الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
[نقض حجة الزيدي من كلام من احتج بهم]
أما قوله: (وقد ذكر القاضي العلامة إسحاق بن محمد العبدي رحمه الله في كتاب "الاحتراس" بعد أن طوَّل بما يشفي الصدور في تقرير حجة المأولين للعرش بالعز، والملك والاستواء بالاستيلاء والقهر. ولكنه كلام طويل تضيق عنه هذه الرسالة، فاقتصرنا على آخر كلامه، قال ما لفظه: "إذا استبان لك ما أشرنا إليه، فأمر الاختيار مفوض إليك. فأما جمهور العدلية من المعتزلة وغيرهم، فقد جنحوا إلى التأويل، ورأوا أن ذلك أوفق وأليق لمن يرد إلى سواء السبيل.
وأما المحافظون على بقاء الظواهر، وكذلك التاركون للتفصيل والتأويل، فقد ظنوا أن في ذلك نوعا من التعطيل، وما التفتوا إلى التأويل، وما يرفع الشبه لا بد منه عند الفريقين، إما في نفس العرش، أو الاستواء عليه، وإما أن يكون التأويل تفصيليا أو إجماليا، وإذا كان لا بد من التأويل، فالتأويل بما يرفع مطالبة الوهم بالكيف، ويقطع مادة تلفته إلى إدراك تلك الحقيقة أحق وأوفق وأليق.
وقد كشفت لك الغطاء في التعيين والتوقف والتأويل، وأنت بعد ذلك مخير على أي جانبيك تميل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل").
(فالجواب) أن يقال: هذا الذي نقلته من هذا الكلام، قد نقض عليك ما نقلته قبل ذلك بأسطر يسيرة من أن تأويل الاستواء على العرش متفق عليه، إلا عند مثل ابن عربي والمجسمة، وذلك أنه ذكر في كلامه الأقوال في المسألة.
فذكر أن جمهور العدلية من المعتزلة وغيرهم يميلون إلى التأويل. فكلامه يدل على أن بعض المعتزلة يميل إلى القول المقابل لقول أهل التأويل؛ ولهذا قال: وأما المحافظون على بقاء الظواهر، وكذا التاركون للتفصيل والتأويل، فقد ظنوا أن في ذلك نوعا من التعطيل. ثم إنه خيَّر الناظر في كلامه على أي وجه يميل إليه من تلك الأقوال، وإن كان القول الأول هو الأوفق والأليق والراجح عنده. فلو أن هذا المعترض
قال مثل مقالة هذا الرجل لكان أليق به وأوفق.
وأما ما ذكره من كلام الزمخشري وغيره من أئمة المعتزلة. فكلامهم في نفي الصفات، والقول بخلق القرآن مشهور معروف، وليسوا من أئمة العلم والدين المقتدى بهم، بل هم من أئمة البدع والضلال؛ ولهذا نقل عن بشر بن غياث المريسي حديثا عن ابن عباس رضي الله عنهما.
فإذا كان رجاله الذين ينقل عنهم كلام أهل البيت مثل بشر بن غياث المريسي، وأضرابه الذين كفرهم أهل العلم، وبَدَّعُوهم، واشتهروا بينهم بالزندقة والكفر والكذب، تبين لك أن عامة ما ينقله هذا وأشباهه عن أهل البيت كذب وافتراء عليهم. نسأل الله أن ينتقم لأهل البيت ممن كذب عليهم وأبغضهم، وقد قال البخاري رحمه الله في كتاب "خلق أفعال العباد": حدثني أبو جعفر، حدثني أحمد بن خالد الخلال، قال: سمعت يزيد بن هارون ذكر أبا بكر الأصم وبشر المريسي، فقال:"هما والله زنديقان، كافران بالرحمن، حلالا الدم".
وقال الخطيب في تاريخه المشهور: "وبشر بن غياث من أصحاب الرأي، أخذ الفقه من أبي يوسف القاضي، إلا أنه اشتغل بالكلام، وجرد القول بخلق القرآن، وحكى عنه أقوالا شنيعة، ومذاهب مستنكرة، أساء أهل العلم قولهم فيه بسببها، وكفره أكثرهم لأجلها". ثم ذكر الخطيب كلام أهل العلم في تكفيره، والأمر بقتله.
