الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
انتفاع الإنسان بأعضاء
جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً
إعداد
الشيخ خليل محيي الدين الميس
مدير أزهر لبنان
ومفتي زحلة والبقاع الغربي
وعضو مجمع الفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
حكم العلاج بزراعة الأعضاء:
العلاج بزراعة الأعضاء والأنسجة الحية أو المعادن في جسم الإنسان من المسائل المستجدة في الحقل الطبي، كما يصف الاصطلاح الفقهي (النوازل) بالمسائل المستجدة بعد استقرار المذاهب الإسلامية حيث لا نص فيها من كتاب أو سنة أو قول أحد الأئمة المجتهدين.
ولما كان الطب ميدان التجرِبة، ولذلك كان من منجزات الطب الحديث ما أحرز من تقدم ملحوظ في هذا المجال، سواء في زرع القلب أو القرنية أو الكلية أو استئصال الأمعاء المصابة واستبدالها بأخرى سليمة
…
وكل ذلك إنما يتم باستخدام عضو منتزع من إنسان أو حيوان
…
وبالتالي فالسؤال مطروح وبإلحاح: ما هو الحكم الشرعي في كل ما جرى أو يجري
…
ومن المعلوم أن عملية الزرع تمر في مرحلتين:
الأولى:
من إنسان أو حيوان.
الثانية:
زراعة العضو المفصول في جسم إنسان آخر يفتقر إليه.. والحاجة هذه يمكن تصنيفها إلى فئتين:
1) توقف حياة إنسان مريض أو مهدد بالموت على زرع ذلك العضو في جسده كالقلب.. والكلية.
2) توقف عمل العضو المصاب فقط مع بقاء الحياة على زرع ذلك العضو كالقرنية في العين مثلاً.
هذا وفصل العضو المطلوب ومن ثم زرعه في جسم المريض إما أن يتم بناء على تبرع إنسان كامل الأهلية، ويفصل منه ذلك العضو حال الحياة (كالكُلية) ، أو بناء على وصية بأن ينتزع من جسده بعيد وفاته، كما يحصل بالنسبة إلى العيون مثلاً
…
وللإجابة على هذه التساؤلات المطروحة وأضرابها لا بد من مقدمة تمهيدية نعرض من خلالها للآيات القرآنية والأحاديث الشريفة التي تشكل إطاراً للبحث باعتبارها ترسم المرتكزات الفقهية علاجاً وانتزاعاً في الزراعة، وما يستتبع هذه الصور العلاجية.
أما قضية العلاج من حيث المبدأ فقد صرحت الأحاديث الشريفة بمشروعيتها، من ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن مسعود قال عليه الصلاة والسلام:((إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم)) .
وما رواه أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تداووا بحرام)) .
وفي الصحيحين عن عطاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء)) .
وجاء في مسند الإمام أحمد رضي الله عنه من حديث زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك قال:((كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله، أنتداوى؟ فقال: نعم، عباد الله، تداووا؛ فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا ووضع له شفاء، غير داء واحد. فقالوا: ما هو؟ قال: الهرم)) وفي لفظ: ((إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه، وجهله من جهله)) .
وهكذا فإن هذه الأحاديث الشريفة صرحت بحقائق منها:
أولاً:
الأمر بالتداوي، وأدنى موجب الأمر هو الإباحة
ثانياً:
إن إقراره عليه الصلاة والسلام بأن لكل داء دواء، علمه من علمه وجهله من جهله، يفتح باب العلاج على مصراعيه، ويمهد السبيل أمام الباحثين لاستكشاف الأدواء، وما لم يعلم بالأمس ربما يعلم اليوم أو غداً، هذا ومع أن الإسلام جاء لعلاج الأرواح والنفوس من مرض الكفر والفسق والفجور وغيرها، وإنقاذ العباد من شرور الوثنية والإلحاد، وهي أمراض عقدية أخطر من أمراض الأجساد، لا شك أنها تفضي إلى مهالك في الآجل والعاجل، فإنه أيضاً لم يهمل علاج أمراض الأجساد. ونحيل طالب المزيد من المعلومات في هذا الباب إلى كتاب (الطب النبوي) لابن قيم الجوزية، والآثار الواردة في كتب الحديث الشريف في أبواب الطب. ومع أن الأحاديث الشريفة صرحت بمشروعية العلاج لكنها نهت عن التداوي بالحرام؛ حيث ورد النهي بقوله عليه الصلاة والسلام:((ولا تداووا بحرام))
وهذا ما يصلنا إلى الاستدلال بعمومات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وبعد ذلك القواعد الفقهية والمبادئ العامة التي استنبطها الفقهاء المسلمون من تلك العمومات والإطلاقات لنفرع عليها من الأحكام ما يتصل بموضوعنا:
قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، وقال سبحانه:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] والعموم الوارد في الآيتين وإن كان متوجهاً إلى بيان الأحكام الشرعية التكليفية أولاً، لكنها لا تتقاصر دون موضوعنا هذا؛ لأنه يدخل ضمن إطار تلك الأحكام من الإباحة والتحريم باعتبار أن هذا العلاج على هذا الوجه هل هو حلال فيتابع أو حرام فيجتنب.
