الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مما لا تقوم به الحجة.
ولهذا كانوا يخرجون في كتبهم جميع الأحاديث الصحيحة والضعيفة والحسنة والموضوعة، وأهل الخبرة بالحديث وعلله ورجاله يميزون الحديث الصحيح من غيره، كما يميز الصيرف البصير الدراهم المغشوشة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل
[انصراف وصيته صلى الله عليه وسلم بأهل بيته إلى من في زمنه منهم]
ثم قال المعترض: (فإذا تقرر ذلك، فقد قال كثير من العلماء المحققين: إن المطلق إذا ورد صرف، وخص بالأغلب المألوف المعروف حال الورود، مثل تحريم الميتة في قوله -تعالى-:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 1 فإنه ينصرف إلى الأكل خاصة دون الانتفاع والترطب، ولا يدخل تحريم غير الأكل بالآية بأدلة السنة، فكذلك نصنع في قوله:{وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} 2 فإنه مطلق فيصرف إلى تخصيص الولاية بعلي رضي الله عنه.
ويؤيد التخصيص الإضافة؛ لتتم فائدتها وهو التخصيص، إذ هو أولى من جعلها للعموم كما ذكره المجيب؛ لأن العموم يوجب المصير إلى كون الإضافة بيانية، وهو خلاف الغالب في الإضافة، ولو جازت غلبت الولاية، وحصلت لصحابي بملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثل علي عليه السلام؛ لتلقيناه بالقبول، ووضعناه على الرأس، ولا نحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله).
(فالجواب) من وجوه:
(أحدها): أن يقال: أمكنت والله الرامي من سواء الثغرة، ونقضت الأصل الذي أصلت، والدلائل التي أوردت من الأحاديث التي سطرت، كحديث زيد بن أرقم في قوله:"فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي"
…
إلخ. فيقول لك خصمك: هذا محمول على أهل بيته المعهودين المعروفين في زمانه، ولا يدخل فيهم من بعدهم من الذرية.
وهذا عكس مراد المعترض؛ لأنه قرر في كلامه أن أهل البيت كلهم، من كان منهم من الصحابة، ومن جاء بعدهم من ذرياتهم - أنهم كلهم داخلون في عموم هذه الآيات التي
1 سورة المائدة آية: 3.
2 سورة التحريم آية: 4.
أورد، والأحاديث التي ذكر، فكيف يقول هذا الجاهل بكلام الله ورسوله، وكلام أهل العلم: إن المطلق إذا ورد صرف، وخص بالأغلب المألوف المعروف حال الورود.
فيقول لك خصمك: دلائلك هذه التي أوردت محمولة على أهل بيته المعهودين المعروفين في زمانه: كالعباس وأولاده، وجعفر وأولاده، وعقيل وأولاده، وأبي سفيان بن الحارث وأولاده، وأولاد أبي لهب، وعلي وأولاده منهم، ولا يدخل فيهم من بعدهم من الذرية، فما هذا الاعتراض البارد الذي كشف الله به عورتك، وجعلك به ضحكة عند من نظر في كلامك؟ وهذا الوجه كاف في رد كلام هذا المعترض.
(الوجه الثاني): أن يقال قوله عن كثير من العلماء المحققين: "إن المطلق إذا ورد صرف، وخص بالأغلب المألوف المعروف حال الورود، مثل تحريم الميتة في قوله:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 1، فإنه ينصرف إلى الأكل خاصة دون الانتفاع، والترطب
…
إلخ. فهذا يدل على جهل هذا المعترض بما ذكره علماء الأصول المحققون. فقد قال أبو زرعة أحمد بن الإمام عبد الرحيم بن الحسين العراقي الشافعي في "شرحه على جمع الجوامع" لابن السبكي تقي الدين رحمه الله، وهذا لفظ الماتن والشارح:(العام لفظ يستغرق الصالح له من غير حصر)(ش) فهم من تصدير تعريف العام باللفظ أنه من عوارض الألفاظ، والمراد لفظ واحد للاحتراز عن الألفاظ المتعددة الدالة على أشياء متعددة، وخرج بقوله:(يستغرق) المطلق، فإنه لا يدل على شيء من الإفراد أصلا. والنكرة في سياق الإثبات مفردة كانت أو مثناة أو مجموعة أو عددا، فإنها إنما تتناول الإفراد على سبيل البدل. واحترز بقوله: (الصالح له عما لا يصلح، فعدم استغراق "ما" -لمن يعقل- إنما هو لعدم صلاحيتها له، أي: عدم صدقها عليه، لا لكونها غير عامة.
وخرج بقوله: (من غير حصر) أسماء العدد، فإنها متناولة للصالح لها، لكن مع الحصر، وهذا مبني على أنها ليست عامة. وتبعه المصنف هناك، وزاد البيضاوي وغيره في هذا التعريف "بوضع واحد" ليخرج المشترك إذا أريد به معناه،
1 سورة المائدة آية: 3.
فإنه مستغرق لما يصلح له، لكن بوضعين لا بوضع واحد، فتناوله لهما ليس من العموم.
