الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من فعله أو اعتقده كفر، كما إذا جحد وجوب ما هو معروف من الدين بالضرورة، أو استحل ما هو معروف بالضرورة أنه محرم.
فهذا مما أجمع العلماء على أنه كفر إذا جحد الوجوب، إلا إذا ترك الصلاة تهاونا وكسلا، فالمشهور في مذهب أحمد أنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافرا، وأما الثلاثة فلا يكفرونه بالترك، بل يعدونه من الكبائر، وكذلك إذا فعل كبيرة كما تقدم، فلا يكفر عند أهل السنة والجماعة إلا إذا استحلها.
[السفر إلى بلاد المشركين]
وأما السفر إلى بلاد المشركين للتجارة، فقد عمت به البلوى، وهو نقص في دين من فعله لكونه عرض نفسه للفتنة بمخالطة المشركين، فينبغي هجره وكراهته. فهذا هو الذي يفعله المسلمون معه من غير تعنيف ولا سب ولا ضرب، ويكفي في حقه إظهار الإنكار عليه وإنكار فعله، ولو لم يكن حاضرا؛ والمعصية إذا وجدت أنكرت على من فعلها أو رضيها إذا اطلع عليها.
وأما المعاصي التي فيها الحدود، فلا يقيمه إلا الإمام أو نائبه، وأما الحدود إذا بلغت السلطان، فالمراد بالسلطان الأئمة والقضاة كمن يستنيبهم الإمام ويوليهم في بلدهم. وذكرت في جوابي للربع 1 إلّي في خاطري مما يوجب اجتماع الكلمة والسلام.
قوله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة
"
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الملك العلام، ذي الجلال والإكرام، أحمده أن منَّ علينا بالإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الطول والإنعام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أكمل به الشرائع والأحكام، وجعله مبينًا لحدود الحلال والحرام، اللهم صل على محمد وأصحابه هداة الأنام وسلم تسليما.
1 هم جماعة الرجل وأصحابه.
أما بعد: فإنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث تميم الداري رضي الله عنه أنه قال: "الدين النصيحة، ثلاثا، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"1 رواه مسلم فما أعظم شأن هذا الحديث، وأنفعه لمن عقله ورزق العمل به! ولقد أحسن من قال:
لقد نصحت لأقوام وقلت لهم
…
أنا النذير فلا يغرركم أحد
وقد بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وأوجب على الخلق طاعته واتباعه كما قال سبحانه:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} 2
…
الآية، وقال تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 3
…
الآية، وقال:{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} 4
…
الآية.
قال شيخ الإسلام: الإيمان به تصديقه وطاعته واتباعه.* انتهى. والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا.
[النهي عن لبس الحرير للرجال]
فإذا عقلت هذا الأصل، فاعلم أن الأحاديث قد تظاهرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الحرير وتحريمه على ذكور هذه الأمة، فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن حذيفة رضي الله عنه قال:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة"5.
وأخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي عنه عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحل الذهب والحرير لأناث أمتي وحرم على ذكورها"6.
وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه عن علي رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريرا فجعله في يمينه، وذهبا فجعله في شماله، ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي"7 وأحاديث هذا الباب يتعذر استقصاؤها، فنبهت ببعضها على نوعها.
1 مسلم: الإيمان 55 ، والنسائي: البيعة 4197 ،4198 ، وأبو داود: الأدب 4944 ، وأحمد 4/ 102.
2 سورة النور آية: 54.
3 سورة النور آية: 63.
4 سورة الأعراف آية: 157.
* من كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم" 1/ 295. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]
5 البخاري: الأطعمة 5426 ، ومسلم: اللباس والزينة 2067 ، والنسائي: الزينة 5301 ، وأحمد 5/ 396 ،5/ 397 ،5/ 408 ، والدارمي: الأشربة 2130.
6 الترمذي: اللباس 1720 ، والنسائي: الزينة 5148.
7 النسائي: الزينة 5144 ، وأبو داود: اللباس 4057 ، وابن ماجه: اللباس 3595.
