الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الوجه الرابع): أن الاصطلاح لا حجة فيه عند أهل العلم وغيرهم، فإذا سمى أحد طائفة من الناس بأنهم أهل السنة والجماعة، لم يمنع من ذلك إلا إذا كانوا مخالفين لما عليه جماعة أهل السنة والجماعة، كأهل البدع الذين يسمون أنفسهم بذلك مع مباينتهم لطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
(الوجه الخامس): أن كثيرا من علماء السنة ذكروا أن أهل الحديث هم الفرقة الناجية التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى تقوم الساعة"1 كما ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما.
وذكر البخاري عن علي بن المديني أنهم أهل الحديث، وكذلك قال أحمد بن حنبل:"إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟ ".
فصل
[في إبطال زعم أن الطائفة الناجية هم أهل البيت فقط]
وأما قوله: (وأنت خبير أن الطائفة التي أشار إليها سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم هم أهل بيته، فإن الناس أذعنوا لأهل الشام، ولم يقدروا على منازعتهم، إلا أهل البيت وشيعتهم، فكن -أيها المجيب- من تلك الطائفة الناطقة بالحق، الخارجة عن حزب أهل الشام؛ لتحشر في الطائفة المخالفة لهم، ولا تكن في حزب أهل الشام محبا لهم، فإن المرء يحشر مع من أحب).
(فالجواب) من وجوه: (أحدها): أن الطائفة الناجية جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها لما سُئل عنها، فقال:"من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي"2 فمن سلك سبيلهم، واقتفى منهاجهم، وتبعهم بإحسان فهو من هذه الطائفة، سواء كان من أهل البيت رضي الله عنهم أو من غيرهم من جميع الطوائف، ومن خالف ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهو مع الهالكين، سواء كان من أهل البيت أو من غيرهم؛ ولهذا قال -تعالى- في نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وهن من أهل البيت قطعا:{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} 3.
1 البخاري: المناقب (3641)، ومسلم: الإمارة (1037).
2 الترمذي: الإيمان (2641).
3 سورة الأحزاب آية: 30.
إلى قوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} 1 الآية. وثبت في الصحيحين أنه قال: "إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، وإنما وليّي الله وصالح المؤمنين"2.
وفي الحديث الصحيح: "من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه"3، قال تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 4، وقال تعالى:{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} 5، وقال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 6 الآية.
(الوجه الثاني): قوله: "فإن الناس أذعنوا لأهل الشام، ولم يقدروا على منازعتهم، إلا أهل البيت وشيعتهم". وهذا كذب ظاهر يعرفه من له أدنى معرفة بالأخبار والتواريخ؛ وذلك لأن بني أُمَيَّة قد نازعهم في خلافتهم غير أهل البيت، فنازعهم ابن الزبير حتى تولى على الحجاز والعراق واليمن وغير ذلك من بلاد الإسلام، ولم يخرج عن ولايته إلا طائفة قليلة من أهل الشام، فأرسل مَرْوَان بن الحَكَم إليهم ليأخذ بيعته، فخلعه وأخذ البيعة لنفسه، وبايعه كثير من أهل الشام، كما ذكر ذلك أبو مُحَمَّد بن حَزْم في سيرته.
ثم خرج على مروان كثير من أهل الشام، فنازعوه وقاتلوه، ثم جرت وقعة بـ"مَرْجِ رَاهِطٍ" بين الضَحَّاك ومروان، وقُتِل النُّعْمَان بن بَشِيرٍ رضي الله عنهما، والأصح -كما قال الذهبي وغيره من أهل العلم- أن مروان لا يُعَدُّ في إمرة المؤمنين، بل باغٍ خارج على ابن الزُّبَير، ولا عهده على ابنه عبد الملك صحيح، وإنما صحت خلافة عبد الملك حين قتل ابن الزبير.