ويأتي قوله تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقال تعالى إثر بيان مشروعية الوضوء والغسل والتيمم: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6] .
وهكذا نجد توجه الشريعة الإسلامية نحو التيسير على العباد وتحقيق مصالحهم الدينية والدنيوية في ذلك يقول تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
وتأتي الأحاديث النبوية على هذا النسق أيضاً لتؤكد المعنى الوارد في الآيات القرآنية، فيقول صلى الله عليه وسلم:((بعثت بالحنيفية السمحة)) وقال عليه الصلاة والسلام: ((يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)) .
ومن مجمل هذه الآيات والأحاديث استنبط الفقهاء قواعد فقهية وضوابط أصولية تعتبر بمثابة الأصول لمسائل تفرعت عليها الأحكام، ومن ذلك قولهم: المشقة تجلب التيسير، وهي القاعدة الرابعة من قواعد الأشباه والنظائر لابن نجيم الحنفي، وقال: وفي الحديث: ((أحب الدين إلى الله تعالى الحنيفية السمحة)) أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث جابر بن عبد الله. ومن حديث أبي أمامة، ويخرج على هذه القاعدة جميع رخص الشرع وتخفيفاته، وعد منها المرض ثم قال.... الثاني المرض ورخصه كثيرة، ومنها التداوي بالنجاسات وبالخمر على أحد القولين، وتخرج على هذه القاعدة قولهم: الأمر إذا ضاق اتسع وإذا اتسع ضاق.
هذا وإن إحياء النفوس مطلب شرعي صرحت به الآية الكريمة، قال تعالى:{مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] .
ولا بد من مقدمة أصولية تمهد لهذا الموضوع وهي ما تعرف بتقسيم الحقوق، جاء في كتب الأصول ما نصه: الحقوق أربعة:
1) حقوق الله تعالى خالصة كالعبادات والحدود والكفارات.
2) حقوق العباد خالصة، وهي أكثر من أن تحصى، نحو ضمان الدين وبدل المتلفات والمغصوب وملك المبيع.
3) ما اجتمع فيه الحقان وحق الله أغلب. وهو حد القذف.
4) ما اجتمع فيه الحقان وحق العبد غالب وهو القصاص، (كشف الأسرار جـ2/ 162) ، وما نحن بصدده يندرج تحت القسم الرابع؛ لأن بدن الإنسان فيه حق الله من حيث التخلق، وفيه حق العبد من حيث الانتفاع.
وحق الله ما يتعلق به النفع العام، فلا يختص به واحد وإنما ينسب إلى الله تعالى؛ تعظيماً، وهو سبحانه تعالى عن أن ينتفع بشيء، أو لئلا يختص به أحد الجبابرة.
ملكية الإنسان لجسمه وأعضائه ومدى حرية التصرف فيها:
من خصائص الملكية التامة حرية الاستعمال والاستغلال والتصرف على ما هو معروف فقها وقانوناً، والحرية هذه إنما يمارسها الإنسان على المنقولات والعقارات، وهو ما يعرف بأموال التجارة، فللمالك مطلق الحق في بيعها ورهنها وهبتها واستغلالها والإيصاء بها وإتلافها، كما أنها تورث عنه وتضمن بالاعتداء عليها، وهذه الأعيان معصومة في ذاتها ومملوكة له.
