الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معنى التقوى وتفسير قول الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} إلى قوله: {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
1
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان، وفقنا الله وإياهم لإقامة شرائع الدين، واستعملنا فيما استعمل فيه أهل الإيمان واليقين، وجعلنا من الشاكرين لنعمة الإسلام، المثنين بها عليه، ونسأله أن يتقبلها منا، ويتمها علينا بالرغبة فيما يوجب الفوز لديه.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:
فأوصيكم وإياي بتقوى الله -تعالى- في الغيب والشهادة، قال الله -تعالى-:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} 2 الآية، قال طلق بن حبيب رحمه الله: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.
1 سورة آل عمران آية: 102: 105.
2 سورة النساء آية: 131.
3 سورة آل عمران آية: 102: 105.
وينبغي أن نشير إلى بعض ما ورد عن السلف -رحمهم الله تعالى- في معنى هذه الوصية العظيمة المتضمنة لأصول الدين، وما يقوم عليه من الأعمال.
فعن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- موقوفا -وروي مرفوعا- والموقوف أشهر {حَقَّ تُقَاتِهِ} 1 أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.
وأصل الإسلام وأساسه أن ينقاد العبد لله -تعالى- بالقلب والأركان، مذعنا له بالتوحيد، مفردا له بالإلهية والربوبية دون كل ما سواه، مقدما مراد ربه على كل ما تحبه نفسه وتهواه، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:"الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا"2 الحديث.
[ما ورد في معنى حبل الله]
وحبل الله دينه الذي أمركم به، وعهده إليكم في كتابه من الألفة والاجتماع على كلمة الحق والتسليم لأمر الله.
قال أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله تعالى-: وهو جامع لكل ما ورد عن السلف في معناه كما روي عن ابن مسعود قال: حبل الله الجماعة، وعن أبي العالية: اعتصموا بالإخلاص لله وحده، وعن ابن زيد قال: الحبل الإسلام، وقيل: هو القرآن لما روى ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن هو حبل الله المتين، وهو النور المبين، وهو الشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه"3.
[عليكم بالطاعة والجماعة]
ثم قال تعالى: {وَلا تَفَرَّقُوا} 4. عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "يا أيها الناس، عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الطاعة والجماعة، هو خير مما تحبون في الفرقة".
وأخرج محمد بن نصر المروزي وغيره من حديث عبد الله بن يحيى أبي عامر أن معاوية رضي الله عنه قام حين صلى الظهر بمكة فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
1 سورة آل عمران آية: 102.
2 مسلم: الإيمان 8 ، والترمذي: الإيمان 2610 ، والنسائي: الإيمان وشرائعه 4990 ، وأبو داود: السنة 4695 ، وابن ماجه: المقدمة 63 ، وأحمد 1/ 27 ،1/ 51 ،2/ 107.
3 الدارمي: فضائل القرآن 3315.
4 سورة آل عمران آية: 103.
قال: "إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين فرقة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة -يعني الأهواء- كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة"1. والله يا معشر العرب إن لم تقوموا بما جاء به نبيكم صلى الله عليه وسلم لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم، فكل بدعة ضلالة"2.
[جاء الله بالإسلام فألف به بين الناس]
ثم قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي: اذكروا ما أنعم به عليكم من الألفة والاجتماع على الإسلام، حين كنتم أعداء على شرككم، يقتل بعضكم بعضا، عصبية في غير طاعة الله ولا طاعة رسوله، فألف الله بين قلوبكم تواصلون بألفة الإسلام واجتماع كلمتكم عليه.
وذكر عن قتادة: كنتم تذابحون، يأكل شديدكم ضعيفكم، حتى جاء الله بالإسلام، فألف به بينكم، فوالله الذي لا إله إلا هو إن الألفة رحمة، وإن الفرقة لعذاب.
[معنى قوله تعالى: {وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها}]
وقوله: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} 3 يقول تعالى: وكنتم على طرف جهنم بكفركم الذي كنتم عليه، فأنقذكم الله بالإيمان الذي هداكم به. وذكر عن قتادة في الآية: كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا، وأشقاه عيشا، وأبينه ضلالة، وأعراه جلودا، وأجوعه بطونا، مكفوفين على رأس حجر بين الأسدين: فارس والروم. لا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه. من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات ردي في النار، يؤكلون ولا يأكلون. والله ما نعلم قبيلا يومئذ من حاضر الأرض كانوا فيها أصغر حظا، وأدق شأنا منهم. حتى جاء الله بالإسلام، فورثكم به الكتاب، وأحل به دار الجهاد، ووضع لكم به الرزق، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم. فاشكروا نعمه فإن ربكم منعم يحب الشاكرين؛ وإن أهل الشكر في مزيد من الله، فتعالى ربنا وتبارك.
[قوله تعالى: {كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون}]
وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُم تَهْتَدُون} 4 أي: يعرفكم في
1 أبو داود: السنة 4597 ، وأحمد 4/ 102 ، والدارمي: السير 2518.
2 الدارمي: المقدمة 205.
3 سورة آل عمران آية: 103.
4 سورة آل عمران آية: 103.
كل ذلك مواقع نعمه وصنائعه فيكم، ويبين لكم حجته في تنْزيله على رسوله صلى الله عليه وسلم لتهتدوا إلى سبيل الرشاد، وتسلكوها فلا تضلوا عنها.
[الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
وقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} 1 الآية، قال ابن كثير في تفسيره: المقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من الأمة متصدية للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحبسه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"2.
وفي المسند عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه، فلا يستجيب لكم"3 انتهى.
قلت: وروى محمد بن نصر من حديث يزيد بن مرثد مرسلا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل رجل من المسلمين على ثغرة من ثغور الإسلام، الله الله لا يؤتى الإسلام من قبلك". وروى بسنده عن الحسن بن حي: "إنما المسلمون على الإسلام بمنْزلة الحصن، فإذا أحدث المسلم حدثا ثغر في الإسلام من قبله، فإن أحدث المسلمون كلهم، فاثبت أنت على الأمر الذي لو اجتمعوا عليه لقام الدين لله بالأمر الذي أراده من خلقه".
[النهي عن الاختلاف والفرقة]
قال ابن عباس في الآية: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء، والخصومات في دين الله.
قلت: فتأمل كيف نهى الله سبحانه في هذه الآيات عن التفرق في موضعين، وأخبر أنه من موجبات العذاب العظيم، وأرشد إلى أسباب الاجتماع على دينه وشرعه.
1 سورة آل عمران آية: 104.
2 مسلم: الإيمان 49 ، والترمذي: الفتن 2172 ، والنسائي: الإيمان وشرائعه 5008 ، وأحمد 3/ 20 ،3/ 49 ،3/ 54 ،3/ 92.
3 أحمد 5/ 388.
4 سورة آل عمران آية: 105.
ومن أعظمها الاعتصام بكتابه ودينه علما وعملا، وأداء شكره، والقيام بما فرضه على عباده من الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
[الفساد بالإعراض عن كتاب الله والخير في اتباعه]
ومن هنا تعلم أن من أعظم الفساد، الإعراض عن كتاب الله وما بعث الله به رسوله من الهدى والعلم، واتباع الأهواء والآراء المضلة، نعوذ بالله من ذلك، فإذا وقع ذلك ترتب عليه من أنواع الفساد ما لا يكاد يبلغه الوصف. فمن ذلك الاختلاف في الدين والتحاسد، والتدابر والتقاطع، فلا تكاد ترى إلا من هو معجب برأيه، منتقص لغيره، مخلد إلى الأرض عن تعلم العلم وتعليمه.
فالواجب على من أعطاه الله شيئا من العلم أن يبذله لطالبيه، وأن يقوم بما أوجب الله -تعالى- عليه من النصيحة لله ولرسوله ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم، وعلى الخاصة والعامة أن يعظموا كتاب ربهم ودينه وشرعه، ويقبلوا بكليتهم على ما ينفعهم من تعلم دينهم وطاعة ربهم، وترك معاصيه، وأن يقوموا بما وجب عليهم مع ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على علم وبصيرة، وأن يهتموا بما يصلح ذلك من الإخلاص لله تعالى في أمور دينهم.
وعلى من نصح نفسه أن يكون حذرا من الأسباب التي تضعف الإيمان، وتجلب أسباب المآثم والعصيان، من الهلع والطمع والرضاء بالدنيا، والاطمئنان بها، وفي الحديث:"حب الدنيا رأس كل خطيئة".
وأخرج البخاري وغيره من حديث أبي سعيد: "أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر، وجلسنا حوله فقال: إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها، فقال رجل: يا رسول الله أفيأتي الخير بالشر؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له: ما شأنك تكلم النبي صلى الله عليه وسلم ولا يكلمك؟ فرأينا أنه ينْزل عليه. قال: فمسح عنه الرحضاء، فقال: أين السائل؟ وكأنه حمده، فقال: إنه لا يأتي الخير بالشر، وإن مما ينبت الربيع يقتل أو يلم، إلا آكلة الخضر إذا أكلت
حتى إذا امتدت خاصرتاها، استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ورتعت، وإن هذا المال خضرة حلوة، فنعم صاحبه المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل". أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "وإن من يأخذه بغير حقه، كالذي يأكل ولا يشبع، فيكون شهيدا عليه يوم القيامة". انتهى.
فهذا مثل ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين فيه أن من جمع الدنيا أو طلبها من غير حلها، وصرفها في غير حقها، صارت عليه وبالا، ومن أجمل في طلبها وأخذها من حلها، وأدى حق الله فيها، ولم يشتغل بها عن طاعة مولاه، فإنها تكون في حقه نعمة وعطية، ولغيره محنة وبلية.
هذا وقد أعطاكم الله من أصناف نعمه ما تحبون، وصرف عنكم ما تكرهون، ابتلاء وامتحانا لتعرفوا نعمه وتشكروها {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} 1.
فانظروا -رحمكم الله- بماذا تقابلونها، أباستعمالها في طاعته ودينه ومراضيه؟ أم تجعلونها سلما إلى الإعراض عن دينه وارتكاب معاصيه من الظلم والبغي والأشر والبطر، واللهو، واللعب، وقول الزور، والسخرية ونحو ذلك مما لا يحبه الله ولا يرضاه؟
نسأل الله السلامة من أسباب التغيير، قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} 2.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك، اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.
الله الله عباد الله، قيدوا نعم الله بشكره واتباع ما يرضيه، وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، فإن الله خولكم نعمه لتطيعوه ولا تعصوه، وتعملوا بدينه وشرعه
1 سورة إبراهيم آية: 34.
2 سورة الرعد آية: 11.