع نفسه فإذا لم يزد عن مائة ألف ولم ينقص فهو ملك لأصحاب رأس المال، وإذا زاد كان للمضارب نسبة من هذه الزيادة فقط. وإذا بطلت المضاربة، وأخذ العامل أجر المثل، فإن المصنع بالكامل يكون ملكا لصاحب رأس المال سواء ازدادت قيمته السوقية عن القيمة الدفترية أم قَلَّت. وإن قلت القيمة السوقية وبقيت المضاربة فلا شيء للمضارب ولا شيء عليه.
أما السندات الأردنية فلم تذكر قيمة الأرض التي ستشارك بها وزارة الأوقاف، ولا ينظر إلى قيمة المشروع الذي سينشأ بأموال أصحاب السندات.
وصاحب رأس المال له مثل ما أعطى من المال دون زيادة أو نقصان وهو القيمة الاسمية للسند، ومعنى ذلك أنه ليس شريكا في المشروع. فعند البيع أو الإطفاء ليس له إلا القيمة الاسمية وإذا زاد السعر عند البيع فليس له أن يحول للخارج إلا القيمة الاسمية مع الأرباح.
ومع أن المضاربة شركة من الشركات في الإسلام إلا أن قانون السندات يقوم على أساس التفرقة بين المضاربة والشركة ويجعل المقارضة نوعا من التمويل فقط دون الاشتراك فيما أنفق فيه هذا التمويل.
2-
السندات الأردنية تتفق مع السندات ذات الفوائد الربوية في أن صاحب السند ليس له إلا القيمة الاسمية للسند دون المشاركة في المشروعات التي يستخدم فيها السند، ومصدر السند ضامن لرد المثل في جميع الحالات، ولصاحب السندات زيادة على رأس المال المدفوع.
والفرق بين النوعين أن الفوائد الربوية محددة معلومة من البداية، أما السندات الأردنية فالزيادة تعطى من أرباح المشروع الظاهرية، وهذا الفرق قد لا يخرجها من الحرام إلى الحلال، لأنها زيادة مشروطة في العقد وقد لا تكون هناك أرباح في الواقع، بل قد تتحقق خسائر.
مثال هذا: إذا استثمرت أموال السندات في البناء، وأجر المبني، فإن الربح الظاهري هو الإيجار، لكن هذا لا يمثل الربح الواقعي.
فالمبني إذا تكلف عشرة ملايين، وهبط سعره إلى خمسة، فقد هبط خسارة كبيرة، مع أن الظاهر أن الإيجار ربح، وفي الواقع لا يعوض شيئا يذكر من الخسارة الفعلية. ولو أن هذا المبنى الذي تكلف عشرة، أصبحت قيمته عشرين، فإن الإيجار لا يمثل الربح الحقيقي.
وفي الحالة الأولى يكون صاحب السندات ظالما إذا أخذ ما دفعه وهو القيمة الاسمية مع تحقق هذه الخسارة.
وفي الحالة الثانية يكون مظلوما إذا لم يأخذ إلا القيمة الاسمية الربح الظاهر.
3-
كفالة الحكومة للقيمة الاسمية للسندات تخالف عقد الكفالة، فالكفيل لا يضمن ما ليس مضمونا على الأصيل. وجعل الكفالة هنا من باب الوعد الملزم الذي قال به بعض الفقهاء يحول الأمور إلى مسائل شكلية وكما يجوز ضمان أصل، يجوز ضمان نسبة زيادة على رأس المال، وبذلك يفتح باب الربا على مصراعيه في عصرنا، وتقبل كل الفوائد الربوية على أنها وعد ملزم، فيمكن لبنك رئيسي أن يضمن الأصل والفوائد للمودعين في البنوك الفرعية، وكل منها له ذمة مستقلة. والعلاقة بين البنك الرئيسي وفروعه لا تزيد عن العلاقة بين الدولة وإحدى وزارتها.
والمسلم عندما يستثمر أمواله يعلم أن الغنم بالغرم، والغرم بالغنم. فقد يربح وقد يخسر، وهذا فرق واضح بين المسلم المستثمر والمرابي.
ومع كل هذا لو سلمنا بجواز كفالة الحكومة لوزارة الأوقاف فإن الكفالة إنما هي لإقراض الوزارة حتى تتمكن من دفع القيمة الاسمية، وليست هبة، والوزارة كمقترض ضامن لرد المثل للحكومة، وهذا يعني أن وزارة الأوقاف هي نفسها الملتزمة بالأداء ولكن بعد الإطفاء الكامل للسندات إذا عجزت عن أداء التزاماتها قبل هذا.