وذلك أن عبد الملك جهّز لقتاله الحجاجَ في أربعين ألفا، فحصره بمكة أشهرًا، ورمى عليه بالمنجنيق، وخذل ابنَ الزبير أصحابُه، فتسللوا إلى الحجاج، فظفر به، وقتله وصلبه.
وفي أيام ابن الزبير خرج المختار بن أبي عُبَيد، وتبعه طوائف من الناس، وقاتلوا عبد الله بن زياد فقتلوه، وأرسل المختار برأسه إلى زَيْنِ العَابِدِين عَلِيّ بن الحُسَيْن بالمدينة، وتولى على العراق وطرد بني أمية عنه، ثم بعد ذلك ادَّعَى النبوة، فأرسل إليه عبد الله بن الزبير أخاه مُصْعَبا معه جيش، فحاربوه حتى قتلوه، وأخذوا منه العراق. وفي أيام يزيد بن
1 سورة الأحزاب آية: 32.
2 البخاري: الأدب (5990)، ومسلم: الإيمان (215) ، وأحمد (4/ 203).
3 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699)، والترمذي: القراءات (2945)، وابن ماجه: المقدمة (225) ، وأحمد (2/ 252)، والدارمي: المقدمة (344).
4 سورة الحجرات آية: 13.
5 سورة آل عمران آية: 68.
6 سورة آل عمران آية: 31.
معاوية خرج عليه أهل المدينة وخلعوه، وأخرجوا أميره من المدينة، فأرسل إليهم يزيدُ مُسلمَ بنَ عُقْبَةَ المُرِّيِّ بجيش عظيم حتى قتل أهل المدينة، وجرت فتنة عظيمة قُتل فيها من الصحابة رضي الله عنهم مَعْقِل بن يَسَار الأَشْجَعِيُّ، وعبدُ الله بنُ حَنْظَلَةَ الغَسِيل الأَنْصَاري، وعبدُ الله بنُ زيدِ بنُ عاصِم المَازِنِيُّ، وقُتل من أولاد المهاجرين والأنصار نحو ثلاثمائة وستة أنفس.
وفي أيام ابن الزبير خرجت طوائف من الخَوَارِج يسمون الأَزَارِقَة، فتولى محاربتهم المُهلَّبُ بن أبي صُفْرَةَ، وأباد منهم ألوفًا، كما ذكره الذهبي وغيره.
وفي أيام عبد الملك خرج عبد الرَّحْمَن بنُ الأَشْعَث، وتبعه خلق عظيم من القرَّاء وغيرهم، وقاتلوا الحجاج، وجرت بينهم وقائع عظيمة، فغلب الحجاج حتى قتل ابن الأشعث، وقتل معه خلق عظيم.
ولو ذهبنا نذكر كل من خرج على بني أمية وبني العباس لطال الكلام جدا، وبعض من خرج عليهم يبغضون عليا رضي الله عنه ويكفرونه، فتبين لكل ذي معرفة بالسير والأخبار بطلان قول هذا المعترض:"أن الناس أذعنوا لأهل الشام ولم يقدروا على منازعتهم إلا أهل البيت وشيعتهم".
(الوجه الثالث): أن يقال: إن هذا المعترض جعل الفرقة الناجية هم أهل البيت وشيعتهم، وجعل الدليل على ذلك هو منازعتهم لأهل الشام، فعلى كلامه أن كل من نازعهم وخرج عليهم هو الناجي، ومن الطائفة التي أشار إليها سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم مع أن أكثر الناس خروجا عليهم هم الخَوَارِج الذين يكفرون عليا رضي الله عنه ومعاوية وغيرهما من الصحابة ومن والاهما.
فانظر -رحمك الله- إلى هذا الجهل والتخبيط الذي لا يصدر ممن له أدنى مسكة من علم وعقل.
(الوجه الرابع): أنه جعل أهل الشام كلهم قد والوا بني أمية، وصاروا معهم المستقدمين منهم كالذين كانوا في زمانهم، والمستأخرين من أهل الشام بعد