وقد صنف علماء السنة مصنفات كثيرة في الرد على بشر المريسي، ونحوه من أئمة الجهمية والمعتزلة. فمن ذلك ما صنفه أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي الإمام المشهور من طبقة البخاري، ومسلم، والترمذي، وأبي داود، وطبقتهم، وسماه "نقض عثمان بن سعيد، على المريسي الجهمي العنيد، فيما افترى على الله في التوحيد" قال فيه: "وقد اتفقت الكلمة من المسلمين، والكافرين أن الله في السماء، إلا المريسي الضال وأصحابه، حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحنث، قد عرفوه بذلك: إذا ضرب الصبي رفع يده إلى السماء يدعو ربه، وكلامه بالله وبمكانه أعلم من الجهمية"، حدثنا
أحمد بن منيع، حدثنا معاوية، عن شبيب بن شيبة، عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيه:"يا حصين كم تعبد اليوم؟ قال: سبعة: ستة في الأرض، وواحدا في السماء. قال: فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء"1 فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على الكافر إذ عرف أن إله العالمين في السماء.
فحصين الخزاعي في كفره يومئذ كان أعلم بالله الجليل من بشر المريسي وأصحابه مع ما ينتحلون من الإسلام، إذ ميز بين الإله الخالق الذي في السماء، وبين الآلهة والأصنام المخلوقة في الأرض.
(قال): وادعى المعارض -أيضًا- أن قول النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله ينْزل إلى سماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل، فيقول: هل من مستغفر؟ هل من داع؟ هل من تائب؟ "2 فادعى أن الله لا ينزل بنفسه، إنما ينْزل أمره ورحمته، وهو على العرش، وبكل مكان من غير زوال؛ لأنه الحي القيوم، والقيوم بزعمه لا يزول.
(قال): فيقال لهذا المعارض: وهذا أيضا من حجج النساء والصبيان، ومن ليس عنده بيان، ولا لمذهبه برهان؛ لأن أمر الله ورحمته ينزلان في كل ساعة ووقت وأوان، فما بال النبي صلى الله عليه وسلم يحد لنُزوله الليل دون النهار؟ ويوقت من الليل شطره أو الأسحار؟ فأمره ورحمته يدعوان العباد إلى الاستغفار؟ أَو يَقْدِرُ الأمر والرحمة أن يتكلما دونه فيقولان: هل من داع فأجيب؟ هل من مستغفر فأغفر؟ هل من سائل فأعطي؟ فإن قررت مذهبك لزمك أن تدعي أن الرحمة والأمر هما اللذان يدعوان إلى الإجابة والاستغفار بكلامهما دون الله. وهذا محال عند السفهاء، فكيف عند الفقهاء؟!
وقد علمتم ذلك، ولكن تكابرون، وما بال رحمته وأمره ينْزلان من عنده شطرا من الليل، ثم لا يمكثان إلا إلى طلوع الفجر، ثم يرفعان؟ لأن رفاعة يرويه في حديثه حتى ينفجر الفجر، وقد علمتم -إن شاء الله- أن هذا التأويل أبطل باطل، ولا يقبله إلا كل جاهل.
1 الترمذي: الدعوات (3483).
2 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) ، وأحمد (2/ 433 ،3/ 43 ،3/ 94).
وأما دعواك أن تفسير الحي القيوم: الذي لا يزول عن مكانه، ولا يتحرك، فلا يقبل هذا التفسير إلا بأثر صحيح مأثور عن رسول -الله صلى الله عليه وسلم أو عن بعض أصحابه أو التابعين؛ لأن الحي القيوم يفعل ما يشاء، ويتحرك إذا شاء، ويهبط ويرتفع إذا شاء، ويقبض ويبسط إذا شاء، ويجلس إذا شاء؛ لأن أمارة ما بين الحي والميت التحرك، فكل حي متحرك لا محالة.
ومن يلتفت إلى تفسيرك وتفسير صاحبك مع تفسير نبي الرحمة ورسول رب العزة إذ فسر نزوله مشروحا منصوصا، ووَقّتَ لنُزوله وقتا مخصوصا، لم يدع لك ولا لأصحابك فيه لبسا.