فهل جسم الإنسان من هذا القبيل أم لا بد من التمييز بين الملك والعصمة؟ فالعصمة تقوم بالمملوك، والملك يقوم بالإنسان، والعصمة تكون للدم كما تكون للمال، وبذلك ورد الحديث الشريف ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله)) البخاري: باب الإيمان 179.
وبدن الإنسان مملوك له على وجه الانتفاع، وهو ما عبر عنه الفقهاء بقولهم: إن الله تعالى ملك الإنسان منفعة أعضائه، فالعين للإبصار، والرئة للتنفس، واليد للعمل وتناول الطعام، والرجل للسعي، وما إلى ذلك من وظائف الأعضاء.
ويبقى السؤال مطروحاً: هل ملكية الإنسان لأعضائه من صنو ملكيته للأشياء، فيكون له حق التصرف فيها كالأشياء المملوكة؟
تناول الفقهاء المجتهدون موضوع النفس والأطراف والتعويض عنها حال الاعتداء عليها، ونصت الآيات والأحاديث على مشروعية الدية والقصاص وإرش الجراحات حال العدوان. ومما قاله الفقهاء في هذا المجال: ضمان النفس والأطراف بالمال في حالة الخطأ فإنه ثبت بالنص من غير أن يعقل فيه المعنى؛ لأن الآدمي مالك مبتذل لما سواه، والمال مملوك مبتذل فلا يتماثلان.
وإن ضمان النفس والأطراف بالمال غير مدرك بالعقل؛ إذ لا مماثلة بين الآدمي المالك المبتذل وبين المال والمملوك المبتذل، وإنما شرع الله تعالى الدية لئلا تهدر النفس المحترمة مجاناً (النسفي/ كشف الأسرار: جـ 1 / 84) وكان موجب الجناية عمداً على النفس والأطراف هو القصاص.
قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179]، ويمكن العفو عن ذلك كله {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] وقال سبحانه: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] ، وأما جناية الخطأ فموجبها الدية وهي تعويض مالي لتفويت منفعة الجسم أو العضو، وهو محض حق الإنسان ولذلك تدخل تحت الولاية عفوا وإسقاطاً.
هذا بخلاف جريمة الزنا فإن العقوبة عليها محض حق الله تعالى
…
لذلك لا تقبل بعد ثبوتها الإسقاط ولا العفو ولا الصلح على مال، وكذلك الشأن في السرقة وسائر الحدود.
ولما كان التعويض المالي عن القتل الخطأ يقرر ابتداء
…
وفي القتل العمد مقرر صلحاً قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] .
وقال عليه الصلاة والسلام: ((في النفس مائة من الإبل)) وروي أنه عليه الصلاة والسلام ((قضى في قتيل بعشرة آلاف درهم)) الاختيار: ج4/ 45.
هذا ودية النفس أو العضو ليست ثمناً بحال من الأحوال؛ لأنها إنما شرعت للنفس عن الهدر، لا ثمناً لها ولذلك قدرها الشرع ولم يترك تقديرها ابتداء للعباد، ومجمل القول: إن لله تعالى في النفس حق الاستعباد، كما أن للعبد حق الاستمتاع، وحق العبد غالب، لذلك يجري فيه الإرث، ويصح الاعتياض عنه بالمال بطريق الصلح.
(كشف الاسرار: ج2/ 161)
وقال السرخسي في المبسوط: لما أوجب الله تعالى حق العبد في النفس والأطراف، لذلك عمل فيه إسقاطه، ويورث عنه ويسقط بإذنه (جـ26/ 61) .
وقال السمرقندي في التحفة: لو عفا المجروح عن الجراحة ثما مات منه صح عفوه استحساناً (هـ جـ2/ 128) ، وهذه أمارة أن التعويض المقدر هو حق العبد، فكان له ولاية المطالبة كما كان له ولاية الإسقاط والصلح.
وبسط الكاساني القول في المسألة وزادها إيضاحاً، بل وكاد يلامس القضية بالذات من خلال تعريفه الأحكام في عبارته التي جاء فيها: ولو قال: اقطع يدي فقطع لا شيء عليه بالإجماع، ووجه هذا الحكم بقوله: لأن الأطراف يسلك فيها مسلك الأموال!! وعصمة الأموال تثبت حقاً له (للإنسان) . فكانت محتملة للسقوط بالإباحة والإذن كما لو قال له: أتلف مالي، فأتلفه. قلت: ولا يخلو فعلهما حال القطع من الإثم لكل من الآمر والقاطع؛ لأنهما اشتركا في تنفيذ فعل محظور شرعا (البدائع: ج7/ 236)، وجاء في مشروعية القصاص ما نصه:
هذه العقوبة جزاء الفعل في الأصل، وأجزية الأفعال تجب في حق الله تعالى، ولكن لما كان وجوبها بطريقة المماثلة عرفنا أن معنى الحق راجح فيها، وأن وجوبها للجبران بحسب الإمكان، كما وقعت الإشارة إليه في قوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] .