(ص) والصحيح دخول النادرة، وغير المقصودة تحته، وأنه قد يكون مجازا، وأنه من عوارض الألفاظ، قيل والمعاني وقيل به في الذهن، ويقال للمعنى أعم، واللفظ عام.
(ش) فيه مسائل:
(الأولى): الصحيح أن الصورة النادرة تدخل في العموم، وقال الشارح: زعم المصنف أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي حكى فيه خلافا، ولم أجده في كتبه، وإنما يوجد في كلام الأصوليين اضطراب فيه يمكن أن يؤخذ منه الخلاف، وكذا في كلام الفقهاء؛ ولهذا اختلفوا في المسابقة على الفيل على وجهين:(أصحهما) نعم؛ لقوله عليه السلام: "لا سبق إلا في خف أو حافر"1 (والثاني) لا؛ لأنه نادر عند المخاطبين في الحديث.
[دخول الصور النادرة والمجاز في صيغة العموم]
(الثانية): الصحيح دخول الصور التي ليست مقصودة في العموم؛ فإن اللفظ متناول لها، ولا انضباط للمقاصد، وممن حكى الخلاف في ذلك القاضي عبد الوهاب، ويوجد في كلام أصحابنا؛ ولهذا قال في البسيط، بعد حكاية الخلاف في ذلك، فيما لو وكله بشراء عبد، فاشترى من يعتقه على الموكل. ومثار الخلاف التعلق بالعموم، والالتفات إلى المقصود.
(الثالثة): الصحيح أن المجاز كالحقيقة في أنه قد يكون عاما، فلم ينقل عن أحد من أئمة اللغة أن الألف واللام، أو النكرة في سياق النفي، أو غيرهما من صيغ العموم، لا تفيد العموم إلا في الحقيقة، وخالف فيه بعض الحنفية، فزعم أن المجاز لا يعم بصيغته؛ لأنه على خلاف الأصل.
(الرابعة): لا خلاف أن العموم من عوارض الألفاظ، وليس المراد وصف اللفظ به مجردا عن المعنى، بل باعتبار معناه الشامل للكثرة. وعطف المصنف ذلك على ما عبر فيه بالأصح يقضي خلافا فيه. قال الشارح: وينبغي أن يجعل استئنافا لا عطفا على ما قبله. قلت: يمكن أنه أراد أنه من عوارض الألفاظ فقط، فيرجع
1 الترمذي: الجهاد (1700)، والنسائي: الخيل (3589)، وابن ماجه: الجهاد (2878) ، وأحمد (2/ 256 ،2/ 358 ،2/ 474).
التصحيح إلى تضعيف القول بأنه من عوارض المعاني أيضا، لا إلى كونه من عوارض الألفاظ؛ ولذلك عقبه بقوله:(قيل والمعاني). والذاهبون إليه اختلفوا في أن عروضه للمعاني: هل هو حقيقة أو مجاز، فقال بعضهم: حقيقة، فكما صح في الألفاظ شمول أمر لمتعدد، صح في المعاني شمول معنى لمعاني متعددة بالحقيقة فيها.
وقال القاضي عبد الوهاب: مراد قائله حمل الكلام على عموم الخطاب، وإن لم يكن هناك صيغة تعمها، كقوله -تعالى-:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 1 إن نفس الميتة وعينها لما لم يصح تناول التحريم لها، عممنا بالتحريم جميع التصرف فيها، من الأكل والبيع واللبس وسائر أنواع الانتفاع، وإن لم يكن للأحكام ذكر في التحريم لا بعموم ولا بخصوص. انتهى ما ذكره ابن السبكي، وأبو زرعة أحمد بن عبد الرحيم في الشرح المذكور.
[تحريم الميتة يشمل جميع أنواع الانتفاع بها]
وقال المقدسي من الحنابلة: قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 2 هي ظاهرة في جميع أنواع التصرف، واستدل على أن المراد جميع أنواع التصرف فيها بأدلة ذكرها.
وكذلك قال ابن عقيل: يحرم جميع الأفعال فيها، وقد ذكر أنه قول الجبائي، وابنه وعبد الجبار، فظاهر هذا، بل صريحه أن هذه الآية عامة في كل نوع من الانتفاع؛ ولهذا احتج بها أحمد في دباغ جلود الميتة. قال في رواية صالح: إن الله قال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 3، فالجلد هو من الميتة، وههنا احتج بها أحمد على عدم الانتفاع بالجلد.
فظهر بما ذكر عن هؤلاء الأئمة بطلان ما ذكره هذا المعترض في عدم شمول الآية في أنواع الانتفاع؛ ولهذا ثبت في الصحيح والسنن من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال -عام الفتح وهو بمكة-: "إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنْزير والأصنام. فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، هو حرام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله -تعالى- لما حرم عليهم شحوم الميتة جملوها، ثم باعوها فأكلوا ثمنها"4.
1 سورة المائدة آية: 3.
2 سورة المائدة آية: 3.
3 سورة المائدة آية: 3.
4 البخاري: البيوع (2236)، ومسلم: المساقاة (1581)، والترمذي: البيوع (1297)، والنسائي: الفرع والعتيرة (4256) والبيوع (4669)، وأبو داود: البيوع (3486)، وابن ماجه: التجارات (2167) ، وأحمد (3/ 326).