(قال): ثم أجمل المُعارض جميع ما تنكره الجهمية من صفات الله -تعالى- وذاته المسماة في كتابه، وفي آثار رسوله صلى الله عليه وسلم، فعد منها بضعة وثلاثين صفة نسقا، وأخذ يحكم عليها، ويفسرها بما حكم به المريسي، وفسرها وتأولها حرفا حرفا، معتمدا فيها على تفسير الزائغ الجهمي بشر بن غياث المريسي، متسترا عند الجهال بالتشنيع على قوم يؤمنون بها، ويصدقون الله ورسوله فيها بغير تكييف ولا تمثيل.
فزعم أن هؤلاء مؤمنين بها يكيفونها، ويشبهونها بذوات أنفسهم، وأن العلماء -بزعمه- قالوا: ليس في شيء منها اجتهاد رأي ليدرك كيفية ذلك، أو يشبه شيئا منها بشيء مما هو للخلق موجود. قال: وهنا خطأ، كما أن الله ليس كمثله شيء، فكذلك ليس ككيفيته شيء.
قال أبو سعيد: فقلنا لهذا المعارض المشنع: أما قولك: إن كيفية هذه الصفات، وتشبيهها بما هو في الخلق خطأ. فإنا لا نقول: إنه خطأ كما قلت، بل هو عندنا كفر، ونحن بكيفيتها، وتشبيهها بما هو في الخلق موجود أشد اتقاء منكم، غير أنا كما أنا لا نشبهها ولا نكيفها، ولا نكفر بها ولا نكذب بها، ولا نبطلها بتأويل الضلال كما أبطلها إمامك المريسي في أماكن من كتابك.
وأما ما ذكرت من اجتهاد الرأي في تكييف صفات الله. فإنا لا نجيز اجتهاد الرأي في كثير من الفرائض والأحكام التي نراها بأعيننا، ونسمعها في آذاننا، فكيف في صفات الله التي لم ترها العيون، وقصرت عنها الظنون؟ غير أنا
لا نقول فيها كما قال إمامك المريسي: إن هذه الصفات كلها كشيء واحد، وليس السمع منه غير البصر، ولا الوجه منه غير اليد، ولا اليد منه غير النفس، وأن الرحمن ليس يعرف -زعمكم- لنفسه سمعا من بصر، ولا وجها من يدين، ولابصرا من سمع، هو كله -بزعمكم- سمع وبصر، ووجه ويد، ونفس وعلم، ومشيئة وإرادة، مثل الأرضين والسماء والجبال والتلال والهواء التي لا يعرف لشيء منها شيء من هذه الصفات والذوات.
والله تعالى عندنا متعال أن يكون كذلك، فقد ميز الله في كتابه السمع من البصر، فقال:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} 1، وقال:{إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} 2، وقال:{وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} 3، ففرق بين الكلام والنظر دون السمع، فقال عند السماع:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} 4 إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} 5، وقال -تعالى-:{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} 6، ولم يقل: قد رأى الله، وقال في موضع الرؤية:{الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} 7، وقال:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} 8، ولم يقل: سمع الله تقلبك، وسمع عملكم. فلم يذكر الرؤية فيما يسمع، ولا السماع فيما يرى، كما أنهما عنده خلاف ما عندكم.
وكذلك قال الله -تعالى-: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} 9، وقال:{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} 10 ولم يقل لشيء من ذلك: على سمعي. فكما أنا لا نكيف هذه الصفات، لا نكذب بها كتكذيبكم، ولا نفسرها كباطل تفسيركم. انتهى.
فتأمل -رحمك الله- كلام هذا الإمام بعين البصيرة يتبين لك بطلان كلام هذا المعترض، وكذبه على أهل البيت، وأنه هو وشيعته من أبعد الناس عن اتباعهم، وإنما يتبعون أعداء الملة الإسلامية والطريقة المحمدية، كجهم والمريسي وأحزابهما من أهل البدع والضلال، والله أعلم.
1 سورة طه آية: 46.
2 سورة الشعراء آية: 15.
3 سورة آل عمران آية: 77.
4 سورة المجادلة آية: 1.
5 سورة المجادلة آية: 1.
6 سورة آل عمران آية: 181.
7 سورة الشعراء آية:218، 219.
8 سورة التوبة آية: 105.
9 سورة القمر آية: 14.
10 سورة طه آية: 39.