ولهذا جرى فيه الإرث، وصح العفو، والاعتياض بطريقة الصلح بالمال، كما في حقوق العباد المحضة كبدل المتلفات (أصول السرخسي جـ2/ 297) .
وهكذا تبين أن للإنسان ولاية إسقاط العقوبة عن الجاني حال الاعتداء على عضو من أعضائه، حتى على حياته بالكلية، كمن جرح إنساناً فعفا المجروح عن الجاني، وكذلك شأن الورثة لهم حق العفو عن القاتل كما أسلفنا
…
ولكن هل الإنسان حق التبرع بعضو من أعضائه أو الإيصاء بها، فتنزع منه بعد وفاته..؟
ولنعد بالمسألة إلى أصول لها ثابتة ومسائل تقربنا من تقرير الحكم المناسب للمسألة.
أولاً: الرضاع، معلوم أن اللبن هو جزء الأم ترضعه أولادها وغيرهم، وذلك مشروع بالكتاب والسنة والإجماع، والمسألة واضحة
…
ولكن الفقهاء ذكروا أنه لا يجوز بيع لبن المرأة تكريماً لبني آدم.. وعليه الإجماع، قال ابن حزم:(ولا يصح بيع شيء أخذ من حي كلبن المرأة وشعور بني آدم) : اهـ. مراتب الإجماع 1/84.
مسألة أخرى: وهي التبرع بالدم، ولم ينقل خلاف بين العلماء على جوازه، ولئن كان اللبن تفرزه غدة معينة في الجسم وانفصاله لا يؤثر في البدن
…
لكن الدم بخلافه؛ حيث إن فقده بالكلية يفضي إلى الهلاك
…
ومع ذلك فلم يقل أحد من العلماء بتحريم التبرع بالدم بحال من الأحوال، وتعويضه في الجسم يستوجب بعض الوقت.
وهكذا يصل بنا الحديث إلى معالجة هذا الموضوع على ضوء القواعد الفقهية كما ذكرنا في مطلع البحث. وهذه القاعدة تعرف (بجلب المصالح ودرء المفاسد) .
ولا يخلو أي تصرف يقوم به الإنسان لتحقيق مصلحة ما إلا بمفسدة.. وذلك أن شرب الماء مصلحة لحياة البدن، وفي ذلك استهلاك للماء
…
وكذلك الشأن في الطعام واللباس وذبح الحيوان
…
بل ومشروعية الجهاد في سبيل الله
…
وكذلك مشروعية القصاص، والذي من شأنه قتل الجاني أو بتر عضو من أعضائه؛ كقطع يد أو رجل، وعلى الرغم من ذلك وصف تعالى هذا التصرف بالحياة. قال تعالى سبحانه:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179] وفقهاء المسلمين قالوا في هذا المجال: (جلب المصالح مقدم على درء المفاسد) .
قال الشاطبي: لما كانت المصالح الدنيوية لا يتخلص كونها مصالح محضة، وإنما تنمو على مقتضى ما غلب، فإن كانت المصلحة هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتبار فهي مقصودة شرعاً، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد. (اهـ الموافقات: 1/ 27) وقريب من ذلك ما ذكره العز بن عبد السلام في قواعده؛ حيث قال: وما يمكن تحصيل مصلحته إلا بإفساد بعضه كقطع اليد المتآكلة حفظاً للروح إذا كان الغالب السلامة فإنه يجوز قطعها (قواعد الأحكام: جـ1/ 92)
وهكذا كان الحكم صراحة في جواز قطع عضو إنسان لضمان استمرار سلامة سائر البدن، ونظيره شق جوف المرأة عن الجنين المرجو حياته؛ لأن حفظ حياة الجنين أعظم مصلحة من مفسدة انتهاك حرمة أمه. (القواعد: 1/102) .
