الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خلافها من الزلل والخطأ والحمق والتعمق، فارْضَ لنفسك بما رضوا به، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر ناقد كفوا، ولهم كانوا على كشفها أقوى، وبتفصيلها كانوا أحرى، وإنهم لهم السابقون".
"وقد بلغهم عن نبيهم ما يجري من الاختلاف بعد القرون الثلاثة، فلئن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم، ولئن قلتم حدث حدث بعدهم، فما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم واختار ما تحته، فكره على ما تلقوه عن نبيهم، وتلقاه عنهم من اتبعهم بإحسان، ولقد وصفوا منه ما يكفي، وتكلموا منه بما يشفي، فمن دونهم مقصر، ومن فوقهم مفرط، لقد قصر دونهم أناس فجَفوا، وطمح آخرون فغَلَوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم".
فصل
{في مسألة القدر وإثبات السلف والخلَف [من] أهل السنة له}
وأما قوله: (وقد رُوي التكلم في القدر عن مُحمد بن سِيرِين وقَتَادَة -إلى قوله-: ومن تكلم في القدر فقد تكلم في الصفات، وسواء كان من جانب المُعْتَزَلَة؛ كالحَسَن ومَكْحُول، ومن ذكروا من جانب الأشعرية، فمن التابعين من هو سلف للأشاعرة.
وقلنا: إن التكلم في القدر تكلُّم في الصفات، إذ معناه عند الحَسَن ومَكْحُول أن الله -تعالى- متصف بعدم خلق أفعال العباد، أي: لم يؤثر فيها، ومن أثبت لله خلق الأفعال فقد وصف الله بأنه مؤثر فيها.
وهذان المذهبان قد اشتهرا وشاعا في التابعين؛ فمنهم الذاهب مذهب المُعْتَزَلَة كالحَسَن ومَكْحُول ومن ذكرنا، ومنهم الذاهب مذهب الأشعرية).
(فالجواب) من وجوه:
(أحدها) أن يقال: إثبات القدر أو نفيه ليس من باب إثبات الصفات، ولا تفسيرها عند المثبتين ولا عند النافين كما تقدم التنبيه عليه، وإنما ذلك من باب إثبات الفعل والخلق. فالْمُعْتَزَلَة ينفون أن الله قدر أفعال العباد، ويقولون: إن الله لا يقدرها عليهم ثم يعذبهم عليها، وإنما يكون ذلك ابتداء من
عند أنفسهم، ويوردون على ذلك شبهات من الكتاب والسنة.
وأما السلف وأهل السنة، ومن اتبعهم من أتباع الأئمة الأربعة من الأشعرية وغيرهم، فيثبتون أن الله قدَّر أفعال العباد وشاءها منهم، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد، ويستدلون على ذلك بالآيات القرآنية الصريحة في أن الله خلق العباد وأعمالهم، كقوله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 1، وقوله:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 2، وقوله:{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} 3.
وبالأحاديث الصحيحة الصريحة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله قدر أعمال العباد، وأن كلا مُيَسَّر لما خُلق له، كما قال تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} 4.
(الوجه الثاني) أن يقال: هؤلاء الذين ذكرهم مع المُعْتَزَلَة -كالحَسَن وابن سِيرِين ومَكْحُول- كلهم قد صح عنهم الإيمان بالقدر وإثباته؛ موافقة لأهل السنة، وإن كان قد نسب إلى بعضهم موافقة المُعْتَزَلَة، فليس كل ما ينسب إلى شخص يكون ثابتا عنه، فليس مجرد نسبة بعض الناس إليهم ذلك يكون صدقا؛ وذلك لأن المُعْتَزَلَة إنما اشتهر أمرهم بعد موت الحَسَن البَصْرِيّ، لأنهم اعتزلوا أصحاب الحسن بعد موته فسُمُّوا المُعْتَزَلَة لذلك، وهم الذين يسمون القَدَرِيَّة؛ لأنهم ينكرون أن يكون الله تبارك وتعالى قدر أفعال العباد وشاءها منهم.
وغلاتهم ينكرون أن يكون الله علم ذلك، ومن أنكر علم الله بذلك فقد كفر عند أئمة أهل السنة، ولهذا قال من قال من أئمة أهل السنة: ناظروا القَدَرِيَّة بالعلم، فإن أنكروه كفروا، وإن أقروا به خصموا.
(الثالث): أن أهل السنة الذين حكينا مذهبهم في الصفات، وأنهم لا يتعرضون لها بتفسير ولا تأويل، بل يثبتونها صفات لله، ولا يلزم من إثباتهم الصفات لله أنهم يفسرونها أو يتأولونها. كما أنهم وغيرهم يثبتون لله ذاتا وفعلا وحياة وقدرة،
1 سورة الصافات آية: 96.
2 سورة القمر آية: 49.
3 سورة الكهف آية: 17.
4 سورة الليل آية: 5: 10.
ولا يكيفونها، ولا يفسرونها، بل يثبتون ما أثبته لنفسه، ويسكتون عما سكت عنه، وينَزهونه عن مشابهة المخلوقات، ومذهبهم وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، فلا يتأولونها تأويل المبتدعة، ولا يشبهونها بصفات المخلوقين، وقد قال تعالى:{فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1.
(الوجه الرابع) أن هذا المعترض جزم في كلامه بأن الحَسَن ومَكْحُولا ومن ذكر معهم قد ذهبوا مذهب المُعْتَزَلَة، وهذا كذب ظاهر عليهم، فإن كان مراده أن هؤلاء نسب إليهم القول بمذهب المُعْتَزَلَة، فقد بيَّنَّا أن مجرد نسبته إليهم لا يلزم منه صحة ذلك عنهم، والمنقول عنهم في ذلك -من موافقة أهل السنة والجماعة في إثبات القدر والإيمان به- هو الثابت عنهم.
وأنت تعلم أن كثيرا من الناس قد نقل عن عَلِيٍّ رضي الله عنه وأهل البيت أشياء كثيرة، ونسبوا إليهم أقوالا قد برأهم الله منها، والرسول صلى الله عليه وسلم قد نسب إليه أقوال كثيرة، وأهل العلم يعرفون أنها مكذوبة عليه.
ومن هؤلاء المذكورين من تكلم في شيء من القدر ثم رجع عنه كوَهْبِ بنِ مُنَبِّهٍ، كما قال الحَافِظُ أَبُو الحَجَّاجِ المِزِّيُّ في تهذيبه، قال أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ عن عَبْدِ الرَّزَّاقِ: سمعت أبي يقول: "حج عامة الفقهاء سنة مائة، وحج وهب بن منبه، فلما صلوا العشاء أتاه نفر فيهم عطاء والحَسَن بن أبي الحَسَن، وهم يريدون أن يذاكروه في باب من الحمد، فما زال فيه حتى طلع الفجر، فافترقوا ولم يسألوه عن شيء". قال أحمد: "وكان يتهم بشيء من القدر ورجع".
وقال حمَّاد بن سَلَمَةَ عن أبي سِنَانٍ، قال: سمعت ابن مُنَبِّه يقول: كنت أقول بالقدر، حتى قرأت بضعة وسبعين كتابا من كتب الأنبياء، في كلها:"من جعل إلى نفسه شيئا من المشيئة فقد كفر". فتركت قولي.
فتبين بما ذكرنا أن جزم هذا المعترض -بأن هؤلاء الأئمة المذكورين يقولون بمقالة المُعْتَزَلَة، كذب ظاهر، وقول بلا دليل.
1 سورة البقرة آية: 213.