إذا وزارة الأوقاف هي في واقع الأمر ضامنة لرد القيمة الاسمية للسند في جميع الحالات، مع جزء من الأرباح الظاهرة لا الحقيقية، ولكن إذا عجزت اقترضت لأداء ما عليها من ديون، والحكومة وعدت وعدا ملزما بأن تقرضها في مثل هذه الحالة. فكيف غاب هذا عمن أفتى بجواز هذه الكفالة؟!
4-
هذه السندات إذن ليست من القراض بشروطه المجمع عليها كما نعرف في الفقه الإسلامي، ولهذا يقول الأستاذ الدكتور العبادي:(الواقع أن هذه السندات طرحها التقنين الأردني على أساس أنها من صور التعامل الجديد القائمة على مبادئ الاقتصاد الإسلامي) .
وهذا القول فيه نظر، لأن وزارة الأوقاف ضامنة لرأس المال، وفي الوقت نفسه يشاركها صاحب رأس المال في الربح، ومن المبادئ الأساسية في الاقتصاد الإسلامي أن (الخراج بالضمان) كما جاء في الحديث الشريف، وأنه لضمان على من شورك في الربح، وهذا فرق جوهري بين القرض والقراض: فالقرض ضمان بلا مشاركة للضامن في الربح، والقراض مشاركة بلا ضمان من المضارب.
5-
عقد القرض ينطبق تماما على هذه السندات وهو من القروض الإنتاجية الاستثمارية.
والفرق بينها وبين السندات ذات الفوائد الربوية أنها لا تعطي مالكها الحق في المطالبة بفائدة سنوية محددة. ويتفق النوعان في أن مالك السند له رأس ماله، وهو القيمة الاسمية للسند، وليس شريكا في الأعيان والحقوق التي أسهمت فيها أموال هذه السندات.
وبدلا من الفوائد السنوية المحددة التي يأخذها مالك السندات الربوية فإن مالك سندات المقارضة له نسبة محددة من أرباح المشروع.
إذا اقترض أحد ألف دينار مثلا ليستثمره في أي مشروع، وتعهد برد المثل في موعد معين، واتفق الاثنان على أن المقرض ليس شريكا في المشروع ولا في خسارته، وإنما له نسبة محددة من الربح مدة بقاء القرض.
أيكون هذا الربح الزائد على القرض حلالا؟ فالقيمة الاسمية المضمونة تقابل القرض هنا، والتعهد برد هذه القيمة هو التعهد برد المثل، وموعد الإطفاء هو موعد رد القرض وأرباح السندات هي أرباح القرض، ومالك السند ليس شريكا في المشروع وإنما هو مقرض.
6-
قال ابن قدامة في المغني: (4/ 360) :
(كل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف) . قال ابن المنذر: (أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك إن أخذ الزيادة على ذلك ربا) . وذكرت هذا القول، وما يؤيده من كتب السنة في كتابي المعاملات المالية المعاصرة ص 61- 66.
فالنسبة المحددة من الربح مدة بقاء رأس مال السند قبل الإطفاء زيادة مشروطة، فهي من الربا المحرم.
7-
تداول السندات في سوق عمان دون أن يكون لسند المقارضة نصيب في المشروعات كالأسهم، فليس صاحب السند شريكا كالمساهم، سيجعل البيع والشراء مرتبطا بالفوائد الربوية السائدة، وبما يعرف بسعر (الخصم) فمتى كانت الأرباح المتوقعة أعلى زادت القيمة السوقية للسند، ومتى كانت أقل انخفضت القيمة السوقية.
وإذا كان السند لا يمثل حصة شائعة في المشروع، وإنما يقابل القيمة الاسمية مع الأرباح التي يأخذها مالك السند، فكيف يجوز بيع مثل هذا السند؟
إنه بيع دين في الذمة بنقد حاضر من جنسه مع الزيادة أو النقص، فكيف أن التحريم هنا غير واضح؟!.
وذكر الدكتور العبادي (بأن القيمة السوقية للسند تتألف من القيمة الحالية لرأس المال مضافا إليها القيمة الحالية للأرباح المتوقعة، وفي هذا تدخل جميع العوامل المؤثرة على ربحية المشروع) .