وقد حكى الإجماع على تحريم الحرير على الذكور غير واحد من الأئمة إلا ما استثناه الشارع، كما في حديث عمر، وهو عند البخاري ومسلم وأهل السنن عن أبي عثمان النهدي:"أتانا كتاب عمر، ونحن مع عقبة بن فرقد بأذربيجان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحرير إلا هكذا، وأشار بأصبعيه اللتين تليان الإبهام. قال: فيما علمنا أنه يعني الأعلام"1 ولأبي داود في الحديث: "نهى عن الحرير إلا هكذا وهكذا، أصبعين أو ثلاثا أو أربعا"2. وبهذا الحديث احتج أهل العلم على أنه لا يباح من الحرير في الثوب ونحوه إلا مقدار أربع أصابع.
قال في الفروع: ويباح منه العلم إذا كان أربع أصابع مضمومة فأقل، ونص عليه. انتهى. وقال في المبدع: ويباح العلم الحرير، وهو طراز الثوب إذا كان أربع أصابع مضمومة فما دون، نص عليه وجزم به في المغني والشرح. وقال في الإنصاف: ويباح علم الحرير في الثوب إذا كان أربع أصابع فما دون.
وقال في جمع الجوامع: ولبنة الجيب وسجف الفراء كالعلم في الإباحة والقدر، وفي حاشية المنتهى على قول المصنف: لا فوق أربع أصابع، يعني أن ما ذكر من العلم والرقاع والسجف ولبنة الجيب أنها تباح إذا كان أربع أصابع معتدلة مضمومة فما دون، لا إن كان أكثر منها. انتهى. وهذا الذي ذكره هؤلاء كغيرهم من الفقهاء إنما هو فيما إذا كان الحرير منفردا متميزا سواء كان منسوجا في الثوب كالعلم، أو مجعولا فيه بعد النسج كلبنة الثوب والسجف، وسواء كان مفرقا أو مجموعا. وكذا إذا كان مشوبا بغيره على الصحيح المعتمد عند جمع من كبار الأئمة المحققين، كما صرح به شارح المنتقى، ونقله عن تقي الدين بن دقيق العيد.
قال الشارح: وقد عرفت مما سلف من الأحاديث الواردة في تحريم الحرير بدون تقييد، والظاهر منها تحريم ماهية الحرير، سواء وجدت منفردة أو مختلطة
1 البخاري: اللباس 5828 ، ومسلم: اللباس والزينة 2069 ، والنسائي: الزينة 5312 ، وأبو داود: اللباس 4042 ، وأحمد 1/ 15 ،1/ 50.
2 البخاري: اللباس 5828 ،5829 ، ومسلم: اللباس والزينة 2069 ، وأبو داود: اللباس 4042 ، وأحمد 1/ 51.
بغيرها، ولا يخرج عن التحريم إلا ما استثناه الشارع من مقدار الأربع الأصابع من الحرير الخالص، سواء وجد ذلك القدر مجتمعا كما في القطعة الخالصة أو متفرقا كما في الثوب المشوب.
وقد نقل الحافظ في الفتح عن العلامة ابن دقيق العيد أنه إنما يجوز من المخلوط ما كان مجموع الحرير فيه أربع أصابع لو كانت منفردة بالنسبة إلى جميع الثوب. اهـ.
قلت: وقد قرر هذا الحافظ في فتح الباري بأدلته فقال: واستدل بالنهي عن لبس القسي على منع لبس ما خالطه الحرير من الثياب لتفسير القسي بأنه ما خالط غير الحرير فيه الحرير، ويؤيده عطف الحرير على القسي في حديث البراء. ووقع كذلك في حديث علي عند أحمد وأبي داود والنسائي بسند صحيح على شرط الشيخين من حديث عبيدة بن عمرو عن علي رضي الله عنه قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القسي والحرير"1، فعلى هذا يحرم الذي يخالطه الحرير. اهـ.
فهذا حافظ الدنيا في عصره صرح بتحريم لبس ما خالطه الحرير، وهذا مقتضى الدليل. وقال البخاري في صحيحه: قال عاصم عن أبي بردة قلنا لعلي: ما القسية؟ قال: "ثياب أتتنا من الشام أو مصر مضلعة فيها حرير، وفيها أمثال الأترج". وقال جرير عن يزيد: ثياب مضلعة يجاء بها من مصر فيها الحرير، ثم ساق بسنده حديث البراء بن عازب قال:"نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن المياثر الحمر والقسي"2 وفي رواية له: "ونهانا عن لبس الحرير والديباج والقسي والإستبرق ومياثر الحمر"3. اهـ.