فالمصلحة ما دامت هي المقصودة من التصرف لا تمنع بمجرد وقوع المفسدة ما دام أن المصلحة هي الراجحة، وهذا ما لا يخفى على عاقل.
ويقول العز بن عبد السلام: (وربما كانت أسباب المصالح مفاسد، فيؤمر بها
…
لا لكونها مفاسد، بل لكونها مؤدية إلى المصالح الحقيقة) (القواعد ج1/14) .
والشريعة الإسلامية إنما تهدف بالجملة إلى تحقيق المصالح ودرء المفاسد، وحيثما تكون المصلحة راجحة فثمة شرع الله، هذا والنفس البشرية معصومة ومحترمة، لذلك تعلق بها حق الله تعالى حتى لا يبلغ بها أصحابها في وقت من الأوقات أو في بلد من البلدان إلى مرتبة السلعة تباع وتشترى ولا يخفى ما في ذلك من إهدار لآدمية الإنسان وهدم لبنيان الرب كما جاء في الأثر:(الجسم بنيان الرب ملعون من هدمه) أي: ظلماً وعدواناً من غير وجه حق
…
ومما تقدم نخلص إلى القول بأن الإيصاء بعضو من الأعضاء في حال الحياة على أن يفصل من الموصي بعد الوفاة لينتفع به آخر تتوقف حياته على
…
أو يحول دون فقدان حاسة من حواسه كالعين أو سواها لا نرى أن قواعد الشريعة تحول دون مشروعيته والله أعلم. على أن يكون المتبرع كامل الأهلية، وإن كان في هذا التصرف انتهاك لحرمة الجسم بعد الموت، ولا يخفى ما في ذلك من مفسدة ظاهرة، لكن المصلحة المترتبة عليه من زرع ذلك العضو في جسم إنسان آخر واستمرار أدائه وظيفته التي خلق من أجلها مصلحة راجحة.
وإن مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في مكة المكرمة أصدر قراره بهذا الشأن في جلسته المنعقدة بتاريخ 7 جمادى الأولى سنة 1405 هـ28 كانون الثاني 1985 ونصه ما يلي
أولاً:
إن أخذ عضو من جسم إنسان حي، وزرعه في جسم إنسان آخر مضطر إليه لإنقاذ حياته، أو لاستعادة وظيفة من وظائف أعضائه الأساسية هو عمل لا يتنافى مع الكرامة الإنسانية بالنسبة للمأخوذ منه، كما أن فيه مصلحة كبيرة وإعانة خيرة للمزروع فيه، وهو عمل مشروع وحميد إذا توافرت فيه الشرائط التالية:
1) أن لا يضر أخذ العضو من المتبرع به ضرراً يخل بحياته العادية؛ لأن القاعدة الشرعية أن الضرر لا يزال بضرر مثله ولا بأشد منه ولأن التبرع حينئذ يكون من قبيل الإلقاء بالنفس إلى التهلكة وهو أمر غير جائز شرعاً.
2) أن يكون إعطاء العضو طوعاً من المتبرع دون إكراه.
3) أن يكون زرع العضو هو الوسيلة الطبية الوحيدة الممكنة لمعالجة المريض المضطر.
4) أن يكون نجاح كل من عمليتي النزع والزرع محققاً في العادة غالباً.
ثانياً:
تعتبر جائزة شرعاً بطريق الأولوية الحالات التالية:
1) أخذ العضو من إنسان ميت لإنقاذ إنسان آخر مضطر إليه.
بشرط أن يكون المأخوذ منه مكلفاً وقد أذن بذلك حالة حياته.
2) أن يؤخذ العضو من حيوان مأكول ومذكى مطلقاً، أو غيره عند الضرورة لزرعه في إنسان مضطر إليه.
3) أخذ جزء من جسم الإنسان لزرعه أو الترقيع به في جسمه نفسه، كآخذ قطعة من جلده أو عظمه لترقيع ناحية أخرى من جسمه بها عند الحاجة إلى ذلك.
4) وضع قطعة صناعية من معادن أو مواد أخرى في جسم الإنسان لعلاج حالة مرضية فيه؛ كالمفاصل وصمام القلب وغيرهما، فكل هذه الحالات الأربع يرى المجلس جوازها شرعاً بالشروط السابقة.
بيروت في 29 رجب 1407
الموافق 19 آذار 1987
الشيخ خليل محيي الدين الميس