وهذا القول لا يخرج عما ذكرته آنفا!
وللتوضيح أقول: إذا كانت القيمة الاسمية للسند مائة الدينار، وتسترد القيمة بعد خمس سنوات، والأرباح المتوقعة في كل عام عشرون دينارا، والفوائد الربوية السائدة 10 %، فإن القيمة السوقية للسند تكون أكثر من مائة، لأن المشتري وإن كان لا يأخذ في النهاية إلا القيمة الاسمية غير أنه خلال المدة يحصل على ما يزيد عن الفوائد الربوية السائدة، وعلى العكس من ذلك إذا كانت الأرباح المتوقعة أقل من الفوائد الربوية السائدة فإن القيمة السوقية تقل عن القيمة الاسمية، لأن المشتري الذي يحصل على أرباح أقل سيأخذ في النهاية أكثر مما دفع.
وعندما يصبح ريع المشروع معروفا محددا كالمباني عندما تؤجر تصبح الزيادة التي يأخذها مالك السند محددة، وبذلك لا نستطيع أن نفرق بين سندات المقارضة والسندات ذات الفوائد الربوية، فكلها يخضع للعوامل التي تخضع لها القروض الربوية.
وبغض النظر عن العوامل المؤثرة فما معنى (القيمة الحالية لرأس المال) ؟ أليس هذا بيع دين في الذمة بنقد حاضر؟
فالبيع هنا نقود بنقود، وهو تطبيق أحكام الصرف يعتبر من الربا المحرم لا محالة!!
فكيف أجاز هذا السادة الذين وقعوا على الفتوى المرافقة للقانون؟!.
8-
البنوك الربوية التي تعطي فوائد محددة على الودائع لديها ما يسمى بالودائع ذات العائد المعوم، وفوائد هذه الوادئع ليست محددة وإنما كما قالوا (معومة وبالطبع فإن هذه الفوائد وإن لم تكن محددة فهي من الربا المحرم) .
9-
بعد جلسات المؤتمر الثالث لمجمع الفقه بالأردن شرفني بزيارته الأستاذ الدكتور مصطفى الزرقاء ودار الحديث حول سندات المقارضة، وما أبديت من ملاحظات فقال بأنه يشاركني الرأي فيما انتهيت إليه من التحريم وإنه سيعرض هذا الموضوع على لجنة الفتوى بالأردن لأن التحريم واضح.
نسأل الله تعالى الرشاد والهداية.
10-
مما يؤسف له حقا ما جاء في بيان الأسباب الموجبة لقانون سندات المقارضة، وما دفع إلى الأخذ بها، وإلى جانب النصوص السابقة نري في البداية ما يلي:
(يعتبر إصدار السندات المالية وسيلة ناجحة من وسائل اجتذاب المدخرات وتجميع الأموال اللازمة لتمويل المشروعات في مختلف الوجوه النافعة لخدمة الاقتصاد الوطني بوجه عام.
وقد شهدت السوق المالية الأردنية نشاطا متزايدا في مجال إصدار السندات المالية وتداولها، وسواء في ذلك السندات المالية الحكومية الصادرة بموجب أحكام قانون الدين العام أو السندات المالية الصادرة عن مؤسسات ذات الاستقام المالي والإداري.
غير أن ارتباط هذه الأشكال المختلفة من السندات المالية بالعائد المبني على نظام الفائدة المحددة قد أدى إلى عدم إمكان تعميم التداول والتعامل في هذه السندات بين مختلف فئات المواطنين، وبخاصة ذلك القطاع الكبير ممن لا يقبلون على استثمار أموالهم على أساس الفائدة) . انتهى.
وللأسف الشديد المحزن أن هذا القول يحمل الرضا بل الإشادة بعمل ربوي، ويبين أن اللجوء لسندات المقارضة ليس الرعية في ترك الربا حتى لا نأذن بحرب من الله ورسوله، بل وجود من يرفض هذا التعامل، وهو (قطاع كبير) مما أدى إلى عدم تعميم التداول والتعامل في السندات ذات الفوائد الربوية!!.
ثالثا: شهادات الاستثمار المخصصة
بعض نصوص هذا المشروع:
9-
يكون دور البنك في استخدامه لمتحصلات الأوراق التي يصدرها هو دور " المضارب المفيد "، ومعنى هذا أن العلاقة بين البنك وحملة الشهادات ليست علاقة دائن بمدين، بل هي علاقة " صاحب المال بالأمين عليه ".
