الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الوجه الخامس): أن من المعلوم عند أهل العلم أن أول من تكلم في آيات الصفات وأحاديثها بهذه التأويلات الباطلة المخالفة للظاهر هم المُعْتَزَلَة والجَهْمِيَّة خاصة، وأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان فكلهم متفقون على الإيمان بها، والسكوت عن البحث عن كيفيتها.
فصل
[المبتدعة ترد ما وصف الله به نفسه بزعم التجسيم]
وأما قوله: (فمن أعجب ما سمعنا: قولك بأن مذهبك الذي درج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو معنى كلامك، فإن أهل السنة والجماعة هم الذين ملؤوا كتبهم بروايات التجسيم لله -تعالى- والكيفية في الصفات، وفسروا صفاته، فلو ادعيت ذلك التنْزيه على ما في نفسك، لكان أحسن من تحجر الواسع الذي يريد قومك من أهل السنة والجماعة.
فاسمع ما رواه السُّيوطِيّ في "الدُّرِّ المنثور" قال: أخرج ابن جرير والحاكم 1 وابن مردويه "أن موسى عليه السلام لما كلمه ربه أحب أن ينظر إليه، فسأله فقال: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} 2. قال: فحف حول الجبل الملائكة، وحف حول الملائكة بنار، وحف حول النار بملائكة، وحف حولهم بنار، ثم تجلى ربك للجبل، تجلى منه مثل الخنصر، وجعل الجبل دكا فخر موسى صعقا" إلى آخر الحديث الذي في تفسير قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} 3.
ثم ذكر حديث ابن عباس نحو ما تقدم، وكذلك أخرج أبو الشيخ عن أبي هُرَيْرَة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لما تجلى الله لموسى كان ينظر إلى دبيب النمل في الليلة الظلماء من مسيرة عشرة فراسخ" فهذا في التجسيم والتكييف).
(فالجواب) أن يقال: كلام هذا المعترض يدل على رسوخه في الجهل العظيم، واتباعه لأهل البدع والضلال، وعداوته لله ورسوله وعباده المؤمنين، وذلك
1 راجعت المستدرك للحاكم في تفسير قوله تعالى: (فلما تجلى ربه للجبل). فلم أجده في المستدرك، وهو من رواية ابن إسحاق عن بني إسرائيل اهـ من هامش الأصل.
2 سورة الأعراف آية: 143.
3 سورة الأعراف آية: 143.
أن مثل هذا الذي زعم أنه تجسيم وتكييف قد ورد ما هو مثله أو أبلغ منه في كتاب الله، وفي الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإذا كان هذا عنده تجسيمًا وتكييفًا فلازم كلامه أن الله وصف نفسه بالتجسيم والتكييف، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن زعم هذا فقد انسلخ من العقل والدين.
فاسمع الآن ما ذكر الله في كتابه: قال الله تعالى:? {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} 1. وقال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} 2. وقال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 3 في ستة مواضع من كتابه العزيز.
وقال تعالى:? {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} 4، ووصف نفسه بأنه يحب عباده المؤمنين.
وكذلك وصف نفسه بالغضب والسخط في غير آية من القرآن، وكذلك وصف نفسه بأنه سميع بصير، وبأن له يدين، كقوله تعالى:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 5، وقوله:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 6، وبأنه يقبض الأرض يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، سبحانه وتعالى عما يشركون.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الله يقبض الأرض يوم القيامة ويطوي السماوات بيمينه، ثم يهزهن بيده، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ "7.
وقال تعالى:? {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} 8. وأمثال ذلك كثير في الكتاب والسنة، وقد أمرنا الله بتدبر القرآن وتفهمه.
إذا تبين هذا، فقد أوجب الله تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم على كل مسلم فيما أخبر به عن الله من أسمائه وصفاته، مما جاء في القرآن وفي السنة الثابتة عنه، كما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين، والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه.
فإن هؤلاء الذين تلقوا عنه القرآن، كعُثْمَان بن عَفَّان وعبد الله بن مَسْعُود وغيرهم، قد أخبروا أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم
1 سورة البقرة آية: 210.
2 سورة الأنعام آية: 158.
3 سورة الأعراف آية: 54.
4 سورة الملك آية: 16، 17.
5 سورة ص آية: 75.
6 سورة المائدة آية: 64.
7 البخاري: تفسير القرآن (4812)، ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2787)، وابن ماجه: المقدمة (192) ، وأحمد (2/ 374)، والدارمي: الرقاق (2799).
8 سورة الفجر آية: 22.