وقال النسائي: القسي ثياب من كتان مخلوط بحرير، يؤتى بها من مصر نسبت إلى قرية على ساحل البحر قريب من تنيس يقال لها: القس بفتح القاف. اهـ. وقال أبو عبيد: هي ثياب يؤتى بها من مصر فيها حرير، قال في جمع الجوامع: قال شيخ الإسلام: وقد اتفقوا كلهم على أنها ثياب فيها حرير، وليست بحرير مصمت. اهـ.*
وأخرج البخاري وأبو داود والنسائي عن عمر رضي الله عنه "أنه رأى حلة
1 مسلم: اللباس والزينة 2078 ، والترمذي: الصلاة 264 واللباس 1725 ،1737 والأدب 2808 ، والنسائي: التطبيق 1040 ، وأبو داود: اللباس 4044 والخاتم 4225 ، وأحمد 1/ 80 ،1/ 81 ،1/ 92 ،1/ 93 ،1/ 104 ،1/ 114 ،1/ 119 ،1/ 121 ،1/ 126 ،1/ 127 ،1/ 133 ،1/ 134 ،1/ 138 ،1/ 146 ، ومالك: النداء للصلاة 177.
2 البخاري: اللباس 5838 ، ومسلم: اللباس والزينة 2066 ، والنسائي: الزينة 5309 ، وأحمد 4/ 284 ،4/ 299.
3 البخاري: اللباس 5849 ، ومسلم: اللباس والزينة 2066 ، والترمذي: الأدب 2809 ، والنسائي: الجنائز 1939 والزينة 5309 ، وأحمد 4/ 284 ،4/ 287 ،4/ 299.
* في كتاب "شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة" ص 301، وهو في "الاختيارات الفقهية" ص 436. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]
سيراء تباع فقال: يا رسول الله، لو ابتعتها تلبسها للوفد إذا أتوك والجمعة؟ فقال: إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة"1. قال أبو داود والنسائي: السيراء المضلع بالقز، وقال في النهاية: السيراء بكسر السين وفتح الياء والمد، نوع من البرود يخالطه حرير كالسيور، وأخرجه الأئمة من حديث علي رضي الله عنه.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: حديث السيراء والقسي يستدل به على تحريم ما ظهر فيه الحرير، لأن ما فيه خيوط أو سيور لا بد أن تنسج مع غيرها من الكتان والقطن، فالنبي صلى الله عليه وسلم حرمها لظهور الحرير فيها، ولم يسأل هل وزن ذلك الموضع من الكتان والقطن أكثر أم لا، مع أن عادته أنه أقل. انتهى.*
وقال: والمنصوص عن أحمد، وقدماء الأصحاب إباحة الخز دون الملحم وغيره.* اهـ من جمع الجوامع.
ومما يدل لما قرره هؤلاء الأئمة الحفاظ ما أخرجه البزار والطبراني عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبة مجيبة بحرير، فقال: طوق من نار يوم القيامة" قال الحافظ المنذري: رواته ثقاة، مجيبة بضم الميم وفتح الجيم بعدها ياء مثناة تحت مفتوحة ثم باء موحدة أي: لها جيب من حرير، وهو الطوق. انتهى.
وبهذا يتبين لك أن هذه المحارم المسماة بأخضر قز ونحوها، لا يجوز استعمالها للذكور مطلقا لما فيها من الحرير الخالص الزائد على أربع أصابع بأضعاف كثيرة من باب الإضافة البيانية، وتعريفها بأخضر قز من الإضافة البيانية.
والقز من الحرير، فلا يجوز استعمال ما ظهر فيه الحرير إذا زاد على القدر المستثنى في حديث عمر وتقدم تقريره، اللهم اجعلنا ممن يقبل هداك ويتبع رضاك.
ولقد أحسن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حيث يقول: لا عذر لأحد بعد السنة في ضلالة ركبها يحسب أنه على هدى.
1 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها 2619 ، ومسلم: اللباس والزينة 2068 ، والنسائي: الجمعة 1382 والزينة 5299 ، وأبو داود: الصلاة 1076 واللباس 4040 ، وابن ماجه: اللباس 3591 ، وأحمد 2/ 20 ،2/ 103 ، ومالك: الجامع 1705.
* من كتاب "الاختيارات الفقهية" ص 436. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]
* نفس الموضع السابق. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]