12-
أ- يتم تحديد سعر الشهادات خلال فترة الاكتتاب والفترة التي تسبق البدء في النشاط على أساس " القيمة الاسمية "
ب- بعد انتهاء الفترة المذكورة أعلاه، يقوم البنك على فترات دورية (لا تتجاوز ثلاثة أشهر) بإعلان أسعار تداول الشهادة بيعا وشراء، وذلك بناء على المركز المالي للمشروع، وظروف العرض والطلب.
14-
وحيث إن قواعد الشريعة تسمح بفكرة " التأمين التعاوني " فإنه يمكن للبنك إنشاء صندوق للتأمين التعاوني لتغطية مخاطر الاستثمار.
15-
طبقا لعقد المضاربة بين البنك وأصحاب رأس المال، يمكن توزيع الربح في نهاية الفترة المالية بالصورة التالية:
أ- نسبة من الأربح توزع على البنك الإسلامي بصفته مضاربا.
ب- نسبة من الأرباح توزع على مالكي الشهادات (ومنهم البنك الإسلامي عادة) .
ج- نسبة من الأرباح لصندوق تأمين مخاطر الاستثمار.
27-
الورقة المالية الإسلامية في حد ذاتها ممثلة لحصة مالية شائعة في مجموع صافي موجودات المشروع.
66-
تشكيل " لجنة شرعية " مهمتها المتابعة والرقابة على الإصادرات من جوانبها الشرعية المختلفة.
هذه بعض النصوص، وتركنا الكثير حتى لا نطيل، ولعل في هذا القدر ما يكفي ويغني لتوضيح الصورة ودلالتها على فقه عقد المضاربة والانتفاع به في التطوير دون إخلال بمقتضى العقد.
ومشروع البنك لاحق للمشروع الأردني، وهناك من اشتراك في إعداد المشروعين فلعل المشروع الأردني يعدل في ضوء هذا المشروع.
وأقترح لتعديله.
أن تقوم الأرض، ويمثل هذا نصيب وزارة الأوقاف، وباقي التكلفة تمثل حقوق أصحاب السندات، وتكون الشركة بينهم وبين الوزارة، والأرباح تقسم تبعا لنصيب كل مالك لهذه السندات، إلى جانب أن الوزارة تأخذ نصيبها كمضارب بالإضافة إلى نصيبها كصاحب رأس مال ويمكن أن يلجأ للتأمين التعاوني لمواجهة مخاطر الاستثمار.
وقد يعترض هنا بأن الوقف لا يباع، ولكن يجوز بيع جزء من الوقف لإعمار الجزء الآخر، وهذا أمر معلوم في الفقه الإسلامي وهذه الشركة يمكن أن تستمر، ويمكن أن تنتهي بالتمليك بالطريقة الشرعية المعروفة، والتي تزاولها المصارف الإسلامية.
ويمكن لوزارة الأوقاف - إذا لم ترغب في أسهم المشاركة المستمرة او المنتهية بالتمليك - أن تلجأ إلى عقد الاستصناع عن طريق المصارف الإسلامية.
إذن أمام الوزارة أكثر من حل إسلامي.
والأمر الذي يزعجني حقيقة هو أن نقدم للقطاع الكبير - الذي يرفض السندات ذات الفوائد الربوية - بديلا غير إسلامي ونرغبهم فيه باسم الإسلام.
طبيعة سندات المقارضة
أولا: السندات الأردنية:
من الدراسة السابقة نستطيع أن نحدد العلاقة الحقوقية بين المكتتبين والجهة المصدرة، وهي كما يلي:
1-
الجهة المصدرة تأخذ أموال المكتتبين المدفوعة على سبيل التمليك لا الوكالة، وتتعهد برد المثل في الموعد وهو القيمة الإسلامية للسندات في موعد الإطفاء.
2-
كما تتعهد بإعطاء جزء من ريع المشروع لمالكي السندات زيادة على القيمة الاسمية مدة بقاء السند قبل الإطفاء.
3-
ويترتب على تملك مال السندات، مع التعهد برد المثل والزيادة أن يصبح المشروع ملكا للجهة المصدرة لا يشاركهم فيه مالكو السندات، ومهما ارتفعت قيمة المشروع أو انخفضت فلا يتأثر بهذا إلا الجهة المصدرة.
