الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما الزيارة الشركية، فأصلها مأخوذٌ عن عباد الأصنام، قالوا: الميت المعظم الذي لروحه قربٌ ومَزِيَّة عند الله -تعالى- لا يزال تأتيه الألطاف من الله -تعالى- وتفيض على روحه الخيرات. فإذا علق الزائر روحه به، وأدناها منه، فَاضَ من روح المَزُور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء على الجسم المقابل له. قالوا: فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت، ويعكف بهمته عليه، ويوجه قصده كله وإقباله عليه، بحيث لا يبقى فيه التفاتٌ إلى غيره. وكلما كان جمع القلب والهمة عليه أعظم: كان أقرب إلى الانتفاع به.
وقد ذكر هذه الزيارة ابن سينا والفارابي وغيرهما، وصرح بها عباد الكواكب في عبادتها، وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها أعيادا وتعليق السُّتُور عليها، وإيقاد السُّرُج، وبناء المساجد عليها، وهو الذي قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطالَه ومَحْوَهُ بالكلية، وسد الذرائع المُفْضِيَة إليه، فوقف المشركون في طريقه وناقضوه في قصده.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في شِقٍّ وهؤلاء في شِقٍّ. وهذا الذي ذكره هؤلاء في زيارة القبور والشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها، وتشفع لهم عند الله، قالوا: فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوَجِيهِ المُقَرَّب عند الله، وتوجه بهمته إليه وعكف بقلبه عليه، صار بينه وبينه اتصالٌ يفيض عليه نصيب مما يحصل له من الله. وشَبَّهُوا ذلك بمن يخدم ذا جاهٍ وحظوةٍ وقُرْبٍ من السلطان، وهو شديد التعلق به، فما يحصل لذلك من السلطان من الإنعام والإفضال ينال ذلك المتعلقَ به بحسب تعلقه به. فهذا سر عبادة الأصنام، وهو الذي بعث الله رسله؛ وأنزل كتبه بإبطاله وتكفير أصحابه، ولعنهم وأباح دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم، وأوجب لهم النار.
[الشفاعة جميعها لله يأذن لمن شاء لمن ارتضى]
والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد على أهله وإبطال مذهبهم، قال الله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ *
قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 1 فأخبر أن الشفاعة لمن له ملك السماوات والأرض، وهو الله وحده، وهو الذي يشفع بنفسه إلى نفسه؛ ليرحم عبده، فيأذن هو لمن يشاء أن يشفع فيه؛ فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له. والذي يشفع عنده إنما يشفع بإذنه وأمره، بعد شفاعته -سبحانه- إلى نفسه، وهي إرادته من نفسه أن يرحم عبده.
وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون وَمَن وافَقَهم، وهي التي أبطلها الله سبحانه وتعالى بقوله:{وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} 2، وقوله:{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} 3، وقال:{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 4. وأخبر -سبحانه- أنه ليس للعباد شفيع من دونه؛ بل إذا أراد -سبحانه- رحمة لعبده أذن هو لمن يشفع فيه، كما قال تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} 5. وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 6. فالشفاعة بإذنه، ليست شفاعة من دونه، ولا الشافع شفيعٌ من دونه، بل يشفع بإذنه. والفرق بين الشَّفِيعَيْن كالفرق بين الشريك والعبد المأمور، فالشفاعة التي أبطلها شفاعة الشريك فإنه لا شريك له، والتي أثبتها شفاعة العبد المأمور الذي يشفع ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له، ويقول: أشفع في فلان.
ولهذا كان أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد الذين جردوا التوحيد، وخَلَّصُوه من تعلقات الشرك وشوائبه، وهم الذين ارتضى الله -سبحانه-. قال تعالى:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} 7، وقال تعالى:{يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} 8، فأخبر أنه لا تحصل يومئذ شفاعة تنفع إلا بعد رضى قول المشفوع له، وإذنه للشافع. فأما المشرك فإنه لا يرضاه، ولا
1 سورة الزمر آية: 43،44.
2 سورة البقرة آية: 123.
3 سورة البقرة آية: 254.
4 سورة الأنعام آية: 51.
5 سورة يونس آية: 3.
6 سورة البقرة آية: 255.
7 سورة الأنبياء آية: 28.
8 سورة طه آية: 109.