4-
المكتتبون لهم مثل ما دفعوا، يستردون في الوقت المحدد ولهم أيضا الزيادة المتفق عليها مدة بقاء السند. والجهة المصدرة إذا عجزت عن أداء ما التزمت به من رد المثل اقترضت وأدت ما التزمت به، والدولة تعهدت بإقراضها في حالة العجز.
5-
للمكتتبين أن يبيعوا حقهم في استرداد المثل مع الزيادة ومن يحل محلهم يكون له هذا الحق نفسه، حق استرداد القيمة الاسمية مع الزيادة، مع حق البيع أيضا.
من هنا نرى أن هذه السندات لا تجعل العلاقة بين المكتتبين والجهة المصدرة علاقة قراض، وهو ما أخذ منه اصطلاح التسمية، وإنما هي علاقة دائن ومدين، وليست شركة من أي أنواع الشركات التي يقرها الإسلام:
فمالك السند دائن للجهة المصدرة، دينه مضمون. والجهة المصدرة مدينة، ضامنة لهذا الدين تؤديه في الوقت المحدد. كما أنها ضامنة للأداء للمكتتب أو لمن يحل محله. وتلتزم كذلك بإعطاء زيادة على الدين للدائن مدة بقاء دينه.
وهذه الزيادة المشروطة من الواضح الجلي أنها من الربا المحرم، وإن كانت غير محددة، وهذا أشبه بالودائع الربوية ذات العائد المعوم التي أشرت إليها من قبل، وإن كان الشبه غير تام.
وهذه السندات تشبه القروض الربوية الإنتاجية التي كانت شائعة في الجاهلية والجديد فيها طريق تحديد الزيادة الربوية، وهذا لا يخرجها من الحرام إلى الحلال.
والجديد في عصرنا ولم يكن في الجاهلية، بل لم يخطر لهم على بال، هو أن تحولت القروض الربوية إلى حق يباع ويشترى، وتقام له الأسواق العالمية!!
ثانيا: شهادات الاستثمار المخصصة:
من النصوص التي نقلتها يتضح أن هذه الشهادات تقوم على أساس عقد المضاربة، مع إمكان الشركة في رأس المال. فالعلاقة الحقوقية بين المكتتبين وبنك التنمية علاقة صاحب رأس المال بالوكيل المضارب الأمين غير الضامن لرأس المال.
ومالك الشهادة يملك حصة شائعة في المشروع إن زادت عن رأس المال فالمضارب شريكه في الربح، وإن لم تزد أو قلت فهي ملكه، فليست من حق المضارب أن يطالب بما يقابل عمله، وليس من حق المكتتب أن يطالب بالتعويض عن الخسارة.
وعندما يشترك البنك في المشروع المخصص لجزء من رأس المال يصبح كالمكتتبين بالنسبة لهذا الجزء إلى جانب ما يخصه كمضارب.
والعلاقة الحقوقية هنا ينطبق عليها ما جاء في المادتين 627، 628 من القانون المدني الأردني، وهذا نص كلا منهما:
المادة 627 – 1 – يجب أن يشترك كل من المضارب ورب المال في الربح وذلك بالنسبة المتفق عليها في العقد، فإن لم تعين قسم الربح بينهما مناصفة.
- 2 – وإذا جاز للمضارب خلط ماله مع رأس مال المضارب قسم الربح بنسبة رأس المال، فيأخذ المضارب ربح رأس ماله، ويوزع ربح مال المضاربة بين المتعاقدين على الوجه المبين في الفقرة الأولى.
المادة 628 – 1- يتحمل رب المال الخسارة وحده، ولا يعتبر أي شرط مخالف.
-2- وإذا تلف شيء من مال المضاربة حسب الربح فإن جاوزه حسب الباقي من رأس المال ولا يضمنه مضارب.
ومن هذا نرى أن شهادات الاستثمار المخصصة التي قدمها بنك التنمية الإسلامي مقبولة شرعا، وأن سندات المقارضة الأردنية غير مقبولة، ولا ينطبق عليها عقد المقارضة، ولا أي نوع من أنواع الشركات في الإسلام كما جاء في القانون المدني الأردني نفسه وفي الفقه الإسلامي بصفة عامة، وإنما ينطبق عليها عقد القرض، وليس هذه وسيلة استثمار في الإسلام، فالزيادة من الربا المحرم والله عز وجل أعلم بالصواب.
والحمد لله تعالى في الأولى والآخرة والصلاة والسلام على رسوله المصطفى.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180، 181، 182] .
الدكتور علي أحمد السالوس